تفسير سورة النّمل

القطان
تفسير سورة سورة النمل من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

يعمهون: يتحيرون، ويترددون في الضلال. الأخسَرون: أشد الناس خسرانا.
طاسين: هكذا يقرأ هذان الحرفان، وتقدم الكلام في المراد من فواتح السور، وان الأصح انها جاءت تنبيهاً الى سر الاعجاز في القرآن مع الاشارة الى انه من جنس ما يتكلمون ولتنبيه الاذهان للاستماع اليه.
﴿تِلْكَ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ﴾
هذه الآيات التي انزلتها اليك ايها الرسول هي آيات القرآن، وهو كتاب واضح بيّن لما تَدبره وفكر فيه انه من عند الله.
﴿هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
هذا الكتاب هو الدليل الذي يهدي الناسَ الى سعادتهم في الدنيا والآخرة، وهو يشير المؤمنين بأن اله سيُدخلهم جناتٍ لهم فيها نعيم مقيم. ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾
هذا وصفٌ للمؤمنين بأنهم آمنوا بالله، وعملوا الأعمالِ الصالحة، فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وآمنوا ايمانا صادقا بيوم القيامة والبعث والجزاء، فالايمان وحده لا يكفي.
﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾.
اما الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء فقد زينّا لهم أعمالَهم السيئة، ومددْنا في غَيِّهم فهم يترددون في ضلالهم، فلهم في الدنيا سوءُ العذاب بقتلِهم وأسْرِهم، وهم في الآخرة أعظمُ خسراناً مما هم فيه في الدنيا، لنه عذابٌ مستمر لا ينقطع.
لتلقَّى: لتعطى، لتلقَّن. آنست: أبصرت. بشهاب: بشعلة نار. قبس: قطعة من نار. تصطلون: تستدفئون. جان: حية سريعة الحركة. ولّى مدبرا: هرب راجعا. ولم يعقّب: لم يرجع، ولم يلتفت. من غير سوء: يعني ان يده صارت بيضاء من غير مرض كالبرص ونحوه. آيات: معجزات دالة على صدقك. مبصِرة: واضحة، بينة. حجَدوا بها: كذّبوا بها. استيقنتْها انفسُهم: علمتُ علما يقينا انها من عند الله. علوّا: ترفعا واستكبارا.
﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾
وانك أيها الرسولُ لتتلقى القرآن وتتعلّمه من عند الله، الحكيم بتدبيرِ خلقه، العليم بأخبارهمن وما فيه خير لهم. وما هو من عندك كما يزعم الجاحدون.
واذكر ايها الرسول لقومك خبراً عن موسى وهو عائد من «مَدْيَن» الى مصر ومعه زوجته، وكانا يسيران ليلاً فاشتبه عليهما الطريقُ، والبرد شديد. فرأى موسى ناراً فقال لأهله: سآتيكم منها بخبرٍ عن الطريق، أو آتيكم بشعلةٍ لعلّكم تستدفئون بها من البرد. فلما وصل المكان الذي رأى فيه النارَ ناداه الله: إن الله باركَ من في مكان النار ومن حولَها. (واللهُ منزّهٌ عن مشابهة المخلوقين) يا موسى: إني انا الله المستحقّ للعبادة وحده، العزيزُ الذي لا يُقهر، الحكيم في أقواله وأفعاله.... أَلقِ عصاك. فلما ألقاها رآها تهتز وتنقلب الى حيّة عظيمة. فهرب موسى منها ولم يلتفت وراءة من شدة الخوف. فطمأنه الله بقوله: لا تخفْ، ان المرسَلين لا يخافون وأنا معهم. لكنّ من ظلم وعمل شيئا غير مأذون فه، ثم بدّل حُسناً وتابَ بعد هفوة ﴿فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
وأخلْ يَدك في جيبك تخرجْ بيضاء من غير بَرَصٍ او مرض. وكان موسى أسمر البشرة. اذهبْ إلى فرعونَ وقومه في تسع آيات انهم كانوا قوماً خارجين عن امر الله. والآياتُ التسع هي: فلْق البحر، والطوفان، والجراد، والقملَّ، والضفادع، والدم، والجدْب، والعصا، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء.
فلما جاءت هذه الآيات واضحةً ظاهرة الى فرعون وقومه قالوا: هذا سِحر، وكذّبوا بها ظلمات واستكبارا، فانظر ايها النبي كيف كانت عاقبة المفسدين.
هذا عرضٌ سريع لقصة سيدنا موسى التي تكررت في الأعراف وطه والإسراء والشعراء يعرضها سبحانه وتعالى ليسلّي رسوله ﷺ.
قراءات:
قرأ اهل الكوفة: بشهابٍ قبسٍ، بالتنوين. والباقون: بشهابِ قبسٍ.
منطِق الطير: لغته. حشر: جمع. يوزعون: يمنعون من الفوضى ويسيرون بانتظام. لا يحطمنّكم: لا يهلكنكم. أوزِعني: يسِّر لي شكر نعمتك.
ذُكرت قصةُ داود في تسع سورة هي: سورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام والإسراء والأنبياء وسورة النمل، وسبأ، وص، وورد ذكر سليمان في سبع سور هي: البقرة والنساء والأنعام والأنبياء والنمل وسبأ، وص.
وجاء ذكر داود هنا فقط، وبُسطت قصةُ سليمان بتوسع في هذه السورة اكثر مناه في اية سورة اخرى، وركزت على قصة سليمان مع الهدهدِ وملكةِ سبأ، ثم مشهد موكبه العظيم، وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب، وبذلك سُميت السورة «سورة النمل» وذلك من الآية ١٥ الى الآية ٤٤.
ولقد اعطينا داود وسليمان عِلما، فَحَمِدا الله على ما أولاهما، وفضّلهما بذلك على كثير من المؤمنين. ويتبين لنا من الآية الكريمة فضلُ العلم وشرفه وشرف أهله، وأن الإسلام قام على العلم كما ورد في اول ما نزل منه: ﴿اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ....﴾ وفي آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ﴾ سورة المجادلة.
وقد آل الحكمُ والنبوة من داودَ إلى سليمان ابنه، الذي أخبرَ الناسَ تحدُّثاً بنعم الله عليه بأنه أثوتي فَهْمَ لغة الطير، وانه مُنح من جميع النعم قسطاً وافرا، وان هذا الذي آتاه الله لهو الفضل الكبير. وقد دلّت الابحاث الحديثة على ان لكل جماعةٍ من الطير طريقة خاصة تتفاهم بها الأفراد.
وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يتلاحقون، حتى اذا مروا بوادٍ فيه نمل كثير قالت نملة لجماعتها: يا معشر النمل، ادخلوا مساكنكم لا يهلكنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بكم. فسمعها سليمان فتبسم ضاحكا متعجباً من قولها، وسأل الله تعالى ان يلهمه شكره على ما انعم عليه وعلى والديه من عِلم وملك، وان يوفقه للعمل الصالح الذي يرضاه، وان يدخله في رحمته وكرمه وفضله ويجعله من جملة عباده الصالحين.
وقد كتب كثير من الكتاب والباحثين عن معيشة النمل ونظامها، وما لها من عجائبض في معيشتها وتدبير شئونها، ومثابرتها على العمل. وانها تتخذ القرى في باطن الارض، وتخزن قوتها لأيام الشتاء.
تفقّد الشيء: سأل عنه وطلب معرفة احواله. بسلطان مبين: بحجة واضحة. أحطتُ بما لم تحط به: علمتُ أشياء لا تعرفها. سبَأ: ابو قبيلة من اليمن، ومملكة ظهرت في شرق المنطقة المعروفة الآن باسم صِرواح ومأرِب فسميت البلاد باسمها، واليها تنسب اللغة السبئية والديانة السبئية. بنبأ: بخبر عظيم. العرش: سرير الملك. فصدّهم عن السبيل: منعهم عن طريق الحق والصواب. يُخرج الخبء: يخرج المخبوء من كل شيء.
وتفقد سليمان جماعةَ الطير التي تجتمع عنده فلم يجد الهدهد، فقال: أين الهدهد، فقال: أين الهدهد، اين غاب عني؟ ثم توعده بالعذاب اذا لم يجدْ سبباً يبرر به غيبته، او يأتِهِ بحجّة واضحة تظهر له عذره. وجاء الهدهد بعد غياب قليل وقال لسليمان: علمتُ ما لم تعلم، وجئتك من دولة سبأ بخبرٍ ذي شأن عظيم. إني وجدتُ في سبأ امرأةً تحكمهم، أوتيتْ من كل شيء يحتاج اليه الملوك في تَرَفِهم، ولها عرش عظيم. وهي وقومها يعبدون الشمس ولا يعبدون الله، لقد زيَّن الشيطانُ لهم عبادتعهم وأبعدهم عن دين الله فهم لا يهتدون، وأمَرَهم ان لا يسجدوا لله الذي يُخرج كل شيء مخبوء في السماوات والأرض، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم﴾. وهنا موضع سجدة.
قراءات:
قرأ ابن كثير: «اوليأتينَّني» بنونين، والباقون: «او ليأتينّي» بنون واحدة. قرأ عاصم: «ومكَث» بفتح الكاف. والباقون: «ومكُث» بضم الكاف وهما لغتان. وقرأ ابن كثير: وابو عمرو «من سبأَ» بتفح الهمزة على انه ممنوع من الصرف، والباقون: «من سبأ» بالتنوين والجر.
تولّ عنهم: تنحّ، ابعد عنهم. ماذا يرجعون: ماذا يدور بينهم. الملأ: اشراف القوم. ألاّ تعلو عليَّ: الا تتكبروا. مسْلِمين: منقادين. افتوني: أشيروا علي. ما كنت قاطعةً أمراً: ما كنت لأعملَ أي شيء. حتى تشهَدون: حتى تحضرون.
أراد سليمان ان يختبر الهدهد: أصادق هو ام كاذب. ؟ فأعطاه كتاباً ليوصله الى ملكة سبأ، واسمُها بلقيس. ذهب الهدهد بالكتاب وألقاه على سريرها، فاخذته فإذا به: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾.
لم ترِد الملكة ان تستبدّ بالجواب، شأن بعض الملوكن فجمعتْ رجال دولتها وأشراف القوم وأطلعتْهم على الكتاب. فأخذتهم العِزّةُ وثارت فيهم الحماسة وقالوا:
﴿قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾.
وكانت الملكة عاقلةً فنظرت في الأمر بعين الفطنة، ولم تغترّ بما أبداه رجالها من الحماسة وقالت لهم: ان دخول املوك المدنَ والقرى فاتحين ليس من الأمور الهّينة، وليس أثره بالسّهل على أهلها. (وكان من عادات الفاتحين قبل الاسلام ان يستعبِدوا المغلوبين، ويذبحوا رجالهم ويستحييوا نساءهم ويفسدوا الحرث والنسل). وعرضتْ عليهم رأياً آخر وجدته أقربَ الى حلّ هذه الأزمة التي أتتها من حيثُ لم تحتسِب، ذلك ان تُرسلَ إلى سليمان بهدية تصانعه بها، وتطلب مودّته، ثم تنظر ماذا يرجع به رسُلُها الى سليمان.
لا قِبل لهم بها: لا طاقة لهم بمقاومتها. صاغرون: مهانون محتقرون. العرش: سرير الملك. العِفريت من البشر: الخبيث الماكر، ومن الشياطين: المارد. قال الذي عنده علمٌ من الكتاب: رجل أعطاه الله علماً خاصا، وقوة روحية. قبل ان يرتد اليك طرفُك: قبل ان تطرف عينك، والمراد هو السرعة الفائقة. ليبلوَني ربي: ليختبرني ربي.
فلما جاء رسلُها الى سليمان بالهدية لم يَقبلْها وقال إنه ليس في حاجةٍ إلى اموالهم لما عنده من الثروة والملك، كما توعّدهم بأنه سيرسل الى بلادهم جنوداً لا طاقة لهم بهم، وان اقبة ذلك إخراجُهم من بلادهم أذِلَّةً صاغرين.
فلما جاء الخبر من الرسُل الى الملكة وعلمت عظَمةَ سليمان وقوة ملكه - أشفقت على قومها. فأجمعت أمرها على الذهاب إليه في بعض أشراف قومها وتوجهت الى القدس بهدية عظيمة. ولمّا علم سليمان باعتزام ملكه سبأ زيارته، شيّد لها صَرحاً عظيما، ومرَّدَ أرضَه بالزجاج: وهذا شيء لا عهد لأهل اليمن بمثله.
ولما قربت من ديار سليمان أراد ان يفاجئها بشيء يَبْهَرُها، كأن ترى بعينها ما لم تر من قبلُ في الاحلام، وهو أن يأتيها بعرشِها الجميل ليكون جلوسُها عليه في ذلك الصرح. فسأل جنوده عن قويّ يأتيه بذلك العرش: فانتدب له عفريت من الجن وقال:
﴿أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾
إني لقادر على ذلك وأمين على كل ما في العرش من جواهر وحلي. وقال رجل ﴿عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ وكان الأمر كما قال. فجاء به ووُضع في الصرح الذي هُيِّىء لاستقبالها. فلما رأى سليمان عرش بلقيس أمامه قال: الحمد لله.... هذا من فضلِ ربي ليختبرني أأشكر ام اكفر.. ومن شكَر الله ففائدة الشكر تعود اليه، ومن جَحد ولم يشكر فان الله غنيّ عن العباد وعبادتهم، كريم بالإنعام عليهم وان لم يعبدوه.
اما الطريقة التي جيء بها بالعرض فشيءٌ لم يأت تفصيل له بخبر صحيح، وهو معجزة خارقة للعادة، كبقية المعجزات نسلّم بها تسليما.
وأهل القصص وبعض المفسرين يذكرون ان سليمان تزوّج منها وجاءه منها ولد، ويزعم ملوك الحبشة أنهم أبناء سليمان من الولد الذي ولدته من سليمان، لكن هذا زعمٌ منهم.
قراءات:
قرأ حمزة ويعقوب: اتمدونّي بنون واحدة مشددة. الباقون: اتمدونني بنونين.
نكّروا لها عرشها: غيِّروا فيه. صدّها: منعها. الصرح: كل بناء مرتفع. حسبته لجّة: ظننته ماء. ممرَّد: ذو سطح املس. من قوارير: من زجاج وتحته الماء.
وقال سليمان لجنده: نكِّروا لها عرشها ببعض التغيير في مظاهره. وسنرى هل تعرفه ام لا. فلما جاءت ورأت العرش قِيل لها: أهكذا عرشك؟ فقالت: كأنه هو. وقال سليمان وقومه: ﴿وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ منقادين لله ولحكمه. وهذا قول اكثر المفسرين، وبعضهم يجعل عبارة: ﴿وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ من قول بلقيس ويكون معنى الكلام: وأوتينا العِلم بكمال قدرة الله وصِدق نبوتك من قبلِ هذه المعجزة بما شاهدناه وبما سمعناه، وكنا منقادين لك من ذلك الحين.
ثم ذكر سبحانه ما منعها من إظهار ما ادّعت من الاسلام الى ذلك الحين فقال:
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾
ولقد صرفها عن عبادة الله ما كانت تعبده من آلهة غير الله تعالى، فانها كانت تعبد الشمس، وكانت من قوم كافرين.
﴿قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ﴾
ولما أرادت دخول الصرح والوصولَ الى العرش رأت ماءً يتموّج، فيه انواع من حيوان البحر ودوابه. فكشفت عن ساقيها لئلا تبتلّ أذيالها بالماء، كما هي عادة من يخوض الماء. فقال لها سليمان: إن ما تظنّينه ماءً ليس بالماء، بل هو صرح أملسُ مكوَّن من زجاج: فراعها ذلك المنظر، وعلمت ان مُلكها لا يساوي شيئا بجوار ملكِ سليمان، فقالت: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾.
فريقان: طائفتان. طائفة مؤمنة، واخرى كافرة. يختصمون: يتنازعون. السيئة: العقوبة. الحسنة: الرحمة. اطّيرنا: تشاءمنا. طائركم: ما يصيبكم من الخير والشر. تفتنون: تختبرون. المدينة: الحِجر، مداين صالح. الرهط: النفر من الثلاثة الى التسعة. تقاسموا: حلفوا. لنبيتنّه: نهجم عليه بغتة ليلا. وليّه: أقرب الناس اليه. مهلك اهله. أهلاك أهله. دمرناهم: أهلكناهم. خاوية: خالية.
ولقد بعثنا الى قوم ثمود أخاهم صالحاً، فقال لهم اعبدوا الله، فإذا هم طائفتان يختصمون: جماعةُ تؤمن بالله، واخرى كافرة، هي الأكثرُ والأقوى. فقال صالح لقومه: لِمَ يستعجلون طلبَ العذاب قبل الرحمة؟ هلاّ تستغفرون ربكم لعله يرحمكم! قالوا: إننا تشاءمنا بك وبمن اتبعك. (وأصلُ التطيرُّ: ان العرب كانوا اذا خرجوا مسافرين فمرّوا بطائر وزجروه فان طار الى جهة اليمين تيمّنوا به، وان مرّ الى جهة اليسار تشاءوموا به).
قال لهم صالح: ان سببَ تشاؤمكم هو كفركم بالله، فقد اراد الله ان يختبركم ليعرف من منكم سيؤمن، ومن يكفر.
وكان في مدينة صالح تسعةُ رجال من المفسِدين، طواغيتُ لا يسلم من شرهم احد، تحالفوا على مباغتته ليلاً وقتله هو واهله، وان يقولوا لوليّ دمه: لا علم لنا بمن قتلهم. ومكَر هؤلاء مكرهم، ودبّر الله ردّ كيدهم في نحرهم وهم لا يشعرون، فكان عاقبة مكرهم ان دمّرهم الله أجمعين. وتلك بيوتُهم خالية. والمشركون من مكة يمرّون بهذه البيوت المدمرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وخلف: لتبيّتنّه واهله ثم لتقولن، بالتاء، وقرأ مجاهد: «ليبيتنه» بالياء، والباقون: لنبيتنه.... بالنون. وقرأ عاصم: مهلك اهله، بكسر اللام، وقرأ ابو بكر: مهلك بفتح الميم واللام. والباقون: مهلك بضم الميم وفتح اللام.
ذُكرت قصة لوط في عدد من السور: في سورة الأعراف وهود والحِجر والشعراء والنمل هنا، والتحريم، وذلك باختلافٍ يسير وبعضها يكمل بعضا.
وخلاصة ما جاء هنا ان لوطا قال لقومه: ويلكم، أتأتون الفاحشة بالذكور وبعضكم ينظر الى بعض، وتأتون الذكور وتتركون النساء!! إنكم قوم جاهلون بنتائج ما سيحدُث لكم من هلاكٍ ودمار وعذاب في الآخرة. فما كان جواب قومه الا ان قال بعضهم لبعض: اطردوا لوطاً ومن آمن معه من بلادكم، إنهم اناس يتطهرون. فأنجاه الله وأهلَه والمؤمنين به الا امرأته التي كانت من الكافرين، ثم دمر بلادَهم، وامطر على أولئك المفسدين مطر عذابٍ ونقمة.
عباده الذين اصطفى: الأنبياء عليهم السلام: حدائق: بساتين. ذات بهجة: ذات منظر حسن يبتهج به من يراه: يَعدلِون: يميلون عن الحق وينحرفون حيث يجعلون لله عديلا. قرارا: مستقرا. خلالها: بينها. الرواسي: الجبال. حاجزا: فاصلا بينهما. الرياح بُشرا: مبشرة بالرحمة، أي المطر.
قل يا محمد: الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اختارهم لرسالته، وجَمْعِ المتقين المصلحين واسأل معارِضيك: أي الآلهة أفضل، الله ام الاصنامُ التي يعبدونها وهي لا تضر ولا تنفع؟. اسألهم أيها الرسول: من خَلَق السمواتِ والأرض على ما يهما من ابداع وحكمة، وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبت به بساتينَ جميلة تسرّ الناظرين، ما كنتم تستطيعون ان تنبتوا شجرها؟ ولكن الكفار يعدلِون عن الحق والإيمان، ويميلون الى الباطل والشرك.
اسألهم ايها الرسول: من الذي جعلَ الأرضَ للاستقرار عليها، وخلق وسطها انهارا، وخلق عليها جبالا تمنعها من الميل، وجعل بين الماء العذبِ والماء المالح فيها فاصلاً يمنع امتزاج احدهما بالآخرة، هل هناك إله مع الله؟ بل اكثرهم لا يعلمون.
واسألهم ايها الرسول: من يجيب المضطرَّ اذا دعاه ويكشف عنه السوء، ويجعلكم خلفاء في الأرض تتصرفون فيها، هل هناك اله مع الله؟ ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾.
اسألهم أيها الرسول: من يهديكم في ظلُمات البرّ والبحر وأنتم لا تدرون اين تذهبون، ومن يرسل الرياح مبشِّرة بمطر هو رحمة من الله؟ أهناك إله مع الله تعالى يصنع ذلك ﴿وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
واسألهم ايها الرسول: من ينشىء الخلق ابتداءً ثم يوجده بعد فنائه كما كان، ومن يرزقكم من السماء والارض، هل هناك إله مع الله يفعل ذلك؟ قل ايها الرسول: ﴿هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
قراءات:
قرأ الجمهور: قليلاً ما تذكرون بالتاء. وقرأ ابن عمرو وهشام وروح: قليلا ما يذكرون. بالياء.
أيان يُبعثون: متى يبعثون للحساب والجزاء. ادّراك: تدراك تلاحق. في شكل: في حيرة. عَمُون: عميان. أساطير: خرافات. رَدِف لكم: لحق بكم. تكنّ: تخفي.
قل ايها الرسول للناس: لا يعلم جميعُ من في السموات والارض الغيبَ غير الله وحده، ولا يعرفون متى يبعثون من قبورهم يوم القيامة.
ثم اكّد الله جهلهم بهذا اليوم فقال:
﴿بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة﴾
بل تلاحقَ عليمُهم في الآخرة من جهل الى شك وحيرة، بل هم في ضلالة وجهلٍ عظيم من أمرها.
وقال الذين كفروا: أإذا استحالت اجسادُنا الى تراب نحن وآباؤنا، هل نخرج من قبورنا لحياة اخرى؟ لقد وعدنا الرسلُ هذا ووعدا آباءنا قبلنا، لكنّ هذا خرافات القدماء يتناقلونها.
ثم أمر رسوله الكريم ان يرشدهم الى وجه الصواب مع التهديد والتوعيد فقال:
﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين﴾
تقدم مثل هذه الآية في آل عمران ١٣٧.
ثم سلّى رسوله ﷺ على ما يناله من عماهم عن السبيل القويم الذي يدعو اليه فقال:
﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾. وتقدمت هذه الآية في النحل ١٢٧.
ويقول الكافرون: متى يتم الوعد المنذِرُ بحلول العذاب ان كنتم صادقين؟.
﴿قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ﴾
قل ايها الرسول: عسى ان يكون قد لحق بكم وقرُب منكم بعض ما تستعجلونه من العذاب.
ثم بين الله السبب في ترك تعجيل العذاب فقال:
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ﴾
ان ربك لهو المنعِم المتفضل على الناس جميعاً بتأخير عقوبتهم ليتوبوا، ولكن اكثر الناس لا يشكرونه على ذلك.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾
ان الله يعلم كل ما يفكر فيه الانسان ويكتمه في صدره، وكلّ ما يعلنه من الأقوال والأفعال.
ثم بين ان كل ما يحصل في هذا الوجود محفوظٌ في كتاب واضح دقيقٍ لا يغادر كبيرةً ولا صغيرة الا أحصاها.
قراءات:
قرأ الجمهور: بل ادّراك بتشديد الدال المفتوحة بعدها الف. وقرأ ابن كثير وابو عمرو ابو جعفرن: بل أدْرك باسكان الدال وبدون الف بعدها.
وقع: حدث وحصل. القول: مجيء الساعة. فوجا: جماعة. يُوزَعون: يمنعون ويجمعون ويزجرون.
ان هذا الكتاب الذي أُنزل على محمد يبين لبني إسرائيلَ حقيقةَ ما جاء في التوراة من عقائدَ وأحكام وقصص، ويردّهم الى الصواب فيما اختلفوا فيه.
وهو مصدرُ هداية للمؤمنين، ورحمة لمن صدَّق به وعمل بما فيه، يرحمهم به الله من الشك والقلق والحَيرة.
وبعد ان ذكر فضله وشرفه أتبعه دليلَ عدله فقال:
﴿إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ العزيز العليم﴾
فهو يفصِل بين الناس جميعاً يوم القيامة بعدله، وهو العزيز الذي لا يُرَدُّ قضاؤه، العليم بأفعال العباد واقوالهم.
ثم امر رسوله الكريم ان يتوكل عليه وحده في جميع اموره، فانه كافيه كلَّ ما يهمه، وناصرُهُ على اعدائه، لأنه على الحق الواضح: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين﴾.
ثم يمضي في تسلية الرسول ﷺ وتأسيته على جموح القوم ولجاجهم في العناد واصرارهم على الكفر فيقول
﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ﴾.
انك ايها الرسول لا تستطيع هدايتهم، لأنهم كالموتى في عدم الوعي، وكالصم في فقدان السمع فليسوا مستعدّين لسماع دعوتك، فلا أمل في استجابتهم للدعوة، ولا في قبولهم للحق.
ثم اكّد ما سلف وقطع اطماعه في ايمانهم فقال:
﴿وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾
ولا تستطيع ان تهديَ الى الحق من عميتْ ابصارُهم وبصائرهم، ولا يمكنك ان تُسمع الا من يقبل الايمان بآياتنا فانهم هم الذين يسمعون منك ويؤمنون برسالتك.
وبعد ان ذكر الله ما يدل على كمال علمه وقدرته، وأبان إنكان البعث والحشر والنشر، ثم فصّل القولَ في إعجاز القرآن الكريم، ونبه بذلك الى إثبات نبوة محمد لله - ذَكَرَ بعض أشراط الساعة، وبعض مشاهدها، ومقدِّمات القيامة وما يحدث من الاهوال حين قيامها، فذكر خروج دابةٍ تكلِّم الناسَ وتبين للذين لا يؤمنون بآيات ربهم أنهم على الباطل.
وانه حينئذ ينفخ في الصور فيفزع من في السموات والأرض الا من شاء الله فيثبتهم ويطمئنهم، وكل المخلوقات يأتون الى ربهم صاغرين.
قراءات:
قرأ ابن كثير: ولا يَسمع الصمُّ بفتح الياء ورفع الصم. والباقون: ولا تُسمع الصمَّ، بضم تاءِ تسمع ونصب الصم. وقرأ حمزة وحده: وما انت تهدي العُمْي.
الم يروا: الم يعلموا. ليسكنوا فيه: ليستريحوا فيه. مبصرا: ليبصروا فيه ويسعوا وراء معاشهم. الصُّور: البوق. داخرين: أذلاء صاغرين. جامدة: ثابتة في اماكنها. الحسنة: كل عمل صالح نافع. السّيئة: كل عمل مخالف للدين والنظام. فكُبَّتْ وجوهُهم: القيت منكوسة. البلدة: مكة.
الم يعلموا ويشاهدوا بأنسهم انا جعلنا الليل للراحة والهدوء، والنهار واضحا للسعي وراء معاشهم وتدبير امورهم، ان في ذلك لآيات دالةً على وجود الله ورحمته للمؤمنين.
ويوم ينفخ اسرافيل في البوق ويدعى الناس للحساب يَفْزَعُ الناس ويخافون من هول ذلك اليوم الا من يشاء الله من المؤمنين فيطمئنهم ويجعلهم في امان.
في ذلك اليوم ترى الجبال فتحسبها ثابتة، مع انها تسير بسرعة هائلة كما قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً﴾ [الكهف: ٤٧]، ذلك من صنع الله الذي اتقن كل شيء وابدعه، انه سبحانه كامل العلم بما يتصل الناس.
ثم بين حال السعداء والاشقياء يومئذ فقال:
﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
الذي يعملون في الدنيا الأعمالَ الصالحة آمنون في ذلك اليوم، ولهم خير مما قدموا، أما الذين كفروا وجحدوا واساؤوا التصرف فانهم يكبّون على وجوههم في النار، ويقال لهم هذا جزاء ما كنتم تعملون.
ثم تأتي خاتمة السورة بتوجيهات قدسيّة من الله لرسوله الكريمِ والمؤمنين، وبتنبيه المشركين الى ما هم فيه من الغفلة وسوءِ الحال، فيقول الرسول ﷺ : انما أُمِرتُ أن أعبد ربَّ هذه البلدة «مكة» الذي حرّمها الله (حتى ينبه المشركين بأنهم على خطأ في عبادة الاصنام، وتركِ عبادة رب البيت الذي له ملك كل شيء) وأُمرت ان اكون من المسلمين له المخلصين في عبادتي وديني، وان اتلو هذا القرآن على الناس، فمن اهتدى فإنما يهتدي لخير نفسه، ومن ضلّ فلست عليه حسيباً وانما أنا منذِرٌ للناس.
وقل يا محمد: الحمد لله على ما افاض عليّ من نعم، وسيريكم ربكم آياته فيكشف لكم في الدنيا عن آثار قدرته، وفي الآخرة عن صدق ما اخبركم به فتعرفونها حق المعرفة، وما هو بغافل عما يعمل المشركون.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
Icon