تفسير سورة المائدة

الماوردي
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾ فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنها عهود الله، التي أخذ بها الإِيمان، على عباده فيما أحله لهم، وحرمه عليهم، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنها العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب أن يعملوا بما في التوراة، والإِنجيل من تصديق محمد ﷺ، وهذا قول ابن جريج.
والثالث : أنها عهود الجاهلية وهي الحلف الذي كان بينهم، وهذا قول قتادة.
الرابع : عهود الدين كلها، وهذا قول الحسن.
والخامس : أنها العقود التى يتعاقدها الناس بينهم من بيع، أو نكاح، أو يعقدها المرء على نفسه من نذر، أو يمين، وهذا قول ابن زيد.
﴿ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ ﴾ فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الأنعام كلها، وهي الإِبل، والبقر، الغنم، وهذا قول قتادة، والسدي.
والثاني : أنها أجنة الأنعام التى توجد ميتة فى بطون أمهاتها، إذا نحرت أو ذبحت، وهذا قول ابن عباس، وابن عمر.
والثالث : أن بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء وبقر الوحش، ولا يدخل فيها الحافر، لأنه مأخوذ من نعمة الوطء.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ ﴾ أى معالم الله، مأخوذ من الإِشعار وهو الإِعلام.
وفي شعائر الله خمسة تأويلات :
أحدها : أنها مناسك الحج، وهو قول ابن عباس، ومجاهد.
والثاني : أنها ما حرمه الله فى حال الإحرام، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً.
والثالث : أنها حرم الله، وهو قول السدي.
والرابع : أنها حدود الله فيما أحل وحرَّم وأباح وحظَّر، وهو قول عطاء.
والخامس : هي دين الله كله، وهو قول الحسن، كقوله تعالى :﴿ ذّلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [ الحج : ٢٢ ] أى دين الله.
﴿ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ أي لا تستحلوا القتال فيه، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه رَجَبُ مُضَر.
والثاني : أنه ذو العقدة، وهو قول عكرمة.
والثالث : أنها الأشهر الحرم، وهو قول قتادة.
﴿ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ ﴾ أما الهدي ففيه قولان :
أحدهما : أنه كل ما أهداه من شيء إلى بيت الله تعالى.
والثاني : أنه ما لم يقلّد من النعم، وقد جعل على نفسه، أن يُهديه ويقلده، وهو قول ابن عباس.
فأما القلائد ففيها ثلاثة أقاويل :
أنها قلائد الهدْي، وهو قول ابن عباس، وكان يرى أنه إذا قلد هديه صار مُحرِماً.
والثاني : أنها قلائد من لحاء الشجر، كان المشركون إذا أرادوا الحج قلدوها فى ذهابهم إلى مكة، وعَوْدهم ليأمنوا، وهذا قول قتادة.
والثالث : أن المشركين كانوا يأخذون لحاء الشجر من الحرم إذا أرادوا الخروج منه، فيتقلدونه ليأمنوا، فَنُهوا أن ينزعوا شجر الحرم فيتقلدوه، وهذا قول عطاء.
344
﴿ وَلاَ ءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ﴾ يعنى ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام، يقال أممت كذا إذا قصدته، وبعضهم يقول يممته، كقول الشاعر :
إني لذاك إذا ما ساءني بلد يممت صدر بعيري غيره بلداً
﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : الربح فى التجارة، وهو قول ابن عمر.
والثاني : الأجر، وهو قول مجاهد ﴿ وَرِضْوَاناً ﴾ يعني رضي الله عنهم بنسكهم.
﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ﴾ وهذا وإن خرج مخرج الأمر، فهو بعد حظر، فاقتضى إباحة الاصطياد بعد الإِحلال دون الوجوب.
﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَان قَوْمٍ ﴾ في يجرمنكم تأويلان.
أحدهما : لا يحملنكم، وهو قول ابن عباس، والكسائي، وأبي العباس المبرد يقال : جرمني فلان على بغضك، أى حملني، قال الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
والثاني : معناه ولا يكسبنكم، يقال جرمت على أهلي، أي كسبت لهم، وهذا قول الفراء.
وفي ﴿ شَنَئَانُ قَوُمٍ ﴾ تأويلان :
أحدهما : معناه بغض قوم، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : عداوة قوم، وهو قول قتادة.
وقال السدي : نزلت هذه الآية فى الحُطَم بن هند البكري أَتى رسول الله ﷺ، إِلاَمَ تَدعو؟ فأخبره، وقد كان النبي ﷺ قال لأصحابه :« يَدْخُلُ اليَوْمَ عَلَيكُم رَجُلٌ مِن رَّبِيعةَ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ شَيْطَانٍ » فلما أخبره النبي ﷺ قال : أنظرني حتى أشاور، فخرج من عنده، فقال رسول الله ﷺ :« لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ، وَخَرجَ بِقَفَا غَادِرٍ » فمر بسرح من سرح المدينة، فاستقاه وانطلق وهو يرتجز ويقول :
لقد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم
ثم أقبل من عام قابل حاجاً قد قلد الهدي، فاستأذن أصحاب النبي ﷺ أن يقتلوه، فنزلت هذه الآية حتى بلغ ﴿ ءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ﴾ فقال له ناس من أصحابه : يا رسول الله خلّ بيننا وبينه، فإنه صاحبنا، فقال :« إنه قد قلد ».
ثم اختلفوا فيما نسخ من هذه الآية بعد إجماعهم على أن منها منسوخاً على ثلاثة أقاويل :
أحدهما : ان جميعها منسوخ، وهذا قول الشعبي، قال : لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية.
والثاني : أن الذى نسخ منها ﴿ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ ءَآمِّينَ الْبَيتَ الْحَرَامَ ﴾ وهذا قول ابن عباس، وقتادة.
والثالث : أن الذي نسخ منها ما كانت الجاهلية تتقلده من لحاء الشجر، وهذا قول مجاهد.
345
قوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ ﴾ فيها تأويلان.
أحدهما : أنه كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره.
والثاني، أنه كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير ذكاة.
﴿ وَالدَّمُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الحرام منه ما كان مسفوحاً كقوله تعالى :﴿ أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً ﴾ الثاني : أنه كل دم مسفوح وغير مسفوح، إلا ما خصته اسنة من الكبد والطحال، فعلى القول الأول لا يحرم السمك، وعلى الثاني يحرم.
﴿ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن التحريم يختص بلحم الخنزير دون شحمه، وهذا قول داود.
والثاني : أنه يعم اللحم وما خالطه من شحم وغيره، وهو قول الجمهور، ولا فرق بين الأهلي منه والوحشي.
﴿ وَمآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ يعني ما ذبح ليغر الله من الأصنام والأوثان، أصله من استهلال الصبي إذا صاح حين يسقط من بطن أمه، ومنه أهلال المُحْرِم بالحج والعمرة، قال ابن أحمر :
يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر
﴿ وَالْمُنْخَنِقَةُ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أنها تخنق بحبل الصائد وغيره حتى تموت، وهو قول السدي، والضحاك.
والثاني : أنها التي توثق، فيقتلها خناقها.
﴿ وَالْمَوقُوذَةُ ﴾ هي التي تضرب بالخشب حتى تموت، يقال :( وقذتها أقذها وقذاً، وأوقذها أيقاذاً، إذا أثخنتها ضرباً )، ومنه قول الفرزدق :
شغارة تقذ الفصيل برجلها فطَّارة لقوادم الأبكار
﴿ وَالْمُتَردِيَةُ ﴾ هي التي تسقط من رأس جبل، أو بئر حتى تموت.
﴿ وَالنَّطِيحَةُ ﴾ هي الشاة التي تنطحها أخرى حتى تموت.
﴿ وَمآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعنى من المنخنقة وما بعدها، وهو قول علي رضي الله عنه، وابن عباس، وقتادة، والحسن، والجمهور.
والثاني : أنه عائد إلى ما أكل السبع خاصة، وهو محكي عن الظاهرية. وفى مأكولة السبع التي تحل بالذكاة قولان :
أحدهما : أن تكون لها عين تطرف أو ذنب يتحرك.
والثاني : أن تكون فيها حركة قوية لا كحركة المذبوح، وهو قول الشافعي، ومالك.
﴿.... وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ﴾ معناه أن تطلبوا علم ما قُسِّمَ أو لم يُقَسَّم من رزق أو حاجة بالأزلام، وهي قداح ثلاثة مكتوبة على أحدها : أمرني ربي، والآخر : نهاني ربي، والثالث : غفل لا شيء عليه، فكانوا إذا أرادوا سفراً، أو غزواً، ضربوا بها واستسقسموا، فإن خرج أمرني ربي فعلوه، وإن خرج نهاني ربي تركوه، وإن خرج الأبيض أعادوه، فنهى الله عنه، فَسُمِّي ذلك استقساماً، لأنهم طلبوا به علم ما قُسِمَ لهم.
وقال أبو العباس المبرد : بل هو مشتق من قَسَم اليمين، لأنهم التزموا ما يلتزمونه، باليمين.
﴿ ذَالِكُمْ فِسْقٌ ﴾ أى خروج عن أمر الله وطاعته، وفعل ما تقدم نهيه عنه،
﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن ترتدوا عنه راجعين إلى دينهم.
346
والثاني : أن يقدروا على إبطاله ويقدحوا فى صحته.
قال مجاهد : كان ذلك يوم عرفة حين حج النبي ﷺ حجة الوداع، بعد دخول العرب الإِسلام حتى لم ير النبي ﷺ مشركاً.
﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ﴾ أى لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، واخشونِ، أن تخالفوا أمري.
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه يوم عرفة فى حجة الوداع ولم يعش [ الرسول ﷺ ] بعد ذلك إلاَّ إحدى وثمانين ليلة، وهذا قول ابن عباس : والسدي.
والثاني : أنه زمان النبي ﷺ كله إلى أنْ نَزَل ذلك عليه يوم عرفة، وهذا قول الحسن.
وفي إكمال الدين قولان :
أحدهما : يعني أكملت فرائضي وحدودي وحلالي وحرامي، ولم ينزل على النبي ﷺ من الفرائض من تحليل ولا تحريم، وهذا قول ابن عباس والسدي.
والثاني : يعني اليوم أكملت لكم حجتكم، أن تحجوا البيت الحرام، ولا يحج معكم مشرك، وهذا قول قتادة، وسعيد ابن جبير.
﴿ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ بإكمال دينكم.
﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ﴾ أي رضيت لكم الاستسلام لأمري ديناً، اي طاعة.
روى قبيصة قال : قال كعب لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لعظموا اليوم، الذى أُنْزِلت فيه عليهم، فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه، فقال عمر : قد علمت اليوم الذى أُنزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما - بحمد الله - لنا عيد.
﴿ فَمَنِ آضْطُرَّ ﴾ أي أصابه ضر الجوع.
﴿ فِي مَخْمَصَةٍ ﴾ أي في مجاعة، وهي مَفْعَلة مثل مجهلة ومبخلة ومجبنة ومخزية من خمص البطن، وهو اصطباره من الجوع، قال الأعشى :
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرقى يبتن خماصا
﴿ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثمٍ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : غير متعمد لإِثم، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد.
والثاني : غير مائل إلى إثم، وأصله من جنف القوم إذا مالوا، وكل أعوج عند العرب أجنف.
وقد روى الأوزاعي عن حسان عن عطية عن أبي واقد الليثي قال : قلنا يا رسول الله إنا بأرض يصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال :« إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَجْنِفُوا بها، فَشَأْنُكُم بِّهَا
»
واختلف فى وقت نزول هذه السورة على ثلاثة أقاويل.
أحدها : أنها نزلت في يوم عرفة، روى شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : نزلت سورة المائدة جميعاً وأنا آخذة بزمان ناقة رسول الله ﷺ العضباء وهو واقف بعرفة فكادت من ثقلها أن تدق عضد الناقة.
والثاني : أنها نزلت فى مسيره ﷺ في حجة الوداع، وهو راكب، فبركت به راحلته من ثقلها.
والثالث : أنها نزلت يوم الاثنين بالمدينة، وهو قول ابن عباس، وقد حُكِيَ عنه القول الأول.
347
قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ يعني بالطيبات الحلال، وإنما سمي الحلال طيباً، وإن لم يكن مستلذاً تشبيهاً بما يستلذ. ﴿ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ يعني وصيد ما علمتم من الجوارح، وهي الكواسب من سباع البهائم والطير، سميت جوارح لكسب أهلها بها من قولهم : فلان جارحة أهله أي كاسبهم، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
ذا جبار منضجاً ميسمه يذكر الجارح ما كان اجترح
أي ما اكتسب.
وفي قوله :﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ ثلاثة أقاويل.
أحدها : يعني من الكلاب دون غيرها، وأنه لا يحل إلا صيد الكلاب وحدها، وهذا قول ابن عمر، والضحاك، والسدي.
والثاني : أن التكليب من صفات الجوارح من كلب وغيره، ومعناه مُضْرِين على الصيد كما تَضْرِي الكلاب، وهو قول ابن عباس، وعلي بن الحسين، والحسن، ومجاهد.
والثالث : أن معنى التكليب من صفات الجارح : التعليم.
﴿ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا علَّمَكُمُ اللَّهُ ﴾ أى تعلمونهن من طلب الصيد لكم مما علمكم الله من التأديب الذي أدبكم وصفات التعليم التي بيَّن حكمها لكم.
فأما صفة التعليم، فهو أن يُشلَى إذا أُشلي، ويجيب إذا دعي ويمسك إذا أخذ.
وهل يكون إمساكه عن الأكل شرطاً فى صحة التعليم أم لا؟ على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه شرط في كل الجوارح، فإن أكلت لم تؤكل، وهذا قول ابن عباس، وعطاء.
والثاني : أنه ليس بشرط فى كل الجوارح ويؤكل وإن أكلت، وهذا قول ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وسلمان.
والثالث : أنه شرط في جوارح البهائم فلا يؤكل ما أكلت، وليس بشرط في جوارح الطير، فيؤكل وإن أكلت، وهذا قول الشعبي، والنخعي، والسدي.
واختلف فى سبب نزول هذه الآية على قولين :
أحدهما : ما روى القعقاع بن حكيم عن سليمان بن أبي رافع عن أبي رافع قال : جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ ليستأذن عليه، فقال إذِنَّا لك، فقال أجل ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب، قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها ثم جئت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته، فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاؤوا، فقالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، قال فسكت رسول الله ﷺ، فأنزل الله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ الآية.
والثاني : ما حكي أن زيد الخيل لَمَّا وفد على النبي ﷺ قال فيه من الخير ما قال فسماه زيد الخير، فقال : يا رسول الله فينا رجلان، يقال لأحدهما دريح، والآخر يكنى أبا دجانة، لهما أَكْلُب خمسة تصيد الظباء، فما ترى في صيدها؟
وحكى هشام عن ابن عباس أن أسماء هذه الكلاب الخمسة التي لدريح وأبي دجانة : المختلس وغلاب والغنيم وسهلب والمتعاطي، قال : فأنزل الله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ ﴾ الآية.
قال تعالى :﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَاب حِلٌّ لَّكُمْ ﴾ يعني ذبائحهم.
﴿ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ﴾ يعني ذبائحنا.
﴿ وَالْمُحصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ يعني نكاح المحصنات، وفيهن قولان :
أحدهما : أنهن الحرائر من الفريقين، سواء كن عفيفات أو فاجرات، فعلى هذا، لا يجوز نكاح إمائهن، وهذا قول مجاهد، والشعبي، وبه قال الشافعي.
والثاني : أنهن العفائف، سواءٌ كن حرائر أم إماءً، فعلى هذا، يجوز نكاح إمائِهن، وهذا قول مجاهد، والشعبي أيضاً، وبه قال أبو حنيفة.
وفي المحصنات من الذين أوتوا الكتاب قولان :
أحدهما : المعاهدات دون الحربيات، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : عامة أهل الكتاب من معاهدات وحربيات، وهذا قول الفقهاء وجمهور السلف.
﴿ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ يعني صداقهن.
﴿ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحينَ ﴾ يعني أَعفّاء غير زُناة.
﴿ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ﴾ هي ذات الخليل الواحد تقيم معه على السفاح.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قَمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُواْ وَجُوهَكُمْ ﴾ يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم، فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، فاغسلوا، فصار الحدث مُضْمَراً. وفي وجوب الوضوء شرطاً، وهو قول عبد الله بن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، والفقهاء.
والثاني : أنه واجب على كل من أراد القيام إلى الصلاة، أن يتوضأ، ولا يجوز أن يجمع بوضوء واحد بين فرضين، وهذا مروي عن علي وعمر. والثالث : أنه كان واجباً على كل قائمٍ الى الصلاة، ثم نسخ إلاَّ على المحدث،
روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله ﷺ يتوضأ لكل صلاة، فلما كان عام الفتح، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر : إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، قال :« عمداً فعلته يا عمر
»
وروى عبد الله بن حنظلة بن عامر الغسيل : أن النبي ﷺ أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه، فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوا قوَّامِينَ لِلَّهِ ﴾ يعني بالحق فيما يلزم من طاعته.
﴿ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ ﴾ أي بالعدل. وفى هذه الشهادة ثلاثة أقاويل.
أحدها : أنها الشهادة بحقوق الناس، وهذا قول الحسن.
والثاني : الشهادة بما يكون من معاصي العباد، وهذا قول بعض البصريين.
الثالث : الشهادة لأمر الله تعالى بأنه حق.
وهذه الآية نزلت في النبي ﷺ، واختلف المفسرون فى سبب نزولها فيه على قولين :
أحدهما : أن النبي خرج إلى يهود بني النضير، يستعين بهم في دية، فهمّوا أن يقتلوه، فنزل ذلك فيه، وهذا قول قتادة، ومجاهد.
ثم إن الله تعالى ذكرهم نِعَمَهُ عليهم بخلاص نبيهم بقوله تعالى :﴿ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَومٌ أَن يبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ﴾
والقول الثاني : أن قريشاً بعثت رجلاً، ليقتل رسول الله ﷺ، فَأَطْلَعَ الله نَبِيَّهُ على ذلك، فنزلت فيها هاتان الآيتان، وهذا قول الحسن.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَخْذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ﴾ يعني بإخلاص العبادة لله ولزوم طاعته.
﴿ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ﴾ أخذ من كل سبط منهم نقيباً، وفى النقيب ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الضمين، وهو قول الحسن.
الثاني : الأمين، وهو قول الربيع.
والثالث : الشهيد على قومه، وهو قول قتادة.
وأصله فى اللغة : النقيب الواسع، فنقيب القوم هو الذي ينقب أحوالهم. وفيما بعث فيه هؤلاء النقباء قولان :
أحدهما : أنهم بُعِثُوا إلى الجبارين، ليقفوا على أحوالهم ورجعوا بذلك إِلى موسى، فرجعوا عن قتالهم، لمَّا رأوا من شدة بأسهم، وعظم خلقهم، إلا اثنين منهم، وهذا قول مجاهد، والسدي.
والثاني : أنهم بعثوا لقومهم بما أخذ به ميثاقهم منهم، وهذا قول الحسن.
وفي قوله تعالى :﴿ وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ﴾ تأويلان :
أحدهما : يعني نصرتموهم، وهذا قول الحسن، ومجاهد.
الثاني : عظمتموهم، وهذا قول أبي عبيدة.
وأصله المنع، قال الفراء : عزرته عزراً إذا رددته عن الظلم، ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبح.
قوله تعالى :﴿ فَبِمَا نَقَْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ﴾ وتقديره : فبنقضهم ميثاقهم لعنَّاهم، و « ما » صلة زايدة.
﴿ وَجَعَلْنَا قَلُوبَهُمْ قَاسيَةً ﴾ من القسوة وهي الصلابة.
وقرأ حمزة والكسائي ﴿ قَسِيّةً ﴾ وفيه تأويلان :
أحدهما : أنها أبلغ من قاسية.
والثاني : أنها بمعنى قاسية.
﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾ يعني بالتغيير والتبديل، وسوء التأويل.
﴿ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمََّا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ يعني نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم.
﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ ﴾ فيه تأويلان.
أحدهما : يعني خيانة منهم.
والثاني : يعني فرقة خائنة.
﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحُ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أن حكمها ثابت فى الصفح والعفو إذا رآه. والثاني : أنه منسوخ، وفى الذي نسخه قولان :
أحدهما : قوله تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَومِ الآخِرِ ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] وهذا قول قتادة.
والثاني : قوله تعالى :﴿ وَإِمَّا تَخَافُنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيهِم عَلَى سَوَآءٍ ﴾ [ الأنفال : ٥٨ ].
قوله تعالى :﴿ يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ يعني : نبوة محمد ﷺ، ورجم الزانين.
﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ مما سواه.
﴿ قَدْ جَآءَكم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ فى النور تأويلان :
أحدهما : محمد ﷺ، وهو قول الزجاج. الثاني : القرآن وهو قول بعض المتأخرين.
قوله تعالى :﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبِعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : سبيل الله، لأن الله هو السلام، ومعناه دين الله، وهذا قول الحسن.
والثاني : طريق السلامة من المخافة، وهو قول الزجاج.
﴿ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ﴾ يعني : من الكفر إلى الإِيمان بلطفه.
﴿ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : طريق الحق وهو دين الله، وهذا قول الحسن.
والثاني : طريق الجنة فى الآخرة، وهو قول بعض المتكلمين.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَآءُ اللَّهِ وَأَحِبّآؤُهُ ﴾ في قولهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه قول جماعة من اليهود حذرهم النبي ﷺ عقاب الله، وخوفهم به، فقالوا لا تخوفنا :﴿ نَحنُ أَبْنآءُ اللَّهِ وَأَحِبَّآؤُهُ ﴾، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أن اليهود تزعم أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بِكْري من الولد، فقالوا، ﴿ نَحنُ أَبْنآءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ وهذا قول السدي.
وقال الحسن : أنهم قالوا ذلك على معنى قرب الولد من والده، وهو القول الثالث.
وأما النصارى، ففي قولهم لذلك قولان :
أحدهما : لتأويلهم ما في الإِنجيل من قوله : اذهب إلى أبي وأبيكم، فقالوا لأجل ذلك ﴿ نَحنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ الثاني : لأجل قولهم في المسيح : ابن الله، وهم يرجعون إليه، فجعلوا نفوسهم أبناء الله وأجباءه، فرد الله منطقهم ذلك بقوله :
﴿... فَلِمَ يُعَذّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ﴾ لأن الأب لإِشفاقه لا يعذب ابنه، ولا المحب حبيبه.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ ﴾ فيهم قولان.
أحدهما : أنهم الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى.
والثاني : أنهم السبعون الذين اختارهم موسى.
﴿ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدها : لأنهم مَلَكوا أنفسهم بأن خلصهم من استعباد القبط لهم، وهذا قول الحسن.
والثاني : لأن كل واحد ملك نفسه وأهله وماله، وهذا قول السدي.
والثالث : لأنهم كانوا أول من ملك الخدم من بني آدم، وهو قول قتادة.
والرابع : أنهم جُعِلُوا ملوكاً بالمَنِّ والسَّلْوَى والحَجَر، وهذا قول ابن عباس.
والخامس : أن كل من ملك داراً وزوجة وخادماً، وفهو ملك من سائر الناس، وهذا قول عبد الله بن عمرو بن العاص، والحسن، وزيد بن أسلم.
وقد روى زيد بن أسلم قال : قال رسول الله ﷺ :« من كان له بيت [ يأوي إليه وزوجة ] وخادم، فهو ملك
»
. ﴿ وءَاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : المن والسلوى والغمام والحجر، وهو قول مجاهد.
الثاني : كثرة الأنبياء فيهم والآيات التي جاءتهم. قوله تعالى :﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُواْ الأرْضَ الْمُقدَّسَةَ الَّتِي كتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أرض بيت المقدس، وهذا قول ابن عباس، والسدي.
والثاني : دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وهذا قول الزجاج.
والثالث : هي الشام، وهذا قول قتادة، ومعنى المقدسة : المطهرة.
وقوله :﴿ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ وإن قال :﴿ إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيهِم ﴾ لأنها كانت هبة من الله تعالى لهم ثم حرَّمها عليهم بعد معصيتهم.
﴿ وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِكُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته.
والثاني : لا ترجعوا عن الارض التي أمرتم بدخولها.
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ﴾ والجبار : هو الذي يَجْبُر الناس على ما يريد إكراههم عليه، ومنه جَبْرُ العظم، لأنه كالإكراه على الصلاح، ويقال [ للأعواد التي ] تحمله جُبَارة، إذا قامت اليد طولاً، لأنها امتنعت كامتناع الجبار من الناس.
وقيل بلغ من جبروت هؤلاء القوم، أن واحداً منهم، أخذ الاثني عشر نقيباً، الذين بعثهم موسى، ليخبروه بخربهم، فحملهم مع فاكهة حملها من بستانه، وجاء فنشرهم بين يدي الملك، وقال : هؤلاء يريدون أن يقاتلونا، فقال الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا.
قوله تعالى :﴿ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهم : يخافون الله، وهو قول قتادة.
الثاني : يخافون الجبارين، ولم يمنعهم خوفهم من قول الحق.
﴿ أَنْعََمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : بالتوفيق للطاعة.
والثاني : بالإِسلام، وهو قول الحسن.
وفي هذين الرجلين قولان :
أحدهما : أنهما من النقباء يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وهذا قول ابن عابس، ومجاهد، وقتادة، والسدي.
والثاني : أنهما رجلان، كانا في مدينة الجبارين أنعم الله عليهما بالإِسلام، وهذا مروي عن ابن عباس.
﴿ ادْخُلُواْ عَلَيْهِمْ الْبَابَ فإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : إنما قالوه لعلمهم بأن الله كتبها لهم.
والثاني : لعلمهم بأن الله ينصرهم على أعادئه، ولم يمنعهم خوفهم من القول الحق، وقد قال النبي ﷺ :« لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ الحَقَّ إِذَا رَآهُ أَوْ عَلِمَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُبْعِدُ مِنْ رِزْقٍ وَلاَ يُدْنِي مِنْ أَجَلٍ
»
.
قوله تعالى :﴿ وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ ﴾ فيهما قولان :
أحدهما : أنهما من بني إسرائيل، وهذا قول الحسن.
والثاني : أنهما ابنا آدم لصلبه، وهما هابيل وقابيل، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وقتادة.
﴿ إِذْ قَرَّبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ﴾ والقربان : هو البر الذي يقصد من رحمة الله، وهو فعلان من القرب.
واختلف فى السبب الذي قربا لأجله قرباناً على قولين :
أحدهما : أنهما فعلاه لغير سبب.
والثاني : وهو أشهر القولين أن ذلك لسبب، وهو أن حواء كانت تضع في كل عام غلاماً وجارية، فكان الغلام يتزوج من أحد البطنين بالجارية من البطن الآخر، وكان لكل واحد من ابني آدم هابيل وقابيل توأمة، فأراد هابيل أن يتزوج بتوأمة قابيل فمنعه، وقال أنا أحق بها منك.
واختلف فى سبب منعه على قولين :
أحدهما : أن قابيل قال لهابيل أنا أحق بتوأمتي منك، لأننا من ولادة الجنة وأنت من ولادة الأرض.
الثاني : أنه منعه منها لأن توأمته كانت أحسن من هابيل ومن توأمته، فقربا قرباناً وكان قابيل حراثاً، وهابيل راعياً، فقرب هابيل سخلة سمينة من خيار ماله، وقرب قابيل حزمة سنبل من شر ماله، فنزلت نار بيضاء فرفعت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وكان ذلك علامة القبول ولم يكن فيهم مسكين يتقرب بالصدقة عليه وإنما كانت قُرَبُهُم هكذا.
قال أبو جعفر الطبري : وكانت سخلة هابيل المقبولة ترعى فى الجنة حتى فَدَى الله تعالى بها إٍحاق بن إبراهيم الذبيح.
واختلف في سبب قبول قربان هابيل على وجهين :
أحدهما : لأنه كان أتقى لله من قابيل لقوله :﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾، والتقوى ها هنا الصلاة، على ما ذكره المفسرون.
الثاني : لأن هابيل تقرب بخيار ماله فَتُقُبِّل منه، وقابيل تقرب بشر ماله، فلم يُتَقَبَّل منه، وهذا قول بعد الله بن عمر، وأكثر المفسرون.
واختلف في قربانهما هل كان بأمر آدم، أو من قبل أنفسهما على قولين :
أحدهما : أنهما قربا بأمر آدم حين اختصما إليه.
والثاني : أنهما قربا من قِبَل أنفسهما.
وكان آدم قد توجه إلى مكة، ليراها ويزور البيت بها عن أمر به، وكان قد عرض الأمانة في حفظ أهله على السموات فأبت، فعرضها على الأرض فأبت، فعرضها على الجبال فأبت، فعرضها على قابيل فقبلها، ثم توجه وعاد فوجد قابيل قد قتل هابيل وشربت الأرض دمه، فبكى ولعن الأرض لشربها دمه، فأنبتت الشوك، ولم تشرب بعده دماً.
روى غياث بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمداني عن علي قال : لما قتل قابيل بن آدم هابيل أخاه بكاه آدم عليه السلام فقال :
356
تَغَيَّرَتِ البِلادُ ومَنْ عليها فوَجْهُ الأرْضِ مُغْبَرٌ قبيحٌ
تَغَيَّرَ كلُّ ذِي لَوْنٍ وقَلَّ بَشَاشَةُ الوَجْهِ المَلِيحْ
قال فأجيب آدم :
أبا هابيل قد قُتِلا جَمِيعاً وصارَ الحَيُّ كالمَيِّتِ الذَّبِيحْ
وجَاءَ بِشَرِّ ما قَدْ كانَ منه على خَوْفٍ فَجَاءَ بها تَصِيحْ
واختلف في قابيل هل كان عند قتل أخيه كافراً أو فاسقاً؟ فقال قوم كان كافراً، وقال آخرون بل كان رجل سوء فاسقاً.
قال ابن جريج : لم يزل بنو آدم فى نكاح الأخوات حتى مضي أربعة آباء، فنكح ابنة عمه وذهب نكاح الأخوات.
قوله تعالى :﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ ﴾ معناه لئن بدأتني بالقتل لم أبدأك بمثله، وفي امتناعه من دفعه قولان :
أحدهما : منعه منه التحرج مع قدرته عليه وجوازه له، وهذا قول ابن عباس، وعبد الله بن عمر.
والثاني : أنه لم يكن له الامتناع ممن أراد إذ ذاك، وهذا قول مجاهد والحسن.
قوله تعالى :﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾ معناه ترجع، وفيه تأويلان : إحدهما : أن تبوء بإثم قتلي وإثمك الذي عليك من معاصيك وذنوبك، وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود.
والثاني : يعني أن تبوء بإثمي فى خطاياي، وإثمك بقتلك لي، فتبوء بهما جميعاً، وهذا قول مجاهد.
وروى الأعمش، عند عبد الله بن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :« مَا مِنْ نَفْسٍ تُقتَلُ ظُلْماً إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ
»
. قوله تعالى :﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ﴾ معنى طوعت أي فعلت من الطاعة، وفيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعنى شجعت، وهو قول مجاهد.
والثاني : يعني زينت، وهو قول قتادة.
والثالث : يعني فساعدته.
وكان هابيل أول من قُتِلَ في الأرض، وقيل إن قابيل لم يدر كيف يقتله حتى ظهر له إبليس فعلمه، وقيل إنه قتله غيلة، بأن ألقى عليه وهو نائم صخرة، شدخه بها.
قوله تعالى :﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني عورة أخيه.
والثاني : جيفة أخيه لأنه تركه حتى أنتن، فقيل لجيفته سوأة.
وفي الغراب المبعوث قولان :
أحدهما : أنه كان ملكاً على صورة الغراب، فبحث الأرض على سوأة أخيه حتى عرف كيف يدفنه.
والثاني : أنه كان غراباً بحث الأرض على غراب آخر.
﴿ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخَي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ قيل إنه ندم علىغير الوجه الذي تصح منه التوبة، فلذلك لم تقبل منه، ولو ندم على الوجه الصحيح لقبلت توبته.
وروى معمر، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي ﷺ، أنه قال :« إِنَّ ابْنَي آدَمَ ضَرَبَ مَثَلاً لِهَذِهِ الأَمَّةِ، فَخُذُوا مِنْ خَيرِهِمَا، وَدَعُوا شَرَّهُمَا
»
.
357
قوله تعالى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ﴾ يعني من أجل أن ابن آدم قتل أخاه ظلماً.
﴿ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ﴾ يعني من قتل نفساً ظلماً بغير نفس قتلت، فيقتل قصاصاً، أو فساد فى الأرض استحقت به القتل، الفساد فى الأرض يكون بالحرب لله ولرسوله وإخافة السبيل.
﴿ فَكَأَنَّمَ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ فيه ستة تأويلات :
أحدها : يعني من قتل نبياً أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن شد على يد نبى أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعاً، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : معناه فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول، ومن أحياها فاستنفذها من هلكة، فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنفذ، وهذا قول ابن مسعود.
والثالث : معناه أن قاتل النفس المحرمة يجب عليه من القود والقصاص مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعاً، ومن أحياها بالعفو عن القاتل، أعطاه الله من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعاً، وهذا قول ابن زيد وأبيه. والرابع : معناه أن قاتل النفس المحرمة يَصْلَى النار كما يَصْلاها لو قتل الناس جيمعاً، ومن أحياها، يعني سلم من قتلها، [ فكأنما ] سلم من قتل الناس جميعاً، وهذا قول مجاهد.
والخامس : أن على جميع الناس ( جناية القتل ) كما لو قتلهم جميعاً، ومن أحياها بإنجائها من غرق أو حرق أو هلكة، فعليهم شكره كما لو أحياهم جميعاً. والسادس : أن الله تعالى عظم أجرها ووزرها فإحياؤها [ يكون ] بمالك أو عفوك، وهذا قول الحسن، وقتادة.
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً ﴾ اختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت فى قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي ﷺ عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فعرف الله نبيه الحكم فيهم، وهذا قول ابن عباس.
الثاني : أنها نزلت فى العُرَنِيِّينَ ارتدوا عن الإِسلام وقتلوا راعي النبي ﷺ واستاقوا إبله، وهذا قول أنس بن مالك، وقتادة.
والثالث : أنها نزلت إخباراً من الله تعالى بحكم من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فساداً.
واختلف في المستحق اسم المحارب لله ورسوله الذي يلزمه حكم هذه الآية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الزنى والقتل والسرقة، وهذا قول مجاهد.
والثاني : أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية فى المِصْر وغيره، وهذا قول الشافعي، ومالك، والأوزاعي.
والثالث : أنه المجاهر بقطع الطريق دون المكابر فى المِصْر، وهذا قول أبي حنيفة، وعطاء الخراساني.
﴿ أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْض ﴾ جعل الله هذا حكم المحارب، وفيه قولان :
358
أحدهما : أنها على التخيير وأن الإِمام فيهم بالخيار بين أن يقتل أو يصلب أو يقطع أو ينفي، وهذا قول سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم.
والثاني : أنها مرتبة تختلف على قدر اختلاف الأفعال : أن يقتلوا إذا قتلوا، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي.
وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك العرنيين وهم من بجيلة، فسأل رسول الله ﷺ جبريل عن القصاص فيمن حارب، فقال : من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته ورجله لإِخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل افرج فاصلبه.
أما قوله تعالى :﴿ أَوْ يُنفَوا مِنَ الأَرْضِ ﴾ فقد اختلف أهل التأويل فيه على أربعة أوجه :
أحدها : أنه نفيهم وإبعادهم من بلاد الإِسلام إلى بلاد الشرك، وهو قول أنس : والحسن، وقتادة، السدي، والزهري، والضحاك، والربيع.
والثاني : أنه إخراجهم من مدينة إلى أخرى، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير.
والثالث : أنه الحبس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والرابع : هو أن يطلبوا لتقام الحدود عليهم فيُبْعَدُوا، وهذا قول ابن عباس، والشافعي، والليث بن سعد.
قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ﴾ فيه ستة أقاويل، أحدها : إلا الذين تابوا من شركهم وسعيهم فى الأرض فساداً بإسلامهم، فأما المسلمون فلا يتسقط التوبة عنهم حداً وجب عليهم، وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة.
الثاني : إلا الذين تابوا من المسلمين المحاربين بأمان من الإِمام قبل القدرة عليهم، فأما التائب بغير أمان فلا، وهذا قول عليّ عليه السلام، والشعبي، وروى الشعبي أن خارجة بن زيد خرج محارباً فأخاف السبيل، وسفك الدماء، وأخذ الأموال، وجاء تائباً من قبل القدرة عليه، فقبل عليّ توبته وجعل له أماناً منشوراً على ما كان أصاب من دم ومال.
والثالث : إلا الذين تابوا بعد أن لحقوا بدار الحرب وإن كان مسلماً ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه، وهذا قول عروة بن الزبير.
والرابع : إن كان في دار الإٍسلام في منعة وله فئة يلجأ إليها وتاب قبل القدرة عليه قبلت توبته، وإن لم يكن له فئة يمتنع بها [ وتاب ] لم [ تسقط ] عنه توبته شيئاً من عقوبته، وهذا قول ابن عمر، وربيعة، والحكم بن عيينة.
والخامس : أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه حدود الله تعالى دون حقوق الآدميين، وهذا قول الشافعي.
والسادس : أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه سائر الحقوق والحدود إلا الدماء، وهذا مذهب مالك.
359
قوله تعالى :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ﴾ وهي في قراءة عبد الله ابن مسعود : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما.
إنما بدأ الله تعالى في السرقة بالسارق قبل السارقة، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني، لأن حب المال على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب، ثم جعل حد السرقة قطع اليد لتناول المال بها، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به، لثلاثة معانٍ :
أحدها : أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه.
والثاني : أن الحد زجر للمحدود وغيره، وقطع اليد في السرقة ظاهر، وقطع الذكر فى الزنى باطن،
والثالث : أن فى قطع الذكر إبطال النسل وليس في قطع اليد إبطاله.
وقد قطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد ابن المغيرة، فأمر الله تعالى بقطعه فى الإِسلام، فكان أول سارق قطعه رسول الله ﷺ في الإِسلام الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم، وقال :« لَو كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ
»
. وقطع عمر ابن سمرة أخا عبد الرحمن بن سمرة.
والقطع في السرقة حق الله تعالى لا يجوز العفو عنه بعد علم الإِمام به، لقول رسول الله ﷺ في سارق رداء صفوان حين أمر بقطعه، فقال صفوان : قد عفوت عنه، فقال النبي ﷺ :« هَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟لاَ عَفَا اللَّهُ عَنِّي إِنْ عَفَوتُ
»
. وروي أن معاوية بن أبي سفيان أُتِيَ بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد منهم فقدم ليقطع فقال :
يميني أمير المؤمنين أعيذها بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها
يدي كانت الحسناء لو تم سبرها ولا تعدمُ الحسناءُ عابا يعيبها
فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة إذا ما شمالي فارقتها يمينها
فقال معاوية : كيف أصنع وقد قطعت أصحابك، فقالت أم السارق : يا أمير المؤمنين اجعلها من ذنوبك التي تتوب منها، فَخَلَّى سبيله، فكان أول حد ترك في الإٍسلام.
ولوجوب القطع مع ارتفاع الشبهة شرطان هما : الحرز والقدر، وقد اختلف الفقهاء فى قدر ما تقطع فيه اليد خلافاً، كُتُبُ الفقه أولى.
واختلف أهل التأويل حينئذ لأجل استثناء القطع وشروطه عمن سرق من غير حرز أو سرق من القدر الذي تقطع فيه اليد في قوله تعالى :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ هل هو عام خُصّ؟ أو مجمل فُسِّر على وجهين.
أحدهما : أنه العموم الذي خُصّ.
والثاني : أنه المجمل الذي فُسِّر.
360
ثم قال تعالى :﴿ جَزَآءً بِمَا كَسَبا ﴾ فاختلفوا هل يجب مع القطع غُرْم المسروق إذا استهلك على مذهبين :
أحدهما : أنه لا غرم، وهذا قول أبي حنيفة.
والثاني : يجب فيه الغرم، وهو مذهب الشافعي.
وذكر الكلبي أن هذه الآية نزلت فى طعمة بن أبيرق سارق الدرع. قوله تعالى :﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾ في التوبة ها هنا قولان :
أحدهما : أنها كالتوبة من سائر المعاصي والندم على ما مضى والعزم على ترك المعاودة.
والثاني : أنها الحد، وهو قول مجاهد.
وقد روى عبد الله بن عمرو قال : سرقت امرأة حلياً فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة، فقال رسول الله ﷺ :« اقْطَعُوا يَدَهَا الْيُمْنَى » فقالت المرأة : هل لي من توبة؟ فقال رسول الله ﷺ :« أَنْتِ الْيَوْمَ مِنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أُمُّكِ » فأنزل الله تعالى :﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾.
قوله تعالى :﴿ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ويَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يغفر لمن تاب من كفره، ويعذب من مات على كفره، وهذا قول الكلبي.
الثاني : يعذب من يشاء فى الدنيا على معاصيهم بالقتل والخسف والمسخ والآلام وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم فى الدنيا بالتوبة واستنقاذهم بها من الهلكة وخلاصهم من العقوبة.
361
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِن الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ يعني به المنافقين المظهرين للإِيمان المبطنين للكفر.
﴿ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ ﴾ يعني اليهود.
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ﴾ ليكذبوا عليك عندهم إذا أتوا من بعدهم، وهذا قول الحسن، والزجاج.
والثاني : أن معنى قوله :﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ أى قائلون للكذب عليك. و ﴿ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ﴾ يعني فى قصة الزاني المحصن من اليهود الذي حكم رسول الله ﷺ فأنكروه، وهذا قول ابن عباس.
﴿ يُحرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضَعِهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم إذا سمعوا كلام النبي ﷺ غيروه بالكذب عليه، وهذا قول الحسن.
والثاني : هو تغيير حكم الله تعالى في جَلْد الزاني بدلاً من رجمه، وقيل في إسقاط القود عند استحقاقه.
﴿ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه يريد بذلك حين زنى رجل منهم بامرأة فأنفذوه إلى النبي ﷺ ليحكم بينهم وقالوا : إن حكم عليكم بالجلد فاقبلوه وإن حكم عليكم بالرجم فلا تقبلوه، فقام النبي ﷺ إلى مدارس توارتهم وفيها أحبارهم يتلون التوراة، فأتى عبد الله بن صوريا، وكان أعور، وهو من أعلمهم فقال له أسألك بالذي أنزل التوراة بطور سيناء على موسى بن عمران هل فى التوراة الرجم؟ فأمسك، فلم يزل به حتى اعترف، فأمر بهما النبي ﷺ فَرُجِمَا، قال عبد الله : وكنت فيمن رجمه وأنه ليقيها الأحجار بنفسه حتى ماتت، ثم إن ابن صوريا أنكر وفيه أنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول ابن عباس، وجابر، وسعيد بن المسيب، والسدي، وابن زيد.
والقول الثاني : أن ذلك في قتيل منهم، قال الكلبي : قتلت بنو النضير رجلاً من بني قريظة وكانوا يمتنعون بالاستطالة عليهم من القود بالدية، وإذا قتلت بنو قريظة منهم رجلاً لم يقنعوا إلا بالقود دون الدية، قالوا : إن أفتاكم بالدية فاقبلوه وإن أفتاكم بالقود فردوه، وهذا قول قتادة.
﴿ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ ﴾ فيه ثلاث تأويلات.
أحدها : عذابه، وهذا قول الحسن.
والثاني : إضلاله، وهو قول السدي.
والثالث : فضيحته، وهو قول الزجاج.
﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : لم يطهرها من الضيق والحرج عقوبة لهم.
والثاني : لم يطهرها من الكفر.
قوله تعالى :﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ فيه أربعة تأويلات.
أحدهما : أن السحت الرشوة، وهو مروي عن النبي ﷺ.
والثاني : أنه الرشوة فى الحكم، وهو قول علي.
والثالث : هو الاستعجال فى القضية، وهو قول أبي هريرة.
362
والرابع : ما فيه الغارّ من الأثمان المحرمة : كثمن الكلب، والخنزير، والخمر وعسب افحل، وحلوان الكاهن.
وأصل السحت الاستئصال، ومنه قوله تعالى :﴿ فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ﴾ أي يستأصلكم، وقال الفرزدق :
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتاً أو مجلف
فسمي سحتاً لأنه يسحت الدين والمروءة.
﴿ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَْعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ فيمن أريد بذلك قولان :
أحدهما : اليهوديان اللذان زنيا خيّر رسول الله ﷺ أن يحكم بينهما بالرجم أو يدع، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والزهري.
والثاني : أنها في نفسين من بني قريظة وبني النضير قتل أحدهما صاحبه فخّير رسول الله ﷺ عند احتكامهما إليه بين أن يحكم بالقود أو يدع، وهذا قول قتادة.
واختلفوا في التخيير في الحكم بينهم، هل هو ثابت أو منسوخ؟ على قولين : أحدهما : أنه ثابت وأن كل حاكم من حكام المسلمين مخير فى الحكم بين أهل الذمة بين أن يحكم أو يدع، وهذا قول الشعبي، وقتادة، وعطاء، وإبراهيم.
والقول الثاني : أن ذلك منسوخ، وأن الحكم بينهم واجب على من تحاكموا إليه من حكام المسلمين، وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وعكرمة، وقد نسخه قوله تعالى :﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ﴾
قوله تعالى :﴿ وَكَيفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ الْتَّورَاةُ فِيهَا حَكْمُ اللَّهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : حكم الله بالرجم.
والثاني : حكم الله بالقود.
﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : بعد حكم الله في التوراة.
والثاني : بعد تحكيمك.
﴿ وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أي فى تحكيمك أنه من عند الله مع جحودهم نبوتك.
والثاني : يعني فى توليهم عن حكم الله غير راضين به.
قوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ ﴾ يعني بالهدى ادليل. وبالنور البيان.
﴿ يَحْكُمْ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : أنهم جماعة أنبياء منهم محمد ﷺ.
والثاني : المراد نبينا محمد ﷺ وحده وإن ذكر بلفظ الجمع.
وفي الذي يحكم به من التوراة قولان :
أحدهما : أنه أراد رجم الزاني المحصن، والقود من القاتل العامد.
والقول الثاني : أنه الحكم بجميع ما فيها من غير تخصيص ما لم يرد به نسخ.
ثم قال تعالى :﴿ لِلَّذِينَ هَادُوا ﴾ يعني على الذين هادوا، وهم اليهود، وفي جواز الحكم بها على غير وجهان : على اختلافهم فى التزامنا شرائع من قبلنا إذا لم يرد به نص ينسخ.
ثم قال تعالى :﴿ وَالرَّبَانُّيِونَ والأَحْبَارُ ﴾ واحد الأحبار حَبْر بالفتح، قال الفراء، أكثر ما سمعت حِبْر بالكسر، وهو العالم، سُمِّي بذلك اشتقاقاً من التحبير، وهو التحسين لأن العالم يحسن الحسن ويقبح القبيح، ويحتمل أن يكون ذلك لأن العلم فى نفسه حسن.
ثم قال تعالى :﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ ﴾ فيه قولان :
363
أحدهما : معناه يحكمون بما استحفظوا من كتاب الله.
والثاني : معناه والعلماء استحفظوا من كتاب الله.
وفي ﴿ اسْتُحْفِظُواْ ﴾ تأويلان :
أحدهما : استودعوا، وهو قول الأخفش.
والثاني : العلم بما حفظوا، وهو قول الكلبي.
﴿ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ﴾ يعني على حكم النبي ﷺ أنه في التوراة.
﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : فلا تخشوهم فى كتمان ما أنزلت، وهذا قول السدي.
والثاني : في الحكم بما أنزلت.
﴿ وَلاَ تَشْتَرُوا بِأَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه لا تأخذوا على كتمانها أجراً.
والثاني : معناه لا تأخذوا على تعليمها أجراً.
﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْظَّالِمُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ وفي اختلاف هذه الآي الثلاث أربعة أقاويل :
أحدها : أنها واردة في اليهود دون المسلمين، وهذا قول ابن مسعود، وحذيفة، والبراء، وعكرمة.
الثاني : أنها نزلت في أهل الكتاب، وحكمها عام في جميع الناس، وهذا قول الحسن، وإبراهيم.
والثالث : أنه أراد بالكافرين أهل الإِسلام، وبالظالمين اليهود، وبالفاسقين النصارى، وهذا قول الشعبي.
والرابع : أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، فهو كافر، ومن لم يحكم مقراً به فهو ظالم فاسق، وهذا قول ابن عباس.
364
قوله تعالى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ الآية. نزلت في اليهود من بني قريظة والنضير، وقد ذكرنا قصتهما.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه كفارة للجروح، وهو قول عبد الله بن عمر، وإبراهيم، والحسن، والشعبي، روى الشعبي عن ابن الصامت قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« مَنْ جُرِحَ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَتَصَدَّقَ بِهَا كَفَّرَ عَنْهُ ذُنُوبَهُ بِمِثْلِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ
»
. والثاني : أنه كفارة للجارح، لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وهذا محمول على من عفى عنه بعد توبته.
قوله تعالى :﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ يعني القرآن.
﴿ مُصَدِّقَاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ يعني لما قبله من الكتاب وفيه وجهان :
أحدهما : مصدقاً بها، وهو قول مقاتل.
والثاني : موافقاً لها، وهو قول الكلبي.
﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني أميناً، وهو قول ابن عباس.
والثاني : يعني شاهداً عليه، وهو قول قتادة، والسدي.
والثالث : حفيظاً عليه.
﴿ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ هذا يدل على وجوب الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا، وألا نحكم بينهم بتوراتهم ولا بإنجيلهم.
﴿ وَلاَ تَتَّبعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أمة نبينا محمد ﷺ.
والثاني : أمم جميع الأنبياء.
﴿ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ أما الشرعة فهي الشريعة وهي الطريقة الظاهرة، وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ومن قيل لشريعة الماء شريعة لأنها أظهر طرقه إليه، ومنه قولهم : أُشْرِعَتِ الأسنة إذا ظهرت.
وأما المنهاج فهو الطريق الواضح، يقال طريق نهج ومنهج، قال الزاجر :
مَن يَكُ ذَا شَكٍّ فهذَا فَلْجُ مَاءٌ رُوَاءٌ وطريقٌ نَهْجُ
فيكون معنى قوله شرعة ومنهاجاً أي سبيلاً وسنة، وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة.
﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدةً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : لجعلكم على ملة واحدة.
الثاني : لجمعكم على الحق، وهذا قول الحسن.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذينَ ءَامُنُوا لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيآءَ ﴾ اختلف أهل التفسير فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في عُبادة بن الصامت، وعبد بن أبي ابن سلول، حين تبرأ عُبادة من حِلْف اليهود وقال : أتولى الله ورسوله حين ظهرت عداوتهم لله ولرسوله. وقال عبد الله بن أبي : لا أتبرأ من حلفهم وأخف الدوائر، وهذا قول الزهري.
والثاني : أنها نزلت فى أبي بلابة بن عبد المنذر حين بَعَثَه رسول الله ﷺ إلى بني قريظة لما نقضوا العهد أطاعوا بالنزول على حكم سعد أشار إلى حلقه إليهم أنه الذبح، وهذا قول عكرمة.
والثالث، أنها نزلت فى رجلين من الأنصار خافا من وقعة أحد فقال أحدهما لصاحبه : أَلْحَقُ باليهود وأتهود معهم، وقال الآخر : ألحق بالنصارى فأتنصر معهم ليكون ذلك لهما أماناً من إدالة الكفار على المسلمين، وهذا قول السدي.
﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنْكُمْ فِإِنَّهُ مِنْهُم ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : موالاتهم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر.
والثاني : موالاتهم في الدين فإنه منهم في حكم الكفر، وهذا قول ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن المرض الشك وهو قول مقاتل.
والثاني : النفاق، وهو قول الكلبي.
وفيهم قولان :
أحدهما : المعنيّ به عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي سلول، وهذا قول عطية بن سعد.
والثاني : أنهم قوم من المنافقين.
﴿.... يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ﴾ والدائرة ترجع عمن انتقلت إليه إلى من كانت له، سميت بذلك لأنها تدور إليه بعد زوالها عنه، ومنه قول الشاعر :
يَرُدُّ عَنَّا القَدَرَ الْمَقْدُورَا وَدَائرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا
﴿ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يريد فتح مكة، قاله السدي.
والثاني : فتح بلاد المشركين على المسلمين.
والثالث : أن القضاء الفصل، ومنه قوله تعالى :﴿ افْتَحْ بَينَنَا وَبَينَ قَومِنَا بِالْحَقِّ ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ]، قاله قتادة.
﴿ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : هو دون الفتح الأعظم.
الثاني : أنه موت من تقدم ذكره من المنافقين.
الثالث والرابع : أنه الجزية، قاله السدي.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ فيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله عنهم الذين قاتلوا معه أهل الردة، قاله : علي، والحسن، وابن جريج، والضحاك.
والثاني : أنهم قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن لأنه كان لهم في نصرة الإِسلام أثر حسن، وقد روي أن النبي ﷺ حين نزلت هذه الآية إليه أَوْمَأَ إلى أبي موسى الأشعري بشيء كان فى يده وقال :« هُمْ قَوْمُ هَذَا » قاله : مجاهد وشريح.
﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ يعني أهل رقة عليهم.
﴿ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ يعني أهل غلظة عليهم، يحكى ذلك عن علي، وابن عباس.
وهي في قراءة عبد الله بن مسعود :﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ غُلُظٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا... ﴾ الآية، وفي هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه من أصحابه حين شكوا إلى رسول الله ﷺ ما أظهره اليهود من عداوتهم لهم، قاله الكلبي.
والثاني : أنها نزلت فى عُبادة بن الصامت حين تبرأ من حلف اليهود وقال : أتولى الله ورسوله.
وفي قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ قولان :
أحدهما : أنه علي، تصدق وهو راكع، قاله مجاهد.
والثاني : أنها عامة في جميع المؤمنين، قاله الحسن، والسدي.
وفي قوله :﴿ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم.
والثاني : أنها نزلت فيهم وهم في ركوعهم.
والثالث : أنه أراد بالركوع التنفل، وبإقامة الصلاة الفرض من قولهم فلان يركع إذا انتفل بالصلاة.
قوله تعالى :﴿ وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ ﴾ يريد بالإِثم معصية الله تعالى.
﴿ وَالْعُدْوَانِ ﴾ أي ظلم الناس.
﴿ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ﴾ فيه تأويلان : أحدهما : الرُّشا.
والثاني : الربا.
﴿ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الْرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ أي لبئس صنيع الربانيين والأحبار إذ لم ينهوهم، قال ابن عباس والضحاك : ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية، وكان ابن عباس يقرؤها :﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾
وقوله :﴿ لَوْلاَ ﴾ بمعنى هلا.
والربانيون : هم علماء الإِنجيل، والإحبار : هم علماء التوراة.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أي مقبوضة عن العطاء على جهة البخل، قاله ابن عباس وقتادة.
والثاني : مقبوضة عن عذابهم، قاله الحسن.
قال الكلبي ومقاتل : القائل لذلك فنحاس وأصحابه من يهود بني قينقاع.
﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه قال ذلك إلزاماً لهم البخل على مطابقة الكلام، قاله الزجاج.
والثاني : أن معناه غلت أيديهم في جهنم على وجه الحقيقة، قاله الحسن.
﴿ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ﴾ قال الكلبي : يعني يعذبهم بالجزية.
ويحتمل أن يكون لَعْنُهم هو طردهم حين أجلوا من ديارهم.
﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن اليدين ها هنا النعمة من قولهم لفلان عندي يد أي نعمة، ومعناه بل نعمتاه مبسوطتان، نعمة الدين، ونعمة الدنيا.
والثاني : اليد ها هنا القوة كقوله تعالى :﴿ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ﴾ [ ص : ٤٥ ] ومعناه بل قوتان بالثواب والعقاب.
والثالث : أن اليد ها هنا الملك من قولهم فى مملوك الرجل هو : ملك يمينه، ومعناه ملك الدنيا والآخرة.
والرابع : أن التثنية للمبالغة فى صفة النعمة كما تقول العرب لبيك وسعديك، وكقول الأعشى :
يداك يدا مجد فكف مفيدة وكف إذا ما ضنَّ بالزاد تنفق
﴿ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يمعنى أنه يعطي من يشاء من عباده إذا علم أن في إعطائه مصلحة دينه.
والثاني : ينعم على من يشاء بما يصلحة في دينه.
﴿ ولَيزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ يعني حسدهم إياه وعنادهم له.
﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه عنى اليهود بما حصل منهم من الخلاف.
والثاني : أنه أراد بين اليهود والنصارى في تباين قولهم في المسيح، قاله الحسن.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أقاموها نصب أعينهم حتى إذا نظروا ما فيها من أحكام الله تعالى وأوامره لم يزلوا.
والثاني : إن إقامتها العمل بما فيها من غير تحريف ولا تبديل.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ يعني القرآن لأنهم لما خوطبوا به صار منزلاً عليهم.
﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنه أراد التوسعة عليهم كما يقال هو في الخير من قرنه إلى قدمه.
والثاني : لأكلوا من فوقهم بإنزال المطر، ومن تحت أرجلهم بإنبات الثمر. قاله ابن عباس.
﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : مقتصدة على أمر الله تعالى، قاله قتادة.
الثاني : عادلة، قاله الكلبي.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ أوجب الله تعالى بهذه الآية على رسوله تبليغ ما أنزل عليه من كتابه سواء كان حكماً، أو حداً، أو قصاصاً، فأما تبليغ غيره من الوحي فتخصيص وجوبه : بما يتعلق بالأحكام دون غيرها.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ يعني إن كتمت آية مما أنزل عليك فما بلغت رسالته لأنه [ يكون ]، غير ممتثل لجميع الأمر.
ويحتمل وجهين آخرين.
أحدهما : أن يكون معناه بلغ ما انزل إليك من ربك فيما وعدك من النصر، فإن لم تفعل فما بلغت حق رسالته فيما كلفك من الأمر، لأن استشعار النصر يبعث على امتثال الأمر.
والثاني : أن يكون معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك بلاغاً يوجب الانقياد إليه بالجهاد عليه، وإن لم تفعل ما يقود إليه من الجهاد عليه فما بلغت ما عليك من حق الرسالة إليك.
﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ يعني أن ينالوك بسوء من قتل أو غيره. واختلف أهل التفسير في سبب نزول ذلك على قولين :
أحدهما : أن النبي ﷺ نزل منزلاً في سفره واستظل بشجرة يقيل تحتها، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني؟ فقال : الله، فرعدت يد الأعرابي وسقط سيفه وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مَنَ النَّاسِ ﴾، قاله محمد بن كعب القرظي.
والثاني : أن النبي ﷺ كان يهاب قريشاً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله ابن جريج.
وروت عائشة أن النبي ﷺ كان يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ فأخرج النبي ﷺ رأسه من القبة وقال : يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : لا يعينهم على بلوغ غرضهم.
الثاني : لا يهديهم إلى الجنة.
قوله تعالى :﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما أن الميثاق آيات مبينة يقررها علم ذلك عندهم.
والثاني : أن الميثاق أيمان أخذه أنبياء بني إسرائيل عليهم أن يعملوا بها وأمروا بتصيدق رسله.
﴿ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً ﴾ يعني بعد أخذ الميثاق.
﴿ كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ ﴾ هوى النفس مقصور، وهواء الجو ممدود، وهما يشتركان في معنى الاسم لأن النفس تستمتع بهواها كما تستمتع بهواء الجو.
﴿ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴾ يعني أن الأنبياء إذا لم يحلوا لهم ما يَهْوُونَه في الدين كذبوا فريقاً في الدين، كذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، وهم قد كذبوا من قتلوه ولكن تقدير الكلام أنهم اقتصروا على تكذيب فريق وتجاوزوا إلى قتل فريق.
﴿ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ فيها ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنها العقوبة التي تنزل من السماء.
والثاني : ما ابتلوا به من قتل الأنبياء وتكذيبهم.
والثالث : ما بلوا به من جهة المتغلبين عليهم من الكفار.
﴿ فَعَمُواْ وَصَمُّوا ﴾ يعني، فعموا عن المرشد وصموا عن الموعظة حتى تسرعوا إلى قتل أنبيائهم حين حسبوا ألا تكون فتنة.
﴿ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ يعني أنهم تابوا بعد معاينة الفتنة فقبل الله توبتهم.
﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ يعني أنهم عادوا بعد التوبة إلى ما كانوا عليه قبلها، والعود إنما كان من أكثرهم من جيمعهم.
قوله تعالى :﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ ﴾ رد الله بذلك على اليهود والنصارى، فرده على اليهود فى تكذيبهم لنبوته ونسبتهم له إلى غير رِشْدة، ورده على النصارى في قولهم إنه ابن الله.
﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾ رد على اليهود في نسبتها إلى الفاحشة.
وفي قوله :﴿ صِدِّيقَةٌ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أنه مبالغة فى صدقها ونفي الفاحشة عنها.
والثاني : أنها مصدقة بآيات ربها فهي بمنزلة ولدها، قاله الحسن.
﴿ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه كنى بذلك عن الغائط لحدوثه منه، وهذه صفة تُنْفَى عن الإِله.
والثاني : أنه أراد نفس الأكل لأن الحاجة إليه عجز والإِله لا يكون عاجزاً.
﴿ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآْيَاتِ ﴾ يعني الحجج البراهين.
﴿ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني يصرفون، من قولهم أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر.
والثاني : يعني يقلبون، والمؤتفكات : المنقلبات من الرياح وغيرها.
والثالث : يكذبون، من الإفك، وهو الكذب.
قوله تعالى :﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ يعني عبدة الأوثان من العرب، تَمَالأَ الفريقان على عداوة النبي ﷺ.
﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامنواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارى ﴾ ليس هذا على العموم، وإنما هو خاص، وفيه قولان :
أحدهما : عنى بذلك النجاشي وأصحابه لَمَّا أَسْلَمُوا، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير.
والثاني : أنهم قوم من النصارى كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام، فَلَمَّا بُعِثَ محمد ﷺ آمنوا به، قاله قتادة.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً ﴾ واحد القسيسين قس، من قس وهم العباد. وواحد الرهبان راهب، وهم الزهاد.
﴿ وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ يعني عن الإِذعان للحق إذا لزم، وللحجة إذا قامت.
وفي قوله تعالى :﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ وجهان :
أحدهما : مع أمة محمد ﷺ الذين يشهدون بالحق، كما قال تعالى :﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ]، قاله ابن عباس، وابن جريج.
والثاني : يعني الذين يشهدون بالإِيمان، قاله الحسن.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنه اغتصاب الأموال المستطابة، فتصير بالغصب حراماً، وقد كان يمكنهم الوصول إليها بسبب مباح، قاله بعض البصريين.
والثاني : أنه تحريم ما أبيح لهم من الطيبات، وسبب ذلك أن جماعة من أًصحاب رسول الله ﷺ منهم علي، وعثمان بن مظعون، وابن مسعود، وابن عمر، هموا بصيام الدهر، وقيام الليل، واعتزال النساء، وجَبِّ أنفسهم، وتحريم الطيبات من الطعام عليهم، فأنزل الله تعالى فيهم ﴿ لاَ تَحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم ﴾.
﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لا تعتدوا بالغصب للأموال التي هي حرام عليكم.
والثاني : أنه أراد بالاعتداء ما هَمَّ به عثمان بن مظعون من جبِّ نفسه، قاله السدي.
والثالث : أنه ما كانت الجماعة هَمَّت به من تحريم النساء والطعام، واللباس، والنوم، قاله عكرمة.
والرابع : هو تجاوز الحلال إلى الحرام، قاله الحسن.
قوله تعالى :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾ قد ذكرنا اختلاف المفسرين والفقهاء في لغو اليمين.
﴿ وَلَكِنَ يُؤَاخِذُوكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ﴾ اختلف فى سبب نزولها على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في عثمان بن مظعون، حين حرَّم على نفسه الطعام، والنساء، بيمين حَلَفَهَا، فأمره النبي ﷺ، قاله السدي.
والثاني : أنها نزلت فى عبد الله بن رَوَاحة، وكان عنده ضيف فأَخَّرَتْ زوجته قِرَاهُ فَحَلَفَ لا يَأكل من الطعام شيئاً، وَحَلَفَتِ الزوجة لا تأكل منه إن لم يأكل، وحَلَفَ الضيف لا يأكل منه إن لم يأكلا، فأكل عبد الله وأكلا معه، فأخبر النبي ﷺ بذلك، فقال :« أَحْسَنْتَ » ونزلت فيه هذه الآية، قاله ابن زيد.
وقوله تعالى :﴿ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ ﴾ وعقدها هو لفظ باللسان وقصد بالقلب، لأن ما لم يقصده فى أَيمَانِهِ، فهو لغو لا يؤاخذ به.
ثم في عقدها قولان :
أحدهما : أن يكون على فعل مستقبل، ولا يكون على خبر ماض، والفعل المستقبل نوعان : نفي وإثبات، فالنفي أن يقول والله لا فعلت كذا، والإِثبات أن يقول : والله لأَفْعَلَنَّ كذا.
وأما الخبر الماضي فهو أن يقول : والله ما فعلت، وقد فعل، أو يقول : والله لقد فعلت كذا، وما فعل، فينعقد يمينه بالفعل المستقبل في نوعي إثباته ونفيه.
وفي انعقادها بالخبر الماضي قولان.
أحدهما : أنها لا تنعقد بالخبر الماضي، قاله أبو حنيفة وأهل العراق.
والقول الثاني : أنها تنعقد على فعل مستقبل وخبر ماض يتعلق الحنث بهما، قاله الشافعي، واهل الحجاز.
ثم قال تعالى :﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مََساكِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان، قالته عائشة، والحسن، والشعبي، وقتادة.
والثاني : أنها كفارة الحنث فيما عقدة منها، وهذا يشبه أن يكون قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والضحاك، وإبراهيم.
والأصح من إطلاق هذين القولين أن يعتبر حال اليمين في عقدها وحلها، فإنها لا تخلو من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون عقدها حلها معصية كقوله : والله لا قَتَلْتُ نفساً ولا شربت خمراً، فإذا حنث فقتل النفس، وشرب الخمر، كانت الكفار لتكفير مأثم الحنث.
والحال الثالثة : أن يكون عقدها مباحاً، وحلها مباحاً كقوله : والله لا لبست هذا الثوب، فالكفارة تتعلق بهما وهي بالحنث أخص.
ثم قال تعالى :﴿ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : من أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، والحسن، وابن سيرين.
والثاني : من أَوسطه في القدر، قاله علي، وعمر، وابن عباس، ومجاهد.
وقرأ سعيد بن جبير ﴿ مِن وَسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلَيكُمْ ﴾
ثم اختلفوا في القدر على خمسة أقاويل :
376
أحدها : أنه مُدٌّ واحد من سائر الأجناس، قاله ابن عمر، وزيد بن ثابت، وعطاء، وقتادة، وهو قول الشافعي.
والثاني : أنه نصف صاع من سائر الأجناس، قاله علي، وعمر، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثالث : أنه غداء وعشاء، قاله علي في رواية الحارث عنه، وهو قول محمد بن كعب القرظي، والحسن البصري.
والرابع : أنه ما جرت به عادة المكفر فى عياله، إن كان يشبعهم أشبع المساكين، وإن كان لا يشبعهم فعلى قدر ذلك، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير.
والخامس : أنه أحد الأمرين من غداء أو عشاء، قاله بعض البصريين.
ثم قال تعالى :﴿ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ﴾ وفيها خمسة أقاويل :
أحدها : كسوة ثوب واحد، قاله : ابن عباس، ومجاهد، وطاووس، وعطاء، الشافعي.
والثاني : كسوة ثوبين، قاله أبو موسى الأشعري، وابن المسيب، والحسن، وابن سيرين.
والثالث : كسوة ثوب جامع كالملحفة والكساء، قاله إبراهيم.
والرابع : كسوة إزار ورداء وقميص، قاله ابن عمر.
والخامس : كسوة ما تجزىء فيه الصلاة، قاله بعض البصريين.
ثم قال تعالى :﴿ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ يعني أو فك رقبة من أسر العبودية إلى حال الحرية والتحرير، والفك : العتق، قال الفرزدق :
أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال
ويجزىء صغيرها، وكبيرها، وذكرها، وأنثاها، وفي استحقاق أَثمانها قولان :
أحدهما : أنه مستحق ولا تجزىء الكفارة، قاله الشافعي.
والثاني : أنه غير مستحق، قاله أبو حنيفة.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ﴾ فجعل الله الصوم بدلاً من المال عند العجز عنه، وجعله مع اليسار مخيراً بين التكفير بالإِطعام، أو بالكسوة، أو بالعتق، وفيها قولان :
أحدهما : أن الواجب منها أحدها لا يعينه عند الجمهور من الفقهاء.
والثاني : أن جميعها واجب، وله الاقتصار على أحدها، قاله بعض المتكلمين، وشاذ من الفقهاء.
وهذا إذا حقق خلف في العبارة دون المعنى.
واختلف فيما إذا لم يجده صام على خمسة أقاويل :
أحدها : إذا لم يجد قوته وقوت من يقوت صام، قاله الشافعي.
والثاني : إذا لم يجد ثلاثة دراهم صام، قاله سعيد بن جبير.
والثالث : إذا لم يجد درهمين، قاله الحسن.
والرابع : إذا لم يجد مائتي درهم صام، قاله أبو حنيفة.
والخامس : إذا لم يجد فاضلاً عن رأس ماله الذي يتصرف فيه لمعاشه صام. وفي تتابع صيامه قولان :
أحدهما : يلزمه، قاله مجاهد، وإبراهيم، وكان أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود يقرآن :﴿ فصيام ثلاثة أيام متتابعات ﴾
والثاني : إن صامها متفرقة جاز، قاله مالك، والشافعي في أحد قوليه :
﴿ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ﴾ يعني وحنثتم، فإن قيل فلِمَ لَمْ يذكر مع الكفارة التوبة؟ قيل : لأنه ليس كل يمين حنث فيها كانت مأثماً توجب التوبة، فإن اقترن بها المأثم لزمت التوبة بالندم، وترك العزم على المعاودة.
﴿ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني احفظوها أن تحلفوا.
والثاني : احفظوها أن تحنثوا.
377
قوله تعالى :﴿ يَا أْيُّهَا الَّذيِنَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.... ﴾ الآية. اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما روى ابن إسحاق عن أبي ميسرة قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فزلت الآية التي في البقرة :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾ فَدُعِيَ عمر فقرئت عليه، فقال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء :﴿ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُم سُكَارَى ﴾ وكان منادي رسول الله ﷺ إذا حضرت الصلاة ينادي لا يقربن الصلاة سكران، فَدُعِيَ عمر فقرئت عليه، فقال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في المائدة ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾ فقال عمر : انتهينا، انتهينا.
والثاني : أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد لاحى رجلاً على شراب، فضربه الرجل بلحي جمل، ففزر قاله مصعب بن سعد.
والثالث : أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار ثملوا من الشراب فعبث بعضهم ببعض، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، قاله ابن عباس.
فأما ﴿ الْمَيْسِرُ ﴾ فهو القمار.
وأما ﴿ الأنصَابُ ﴾ ففيها وجهان.
أحدهما : أنها الأصنام تعبد، قاله الجمهور.
والثاني : أنها أحجار حول الكعبة يذبحون لها، قاله مقاتل.
وأما ﴿ الأَزْلاَمُ ﴾ فهي قداح من خشب يُسْتَقْسَمُ بها على ما قدمناه.
قوله تعالى :﴿ رِجْسٌ ﴾ يعني حراماً، وأصل الرجس المستقذر الممنوع منه، فعبر به عن الحرام لكونه ممنوعاً منه.
ثم قال تعالى :﴿ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ أي مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به لأنه لا يأمر إلا بالمعاصي، ولا ينهى إلا عن الطاعات.
فلما حُرِّمَتِ الخمر قال المسلمون : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين شربوها وماتوا قبل تحريمها، فَأنزل الله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعِمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ ﴾، يعني من الخمر قبل التحريم، ﴿ إِذَا مَا اتَّقَواْ ﴾ يعني فى أداء الفرائض ﴿ وَّءَامَنُواْ ﴾ يعني بالله ورسوله ﴿ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ يعني البر والمعروف، ﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُّم اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ ﴾ يعني بعمل النوافل، فالتقوى الأولى عمل الفرائض، والتقوى الثانية عمل النوفل.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلَوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ ﴾ في قوله ليبلونكم تأويلان :
أحدهما : معناه لَيُكَلِّفَنَّكُمْ.
الثاني : لَيَخْتَبِرَنَّكُم، قاله قطرب، والكلبي.
وفي قوله :﴿ مِّنَ الصَّيْدِ ﴾ قولان :
أحدهما : أن ﴿ مِّنَ ﴾ للتبعيض في هذا الموضع لأن الحكم متعلق بصيد البَرِّ دون البحر، وبصيد الحرم والإِحرام دون الحل والإِحلال.
والثاني : أن ﴿ مِّنَ ﴾ في هذا الموضع داخلة لبيان الجنس نحو قوله تعالى :﴿ اجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ ﴾ [ الحج : ٣٠ ] قاله الزجاج.
﴿ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : ما تناله أيدينا : البيض، ورماحنا : الصيد، قال مجاهد.
والثاني : ما تناله أيدينا : الصغار، ورماحنا : الكبار، قاله ابن عباس.
﴿ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن معنى ليعلم الله : ليرى، فعبر عن الرؤية بالعلم لأنها تؤول إليه، قاله الكلبي.
والثاني : ليعلم أولياؤه من يخافه بالغيب.
والثالث : لتعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب.
والرابع : معناه لتخافوا الله بالغيب، والعلم مجاز، وقوله :﴿ بِالْغَيْبِ ﴾ يعني بالسر كما تخافونه في العلانية.
﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ ﴾ يعني فمن اعتدى في الصيد بعد ورود النهي.
﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي مؤلم، قال الكلبي : نزلت يوم الحديبية وقد غشي الصيد الناس وهم محرمون.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني الإِحرام بحج أو عمرة، قاله الأكثرون.
والثاني : يعني بالحرم الداخل إلى الحرم، يقال أحرم إذا دخل في الحرم، وأَتْهَمَ إذا دخل تهامة، وأَنْجَدَ إذا دخل نجد، ويقال أحرم لمن دخل في الأشهر الحرم. قاله بعض البصريين.
والثالث : أن اسم المحرم يتناول الأمرين معاً على وجه الحقيقة دون المجاز من أحرم بحج أو عمرة أو دخل الحرم، وحكم قتل الصيد فيهما على سواء بظاهر الآية، قاله علي بن أبي هريرة.
﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : متعمداً لقتله، ناسياً لإحرامه، قاله مجاهد، وإبراهيم، وابن جريج.
والثاني : متعمداً لقتله ذاكراً لإِحرامه، قاله ابن عباس، وعطاء، والزهري.
واختلفوا في الخاطىء في قتله الناسي لإِحرامه على قولين.
أحدهما : لا جزاء عليه، قاله داود.
الثاني : عليه الجزاء، قاله مالك، والشافعي، وأبو حنيفة.
﴿ فَجَزآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ﴾ يعني أن جزاء القتل فى الحرم أو الإِحرام مثل ما قتل من النعم.
وفي مثله قولان :
أحدهما : أن قيمة الصيد مصروفة في مثله من النعم، قاله أبو حنيفة.
والثاني : أن عليه مثل الصيد من النعم في الصورة والشبه قاله الشافعي.
﴿ يَحْكُمْ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ﴾ يعني بالمثل من النعم، فلا يستقر المثل فيه إلا بحكم عدلين فقيهين، ويجوز أن يكون القاتل أحدهما.
﴿ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾ يريد أن مثل الصيد من النعم يلزم إيصاله إلى الكعبة، وعنى بالكعبة جميع الحرم، لأنها في الحرم.
379
واختلفوا هل يجوز أن يهدي في الحرم ما لا يجوز في الأضحية من صغار الغنم على قولين :
أحدهما : لا يجوز قاله : أبو حنيفة.
الثاني : يجوز، قاله الشافعي.
﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامٌ مَسَاكِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه يُقَوِّم المثل من النعم ويشتري بالقيمة طعاماً، قاله عطاء، والشافعي.
الثاني : يقوِّم الصيد ويشتري بالغنيمة طعاماً، قاله قتادة، وأبو حنيفة.
﴿ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً ﴾ يعني عدل الطعام صياماً، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه يصوم عن كل مد يوماً، قاله عطاء، والشافعي.
والثاني : يصوم عن كل مد ثلاثة أيام، قاله سعيد بن جبير.
والثالث : يصوم عن كل صاع يومين، قاله ابن عباس.
واختلفوا في التكفير بهذه الثلاثة، هل هو على الترتيب أو التخيير على قولين :
أحدهما : على الترتيب، إن لم يجد المثل فالإطعام، فإن لم يجد الطعام فالصيام، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعامر، وإبراهيم، والسدي.
والثاني : أنه على التخيير في التكفير بأي الثلاثة شاء، قاله عطاء، وهو أحد قولي ابن عباس، ومذهب الشافعي.
﴿ لِّيذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾ يعني في التزام الكفارة، ووجوب التوبة.
﴿ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ﴾ يعني قبل نزول التحريم.
﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني ومن عاد بعد التحريم، فينتقم الله منه بالجزاء عاجلاً، وعقوبة المعصية آجلاً.
والثاني : ومن عاد بعد التحريم في قتل الصيد ثانية بعد أوله، فينتقم الله منه.
وعلى هذا التأويل قولان :
أحدهما : فينتقم الله منه بالعقوبة في الآخرة دون الجزاء، قاله ابن عباس، وداود.
والثاني : بالجزاء مع العقوبة، قاله الشافعي، والجمهور.
380
قوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحرِ ﴾ يعني صيد الماء سواء كان من بحر أو نهر أو عين أو بئر فصيده حلال للمحرم والحلال في الحرم والحل.
﴿ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ في طعامه قولان :
أحدهما : طافِيهِ وما لَفَظَه البحر، قاله أبو بكر، وعمر، وقتادة.
والثاني : مملوحة، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب.
وقوله تعالى :﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ يعني منفعة للمسافر والمقيم. وحكى الكلبي أن هذه الآية نزلت في بني مدلج، وكانوا ينزلون بأسياف البحر، سألوا عما نضب عنه الماء من السمك، فنزلت هذه الآية فيهم.
قوله تعالى :﴿ جَعلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ ﴾ في تسميتها كعبة قولان :
أحدهما : سميت بذلك لتربيعها، قاله مجاهد.
والثاني : سميت بذلك لعلوها ونتوئها من قولهم : قد كعب ثدي المرأة إذا علا ونتأ، وهو قول الجمهور.
وسميت الكعبة حراماً لتحريم الله تعالى لها أن يصاد صيدها، أو يختلى خلاها، أو يعضد شجرها.
وفي قوله تعالى :﴿ قِيَاماً لِّلنَّاسِ ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني صلاحاً لهم، قاله سعيد بن جبير.
والثاني : تقوم به أبدانهم لأمنهم به في التصرف لمعايشهم.
والثالث : قياماً في مناسكهم ومتعبداتهم.
قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ﴾ فيه ثلاث تأويلات :
أحدها : يعني الحلال والحرام، قاله الحسن.
والثاني : المؤمن والكافر، قاله السدي.
والثالث : الرديء والجيد.
﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخبِيثِ ﴾ يعني أن الحلال والجيد مع قلتهما خير وأنفع من الحرام والرديء مع كثرتهما.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في حُجَّاجِ اليمامة وقد هَمَّ المسلمون بأحدهم.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ اختلف أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال :
أحدها : ما روى أنس بن مالك قال : سأل الناس رسول الله ﷺ حتى ألحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم فقال :« لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُ لَكُمْ » قال أنس : فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فأرى كل الناس لاق ثوبه فى رأسه يبكي، فسأل رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال : يا رسول الله مَنْ أبي؟ فقال :« أَبُوكَ حُذَافَةُ » فأنشأ عمر فقال : رضينا بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد عليه السلام رسولاً عائذاً بالله من سوء الفتن، فأنزل الله تعالى :﴿ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾.
والثاني : ما روى الحسن بن واقد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله ﷺ فقال :« أَيُّهَا النَّاسُ كَتبَ اللَّهُ عَلَيكُمُ الحَجَّ فَحِجُّوا » فقام محصن الأسدي وقال : في كل عام يا رسول الله؟ فقال :« أَمَا إِنِّي لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ ثُمَّ تَرَكْتُم لَضَلِلْتُمْ، اسْكَتُوا عَنِّي مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبَْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ واخْتِلاَفِهِم عَلَى أَنْبِيائِهِمْ » فأنزل الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُوا... ﴾.
والثالث : أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله ﷺ على البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، قاله ابن عباس.
﴿ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرءَانُ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ جعل نزول القرآن عند السؤال موجباً بتعجيل الجواب.
﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ﴾ فيها قولان :
أحدهما : عن المسألة.
والثاني : عن الأشياء التي سألوا عنها.
قوله تعالى :﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : قوم عيسى سألوه المائدة، ثم كفروا بها، قاله ابن عباس.
والثاني : أنهم قوم صالح سألوا الناقة، ثم عقروها وكفروا به.
والثالث : أنهم قريش سألوا رسول الله ﷺ أن يحوِّل لهم الصفا ذهباً، قاله السدي.
والرابع : أنهم القوم الذين سألوا رسول الله ﷺ مَنْ أبي؟ ونحوه، فلما أخبرهم به أنكروه وكفروا به، قاله بعض المتأخرين.
قوله تعالى :﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ﴾ يعني ما بحر الله من بحيرة، ولا سيب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حمى حامياً.
روى أبو صالح عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول لأكثم ابن جون :« يَا أَكْثَمُ رَأَيْتُ عَمْرو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خَنْدَف يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ، فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ، وَلاَ بِهِ مِنْكَ » فقال أكثم : أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله، فقال :« لاَ إِنَّكَ مُؤْمِنٌ، وَهُوَ كَافِرٌ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، وَبَحَرَ البَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وحَمَى الحَامِي
»
. ومعنى قوله يجر قصبه في النار، يعني أمعاءه، والبحيرة : الفصلة من قول القائل، بحرت أذن الناقة إذا شقها، ومنه قول الأبيرد :
وأمسى فيكم عمران يمشي ... كأنه جمل بحير
وقد روى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال : دخلت على رسول الله ﷺ فقال ﷺ :« أَرَأَيْتَ إِبلَكَ تَكُونَ مُسَلَّمَةً آذَانُهَا فَتَأْخُذَ المُوسَى فَتَجْدَعَهَا تَقُولُ هَذِهِ بَحِيْرَةٌ، وَتَشُقُّونَ آذَانَهَا تَقُولُونَ هَذِهِ بَحِيْرَةٌ
»
قال : فإن ساعِدَ الله أشدُّ، وموسى الله أحد، كل مالك لك حلال لا يحرم عليك منه شيء.
وفي البحيرة ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن البحيرة الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكراً أكلته الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى بحروا أذنها أي شقوها، وتركت، فلا يشرب لها لبن، ولا تنحر، ولا تركب، وإن كان ميتة اشترك فيه الرجال والنساء، قاله عكرمة.
والقول الثاني : البحيرة الناقة التي تنجب خمسة أبطن، فكان آخرها ميتاً ذكراً شقوا أذن الناقة وخلوا عنها، فلا تُحْلَب وَلاَ تُرْكَب تحرجاً، قاله أبو عبيدة.
والقول الثالث : أن البحيرة بنت السائبة، قاله أبو إسحاق، وأما السائبة، فإنها المسيبة المخلاة وكانت العرب تفعل ذلك ببعض مواشيها فتحرم الانتفاع بها على أنفسها تقرباً إلى الله تعالى، قال الشاعر :
عقرتم ناقة كانت لربي وسائبة فقوموا للعقاب
وكذا كان بعض أهل الإِسلام يعتق عبده سائبة، ولا ينتفع به ولا بولائه، وكان أبو العالية سائبة فلما أُتِي مولاه بميراثه فقال : هو سائبة وأبى أن يأخذه.
وأخرجت المسيبة بلفظ السائبة، كما قيل في عيشة راضية يعني مرضية، وفي السائبة قولان :
أحدهما : أنها الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سُيِّبَتْ فلم يُرْكَب ظهرها ولم يُجَزّ وبرها ولم يَشْرَب لبنَها إلا ضيفٌ، وما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أُذُنُها، وسميت بحيرة، وخُلِّيَتْ مع أمها، قاله محمد بن إسحاق.
383
والقول الثاني : أنهم كانوا ينذرون السائبة عند المرض فيسيب الرجل بعيره ولا يركب، ولا يجلى عن ماء كالبحيرة، قاله أبو عبيدة.
أما الوصيلة فأجمعوا على أنها من الغنم، وفيها ثلاثة أقاويل : أحدها : أنها الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نُظِرَ في البطن السابع فإن كان جَدْياً ذبحوه، فأكل الرجال دون النساء، فقالوا هذا حلال لذكورنا، حرام على أزواجنا ونسائنا، وإن كان عناقاً سرحت في غنم الحي، وإن كان جَدْياً وعناقاً، قالوا وصلت أخاها فسميت وصيلة، قاله عكرمة.
القول الثاني : أنها الشاة إذا أتأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت وصيلة، فقالوا قد وصلت، وكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإِناث قاله محمد بن إسحاق.
والقول الثالث : أن العرب كانت إذا ولدت الشاة لهم ذكراً قالوا هذا لآلهتنا فيتقربون به، وإذا ولدت أنثى قالوا هذه لنا، وإذا ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها، قاله أبو عبيدة.
وأما الحام ففيه قول واحد أجمعوا عليه وهو البعير ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقال حمى ظهره ويخلَّى.
384
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ... ﴾ في قوله :﴿ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنها الشهادة بالحقوق عند الحكام.
والثاني : أنها شهادة الحضور للوصية.
والثالث : أنها أيمان، ومعنى ذلك أيمان بينكم، فعبر عن اليمين بالشهادة كما قال في أيمان المتلاعنين :﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتِ بِاللَّهِ ﴾.
وفي قوله تعالى :﴿... اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مَِّنكُمْ ﴾ تأويلان :
أحدهما : يعني من المسلمين، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني : من حي المُوصِي، قاله الحسن، وسعيد بن المسيب، وعكرمة وفيهما قولان : أحدهما : أنهما شاهدان يشهدان على وصية المُوصِي.
والثاني : أنهما وصيان.
﴿ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : من غير دينكم من أهل الكتاب، قاله ابن عباس، وأبو موسى، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، وشريح.
والثاني : من غير قبيلتكم وعشيرتكم، قاله الحسن، وعكرمة، والزهري، وعبيدة.
وفي ﴿ أَوْ ﴾ في هذا الموضع قولان :
أحدهما : أنها للتخيير في قبول اثنين منا أو آخرين من غيرنا.
والثاني : أنها لغير التخيير، وإن معنى الكلام، أو آخران من غيركم إن لم تجدوا، منكم، قاله ابن عباس وشريح، وسعيد بن جبير والسدي.
﴿ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ يعني سافرتم.
﴿ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ﴾ وفي الكلام محذوف تقديره : فأصابتكم مصيبة الموت، وقد أسندتم الوصية إليهما.
ثم قال تعالى :﴿ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ ﴾ يعني تستوقفونهما للأيمان وهذا خطاب للورثة، وفي هذه الصلاة ثلاثة أقوال :
أحدها : بعد صلاة العصر، قاله شريح، والشعبي، وسعيد بن جبير وقتادة.
والثاني : من بعد صلاة الظهر، والعصر، قاله الحسن.
والثالث : من بعد صلاة أهل دينهما ومِلَّتِهِمَا من أهل الذمة، قاله ابن عباس، والسدي.
﴿ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ أَرْتَبْتُمْ لاَ تَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ﴾ معناه فيحلفان بالله إن ارتبتم بهما، وفيهما قولان : أحدهما : أنهما الوصيان إن ارتبتم بهما في الخيانة أَحْلَفَهُمَا الورثة.
والثاني : أنهما الشاهدان إن ارتبتم بهما، ولم تُعْرَفْ عدالتهما، ولا جرحهما، أحلفهما الحاكم ليزول عنه الارتياب بهما، وهذا إنما جوزه قائل هذا القول في السفر دون الحضر.
وفي قوله تعالى :﴿ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ﴾ تأويلان :
أحدهما : لا نأخذ عليه رشوة، قاله ابن زيد.
والثاني : لا نعتاض عليه بحق.
﴿ وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ أي لا نميل مع ذي القربى في قول الزور، والشهادة بغير حق.
﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ﴾ يعني عندنا فيما أوجبه علينا.
قوله تعالى :﴿ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ﴾ يعني فإن ظهر على أنهما كَذَبَا وخَانَا، فعبر عن الكذب بالخيانة والإِثم لحدوثه عنهما.
وفي الذين :﴿ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اْسْتَحَقَّا إِثْماً ﴾ قولان :
أحدهما : أنهما الشاهدان، قاله ابن عباس.
والثاني : أنهما الوصيان، قاله سعيد بن جبير.
﴿ فَئَاخَرَان ﴾ يعني من الورثة.
﴿ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ﴾ في اليمين، حين ظهرت الخيانة.
﴿ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهُمُ الأَوْلَيَانِ ﴾ فيه تأويلان :
385
أحدهما : الأوليان بالميت من الورثة، قاله سعيد بن جبير.
والثاني : الأوليان بالشهادة من المسلمين، قاله ابن عباس وشريح.
وكان سبب نزول هذه الآية ما روى عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدّاء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته، فقدوا جاماً من فضة مُخَوَّصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله ﷺ، ثم وجد الجام بمكة، وقالوا اشتريناه من تميم الداري، وعدي بن بدّاء، فقام رجلان من أولياء السهمي فَحَلَفَا :﴿ لَشَهَادَتُنا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا ﴾ وأن الجام لصاحبهم قال : وفيهم نزل :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُِوا شَهَادَةُ بَينِكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ واتَّقُواْ اللَّهَ وَاسْمَعُواْ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾.
ثم اختلفوا في حكم هاتي الآيتين هل هو منسوخ أو ثابت.
فقال ابن عباس حكمهما منسوخ. قال ابن زيد : لم يكن الإسلام إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب وهو اليوم طبق الأرض.
وقال الحسن : حكمهما ثابت غير منسوخ.
386
قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنآ ﴾.
في قوله :﴿ لاَ عِلْمَ لَنآ ﴾ خمسة تأويلات :
أحدها : لم يكن ذلك إنكاراً لِمَا علموه ولكن ذهلوا عن الجواب من هول ذلك اليوم ثم أجابوا بعدما ثابت عقولهم، قاله الحسن، والسدي.
والثاني : لا علم لنا إلا ما علمتنا، قاله مجاهد.
والثالث : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، قاله ابن عباس.
والرابع : لا علم لنا بما أجاب به أممنا، لأن ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء، وهو مروي عن الحسن أيضاً.
والخامس : أن معنى قوله :﴿ مَاذَا أُجِبْتُمْ ﴾ أي ماذا عملوا بعدكم ﴿ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوْبِ ﴾ قاله ابن جريج.
وفي قوله :﴿ عَلاَّمُ الْغُيُوْبِ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أنه مبالغة.
والثاني : أنه لكثير المعلومات.
فإن قيل : فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعليه جوابان :
أحدهما : أنه إنما سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم.
والثاني : أنه أراد أن يفضحهم بذلك على الأشهاد ليكون ذلك نوعاً من العقوبة لهم.
قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ... ﴾ وإنما ذكَّر الله عيسى عليه السلام نعمته عليه على والدته، وإن كان لهما ذاكراً لأمرين :
أحدهما : ليتلو على الأمم ما خصه به من الكرامة ومَيّزَه به من علو المنزلة.
والثاني : ليؤكد به حجته ويرد به جاحده.
ثم أخذ تعالى في تعديد نعمه فقال :﴿ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ يعني قويتك، مأخوذ من الأيد وهو القوة، وروح القدس جبريل، والقدس هو الله تعالى تقدست أسماؤه.
وتأييده له من وجهين :
أحدهما : تقويته على أمر دينه.
والثاني : معونته على دفع ظلم اليهود والكافرين له.
﴿ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ﴾ أما كلامه لهم في المهد إنما اختص بتعريفهم حال نبوته، ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكَاً أَيَنَمَا كُنتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياً ﴾ [ مريم : ٣٠-٣١ ].
وكلامه لهم كهلاً دعاؤهم إلى ما أمر الله به من الصلاة والزكاة، وذلك حين صار ابن ثلاثين سنة وإن كان مبعوثاً حين ولد، فمكث فيهم ثلاثين سنة ثم رفعه الله، ولم يبعث الله نبياً حين ولد غيره ولذلك خصه الله بالكلام في المهد صبياً.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِذْ عَلَّمْتُك الكِتَابَ ﴾ وفيه تأويلان :
أحدهما : يريد الخط.
والثاني : يريد الكتب فعبر عنها بالكتاب إرادة للجنس.
ثم فصل فقال تعالى :﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها العلم بما في تلك الكتب.
والثاني : أنها جميع ما يحتاج إليه في دينه ودنياه.
ثم قال تعالى :﴿ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ﴾ يريد تلاوتهما وتأويلهما.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونَ طَيْرَاً بِإِذنِي ﴾ يعني بقوله :﴿ تَخْلُقُ ﴾ أي تفعل وتصور من الطين مثل صورة الطير، لأن الخلق فعل لكن على سبيل القصد والتقدير من غير سهو ولا مجازفة ولذلك وُصِفَتْ أفعال الله تعالى بأنها مخلوقة لأنها لا تكون إلا عن قصد وتقدير ووصفت بعض أفعال العباد بأنها مخلوقة إذا كانت مقدرة مقصودة ولم توصف جميعها بهذه الصفة لجواز كون بعضها سهواً أو مجازفة.
وقوله تعالى :﴿ فَتَنفُخُ فِيهَا ﴾ يعني الروح، والروح جسم.
وفي المُتَوَلِّي لنفخها وجهان :
أحدهما : أنه المسيح ينفخ الروح في الجسم الذي صوره من الطين كصورة الطير.
والثاني : أنه جبريل.
وقوله تعالى :﴿ فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ﴾ يعني أن الله تعالى يقلبها بعد نفخ الروح فيها لحماً ودماً، ويخلق فيها الحياة، فتصير طيراً بإذن الله تعالى وأمره، لا بفعل المسيح.
ثم قال تعالى :﴿ وَتُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي ﴾ أي تدعوني أن أبرىء الأكمه والأبرص، فأجيب دعاءك وأبرئهما، وهو فعل الله تعالى، وإنما نَسَبَهُ إلى المسيح مجازاً لأن فعله لأجل دعائه.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ﴾ يعني واذكر نعمتي عليك، إذ تدعوني أن أحيي الموتى، فأجيب دعاءك، حتى تخرجهم من القبور أحياء، ونسب إليه ذلك توسعاً أيضاً لأجل دعائه، ويجوز أن ينسب إخراجهم إليه حقيقة، لأن إخراجهم من قبورهم بعد إحياء الله لهم يجوز أن يكون من فعل المسيح.
388
قال الكلبي : والذين أحياهم من الموتى رجلان وامرأة.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّيِنَ أَنْ ءَامِنُوا بِي... ﴾ في وحيه إلى الحواريين وجهان :
أحدهما : معناه أَلْهَمْتُهُم أن يؤمنوا بي، ويصدقوا أنك رسولي، كما قال تعالى :﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾ [ النحل : ٦٨ ].
والثاني : يعني ألقيت إليهم بالآيات التي أريتهم أن يؤمنوا بي وبك. وفي التذكير بهذه النعمة قولان :
أحدهما : أنها نعمة على الحواريين أن آمنوا، فذكر الله تعالى به عيسى لأنهم أنصاره.
الثاني : أنها نعمة على عيسى، لأنه جعل له أنصاراً من الحواريين قد آمنوا به.
والحواريون : هم خواص عيسى عليه السلام الذين استخلفهم من جملة الناس.
﴿ قَالُوا ءَامَنَّا ﴾ يعني بالله تعالى ربك.
﴿ وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : أنهم أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلامهم بالله تعالى وبه.
والثاني : أنهم أشهدوا الله تعالى بذلك على أنفسهم.
389
قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ الْحوَارِيُّونَ يَا عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ﴾، قرأ الكسائي وحده ﴿ هل تَّستطيع ربَّك ﴾ بالتاء والإِدغام، وربك بالنصب، وفيها وجهان :
أحدهما : معناه هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله، قاله الزجاج.
والثاني : هل تستطيع أن تسأل ربك، قاله مجاهد، وعائشة.
وقرأ الباقون ﴿ هل يستطيع ربك ﴾ بالياء والإِظهار، وفي ذلك التأويل ثلاثة أوجه :
أحدها : هل يقدر ربك، فكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله تعالى.
والثاني : معناه هل يفعل ربك، قاله الحسن، لأنهم سموا بالحواريين بعد إيمانهم.
والثالث : معناه هل يستجيب لك ربك ويطيعك.
﴿ أَن يُنَزِّلَ عَلَينَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ قاله السدي، قال قطرب : والمائدة لا تكون مائدة حتى يكون عليها طعام، فإن لم يكن قيل : خِوان، وفي تسميتها مائدة وجهان :
أحدهما : لأنها تميد ما عليها أي تعطي، قال رؤبة :
................................ إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي المستعطي.
والثاني : لحركتها بما عليها من قولهم : مَادَ الشيء إذا مال وتحرك، قال الشاعر :
لعلك باك إن تغنت حمامة يميد غصن من الأيك مائل
﴿ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني اتقوا معاصي الله إن كنتم مؤمنين به، وإنما أمرهم بذلك لأنه أولى من سؤالهم.
والثاني : يعني اتقوا الله فى سؤال الأنبياء إما طلباً لِعَنَتِهِم وإما استزادة للآيات منهم، إن كنتم مؤمنين بهم ومصدقين لهم لأن ما قامت به دلائل صدقهم يغنيكم عن استزادة الآيات منهم.
قوله تعالى :﴿ قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ﴾ وهذا اعتذار منهم بَيَّنُوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه فقالوا :﴿ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ﴾.
يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها.
والثاني : أنهم أرادوه تبركاً بها لا لحاجة دعتهم إليها، وهذا أشبه لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال.
﴿ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : تطمئن إلى أن الله تعالى قد بعثك إلينا نبياً.
والثاني : تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لك أعواناً.
والثالث : تطمئن إلى أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا.
﴿ وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ في أنك نبي إلينا، وذلك على الوجه الأول.
وعلى الوجه الثاني : صدقتنا في أننا أعوان لك.
وعلى الوجه الثالث : أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا.
وفي قولهم ﴿ وَنَعْلَمَ ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه علم مستحدث لهم بهذه الآية بعد أن لم يكن، وهذا قول من زعم أن السؤال كان قبل استحكام المعرفة.
والثاني : أنهم استزادوا بذلك علماً إلى علمهم ويقيناً إلى يقينهم، وهذا قول من زعم أن السؤال كان بعد التصديق والمعرفة.
﴿ وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ يحتمل وجهين.
أحدهما : من الشاهدين لك عند الله بأنك قد أديت ما بعثك به إلينا.
390
والثاني : من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدناه من الآيات الدالة على أنك نبي إليهم وإلينا.
قوله تعالى :﴿ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ إنما زيدت الميم في آخر اللهم مثقلة عوضاً عن حرف النداء، فلم يجز أن يدخل عليه حرف النداء فلا يقال يا اللهم لأن الميم المُعَوِّضة منه أغنت عنه، فأما قول الشاعر :
وما عليك أن تقولي كلما سبحت أو هللت يا اللهم
أردد علينا شيخنا مسلما فإننا من خيره لن نعْدَما
فلأن ضرورة الشعر جوزته.
سأل عيسى ربه، أن ينزل عليهم المائدة التي سألوه، وفي سؤاله وجهان :
أحدهما : أنه تفضل عليهم بالسؤال، وهذا قول من زعم أن السؤال بعد استحكام المعرفة.
والثاني : أنه رغبة منه إلى الله تعالى في إظهار صدقه لهم، وهذا قول من زعم أن السؤال قبل استحكام المعرفة.
﴿ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا قاله قتادة والسدي.
وقيل : إن المائدة أنزلت عليهم في يوم الأحد غداة وعشية، ولذلك جعلوا الأحد عيداً.
والثاني : معناه عائدة من الله تعالى علينا، وبرهاناً لنا ولمن بعدنا.
والثالث : يعني نأكل منها جميعاً، أولنا وآخرنا، قاله ابن عباس.
﴿ وَءَايَةً مِّنكَ ﴾ يعني علامة الإِعجاز الدالة على توحيدك وقيل التي تدل على صدق أنبيائك.
الشكر على ما أنعمت به علينا من إجابتك، وقيل : أرزقنا ذلك من عندك.
قوله تعالى :﴿ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ﴾ وهذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين.
واختلفوا في نزول المائدة على ثلاثة أقاويل.
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى لخلقه، ينهاهم به عن مسألة الآيات لأنبيائه، قاله مجاهد.
والثاني : أنهم سألوا ووعدهم بالإِجابة، فلما قال لهم :﴿ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴾ استعفوا منها فلم تنزل عليهم، قاله الحسن.
والثالث : أنهم سألوا فأجابهم، ولم يستعفوا، لأنه ما حكى الاستعفاء عنهم، ثم أنزلها عليهم، لأنه قد وعدهم، ولا يجوز أن يخلف وعده.
ومن قال بهذا اختلفوا في الذي كان عليها حين نزلت على ستة أقاويل :
أحدها : أنه كان عليها ثمار الجنة، قاله قتادة.
والثاني : أنه كان عيها خبز ولحم، قاله عمار بن ياسر.
والثالث : أنه كان عليها سبعة أرغفة، قاله إسحاق بن عبد الله.
والرابع : كان عليها سمكة فيها طعم كل الطعام، قاله عطاء، وعطية.
والخامس : كان عليها كل طعام إلا اللحم، قاله ميسرة.
والسادس : رغيفان وحوتان، أكلو منها أربعين يوماً في سفرة، وكانوا ومن معهم نحو خمسة آلاف، قاله جويبر.
391
وأُمِرُوا أن يأكلوا منها ولا يخونوا ولا يدخروا، فخانوا وادخروا فَرُفِعَتْ.
وفي قوله تعالى :﴿... عَذَاباً لاَّأُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴾ قولان :
أحدهما : يعني من عالمي زمانهم.
والثاني : من سائر العالمين كلهم.
وفيهم قولان : أحدهما : هو أن يمسخهم قردة، قاله قتادة.
والثاني : أنه جنس من العذاب لا يعذب به غيرهم لأنهم كفروا بعد أن رأوا من الآيات ما لم يره غيرهم، فكانوا أعظم كفراً فصاروا أعظم عذاباً.
وهل هذا العذاب في الدنيا أو في الآخرة؟ قولان :
وفي الحواريين قولان :
أحدهما : أنهم خواص الأنبياء.
والثاني : أنهم المندوبون لحفظ شرائعهم إما بجهاد أو علم.
وفي تسميتهم بذلك ثلاثة أقاويل :
أحدها : لبياض ثيابهم، وهذا قول ابن عباس، تشبيهاً بما هم عليه من نقاء سرائرهم، قاله الضحاك، وهو بلغة القبط حواري.
والثاني : لنظافة ثيابهم وطهارتها بطهارة قلوبهم.
والثالث : بجهادهم عن أنبيائهم، قال الشاعر :
392
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ... ﴾ الآية. ﴿ إِذْ ﴾ ها هنا بمعنى ( إذا ) كما قال أبو النجم :
ونحن أناس نملأ البيد مأمنا ونحن حواريون حين نزاحف
ثم جزاك الله عني إذ جزى جنات عدن في السموات العلا
يعني إذا جزى، فأقام الماضي مقام المستقبل وهذا جائز في اللغة كما قال تعالى :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ].
واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين :
أحدهما : أنه تعالى سأله عن ذلك توبيخاً لمن ادعى ذلك عليه، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ فى التكذيب وأشد فى التوبيخ والتقريع.
والثاني : أنه قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غُيِّرُوا بعده وادعوا عليه ما لم يقله.
فإن قيل : فالنصارى لم تتخذ مريم إلهاً، فكيف قال تعالى فيهم ذلك؟
قيل : لما كان من قولهم أنها لم تلد بشراً وإنما ولدت إِلَهاً لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضي بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك كالقائلين له.
وفي زمان هذا السؤال قولان :
أحدهما : أن الله تعالى قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا، قاله السدي وميسرة.
والثاني : أن الله تعالى يقول له ذلك يوم القيامة، قاله ابن جريج وقتادة وهو أصح القولين.
﴿ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ ﴾ أي أدعي لنفسي ما ليس من شأنها، يعني أنني مربوب ولست برب، وعابد ولست بمعبود.
وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين :
أحدهما : تنزيهاً له عما أضيف إليه.
الثاني : خضوعاً لعزته وخوفاً من سطوته.
ثم قال :﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ فرد ذلك إلى علمه تعالى، وقد كان الله عالماً به أنه لم يقله، ولكن قاله تقريعاً لمن اتخذ عيسى إلهاً.
﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ فيه وجهان.
أحدهما : تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه.
والثاني : تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم.
وفي النفس قولان : أحدهما : أنها عبارة عن الجملة كلها.
والثاني : أنها عبارة عن بعضه، كقولهم قتل فلان نفسه.
﴿ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : عالم السر والعلانية.
والثاني : عالم ما كان وما يكون.
وفي الفرق بين العالم والعلام وجهان :
أحدهما : أن العلام الذي تقدم علمه، والعالم الذي حدث علمه.
والثاني : أن العلام الذي يعلم ما كان وما يكون، والعالم الذي يعلم ما كان ولا يعلم ما يكون.
قوله تعالى :﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾ لم يذكر عيسى ذلك على وجه الإِخبار به لأن الله عالم به، ويحتمل وجهين :
أحدهما : تكذيباً لمن اتخذ إلهاً معبوداً.
393
والثاني : الشهادة بذلك على أمته فيما أمرهم به من عبادة ربه.
قوله تعالى :﴿ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : إعلامهم أن الله ربه وربهم واحد.
والثاني : أن عليه وعليهم أن يعبدوا رباً واحداً حتى لا يخالفوا فيما عبدوه.
﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيِهِمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني شاهداً.
والثاني : شاهداً عليهم.
﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه الموت.
والثاني : أنه رفعه إلى السماء.
﴿... الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : الحافظ عليهم.
والثاني : العالم بهم.
﴿ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : شاهداً لما حضر وغاب.
والثاني : شاهداً على من عصى، وأطاع.
قوله تعالى :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف العبد سيده.
والثاني : أنه قاله على وجه التسليم لأمر ربه والاستجارة من عذابه.
394
قوله تعالى :﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾ يعني يوم القيامة، وإنما نفعهم الصدق في ذلك اليوم لوقوع الجزاء فيه وإن كان في كلِّ الأيام نافعاً، وفي هذا الصدق قولان :
أحدهما : أن صدقهم الذي كان منهم في الدنيا نفعهم في الآخرة جُوزُوا عليه من الثواب، فعلى هذا المراد بهذا الصدق وجهان محتملان :
أحدهما : أنه صدقهم في عهودهم.
والثاني : أنه تصديقهم لرسل الله وكتبه.
والقول الثاني : أنه صدق يكون منهم في الآخرة ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله.
فعلى هذا في المراد بهذا الصدق وجهان محتملان :
أحدهما : أنه صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ.
والثاني : صدقهم فيما شهدوا به على أنفسهم عن أعمالهم، ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة، فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم.
وهل هم مصروفون عنه قبل موقف العرض؟ على قولين.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
Icon