ﰡ
وتسمى سورة هل أتى، وسورة الأمشاج، وسورة الدهر، مكية، إحدى وثلاثون آية، مائتان وأربعون كلمة، ألف وأربعة وخمسون حرفا
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) أي قد أتى بني آدم طائفة محدودة من الزمن الطويل غير مقدر في نفسه، غير مذكور بالإنسانية أصلا،
وهي مدة الحمل. وقيل: وقد مرت على آدم أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء ولا في الأرض، بل كان جسدا مصورا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه، ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أي من نطفة قد امتزج فيها الماءان: ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له، وما كان من عصب وعظم وقوة، فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة.
وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء. نَبْتَلِيهِ أي نختبره بالخير والشر كما قاله الكلبي. وقال الحسن: أي نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء. فَجَعَلْناهُ أي الإنسان سَمِيعاً بَصِيراً (٢) ليتمكن من استماع الآيات التنزيلية ومشاهدة الآيات التكوينية، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بينا له سبيل الهدى والضلال بإنزال الآيات ونصب الدلائل، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)، أي ليكون الإنسان إما مؤمنا وإما كافرا. ويقال:
إنا هديناه السبيل، ثم جعلناه تارة شاكرا وتارة كفورا. وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة في «أما» على حذف الجواب أي إما شاكرا فبتوفيقنا وإما كفورا فبسوء اختياره لا بمجرد إجبارنا من غير اختيار من قبله، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً (٤) أي إنا هيّأنا للكافرين سلاسل تشد بها أرجلهم، ويقادون بها، وأغلالا تشد بها أيديهم إلى رقابهم، ونارا موقدة يحرقون بها. وقرأ نافع وهشام وشعبة والكسائي «سلاسلا» بالتنوين. إِنَّ الْأَبْرارَ أي الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، الموفين بنذرهم يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي إناء فيه خمر كانَ مِزاجُها
(٥)، أي كانت تلك الخمر ممزوجة بماء عين كافور، فإن الكافور: اسم عين في الجنة، ماؤها في بياض الكافور، ورائحته، وبرده، ولكن لا يكون فيه طعمه، ولا مضرته، ويبدل من «كافورا» قوله: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ أي يشرب عباد الله بماء تلك العين الخمر، لكونها ممزوجة بها، فالباء متعلقة بمحذوف حال من مفعول محذوف، أي يشرب المؤمنون الخمر ممزوجة بتلك العين، أو متعلقة ب «يشرب» والضمير يعود على «الكأس»، أي يشربون العين بتلك الكأس والباء للإلصاق، أو مزيدة ويدل له قراءة ابن أبي عبلة يشربها عباد الله، يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) أي يقودون العين حيث شاءوا من منازلهم، وتتبعهم، فحيث مالوا مالت معهم أي إن الرجل منهم يمشي في بيوته ويصعد إلى قصوره وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجزي معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود ويتبعه حيثما صعد إلى أعلا قصوره، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي بما أوجبوه على أنفسهم لوجه الله تعالى فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم، وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ أي شدائده مُسْتَطِيراً (٧)، أي سريع الوصول إلى أهله من العصاة، وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ، أي مع حاجتهم إلى الطعام.
وقال الفضيل بن عياض: أي على حب إطعام الطعام، أي بأن يكون ذلك مع طيب النفس مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨)، أي مسجونا مسلما وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير قائلين بلسان الحال: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي لطلب ثواب الله، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي مكافأة وَلا شُكُوراً (٩)، أي محمدة بقول أو بفعل.
روي أن عائشة كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل المبعوث ما قالوا، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله تعالى، إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً أي تعبس فيه الوجوه قَمْطَرِيراً (١٠) أي شديدا.
روي أن الكافر يعبس حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران،
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي شدائده بسبب خوفهم عنه، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) أي وأعطاهم بسبب طلب رضا الله حسنا في وجوههم، وفرحا في قلوبهم، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستانا فيه مأكل هني، وحريرا فيه ملبس بهي، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي جالسين في الجنة على السرر في الحجال، لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣)، أي لا يصيبهم في الجنة حر محم، ولا برد مؤذ، لأن هواءها معتدل في الحر والبرد. ويقال: إن في الجنة من الضياء ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر، فإن الزمهرير القمر في لغة طيئ- كما رواه ثعلب- ونورها من نور العرش وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها معطوف على محل «لا يرون» وهو في محل نصب حال من الضمير المستكن في «متكئين»، أي بعداء عن الحر والبرد، وقريبة ظلال شجرها منهم. وقرئ «ودانية» بالرفع على أنه خبر ل «ظلالهما»، والجملة
الرمل، وأصل قوارير الجنة هو فضة شفافة. وقرئ «قوارير» الثاني بالرفع، أي هي قوارير قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) أي قدروا القوارير في أنفسهم وأرادوا أن تكون على أشكال معينة موافقة لشهواتهم، فجاءت حسبما قدروها، وقيل: الضمير للطائفين بها، أي قدر الطائفون الشراب فيها على قدر اشتهائهم. وقرئ «قدروها» بالبناء للمفعول، أي جعلوا قادرين لها كما شاءوا، وَيُسْقَوْنَ فِيها أي الجنة كَأْساً أي خمرا كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا (١٧)، أي ما يشبه الزنجبيل عَيْناً فِيها أي الجنة تُسَمَّى أي تلك العين سَلْسَبِيلًا (١٨).
قال مقاتل وابن حبان: سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرض من جنة عدن إلى أهل الجنان. ويقال: معناها سل الله سبيلا إليها. وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل الله إليها سبيلا بالعمل الصالح. وقرأ طلحة سلسبيل بغير تنوين للعلمية والتأنيث، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء.
وقيل: أي محلون كما رواء نفطويه عن ابن الأعرابي أو مسورون كما رواه الفراء وهم خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور، ولم يخلقوا عن ولادة على الصحيح، إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) لصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض، وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم، وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ أي في أي مكان كان في الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠)
وفي الحديث: «أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه»
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ وهو ما لطف من الديباج.
قرأ نافع وحمزة «عاليهم» بإسكان الياء مبتدأ، و «ثياب» خبره أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. والباقون بفتح الياء على أنه ظرف خبر مقدم، و «ثياب» مبتدأ مؤخر، والجملة صفة ثانية ل «ولدان»، أي يطوف عليهم ولدان فوقهم ثياب سندس إلخ. وقيل: «عاليهم» حال من ضمير «عليهم» أي ويطوف على الأبرار ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب إلخ أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس، خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وهو ما ثخن من الديباج.
قرأ نافع وعاصم «كلاهما» بالرفع. وقرأ الكسائي وحمزة «كلاهما» بالخفض. وقرأ ابن كثير «خضر» بالخفض، و «إستبرق» بالرفع. وقرأ أبو عمرو، وعبد الله بن عامر «خضر» بالرفع،
إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب. وقيل: إنما تكون الأسورة من الفضة للولدان الذين هم الخدم، وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) أي يطهر شاربه عن دنس الميل إلى الملاذ الحسية والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله، ملتذا بلقائه، باقيا ببقائه، وهي غاية منازل الصديقين، ولذلك ختم بها مقالة ثواب الأبرار.
وقال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش، وحسد، وما كان في جوفه من قذر وأذى، إِنَّ هذا أي الذي ذكر من الطعام والشراب واللباس كانَ لَكُمْ جَزاءً أي ثوابا من الله بمقابلة أعمالكم الحسنة. وهذا إخبار من الله تعالى لعباده في الدنيا فكأن الله تعالى بيّن ثواب أهل الجنة إن هذا كان في حكمي جزاء لكم يا معشر عبادي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها.
وقال ابن عباس: المعنى: إنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم لنعيمها ليزداد سرورهم: إن هذا كان لكم جزاء، وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) أي مرضيا، وكان الله راضيا عنهم بالقليل من الطاعات، ومعطيهم عليه ثوابا كثيرا، ومنتهى درجة العبد أن يكون راضيا من ربه مرضيا لربه، فقوله: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً إشارة إلى الأمر الذي تصير النفس به راضية من ربه. وقوله: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً إشارة إلى كون النفس مرضية لربه. وهذه الحالة أعلى الدرجات وآخر المقامات، ولذلك وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (٢٣) أي متفرقا آية وآيتين، وسورة وهذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في تأخير الأذان في القتال أو في أداء الرسالة وتحمل المشاق الناشئة من ذلك، وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أي مقدما على المعاصي، أيّ معصية كانت، أَوْ كَفُوراً (٢٤) أي جاحدا للنعمة، ف «آثم» هو الوليد بن المغيرة، و «الكفور» هو عتبة بن ربيعة، كما قاله القفال وغيره، واختاره الرازي. يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك بنتي وأسوقها من غير مهر فإني من أجمل قريش ولدا. وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالا وأرجع عن هذا الأمر، أي عن ذكر النبوة، فقرأ عليهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣]. فانصرفا عنه وقال أحدهما: ظنت أن الكعبة ستقع علي وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٢٥) أي صل الفجر والظهر والعصر، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي وبعض الليل فصل لربك صلاة المغرب والعشاء، وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (٢٦) أي صل له صلاة التهجد في جزء من ليل طويل. قال بعضهم: كان
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ بأن يوفقه للإيمان المؤدي إلى دخول الجنة وَالظَّالِمِينَ وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى غير اتخاذ السبيل إلى الله، أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)، أي متناهيا في الإيلام وقرأ عبد الله بن الزبير «والظالمون» بالرفع على الابتداء.