تفسير سورة الإنسان

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

وسريرتك بكحل العبرة والاستبصار لرأيت من عجائب قدرة الله ومن بدائع صنعه وحكمته في كل طرفة ولمحة ما بجنبه امر الحشر والنشر والإعادة والأحياء سهل يسير. حققنا بحق حقيتك وبقدر قدرتك وقيوميتك يا ذا القوة المتين
[سورة الإنسان]
فاتحة سورة الإنسان
لا يخفى على من انكشف بحقيقة الإنسان وكيفية تطوراته المتلونة وشئونه المترقية من الخباثة والخساسة الى انواع النجابة والكرامة حتى وصل الى رتبة الخلافة والنيابة الإلهية ان مبنى ترقيه وترفعه من حضيض الإمكان الى أوج الوجوب انما هي بالتربية الإلهية وتكريمه بمقتضى تجليه عليه بعموم أسمائه الكاملة وأوصافه الشاملة ليرشده الى وحدة ذاته ويخلقه بأخلاقه وأوصافه ولا شك ان تربية الدنى المرذول انما هي بتغيير الخصلة المذمومة وتبديل الديدنة المستهجنة الراسخة المستقرة فيه وذلك لا يتيسر الا بوضع التكاليف وتحميل المتاعب والمشاق القالعة المصفية لأقذار الطبائع وإكدار الهيولى اللازمة للقوى البشرية وايضا بتلميظ المعارف والحقائق المشوقة الى اللذات الروحانية والمكاشفات اللدنية المخلصة للنفوس الزكية عن الرسوم العادية مطلقا لذلك أشار سبحانه في هذه السورة العظيمة الشأن الى احوال الإنسان وكيفية ترقيه من شأن الى شأن الى ان وصل الى الهداية والعرفان فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بمقتضى عموم أسمائه الحسنى وصفاته العليا في مظهر الإنسان الرَّحْمنِ عليه بأنواع التربية واصناف الإحسان حتى أوصله وهداه الى طريق الايمان والعرفان الرَّحِيمِ عليه يوصله الى مرتبة الكشف والعيان
[الآيات]
هَلْ أَتى اى قد سبق ومضى عَلَى الْإِنْسانِ المصور بصورة الرحمن حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ اى شأن محدود من الشئون الغير المحدودة الإلهية بحيث لَمْ يَكُنْ الإنسان فيه شَيْئاً إذ العدم والمعدوم ليس بشيء فكيف كان مَذْكُوراً مسمى باسم يذكر به ويشار اليه
إِنَّا خلقنا من مقام عظيم جودنا وبمقتضى كمال قدرتنا وارادتنا ووفور حكمتنا قد خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وقدرنا وجوده بعد ما أخرجناه وأظهرناه من العدم الصرف نحو فضاء البروز وحضرة العلم والأعيان الثابتة ثم صورناه بصور العناصر مِنْ نُطْفَةٍ مهينة مرذولة أَمْشاجٍ مختلطة مجتمعة من الذكر والأنثى وبعد ما قد صورناه هيكلا سويا قابلا واودعنا فيه من روحنا ما اودعنا وسميناه إنسانا مصورا بصورتنا نَبْتَلِيهِ نختبره ونجربه هل يتفطن الى موجده ومظهره أم لا وكيف لا نختبره فَجَعَلْناهُ يعنى انما خلقناه وصيرناه لحكمة الاختبار ومصلحة الاعتبار سَمِيعاً متمكنا قادرا على استماع آياتنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا بَصِيراً مقتدرا على مشاهدة بدائع صنعنا وغرائب صنعتنا وعجائب حكمتنا ليكون معتبرا منها متوجها الى فاعلها ومع إعطائه تلك الكرامات العظيمة
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ يعنى قد اودعنا فيه العقل الفطري الجزئى المنشعب من العقل الكلى الذي هو حضرة علمنا المحيط بكل ما لمع عليه برق الوجود وبواسطته هديناه إلينا سبيلا بان أرسلنا الرسل المنبهين عليه الموقظين له من نعاس النسيان العارض له من حصة ناسوته المشيرين له الى ما اودعنا فيه من الوديعة البديعة وأيدنا الرسل بالكتب والآيات النازلة من لدنا الدالة على صدقهم في الرسالة وبالبينات الواضحات لسلوك طريق توحيدنا وسبيل شهودنا وتفريدنا وبعد ما وضح الحق واتضح السبيل على وجه الأبلغ الأكمل فله الاختيار
إِمَّا شاكِراً اى اما ان يكون شاكرا شكورا مشغولا بشكر النعم مواظبا على أداء حقوق الكرم صارفا عنان عزمه الى صوب الهداية والرشد حتى يكون من ارباب العناية والسداد المتنعمين في روضة الرضا وجنة التسليم وَإِمَّا كَفُوراً للنعم كافرا لمنعمها مقتفيا اثر اصحاب الغفلة والعناد واللدد والفساد حتى يكون من زمرة اصحاب الجحيم فهما عندنا سيان غاية الأمر
إِنَّا حسب قهرنا وجلالنا قد أَعْتَدْنا وهيأنا لِلْكافِرِينَ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق الحقيقية المشرقة الظاهرة على صفائح ذرائر الكائنات لذلك خرجوا عن ربقة الرقية وعروة العبودية وانصرفوا عن مقتضيات حدوده الموضوعة بين عباده سَلاسِلَ اى سلاسل الحرص وطول الأمل يقادون ويسحبون بها نحو نيران الإمكان وجحيم الطرد والحرمان بأنواع الخيبة والخسران وَأَغْلالًا يعنى أغلال الأماني والشهوات يغلّون ويقيدون بها طول دهرهم بأنواع الصغار والهوان وَسَعِيراً مسعرا مملوا بنيران الافتقار والاحتياج المترتبة على الأماني والآمال الغير المنقطعة يطرحون فيها ابدا ويعذبون بها خالدا مخلدا ثم اردف سبحانه وعيد الكفرة بوعد المؤمنين على مقتضى سنته المستمرة في كتابه فقال
إِنَّ الْأَبْرارَ الأخيار البارين المبرورين ذوى الأيدي والأبصار المستغرقين في بحار المعارف والأسرار يَشْرَبُونَ لدى الملك الغفار خمور الشهود ورحيق الاعتبار مِنْ كَأْسٍ من كؤس ذرائر العالم المستعار لذلك كانَ مِزاجُها اى ما يمزج بها ويخلط كافُوراً هو عبارة عن برد اليقين يعنى
عَيْناً معينا معينا هي ينبوع بحر الوجود يَشْرَبُ بِها ومنها عِبادُ اللَّهِ الواصلون الى عالم اللاهوت الفانون عن فنائهم في فضاء الجبروت الباقون ببقاء حضرة الرحموت لذلك يُفَجِّرُونَها ويجرونها تَفْجِيراً واجراء حيث شاءوا وصاروا من كمال وصولهم واتصالهم
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ويوفرون على المنذور وَكيف لا يوفون ولا يوفرون أولئك السعداء الموفون الموفرون مع انهم هم يَخافُونَ يَوْماً وأى يوم يوما قد كانَ شَرُّهُ اى شدائده وأهواله مُسْتَطِيراً منتشرا مستفيضا شائعا بين عموم العباد
وَمن كمال استغراقهم بمطالعة الوجه الكريم يُطْعِمُونَ الطَّعامَ اى الرزق الصوري والمعنوي المسوق لهم من عنده سبحانه تقوية لهم وتقويما لأمزجتهم عَلى حُبِّهِ اى طلبا لمرضاته سبحانه مِسْكِيناً قد اسكنه الفقر وأزعجته المذلة اى المعاودة للسؤال وَيَتِيماً أدركه الذل وأحوجه الى الافتقار وَأَسِيراً اذله الرق والصغار والهوان وأفقره الى الرعاية والترحم. عن ابن عباس رضى الله عنهما ان الحسن والحسين سلام الله وصلواته على جدهما ووالديهما وعليهما مرضا مرضا هائلا مخوفا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ناس فقالوا لعلى يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك فنذر على وفاطمة على النبي وعليهما وابنيهما الصلاة والسلام وفضة جارية لفاطمة رضى لله عنهما صوم ثلاثة ايام ان برئا فلما برئا صاموا وما معهم شيء فاستقرض على رضى الله عنه من شمعون الخيبرى ثلاثة أصوع من الشعير فطحنت فاطمة رضى الله عنها صاعا وخبزت خمسة اقراص على عدد رؤسهم فوضعوا بين يديهم ليفطروا فجاء على الباب مسكين فأعطوا له وآثروه على أنفسهم وباتوا فلم يذوقوا الا الماء وأصبحوا صياما فلما امسوا فعلوا ايضا كذلك فألم عليهم يتيم فآثروه كذلك فأصبحوا صياما ففعلوا اليوم الثالث مثل ذلك فجاء أسير فأعطوه فباتوا بلا طعام فنزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية فقال هناك الله في اهل بيتك يا نبي الله. ثم لما اضمروا في نفوسهم ونجواهم حين صدور هذا
الإحسان عنهم طلبا لمرضاة الله وتثبيتا لهم على دينه وطاعته وتشويقا منهم الى لقائه نزل في حقهم وفق ما نووا
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ اى ما نطعمكم ايها المطعمون المحتاجون الا لِوَجْهِ اللَّهِ الكريم وطلبا لمرضاته إذ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً ليصير عوضا لا طعامنا لا في الدنيا ولا في الآخرة وَلا شُكُوراً بان تدعوا أنتم لنا الأجر بل ما نطعمكم الا من مال الله يا عيال الله خالصا لوجهه الكريم ما لنا مع الشكر والجزاء امر وشأن وكيف يتأتى منا طلب الشكر والجزاء إذ قدرتنا على الإطعام ايضا انما هو باقدار الله إيانا واعطاؤنا انما هو من عطاياه حقيقة وبالجملة
إِنَّا نَخافُ بطلب الأجر والجزاء مِنْ غضب رَبِّنا يَوْماً وأى يوم يوما عَبُوساً تعبس فيه مطلق الوجوه من شدة هوله وحزنه بل قد صارت كل الوجوه قَمْطَرِيراً في غاية الشدة والعبوسة سيما على اهل الرياء والسمعة الطامعين بصدقاتهم الذكر الجميل والثناء الجزيل مع انهم انما يعطون من مال الله لعيال الله وبعد ما أخلصوا لله وخافوا من عذابه
فَوَقاهُمُ اللَّهُ الحكيم العليم الحفيظ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ اى قد رفع عنهم شره وأبدله لهم خيرا وَلَقَّاهُمْ اى لقى لهم يومئذ نَضْرَةً طراوة وصفاء في وجوههم وَسُرُوراً وبهجة في قلوبهم
وَبعد ما فعلوا ما فعلوا خالصا لوجه الله جَزاهُمْ سبحانه بِما صَبَرُوا وحبسوا نفوسهم عن المشتهيات المنهيات والمحرمات بل عن المباحات ايضا وعلى أداء الواجبات وإيثار الأموال والأرزاق المسوقة لهم لطلب المرضات جَنَّةً مصورة من صالحات أعمالهم وحالاتهم ومقاماتهم يتلذذون فيها باللذات الروحانية ابد الآباد وَيلبسون فيها حَرِيراً متخذا من حلل الأسماء والصفات التي لا يتصور فيها الهول والخشونة أصلا
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ يعنى مستظهرين فيها بالألطاف الإلهية مستظلين بكنف حفظه وجواره حيث لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً اى حرارتها المؤذية لهم وَلا زَمْهَرِيراً اى البرودة المضرة بهم بل يعتدل فيها الهواء والأهواء لتعديلهم الأخلاق والأعمال والأحوال
وَبالجملة ليس ظلال الجنة المذكورة بعيدة عنهم بل قد كانت دانِيَةً قريبة عَلَيْهِمْ ظِلالُها الموعودة لهم من قبل الحق وَلهم فيها ثمار متجددة متلونة من انواع المعارف والحقائق اللدنية المترتبة على أشجار الأسماء والصفات الإلهية التي قد اتصفوا بها وتخلقوا بمقتضاها ولا تكون تلك الأشجار وأغصانها وأثمارها بعيدة عنهم آبية سيما بعد ما اتصفوا بمقتضاها بل قد ذُلِّلَتْ وسخرت قُطُوفُها وثمارها لهم تَذْلِيلًا بحيث متى أرادوا تلذذوا بها بلا تردد إذ كمالاتها كلها حينئذ بالفعل بلا انتظار لهم إياها وترقب لها
وَلتكميل ترفههم وتنعمهم يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ متخذة مِنْ فِضَّةٍ اى من فضة عقائدهم الصافية البيضاء الشفافة الخالصة عن مطلق الكدورات وَأَكْوابٍ اى كيزان لا عروة لها وهي من غاية صفائها وجلائها كأنها كانَتْ قَوارِيرَا في الرقة وأية
قَوارِيرَا متخذة مِنْ فِضَّةٍ وهي من غاية صفائها وشفيفها لا يرى لها لون ولا كون بحيث قد اشتبه أمرها عند الرائي في بادى الرأى ولذلك قَدَّرُوها تَقْدِيراً بمقتضى ما رعوا من الاعتدال والأخلاق والأطوار
وَهم يُسْقَوْنَ فِيها اى في تلك الجنة الموعودة لهم كَأْساً مملوا من خمور المحبة والمودة قد كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا اى كالزنجبيل في المساغ وسرعة الانحدار يعنى
عَيْناً جارية فِيها مملوة بماء الحياة الازلية الابدية السرمدية تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا لهدايتها وارشادها الى مشرب التوحيد وبحر الوحدة الذاتية كأنها تلقى وتلقن تلك العين المترشحة من بحر الحياة الازلية
الابدية لأرباب العناية بقولها سل ايها الطالب الحائر في بيداء الطلب سبيلا الى الوحدة الحقيقية الحقية واسترح عندها
وَايضا يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ثانيا وتصحيبا وِلْدانٌ حسان صباح ملاح مصورون من أعمالهم وأحوالهم مُخَلَّدُونَ دائمون مستمرون على صباحتهم وملاحتهم بحيث إِذا رَأَيْتَهُمْ ايها المعتبر الرائي حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً من صفاء ألوانهم وبهاء هياكلهم واشكالهم وصباحة خدهم ورشاقة قدهم ومن انعكاس اشعة وجوههم ومن كمال اللطافة والطراوة والصفاء المفرط نهاية النظافة
وَبالجملة إِذا رَأَيْتَ ايها الفطن الرائي ثَمَّ اى في الجنة المذكورة الموعودة رَأَيْتَ وما أدراك ما رأيت رأيت نَعِيماً وأى نعيم نعيما لا يكتنه غوره وطوره وَمُلْكاً وأى ملك ملكا عظيما كَبِيراً وسيعا فسيحا لا يدرك وسعته وقدره ولا يكتنه طوره وغوره ومع ذلك
عالِيَهُمْ اى يعلو عليهم ويحيط بهم فيها تعظيما لهم وتكريما ثِيابُ سُندُسٍ هو رقيق من الديباج خُضْرٌ على لون الحياة إذ حياتهم فيها سرمدية وَإِسْتَبْرَقٌ هو غليظ منه كذلك وَهم قد حُلُّوا فيها أَساوِرَ اى زينوا بأساور متخذة مِنْ فِضَّةٍ صافية عن الغش بصفاء عقائدهم عنه تتميما لتنعمهم وَبالجملة قد سَقاهُمْ رَبُّهُمْ بعد ما تمكنوا في مقعد الصدق عند المليك المقتدر شَراباً من كأس المحبة ورحيق التوحيد والتحقيق طَهُوراً خاليا خالصا عن شوب الثنوية وشين الكثرة مطلقا وبعد ما شربوا منه جرعة سكروا سرمدا ولم يصحوا ابدا ثم قيل لهم من قبل الحق
إِنَّ هذا الذي قد فزتم به الآن قد كانَ لَكُمْ جَزاءً موعودا معهودا في مقابلة أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم ومواجيدكم ومعارفكم التي أنتم عليها في النشأة الاولى وَبالجملة قد كانَ سَعْيُكُمْ الذي كنتم عليه في عالم الناسوت مَشْكُوراً مجازا عليه غير مضيع بل مع زيادات تفضلا وامتنانا عليكم. ثم لما جمع سبحانه جميع الفضائل والكمالات الانسانية وعموم المعارف والمشاهدات والمكاشفات اللدنية في المرتبة الجامعة الختمية الخاتمية المحمدية المحيطة المشتملة على عموم المراتب والمناصب العلية خاطبه سبحانه خطاب رحمة وامتنان على سبيل التعطف فقال
إِنَّا بمقتضى فضلنا وجودنا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك الْقُرْآنَ الحاوي لعموم ما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي ومطلق الحكم والاحكام والحقائق والمعارف الموردة فيها المحتوى لجميع الكمالات اللائقة بسائر الأنبياء والرسل المجتازين في سبيل التوحيد تَنْزِيلًا مفرقا منجما على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة الباعثة على انزاله حسب طاقتك اليه وانكشافك بما فيه لتتدرج أنت في سلوكك وشهودك وبعد ما سمعت من الكرامة والتعظيم
فَاصْبِرْ يا أكمل الرسل لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تستعجل في غلبتك وظهورك على عموم أعدائك من جنود اهل التقليد والضلال سيما كفار مكة خذلهم الله وَبعد ما قد كوشفت بحقية الحق وبوحدته واستقلاله في الوجود ومطلق الآثار لا تُطِعْ مِنْهُمْ اى من اهل التقليد واصحاب الضلال أحدا سواء كان آثِماً متناهيا في الفسوق والعصيان حيث ينتهى إثمه الى الشرك أَوْ كَفُوراً لنعم الله مبالغا في كفران نعمه ونسيان كرمه حيث ينتهى كفرانه الى الكفر. أعاذنا الله وعموم عباده منهما
وَبعد ما تحققت يا أكمل الرسل تمام الكشف والشهود اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا اى في عموم أوقاتك وحالاتك وداوم على ذلك دائما مستمرا
وَعليك ان تتخذ مِنَ اللَّيْلِ الموضوع للخلوة مع الله ودوام المراقبة والحضور معه
فَاسْجُدْ لَهُ وتوجه نحوه توجها خالصا مقرونا بكمال الخضوع والخشوع والتذلل التام وَسَبِّحْهُ اى نزه ذاته عن جميع ما لا يليق بشأنه لَيْلًا اى في خلاله وآنائه تسبيحا طَوِيلًا خاليا عن مطلق الشواغل فارغ البال عن تشتت الآمال هكذا آداب اصحاب المآل وديدنة ارباب الوجد والحال
إِنَّ هؤُلاءِ اى اصحاب الضلال المنحرفين عن جادة الاعتدال يُحِبُّونَ اللذة الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ اى يتركون امامهم وخلفهم بلا مبالاة منهم يَوْماً ثَقِيلًا شديدا يشتد الأمر فيه عليهم ويصعب ومع ذلك ينكرونه ويكذبونه وكيف يذرونه وينكرونه مع انا نخبر به ونأمر بتصديقه وكيف لا نأمرهم إذ
نَحْنُ بمقتضى قدرتنا قد خَلَقْناهُمْ وقدرنا وجودهم أولا من أهون الأشياء وأخسها واخبثها وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ اى قد عدلنا اركانهم وجوارحهم وأحكمنا مفاصلهم واوصالهم وبالجملة قد سويناهم اشخاصا قابلين للتكليف ليترتب عليه الايمان والتصديق بعموم المعتقدات اللدنية وَبعد ما لم يؤمنوا ولم يصدقوا عنادا ومكابرة إِذا شِئْنا وتعلقت مشيتنا على إهلاكهم واستئصالهم أهلكناهم واستأصلناهم وبَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ في الخلقة وجميع لوازمها تَبْدِيلًا حسنا بحيث يكون المبدل خيرا واحسن وأكمل من المبدل منه وبالجملة
إِنَّ هذِهِ الآية الدالة على تهذيب الأخلاق والأطوار تَذْكِرَةٌ ناشئة من قبل الحق فَمَنْ شاءَ ان يتعظ بها ويتذكر بما فيها اتَّخَذَ أولا إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا يعنى شرع أولا في مسالك القرب والوصول الى الله فتقرب نحوه بالمعاملات ثم بالأحوال والمقامات وبالجملة ليس وراء الله مرمى ومنتهى
وَلكن ما تَشاؤُنَ اى المتقربون الى الله السائرون نحوه حسب التوفيق والتيسير الإلهي إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ الموفق لهم الموجد المقدر لعموم أفعالهم وأعمالهم المنجى لهم عن غياهب الإمكان وظلمات الخيالات والأوهام
إِنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده كانَ عَلِيماً بقابلياتهم اللائقة لفيضان الكشف والشهود حَكِيماً في تربيتهم وتكميلهم
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ بهدايته ولطفه فِي رَحْمَتِهِ التي هي سعة وحدته وَلكن الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية المحرومين عن نظر العناية والتوفيق مطلقا قد أَعَدَّ لَهُمْ سبحانه عَذاباً أَلِيماً لا عذاب أشد منه ايلاما وأفزع انتقاما ألا وهو حرمانهم عن ساحة عز القبول. نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين
خاتمة سورة الإنسان
عليك ايها المريد المتوحد بمشية الله وتيسيره وفقك الله على ما املك واعانك على انجاحه ان تفرغ همك وتخلى قلبك عن الالتفات الى الدنيا معرضا عن آمالها وأمانيها متوجها الى الآخرة وما فيها متعرضا لنفحات الحق مستنشقا من روائح روحه ورحمته راجيا من سعة لطفه وجوده ان ييسرك ويوفقك في عموم أوقاتك وحالاتك على ما هو خير لك في أولاك وأخراك ويدفع عنك شرور بشريتك ومقتضيات بهيميتك وقواك وبالجملة فاتخذه سبحانه وكيلا وثق اليه واجعله حسيبا وكفيلا وتوكل عليه إذ هو اعلم بما ينبغي لك منك وبما يليق بحالك فلك التفويض والتكلان والأمر بيد الله الحكيم المستعان
Icon