ﰡ
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي - ﷺ -، وهو راقد على حصير من جريد، وقد أثّر في جنبه، فبكى عمر، فقال - ﷺ - له: ما يبكيك؟ قال عمر: ذكرت كسرى وملكه، وهرمز وملكه، وصاحب الحبشة وملكه، وأنت رسول الله - ﷺ - على حصير من جريد، فقال رسول الله - ﷺ -: أما ترضى أنّ لهم الدنيا ولنا الآخرة، فأنزل الله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (٢٠)﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ سبب نزولها: ما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة: أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدًا يصلي.. لأطأنَّ عنقه، فأنزل الله قوله عزّ وجلّ ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿هَلْ أَتَى﴾ حكى (٢) الواحدي عن المفسرين: أنّ ﴿هَلْ﴾ هنا بمعنى قد فهي للتحقيق، وليست للاستفهام أصلًا؛ أي: قد أتى ومرّ على الإنسان... إلخ. وبه قال سيبويه، والكسائي، والفراء، وأبو عبيدة. قال الفراء ﴿هَلْ﴾ تكون جحدًا وتكون خبرًا، فهذا من الخبر؛ لأنّك تقول: هل أعطيتك، تقرّره بأنّك أعطيته، ومن الجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا، فتحمله على معنى لا يقدر أحد غيرك على مثله. وقيل: هي وإن كان بمعنى قد ففيها معنى الاستفهام التقريري. والأصل (٣): أهل أتى، والمعنى: أقد أتى ليستفاد التقرير من همزة الاستفهام والتقريب من قد، فإنها موضوعة لتقريب الماضي إلى الحال. والدليل على أن الاستفهام غير مراد أن الاستفهام على الله تعالى محال، فلا بد من حمله على الخبر، كقولك: هل وعظتك، ومقصودك أن تحمله على الإقرار بأنّك قد وعظته؛ أي: قد مرّ ﴿عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ قيل: المراد بالإنسان هنا آدم، قاله قتادة والثوري،
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
والمعنى: مر على آدم طائفة محدودة كائنة من الزمان الممتد. قيل: أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح. وقيل (١): إنه خلق من طين فألقي بين مكة والطائف، فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون، فأقام أربعين سنة أخرى، ثم من صلصال فأقام أربعين سنة أخرى. فتم خلقه في مئةٍ وعشرين سنة، فنفخ فيه الروح على ما جاء في رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: فما كان سنين في آدم كان أيّامًا في أولاده. وقيل: المراد بالإنسان جنس الإنسان لقوله: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾، لأنَّ آدم لم يخلق منها، ثم المراد بالجنس بنو آدم، والمراد بالحين مدة حمله؛ لأنه كان علقة في أربعين يومًا ومضغةً في ثمانين ومنفوخًا فيه الروح في مئة وعشرين يومًا على أن يكون الحين هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وهذا القول أعني: حمله على أولاده أظهر؛ لأنّ المقصود تذكير الإنسان كيفية الخلق بعد أن لم يكن ليتذكر أول أمره من عدم كونه شيئًا مذكورًا أو آخر أمره من كونه شيئًا مذكورًا مخلوقًا من ماء حقير، فلا يستبعد البعث. وقيل: المراد بالجنس ما يعم آدم وبنيه على التغليب أو نسبة حال البعض إلى الكل للملابسة على المجاز. وحمل بعضهم الإنسان هنا على آدم وفيما سيأتي على أولاده.
وجملة قوله: ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ إما في محل نصب على الحال من الإنسان أو في محل رفع صفة أخرى لـ ﴿حِينٌ﴾ بحذف الضمير الرابط؛ أي: حين لم يكن فيه شيئًا مذكورًا. قال الفراء وقطرب وثعلب (٢): المعنى: أنه كان جسدًا مصوّرًا ترابًا وطينًا لا يذكر، ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه، ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورًا. وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئًا مذكورًا في الخلق، وإن كان عند الله شيئًا مذكورًا. وقيل: ليس المراد بالذكر هنا الإخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف كما في قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾. قال القشيريّ: ما كان مذكورًا للخلق وان كان مذكورًا لله سبحانه. قال الفرّاء: كان شيئًا ولم يكن مذكورًا، فجعل النفي متوجهًا إلى القيد. وقيل المعنى:
(٢) الشوكاني.
والمعنى على القول الثاني ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ بل كان (١) شيئًا منسيًّا، غير مذكور بالإنسانية أصلًا نطفة في الأصلاب، فما بين كونه نطفة وكونه شيئًا مذكورًا بالإنسانية مقدار محدود من الزمان، وتقدم عالم الأرواح لا يوجب كونه شيئًا مذكورًا عند الخلق ما لم يتعلق بالبدن ولم يخرج إلى عالم الأجسام.
والمعنى (٢): أي قد أتى على هذا النوع الإنسانيّ زمن لم يكن موجودًا حتى يعرف ويذكر. وفي الآية ما يشير إلى ما قاله علماء طبقات الأرض "الجيولوجيا". من أن الإنسان لم يوجد على الأرض إلا بعد خلقها بأحقاب طوال، فقد كانت الأرض أوّلًا ملتهبةً بعد أن انفصلت من الشمس، ثم أخذت قشرتها تبرد بالتدريج، وأمكن أن ينبت فيها النبات، ثم بعض الطيور ثم بعض الحيوان الداجن ثم الإنسان.
٢ - ثم أتبع ذلك بذكر العناصر الداخلة في تكوين الإنسان، فقال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: خلقنا جسمه، والإظهار لزيادة التقرير. ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ حتى كان علقةً في أربعين يومًا ومضغةً في ثمانين ومنفوخًا فيه الروح في مئة وعشرين يومًا، كما خلق أباهم آدم طورًا طينًا وطورًا حمأً مسنونًا وطورًا صلصالًا. والمراد بالإنسان هنا ابن آدم، قال القرطبي من غير خلاف. والنطفة: الماء الذي يقطر، وهو المنيّ وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، وجمعها نطف. وقوله: ﴿أَمْشَاجٍ﴾؛ أي: (٣) أخلاط، صفة لـ ﴿نُطْفَةٍ﴾، وهي جمع مشج كسبب أو كتف على لغتيه، أو جمع مشيج من مشجت الشيء إذا خلطته. وصف النطفة بالجمع مع إفرادها، لما أن المراد بها مجموع الماءين يختلطان في الرحم، ولكل منهما أوصاف مختلفة من اللون والرقة والغلظ، وخواص متباينة، فإن ماء الرجل أبيض غليظٌ فيه قوة العقد، وماء المرأة أصفر رقيق فيه قوة الانعقاد. فيخلق منهما الولد، فأيهما علا صاحبه كان الشبه به، وما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر، فمن ماء المرأة، كما روي في المرفوع. وفي الخبر: "ما من مولود إلا وقد ذر على
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وجملة قوله: ﴿نَبْتَلِيهِ﴾؛ أي: نختبره بالخير والشرّ. حال من فاعل ﴿خَلَقْنَا﴾؛ أي: خلقناه حال كوننا مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف فيما سيأتي، ليتعلق علمنا بأحواله تفصيلًا في العين بعد تعلقه بها إجمالًا في العلم، وليظهر أحوال بعضهم لبعض من القبول والرد والسعادة والشقاوة.
﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: جعلنا الإنسان ﴿سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ ليتمكن من استماع الآيات التنزيلية ومشاهدة الآيات التكوينية. فهو (٢) كالمسبب عن الابتلاء؛ أي: عن إرادته، فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء، كأنه قيل: إنا خلقناه مريدين تكليفه، فأعطيناه ما يصح معه التكليف والابتلاء، وهو السمع والبصر وسائر آلات التفهيم والتمييز، وطوى ذكر العقل؛ لأن المراد ذكر ما هو من أسبابه والآلة التي بها يستكمل، فطريقه الأول لأكثر الخلق من السعداء السمع ثم البصر ثم تفهم العقل.
وفي اختيار صيغة المبالغة فيهما إشارة إلى كمال إحسانه إليه وتمام إنعامه. و ﴿بَصِيرًا﴾ مفعول ثان بعد ثان لـ ﴿جعلناه﴾، ويجوز (٣) أن تكون جملة ﴿نَبْتَلِيهِ﴾ حالًا من الإنسان، والمعنى: مقدرًا ابتلاءه بالخير والشر والتكاليف. قال الفراء: معناه: والله أعلم جعلناه سميعًا بصيرًا نبتليه، وهي مقدمة لفظًا مؤخرة معنى؛ لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وعلى هذا تكون الحال مقدرة، وقيل: مقارنة. وقيل: معنى الابتلاء: نقله من حال إلى حال على طريقة الاستعارة، والأول أولى.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
والخلاصة: نحن نعامله معاملة المختبر له أيميل إلى أصله الأرضي، فيكون حيوانًا نباتيًّا معدنيًا شهوانيًّا، أم يكون إلهيًّا معتبرًا بالسمع والبصر والفكر، وهي من عوالم أرقى من عالم المادة التي تكون منها.
٣ - ثم ذكر أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة، والباطنة بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال، فقال: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ﴾؛ أي: هدينا الإنسان المذكور وبينا له ﴿السَّبِيلَ﴾؛ أي: سبيل الهدى والضلال بإنزال الآيات ونصب الدلائل، ليكون ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾؛ أي: ليكون (٢) الإنسان إما مؤمنًا وإما كافرًا. قيل المعنى: إنا هديناه السبيل ثم جعلناه تارة شاكرًا وتارةً كفورًا. وعبارة الروح: قوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ مرتّب (٣) على ما قبله من إعطاء الحواسّ، فإنه استئناف تعليل لـ ﴿جعله﴾ سميعًا بصيرًا. يعني: أن إعطاء الحواس الظاهرة والباطنة والتحلي بها مقدم على الهداية.
والمعنى: أريناه وعرّفناه طريق الخير والشرّ والنجاة والهلاك بإنزال الآيات ونصب الدلائل، كما قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)﴾؛ أي: بينا له طريق الخير والشر، فإن النجد الطريق الواضح المرتفع، فالمراد بالهداية مجرد الدلالة، لا الدلالة الموصلة إلى البُغية، كما في بعض التفاسير. وقوله: ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ حالان من مفعول ﴿وَهَدَيْنَاهُ﴾.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
والحاصل: أن الشاكر والكفور كنايتان عن المثاب والمعاقب، ولما يكن مجرد الكفران مستلزمًا للمؤاخذة لم يصح أن يجعل كناية عنها، بخلاف مجرد الشكر، فإنه ملزوم الإثابة بمقتضى وعد الكريم، فأدير أمر الإثابة على مطلق الشكر لا على المبالغة فيه كما أدير أمر المؤاخذة على المبالغة في الكفران لا على أصله. وكل ذلك بمقتضى سعة رحمة الله وسبقها على غضبه انتهى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ بكسر الهمزة فيهما. وقرأ أبو السمّال وأبو العجاج وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك بفتحها فيهما، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب، وهي التي عدها بعض النحاة في حروف العطف، وقيل: هي التفصيلية وجوابها مقدر.
وقال الزمخشري: وهي قراءة حسنة، والمعنى: إما شاكرًا فبتوفيقنا وإما كفورًا فبسوء اختياره انتهى. فجعلها أما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط، فلذلك تلقاها بفاء الجواب، فصار كقول العرب: أما صديقًا فصديق.
وحاصل معنى الآية: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾؛ أي: (٢) فأعطيناه السمع والبصر والفؤاد، ونصبنا له الدلائل في الأنفس والآفاق لتكون مسرحًا لشكره، ومغنمًا لعقله. ثم بين أن الناس انقسموا في ذلك فريقين، فقال: ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾؛ أي: فبعض اهتدى، وعرف حق النعمة فشكر، وبعض أعرض فكفر. وإجمال ذلك إنا هديناه السبيل ليتميز شكره من كفره وطاعته من معصيته. ونحو الآية قوله:
(٢) المراغي.
روى مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - ﷺ -: "كُلُّ الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها". وحكى (١) مكيٌّ عن الكوفيين أن قوله: ﴿إِمَّا﴾ هي ﴿إنْ﴾ الشرطية زيدت بعدها ما؛ أي: بينا له الطريق إن شكر أو كفر، واختار هذا الفراء. ولا يجيزه البصريون؛ لأن ﴿إن﴾ الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل، ولا يجوز هنا إضمار الفعل؛ لأنّه كان يلزم رفع ﴿شَاكِرًا﴾ و ﴿كَفُورًا﴾، ويمكن أن يضمر فعل ينصب ﴿شَاكِرًا﴾ و ﴿كَفُورًا﴾، تقديره: إن خلقناه شاكرًا فشكور، وإن خلقناه كفورًا فكفور. وهذا على قراءة الجمهور ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ بكسر همزة إمّا.
٤ - ولما ذكر الفريقين أتبعهما بالوعيد والوعد، فقال: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا﴾؛ أي: هيّأنا في الآخرة، فإن الاعتداد إعداد الشيء حتى يكون عتيدًا حاضرًا متى احتيج إليه. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ من أفراد الإنسان الذي هديناه السبيل ﴿سَلَاسِلَ﴾ بها (٢) يقادرن إلى جهنم. وفي "كشف الأسرار": أعتدنا للكافرين في جهم سلاسل، كل سلسلة سبعون ذراعًا، وهو بغير تنوين في قراءة حفص، وأمّا الوقف فبالألف تارةً وبدونها أخرى. يقال: تسلسل الشيء: اضطرب كأنه تصور منه تسلسل وتردد، فتردد لفظه تنبيه على تردد معناه، ومنه: السلسلة وفي "القاموس": السلسلة بالفتح: إيصال الشيء بالشيء، وبالكسر: دائرة من حديد ونحوه. وقرأ (٣) طلحة، وعمرو بن عبيد، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة ﴿سلاسل﴾ ممنوع الصرف وقفًا ووصلًا، وقيل: عن حمزة وأبي عمرو الوقف بالألف، وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف، واختلف عنهم في الوقف، وكذا عن البزي. وقرأ باقي السبعة بالتنوين وصلًا، وبالألف المبدلة منه وقفًا، وهي قراءة الأعمش. قيل؛ وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا يصرف إلا أفعل من، وهي لغة الشعراء ثم كثر حتى جرى في كلامهم، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا: صواحبات يوسف، ونواكسي الأبصار أشبه المفرد فجرى فيه الصرف. وقال بعض الرجاز:
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
وَالصَّرْفُ في الْجَمْعِ أَتَى كَثِيْرًا | حَتَّى ادَّعَى قَوْمٌ بِهِ التَّخْيِيْرَا |
﴿وَأَغْلَالًا﴾ بها يقيدون إهانة وتعذيبًا لا خوفًا من الفرار. جمع غل بالضم، وهو ما تطوق به الرقبة للتعذيب، وقد سبق في الحاقة مفصلًا. ﴿وَسَعِيرًا﴾؛ أي: نارًا مسعرة متقدة بها يحرقون.
وإنما (١) يجرون إلى جهنم بالسلاسل لعدم انقيادهم للحق، ويحقرون بأن يقيدوا بالأغلال لعدم تواضعهم لله، ويحرقون بالنار لعدم احتراقهم بنار الخوف من الله تعالى.
والمعنى: أي إنّا هيأنا لمن كفروا بنعمتنا، وخالفوا أمرنا سلاسل بها يقادون إلى الجحيم وأغلالًا بها تشد أيديهم إلى أعناقهم كما يفعل بالمجرمين في الدنيا، ونارًا بها يحرقون. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾ ﴿فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢)﴾.
٥ - وبعد أن ذكر ما أعده للكافرين بين ما أعده للشاكرين من شراب شهي، ولباس بهيّ، فقال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾؛ أي: إن أهل البر والطاعة والإخلاص والصدق. جمع بر كرب وأرباب أو جمع بار كشاهد وأشهاد، وهو من يبر خالقه؛ أي: يطيعه. يقال: بررته أبره كعلمته وضربته. وعن الحسن رحمه الله: البر: من لا يؤذي الذر ولا يضمر الشر، كما قيل:
وَلَا تُؤْذِ نَمْلًا إنْ أَرَدْتَ كَمَالَكَا | فإنَّ لَهَا نَفْسًا تَطِيْبُ كَمَالَكَا |
وَكَأسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذّةٍ | وَأُخْرَى تَدَاويْتُ مِنْهَا بِهَا |
كَأَنَّ سَبْيّةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ | كَأنَّ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ |
٦ - ﴿عَيْنًا﴾ بدل من ﴿كَافُورًا﴾؛ أي: من كأس كان مزاجها عينًا. أو مفعول به ليشربون؛ أي: ماء عين يشرب بها عباد الله. أو بدل من محل كأس على حذف
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
والظاهر: يشرب منها عباد الله، فالباء بمعنى من، فإنّ حروف الجر ينوب بعضها مناب بعض، ونظيره: قوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاء﴾؛ أي: أنزلنا من السحاب الماء، صرح به الشيخ المكي رحمه الله. ويعضده قراءة ابن أبي عبلة ﴿يشربها عباد الله﴾. وقيل: إنَّ ﴿يَشْرَبُ﴾ مضمن معنى يلتذّ، وقيل: هي متعلقة بـ ﴿يَشْرَبُ﴾، والضمير يعود إلى الكأس.
﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾؛ أي: يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم، كما يفيده بناء التفعيل؛ إذ التشديد للكثرة إجراءً سهلًا لا تمنع عليهم بل تجري جريًا بقوّة واندفاع، ولأن الأنهار منقادة لأهل الجنة كالأشجار وغيرها، فتفجيرًا مصدر مؤكد للفعل المتضمن معنى السهولة. والجملة صفة أخرى لـ ﴿عَيْنًا﴾. يقال: فجرت العين فانفجرت، وفجرتها فتفجرت إذا أجريتها.
والمعنى: أي إنّ الذين بروا بطاعتهم ربهم فأدوا فرائضه واجتنبوا معاصيه يشربون من خمر كان مزاج ما فيها من الشراب كالكافور طيب رائحة وبردًا وبياضًا. وهذا المزاج من عين يشرب منها عباد الله المتقون، وهم في غرف الجنّات يسوقونها إليهم سوقًا سهلًا، حيث شاؤوا، وبنتفعون بها كما يشاؤون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يحبّون وصوله إليه. قال مجاهد: يقودونها حيث شاؤوا وتتبعهم حيث مالوا
٧ - وجملة قوله:
١ - ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر، وكذا ما عطف عليها كأنّه قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك الرتبة العالية؟ فقيل: يوفون بما أوجبوه على أنفسهم، فكيف بما أوجبه الله عليهم من الصلاة والزكاة والصيام
وقصارى ذلك: أنهم يؤدون ما أوجبه الله عليهم بأصل الشرع، وبما أوجبوه على أنفسهم بالنذر. قال الفرّاء: في الكلام إضمار؛ أي: كانوا يوفون بالنذر في الدنيا.
٢ - ﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا﴾؛ أي: يوم القيامة ﴿كَانَ شَرُّهُ﴾؛ أي: هوله وشدته وعذابه ﴿مُسْتَطِيرًا﴾؛ أي: فاشيًا منتشرًا في الأقطار غاية الانتشار بالغًا أقصى المبالغ من استطار الفجر إذا انتشر ضوءه، وهو أبلغ من طار بمنزلة استنفر من نفر. وأطلق الشر على أهوال القيامة، وشدائدها المنتشرة غاية الانتشار حتى ملأت السماوات والأرض مع أنها عين حكمة وصواب لكونها مضرّة بالنسبة إلى من تنزل عليه، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون خبره ﴿مُسْتَطِيرًا﴾ أيضًا، فإن ليوم القيامة أمورًا سارّةً كما أن له أمورًا ضارّةً.
ثم ﴿يُوفُونَ...﴾ إلخ، بيان لأعمالهم وإتيانهم بجميع الواجبات، وقوله: ﴿يخافون﴾ إلخ، بيان لنياتهم حيث اعتقدوا بيوم البعث والجزاء، فخافوا منه، فإن الطاعات إنما تتم بالنيّات، وبمجموع هذين الأمرين سمّاهم الله تعالى بالأبرار. قال مقاتل: كان شره فاشيًا في السماوات، فانشقت وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة. وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه.
والمعنى: أي ويتركون المحرمات التي نهاهم ربهم عنها خيفة سوء الحساب يوم المعاد حين يستطير العذاب، ويفشو بين الناس إلا من رحم الله تعالى.
٣ - ٨ ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾؛ أي: كائنين علي حب الطعام والحاجة إليه، ونحوه قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾. أو كائنين (١) على حب
واعلم (١): أنّ مجامع الطاعات محصورة في أمرين الطاعة لأمر الله، ماليه الإشارة بقوله: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾، والشفقة على خلق الله، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ﴾. فإن الطعام وهو جعل الغير طاعمًا كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة إليهم بأي وجهٍ كان، وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه إلا أن الإحسان بالطعام لما كان أشرف أنواع الإحسان.. عبر عن جنس الإحسان باسم هذا النوع، كما في "حواشي ابن الشيخ".
﴿مِسْكِينًا﴾؛ أي: فقيرًا لا شيء له أصلًا عاجزًا عن الكسب. ﴿وَيَتِيمًا﴾؛ أي: طفلًا لا أب له ﴿وَأَسِيرًا﴾ مأخوذًا لا يملك لنفسه نصرًا ولا حيلة، أي أسير كان فإنه - ﷺ - كان يؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: أحسن إليه؛ لأنه يجب إطعام الأسير الكافر والإحسان إليه في دار الإِسلام عند عامّة العلماء إلى أن يرى الإمام رأيه فيه من قتل أو منّ أو فداء أو استرقاق. وفي "الخطيب": خصّ هؤلاء الثلاثة بالذكر، لأن المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه لما يكفيه، واليتيم مات من يكتسب له، وبقي عاجزًا عن الكسب لصغره، والأسير لا يملك لنفسه نصرًا ولا حيلة انتهى.
والمعنى (٢): أي ويطعمون الطعام وهم في محبة له، وشغف المسكين العاجز عن الاكتساب واليتيم الذي مات أبوه، والأسير المأخوذ من قومه المملوكة رقبته
(٢) المراغي.
٩ - وبعد أن ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين بين أن لهم في ذلك غرضين:
١ - رضي الله عنهم، أشار إليه بقوله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ والجملة في موضع الحال من فاعل ﴿يطعمون﴾ على تقدير القول؛ أي: قائلين ذلك بلسان الحال، أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المنّ المبطل للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر؛ أي: يقولون: إنما نطعمكم. أو قائلين: إنّما نطعمكم يعني: أنهم لا يتوقعون المكافأة، ولا يريدون ثناء الناس عليهم بذلك. قال المفسرون: لم يتكلموا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى عليهم، وعلم من ثنائه أنهم فعلوا ذلك خوفًا من الله ورجاء ثوابه. وعن الصديقة رضي الله عنها: أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا؟ فإذ ذكر دعاءهم دعت لهم بمثله ليبقى لها ثواب الصدقة خالصًا عند الله. والوجه: الجارحة (١) عبر به عن الذات لكونه أشرف الأعضاء. وقال بعضهم: الوجه مجاز عن الرضى، لأنّ الرضى معلوم في الوجه، وكذا السخط.
وجملة قوله: ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً﴾ لنا بالمال ﴿وَلَا شُكُورًا﴾؛ أي: شكرًا باللسان ومدحًا ودعاءً. مقررة مؤكدة لما قبلها؛ لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة، ولا يطلب الشكر له ممن أطعمه، أي: لا نطلب منكم المجازاة على هذا الإطعام، ولا نريد منكم الشكر لنا بل هو خالص لوجه الله تعالى.
والفرق بين الجزاء والأجر (٢): أن الأجر ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا، ويقال فيما كان عن عقد، وما يجري مجرى العقد، ولا يقال إلا في النافع. وأمّا الجزاء فيقال فيما كان عن عقد وغير عقد، ويقال في النافع والضارّ. والمجازاة: المكافأة، وهي مقابلة نعمة بنعمة هي كفؤها. والشكور: مصدر على وزن الدخول. قال الفاشانيّ: لا نريد منكم مكافأة وثناء لعدم الاحتجاب بالأغراض والأعواض. وفي "التأويلات النجمية": لا نريد منكم جزاء بالذكر الجميل في
(٢) روح البيان.
والحاصل: أن معاملة العبد المخلص إنما هي مع الله، فلا حق له على الغير، فكيف يريد ذلك؟ وفيه نصح لمن أراد النصيحة، فإن الإطعام ونحوه حرام بملاحظة الغير، وحظ النفس، فيجب أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى من غير شوب بالرياء وبحظ المنعم.
والمعنى (١): إنّما نطعمكم لوجه الله تعالى، فلا نمن عليكم، ولا نتوقع منكم مكافأةً ولا غيرها مما ينقص الأجر. ثم أكد هذا ووضحه بقوله: ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً...﴾ إلخ؛ أي: لا نطلب منكم مجازاةً تكافئوننا بها، ولا أن تشكرونا لدى الناس. قال مجاهد، وسعيد بن جبير: أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله من قلوبهم، فأثنى به ليرغب في ذلك راغب.
٢ - ١٠ خوف يوم القيامة، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (١٠)﴾؛ أي: عذاب يوم متّصف بهاتين الصفتين، فلذلك نفعل بكم ما نفعل، رجاء أن يقينا ربنا بذلك الإطعام شره، لا لإرادة مكافأتكم. فقوله (٢): ﴿إِنَّا نَخَافُ...﴾ إلخ، بدل من قوله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ...﴾ إلخ، في معرض التعليل لإطعامهم، فقوله: ﴿يَوْمًا﴾ مفعول ﴿نَخَافُ﴾ على تقدير مضاف، كما ذكرنا، فـ ﴿مِنْ رَبِّنَا﴾ حال مقدمة منه، ولو أخر.. لكان صفة له. أو مفعوله قوله: ﴿مِنْ رَبِّنَا﴾ بواسطة حرف الجر على ما هو الأصل في تعديته؛ لأنّه يقال: خاف منه، فيكون ﴿يَوْمًا﴾ بدلًا من محله بدون تقدير، بناءً على التعدية بنفسه أو بتقدير ﴿نَخَافُ﴾ آخر. وقوله: ﴿عَبُوسًا﴾ من قبيل إسناد الفعل إلى زمانه.
والمعنى: يومًا تعبس فيه الوجوه كما روي: "أنَّ الكافر يعبس يومئذٍ حتى
(٢) روح البيان.
والخلاصة: أي إنا نفعل ذلك ليرحمنا ربنا، ويتلقانا بلطفه في ذلك اليوم العبوس القمطرير.
١١ - وبعد أن حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعة لغرضين: طلب رضا الله، والخوف من يوم القيامة بين أنه أعطاهم الغرضين. فأشار إلى الثاني بقوله: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه، وحفظهم ﴿شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾؛ أي: ضرره بسبب خوفهم وتحفظهم منه. فـ ﴿شَرَّ﴾ مفعول ثان لوقى المتعدي إلى اثنين. وقرأ الجمهور ﴿فَوَقَاهُمُ﴾ بتخفيف القاف، وأبو جعفر بشدّها.
والمعنى: أي فدفع الله عنهم ما كانوا في الدنيا يحذرون من شرّ ذلك اليوم العبوس بما كانوا يعملون مما يرضي ربهم عنهم من الإطعام لوجه الله تعالى.
وأشار إلى الأوّل بقوله: ﴿وَلَقَّاهُمْ﴾ أي: أعطاهم بدل العبوس في الكفار ﴿نَضْرَةً﴾ وحسنًا وإضاءة في الوجوه ﴿وَسُرُورًا﴾ وفرحًا في قلوبهم بدل حزن الفجار. وقال الضحاك: النضرة: البياض والنقاء في وجوههم. وقال سعيد بن جبير: الحسن والبهاء، وقيل: النضرة: أثر النعمة. وهما مفعولان ثانيان لـ ﴿لقاهم﴾. ونحو الآية قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)﴾ وقد جرت العادة: أن القلب إذا سر.. استنار الوجه. قال كعب بن مالك: وكان رسول الله - ﷺ - إذا سرّ.. استنار وجهه كأنه فلقة قمر. وقالت عائشة رضي الله عنها: "دخل عليّ رسول الله - ﷺ - مسرورًا تبرق أسارير وجهه... " الحديث.
١٢ - ﴿وَجَزَاهُمْ﴾؛ أي: أعطى كلَّ واحدٍ منهم بطريق الأجر والعوض ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ على مشاق التكاليف ومخالفة الشهوات. فـ ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: بسبب صبرهم
والخلاصة: أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار، وما يؤدّي إليه من الجوع والعري بستانًا فيه مأكول هنيٌّ، وحريرًا منه ملبس بهيٌّ. ونحو الآية قوله: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾.
١٣ - وقوله: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾؛ أي: على السرر منصوب على الحال من مفعول ﴿جزاهم﴾، والعامل فيها جزى. وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لـ ﴿جَنَّةً﴾، ولكنها سببية، كأنه قال: جنة متكئين فيها على الآرائك.
وقيَّد المجازاة (٢) بتلك الحال؛ لأنه أرفه الأحوال، فكان غيرها لا يدخل في الجزاء. والأرائك: هي السرر في الحجال، تكون في الجنة من الدر والياقوت مزينة بقضبان الذهب والفضة وألوان الجواهر. جمع أريكة كسفينة، ولا تكون أريكة حتى تكون في حجلة، وهي بالتحريك واحدة حجال العروس، وهي بيت مزين بالثياب والستور. والظاهر أن ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ متعلق بـ ﴿مُتَّكِئِينَ﴾؛ لأن الاتكاء يتعدى بـ (على)؛ أي: مستقرين متمكنين على الأرائك كقوله: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ﴾. ولا يبعد أن يتعلق بمقدر، ويكون حالًا من ضمير متكئين. أي: متكئين فيها على الوسائد أو غيرها مستقرين على الأرائك، فيكون الاتكاء بمعنى الاعتماد.
وجملة قوله: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ في محل النصب على الحال من مفعول ﴿جزاهم﴾، فتكون من الحال المترادفة، أو من الضمير في ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، فتكون من الحال المتداخلة. أو صفة أخرى لـ ﴿جَنَّةً﴾. والزمهرير: أشد البرد.
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي لا يرون في الجنة حرارة ولا برودةً، كما يرون في الدنيا. لأنّ الحرارة غالبة على أرض العرب، والبرودة على أرض العجم والروم؛ أي: يمرّ عليهم هواء معتدل لا حار، ولا بارد مؤذ، بل جوّ واحد معتدل دائم سرمديّ فهم لا يبغون عنها حولًا. يعني: أنّ قوله: ﴿لَا يَرَوْنَ...﴾ إلخ، كناية عن هذا المعنى. وفي الحديث: "هواء الجنة سجسج لا حر فيه ولا قر". أي: معتدل لا حر فيه ولا برد، فإن القر بالضم: البرد.
١٤ - وقوله: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: قريبة إليهم ﴿ظِلَالُهَا﴾؛ أي: ظلال أشجار الجنة. والظلال: جمع ظلّ بالكسر نقيض الضح، و ﴿ظِلَالُهَا﴾ فاعل ﴿وَدَانِيَةً﴾ من الدنو بمعنى القرب، إمّا بحسب الجانب أو بحسب السمك. والضمير إلى الجنّة أو إلى أشجارها.
والمعنى: إنّ ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار من جوانبهم حتى صارت الأشجار بمنزلة المظلّة عليهم، وإن كان لا شمس فيها مؤذية لتظلهم منها بمعنى أنه لو كان هناك شمس مؤذية.. لكانت أشجارها مظلة عليهم. ففيه بيان لزيادة نعيمهم، وكمال راحتهم، فإن الظل في الدنيا للراحة، ويقال: إنّ في الجنّة من الضياء ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر، ونور الجنة من نور العرش.
وقرأ الجمور (٢): ﴿وَدَانِيَةً﴾ بالنصب عطفًا على محل ﴿لَا يَرَوْنَ﴾ أو على ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ أو صفة لمحذوف؛ أي: وجنة دانية، كأنّه قال: وجزاهم جنة دانية. وقال الزجاج: هو صفة لـ ﴿جَنَّةً﴾ المتقدم ذكرها. وقال الفرّاء: هو منصوب على المدح. وقرأ أبو حيوة ﴿وَدَانيةٌ﴾ بالرفع على أنه خبر مقدم، و ﴿ظِلَالُهَا﴾ مبتدأ مؤخّر، والجملة في موضع النصب على الحال. وقرأ ابن مسعود والأعمش ﴿ودانيا عليهم﴾ وهو كقول: ﴿خاشعا أبصارهم﴾. وقرأ أبيّ ﴿ودان﴾ مرفوعًا.
وقوله: ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا﴾؛ أي: سخّرت ثمارها، وسهّل تناولها لهم. ﴿تَذْلِيلًا﴾؛
(٢) الشوكاني.
والمعنى: أنّها سخّرت ثمارها لمتناولها تسخيرًا كثيرًا بحيث يتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك. قال النحاس: المذلل: القريب المتناول، ومنه قولهم حائط ذليل؛ أي: قصير. قال ابن قتيبة: ذللت: أدنيت من قولهم: حائط ذليل أي: كان قصير السمك. وقيل: ﴿ذللت﴾؛ أي: جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاؤوا.
١٥ - ﴿وَيُطَافُ﴾؛ أي: يدور الخدم من طافه بمعنى دار، والطواف والإطافة كلاهما لازم، وإنّما (١) جاءت التعدية هنا من الباء في قوله: ﴿بِآنِيَةٍ﴾. ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على الأبرار إذا أرادوا الشرب. والطائف: الدائر، وهو الخدم كما يجيء. ﴿بِآنِيَةٍ﴾؛ أي: بأوعية، جمع إناء، نحو: كساء وأكسية، والأواني جمع الجمع كما في "المفردات". وفي بعض التفاسير: الباء فيها إن كانت للتعدية فهي قائمة مقام الفاعل؛ لأنّها مفعول له معنى، وإلا فالظاهر أن يكون القائم مقامه عليهم. ﴿مِنْ فِضَّةٍ﴾ صفة لـ ﴿آنية﴾ ﴿وَأَكْوَابٍ﴾ جمع كوب، وهو الكوز العظيم المدوّر الرأس لا أذن له ولا عروة، فيسهل الشرب منه من كلّ موضع، ولا يحتاج عند التناول إلى إدارته، وهو مستعمل الآن في بلاد العرب.
والحاصل: أنه لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف شرابهم، وقدم عليه وصف الأواني التي يشرب بها، وذكره بلفظ المجهول؛ لأنّ المقصود ما يطاف به لا الطائفون. ثم ذكر الطائفين بقوله: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ...﴾ إلخ، وجملة قوله: ﴿كَانَتْ﴾؛ أي: تلك الأكواب ﴿قَوَارِيرَا﴾؛ أي: كالقوارير في صفائها وشفافتها، جمع قارورة، وهو كل ما قر فيه الشراب ونحوه وكان شفّافًا.
١٦ - وحسن التكرير في قوله: ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ لما اتصل به من بيان أصلها؛ أي: تكونت، وحدثت تلك الأكواب جامعة بين صفاء الزجاجة وشفافتها، ولين الفضة وبياضها يرى ما في داخلها من خارجها، فـ ﴿كان﴾ تامة. و ﴿قَوَارِيرَا﴾ الأول حال من فاعل ﴿كَانَتْ﴾ على المبالغة في
والغرض (١) من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة الفضة إلى الرمل، فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين، فكذا لا نسبة بين القارورتين، كذا في "حواشي ابن الشيخ".
قال بعضهم: لعل الوجه في اختيار كون ﴿كَانَتْ﴾ تامة مع إمكان جعلها ناقصة، و ﴿قَوَارِيرَا﴾ الأول خبرًا لها الإعظام بتكوين الله تعالى، فيكون فيه تفخيم الآنية بكونها أثر قدرة الله تعالى. و ﴿قَوَارِيرَ﴾ الثاني بدل من الأول على سبيل الإيضاح والتعيين. أي: قوارير مخلوقةً من فضة. ولا منافاة (٢) بين كون الأواني من الفضة وبين كونها من الذهب، كما ذكر في قوله: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ﴾ لأنّهم تارة يسقون بهذه وتارة يسقون بتلك.
وقرأ نافع، والكسائيّ، وأبو بكر (٣): ﴿قواريرًا قواريرًا﴾ بالتنوين فيهما مع الوصل وبالوقف عليهما بالألف، وقد تقدم وجه هذه القراءة في تفسير قوله: ﴿سَلاسِلَ﴾ من هذه السورة، وبيَّنَّا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى المجموع، فأرجع إليه. وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما، وعدم الوقف بالألف، ووجه هذه القراءة ظاهر، لأنّهما ممنوعان من الصرف لصيغة متنهى المجموع. وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع الوقف عليهما بالألف. وقرأ ابن كثير بتنوين الأول دون الثاني، والوقف على الأول بالألف دون الثاني. وقال الزمخشري (٤): وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق؛ لأنه فاصلة، وفي الثاني لإتباعه الأول انتهى.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
يَا صَاحِ مَا هَاجَ الدُّمُوْعَ الذُّرَّ فَنْ
فهذه النون بدل من الألف، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق. قال ابن الجزري: وكلهم وقفوا عليه بالألف، إلا حمزة وورشًا، وإنما صرفه من صرفه، لأنه وقع في مصحف الإِمام بالألف، وإنما كتب في المصحف بالألف؛ لأنه رأس آيةٍ، فتشابه القوافي والفواصل التي تزاد فيها الألف للوقف انتهى. وقرىء الثاني بالرفع على معنى هي قوارير اهـ "روح البيان".
وجملة: ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾ صفة لـ ﴿قَوَارِيرَ﴾. قرأ الجمهور (١) ﴿قَدَّرُوهَا﴾ بفتح القاف على البناء للفاعل؛ أي: قدّرها السقاة من الخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة من دون زيادة ولا نقصان.
وقال مجاهد وغيره: أتوا بها على قدرريهم بغير زيادة ولا نقصان. قال الكلبي: وذلك ألذ وأشهى. وقيل: قدرها الملائكة، وقيل: قدرها أهل الجنة الشاربون على مقدار شهواتهم وحاجتهم، فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص.
وقرأ علي، وابن عباس، والسلميّ، والشعبيّ، وزيد بن علي، وعبيد بن عمير، وأبو عمرو في رواية عنه، وابن أبزى، وقتادة، والجحدري وأبو حيوة، وعباس عن أبان، والأصمعي عن أبي عمرو، وابن عبد الخالق عن يعقوب ﴿قُدِّروها﴾ بضمّ القاف وكسر الدال مبنيًا للمفعول؛ أي: جعلت لهم على قدر إرادتهم. قال أبو عليّ الفارسي: كأنَّ اللفظ قدروا عليها، وفي المعنى قلب؛ لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدرت عليهم، فهي مثل قوله: ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾. ومثل قول العرب إذا طلعت الجوزاء ألقي العود على الحرباء. وقال الزمخشري: ووجهه أن يكون قدر منقولًا من قدر، تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلت قادرًا عليه، ومعناه: وجعلوا قادرين لها كما شاؤوا، وأطلق لهم أن
وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهم.
وقال أبو حيان (١): والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذّة أن يكون الأصل: قدر ريهم منها تقديرًا، فحذف المضاف، وهو الريّ، وأقيم الضمير مقامه، فصار التقدير: قدّروا منها، ثم اتسع في الفعل فحذف ﴿مِنْ﴾، ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه، فصار قدروها تقديرًا، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور انتهى.
١٧ - وبعد أن وصف أواني مشروبهم وصف المشروب نفسه، فقال: ﴿وَيُسْقَوْنَ﴾؛ أي: الأبرار ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة بسقي الله، أو بسقي الطائفين بأمر الله. وفيه زيادة تعظيم لهم ليست في قوله: ﴿يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ﴾ بصيغة المعلوم. ﴿كَأْسًا﴾؛ أي: خمرًا. وقد تقدم أنّ الكأس هو الإناء فيه الخمر، وإذا كان خاليًا من الخمر فلا يقال له: كأس. ﴿كَانَ مِزَاجُهَا﴾؛ أي: ما تمزج به، وتخلط ﴿زَنْجَبِيلًا﴾ والزنجبيل (٢): عرق يسري في الأرض ونباته كالقصب والبردي، وعلم منه أن ما كان مزاجها زنجبيلا غير ما كان مزاجها كافورًا.
والمعنى: أنّ أهل الجنة يسقون في الجنة كأسًا من الخمر ممزوجة بماء يشبه الزنجبيل في الطعم، وكان الشراب الممزوج به أطيب ما يستطيب العرب، وألذ ما تستلذ به. لأنه يحذو اللسان، ويهضم الطعام، كما في "عين المعاني".
١٨ - ولما كان في تسمية تلك العين بالزنجبيل توهم أن ليس فيها سلاسة الانحدار في الحلق وسهولة مساغها كما هو مقتضى اللذع والإحراق أزال ذلك الوهم بقوله: ﴿عَيْنًا﴾ بدل من ﴿زَنْجَبِيلًا﴾ أو من ﴿كَأْسًا﴾ أو بفعل مقدر؛ أي: يسقون عينا ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة ﴿تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، فكأنَّ العين سميت بصفاتها. والسلسبيل: الشراب اللذيذ. قال بعضهم: يطلق عليها ذلك، وتوصف به لا أنه علم لها. يعني: أن ﴿سَلْسَبِيلًا﴾ صفة لا اسم، وإلّا لامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث، ولم يقرأ به واحد من العشرة. ويقال: إنما صرف مع أنه اسم عين، وهي مؤنث معنوي لرعاية رأس الآية. وقال ابن المبارك: من طريق
(٢) روح البيان.
والخلاصة (٢): ويسقى الأبرار في الجنة خمرًا ممزوجة بالزنجبيل، وقد كانوا في الدنيا يحبون ذلك، ويستطيبونه، ويسقون من عينٍ في الجنة غاية في السلاسة وسهولة الانحدار في الحلق. قال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن، وكأن العين إنما سميت بذلك لسلاستها وسهولة مساغها اهـ. وهذا كله ما هو إلا أسماء لما هو شبيه بما في الدنيا، وهناك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت. فالمعاني غير ما نعهد، والألفاظ لمجرد تخيل شيء مما نراه، كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
١٩ - ثم ذكر أوصاف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب، فقال: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: يدور على الأبرار ﴿وِلْدَانٌ﴾ فإنهم أخف في الخدمة. جمع وليد، وهو من قرب عهده بالولادة. ﴿مُخَلَّدُونَ﴾؛ أي: دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء، لا يتغيرون أبدًا.
والمعنى: أي ويطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة، يأتون على ما هم عليه من الشباب والطراوة والنضارة، لا يهرمون، ولا يتغيرون، ولا تضعف أجسامهم عن الخدمة.
﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ﴾ أيها المخاطب؛ أي: إذا رأيت هؤلاء الولدان ﴿حَسِبْتَهُمْ﴾، أي: خلتهم لحسن ألوانهم ونضارة وجوههم وانتشارهم في قضاء حوائج سادتهم ﴿لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾؛ أي: متفرّقًا؛ أي: كأنهم اللؤلؤ المنثور؛ أي: المفرق. واللؤلؤ المنثور أجمل في النظر من اللؤلؤ المنظوم، ولأنّهم إذا كانوا كذلك كانوا سراعًا في
(٢) المراغي.
قال أهل المعاني (١): إنما شبهوا بالمنثور لانتشارهم في الخدمة، ولو كان صفًّا.. لشبهوا بالمنظوم. وقيل: إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين فإنه شبههن باللؤلؤ المكنون؛ لأنهن لا يمتهن بالخدمة. وقال بعضهم: منثورًا من صدفه. يعني: أنهم شبهوا باللؤلؤ ارطب إذا نثر من صدفه، وهو غير مثقوب لأنّه أحسن وأكثر ماء.
٢٠ - ولما ذكر نعيم أهل الجنة مما تقدم ذكر أن هناك أمورًا أعلى وأعظم من ذلك، فقال: ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ﴾ أيها المخاطب ببصرك ﴿ثَمَّ﴾؛ أي: ما هنالك. يعني: الجنة. قال في "الإرشاد": ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر ولا معنوي. ومآل المعنى: أينما وقع بصرك في الجنة. ﴿رَأَيْتَ نَعِيمًا﴾ كثيرًا لا يوصف، وهو ما يتنعم به. ﴿وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾؛ أي: عظيمًا واسعًا، لا يقادر قدره، كما في الحديث: "أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه". والآية من باب (٢) الترقّي والتعميم. يعني: أنّ هناك أمورًا أخر أعلى وأعظم من القدر المذكور. و ﴿ثَمَّ﴾ ظرف مكان بمعنى هنالك والعامل فيها ﴿رَأَيْتَ﴾. قال الفراء: في الكلام ﴿ما﴾ مضمرة؛ أي: وإذا رأيت ما ثمّ كقوله: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾؛ أي: ما بينكم. وهذا فاسد؛ لأنّه من حيث جعله معمولًا لـ ﴿رَأَيْتَ﴾ لا يكون صلةً لـ ﴿ما﴾، لأنّ العامل فيه إذ ذاك محذوف؛ أي: ما استقرّ ثمّ. وقال الزجاج معترضًا على الفرّاء: إنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن ﴿رَأَيْتَ﴾ يتعدى في المعنى إلى ﴿ثمّ﴾، والمعنى: إذا رأيت ببصرك ثمّ، ويعني: بـ ﴿ثمّ﴾ الجنة. قال السديّ: النعيم: ما يتنعّم به. والملك الكبير استئذان الملائكة عليهم، وكذا قال مقاتل والكلبي. وفي بعض التفاسير: الملك بالضمّ: هو التصرف في المأمورين بالأمر والنهي، ومنه: الملك. وأما الملك بالكسر فهو التصرف في الأعيان المملوكة بحسب المشيئة، ومنه: المالك. والأوّل جامع للثاني، الأنّ كل ملك مالك، ولا عكس اهـ.
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿ثَمَّ﴾ بفتح المثلثة. وقرأ حميد والأعرج ﴿ثُمَّ﴾ بضمها حرف عطف، وجواب ﴿إذا﴾ على هذا محذوف؛ أي: وإذا رميت ببصرك ثم رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا ترى عجبًا عجيبًا وصنعًا بديعًا، لا يقادر قدره، ولا يدرك كنهه. وقرأ عمر (٢) وابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجحدريّ، وأهل مكة، وجمهور السبعة ﴿عَالِيَهُمْ﴾ بفتح الياء وضم الهاء، على أنه ظرف في محل رفع على أنه خبر مقدم، و ﴿ثِيَابُ﴾ م مبتدأ مؤخّر كأنه قيل: فوقهم ثياب سندس. قال الفرّاء: إن عاليهم بمعنى فوقهم، وكذا قال ابن عطية. قال أبو حيان: عالٍ وعالية اسم فاعل، فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولًا من كلام العرب، وقد تقدمه إلى هذا الزجاج كما مرّ. وقال: هذا مما لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفًا.. لم يجز إسكان الياء، ولكنّه نصب على الحال من شيئين. أحدهما: الهاء والميم في قوله: ﴿يطوف عليهم﴾؛ أي: على الأبرار ﴿وِلْدَانٌ﴾ عاليًا لأبرار ﴿ثِيَابُ سُنْدُسٍ﴾؛ أي: يطوف عليهم في هذه الحال. والثاني: أن يكون حالًا من الولدان؛ أي: إذا رأيتهم.. حسبتهم لؤلؤًا منثورًا في حال علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي الفارسي: العامل في الحال إما ﴿لقاهم نضرة وسرورًا﴾، وإما ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾، وقال: ويجوز أن
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
وقرأ الجمهور بإضافة ﴿ثِيَابُ﴾ إلى ﴿سُندُسٍ﴾. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بتنوين ﴿ثياب﴾ وقطعها عن الإضافة، ورفع ﴿سُندُسٍ﴾ و ﴿خُضْرٌ﴾ و ﴿استبرق﴾ على أنّ السندس نعت للثياب؛ لأن السندس نوع من الثياب، وعلي أن ﴿خُضْرٌ﴾ نعت لـ ﴿سُندُسٍ﴾؛ لأنّه يكون أخضر وغير أخضر، وعلى أنّ ﴿إستبرق﴾ معطوف على سندس؛ أي: وثيَابُ استبرق والجمهور من القرّاء اختلفوا في ﴿خُضْرٌ﴾ و ﴿استبرق﴾ مع اتفاقهم على جرّ ﴿سُندُسٍ﴾ بإضافة ﴿ثِيَابُ﴾ إليه وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن بجرّ ﴿خُضْرٌ﴾ نعتًا لـ ﴿سُندُسٍ﴾ ورفع ﴿استبرق﴾ عطفًا على ﴿ثِيَابُ﴾ أي عليهم ثياب سندس ﴿سُندُسٍ﴾ وعليهم ﴿استبرق﴾ وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع ﴿خُضْرٌ﴾ نعتًا لـ ﴿ثِيَابُ﴾ وجرّ ﴿استبرق﴾ عطفًا على ﴿سُندُسٍ﴾. واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتًا لـ ﴿ثِيَابُ﴾، فهي مرفوعة، والاستبرق من جنس السندس. وقرأ نافع وحفص برفع ﴿خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾؛ لأن خضر ثعت لـ ﴿ثِيَابُ﴾، ﴿وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ معطوف على الثياب. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بجرّ ﴿خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ على أن خضر نعت لـ ﴿سُندُسٍ﴾ ﴿وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ معطوف على ﴿سُندُسٍ﴾. وقرؤوا كلهم بصرف ﴿إستبرق﴾ إلا ابن محيصن، فإنّه لم يصرفه، قال: لأنّه أعجميّ، ولا وجه لهذا؛ لأنّه نكرة إلا أن يقول: إنه علم لهذا الجنس من الثياب. وقرىء ﴿استبرق﴾ بوصل الهمزة على أنَّ أصله استفعل من البريق، تقول: برق واستبرق كعجب واستعجب، والصواب قطع الهمزة وإجراؤه على قراءة
وقوله: ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ معطوف (١) على قوله: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾ وهو ماض لفظًا مستقبل معنى، و ﴿أَسَاوِرَ﴾ مفعول ثان لـ ﴿حلوا﴾؛ أي: ويحلّون أساور من فضّة؛ أي: يلبسونها، ويزيّنون بها. وفيه تعظيم لهم بالنسبة إلى أن يقال: وتحلّوا. وأساور جمع أسورة في جمع سوار، وسوار المرأة أصله: دستوار. وكان الملوك في الزمان الأوّل يحلون بها، ويسورون من يكرمونه. ولا معارضة بين ما في هذه الآية من قوله: ﴿أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾، وما في سورة الكهف وفاطر حيث قال: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ﴾، وما في سورة الحج حيث قال: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ لإمكان الجمع بينها بأنهم يجمعون في أيديهم سوار الذهب وسوار الفضة وسوار اللؤلؤ، كما تجمع نساء الدنيا بين أنواع الحليّ، وما أحسن المعصم؛ إذ يكون فيه سواران من جنسين وزيادة كالذهب والفضّة واللؤلؤ. أو بإمكان المعاقبة في الأوقات تارةً يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة وأخرى لؤلؤًا. أو بإمكان التبعيض السوار بأن يكون بعضه ذهبًا وبعضه فضّة وبعضه لؤلؤًا. أو بأنَّ حليّ أهل الجنة يختلف بحسب اختلاف أعمالهم، فللمقرّبين الذهب وللأبرار الفضة. أو بأن كل واحد منهم يعطى ما ترغب فيه نفسه ويميل إليه طبعه، فإن الطباع مختلفة، فربّ إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب. ويجوز (٢) أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من ضمير ﴿عَالِيَهُمْ﴾ بتقدير قد.
ثم ذكر أنهم يسقون شرابًا آخر يفوق النوعين السابقين، وهما ما يمزج بالكافور وما يمزج بالجزنبيل، فقال: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ هو أيضًا معطوف على قوله: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾. فهو ماض اللفظ مستقبل المعنى إشعارًا بتحقّقه ووقوعه؛ أي: وشقيهم ربهم ﴿شَرَابًا﴾ وهو ما يشرب ﴿طَهُورًا﴾؛ أي: طاهرًا، ليس بنجس كخمر الدنيا، أو مطهر لبواطنهم من الغش والغل والحسد. وهذا (٣) الشراب الطهور نوع آخر يفوق النوعين السالفين كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى ربّ العالمين، وصفه بالطهورية. لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة، والأشياء المؤذية كالغشّ والغلّ
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
والمعنى (١): أي وسقاهم ربهم غير ما سلف شرابًا يطهّر شاربه من الميل إلى اللذات الحسّية والركون إلى ما سوى الحقّ فيتجرد لمطالعة جماله والتلذذ بلقائه، وهذا منتهى درجات الصديقين. قال أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون، فتطهّر بذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم مثل عرق المسك، ولم يذكر الكتاب ما يبين نوع ذلك الشراب، فلندع أمره إلى الله، ونؤمن به كما أخبر به في كتابه.
٢٢ - وبعد أن شرح أحوال السعداء وما يلقونه من وافر النعيم الذي يتجلى في مشربهم وملبسهم ومسكنهم.. بين أنّ هذا جزاء لهم على ما قدّموا من صالح الأعمال، وما زكّوا به أنفسهم من صفات الكمال، فقال: ﴿إنَّ هَذَا﴾ على (٢) إضمار القول؛ أي: يقال لهم: إنّ هذا الذي ترونه من فنون الكرامات، ويجوز أن يكون خطابًا من الله تعالى في الدنيا للأبرار؛ أي: إنّ هذا الذي ذكر من أنواع العطايا ﴿كَانَ لَكُمْ جَزَاءً﴾؛ أي: عوضًا وثوابًا بمقابلة أعمالكم الحسنة. فإن قيل؛ كيف يكون جزاء لأعمالهم وهي مخلوقة لله عند أهل السنة؟
أجيب: بأنّها لهم كسبًا عنده ولله خلقًا. ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ﴾ وعملكم في الدنيا بطاعة الله سبحانه ﴿مَشْكُورًا﴾؛ أي: مرضيًّا مقبولًا مقابلًا بالثواب لخلوص نيّتكم، فيزداد بذلك فرحهم وسرورهم، كما أنَّ المعاقب يزداد غمّه إذا قيل له: هذا جزاء عملك الرديء. فالشكر مجازٌ عن هذا المعنى تشبيهًا له بالشكر من حيث إنّه مقابل للعمل، كما أنَّ الشكر مقابل للنعم. قال بعضهم: أدنى الدرجات أن يكون العبد راضيًا عن ربه، وإليه الإشارة بقوله: ﴿كَانَ لَكُمْ جَزَاءً﴾. وأعلاها كونه مرضيًّا له،
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي ويقال لهؤلاء الأبرار حينئذٍ: إنّ هذا الذي أعطيناكم من الكرامة كان لكم ثوابًا على ما كنتم تعملون من الصالحات، وكان عملكم فيها مشكورًا، حمدكم عليه ربكم ورضيه لكم، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة. ومعنى شكر الله سبحانه لعمل عبده هو قبوله لطاعته. والغرض من ذكر هذا القول لهم كما مرّ زيادة سرورهم، فإنّه إذا قيل للمعاقب: هذا بعملك الرديء ازداد غمّه وألم قلبه، وإذا قيل للمثاب: هذا بطاعتك وعملك الحسن ازداد سروره، وكان تهنئة له. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)﴾، وقوله: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
٢٣ - ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿الْقُرْآنَ﴾ الكريم ﴿تَنْزِيلًا﴾ متكررًا متفرّقًا آية بعد آية منجّمًا لحكم بالغة مقتضية تخصيص كلّ شيء بوقت معيّن، لا غيرنا كما يعرب عنه تكرير الضمير مع ﴿إنّ﴾، فكأنه تعالى يقول: إنّ هؤلاء الكفّار يقولون: إنّ ذلك كهانة وسحر، فأنا الملك الحقّ أقول على سبيل التأكيد: إنّ ذلك وحي حقّ وتنزيل صدق من عندي، فلا تكترث بطعنهم، فإنّك أنت النبيّ الصادق المصدّق.
والمقصود من ذلك (٢): تثبيت قلب الرسول - ﷺ - وشرح صدره، وإنّ الذي أنزله إليه وحي منه لا كهانة، ولا سحر لتزول تلك الوحشة التي حصلت له من قول الكفار: إنه سحر أو كهانة أو شعر.
والمعنى (٣): أي إنا أنزلنا عليك القرآن مفرّقًا منجمًا في مدى ثلاث وعشرين سنة، ليكون أسهل لحفظه وتفهمه ودراسته، ولتكون الأحكام آتية وفق الحوادث التي تجد في الكون، فتكون تثبيتًا لإيمان المؤمنين، وزيادة في تقوى المتقين. وقد يكون المعنى: نزّلنا عليك، ولم تأت به من عندك كما يدّعيه المشركون، ويراد من ذلك تثبيت قلب رسوله - ﷺ - وشرح صدره، وأن الذي أنزل عليه وحي لا كهانة كما مرّ.
٢٤ - ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾؛ أي: فاصبر لما ابتلاك به ربّك وامتحنك به من تأخير
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من الكفّار ﴿آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾؛ أي: (١) لا تطع كلا من مرتكب الإثم والمتجاوز الحد في الكفر، فإذا قال لك الآثم كعتبة بن ربيعة: اترك الصلاة، وأنا أزوّجك ابنتي وأسوقها إليك بلا مهر، أو قال الكفور كالوليد بن المغيرة: أنا أعطيك من المال حتى ترضى إذا رجعت عن هذا الأمر. فلا تطع واحدًا منهما ولا من غيرهما، فقد وعدناك النصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
وقصارى ذلك: لا تتبع أحدًا من الآثمين إذا دعاك إلى الإثم، ولا أحدًا من الكافرين إذا دعاك إلى الكفر. وهذا ما يفهم من قولك: لا تطع الظالم من أنّ المعنى: لا تتبعه في الظلم إذا دعاك إليه.
وقد روي: أنّ عتبة بن ربيعة قال للنبي - ﷺ -: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ابنتي، وأسوقها إليك بلا مهر، فإني من أجمل قريش ولدًا. وقال الوليد أنا أعطيك من مالي حتى ترضى، فإني من أكثرهم مالًا وارجع عن هذا الأمر؛ أي: عن ذكر النبوة. فقرأ عليهما رسول الله - ﷺ - عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣)﴾. فانصرفا عنه، وقال أحدهما: ظننت أنّ الكعبة ستقع عليّ.
ونهيه - ﷺ - عن طاعة الآثم والكفور، وهو لا يطيع واحدًا منهما إشارة إلى أنَّ الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد، لما ركب في طباعهم من الشهوة الداعية إلى اجتراح السيئات، وأنّ أحدًا لو استغنى عن توفيق الله وإرشاده لكان أحق الناس بذلك هو الرسول المعصوم، ومن ثم وجب على كل مسلم أن يرغب إلى الله، وبتضرع إليه في أن يصونه من اتّباع الشهوات، ويعصمه عن ارتكاب المحرمات لينجو من الآفات ويسلم من الزلات، ليلقى ربه أبيض الصحائف من السيئات.
و ﴿أَوْ﴾ (٢) لأحد الشيئين والتسوية بينهما، فإذا قلت في الإثبات: جالس
(٢) روح البيان.
٢٥ - ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً﴾؛ أي: أوَّل النهار، ﴿وَأَصِيلًا﴾؛ أي: عشيًّا، وهو آخر النهار؛ أي: وداوم على ذكره في جميع الأوقات، فالمراد بقوله: ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ الدوام؛ لأنّه - ﷺ - كان آتيًا بنفس الذكر المأمور به. وقيل المعنى: صلّ لربّك أوّل النهار وآخره، فأوّل النهار صلاة الصبح، وآخره صلاة العصر.
٢٦ - ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾؛ أي: وفي بعض ساعات الليل ﴿فَاسْجُدْ لَهُ﴾؛ أي: فصلّ له من غير تعيين للصلاة. وقيل: صل المغرب والعشاء. وتقديم (١) الظرف للاهتمام لما في صلاة الليل من مزيد كلفة وخلوص وأفضل الأعمال أشقّها وأخلصها من الرياء، فاستحقت الاهتمام بشأنها، وقدم وقتها لذلك. ثم الفاء لإفادة معنى الشرط، كأنّه قال: مهما يكن من شيء فاسجد له. ففيها وكادة أخرى لأمرها.
﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾؛ أي: صلّ له صلاة التهجّد، لأنّه كان واجبًا عليه في طائفة طويلة من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه. قال ابن زيد وغيره: إنّ هذه الآية
قلت: ظاهر أن توصيف الليل بالطول ليس للاحتراز عن القصير، فإن الأمر بالتهجد يتناوله أيضًا، فهو لتطويل زمان التسبيح. وفي التعبير في التهجد بالتسبيح وتأخير ظرفه دلالة على أنه ليس في مرتبة ما قبله.
وقيل المعنى (١): نزّهه عمّا لا يليق به، فيكون المراد الذكر بالتسبيح سواء كان في الصلاة أو في غيرها. وحاصل المعنى ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٢٥)﴾؛ أي: ودم على ذكره في جميع الأوقات بقلبك ولسانك. ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾؛ أي: وصل بعض الليل كصلاة المغرب والعشاء. ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾؛ أي: وتهجّد له طائفة من الليل. ونحو هذا ما جاء في قوله: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (٧٩)﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤)﴾.
٢٧ - ثم قال منكرًا على الكفّار وأشباههم حبّ الدنيا والإقبال عليها وترك الآخرة وراءهم ظهريًّا بعدما شرح صدره - ﷺ - بما ذكر من قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾ إلخ. ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾؛ أي: كفّار مكة ومن وافقهم في دينهم ﴿تُحِبُّونَ﴾ الدار ﴿الْعَاجِلَةَ﴾ الفانية، وينهمكون في لذّاتها، يعني: الدنيا. فهو الحامل لهم على الكفر والإعراض عن الاتّباع، لا اشتباه الحال عليهم. ﴿وَيَذَرُونَ﴾؛ أي: يتركون ﴿وَرَآءَهمُ﴾؛ أي: أمامهم لا يستعدّون. فهو (٢) حال من ﴿يَوْمًا﴾ أو ينبذون وراء ظهورهم، فهو ظرف لـ ﴿يذرون﴾، فـ ﴿وراء﴾ يستعمل في كلّ من أمام وخلف، والظاهر في وجه الاستعمالين: أن وراء اسم للجهة المتوارية؛ أي: المستترة المختفية عنك، واستتار جهة الخلف عنك ظاهر. وما في جهة الأمام قد يكون متواريًا عنك غير مشاهد ومعاين لك، فيشبه جهة الخلف في ذلك فيستعار له اسم الوراء. ﴿يَوْمًا ثَقِيلًا﴾؛ أي: شديدًا؛ أي: يتركون ويدعون خلفهم، أو أمامهم يومًا شديدًا عسيرًا، وهو يوم
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أنَّ هؤلاء المشركين بالله يحبون الدنيا وتعجبهم زينتها، وينهمكون في لذّاتها الفانية، ويدعون خلف ظهورهم العمل لليوم الآخر وما لهم فيه النجاة من أهواله وشدائده.
والخلاصة: لا تطع الكافرين، واشتغل بالعبادة؛ لأنّ هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا، فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة.
٢٨ - ثم نعى عليهم تركهم للعبادة وغفلتهم عن طاعة بارئهم وموجدهم من العدم فقال: ﴿نَحْنُ﴾ لا غيرنا ﴿خَلَقْنَاهُمْ﴾؛ أي: ابتدأنا خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى أن كمل خلقهم، ولم يكن لغيرنا في ذلك عمل ولا سعي لا اشتراكًا ولا استقلالًا. ﴿وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾؛ أي: قوينا ربط مفاصلهم بالأعصاب؛ أي: شددنا أوصالهم ومفاصلهم، وربطنا بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب، ليتمكنوا بذلك من القيام والقعود والأخذ والدفع والحركة. وحق الخالق المنعم أن يشكر ولا يكفر. ففيه ترغيب. والأسر: الربط، ومنه: أسر الرجل إذا أوثق بالقد، وقدر المضاف وهو المفاصل. وقال الراغب: فيه إشارة إلى الحكمة في تركيب الإنسان المأمور بتدبر نفسه وتأملها في قوله تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١)﴾. وقيل المعنى: شددنا مخرج البول والغائط إذا خرج الأذى انقبض، أو معناه: أنه لا يسترخي قبل الإرادة.
والمعنى: أي كيف يغفلون عنَّا، ونحن الذين خلقناهم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالعروق والأعصاب، أفبعد هذا نتركهم سدى؟.
وقد جرت سنّة الله سبحانه بأن يزيل ما لا يصلح للرقي من خلقه، فهو يهلك هؤلاء ويبدل أمثالهم، فيجعلهم مكانهم كما هي قاعدة بقاء الصلاح والأصلح واهلاك ما لا يصلح للبقاء. والتبديل (١) يتعدى إلى مفعولين غالبًا كقوله تعالى: ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾؛ أي: يذهب بها ويأتي بدلها بحسنات.
وقوله: ﴿تَبْدِيلًا﴾ مصدر مؤكّد لعامله.
والمعنى: أي وإذا شئنا.. بدّلنا غيرهم ممن يطيع كقوله تعالى: ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾. ففيه ترهيب، فالمثلية باعتبار الصورة، ولا ينافيها الغيريّة باعتبار العمل والطاعة. و ﴿إِذَا﴾ للدلالة على تحقّق القدرة وقوة الداعية، وإلّا فالمناسب (إن)، إذ لا تحقق لهذا التبديل. أو المعنى ﴿تَبْدِيلًا﴾ عجيبًا لا ريب فيه، وهو البعث، كما ينبىء عنه كلمة ﴿إِذَا﴾، فالمثلية في النشأة الأخرى إنما هي في شدّة الأسر وباعتبار الأجزاء الأصلية، ولا ينافيها الغيرية بحسب العوارض كاللطافة والكثافة.
٢٩ - وبعد أن ذكر أحوال السعداء والأشقياء أرشد إلى أنَّ في هذا الذكر تذكرةً وموعظةً للخلق وفوائد جمّة لمن ألقى سمعه وأحضر قلبه، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه. فقال: ﴿إنَّ هَذِهِ﴾ إشارة إلى السورة أو الآيات القريبة ﴿تَذْكِرَةٌ﴾؛ أي: عظة مذكرة لما لا بد منه في تحصيل السعادة الأبديّة جعلت عين التذكرة مبالغة. وفي "عين المعاني": تذكرة؛ أي: إذكار بما غفلت عنه عقولهم. ﴿فَمَنْ شَاءَ﴾ منكم ومن غيركم أن يتخذ إليه تعالى سبيلًا؛ أي: وسيلةً توصله إلى ثوابه. ﴿اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾؛ أي: تقرب إليه تعالى بالعمل بما في تضاعيف هذه السورة أو الآيات القريبة. وقال ابن الشيخ: فمن شاء النجاة من ثقل ذلك اليوم وشدّته اختار سبيلًا مقرّبًا إلى مرضاة ربّه، وهو الطاعة.
٣٠ - ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ تحقيق (٢) للحقّ ببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في اتخاذ السبيل، كما هو المفهوم من ظاهر الشرطية، و ﴿أَن﴾ مع الفعل في حكم المصدر الصريح في قيامه مقام الظرف.
والمعنى: وما تشاؤون اتخاذ السبيل الموصلة إلى النجاة، ولا تقدرون على تحصيلها في وقت من الأوقات إلّا وقت مشيئته تعالى تحصيلها لكم؛ أي: إلا إذا وفّقكم الله سبحانه لاكتسابها، وأعدّكم لنيلها إذ لا دخل لمشيئة العبد إلا في الكسب، وإنّما التأثير والخلق لمشيئة الله تعالى، فمشيئة العبد وحدها لا تأتي بخير ولا تدفع شرًّا، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة، ويؤجر على قصد الخير، كما في حديث "إنما الأعمال بالنيات وإنّما لكل امرىء ما نوى".
غاية ما في الباب أن المشيئة ليست من الأفعال الاختيارية للعبد، بل هي متوقّفة على أن يشاء الله إيّاها. وذلك لا ينافي كون الفعل الذي تعلقت به مشيئة العبد اختياريًا له واقعًا بمشيئته، وإن لم تكن مشيئته مستقلة فيه. قال في "عين المعاني": قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ﴾ إلخ، حجة تكليف العبوديّة. وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ﴾ إلخ، إظهار قهر الألوهية.
وقرأ العربيان (٣): أبو عمرو وابن عامر، وابن كثير ﴿وما يشاءون﴾ بياء الغيبة. وباقي السبعة بتاء الخطاب. قال الزمخشري: فإن قلت: ما محل ﴿أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾؟
قلت: النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله تعالى. وكذلك قرأ ابن مسعود ﴿إلا ما يشاء الله﴾ لأنَّ ﴿ما﴾ مع الفعل كأن معه انتهى، وفيه خلاف.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾؛ أي: إن الله عليم بمن يستحقّ الهداية، فييسرها له ويقيض له أسبابها، ومن هو أهل للغواية فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
٣١ - ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ فيهديه ويوفّقه للطاعة بحسب استعداده. وهذا بيان لأحكام مشيئته المرتبة على علمه وحكمته؛ أي: يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها، وهو الذي يصرّف مشيئته نحو اتخاذ السبيل إليه تعالى حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة.
﴿وَالظَّالِمِينَ﴾ وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى خلاف ما ذكر؛ أي: والذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، فماتوا على شركهم ﴿أَعَدَّ لَهُمْ﴾؛ أي: هيّأ لهم في الآخرة ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾؛ أي: متناهيًا غاية الإيلام؛ أي: عذابًا مؤلمًا موجعًا، هو عذاب جهنم وبئس المصير.
قال الزجاج: نصب ﴿الظالمين﴾ لأنّ ما قبله منصوب؛ أي: يدخل من يشاء في رحمته ويعذّب الظالمين، ويكون ﴿أَعَدَّ لَهُمْ﴾ تفسيرًا لهذا المضمر. وختم (٢) الله سبحانه السورة بالعذاب المعدّ يوم البعث والحشر ففيه حسن الاختتام لموافقته الابتداء على ما لا يخفى على أهل العقل والفهم.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَالظَّالِمِينَ﴾ نصبًا بإضمار فعل يفسّره قوله: ﴿أَعَدَّ لَهُمْ﴾ تقديره: ويعذّب الظالمين، وهو من باب الاشتغال عطف جملة فعلية على جملة فعلية. وقرأ ابن الزبير، وأبان بن عثمان، وابن أبي عبلة ﴿والظالمون﴾ عطف جملة اسمية على فعلية، وهو جائز حسن. وقرأ عبد الله ﴿وللظالمين﴾ بلام الجرّ، وهو متعلق بـ ﴿أعدّ﴾ لهم توكيدًا، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال، ويقدّر فعل يفسره الفعل الذي بعده، فيكون التقدير: وأعدّ للظالمين، وأعدَّ لهم. وهذا مذهب الجمهور، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو، فتقول: يزيد مررت به، ويكون التقدير: مررت يزيد مررت به، ويكون من باب الاشتغال، والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخّر، وما أشبهه من جهة المعنى فعلًا ماضيًا.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣)﴾.
﴿هَلْ﴾ هنا بمعنى قد التحقيقية، فليست للاستفهام؛ لأنّ الاستفهام محال على الله تعالى. وقيل: للاستفهام التقريري، والجواب مقدّر، تقديره: نعم. ﴿أَتَى﴾ فعل ماض، ﴿عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ متعلق به، ﴿حِينٌ﴾ فاعل، ﴿مِنَ الدَّهْرِ﴾ صفة لـ ﴿حِينٌ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿لَمْ﴾ حرف نفي وجزم، ﴿يَكُنْ﴾ فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿الْإِنْسَانِ﴾، ﴿شَيْئًا﴾ خبرها، ﴿مَذْكُورًا﴾ صفة ﴿شَيْئًا﴾، وجملة ﴿يَكُنْ﴾ في محل النصب حال من الإنسان، أي: حال كونه غير مذكور، أو في محل الرفع صفة لـ ﴿حِينٌ﴾ كقوله: ﴿يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ﴾. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿خَلَقْنَا﴾، ﴿أَمْشَاجٍ﴾ نعت لـ ﴿نُطْفَةٍ﴾، وجملة ﴿خَلَقْنَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لبيان كيفية خلق الإنسان ﴿نَبْتَلِيهِ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿خَلَقْنَا﴾؛ أي: خلقناه حال كوننا مبتلين له، أو حال من ﴿الْإِنْسَانَ﴾، وصحّ ذلك لأنّ في الجملة ضميرين كلّ منهما يعود على صاحب الحال. ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنةً إن كان المعنى: نبتليه بتصريفه في بطن أمّه نطفةً ثم علقةً، وأن تكون مقدرة إن كان المعنى ﴿نَبْتَلِيهِ﴾ نختبره بالتكليف؛ لأنه وقت خلقه غير مكلف. ﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾ الفاء: عاطفة للترتيب مع التعقيب، ﴿جعلناه﴾ فعل وفاعل ومفعول أوّل، معطوف على ﴿خَلَقْنَا﴾، ﴿سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ مفعول به ثان وقد نزلت الكلمتان منزلة الكلمة الواحدة؛ لأنهما كناية عن التمييز والفهم، إذ آلتهما سبب لذلك، وهما أشرف الحواس تدرك بهما أعظم المدركات. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿هَدَيْنَاهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾ وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الابتلاء، ﴿السَّبِيلَ﴾ مفعول به ثان لـ ﴿هدينا﴾، أو في محل نصب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿هدينا﴾. ﴿إِمَّا﴾ حرف تفصيل، ﴿شَاكِرًا﴾ حال من الهاء في ﴿هَدَيْنَاهُ﴾،
﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ أَعْتَدْنَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (٤) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (٥) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (٦)﴾.
﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿أَعْتَدْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾ وجملة ﴿إنّ﴾ جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب، مسوقة لتعليل ما قبلها أيضًا، ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ متعلق بـ ﴿أَعْتَدْنَا﴾، ﴿سَلَاسِلَ﴾ مفعول به، ومنع من الصرف، لأنّه على صيغة مفاعل، وقرىء بالصرف للمناسبة مع ﴿أَغْلَالًا﴾، وهما قراءتان سبعيتان، كما سبق. ﴿وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ معطوفان على ﴿سَلَاسِلَ﴾. ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يَشْرَبُونَ﴾ خبرها، ﴿مِنْ كأَسٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَشْرَبُونَ﴾، ومفعول ﴿يَشْرَبُونَ﴾ محذوف؛ أي: خمرًا من كأس، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الجرّ صفة لـ ﴿كأَسٍ﴾، ﴿عَيْنًا﴾ بدل من ﴿كَافُورًا﴾، أو من محل ﴿مِنْ كأَسٍ﴾، أو مفعول ﴿يَشْرَبُونَ﴾ أو منصوب على الاختصاص، وقيل: غير ذلك. وجملة ﴿يَشْرَبُ﴾ صفة لـ ﴿عَيْنًا﴾، ﴿بِهَا﴾ متعلق بـ ﴿يشَرَبُ﴾، ﴿عِبَادُ اللَّهِ﴾ فاعل ﴿يشَرَبُ﴾ ﴿يُفَجِّرُونَهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول به، ﴿تَفْجِيرًا﴾ مفعول مطلق والجملة في محل النصب حال من ﴿عِبَادُ اللَّهِ﴾.
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨)﴾.
﴿يُوفُونَ﴾ فعل وفاعل، ﴿بِالنَّذْرِ﴾ متعلق بـ ﴿يُوفُونَ﴾، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا كأنه قيل: بم استحقوا ذلك النعيم؟ فقيل: ﴿يُوفُونَ﴾ إلخ. ﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا﴾ فعل وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿يُوفُونَ﴾، ﴿كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿يَوْمًا﴾. ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿يُوفُونَ﴾، ﴿عَلَى﴾ حرف جر بمعنى مع، ﴿حُبِّهِ﴾ مجرور بـ ﴿عَلَى﴾ الجار والمجرور حال من فاعل ﴿يطعمون﴾؛ أي: حال كونهم محبين له، وهو مصدر مضاف إلى المفعول، والضمير لـ ﴿الطَّعَامَ﴾ كما مرّ. ﴿مِسْكِينًا﴾ مفعول
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (٩) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (١٠) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (١١) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (١٢)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾ كافّ ومكفوف، ﴿نُطْعِمُكُمْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿نُطْعِمُكُمْ﴾، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الإطعام، ﴿لَا﴾ نافية، ﴿نُرِيدُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر، ﴿مِنْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿نُرِيدُ﴾، ﴿جَزَاءً﴾ مفعول به، ﴿وَلَا شُكُورًا﴾ معطوف عليه، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿نُطْعِمُكُمْ﴾. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿نَخَافُ﴾ خبره، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ﴾. ﴿مِنْ رَبِّنَا﴾ متعلق بـ ﴿نَخَافُ﴾، ﴿يَوْمًا﴾ مفعول به، ﴿عَبُوسًا﴾ نعت ﴿يَوْمًا﴾، ﴿قَمْطَرِيرًا﴾ نعت ثان لـ ﴿يَوْمًا﴾، ﴿فَوَقَاهُمُ﴾ الفاء: عاطفة سببية، ﴿وقاهم الله﴾ فعل ماض ومفعول مقدم، وفاعل مؤخّر، ﴿شَرَّ﴾ مفعول ثان، ﴿ذَلِكَ﴾ مضاف إليه، ﴿الْيَوْمِ﴾ بدل من اسم الإشارة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿إنّ﴾ عطف مسبب على سبب؛ أي: فبسبب خوفهم وقاهم الله إلخ. ﴿وَلَقَّاهُمْ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿وقاهم﴾، ﴿نَضْرَةً﴾ مفعول به ثان، ﴿وَسُرُورًا﴾ معطوف على ﴿نَضْرَةً﴾، ﴿وَجَزَاهُمْ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿وقاهم﴾ أيضًا، ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿جزاهم﴾، و ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: بسبب صبرهم، ﴿صَبَرُوا﴾ فعل وفاعل و ﴿ما﴾ وما بعدها في محل جر بالإضافة ﴿جَنَّةً﴾ مفعول به ثان، ﴿وَحَرِيرًا﴾ معطوف على ﴿جَنَّةً﴾.
﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (١٣) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (١٤) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (١٦)﴾.
﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال من مفعول ﴿جزاهم﴾، ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ متعلق بـ ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، وجملة ﴿لَا يَرَوْنَ﴾ حال ثانية من مفعول ﴿جزاهم﴾، ولك أن تجعلها حالًا من الضمير في ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿يَرَوْنَ﴾، ﴿شَمْسًا﴾ مفعول به لـ ﴿يَرَوْنَ﴾، والرؤية بصرية تتعدّى إلى مفعول واحد، ﴿وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ معطوف على ﴿شَمْسًا﴾، ﴿وَدَانِيَةً﴾ معطوف على ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، ودخلت الواو للدلالة على أنّ الأمرين يجتمعان
﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (١٧) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (١٩) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (٢٠)﴾.
﴿وَيُسْقَوْنَ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة، والواو: نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يطاف﴾، ﴿فِيَها﴾ متعلق بـ ﴿يسقون﴾، ﴿كَأْسًا﴾ مفعول به ثان، ﴿كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة ﴿كَانَ﴾ صفة لـ ﴿كَأْسًا﴾، ﴿عَيْنًا﴾ بدل من ﴿كَأْسًا﴾ أو منصوب على الاختصاص، ﴿فِيهَا﴾ صفة لـ ﴿عَيْنًا﴾ وجملة ﴿تُسَمَّى﴾ نعت ثان لـ ﴿عَيْنًا﴾، ﴿تُسَمَّى﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة، ونائب فاعل مستتر، تقديره: هي، يعود على ﴿عَيْنًا﴾، ﴿سَلْسَبِيلًا﴾ مفعول به ثان لـ ﴿تُسَمَّى﴾. ﴿وَيَطُوفُ﴾ فعل مضارع معلوم، معطوف على ما قبله، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يطوف﴾، ﴿وِلْدَانٌ﴾ فاعل، ﴿مُخَلَّدُونَ﴾ نعت لـ ﴿وِلْدَانٌ﴾، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، متعلق بالجواب الآتي، ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجرّ بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، ﴿حَسِبْتَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول
﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (٢١) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (٢٢)﴾.
﴿عَالِيَهُمْ﴾ ظرف مكان بمعنى فوقهم، منصوب على الظرفية، متعلق بمحذوف خبر مقدم، ﴿ثِيَابُ سُنْدُسٍ﴾ مبتدأ مؤخّر، ومضاف إليه، ﴿خُضْرٌ﴾ صفة لـ ﴿ثِيَابُ﴾، ﴿وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ معطوف على ﴿ثِيَابُ﴾ على حذف مضاف؛ أي: ثياب استبرق. والجملة في محل النصب صفة بعد صفة لـ ﴿وِلْدَانٌ﴾. وقيل: ﴿عَلَيْهِمْ﴾ حال من الضمير في قوله: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾، ﴿ثِيَابُ سُندُسٍ﴾ فاعل لـ ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: ويطوف عليهم ولدان حال كونهم عاليًا للمطوف عليهم ثياب سندس. أو حال من الهاء في ﴿حَسِبْتَهُمْ﴾؛ أي: حسبتهم لؤلؤًا عاليًا لهم ثياب سندس إلخ. وهنا أوجه واختلاف بين المعربين فراجع المطولات. ﴿وَحُلُّوا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿حلوا﴾ فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾. وجاز عطف الماضي على المضارع، لأنّه مستقبل المعنى، وللإيذان بتحققه؛ لأنه بمعنى يحلون. ﴿أَسَاوِرَ﴾ مفعول به، ﴿مِنْ فِضَّةٍ﴾ صفة لـ ﴿أَسَاوِرَ﴾، ﴿وَسَقَاهُمْ﴾ فعل ومفعول به، معطوف على ﴿حلوا﴾، ﴿رَبُّهُمْ﴾ فاعل، ﴿شَرَابًا﴾ مفعول به ثان لـ ﴿سقاهم﴾، و ﴿طَهُورًا﴾ نعت ﴿شَرَابًا﴾. ﴿إنَّ هَذَا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانَ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مقول لقول محذوف تقديره: ويقال لأهل الجنة: إن هذا كان لكم جزاءً إلخ. واسم ﴿كَانَ﴾ ضمير يعود على ﴿هَذَا﴾ تقديره: هو ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿جَزَاءً﴾،
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (٢٦)﴾.
﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿نَحْنُ﴾ تأكيد لاسم ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿نَزَّلْنَا﴾ من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر ﴿إِنَّا﴾، ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿نَزَّلْنَا﴾، و ﴿الْقُرْآنَ﴾ مفعول به، ﴿تَنْزِيلًا﴾ مفعول مطلق، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ولك أن تجعل ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿نَزَّلْنَا﴾ خبره، والجملة خبر ﴿إنّ﴾. ﴿فَاصْبِرْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك. اصبر. ﴿اصبر﴾ فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ متعلق بـ ﴿اصبر﴾. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَا﴾ ناهية جازمة، ﴿تُطِعْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة معطوفة على جملة ﴿اصبر﴾، ﴿مِنْهُمْ﴾ حال من ﴿آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾، ﴿آثِمًا﴾ مفعول به، ﴿أَوْ﴾ حرف عطف، ﴿كَفُورًا﴾ معطوف على ﴿آثِمًا﴾. وإنما جنح إلى ﴿أو﴾ دون الواو لإفهام النهي عن طاعتهما معًا. ﴿وَاذْكُر﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على فـ ﴿اصبر﴾، ﴿اسْمَ رَبِّكَ﴾ مفعول به ومضاف إليه، ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ ظرفان متعلقان بـ ﴿اذكر﴾، والمراد الدوام على الصلاة في أوقاتها. ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾ متعلق بـ ﴿اسجد﴾، و ﴿مِنْ﴾ للتبعيض؛ أي: اسجد وصلّ له بعض الليل، ﴿فَاسْجُدْ﴾ الفاء رابطة لجواب الشرط المقدر تقديره: ومهما يكن من شيء فاسجد له. ﴿اسجد﴾ فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿اسجد﴾، وجملة ﴿اسجد﴾ في محل الجزم جواب الشرط المقدر، وجملة الشرط معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاصْبِرْ﴾. ﴿وَسَبِّحْهُ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿فَاصْبِرْ﴾، ﴿لَيْلًا﴾ ظرف متعلق بـ ﴿سبحه﴾، ﴿طَوِيلًا﴾ صفة ﴿لَيْلًا﴾.
{إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (٢٧) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (٢٨) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٢٩)
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿هَؤُلَاءِ﴾ اسمها، ﴿يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها من الأمر والنهي. ﴿وَيَذَرُونَ﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿يُحِبُّونَ﴾، ﴿وَرَاءَهُمْ﴾ ظرف مكان بمعنى قدّام وأمام، متعلق بمحذوف حال من ﴿يَوْمًا﴾، و ﴿يَوْمًا﴾ مفعول به ﴿ثَقِيلًا﴾ صفة ﴿يَوْمًا﴾، ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿خَلَقْنَاهُمْ﴾ خبره، والجملة مستأنفة. ﴿وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿خَلَقْنَاهُمْ﴾. ﴿وَإِذَا شِئْنَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿شِئْنَا﴾ فعل وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: تبديلهم، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه، ﴿تَبْدِيلًا﴾ مفعول مطلق، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ﴾. ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة. ﴿فَمَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿شِئْنَا﴾ فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿اتَّخَذَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جواب الشرط لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إن﴾ ﴿إِلَى رَبِّهِ﴾ متعلق بـ ﴿اتَّخَذَ﴾، وهو في موضع المفعول الثاني لـ ﴿اتَّخَذَ﴾، ﴿سَبِيلًا﴾ مفعول أول لـ ﴿اتَّخَذَ﴾، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾ نافية، ﴿تَشَاءُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية، ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: وما تشاؤون الطاعة. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء من أعمّ الظروف، أو أعمّ الأحوال، ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿يَشَاءَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، منصوب بـ ﴿أنْ﴾ المصدرية، وجملة ﴿أن﴾ المصدرية مع ما في حيّزها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه، والتقدير: وما تشاؤون في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله، أو بإضافة الحال إليه؛ أي: وما تشاؤون في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله تعالى. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانَ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿كَانَ﴾ فعل
التصريف ومفردات اللغة
﴿حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ الحين: زمان مطلق، ووقت مبهم يصلح لجميع الأزمان طال أو قصر. وفي "المفردات": الحين: وقت بلوغ الشيء وحصوله، وهو مبهم، ويتخصّص بالمضاف إليه نحو: ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾. ﴿الدَّهْرِ﴾ الزمان الطويل. ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾؛ أي: من مادّة، هي شيء يسير جدًّا من الرجل والمرأة، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة اهـ خطيب. وفي "المصباح": نطف الماء ينطف من باب قتل: سأل. وقال أبو زيد: نطفت القربة وتنطف وتنطف من بأبي: ضرب ونصر نطيفًا إذا قطرت من وهي. والنطفة: ماء الرجل والمرأة، وجمعها نطف ونطاف، مثل: برمةٍ وبرم وبرام. والنطفة أيضًا: الماء الصافي قل أو كثر، ولا فعل للنطفة؛ أي: لا يستعمل لها فعل من لفظها اهـ.
﴿أَمْشَاجٍ﴾؛ أي: أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين. جمع مشج كسبب وأسباب أو ككتف وأكتاف أو كعدلٍ وأعدال. أو جمع مشيج كشريف وأشراف. ووقع الجمع صفة لمفرد؛ لأنّه في معنى الجمع، أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فاعتبر ذلك، فوصف بالجمع. وفي "المختار": مشج بينهما: خلط، وبابه: ضرب، والشيء مشيج، والجمع أمشاج كيتيم وأيتام، ويقال: نطفة أمشاج لماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها، وعبارة الزمخشري: نطفة أمشاج كبرمة أعشار وبرد أكباشٍ، وهي ألفاظ مفردة غير جموع، ولذلك وقعت صفة للأفراد اهـ. وفي "القرطبي" والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماءان، وكل منهما
﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ قال الراغب: الكفور يقال في كافر النعمة وكافر الدين. ﴿سَلَاسِلَ﴾ جمع سلسلة بكسر أوّله، وفي "القاموس". السلسلة بالفتح: إيصال الشيء بالشيء، وبالكسر: دائرة من حديد ونحوه ﴿وَأَغْلَالًا﴾ جمع غلّ بالضمّ، وهو ما تطوق به الرقبة للتعذيب. ﴿إِنَّ الْأَبْرَار﴾ جمع برّ كربّ وأرباب، أو جمع بارّ كشاهد وأشهاد، وهو من يبر خالقه؛ أي: يطيعه، يقال: بررته أبره كعلمته وضربته. وفي "المفردات": البر خلاف البحر، وتصور منه التوسح، فاشتقّ منه البر؛ أي: التوسع في فعل الخير، وبر العبد ربه: توسع في طاعته. ﴿كَانَ مِزَاجُهَا﴾ يقال: مزج الشراب: خله، ومزاج البدن: ما يمازجه من الصفراء والسوداء والبلغم والدم والكيفيات المناسبة لكلّ منها. ﴿كَافُورًا﴾ والكافور: طيب معروف يطيب به الأكفان والأموات لطيب رائحته. واشتقاقه من الكفر، وهو الستر؛ لأنّه يغطي الأشياء برائحته، وفي "القاموس": الكافور: طيب معروف يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين، يظل خلقًا كثيرًا؛ وتألفه النمورة، وخشبه أبيض انتهى. والكافور أيضًا: كمام الشجر التي تغطي ثمرتها. ﴿عَيْنًا﴾ والعين الجارية، ويقال لمنبع الماء تشبيهًا بها في الهيئة وفي سيلان الماء فيها. ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْر﴾ والإيفاء بالشيء: هو الإتيان به تامًّا وافيًا. والنذر: التزام قربة ليست واجبة في أصل الشرع تقرّبًا إلى الله تعالى. وأصل ﴿يُوفُونَ﴾ يوفيون بوزن يفعلون، استثقلت الضمّة على الياء، فحذفت فلما سكنت التقى ساكنان فحذفت الياء وضمّت الفاء لمناسبة الواو.
﴿وَيَخَافُونَ﴾ أصله: يخوفون بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى الخاء فسكنت، لكنّها أبدلت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. ﴿مُسْتَطِيرًا﴾ قال في "القاموس" المستطير: الساطع المنتشر، يقال: استطار الفجر إذا انتشر، وهو أبلغ من طار كاستغفر من غفر، وأصله: مستطير بوزن مستفعل، نقلت حركة الياء إلى الطاء، فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مدّ. وفي السمين: قوله: ﴿كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ المستطير: المنتشر، يقال: استطار يستطير استطارة فهو مستطير، وهو استفعل من الطيران.
﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾ أصله جزيهم بوزن فعل. قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ جمع أريكة، والهمزة فيه مبدلة من الياء الموجودة في المفرد المؤنث حيث وقعت حرف مد ثالثًا زائدًا. ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا﴾ أصله: يرأيون، نقلت حركة الهمزة إلى الراء ثم حذفت وقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت لالتقاء الساكنين الألف وواو الجماعة. ﴿شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ والزمهرير: شدّة البرد، وازمهر اليوم: اشتد برده. ﴿وَدَانِيَةً﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: دانوة من الدنوّ، قلبت الواو ياء لتطرّفها إثر كسرة. ﴿ظِلَالُهَا﴾ والظلال جمع ظل بالكسر، نقيض الضّحّ. ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾ جمع قطف بكسر القاف وسكون الطاء بمعنى العنقود، يقال: قطفت العنب إذا قطعت عنقوده، وسمي العنقود قطفًا لأنّه يقطف ويقطع وقت الإدراك.
﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ﴾ من طاف يطوف طوفًا وطوافًا وطوفانًا إذا دار. أصله: يطوف بوزن يفعل مبنيًّا للمجهول، نقلت حركة الواو إلى الطاء، فسكنت لكنها أبدلت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. ﴿بِآنِيَةٍ﴾؛ أي: بأوعية، جمع إناء، والأواني جمع الجمع. وأصل ﴿آنية﴾ أأنية بوزن أفعلة بهمزتين، الأولى منهما مزيدة للجمع، والثانية فاء الكلمة، فقلبت الثانية ألفًا وجوبًا، نظيره من معتل اللام: كساء وأكسية وغطاء وأغطية، ومن صحيح اللام: حمار وأحمرة اهـ سمين. ﴿وَأَكْوَابٍ﴾ جمع كوب، وهو الكوز العظيم المدور الذي لا أذن له ولا عروة كما مرّ. {كَانَتْ
﴿وَيُسْقَوْنَ﴾ أصلها: يسقيون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. ﴿زَنْجَبِيلًا﴾ والزنجبيل عرق يسري في الأرض، ونباته كالقصب كما مر. ﴿تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ أصل ﴿تُسَمَّى﴾ تسمي بوزن تفعل قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. والسلسبيل: ما سهل انحداره في الحلق للذة طعمه وطيب رائحته وصفاء لونه. قال في "الكواشي": هو لفظ مفرد بوزن فعلليل كدردبيس، وقيل: وزنه فعفليل؛ لأن الفاء مكررة، وهو اسم أعجمي نكرة، فلذلك صرف. ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾ أصله: يطوف بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت إثر ضمّة فصارت حرف مدّ. ﴿وِلْدَانٌ﴾ جمع وليد، وهو من قرب عهده بالولادة كما مرّ. ﴿لُؤْلُؤًا﴾ يجمع على اللآلىء يقال: تلألأ الشيء إذا لمع لمعان اللؤلؤ. ﴿وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ والملك بالضمّ: هو التصرف في المأمورين بالأمر والنهي، ومنه: الملك. وأمّا الملك بالكسر فهو التصرف في الأعيان المملوكة بحسب المشيئة، ومنه: المالك.
﴿عَالِيَهُمْ﴾ قرىء بفتح الياء على أنه ظرف بمعنى فوقهم، والياء فيه منقلبة عن واو لتطرّفها إثر كسرة. وقرىء ﴿عاليهم﴾ بإسكان الياء، ويقال فيه أيضًا قلبت الواو ياء؛ لأنّه من العلو، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة ثم سكنت وصارت حرف مدّ. ﴿ثِيَابُ﴾ الياء فيه مبدلة من واو لوقوعها إثر كسرة ﴿سُنْدُسٍ﴾ وهو ما رق من الحرير، فهو البطائن جمع بطانة. ﴿وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ وهو ما غلظ من الحرير، وهو الظهائر جمع ظهارة. ﴿وَحُلُّوا﴾ أصله: وحليوا بوزن فعلوا، استثقلت الضمّة على الياء فحذفت فلمّا سكنت حذفت لالتقاء الساكنين، وضمّت اللام لمناسبة الواو. ﴿وَسَقَاهُمْ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: سقيهم بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿كَانَ لَكُمْ جَزَاءً﴾ الهمزة فيه مبدلة من ياء، أصله: جزاي أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿وَلَا تُطِعْ﴾ أصله: تطوع بوزن تفعل، نقلت حركة الواو إلى
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ لزيادة التقرير.
ومنها: وصف المفرد بالجمع في قوله: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ فإنه وصف النطفة مع كونه مفردًا بالجمع، وهو أمشاج؛ لأن المراد بها مجموع الماءين: ماء الرجل وماء المرأة.
ومنها: الطباق بين ﴿شَاكِرًا﴾ و ﴿كَفُورًا﴾ وبين ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، وبين ﴿شَمْسًا﴾ و ﴿زَمْهَرِيرًا﴾.
ومنها: التعبير بصيغة اسم الفاعل في قوله: ﴿إِمَّا شَاكِرًا﴾، وبصيغة المبالغة في قوله: ﴿وَإِمَّا كَفُورًا﴾ حيث لم يقل: إما شاكرًا وإما كافرًا أو لم يقل: إما شكورًا وإما كفورًا. للدلالة على قلة من يتصف بالشكر وكثرة من يتصف بالكفر، ولرعاية الفاصلة أيضًا.
ومنها: التعبير بصيغة المبالغة في قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ إشارة إلى كمال إحسانه إليه وتمام إنعامه عليه.
ومنها: اللفُّ والنشر المشوش في قوله: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ﴾ إلخ،
ومنها: إيراد الشاكرين بعنوان البر في قوله: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ للإشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السَّنِيّة.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾، وفي قوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ﴾.
ومنها: الجناس الناقص بين قوله: ﴿فَوَقَاهُمُ﴾ وقوله: ﴿وَلَقَّاهُمْ﴾.
ومنها: المجاز العقليّ في قوله: ﴿يَوْمًا عَبُوسًا﴾ حيث أسند العبوس إلى اليوم مع كونه من صفة أهله، فهو من إسناد الشيء إلى زمانه كنهاره صائم وليله قائم. والمعنى هنا: تعبس فيه الوجوه من طوله وشدّته، كما في "الخازن".
ومنها: الإتيان بصيغة المبالغة في قوله: ﴿شَرَابًا طَهُورًا﴾ للدلالة على المبالغة في طهارته ونظافته.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾؛ أي: كاللؤلؤ المفرق المنتشر.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً﴾؛ أي: يقال لهم: إنّ هذا إلخ.
ومنها: الطباق بين ﴿يُحِبُّونَ﴾ و ﴿يَذَرُونَ﴾.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾، قابل بين المحبة والترك، وبين العاجلة والباقية.
ومنها: إيراد صيغة الماضي مرادًا به المستقبل في قوله: ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾؛ أي: يحلون منها إشارة لتحقق وقوعه.
ومنها: التعبير عن المجازاة بالشكر في قوله: ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾؛ لأنَّ الشكر مجاز عن المجازاة.
ومنها: تقديم الظرف على متعلقه في قوله: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾ للاهتمام به، لما في صلاة الليل من مزيد كلفةٍ وإخلاص.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ﴾؛ لأنّ الوراء هنا مستعار لمعنى الأمام.
ومنها: الاستعارة التصريحية التخييلية في قوله: ﴿يَوْمًا ثَقِيلًا﴾، فقد استعير الثقل لشدّة ذلك اليوم وهو له من الشيء الثقيل الباهط لحامله، مثله: قوله تعالى: ﴿ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
خطأ وقياس في غير محله: هذا ومن المضحك: أن بعضهم علق على قوله: ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾، فقال: هذه الآية رد على عدم ما قاله أهل علم المعاني والبيان: إن الجمع بين الحاء والهاء مثلًا يخرج الكلمة من فصاحتها، وجعلوا من ذلك قول أبي تمام:
كَرِيْمٌ مَتَى أَمْدَحْهُ أَمْدَحْهُ وَالْوَرَى | مَعَيْ وَإِذَا مَا لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِيْ |
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد:
١ - خلق الإنسان.
٢ - جزاء الشاكرين والجاحدين.
٣ - وصف الجنة والنار.
٤ - أمر النبي - ﷺ - بالصبر، وذكر الله تعالى، والتهجد بالليل (١).
والله أعلم
* * *
بعد أن عاقني منها عوائق التدريس في المدارس، لأنّي لم يصبني في هذه السنة مطر المساعدة بالتفرغ الأسبوعي له يوم الأربعاء؛ لأنه لما تغير المدير تغيرت الأمور، و ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾. فسبحان المستعان في كل الأمور، وعليه التكلان في تقلّبات الدهور. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين آمين آمين ألف آمين يا ربّ العالمين.
سورة المرسلات مكية في (١) قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. قال قتادة: إلّا آية منها، وهي قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨)﴾، فإنها مدنيّة. وروي هذا عن ابن عباس، وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ﴾ بمكة. وأخرج البخاري؛ ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبيّ - ﷺ - في غار بمنى إذ نزلت سورة المرسلات عرفًا، فإنّهُ ليتلوها، وإنيّ لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية، فقال النبيّ - ﷺ -: اقتلوها، فابتدرناه فذهبت، فقال النبي - ﷺ -: وقيت شركم كما وقيتم شرها. وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن ابن عباس؛ أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفًا، فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها آخر ما سمعت رسول الله - ﷺ - يقرأ بها في المغرب.
وعدد آيها (٢): خمسون آية، نزلت بعد سورة الهمزة، ومئة وثمانون كلمة، وثمان مئة وستة عشر حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها (٣): أنه هنا أقسم على تحقيق ما تضمنته السورة قبلها من وعيد الفجّار ووعد المؤمنين الأبرار.
وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها ظاهرة جدًّا، وهو أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذّب الظالمين، فهذا وعد منه صادق، فأقسم على وقوعه في هذه فقال: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧)﴾ انتهى. وقال محمد بن حزم: سورة المرسلات كلّها محكم اهـ.
* * *
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (٢٦) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)﴾.المناسبة
ابتدأت (١) السورة الكريمة بقسم الله سبحانه بطوائف من الملائكة، منهم المرسلون إلى الأنبياء بالإحسان، والمعروف ليبلغوه للناس، ومنهم الذين يعصفون ما سوى الحق ويبعدونه كما تبعد العواصف التراب وغيره، ومنهم الذين ينشرون آثار رحمته في النفوس الحيّة، ومنهم الذين يفرقون بين الحق والباطل، ومنهم الملقون العلم والحكمة للإعذار والإنذار من الله. على أن يوم القيامة لا ريب فيه، وحين تمحق أنوار النجوم وتشقق السماء، وتنسف الجبال، ويعين للرسل الوقت الذي يشهدون فيه على أممهم، ويفصل بين الخلائق إبّانَ العرض والحساب يكون
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لمّا حذر الكافرين، وخوّفهم بأن يوم الفصل كائن لا محالة، وأقسم لهم بملائكته المقرّبين ورسله الطاهرين بأنه يوم سيكون، وأن فيه من الأهوال ما لا يدرك كنهه إلا علام الغيوب.. أردف ذلك بتخويفهم بأنه أهلك الكفار قبلهم بكفرهم، فإذا سلكتم سبيلهم فستكون عاقبتكم كعاقبتهم، وستعذبون في الدنيا والآخرة. ثم أعقبه بتخويفهم بنكران إحسانه إليهم، فإنه قد خلقهم من ماء مهين في قرار مكين إلى زمن معلوم، ثم أنشاهم خلقًا آخر، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ليشكروا نعم الله عليهم، فكفروا بها، وأنكروا وحدانيته، وعبدوا الأصنام والأوثان. ثم ذكرهم بنعمه في الآفاق؛ إذ خلق لهم الأرض، وجعلها تضمهم أحياء وأمواتًا، وجعل فيها الجبال لئلا تميد بهم، وجعل فيها الأنهار والعيون، ليشربوا منها ماءً عذبًا زلالًا. فويل لمن كفر بهذه النعم العظام.
قوله تعالى: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن للمكذّبين بالله وأنبيائه واليوم الآخر العذاب في يوم الفصل والجزاء.. بيَّن هنا نوع العذاب بما يحار فيه أولو الألباب، وغير من هوله كل مخبت أواب. فأخبر بأنهم يؤمرون بالانطلاق إلى ما كانوا يكذّبون به في الدنيا إلى ظل دخان جهنم المتشعب لكثرته وتفرقه إلى ثلاث شعب عظيمة، وهو لا يظلهم ولا يمنع عنهم حر اللهب المتكون من نار ترمي بشرر كأنه القصر المشيد علوًّا وارتفاعًا، وكأنه الجمال الصفر انبساطا وتفرّقًا عن غير أعداد محصورة وحركة غير معيّنة. ثم أخبر بأن الويل للمكذبين بهذا اليوم يوم لا ينطقون من شدّة الدهشة والحيرة، ولا يؤذَن لهم في الاعتذار فيعتذرون يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتقريع: إن كنتم تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم شيئًا من العذاب فهلموا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (٤١)...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (١) ما يحل بالكفار من الخزي والنكال