ﰡ
خلق الإنسان ومصيره
من أعاجيب الخلق الإلهي: خلق الكون من السماء والأرض، وخلق الإنسان بعد العدم، ثم تكاثر النوع الإنساني، وتكليف الإنسان بالتكاليف الرّبانيّة المسماة بالأمانة، ثم يمرّ في أطوار الحياة بعد الولادة، وتبدأ مرحلة البلوغ والخطاب الإلهي له، ليكون موضع اختبار في مدى الحياة أو العمر، ويكون في أعقاب الامتحان إما كافرا جاحدا، وإما مؤمنا شاكرا. ولكلّ جزاؤه، فللكافرين السعير والسلاسل والأغلال، وللمؤمنين الأبرار جنان الخلد والنعيم بسبب ما قدموا من صالح الأعمال، وهذا صريح الآيات الآتية في مطلع سورة الدّهر أو الإنسان المكّية في رأي بعضهم، والأصح أنها مدنيّة:
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١ الى ١٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤)إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» «١١» «١٢» «١٣»
(٢) زمان ممتد غير محدود.
(٣) قليل من الماء.
(٤) أخلاط.
(٥) نختبره.
(٦) بيّنا له طريق الخير والشّر وأرشدناه.
(٧) هيّأنا.
(٨) قيودا في الأرجل.
(٩) أطواق في الأيدي.
(١٠) الذين هم أهل الصدق والطاعة والإخلاص.
(١١) إناء الخمر.
(١٢) ما تمزج به.
(١٣) طيب معروف له رائحة جميلة.
هل: في كلام العرب قد تجيء بمعنى قد، مع التقرير، وقال أكثر المتأوّلين: (هل) تقرير. أي لقد أتى على جنس الإنسان فترة من الزمان، كان فيه منسيا غير موجود ولا مخلوق، ولا مذكور لأحد من الخليقة المتقدمين عليه: وهم الملائكة والجنّ. وهذا إخبار عن فترة ما قبل خلق الإنسان، حيث كان معدوما لا يذكر. أي إذا تأمل كل إنسان نفسه، علم بأنه قد مرّ حين من الدّهر عظيم، لم يكن هو فيه شيئا مذكورا، أي لم يكن موجودا.
ثم أخبر الله تعالى عن بدء تكاثر الخلق، إننا نحن الخالق أوجدنا ابن آدم من ماء قليل من المني، مختلط بين ماءي الرجل والمرأة، من أجل اختباره، بالخير والشّر، وبالتكاليف الشرعية، بعد البلوغ، وزودناه بطاقات الفهم والوعي والإدراك وهي السمع والبصر، ليتمكن من حمل رسالة التكليف واجتياز مرحلة الاختبار.
ودللنا الإنسان وأرشدناه، وبيّنا له طريقي الخير والشّر، والهدى والضّلال، ويكون حاله إما مؤمنا شاكرا لأنعم الله، مهتديا بهديه، وإما كافرا جاحدا للنعمة معرضا عن الطاعة، متنكّرا للهدي الإلهي. وهذا مثل قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) [البلد: ٩٠/ ١٠]. أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشّر، فهو باختياره بعدئذ إما شقي أو سعيد.
(٢) منتشرا فاشيا في كل مكان. [.....]
(٣) المسكين: المحتاج، واليتيم: من لا أب له، والأسير: المأسور في أيدي الأعداء.
(٤) العبوس: شديد الهول، والقمطرير: الشديد الظلمة.
(٥) أعطاهم.
(٦) حسنا وفرحا.
وأما المؤمنون الأبرار الذين جمعوا بين الصدق والطاعة (التقوى) والإخلاص فهم يشربون شرابا ذا رائحة أو كأسا من خمر الجنة، الممزوجة بالكافور (وهو طيب معروف له رائحة جميلة) وهذا الشراب نابع من عين جارية عذبة يشرب منها عباد الله الصالحون، تنبع بأمرهم، ويجرونها إلى حيث أرادوا من منازلهم وقصورهم. وقوله تعالى: عَيْناً بدل من قوله تعالى: كافُوراً أو مفعول به لفعل (يشربون) أي يشربون ماء هذه العين من كأس عطرة كالكافور.
وأسباب ثواب الأبرار ثلاثة أشياء أو خصال ثلاث: هي الوفاء بالواجب، وخوفهم الحساب، وتخلّقهم بالخلق الفاضل كإطعام الطعام للمحتاجين.
١- ٢- أنهم يوفون بالنّذور التي التزموها وأوجبوها على أنفسهم، تقرّبا إلى الله تعالى. ويتركون المحرّمات التي نهى الله عنها، خوفا من عذاب يوم القيامة، الذي تكون شدائده وأهواله منتشرة في كل جهة، وعامة على الناس، إلا من رحم الله.
فقوله: يَوْماً كانَ شَرُّهُ أي يوم القيامة الذي كان ضرره متّصلا شائعا كاستطارة الفجر.
٣- ويطعمون الطّعام في حال محبّتهم إياه لمحتاج فقير عاجز عن الكسب، وليتيم حزين فقد أباه، ولأسير مأسور عند الأعداء. وخصّ الطعام بالذكر لكونه إنقاذا للحياة، وإصلاحا للإنسان. قال القرطبي: والصحيح أن الآية نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلا حسنا، فهي عامة.
وهم في حال إطعام الطعام لهؤلاء يقولون وينوون: إنما نطعمكم هذا الطعام
إننا مع طلب رضوان الله سبحانه نخاف من أهوال يوم تعبس فيه الوجوه من هوله وشدّته، صعب شديد الهول والخطر، وشديد الظلمة.
فجازاهم الله تعالى على إخلاصهم أنه دفع عنهم شرّ ذلك اليوم العبوس، وآمنهم من مخاوفه، وأعطاهم نضرة في الوجوه، وسرورا في القلوب، لطلبهم رضوان الله تعالى.
وكافأهم بسبب صبرهم على التكاليف الشرعية جنة يدخلونها، وحريرا يلبسونه، أي أعطاهم أو منحهم منزلا رحبا، وعيشا رغيدا، ولباسا جميلا حسنا. وذلك كله بتكريم الله وفضله وإحسانه، جعلنا الله من أهل هذا الجزاء الحسن، ومتّعنا بهذه النعم الجليلة.
نعم أهل الجنّة
إن أغلب الناس تأثّرا بطبائعهم وشهواتهم المادّية يتأثّرون بالإغراءات المادّية، والمطامع المعيشية من كساء وغذاء وشراب وخدمات الخدم وحلي الدنيا، فكانت إغراءات النعيم في الجنان من هذا الطراز، ليطمعوا في الحصول عليها، ويعملوا العمل الصالح الموصل لها، وهو الجزاء المادّي، وهناك جزاء معنوي أسمى وأرفع منه وهو الشعور بالرضوان الإلهي، والتمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم الذي لا يعادله شيء من هذه النّعم، ولكن المسألة في الجنة درجات ومراتب بحسب تفاوت أعمال الناس. وهذه الآيات الآتية تقرر نعيم الأشخاص العاديين:
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١٣ الى ٢٢]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧)عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» «١١» «١٢» [الدّهر: ٧٦/ ١٣- ٢٢].
هذه مظاهر النعيم المادي في الجنة، لقد جزى الله الأبرار جنة الخلود، حيث يتكئون فيها على الأسرّة والفرش والوسائد، ولا يرون فيها الحرّ الشديد والبرد القارس، لاعتدال هوائها، وذهاب ضرورتي الحرّ والبرد عنها. ومسّ الشمس: أشدّ الحر، والزمهرير: أشد البرد.
وظلال الأشجار قريبة منهم، مظلّلة عليهم حيث لا شمس هناك، وأدنيت ثمارها لمتناوليها تسخيرا.
ويطوف عليهم الخدم بأواني الطعام، وهي من فضة، وبأكواب الشراب: وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم، وهي من فضة، فاجتمع لها بياض الفضة، وصفاء القوارير، وهي الزجاج، حتى يرى داخلها من خارجها. وشكلها وحجمها حسب إرادة أهل الجنة، بحسب تقديرهم ورغبتهم.
(٢) مستندين بتمكّن وراحة على الوسائد والأسرّة.
(٣) بردا قارسا.
(٤) سهّلت عناقيدها المقطوفة.
(٥) الآنية: صحاف الطعام، والأكواب:
آنية الشراب وهي الأقداح المستديرة بلا عروة ولا خرطوم.
(٦) أوعية زجاجية.
(٧) نبات مطيب لرائحته الجميلة يوضع مع البهارات.
(٨) سميت بذلك لسلاسة انسياغها.
(٩) حرير رقيق.
(١٠) حرير سميك. [.....]
(١١) ألبسوا حلية.
(١٢) نقيّا من الشوائب.
ويسقون شرابهم هذا من عين في الجنة تسمى السلسبيل، سميت بذلك لسلاسة مائها، وسهولة جريها وانحدارها وإساغتها في الحلوق.
وصفة الخدم: أنه يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان، لهم صفة الخلود، لا يتغيرون عن تلك الحال، من الشباب والطراوة والنضارة، ولا يهرمون ولا يمرضون ولا يموتون، إذا رأيتهم في قضاء الحوائج رأيتهم في صباحة الوجوه، وحسن الألوان وجمال الثياب والحلي كأنهم اللؤلؤ المنثور، قال ابن كثير: ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن. شبّههم بالمنثور، لأنهم سراع في الخدمة، أما الحور العين فشبّهن باللؤلؤ المكنون، لأنهن لا يمتهن بالخدمة.
وفي الجملة، يكون نعيمهم أنك إذا نظرت نظرا بعيدا في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها، وما فيها من الجمال والسرور، رأيت نعيما لا يوصف وسلطانا عظيما لا يقدر قدره.
أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن الخطاب على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو راقد على حصير من جريد، وقد أثّر في جنبه، فبكى عمر، فقال: ما يبكيك؟ قال:
ذكرت كسرى وملكه، وهرمز، وصاحب الحبشة وملكه، وأنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير من جريد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة، فأنزل الله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠)
وملابسهم وحليّهم: هي أن الذي يعلوهم من اللباس: هو الحرير الرفيع الرقيق الأخضر، والديباج السميك، وحلّوا (ألبسوا الحلية) بأساور من الفضة، وسقاهم
وعلّة هذا الفضل والنعيم: أنه يقال لهؤلاء الأبرار الممتّعين بالجنان، تكريما لهم وإحسانا إليهم: إن هذا المذكور من أنواع النعيم، كان لكم جزاء لأعمالكم، أي ثوابا لها، وجزاكم الله تعالى على القليل بالكثير، ويقبل طاعتكم، فشكر الله تعالى لعمل عبده: هو قبول لطاعته. وهذا مثل قوله تعالى في آية أخرى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقّة: ٦٩/ ٢٤]. وقوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: ٧/ ٤٣].
إنها نعم الله تعالى السابغة العظيمة، الدائمة، فليست نعم الله مقصورة على الدنيا، وإنما برحمة الله تشمل الآخرة، ونعم الآخرة أعظم وأكثر وأشمل من نعم الدنيا.
تثبيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم في مواجهة أفعال قريش
كان كل رسول يواجه معارضة شديدة لدعوته من قومه أو المرسل إليهم، وكان هذا هو الظاهرة القائمة من أفعال قريش وأحوالهم، حيث نسبوا الرسول محمدا إلى الكهانة والسّحر، فثبّت الله تعالى رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وبيّن للقوم أن القرآن كلام الله ووحيه، وأمره بالصبر على أذى قومه، وبالسّجود والصلاة، وبذكر ربّه بكرة وأصيلا، فهم قوم يؤثرون الدنيا على الآخرة، وشريعة الله ووحيه تذكرة وعظة لمن أراد النجاة بين يدي الله عزّ وجلّ، بمشيئة الله، وكل شيء من أفعال البشر لا يقع إلا بمشيئة إلهية، كما يتضح من الآيات الآتية:
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٣ الى ٣١]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧)نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [الدّهر: ٧٦/ ٢٣- ٣١].
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة: أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدا يصلّي، لأطأن عنقه، فأنزل الله: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.
يقول الله فيما معناه: لقد أنزلنا عليك أيها الرسول القرآن تنزيلا متدرّجا مفرّقا، في مدى ثلاث وعشرين سنة، ولم ننزله جملة واحدة، ليسهل حفظه ووعيه والعمل به، ولتثبيت المؤمنين في مواجهة الحوادث.
فاصبر أيها النّبي على قضاء الله وقدره في تأخير نصرك على المشركين، إلى أجل اقتضته حكمته، وفي تبليغ رسالتك من ربّك، وتحمّل المشقة، والصبر على الأذى، ليعذر الله تعالى إليهم، ولا تطع أحدا من المشركين أو العصاة، المبالغين في الوقوع في الإثم والعصيان، والجحود والكفر. والآثم: مرتكب المعاصي، والكفور: جاحد النعمة، وبما أن الآية في المشركين، فكل واحد منهم آثم وهو كفور. ومن الآثمين:
عتبة بن ربيعة، ومن الكفورين: الوليد بن المغيرة. والآية تقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة، أو كفور من المشركين.
(٢) شديد الكفر.
(٣) أول النهار وآخره.
(٤) الدنيا.
(٥) ويتركون أمامهم يوما شديدا.
(٦) أحكمنا خلقهم.
(٧) عظة وعبرة.
وصلاة الصبح: هي في أول النهار أو البكرة، وآخره أو الأصيل: صلاة العصر ومعها صلاة الظهر، وصلاة الليل تشمل صلاتي المغرب والعشاء، والتّهجد في آخر الليل، فتكون الآية جامعة فرائض الصلوات الخمس، والتهجد. وهذه أحوال الطائعين. ثم ذكر الله تعالى أحوال الكفار والمتمرّدين:
إن هؤلاء مشركي مكة وأمثالهم يحبّون الدار العاجلة، وهي الدنيا، ويقبلون على لذّاتها وشهواتها، ويتركون أمامهم يوم القيامة الشديد الأهوال، فلا يستعدّون له، ولا يعبؤون به، وسمي يوما ثقيلا، لما فيه من الشدائد والأهوال. والآية فيها توبيخ المترّدين واحتقارهم. وحبّهم للدنيا: أنهم لا يعتقدون غيرها.
وكيف يتغافل هؤلاء الكفار عن ربّهم وآخرتهم، ونحن الله الذي خلقناهم وأحكمنا خلقهم بتسوية أعضائهم ومفاصلهم، وربطها بالعروق والأعصاب، ولو شئنا لأهلكناهم، وجئنا بأطوع لله منهم. والأسر: الخلقة واتّساق الأعضاء والمفاصل. وهذا تعداد النعمة من الله على عباده، في إيجادهم وخلقهم، وفي إتقان بنيتهم وشدّ خلقتهم. وفي آخر الآية توعّد بالتبديل، فجمعت الآية بين تعديد النعمة، والوعيد، والتبديل، احتجاجا على منكري البعث، فمن هو قادر على هذه الأمور، فكيف تتعذر عليه الإعادة؟
ثم أرشد الله تعالى إلى فائدة القرآن والشريعة، فهذه السورة أو الشريعة، وما فيها من مواعظ، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، عظة وعبرة للمتأمّلين، وتبصرة للمتبصرين، وتذكير للعقلاء، فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة، اتخذ طريقا للتّقرب إلى ربّه بالإيمان والطاعة، واجتناب المعصية، ومن شاء اهتدى بالقرآن. وهذا
إن مشيئة العبد داخلة في إطار مشيئة الله، فما تشاؤون أن تتخذوا إلى الله سبيلا إلى النجاة إلا بمشيئة الله، ولا يقدر أحد أن يهدي نفسه، أو يؤمن أو يجلب نفعا لنفسه إلا بتوفيق الله، فالأمر إلى الله سبحانه، إن الله تعالى عليم بمن يستحق الهداية، فييسرها له، وعليم بمن يستحق الغواية، فيبقى في دائرة الضلال، وله الحكمة البالغة.
والله يدخل في جنته من يشاء من عباده إدخالهم فيها، فضلا من الله وإحسانا، ويعذب الظالمين الكافرين الذين ظلموا أنفسهم، عذابا مؤلما وهو عذاب جهنم.