تفسير سورة العلق

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة العلق من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة العلق مكية، وهي تسع عشرة آية.

سورة العلق
وهي تسع عشرة آية مكية
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)
قوله تبارك وتعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ يقول: اقرأ القرآن بأمر ربك، وهذه أول سورة نزلت من القرآن، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، لما بلغ أربعين سنة، كان يسمع صوتاً يناديه يا محمد، ولا يرى شخصه، وكان يخشى على نفسه الجنون، حتى رأى جبريل عليه السلام يوماً في صورته، فغشي عليه، فحمل إلى بيت خديجة. فقالوا لها تزوجت مجنوناً، فلما أفاق أخبر بذلك خديجة، فجاءت إلى ورقة بن نوفل، وكان يقرأ الإنجيل ويفسره. ثم جاءت إلى عداس، وكان راهباً، فقال لها: إن له نبأ وشأناً، يظهر أمره.
فخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم يوماً إلى الوادي، فجاء جبريل- عليه السلام- بهذه السورة، وأمره بأن يتوضأ ويصلي ركعتين، فلما رجع أعلم بذلك خديجة، وعلمها الصلاة وذلك قوله: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم: ٦] يعني: علموهم وأدبوهم. وروى معمر عن الزهري أنه قال:
أخبرني عروة عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحي، الرؤيا الصالحة الصادقة، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حُبِّب الخلاءُ إليه. يعني: العزلة وكان يأتي حراء، ويمكث هناك، ثم يرجع إلى خديجة.
فجاءه الملك، وهو على حراء فقال له: اقرأ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني ثانية، حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني ثالثة، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ فرجع ترجف بوادره، وقد أخذته الرّعدة، حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع،
فذلك قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ يعني: اقرأ بعون الله ووحيه إليك، ويقال معناه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ كقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ يعني: اذكر ربك الذي خلق الخلائق.
ثم قال عز وجل: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ يعني: ابن آدم من دم عبيط، وقال في آية أخرى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) [المرسلات: ٢٠] وقال في آية أخرى: خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ [الحج: ٥] وهذه الآيات يصدّق بعضها بعضاً، لأن أول الخلق مِّن تُرَابٍ، ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثم من مضغة. كما بين الجملة في موضع آخر. ثم قال عز وجل: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ يعني: اقرأ يا محمد- صلّى الله عليه وسلم- وربك يعينك ويفهمك، وإن كنت غير قارئ الْأَكْرَمُ يعني:
ربك المتجاوز عن جهل العباد، ويقال: اقْرَأْ وقد تم الكلام، ثم استأنف فقال وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ يعني: الكريم ويقال الأكرم يعني: المكرم الذي يكرم من يشاء بالإسلام.
ثم قال: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ علم الكتابة، والخط بالقلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ يعني: علم آدم عليه السلام أسماء كل شيء، يعني: ألهمه ويقال عَلَّمَ الْإِنْسانَ يعني:
محمدا صلّى الله عليه وسلم ما لَمْ يَعْلَمْ يعني: القرآن كقوله مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: ٥٢] ويقال: علم الإنسان ما لم يعلم، يعني: علم بني آدم ما لم يعلموا كقوله: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل: ٧٨].
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ٦ الى ١٤]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤)
ثم قال عز وجل: كَلَّا يعني: حقاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى يعني: الكافر ليعصي الله.
ويقال: يرفع منزلة نفسه أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى يعني: إن رأى نفسه مستغنياً عن الله تعالى، مثل أبي جهل وأصحابه، ومثل فرعون حيث ادعى الربوبية. قال أبو الليث رحمه الله: حدثنا أبو جعفر بن عوف، عن الأعمش، عن القاسم قال: قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه:
منهومان لا يشبعان، طالب العلم وطالب الدنيا، ولا يستويان أما طالب العلم، فيزداد رضا الله وأما طالب الدنيا، فيزداد في الطغيان ثم قال: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.
ثم قال: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
يعني: المرجع إلى الله تعالى يوم القيامة، ويقال: معناه رجوع الخلائق كلهم بعد الموت إلى الله تعالى، فيحاسبون ويجازون، فريق في الجنة، وفريق فى السعير. قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، كان إذا صلى في المسجد، رفع صوته بالقراءة، فلغطوا ورموه بالحجارة، فخفض صوته في الصلاتين
الظهر والعصر، إذا حضروا. وأما صلاة المغرب، اشتغلوا بالعشاء وصلاة العشاء ناموا، وصلاة الفجر لم يقوموا، فرفع في هذا، فصار سنة إلى اليوم فنزل أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى ويقال: إن أبا جهل بن هشام قال: لئن رأيت محمداً صلّى الله عليه وسلم يصلي، لأطانّ عنقه فنزل أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى يعني: ألم تر أن هذا الكافر، ينهى عبد الله عن الصلاة، وهو محمد صلّى الله عليه وسلم.
ثم قال: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلم، إن كان على الإسلام أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى يعني: التوحيد. ثم قال: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى يعني: إِنْ كَذَّبَ بالتوحيد وَتَوَلَّى عن الإسلام أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى أفعاله فيجازيه، وهذا جواب لجميع ما تقدم من قوله أَرَأَيْتَ ويقال في الآية إضمار وهو قوله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى يعني: بهذا الذي يصنع، ويؤذي محمدا صلّى الله عليه وسلم، أليس هو على ضلالة، أليس هو قد نهى عن الصلاة والخيرات أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى يعني: أرأيت أيها الناهي، إن كان المصلي على الهدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى يعني: بالتوحيد، واجتناب المعاصي، فينهاه عن ذلك.
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١٥ الى ١٩]
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)
ثم قال: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ يعني: حقاً لئن لم يمتنع أبو جهل، عن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم، ولم يتب، ولم يسلم قبل الموت لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ يعني: لنأخذ به بالناصية أخذاً شديداً، يعني: يؤخذ بنواصيه يوم القيامة، ويطوى مع قدميه، ويطرح في النار. فنزلت الآية في شأن أبي جهل، وهي عظة لجميع الناس، وتهديد لمن يمنع عن الخير، وعن الطاعة. ثم قال عز وجل: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ جعل الكاذبة صفة الناصية، وإنما أراد صاحب الناصية، يعني:
ناصية كاذبة على الله تعالى، خاطئة يعني: مشركة. وقال مجاهد: الذي يجحد، ويأكل رزق الله تعالى، ويعبد غيره.
ثم قال عز وجل: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ يعني: قل يا محمد صلّى الله عليه وسلم، فليدع أهل مجلسه، وأصحابه الكفرة حتى سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ يعني: الملائكة، هم ملائكة العذاب، غلاظ شداد، والزبانية أخذ من الزَّبْن، وهو الدفع وإنما سمّوا الزبانية، لأنهم يدفعون الكفار إلى النار.
ويقال: إنما سموا زبانية، لأنهم يعملون بأرجلهم، كما يعملون بأيديهم. وروي في الخبر، أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما قرأ بهذه السورة، وبلغ إلى قوله لنسفعاً بالناصية، قال أبو جهل: أنا أدعو قومي، حتى يمنعوا عني ربك.
599
قال الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ فلما سمع ذكر الزبانية، رجع فزعاً. فقيل له: خشيت منه، قال: ولكن رأيت عنده فارساً فهددني بالزبانية، فلا أدري ما الزبانية، ومال إلى الفارس، فخشيت أن يأكلني. وروى عكرمة عن ابن عباس إِنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، هدد أبا جهل فقال: لم تهددني؟ فو الله علمتَ أني أكثر أهل الوادي نادياً، لئن دعوتُ، يعني: أهل مجلسي منعوني عن ربك، فنزل فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن عباس رضي الله عنه: لو دعا ناديه، أخذته الزبانية.
ثم قال: كَلَّا لاَ تُطِعْهُ يعني: حقاً لا تطعه في ترك الصلاة يا محمد وَاسْجُدْ يعني:
صل لله تبارك وتعالى وَاقْتَرِبْ يعني: صل واقترب إلى ربك، بالأعمال الصالحة. وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، ألا يرى إلى قوله وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ يعني: اقترب إلى ربك بالسجود، واعلم أن السجود أربعة أحرف، السين سرعة المطيعين والجيم جهد العابدين والدال دوام المجتهدين والهاء هداية العارفين ويقال السين سرور العارفين، الجيم جمال العابدين، والدال دولة المطيعين، والهاء هبة الصديقين.
600
Icon