تفسير سورة العلق

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة العلق من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

سورة العلق
تضع جميع تراتيب السور المروية هذه السورة أولى السور ترتيبا. والمتبادر أن ذلك بسبب كون الآيات الخمس الأولى منها هي أولى آيات القرآن نزولا على ما عليه الجمهور. لأن مضمون باقي الآيات وأسلوبها يدلان على أنه نزل بعد مدة ما من نزول آياتها الخمس الأولى، على أن هذه المدة ليست طويلة على ما تلهم آيات السورة.
وفي الآيات الخمس الأولى أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقراءة وتنويه بما ألهم الله الإنسان من العلم. وفي بقية الآيات حملة على باغ مغتر بماله وجاهه تصدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيت للنبي في دعوته وموقفه وعدم المبالاة به.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)
(١) العلق: الدم المتجمد.
هذه الآيات هي على ما جاء في حديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، سنورده بعد قليل، أولى الآيات القرآنية نزولا. ومع أن هناك روايات تذكر أن الآيات الأولى من سور أخرى مثل سور القلم والمدثر والمزمل وأن سورا أخرى
315
مثل سورتي الفاتحة والضحى هي أول القرآن نزولا فإن أحاديث أولية هذه الآيات أقوى سندا كما أن مضمونها يلهم ترجيح هذه الأولية «١».
وليس في هذه الآيات الواضحة العبارة أمر بالدعوة. وإنما هي تنبيه وإعداد.
ولما كانت الآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد تصدي بعض الطغاة للنبي عليه السلام حينما بدأ بدعوته وصلاته، فإن المعقول أن تكون هذه الآيات قد نزلت وحدها ثم نزلت آيات أو سور قرآنية أخرى فيها أمر بالدعوة ومبادئها، وأن تكون أولية السورة في ترتيب النزول هي بسبب أولية نزول هذه الآيات.
أول قرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم
وقد نزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلّم ليلا في غار حراء أحد جبال مكة أثناء اعتكافه في هذا الغار في رمضان على ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «أوّل ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح. ثم حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث- أي يتعبّد- فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: «اقرأ» فقال: «ما أنا بقارئ» قال: «فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني». فقال: «اقرأ»، فقلت: «ما أنا بقارئ» قال: «فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ مني الجهد ثم أرسلني» فقال: «اقرأ» فقلت:
«ما أنا بقارئ» فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني» فقال:
(١) انظر سياق تفسيرها في الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم وانظر كذلك كتاب «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي ج ١ ص ٢٤ وما بعدها، الطبعة المذكورة سابقا. وننبه إلى أننا سرنا على الاكتفاء بذكر اسم كتاب التفسير أو مؤلفه دون ذكر رقم المجلد أو الجزء أو الصفحة لأن هناك أكثر من طبعة لأكثر من كتاب من كتب التفسير، وقد لا تكون الطبعة التي ننقل عنها هي المتيسرة في يد القارئ، وطريقتنا تيسر للقارىء أن يراجع المادة في أي طبعة كما هو واضح. [.....]
316
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى بلغ: ما لَمْ يَعْلَمْ» «١». ونزول هذه الآيات ليلا وفي رمضان مؤيد بآيات قرآنية منها آية سورة البقرة هذه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [١٨٥]، وآية سورة الدخان هذه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣)، وآية سورة القدر هذه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١).
والأمر بالقراءة قصد به تلاوة ما يلقى إليه كما قصد به تنبيهه صلّى الله عليه وسلّم إلى المهمة العظمى التي انتدب إليها، وتعليمه أن يجعل الله هو الفكرة الرئيسية التي تشغل ذهنه، وأن يذكره في كل أمر من أموره دون سواه كما هو المتبادر.
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وشامل للناس جميعا بالانصراف عما سوى الله، وبالارتفاع بالنفس الإنسانية إلى أفق لا تتأثر فيه بقوى الدنيا ومخاوفها، ولا ترتبط في حياتها ومعايشها ومطالبها وآمالها بغير الله الربّ الأكرم.
مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم في أول ما نزل من القرآن
والآيات إلى هذا تنطوي على تنويه بالقراءة والكتابة والعلم، وبالإنسان الذي اختص وحده بالقابلية لهذه النعم، وبدء القرآن بذلك يزيد في قوة هذا التنويه، فكأنما أريد جعل هذه النعم في مقدمة نعم الله التي أنعمها على الإنسان، وفي مقدمة ما يجب على الإنسان أن يشكر الله عليه ويسعى في اكتسابه.
والقرآن على هذا الاعتبار أعظم وأقوى، وأول داع ديني إلى العلم والقراءة والكتابة. وتعبير الإنسان شامل للذكر والأنثى على السواء، وهكذا تكون الدعوة القرآنية شاملة جنسي الإنسان.
(١) «التاج»، ج ٣ ص ٢٢٦.
317
وفي هذا من الجلال والروعة ما يعلو فوق كل مستوى، وما يدل على عظمة براعة استهلال القرآن الكريم والدعوة الإسلامية وبعد مداها، وقوة عناصر خلودها.
ولقد احتوت سور القرآن المكية والمدنية بعد هذه السورة آيات كثيرة جدا في التنويه بالكتاب والقرآن والعلم والعلماء والحثّ على العلم والتعلّم وبيان مسؤولية أهل العلم والذكر. وهو ما يزيد من جلال هذه البراعة وعظم مداها.
والمتبادر أنه لا يقصد بالإشارة إلى خلق الإنسان من علق تقرير حقيقة تشريحية، ولا تخصيص الإنسان وحده بالخلق من علق دون غيره من الحيوان، وإنما قصد التنبيه على مظهر من مظاهر قدرة الله في نواميسه على إخراج إنسان كامل في صورته وأعضائه وحواسه من شيء تافه في مظهره المادي، وقد اختص الإنسان بالذكر لأنه موضوع الخطاب في الآيات، وهذا أسلوب قرآني عام. وهو الأسلوب التنبيهي الموجه إلى مختلف الطبقات في المناسبات الملائمة بما تتناوله عقولهم وحواسهم، وبقصد الموعظة والهداية.
وبناء على هذا فلا نرى محلا ولا ضرورة إلى الاستطراد إلى حقائق تشريحية عن خلق الإنسان وتكوينه لأن ذلك ليس من أهداف الجملة القرآنية، ونرى وجوب الوقوف عند ما ذكرناه من هدفها على ما نبهنا عليه في المقدمة.
هذا، ولقد تعددت السور التي تبدأ بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ببعض الأفعال والأقوال مما يمكن أن يعد أسلوبا من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ٦ الى ١٩]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)
(١) كلّا: حرف ردع وزجر. وقال المفسرون إنها في المقام الذي تأتي فيه بمعنى أيها الناس ارتدعوا وازدجروا فالأمر أعظم مما ظننتم. وقد وردت كثيرا ولا سيما في السور المبكرة في النزول الذي يشتد فيها الإنذار والتنبيه والتنديد ووردت كذلك في معرض التنديد والاستدراك والتثبيت وكثرة ورودها في القرآن تدل على أنها مما كان مستفيضا في أساليب الخطاب العربي.
(٢) يطغى: يتجاوز الحد في العدوان والبغي.
(٣) استغنى: ظن نفسه مستغنيا، أو رأى نفسه غنيا. والكلمة هنا بمعنى (رأى نفسه غنيا بماله) على ما عليه الجمهور. واستعملت الكلمة بمعنى (رأى نفسه غنيا عن مساعدة الغير فتمنع وتكبر) كما في آيات سورة عبس هذه: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧). وأصل معنى كلمة (غني) غير المحتاج سواء أكانت الحاجة مالا أو غيره. وقد وصف الله جلّ جلاله نفسه بها في آيات كثيرة.
(٤) التقوى: الاتقاء من عذاب الله بصالح العمل.
(٥) تولّى: ذهب دون أن يصغي للدعوة ويهتم لها.
(٦) السفع: الأخذ أو الجذب بقوة، واللطم بشدة.
(٧) الناصية: مقدم الوجه أو شعر الجبهة.
(٨) ناديه: النادي: مجلس القوم، والمقصود أهل المجلس.
(٩) الزبانية: الموكلون بالعذاب.
(١٠) اسجد: أمر بالسجود لله. والسجود هو وضع الجبهة على الأرض في معرض عبادة الله وتعظيمه والخضوع له.
(١١) اقترب: تقرب إلى الله بالسجود.
318
في هذه الآيات:
١- تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيرا منهم يتجاوزون الحدّ كبرا وبغيا حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم وقوة أنصارهم وعصبيتهم وشخصيتهم وأسلوب الآية التي وردت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.
٢- تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.
٣- تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذّب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصي عليه آثامه ومواقفه.
٤- تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذّب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينته عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة.
وإذا دعا ناديه لنصرته فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.
٥- تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته. فلا محلّ للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيما طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلا عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: «قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلّي عند الكعبة لأطأنّ على عنقه فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: لو فعل
320
لأخذته الملائكة عيانا» «١». ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال: «قال أبو جهل: هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم- يريد على ما يظهر هل يصلّي ويسجد- قيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي فما فجئهم منه إلّا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه فقيل له: ما لك، فقال: إنّ بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا فأنزل الله: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) إلى آخر السورة» «٢».
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا ألم أنهك عن هذا؟ فزبره النبي، فقال أبو جهل: إنّك لتعلم ما بها ناد أكثر منّي فأنزل الله: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨). قال ابن عباس: (فو الله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله) «٣».
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجّحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحا من جملة ما قاله وفعله وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية (أبي جهل) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية
(١) «التاج»، ج ٤ ص ٢٦٢.
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر المصدر نفسه.
الجزء الأول من التفسير الحديث ٢١
321
ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له: ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد؟ قال: والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له: وأنا والذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ما سمعت:
تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه «١».
حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
علنية الدعوة في بدئها
والمشهد الذي احتوته الآيات والأحاديث المروية في صدده يدلّ بقوة على أن الدعوة بدأت علنية خلافا لما روي «٢» أو لما هو مستقر في الذهن. وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ يمارس صلاته الجديدة جهرة ويدعو الناس إلى الله وتقواه. وفي المشاهد المماثلة التي ظلت تذكر في السور العديدة المبكرة في النزول، مثل القلم والمزمل والمدثر والتكاثر والماعون والكافرون تأييد لذلك. وكل ما يمكن أن يقال إزاء ما ورد في الأحاديث التي تروي أقوال بعض أصحاب رسول الله مثل ما روي عن عمر في قصة إسلامه حيث سأل بعد إسلامه: «أنحن على حقّ أم باطل؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل على حقّ، فقال عمر: ففيم التخفي إذن؟». ومثل ما روي عن ابن مسعود أنه قال: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة ظاهرين آمنين حتى أسلم عمر» «٣». إن النبي صلّى الله عليه وسلّم- حماية لأصحابه- كان يلزم الحذر والتحفظ في الصلاة والاجتماع بهم. غير أن دعوته للناس كانت
(١) انظر «السيرة الحلبية»، ج ١، ص ٣٣٠ وما بعدها. وانظر تفسير آية سورة الحجر فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [٩٤] في كتاب تفسير ابن كثير والبغوي بل وغيرهما من المفسرين.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر «سيرة ابن هشام» ج ١ ص ٣٤٢ وما بعدها.
322
وظلت جهرة. وهذا هو المعقول المتسق مع هدف الدعوة وإيمان النبي بالله ورسالته.
والمتبادر أن هذه الآيات قد نزلت بعد نزول الآيات الخمس الأولى بمدة ما، وبعد نزول جملة من القرآن تتضمن أمرا بالدعوة وشيئا من مبادئها وأهدافها. وبعد أن سار النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته شوطا ما، حيث أخذ يتصل بالناس ويدعوهم ويبشرهم وينذرهم ويتلو عليهم ما أوحي إليه من آيات القرآن وسوره ويصلي جهرة، فتصدى له الطاغية فنزلت منذرة منددة، مذكرة قارعة.
وإلحاق هذه الآيات بالآيات الخمس الأولى حيث تكونت شخصية السورة يدل على أن سور القرآن كانت تؤلف أولا فأولا، وعلى أن المشهد الذي احتوته لم يتأخر كثيرا. ولعله من أوائل مشاهد المناوأة للدعوة والتعرّض لصاحبها مما يدل عليه إلحاق آياته بأولى آيات القرآن نزولا.
موقف الزعامة من النبي وموقف النبي منها منذ البدء
وفي الآيات وبخاصة في الآيات [١٥- ١٩] تطمين وتثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء تعرض الزعيم الطاغية كما هو واضح، وقد ثبت فيه بدون ريب الطمأنينة والقوة والعزم على متابعة مهمته العظمى. ومما لا ريب فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تلا الآيات حتى وصلت إلى مسامع الطاغية، بل من المحتمل القوي أن يكون قذف بها في وجهه مباشرة.
وإذ يتصور المرء النبي صلّى الله عليه وسلّم يصرخ في وجه هذا الطاغية المعتدّ بماله وقوته وناديه صرخته المدوية تردادا لوحي الله: كلا كلا، ثم يقذف بكلمات التنديد والتهديد والتحدي والإنذار القرآنية غير مبال بالزعامة وقوتها وهو من دون نصير من الناس ولم يكن قد آمن به من يستطيع له نصرا ويقف في جانبه يدرك من دون ريب تلك الشجاعة التي كان يتحلى بها والتي استمدها من إيمان عميق مستول على
323
مشاعره جعله لا يرى عظمة إلا لله ولا قوة إلا لله ولا سلطانا إلا لله، وجعله يرى كل ما عداه أضعف من أن يخشى، وأعجز من أن يستطيع له نفعا أو ضرا، أو يقف أمام دين الله ويحول دون الدعوة إليه. ويدرك بهذا ما تحلى به من عظمة الخلق وقوة الجنان وعمق اليقين، مما كان موضوع ثناء الله في آية القلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤).
وفي كل هذا أسوة يجب على المسلمين أن يتأسوا بها وبخاصة الدعاة إلى الإصلاح والمتعرضين للظلم والطغيان. لأن الله سبحانه أمرهم بأن يكون لهم في رسوله الأسوة الحسنة كما جاء في آية سورة الأحزاب هذه: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١).
ويتبادر من عنف الآيات وقوتها القارعة أن الحكمة الربانية اقتضت أن يكون الرد على أول متصدّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم من الزعماء الأقوياء بهذا الأسلوب لتثبيت النبي وأصحابه القلائل الذين آمنوا به، ومواجهة الزعيم القوي بقوة وعنف يصدمانه على غير توقع. ولا شك في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تلا الآيات على أصحابه، فقوّت من روحهم وزادتهم إيمانا، ووصلت إلى صاحبها وناديه فصعقتهم بعنفها وجعلتهم يشعرون بالقوة الروحية التي يستمد منها النبي، وازداد النبي بهذا وذاك قوة وعزما على الاستمرار في مهمته، غير مبال بالزعيم القوي وناديه.
على أن جملة: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ تسوغ القول أن أبا جهل لم يكن وحيدا في موقفه من النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهو ما تدل عليه الآيات التي نزلت بعد هذه الآيات في مناسبات عديدة مبكرة.
وليس بعيدا أن يكون تعبير «ناديه» قد عنى دار الندوة التي كان يجتمع فيها أهل الحلّ والعقد في مكة الذين هم رؤساء الأسر القرشية البارزة، وقد كانت هذه الدار قرب الكعبة، فإذا صحّ هذا فإن من السائغ أن يقال إن السلطات الرسمية قد رأت في صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم علنا بصلاة جديدة لا عهد للناس بها، وفي دعوته الناس جهارا إلى دين يخالف ما عليه الناس بدعة، ورأت وجوب الوقوف في وجهها،
324
وأنها عمدت إلى أحد أعضائها بتنفيذ ذلك، أو أن هذا العضو كان أشدّ حماسا ضدها من غيره فكان هو المتصدي.
وهكذا ينطوي في الآيات المبكرة جدا في النزول أولى صورة من صور مواقف زعماء مكة الشديدة المناوأة التي تكررت واستمرت إلى أن تمّ الفتح المكي. وأولى صورة من صور الردّ القرآني المبلغ للرسول والمعلن للناس من قبله على هذه المواقف التي تكررت وحكاها القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل.
وفي الرد القرآني المنطوي في آيات السورة تعليل لهذا الموقف وقد انطوى في الردود القرآنية مثل هذا التعليل أو ما يقاربه. وهو على الأكثر الاستكبار ومكر السيء والاستهتار والاعتداد بالمال والولد والحرص على التقاليد التي كانوا يستمدون منها قوة وجاها والحسد والاعتبارات الشخصية والأسرية. ومن ذلك آيات سورة فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ، وآيات سورة الزخرف هذه: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)، وآيات سورة ص هذه:
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨).
وقد يعني هذا أن الزعماء الذين كان أكثرهم أغنياء وأولو عصبية في الوقت نفسه قد رأوا في الدعوة النبوية تحدّيا لهم وتهديدا لمركزهم وثرواتهم فانبروا إلى مناوأتها من أول أيامها، وأدى ذلك إلى نضال طويل مرير مختلف الصور والأشكال بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم مما شغلت حكايته وصوره حيزا كبيرا من القرآن وبخاصة المكي منه على ما سوف يأتي متواليا.
325
تعليق على ما في الآيات كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
(٧) من تلقين ثم من مدى ومغزى في صدد أهداف الرسالة الإسلامية وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حبّ المال والحرص عليه والتباهي به واعتباره عنوانا للكرامة وتنديدا بذلك مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلا عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضا على إطعام المساكين والتصدّق على الفقراء وتزكية المال والإنفاق في سبيل الله.
واحتوت في الوقت نفسه صورا عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي ودعوته إلى جانب الزعماء حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديدا لثرواتهم فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جدا واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى. وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه والدعوة إلى مساعدة المحتاجين خطورة إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
326
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم متساوقة مع كل ذلك أيضا شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.
تعليق على كلمة الصلاة
وبمناسبة ورود كلمة «صلى» لأول مرة نقول: إن الصلاة تعني في اللغة الدعاء والبركة وقد جاءت بهذين المعنيين في القرآن كما يفهم من آيات سورة الأحزاب هذه: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وإِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)، ومن آية سورة التوبة هذه: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ، وتعني كذلك الشكل الخاص الذي يتعبد المتعبد به لمعبود، كما هي في هذه السورة وغيرها، والمعنيان متقاربان ولعلّ الأصل هو الأول، ولا سيما والعبادة هي الاتجاه للمعبود ودعاؤه.
وإطلاق كلمة الصلاة على الشكل الخاص من العبادة مطلقا ليس إسلاميا، بل كان كذلك قبل البعثة كما تدل عليه آية الأنفال هذه: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً «١» [٣٥]، حيث عبرت عما كان يؤديه المشركون من الطقوس الدينية عند الكعبة بكلمة الصلاة.
ومع أن الروايات تذكر «٢» أن شكل الصلاة الإسلامية المعروف هو الشكل الذي أدّى به النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاته الأولى بتعليم الملك، فإن ورود تعابير الركوع والسجود والقيام في القرآن وتكليف المشركين بالسجود تارة، والركوع أخرى كما جاء في آية سورة البقرة هذه: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
(١) المكاء هو التصفير، والتصدية هي التصفيق على ما جاء في تفسير الزمخشري «الكشاف».
(٢) ابن هشام ج ١ ص ٢٢٩ وما بعدها، و «السيرة الحلبية» ج ١ ص ٢٦٣ وما بعدها.
327
وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)، وفي آية سورة الحج هذه: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)، وفي آية سورة الفرقان هذه: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)، وفي آية سورة المرسلات هذه: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨)، يلهم أن هذه الأشكال كانت معروفة قبل البعثة وممارسة، كأشكال عبادة وصلاة، وكمظهر خضوع لله أو للمعبودات.
ولقد روى ابن هشام خبر أولى صلاة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عزوا إلى ابن اسحق: «حدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله ينظر إليه ليريه كيف الطهور إلى الصلاة ثم توضأ رسول الله كما رأى جبريل توضأ. ثم قام به جبريل فصلى به، فصلى رسول الله بصلاته ثم انصرف جبريل. فجاء رسول الله خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله ثم صلّى بها كما صلى به جبريل». وقال كذلك عزوا إلى ابن اسحق: «وحدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير وكان كثير الرواية عن ابن عباس قال: لما افترضت الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل عليه السلام فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلّى به العشاء الأخيرة حين ذهب الشفق. ثم صلّى به الصبح حين طلع الفجر. ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله. ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلّى به العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل الأول، ثم صلّى به الصبح مسفرا غير مشرق. ثم قال: يا محمد الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس» «١».
(١) ابن هشام ج ١ ص ٢٤٤- ٢٤٥.
328
ولقد روى الترمذي وصاحباه حديثا عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه معظم ما جاء في هذا الحديث وهذا نصّه: «أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرّتين، فصلّى الظهر في الأولى منهما حينما كان الفيء مثل الشّراك، ثم صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله ثم صلّى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلّى العشاء حين غاب الشّفق، ثم صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلّى المرّة الثانية الظهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثليه. ثم صلّى المغرب لوقته الأول، ثم صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلّى الصبح حين أسفرت الأرض، ثمّ التفت إليّ جبريل فقال: يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت فيما بين هذين الوقتين» «١».
ولقد روى الخمسة إلّا الترمذي عن أبي مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزل جبريل فأمّني فصلّيت معه ثم صلّيت معه ثمّ صلّيت معه ثمّ صلّيت معه ثمّ صليت معه يحسب بأصابعه خمس صلوات. زاد في رواية ثمّ قال بهذا أمرت» «٢».
وليس في هذه الأحاديث تعيين لوقت هذا التعليم والإمامة. ولكن ورود الإشارة إلى صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه السورة التي هي من أبكر ما نزل من القرآن قد يدل على أن ذلك كان عقب نزول أول وحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد يؤيد هذا ما جاء في حديث ابن اسحق الأول من مجيء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك إلى بيته وتعليمه ما علمه إياه الملك لخديجة رضي الله عنها التي كانت أول من آمن به، والتي لم يكن بعد على ما هو محتمل مؤمنا به غيرها. وقد يؤيد ذلك أيضا أن الإشارة إلى الصلاة والدعوة إليها وخبر ممارستها قد ذكرت في سور أخرى مبكرة جدا في النزول مثل سور المزمل والمدثر والأعلى والشرح والكوثر. هذا في حين أن البخاري ومسلم والنسائي والترمذي يروون حديثا عن أنس جاء فيه: «فرضت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة
(١) «التاج الجامع»، ج ١، ص ١٢٥ و ١٢٦.
(٢) المصدر نفسه.
329
أسري به الصلوات خمسين ثم نقصت حتّى جعلت خمسا ثم نودي يا محمد إنه لا يبدّل القول لديّ، وإنّ لك بهذه الخمس خمسين» «١».
والإسراء ذكر في سورة الإسراء بأسلوب قد يلهم أنه ذكر عقب وقوعه، وسورة الإسراء ليست من السور المبكرة في النزول بل يخمن أنها نزلت في أواخر الثلث الأول من العهد المكي. وهناك روايات تذكر أن الإسراء وقع في مثل هذا الظرف.
ولقد روى الترمذي ومسلم حديثا عن عبد الله في سياق تفسير بعض الآيات الأولى من سورة النجم التي تروي بعض الأحاديث أنها في صدد مشاهد الإسراء والمعراج جاء فيه: «إنه لما بلغ رسول الله سدرة المنتهى قال: انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق، فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهنّ نبيا قبله. فرضت عليه الصلاة خمسا وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لأمته المقحمات ما لم يشركوا بالله شيئا» «٢».
وسورة النجم نزلت كذلك بعد عدة سور ذكرت فيها الصلاة مثل المزمل والمدثر والأعلى والشرح والكوثر والماعون.
وعلى هذا فإن الصلاة إما أن تكون غير مفروضة فرضا مستقرا وكانت تؤدى كمظهر من مظاهر العبادة لله تعالى وحسب قبل نزول سورتي النجم والإسراء أو قبل سورة النجم- لأن هناك احتمالا أن يكون الإسراء وقع قبل نزول سورة الإسراء بمدة ما وأن يكون ذكره في سورة الإسراء من قبيل التذكير به- إذا صح حديثا أنس وعبد الله رضي الله عنهما. وإما أن يتوقف في هذين الحديثين استئناسا بالآيات وبحديث ابن اسحق الأول. ويقال إنها كانت تمارس كفرض محدود الأوقات في عهد مبكر من البعثة النبوية وقبل الإسراء النبوي، والله تعالى أعلم.
(١) «التاج» ج ١ ص ١١٧.
(٢) «التاج»، ج ٤ ص ٢٢١، المقحمات: الذنوب العظيمة. [.....]
330
وليس في القرآن مما يتصل بشؤون الصلاة والاستعداد لها إلّا إشارات في صدد الوضوء والاغتسال من الجنابة والتيمم بدلا منهما، واستقبال القبلة والأذان وتطهير الثياب والبدن وقصر الصلاة وصلاة الخوف وصلاة الجمعة شاءت حكمة التنزيل أن تشير إليها في مناسبات حادثة في بعض السور. أما كيفيات الصلاة وأوقاتها وأركانها وركعاتها والدخول فيها والخروج منها وما يقرأ ويدعى ويسبح فيها والنوافل المؤكدة وما يفعل في السهو فيها والعجز عن بعض كيفياتها وأركانها وما يكره فيها... إلخ. فقد تكفلت ببيانها السنة النبوية القولية والفعلية على اختلاف في أسانيدها ورتبها حفلت بها وبشرحها كتب الحديث والفقه وتعددت المذاهب بسبب ما بها من اختلاف في النصوص مما لا يدخل تفصيله في منهاج التفسير وما صار متمما لتشريعها القرآني وجزءا منه وصار العمل بالثابت منه واجبا كما هو الشأن في كل ما سكت عنه القرآن أو جاء فيه غامضا أو مطلقا أو غير مستوف لكل جانب في مسألة من المسائل عملا بالمبدأ القرآني المنطوي في آية سورة النساء هذه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وآية سورة الحشر هذه:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وقد أوردنا من قبل بعض هذه الأحاديث ونورد فيما يلي طائفة منها مما ورد في الكتب الخمسة تحتوي صورا وسننا رئيسية مع التنبيه على أنها ليست كل ما ورد في هذه الكتب، فضلا عن أن هناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب الأحاديث الأخرى. من ذلك ما رواه الخمسة عن أبي هريرة: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل المسجد فدخل رجل فصلّى ثم جاء فسلّم على النبي فردّ النبيّ عليه السلام فقال: ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ. فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبيّ فقال: ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ ثلاثا. فقال: والذي بعثك بالحقّ ما أحسن غيره فعلّمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ثمّ اركع حتى تطمئنّ راكعا ثمّ ارفع حتّى تعتدل قائما ثمّ اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ثمّ ارفع حتى تطمئنّ جالسا ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ثمّ افعل ذلك في صلاتك كلّها». وزاد أبو داود: «فإذا فعلت هذا فقد تمّت صلاتك
331
وما انتقصت من هذا شيئا فإنّما انتقصته من صلاتك» «١».
وروى الخمسة أيضا عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «٢». وروى الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام.
فقيل لأبي هريرة: إنما نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك»
. وروى الخمسة عن عبد الله قال: «كنّا نقول في الصلاة خلف رسول الله: السلام على الله السلام على فلان، فقال لنا رسول الله ذات يوم: إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كلّ عبد لله صالح في السماء والأرض. أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله ثمّ يتخيّر من المسألة ما يشاء».
وروى الخمسة عن كعب بن عجرة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في الصلاة:
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد»
.
وروى الخمسة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اعتدلوا في السّجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» وروى أبو داود والترمذي عن حذيفة: «أنه صلّى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى». وحديث رواه أصحاب السنن عن أبي مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجزىء صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود». وروى أصحاب السنن
(١) هذا الحديث وما نورده بعده من أحاديث منقولة من الجزء الأول من كتاب «التاج الجامع»، انظر الصفحة ١١٧ وما بعدها.
(٢) هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء قرآنا غير الفاتحة.
332
عن الحسن بن علي قال: «علّمني رسول الله كلمات أقولهنّ في قنوت الوتر: اللهمّ اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولّني فيمن تولّيت وبارك لي فيما أعطيت وقني شرّ ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذلّ من واليت ولا يعزّ من عاديت تباركت ربّنا وتعاليت». وروى الخمسة إلّا مسلما عن عمران بن حصين قال: «كانت بي بواسير فسألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة فقال صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب». وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر». وروى الشيخان والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة». وروى أبو داود والنسائي والحاكم وأحمد والترمذي عن سبرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مروا الصبيّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها». وروى الخمسة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها لا كفّارة لها إلّا ذلك. أقم الصلاة لذكري». وروى مسلم حديثا جاء فيه: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلّها إذا ذكرها». وروى الترمذي والبيهقي والحاكم عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر». وروى الخمسة عن عبد الله قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكبّر في كلّ خفض ورفع وقيام وقعود».
وروى الخمسة عن ابن عمر قال: «رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم افتتح التكبير للصلاة فرفع يديه حين يكبّر حتى يجعلهما حذو منكبيه وإذا كبّر للركوع فعل مثله وإذا قال سمع الله لمن حمده فعل مثله وقال ربّنا ولك الحمد». وفي رواية: «إذا قام من الركعتين رفع يديه ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود». وروى مسلم وأبو داود حديثا جاء فيه: «كان النبيّ إذا كبر رفع يديه ثم التحف بثوبه ثم أخذ شماله بيمينه». وروى الخمسة إلّا البخاري عن علي قال: «كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة كبّر ثم قال وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ
333
العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. اللهمّ أنت الملك لا إله إلّا أنت، أنت ربّي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلّا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلّا أنت، واصرف عني سيّئها لا يصرف سيّئها إلّا أنت، لبّيك وسعديك، والخير كلّه في يديك، والشرّ ليس إليك، وأنا بك وإليك تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك».
وروى أصحاب السنن عن أبي سعيد قال: «كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة كبّر ثمّ يقول: سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك، ثم يقول الله أكبر كبيرا، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه». وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه».
وروى الترمذي وأبو داود عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربّي العظيم ثلاث مرات فقد تمّ ركوعه وذلك أدناه. وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تمّ سجوده وذلك أدناه». وروى أصحاب السنن عن الفضل بن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصلاة مثنى مثنى تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع وتضرّع وتمسكن وتقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا ربّ يا ربّ ومن لم يفعل فهي خداج».
وروى أبو داود والنسائي عن ابن أبي أوفى قال: «جاء رجل إلى النبي فقال:
إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلّمني ما يجزئني منه، فقال: قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله العظيم. قال: يا رسول الله هذا لله فما لي؟ قال: قل اللهمّ ارحمني وارزقني وعافني واهدني. فلمّا قام قال هكذا بيديه. فقال رسول الله: أما هذا فقد ملأ يديه من الخير»
. وروى البخاري والنسائي وأبو داود عن عائشة قالت: «سألت رسول الله عن الالتفات في
334
الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد». وروى الخمسة إلّا البخاري عن أم حبيبة قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من عبد مسلم يصلّي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوّعا غير فريضة إلّا بنى الله له بيتا في الجنة». وزاد الترمذي: «أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر».
وروى الخمسة عن ابن عمر قال: «حفظت من رسول الله عشر ركعات ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح». وروى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن خارجة بن حذافة قال: «خرج علينا رسول الله فقال: إن الله قد أيّدكم بصلاة وهي خير لكم من حمر النّعم وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر». وروى الأربعة عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا». وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتّى لا يدري كم صلّى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس». وروى مسلم وأبو داود وأحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى ثلاثا أو أربعا فليطرح الشّكّ وليبن على ما استيقن ثمّ يسجد سجدتين قبل أن يسلّم فإن كان صلّى خمسا شفعن له صلاته وإن كان صلّى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان».
وروى الخمسة عن أبي هريرة قال: «صلّى لنا رسول الله صلاة العصر فسلّم في ركعتين فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله: كلّ ذلك لم يكن، فقال: كان بعض ذلك يا رسول الله فأقبل رسول الله على الناس فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، فأتمّ رسول الله ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم». وروى الخمسة عن عبد الله: «أنّ رسول الله صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صلّيت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلّم. وفي رواية قال: أنا بشر
335
مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون. ثم سجد سجدتي السّهو». وروى الخمسة إلّا الترمذي عن أبي قتادة قال: «رأيت رسول الله يؤمّ الناس وأمامة بنت أبي العاص وهي ابنة زينب بنت رسول الله على عاتقه فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها» وروى أصحاب السنن عن عائشة قالت: «جئت ورسول الله يصلي في البيت والباب مغلق فمشى حتى فتح لي ثمّ رجع إلى مكانه ووصفت الباب في القبلة».
وروى الخمسة إلّا الترمذي عن عائشة قالت: «لقد رأيتني ورسول الله يصلّي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يسجد غمز رجليّ فقبضتهما». وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن سهل بن سعد عن النبي قال: «من نابه شيء في صلاته فليسبّح فإنّه إذا سبّح التفت إليه». وروى البخاري ومسلم عن عائشة: «أنّ رسول الله كان يصلّي الصبح بغلس فينصرف نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس».
وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله». وروى الخمسة إلّا أبا داود عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة». وروى أصحاب السنن وأحمد عن أبيّ بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحبّ إلى الله عزّ وجلّ». وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن نافع عن ابن عمر «أن رسول الله كان يأمر المؤذّن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول ألا صلّوا في الرّحال».
وروى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمع المنادي فلم يمنعه من اتّباعه عذر لم تقبل منه الصلاة التي صلّى. قالوا وما العذر؟ قال: خوف أو مرض».
وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن مالك بن الحويرث قال: «قال لنا رسول الله إذا حضرت الصلاة فأذّنا ثمّ أقيما وليؤمّكما أكبركما، ولأبي داود، ليؤذّن لكم خياركم وليؤمّكم قرّاؤكم». وروى الخمسة إلّا البخاري عن أبي مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يؤمّ القوم أقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم
336
بالسّنة فإن كانوا في السّنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمّنّ الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلّا بإذنه».
وروى أصحاب السنن عن مالك في الحديث قال: «سمعت رسول الله يقول من زار قوما فلا يؤمّهم وليؤمّهم رجل منهم». وروى الخمسة عن أبي مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ منكم منفّرين فأيّكم صلّى بالناس فليتجوّز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة وإذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء».
وروى أبو داود والحاكم وابن خزيمة وصححه عن عبد الرحمن بن خلّاد:
«أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يزور أمّ ورقة في بيتها فاستأذنته في مؤذّن فجعل لها مؤذّنا وأمرها أن تؤمّ أهل دارها». وروى البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال: «لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضعا بقباء قبل قدوم النبيّ كان يؤمّهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا». وروى أبو داود وأحمد عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استخلف ابن أمّ مكتوم يؤمّ الناس وهو أعمى». وروى أبو داود والدارقطني حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «الصلاة المكتوبة واجبة خلف كلّ مسلم برّا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر». وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما جعل الإمام ليؤتمّ به فإذا كبّر فكبّروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهمّ ربّنا لك الحمد. وإذا صلّى قائما فصلّوا قياما وإذا صلّى قاعدا فصلّوا قعودا أجمعين». وروى الطبراني عن أبي بكرة أنه ركع دون الصف فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «زادك الله حرصا ولا تعد صلّ ما أدركت واقض ما سبقك» «١».
وروى الطبراني عن ابن مسعود في الذي يفوته بعض الصلاة مع الإمام قال:
«يجعل ما لا يدرك مع الإمام آخر صلاته» «٢». وروى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأرض كلّها مسجد إلّا الحمّام
(١) عن «مجمع الزوائد» ج ١ ص ٧٦. ويفيد الحديثان أن على من يدرك الإمام وقد صلى بعض الركعات أن يتمم ما فاته منها بعد انتهاء الإمام من صلاته.
(٢) المصدر نفسه.
الجزء الأول من التفسير الحديث ٢٢
337
والمقبرة». وروى الترمذي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يصلّى في سبع مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمّام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله الحرام». وروى النسائي وأحمد وابن ماجه عن عمر قال: «صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تماما ليس بقصر على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم».
وروى أبو داود وأحمد والترمذي عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكبّر في الفطر والأضحى. في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمسا». ولفظ الترمذي:
«كان النبي يكبّر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الآخرة خمسا قبل القراءة». وروى الخمسة إلّا الترمذي عن جابر قال: «شهدت العيد مع رسول الله فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثمّ قام متوكّئا على بلال فأمر بتقوى الله وحثّ على طاعته ووعظ الناس وذكّرهم». وروى النسائي عن أبي رمثه قال:
«رأيت النبي يخطب وعليه بردان أخضران» وروى أصحاب السنن عن ابن عباس:
«أن رسول الله خرج في الاستسقاء متبذّلا متواضعا متضرّعا حتى أتى المصلّى فرقى المنبر فلم يخطب خطبكم هذه ولكن لم يزل في الدّعاء والتضرّع ثم صلّى ركعتين كما يصلّي في العيد». وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أوصاني خليلي بثلاث بصيام ثلاثة أيام من كلّ شهر وركعتي الضّحى وأن أو تر قبل أن أنام».
وروى الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفضل الصّيام بعد رمضان شهر الله الحرام وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل». وروى الترمذي وأحمد والحاكم عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عليكم بقيام الليل فإنّه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربّكم ومكفرة للسّيئات ومنهاة للإثم. وفي رواية ومطردة للدّاء عن الجسد».
وروى الخمسة عن ابن عمر: «أنّ رجلا قال: يا رسول الله كيف صلاة الليل؟
قال: مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة»
. وروى مسلم عن عائشة قالت:
«لما بدّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثقل كان أكثر صلاته جالسا». وروى الخمسة عن جابر قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلّها، كما يعلّمنا السورة من
338
القرآن يقول إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثمّ ليقل اللهمّ إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علّام الغيوب. اللهمّ إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسّره لي ثمّ بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عنّي واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به قال ويسمّي حاجته».
وروى الخمسة عن زيد بن أرقم قال: «كنّا نتكلّم في الصلاة يكلّم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصّلاة حتى نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [البقرة/ ٢٣٨] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام». وروى مسلم وأبو داود وأحمد عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن». وروى الخمسة إلّا الترمذي عن ابن عمر: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يركز له الحربة فيصلّي إليها». وروى أبو داود وأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا صلّى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصا فإن لم يكن معه عصا فليخطط خطا ثمّ لا يضرّه من مرّ أمامه». وروى الخمسة عن أبي جهم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم المارّ بين يدي المصلّي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمرّ بين يديه- قال أبو النضر أحد رواة الحديث- لا أدري قال أربعين يوما أو شهرا أو سنة».
وهناك أحاديث كثيرة أخرى في طهارة الثياب والوضوء والغسل من الجنابة ونظافة البدن والمياه وستر العورة والقبلة وصلاة الخوف والسفر والجمعة والميت والأذان والإقامة والمساجد مما له صلة بالصلاة سنورد الرئيسي منها في سياق إشارات وردت إليها في سور أخرى.
هذا، والصلاة في أصلها تمجيد وتسبيح وابتهال لله تعالى وأداء حقه من العبادة وطلب الرحمة والهدى منه. والصلاة الإسلامية من أكمل أشكال ذلك،
339
حيث توجب على المسلم أن يستعد لها بطهارة البدن والثوب ثم يدخل فيها متفرغا لله وحده بعبارة الله أكبر التي تعني التحرر من الغير وتقرير الكبرياء والعزّة والقوة لله وحده. ويكرر هذه العبارة عند كل حركة من حركات القيام والركوع والسجود والجلوس، ويتلو في مفتتح كل ركعة سورة الفاتحة التي تقرر الحمد لله رب العالمين، وتعلم إعلان الخضوع والعبادة له وحده وطلب الرحمة والهداية والعون منه وحده، ويركع ويسجد في كل ركعة مسبحا في ركوعه وسجوده باسم الله العظيم الأعلى.
ولقد أسبغ القرآن على الصلاة خطورة عظمى فجعلها من عناوين الإيمان والتقوى المتلازمة معهما كما جاء في آيات سورة البقرة هذه: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)، ونوّه بالمؤمنين الذين يقيمونها باستمرار وخشوع كما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢)، ووَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)، ووصفها بأنها كتاب، أو فرض معين الأوقات يجب أداؤها فيها على أي حال وفي أي ظرف ولو في ظرف القتال والحرب، كما جاء في آيات سورة النساء هذه: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣).
340
وجريا على العادة القرآنية في بيان فوائد أوامر الله ونواهيه في الدنيا والآخرة معا نبه في أكثر من آية إلى ما تؤدي إليه الصلاة من نتائج عظيمة خلقية وروحية واجتماعية مثل ما جاء في آية سورة البقرة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)، وفي آية سورة العنكبوت هذه: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)، وفي آيات سورة المعارج هذه: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ
(٣٤). ولقد أمر الله النبي صلّى الله عليه وسلّم بمعالجة ما كان يلم به من أزمات بالصلاة، ومن ذلك ما جاء في الآية الأخيرة من سورة العلق التي نحن في صددها، حيث أمرته بأن لا يأبه للطاغية المتصدي له، وبأن يسجد لله ويتقرب إليه حيث يجد في ذلك أمنه وطمأنينته.
ومن ذلك ما جاء في سورة الشرح: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)، ومن ذلك آيات سورة الحجر هذه:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)، ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذا موجه للمسلمين، وقد خوطبوا بذلك فعلا في آية سورة البقرة [١٥٣] التي أوردناها آنفا.
ولقد أثرت أحاديث نبوية كثيرة في فضل الصلاة وثوابها ورد كثير منها في
341
كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد روى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن الصنابحيّ حديثا جاء فيه: «أشهد أنّي سمعت رسول الله يقول: خمس صلوات افترضهنّ الله عزّ وجلّ، من أحسن وضوء هنّ وصلّاهنّ لوقتهنّ وأتمّ ركوعهنّ وخشوعهنّ كان له على الله عهد أن يغفر له» «١». وحديث رواه أبو داود عن أبي قتادة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عزّ وجلّ إني افترضت على أمتك خمس صلوات وعهدت عندي عهدا أنّه من جاء يحافظ عليهنّ لوقتهنّ أدخلته الجنة ومن لم يحافظ عليهنّ فلا عهد له عندي» «٢» وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كلّ يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء. قالوا: لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا» «٣» وروى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربّهم وهو أعلم بهم:
كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون وأتيناهم وهم يصلّون»
«٤».
وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفّارات لما بينهنّ ما لم تغش الكبائر» «٥». وروى مسلم حديثا عن عمرو بن سعيد جاء فيه: «كنت عند عثمان فدعا بطهور فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلّا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كلّه» «٦».
(١) «التاج»، ج ١ ص ١١٨.
(٢) المصدر نفسه، ج ١، ص ١١٨- ١١٩.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) المصدر نفسه.
342
وبهذا يتسق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر الخطير كما هو الشأن في كل أمر على ما سوف يأتي إيراده في مناسباته.
ومما لا ريب فيه أن الصلاة بإيمان وقلب وذكر وخشوع تجعل المصلي لا يفكر إلا في الله وعظمته، فتتحرر نفسه من كل خوف وقلق، ويشعر بالطمأنينة والقوة المعنوية، فتهون لديه كل خطوب الدنيا، ولا يعود يرى كبيرا إلا الله ولا قويّا إلّا الله ولا ضارّا ولا نافعا إلّا الله. ثم تجعله يستحيي من التلبس بالنفاق والكذب إذا ما خالف بين باطنه وظاهره وقوله وعمله، بينما هو يتهيأ من آن لآخر للوقوف بين يدي الله تعالى، فينتهي كما ذكرت آية سورة العنكبوت عن الفحشاء والمنكر، ويتطهر من الهلع والجزع ويتحلى بالصفات الكريمة الفاضلة كما ذكرت آيات سورة المعارج حقا وصدقا.
وعلى هذا فيسوغ القول إن الصلاة التي لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، ولا تجعله يتحلى بفاضل الأخلاق ويعمل صالح الأعمال لا تكون صحيحة. وهذا ما عبرت عنه أحاديث عديدة مروية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «١» منها: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له». ومنها: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلّا بعدا» ومنها: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة.
وطاعة الصلاة أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر»
.
هذا، وهناك أحاديث نبوية تسجل عظيم إثم تارك الصلاة حتى لتعتبره مرتدا وكافرا منها حديث رواه مسلم والنسائي والترمذي وأبو داود عن جابر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إنّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» «٢». وحديث رواه الترمذي عن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر». وحديث رواه الترمذي عن عبد الله بن شقيق قال: «كان أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم
(١) انظر تفسير الآية [٤٥] من سورة العنكبوت في تفسير ابن كثير.
(٢) «التاج»
، ج ١ ص ١٢٤- ١٢٥.
343
لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة» «١».
وننبه على أن مسألة كفر تارك الصلاة من المسائل الخلافية فهناك من الأئمة من أخذ بظاهر الأحاديث فاعتبر تارك الصلاة كافرا مرتدا يستتاب فإن لم يتب يقتل وفقا للتشريع النبوي الذي شرع قتله في حديث رواه الخمسة جاء فيه «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «٢». وهناك من تأول الأحاديث فذهب إلى أن الكفر والارتداد إنما يكونان بسبب جحود واجب الصلاة فقط. ويكون تاركها كسلا فاسقا مرتكبا إحدى الكبائر. ومهما يكن من أمر فالأحاديث تنطوي على تعظيم الصلاة وتفظيع إثم تاركها.
ولقد سألني سائل عن كيفية تعبّد النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء في اعتكافاته، قبل بعثته التي جاء ذكرها في الحديث الذي أوردناه قبل. وجوابا على السؤال قلنا إن القيام والركوع والسجود كأشكال للعبادة كانت معروفة وممارسة على ما تلهمه بعض آيات القرآن وهو ما ذكرناه قبل. وفي آيات سورة الحج [٢٥/ ٢٦] وسورة البقرة [١٢٤/ ١٢٥] التي أوردناها قبل أمر إبراهيم بتطهير بيت الله للقائمين الركع السجود. ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في جماعة أنفوا أن يسيروا في طريق الشرك ودين الجاهلية وكانوا ينشدون ملة إبراهيم. ولقد روي عن زيد بن عمرو أحد هؤلاء أنه كان يسجد في فناء الكعبة ويهتف قائلا: «لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم، إنني لك عان راغم. مهما تجشمني فإني جاشم» «٣». ولقد أمر الله نبيه بعد أن بعثه أن يقول: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) [الأنعام/ ١٦١- ١٦٣]، حيث يمكن
(١) المصدر السابق نفسه.
(٢) «التاج» ج. ٣ ص ١٧. [.....]
(٣) انظر «أسد الغابة» ج ٢ ص ١٧٨.
344
القول على ضوء ذلك أن من الجائز أن يكون تعبّد النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء قائما راكعا ساجدا داعيا لله مسبحا مقدسا ذلك غير أنه لا يمكن القول بجزم أنه كان يصلي بالصلاة الإسلامية المعروفة بحذافيرها لأن الآثار التي أوردناها تفيد أن هذه الصلاة كانت من تعليم جبريل بعد الوحي والله تعالى أعلم.
ومن الجدير بالذكر أن الصلاة الإسلامية المفروضة والنافلة على السواء، غير مقيدة بمكان وإمامتها غير منوطة بما يعرف في الملل الأخرى بطبقة الكهنوت ورجال الدين. فكل مكان طاهر ليس محلا للمناظر الكريهة يصح أن يكون مكانا لصلاة المسلم. وكل مسلم مهما كانت مهنته وصفته ولونه وجنسه يصح أن يؤمّ غيره إذا كان يحسن قراءة القرآن ويعرف سنن الصلاة، ولقد روي في صدد هاتين المسألتين أحاديث في الكتب المعتبرة. ففي صدد المسألة الأولى روى أبو داود والترمذي والحاكم عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأرض كلّها مسجد إلّا الحمام والمقبرة» «١» وروى الترمذي عن ابن عمر «أنّ رسول الله نهى أن يصلّى في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمّام ومعاطن الإبل وفوق ظهر البيت الحرام» «٢». وروى الخمسة إلّا أبا داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرّعب وأحلّت إليّ الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون» «٣».
تعليق على آية أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى
وبمناسبة ورود هذه الآية لأول مرة نقول: إن القرآن احتوى آيات كثيرة، نسبت فيها الرؤية والسمع إلى الله تعالى، وإنه دار جدل وتشاد بين علماء الكلام
(١) «التاج» ج ١ ص ٢١٩- ٢٢٠.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه ص ٢٠٥.
345
حول ذلك من حيث إنه إنما يحدث من أعضاء السمع والبصر، وما إذا كان لله سبحانه مثل هذه الأعضاء أم لا. وخير المذاهب في هذا الموضوع وأمثاله هو مذهب الصدر الإسلامي الأول، وهو عدم الخوض في الكيفيات وعدم التشاد والجدل حولها، مع تنزيه الله سبحانه عن كل مماثلة لخلقه وملاحظة الضابط القرآني المحكم المنطوي في آية سورة الشورى وهو: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [١١]، واعتبار أن المقصود بذلك وصف الله عز وجل بشمول العلم والإحاطة بكل شيء والقدرة على كل شيء والهيمنة الكاملة على الكون وما فيه من كائنات والتصرف المطلق فيه واتصافه بكل صفات الكمال. والمتدبر في نصف آية الشورى المذكورة والآية التالية لها يرى تأييد هذا قويا، وهذا نص الآيتين: فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢).
تعليق على كلمة (التقوى) وما ينطوي فيها من تلقين وأهداف جليلة
وبمناسبة ورود كلمة (التقوى) لأول مرة في السورة نقول إن الأمر بالتقوى والحثّ عليها والتنويه بالمتقين ووعد الله لهم بالغفران وتوسيع الرزق والهداية إلخ قد تكرر في القرآن كثيرا حتى لقد بلغ عدد الآيات التي وردت فيها الكلمة ومشتقاتها نحو مئتين وخمسين مرة مما يدل على مبلغ العناية القرآنية بذلك.
والكلمة في أصل معناها وقصدها التوقّي من غضب الله وسخطه باجتناب نواهيه واتباع أوامره. وهو لا يأمر إلّا بما فيه خير للإنسان والإنسانية. ولا ينهى إلّا عما فيه ضرر لهما. وبعبارة أخرى أن المقصد أو الهدف المتوخى من الأمر بالتقوى والحثّ عليها هو إصلاح الإنسان وتوجيه المسلم إلى كل ما فيه الخير
346
وإشعاره بالخوف من الله عز وجل وجعله يتجنب كل ما فيه شرّ وضرر.
وفي القرآن آيات عديدة تضمنت تقرير وجوب تلازم التقوى مع الإيمان مثل آيات سورة يونس هذه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣). وآية سورة الأعراف هذه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)، وآية سورة البقرة هذه: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)، وآية سورة المائدة هذه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣).
حيث يتضمن هذا تقرير كون الإيمان وحده لا يكفي لنجاة الإنسان إذا لم يرافقه عزم على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه وممارسته لذلك أو بعبارة أخرى تقرير كون الإيمان هو أمر في سريرة الإنسان لا دليل عليه إلّا التقوى التي تحمل المؤمن على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
وفي القرآن آيات عديدة تضمنت تقرير الفوائد المتنوعة التي ييسرها الله للمتقين مثل آيات سورة الطلاق هذه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣)، وهذه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤)، وهذه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥)، وآية سورة هود هذه: إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)، وآية سورة الأنفال هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)، وآية سورة الزمر هذه: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)، وآية سورة الحديد هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
347
اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(٢٨).
ويبدو هذا ظاهر الحكمة لأن المتقي يكون قد تجنب العثرات والمواقف الضارة المؤذية فأمن شرها وحظي بما يكون فيه الأمن والسلامة والنفع والخير والسداد والتوفيق والنجاح والنجاة في دنياه وأخراه. ولهذا كله حثّ القرآن على التقوى واعتبرها خير زاد يتزود بها المؤمن- والزاد لا بد منه لدوام الحياة مما يفهم ضرورته ذوو العقول النيرة- كما جاء في آية سورة البقرة هذه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)، ونبّه على أن أولياء الله هم المتقون كما جاء في آيات سورة يونس [٦٢/ ٦٣] التي أوردناها قبل قليل. وقرر أن الله هو ولي المتقين كما جاء في آية سورة الجاثية هذه: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩)، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم كما جاء في آية سورة الحجرات/ ١٣ وجعل قبول دعاء الداعين وعبادة العابدين منوطا بالتقوى كما جاء في آية سورة المائدة هذه: قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)، وكرر تقرير محبة الله للمتقين في آيات عديدة منها آية آل عمران هذه: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) «١»، وأنه مع الذين اتقوا كما جاء في سورة النحل:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)، وأنه ينجي الذين اتقوا كما جاء في آية سورة الزمر هذه: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) «٢»، وفي سورة البقرة آية فيها جماع الفضائل الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية وصف المتصفون بها بالمتقين وهي: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ
(١) لهذه الآيات أمثال أخرى فاكتفينا بمثل واحد.
(٢) المصدر نفسه.
348
وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧).
حيث يبدو من كل ذلك كما قلنا عناية الله الجليلة وحكمة التنزيل السامية بإصلاح المسلم وتوجيه إلى أحسن الوجهات التي فيها خيره وخير الإنسانية وسعادته في الدنيا والآخرة.
تعليق على مدى جملة: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ وما بعدها
وجملة: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ وما بعدها، تفتح الباب للكافر والمجرم والمنحرف للتراجع والأمل بعفو الله ومغفرته على سابق أفعاله. وتجعل العقوبة المنذر بها مستحقة عليه إذا أصرّ على كفره وإجرامه وانحرافه ولم ينته ولم يتراجع عنه.
ولقد انطوى هذا المعنى في آيات كثيرة جدا مكية ومدنية كثرة تغني عن التمثيل. بحيث يقال إن الإنذارات القرآنية إنما استهدفت في الدرجة الأولى تنبيه الكفار والمنحرفين والمجرمين وردعهم وصلاحهم وحملهم على التراجع والانتهاء من كفرهم وانحرافهم وإجرامهم. وفي هذا ما فيه من روعة وحكمة سامية وتلقين مستمر المدى.
تعليق على سنّة سجود التلاوة في مناسبة الآية الأخيرة من السورة
هذا وهناك أحاديث عديدة تقرر سنة نبوية بالسجود عند تلاوة عدد من الآيات فيها أمر بالسجود لله أو خبر باستكبار الكفار عنه. من جملة ذلك سنة:
349
السجود عند تلاوة آخر سورة العلق حيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثا جاء فيه: «سجدنا مع رسول الله في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق/ ١]، واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق/ ١] ».
ومن الأحاديث المروية في الموضوع عامة حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته». وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله، وفي رواية يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار».
وحديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر جاء فيه: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ علينا القرآن فإذا مرّ بالسجدة كبّر وسجد وسجدنا معه» «١».
وفي المصحف الذي اعتمدنا عليه إشارة إلى أربع عشرة سجدة هي آيات الرعد [١٥] والنحل [٤٩] والإسراء [١٠٧] ومريم [٥٨] والحج [١٨ و ٧٧] والفرقان [٦٠] والنمل [٢٥] والسجدة [١٥] وص [٢٤] وفصلت [٣٧] والنجم [٦٢] والانشقاق [٢١] والعلق [١٨]. وفي بعض هذه السجدات أحاديث دون بعض. ولقد روى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن العاص حديثا قال فيه: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرأني خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصّل وفي سورة الحجّ سجدتان» «٢». وروى الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء حديثا جاء فيه: «سجدت مع رسول الله إحدى عشرة سجدة منها التي في النجم» «٣». وروى أبو داود حديثا مرفوعا جاء فيه: «قرأ رسول الله وهو على المنبر (ص)، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّما هي توبة نبيّ ولكنّي رأيتكم تشزّنتم للسجود فنزل
(١) «التاج» ج ١ ص ١٩٨ وما بعدها.
(٢) التاج ج ١ ص ١٩٨ وما بعدها.
(٣) المصدر نفسه.
350
فسجد وسجدوا» «١». وهذا بالإضافة إلى حديث أبي هريرة الذي ذكر في سجدتي الانشقاق والعلق. وما بقية السجدات فهي على ما يبدو من تنبيهات المفسرين اجتهادية جريا على قاعدة ذكرها الزمخشري في سياق آية سورة النمل [٢٥] حيث قال إن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذم لمن تركها. ثم قال:
إن أبا حنيفة والشافعي رحمهما الله اتفقا على أن سجدات القرآن أربع عشرة وإنما اختلفا في سجدة (ص) وسجدتي (النحل).
ولقد روى الخمسة عن زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والنجم فلم يسجد فيها» وروى البخاري عن ربيعة بن عبد الله قال: «قرأ عمر بن الخطاب على المنبر يوم الجمعة بسورة النحل فلما جاء السّجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها فلما جاء السّجدة قال يا أيّها النّاس إنما نمرّ بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه ولم يسجد عمر» وروى البخاري حديثا عن ابن عمر جاء فيه: «إن الله لم يفرض علينا السجود إلّا أن نشاء».
ويلحظ أن السجدات جميعها في سور مكية وقد كان العهد المكي بنوع خاص عهد نضال وتشاد مريرين بين التوحيد والشرك والإيمان والكفر وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وكفار العرب وفي مقدمتهم زعماء مكة. حيث يلمح من ذلك حكمة السنة النبوية التي فيها علامة الاستجابة السريعة من أهل الإيمان إلى السجود إلى الله عز وجل عند كل مناسبة ورد وتحد عمليان على الكفار بسبب استكبارهم وعنادهم.
تعليق على الأحاديث الواردة في صدد فضل قراءة السور القرآنية
هذا، ولقد أورد الزمخشري في آخر تفسير هذه السورة حديثا معزوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله».
(١) المصدر السابق نفسه.
351
وننبّه بهذه المناسبة على أن الزمخشري يورد في آخر كل سورة بدون استثناء حديثا من هذا الباب «١». وقد نبّه ابن حجر الذي اضطلع بتخريج أحاديث هذا المفسر على ضعف رواة هذه الأحاديث وانقطاعها عن رسول الله، والمتبادر أن في هذا الحق والصواب. وقد جعلنا هذا نكتفي بإيراد حديث هذه السورة كمثال والتنبيه على ما نبه عليه ابن حجر.
على أننا ننبه على أن هناك أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة بالتنويه ببعض السور. ومن ذلك الأحاديث التي أوردناها في سورة الفاتحة.
وسنورد ما كان من هذا الباب في سياق السور التي جاءت في صددها.
(١) هذه بعض نماذج أخرى من هذه الأحاديث:
١- من قرأ لَمْ يَكُنِ كان يوم القيامة مع خير البرية.
٢- من قرأ سورة الشمس فكأنما تصدق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر.
٣- من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام.
٤- من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء له يوم القيامة.
٥- من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه.
٦- من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطي عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا والنصوص بينة لا تكاد تبقي شبهة في النفس بأنها موضوعة مكذوبة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
352
Icon