تفسير سورة التكاثر

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة التكاثر من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
تفسير سورة التكاثر
أهداف سورة التكاثر
( سورة التكاثر مكية، وآياتها ٨ آيات، نزلت بعد سورة الكوثر )
من أسباب النزول :
أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي بريدة قال : نزلت : ألهاكم التكاثر. في قبيلتين من الأنصار، وهما : بنو حارثة، وبنو الحرث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما : أفيكم مثل فلان وفلان ؟ وقالت الأخرى مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول : أفيكم مثل فلان وفلان ؟ وتشير إلى القبر، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله هذه السورة.
هذه السورة صيحة بالقلب البشري الغارق في التفاخر والتكاثر بالدنيا ومظاهرها، وتنبيه له إلى أن ما تفاخر به إلى زوال، وأن الدنيا قصيرة، وأن الغاية إلى حفرة ضيقة، وهناك ترى الحقيقة الباقية، واليقين المؤكد، وتسأل عن هذه الألوان المتنوعة من الملذات، وعن سائر ألوان النعيم، عن الشباب والمال والجاه والصحة والعافية، ماذا عملت بها ؟
( وروي : يسأل عن التنعم الذي شغله الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه، وعن الحسن : يسأل عما زاد عن كنّ يؤويه، وثوب يواريه، وكسرة تقوّيه )i.
مع آيات السورة
١، ٢- ألهاكم التكاثر* حتى زرتم المقابر. أيها السادرون الغافلون، أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة، وأنتم مفارقون، أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه. أيها التاركون ما تتكاثرون به وتتفاخرون إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر، استيقظوا وانظروا.. فقد شغلكم حب الكثرة والفخر حتى هلكتم، وصرتم من الموتى، ورأيتم الحساب والجزاء.
وفي صحيح مسلم، عن مطرف، عن أبيه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ : ألهاكم التكاثر. قال :( يقول ابن آدم : مالي، ومالك، يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتركه للناس ). ii.
٣، ٤- كلاّ سوف تعلمون* ثم كلاّ سوف تعلمون.
أي : ازدجروا عن مثل هذا التكاثر والتفاخر، والجأوا إلى التناصر على الحق، والتكاتف على أعمال البر، والتضافر على ما فيه حياة الأفراد والجماعات، من تقويم الأخلاق، والتعاون على الخير والمعروف، وإنكم سوف تعلمون سوء مغبة ما أنتم عليه.
ثم كلاّ سوف تعلمون. وهو تكرير للوعيد لتأكيد الزجر والتوبيخ، كما يقول الإنسان لآخر : أقول لك لا تفعل، ثم أقول لك لا تفعل.
٥- كلاّ لو تعلمون علم اليقين. أي : ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم، فإنكم لو تعلمون عاقبة أمركم لشغلكم ذلك عن التكاثر، وصرفكم إلى صالح الأعمال، وأن ما تدّعونه علما ليس في الحقيقة بعلم، وإنما وهم وظن، لا يلبث أن يتغير لأنه لا يطابق الواقع، والجدير أن يسمى علما هو علم اليقين المطابق للواقع، بناء على العيان والحس، أو الدليل الصحيح الذي يؤيده العقل، أو النقل الصحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
٦- لترونّ الجحيم. ولا شك في رؤيتها، والمراد برؤية الجحيم : ذوق عذابها، ثم أكد هذا المضمون بقوله :
٧- ثم لترونّها عين اليقين. أي : لترونها رؤية هي اليقين بنفسه، مهما كانت نسبتكم أو مجدكم، فلن ينجيكم منها سوى أعمالكم.
٨- ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم. لتسألن عنه : من أين نلتموه ؟ وفيم أنفقتموه ؟ أمن طاعة وفي طاعة ؟ أم من معصية وفي معصية ؟ أمن حلال وفي حلال ؟ أم من حرام وفي حرام ؟ هل شكرتم ؟ هل أديتم حق النعيم ؟ هل شاركتم الفقير والمسكين ؟ هل استأثرتم وبخلتم ومنعتم صاحب الحق حقه ؟
لتسألن عما تتكاثرون به وتتفاخرون.. فهوعبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم، ولكن وراءه ما وراءه من همّ ثقيل.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ). iii.
***
مقاصد سورة التكاثر
١- ذم الانشغال بمظاهر الحياة.
٢- التذكير بالموت والقبر والحساب.
٣- زجر الغافلين والعابثين، وتذكيرهم بيوم الدين.
٤- لن ينقذهم من النار جاه ولا سلطان، ولن ينفعهم سوى العمل الصالح.
٥- الحساب على النعيم حق، فيجب أن يكون النعيم حلالا طيبا.

ذمّ التفاخر بالدنيا
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ ألهاكم التكاثر ١ حتى زرتم المقابر ٢ كلاّ سوف تعلمون ٣ ثم كلاّ سوف تعلمون ٤ كلاّ لو تعلمون علم اليقين ٥ لترونّ الجحيم ٦ ثم لترونّها عين اليقين ٧ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ٨ ﴾
المفردات :
ألهاكم : شغلكم.
التكاثر : التباهي والتفاخر بالكثرة في الأموال والأولاد والأهل والعشيرة.
زرتم المقابر : صرتم إليها ودفنتم فيها.
التفسير :
١، ٢- ألهاكم التكاثر* حتى زرتم.
شغلكم طلب الكثير من المال والجاه والسلطان، رغبة في كثرة ما تملكون، لتكونوا أكثر مالا أو متاعا من أندادكم ونظرائكم، ولم تلتفتوا إلى عين الحقيقة، وهي أن المال الحقيقي هو الذي ينفقه الإنسان في سبيل الله، وأن الفضل الحقيقي هو عمل الخير والمعروف ابتغاء وجه الله، لأن ذلك هو الذي ينفعك في قبرك، ويعلي درجتك في الآخرة.
حتى زرتم المقابر.
حتى ذهبتم إلى المقابر ودفنتم فيها، ولم تجدوا أثرا لتكاثر الدنيا، والتشبّع بأموالها.
وفي قوله : حتى زرتم المقابر. إشارة لطيفة إلى أن بيت الإقامة الدائمة هو الجنة أو النار، أما الزائر فإنه ينتقل عن بيت الزيارة، فالقبر مدفن مؤقّت، والدار الآخرة هي الحياة الدائمة.
وقيل : إن الآية تحتمل معنى آخر، هو : شغلكم التفاخر والتكاثر بالأحياء حتى زرتم المقابر لتفتخروا بمن مات منكم من عظماء الدنيا على القبائل الأخرى.
أو المعنى : بنيتم مقابر مشيّدة تفاخرا بها، كما قال الشاعر :
أرى أهل القصور إذا أميتوا بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخرا على الفقراء حتى في القبور
المفردات :
كلا : كلمة يراد بها الزجر والردع.
سوف تعلمون : خطأ ما أنتم فيه من التكاثر والتباهي، وكرر الجملة للتأكيد.
التفسير :
٣، ٤- كلاّ سوف تعلمون* ثم كلاّ سوف تعلمون.
كلاّ : ارتدعوا عن التنافس والتسابق في شئون الدنيا.
سوف تعلمون. سوف تعلمون عاقبة جهلكم، وانشغالكم بما لا يفيد، إذا دفنتم في قبوركم.
ثم كلاّ سوف تعلمون.
تأكيد للأول، وزيادة في الزجر والتهديد.
قال ابن عباس :
كلاّ سوف تعلمون. ما ينزل بكم من العذاب في القبر.
ثم كلاّ سوف تعلمون. أي : في الآخرة إذا حل بكم العذاب. اه.
المفردات :
لو تعلمون علم اليقين : المراد : ما ألهاكم ذلك عن الآخرة والعمل لها.
التفسير :
٥- كلاّ لو تعلمون علم اليقين.
تكررت كلاّ. ثلاث مرات، وهي حرف ردع وزجر، أي : انصرفوا عن الهوى والتفاخر والتكاثر بمال زائل، لأن الفخر الحقيقي بالمال الذي تنفقونه في سبيل الله فينفعكم.
لو تعلمون علم اليقين. جواب لو. هنا محذوف، تقديره : لو تعلمون العلم اليقينيّ النافع لازدجرتم واستعددتم للآخرة.
وإنما حذف الجواب لقصد التهويل، ولتذهب النفس في تصوّره كل مذهب.
كقوله تعالى : ولو ترى إذ وقفوا على النار... ( الأنعام : ٢٧ ).
قال المفسرون : وجواب لو. محذوف لقصد التهويل، أي : لو عرفتم ذلك لما ألهالكم التكاثر بالدنيا عن طاعة الله، ولما خدعتم بنعيم الدنيا عن أهوال الآخرة وشدائدها.
كما قال صلى الله عليه وسلم :( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ). iv.
المفردات :
لترون الجحيم : تفسير للوعيد السابق المكرر.
التفسير :
٦- لترونّ الجحيم.
لتشاهدنّ جهنم مشاهدة حقيقية، وهذه الآية جواب قسم مضمر، أي : أقسم وأؤكد أنكم ستشاهدون الجحيم عيانا ويقينا.
توعدكم الله بهذا الحال وهو رؤية أهل النار، التي إذا زفرت زفرة واحدة خرّ كل ملك مقرب ونبي مرسل على ركبتيه، من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال، على ما جاء به الأثر المروي في ذلك.
المفردات :
عين اليقين : عين هي اليقين نفسه.
التفسير :
٧- ثم لترونّها عين اليقين.
أي : ثم لترونها رؤية حقيقية بالمشاهدة العينية، أي أن ذلك أمر مؤكد، أن تشاهدوا جهنم مشاهدة حقيقية، بحيث لا يلتبس عليكم أمرها.
جاء في التفسير الوسيط للدكتور محمد سيد طنطاوي ما يأتي :
وقد قالوا إن مراتب العلم ثلاثة :
علم اليقين : وهو ما كان ناتجا عن الأدلة والبراهين.
وعين اليقين : وهو ما كان عن مشاهدة وانكشاف.
وحقّ اليقين : وهو ما كان عن ملابسة ومخاطبة.
ومثال ذلك : أن تعلم بالأدلة أن الكعبة موجودة فذلك علم اليقين، فإذا رأيتها بعينيك فذلك عين اليقين، فإذا ما دخلت في جوفها فذلك حقّ اليقين. v.
٨- ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم.
أي : ثم لتسألن يومئذ عن شكر نعمة الله عليكم، من العافية والرزق والحياة والعقل وسائر النّعم، حتى الشربة الباردة في اليوم الحار.
ومعروف أن شكر النعمة هو استخدامها فيما خلقها الله له، فشكر المال صلة الرحم وعمل الخير، وشكر نعمة النظر غض البصر عن المحارم، والتأمل في كتاب الله وفي خلق الكون.
قال الشيخ محمد عبده في تفسير جزء عمّ ما يأتي :
ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم.
أي : إن هذا النعيم الذي تتفاخرون به، وتعدّونه مما يباهي به بعضكم بعضا، هو مما لا بد أن تسألوا عنه : ماذا صنعتم به ؟ هل أديتم حق الله فيه، وراعيتم حدود أحكامه في التمتع به ؟ فإن لم تكن الحقوق أدّيت، ولم تكن الأحكام روعيت، كان هذا النعيم غاية الشقاء في دار البقاء.
نسأل الله أن يوفقنا لرعاية أحكامه فيما أنعم به علينا. اه.
من هدي السّنة
روى البخاري في صحيحه، والترمذي في سننه، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )vi.
ومعنى هذا أنهم مقصّرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون.
وقال ابن عباس :
ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم.
قال : النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل الله العباد فيم استعملوها، وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله تعالى :
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا. vii. ( الإسراء : ٣٦ ).
i تفسير النسفي ٤/٢٧٩.
ii يقول ابن آدم مالي مالي :
رواه مسلم في الزهد ( ٢٩٥٨ ) والترمذي في الزهد ( ٢٣٤٢ ) وفي التفسير ( ٣٣٥٤ ) والنسائي في الوصايا ( ٣٦١٣ ) وأحمد في مسنده ( ١٥٨٧٠ ) من حديث مطرف عن أبيه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ :﴿ ألهاكم التكاثر ﴾ قال : يقول ابن آدم مالي مالي، قال : وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأمضيت.
iii من أصبح منكم آمنا في سربه :
رواه الترمذي في الزهد ( ٢٣٤٦ ) وابن ماجة في الزهد ( ٤١٤١ ) من حديث سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مروان بن معاوية، وحيزت : جمعت.
iv انظر تفسير القرطبي للآية.
v التفسير الوسيط د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، الجزء الثلاثون، سورة التكاثر ص ٦٩٨.
vi نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ :
رواه البخاري في الرقاق ( ٦٤١٢ ) والترمذي في الزهد ( ٢٣٠٤ ) وابن ماجة في الزهد ( ٤١٧٠ ) والدارمي في الرقاق ( ٢٧٠٧ ) وأحمد في سمنده ( ٢٣٣٦، ٣١٧٩ ) من حديث ابن عباس يرفعه :( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ).
vii مختصر تفسير ابن كثير المجلد الثالث ص٦٧٣.
Icon