هذه السورة مكية. لما قال فيما قبلها :﴿ إِنَّ الإنسَانَ * لَفِي * خُسْرٍ ﴾،
بين حال الخاسر فقال :﴿ وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ ﴾، ونزلت في الأخنس بن شريق، أو العاصي بن وائل، أو جميل بن معمر، أو الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف، أقوال. ويمكن أن تكون نزلت في الجميع، وهي مع ذلك عامة فيمن اتصف بهذه الأوصاف. وقال السهيلي : هو أمية بن خلف الجمحي، كان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم، ويعينه ذكره ابن إسحاق. وإنما ذكرته، وإن كان اللفظ عاماً، لأن الله سبحانه وتعالى تابع في أوصافه والخبر عنه حتى فهم أنه يشير إلى شخص بعينه، وكذلك قوله في سورة ن :﴿ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ﴾ تابع في الصفات حتى علم أنه يريد إنساناً بعينه.
ﰡ
[سورة الهمزة (١٠٤) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤)وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩)
الْحُطَمَةُ: أَصْلُهُ الْوَصْفُ مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ حُطَمَةٌ: أَيْ أَكُولٌ. قَالَ الرَّاجِزُ:
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقِ الْحُطَمِ وَقَالَ آخَرُ:
إِنَّا حطمناه بِالْقَضِيبِ مُصْعَبًا | يَوْمَ كَسَرْنَا أَنْفَهُ لِيَغْضَبَا |
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. لَمَّا قَالَ فِيمَا قَبْلَهَا: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «١»، بَيَّنَ حَالَ الْخَاسِرِ فَقَالَ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ، ونزلت في الأحسن بْنِ شُرَيْقٍ، أَوِ الْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، أَوْ جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ، أَوِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَوْ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، أَقْوَالٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْجَمِيعِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ عَامَّةٌ فِيمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، كَانَ يَهْمِزُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُعَيِّنُهُ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَإِنَّمَا ذكرته، وإن كان
تُدْلِي بِوُدِّي إِذَا لَاقَيْتَنِي كَذِبًا | وَإِنْ أَغِيبُ فَأَنْتَ الْهَامِزُ اللُّمَزَهْ |
وَعَدَّدَهُ بِشَدِّ الدَّالِ الْأُولَى: أَيْ أَحْصَاهُ وَحَافَظَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: جَعَلَهُ عِدَّةً لِطَوَارِقِ الدَّهْرِ وَالْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: بِتَخْفِيفِهِمَا، أَيْ جَمَعَ الْمَالَ وَضَبَطَ عَدَدَهُ. وَقِيلَ: وَعَدَدًا مِنْ عَشِيرَتِهِ.
وَقِيلَ: وَعَدَدَهُ عَلَى تَرْكِ الْإِدْغَامِ، كَقَوْلِهِ:
إِنِّي أَجُودُ لِأَقْوَامٍ وَإِنْ ضَنِنُوا أَخْلَدَهُ: أَيْ أَبْقَاهُ حَيًّا، إِذْ بِهِ قِوَامُ حَيَاتِهِ وَحِفْظُهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ طَوَّلَ الْمَالُ أَمَلَهُ وَمَنَّاهُ الْأَمَانِيَّ الْبَعِيدَةَ، حَتَّى أَصْبَحَ لِفَرْطِ غَفْلَتِهِ وَطُولِ أَمَلِهِ يَحْسَبُ أَنَّ الْمَالَ تَرَكَهُ خَالِدًا فِي الدُّنْيَا لَا يَمُوتُ. قِيلَ: وَكَانَ لِلْأَخْنَسِ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ. وَقِيلَ: عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ. كَلَّا رَدْعٌ لَهُ عَنْ حُسْبَانِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيُنْبَذَنَّ فِيهِ ضَمِيرُ الْوَاحِدِ وَعَلِيٌّ وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: لينبذان، بِأَلِفِ ضَمِيرِ اثْنَيْنِ: الْهُمَزَةُ وَمَالُهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: لَيُنْبَذُنَّ بِضَمِّ الذَّالِ، أَيْ هُوَ وَأَنْصَارُهُ. وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو: لَيَنْبُذَنَّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي الْحُطَمَةِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:
فِي الْحَاطِمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاطِمَةُ، وَهِيَ النَّارُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُحَطِّمَ كُلَّ مَا يُلْقَى فِيهَا.
قَالَ الضَّحَّاكُ: الْحُطَمَةُ: الدَّرْكُ الرَّابِعُ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الطَّبَقَةُ السَّادِسَةُ مِنْ جَهَنَّمَ وَحَكَى عَنْهُ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّهَا الدَّرَكَةُ الثَّانِيَةُ وَعَنْهُ أَيْضًا: الْبَابُ الثَّانِي. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، انْتَهَى.
ونارُ اللَّهِ: أَيْ هِيَ، أَيِ الْحُطَمَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ: ذُكِرَتِ الْأَفْئِدَةُ لِأَنَّهَا أَلْطَفُ مَا فِي الْبَدَنِ وَأَشَدُّهُ تَأَلُّمًا بِأَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الْأَذَى وَاطِّلَاعُ النَّارِ عَلَيْهَا هُوَ أَنَّهَا تَعْلُوهَا
بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، الْوَاحِدُ عَمُودٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَمْعُ عَمُودٍ، كَمَا قَالُوا: أَدِيمٌ وَأُدُمٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَمْعُ عِمَادٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي عَمَدٍ حَدِيدٍ مَغْلُولِينَ بِهَا. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هَذِهِ النَّارُ هِيَ قُبُورُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَارُ الْآخِرَةِ، إِذْ يَئِسُوا مِنَ الْخُرُوجِ بِإِطْبَاقِ الْأَبْوَابِ عَلَيْهِمْ وَتَمَدُّدِ الْعَمَدِ، كُلُّ ذَلِكَ إِيذَانًا بِالْخُلُودِ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهَا عَمَدٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا فِي النَّارِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هِيَ الْقُيُودُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.