تفسير سورة الإنسان

اللباب
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية، وهي إحدى وثلاثون آية، ومائتان وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وخمسون حرفا.
قال ابن عباس ومقاتل والكلبي : هي مكية١.
وقال الجمهور : مدنية.
وقيل : فيها مكي من قوله تعالى :﴿ إنا نزلنا عليك القرآن تنزيلا ﴾ [ الإنسان : ٢٣ ] إلى آخر السورة وما تقدمه مدني.
وذكر ابن وهب قال : وحدثنا ابن زيد قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ ﴿ هل أتى على الإنسان حين من الدهر ﴾ وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عمر بن الخطاب : لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له دعه يا ابن الخطاب قال : فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه، وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أخرج نفس صاحبكم – أو أخيكم – الشوق إلى الجنة " ٢.
وقال القشيري : إن هذه السورة نزلت في علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه -، والمقصود من السورة عام، وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا.
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٠) وعزاه إلى النحاس عن ابن عباس.
وينظر تفسير الماوردي (٦/١٢٦١) والقرطبي (١٩/٧٧)..

٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٧٧)..

وقال القشيري: إن هذه السورة نزلت في علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -، والمقصود من السورة عام، وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان﴾ في «هل» هذه وجهان:
3
أحدهما: أنها على بابها من الاستفهام المحض، أي: هو ممن يسال لغرابته أأتى عليه حين من الدهر لم يكن كذا فإنه يكون الجواب: أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكورة. كذا قاله أبو حيان.
وقال مكي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام: والأحسن أن تكون على بابها للاستفهام الذي معناه التقرير وإنما هو تقرير لمن أنكر البعث فلا بد أن يقول: نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه، فيقال له: من أحدثه بعد أن لم يكن وكونه بعد عدمه، كيف يمتنع عليه بعثه، وإحياؤه بعد موته، وهو معنى قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٦٢] أي: فهلا تذكرون، فتعلمون أن من أنشأ شيئاً بعد أن لم يكن قادراً على إعادته بعد موته وعدمه انتهى.
فقد جعلها لاستفهام التقرير لا للاستفهام المحض، وهذا هو الذي يجب أن يكون؛ لأن الاستفهام لا يرد من الباري - تعالى - على هذا النحو وما أشبهه.
والثاني: قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة وحكي أيضاً عن سيبويه: أنها بمعنى «قد» قال الفرَّاء: «هل» تكون جحداً وتكون خبراً، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تقرره: بأنك أعطيته، والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟.
وقال الزمخشري: «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة، والأصل: «أهل» ؛ بدليل قوله: [البسيط]
٥٠١٩ - سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ لِشدَّتِنَا أهَلْ رَأوْنَا بوَادِي القِفِّ ذِي الأكَمِ؟
فالمعنى: أقد أتى، على التقرير والتقريب جميعاً، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب «حين من الدهر لم يكن» فيه ﴿شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ أي: شيئاً منسيّاً غير مذكور انتهى.
فقوله «على التقرير» يعني المفهوم من الاستفهام، وهو الذي فهمه مكي من نفس «هل» لا تكون بمعنى «قد» إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم، أو تقريراً كالآية الكريمة.
فلو قلت: هل جاء زيد، يعني: قد قام، من غير استفهام لم يجز. وغيره قد جعلها بمعنى «قد» من غير هذا القَيْدِ.
وبعضهم لا يجيز ذلك ألبتة ويتأول البيت المتقدم على أنه مما جمع فيه بين حرفي معنى للتأكيد، وحسن ذلك اختلاف لفظهما؛ كقوله: [الطويل]
4
٥٠٢٠ - فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ... فالباء بمعنى «عن» وهي مؤكدة لها، وإذا كانوا قد أكدوا مع اتفاق اللفظ؛ كقوله: [الوافر]
٥٠٢١ - فَلاَ - واللَّهِ - لا يُلْفَى لِمَا بِي ولا لِلمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ
فلأن يؤكد مع اختلافه أحرى، ولم يذكر الزمخشري غير كونها بمعنى «قد»، وبقي على الزمخشري قيد آخر، وهو أن يقول: في الجمل الفعلية، لأنه متى دخلت «هل» على جملة اسمية استحال كونها بمعنى «قد» لأن «قد» مختصة بالأفعال.
قال شهاب الدين: وعندي أن هذا لا يرد لأنه تقرر أن «قد» لا تباشر الأسماء.

فصل في المراد بالإنسان المذكور في الآية


قال قتادة والثوري وعكرمة والشعبي: إن المراد بالإنسان هنا آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهو مروي عن ابن عباس.
وقيل: المراد بالإنسان: بنو آدم لقوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ﴾.
فالإنسان في الموضعين واحد وعلى هذا فيكون نظم الآية أحسن.
وقوله: ﴿حِينٌ مِّنَ الدهر﴾
قال ابن عباس في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة، ثم نفخ فيه الروح.
وحكى الماوردي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره.
وقال الحسن: خلق الله تبارك وتعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البر
5
والبحر في الأيام الست التي خلق الله - تعالى - فيها السماوات والأرض، وآخر ما خلق آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فهو كقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾.
فإن قيل: إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً، والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً ﴿حينٌ من الدَّهْرِ﴾ مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً.
فالجواب: أن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان، ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح، ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان، ومن قال: إن الإنسان هوالنَّفس الناطقة، وأنها موجودة قبل وجود الأبدان فالإشكال عنهم زائل، واعلم أنَّ الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث، وإذا كان كذلك فلا بد من محدث قادر.
قوله: «لم يكن» في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في موضع نصب على الحال من الإنسان أي هل أتى عليه حين في هذه الحال.
والثاني: أنها في موضع رفع نعتاً ل «حين» بعد نعت، وعلى هذا فالعائد محذوف، تقديره: حين لم يكن فيه شيئاً مذكوراً. والأول أظهر لفظاً ومعنى.

فصل في تفسير الآية


روى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ : لا في السماء ولا في الأرض.
وقيل: كان جسداً مصوراً تراباً وطيناً لا يعرف ولا يذكر، ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً. قاله الفراء وقطرب وثعلب.
وقال يحيى بن سلام: ﴿لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق حيواناً بعده، ومن قال: إنَّ المراد من الإنسان الجنس من ذرية آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فالمراد بالحين تسعة أشهر مدة الحمل في بطن أمه ﴿لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ إذ كان مضغة وعلقة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له.
وقال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما قرأ هذه الآية: ليتها تمَّت فلا نبتلى، أي ليت المدة التي أتت على آدم لم يكن شيئاً مذكوراً تمت على ذلك فلا يلد ولا يبتلى، أي ليت المدة التي أتت على آدم لم يكن شيئاً مذكوراً تمت على ذلك فلا يلد ولا يبتلى أولاده، وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً يقرأ: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ فقال: ليتا تمّت.
6
قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان﴾. يعني ابن آدم من غير خلاف «من نُطْفَة» أي: من ماء يقطر وهو المنيّ، وكل ماء قليل في وعاء، فهو نطفة؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه: [الرجز]
٥٠٢٢ - مَا لِي أرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّهْ هَلْ أنْتِ إلاَّ نُطفةٌ فِي شَنِّه؟
وجمعها: نطف ونطاف.
قوله: «أمْشَاجٍ» : نعت ل «نُطْفَةٍ» ووقع الجمع نعتاً لمفرد؛ لأنه في معنى الجمع كقوله تعالى: ﴿رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ [الرحمن: ٧٦] أو جعل جزء من النطفة نطفة، فاعتبر ذلك فوصفت بالجمع.
وقال الزمخشري: «نُطْفةٍ أمشاج» كبُرمةٍ أعشارٍ وبُرٍّ أكباش وثوب أخلاق وأرضٍ يباب وهي الفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد، ويقال: نطفة مشج؛ قال الشماخ: [الوافر]
٥٠٢٣ - طَوتْ أحْشَاءَ مُرْتِجَةٍ لوقتٍ عَلى مَشجٍ سُلالتُهُ مَهِينُ
ولا يصح في «أمْشَاجٍ» أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما.
فقد منع أن يكون «أمشاج» جمع «مشج» بالكسر.
قال أبو حيان: وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن «أفعالاً» لا يكون مفرداً.
قال سيبويه: وليس في الكلام «أفْعَال» إلا أن يكسر عيله اسماً للجميع، وما ورد من وصف المفرد ب «أفعال» تأولوه انتهى.
قال شهاب الدين: هو لم يجعل «أفعالاً» مفرداً، إنما قال: يوصف به المفرد، يعني التأويل ذكرته من أنهم جعلوا كل قطعة من البُرْمة بُرْمة، وكل قطعة من البرد برداً، فوصفوهما بالجمع.
وقال أبو حيان: «الأمشاج» : الأخلاط، وأحدها «مَشَج» بفتحتين أو مشج كعدل وأعدال، أو مشيج كشريف وأشراف. قاله ابن العربي؛ وقال رؤبة [الرجز]
7
٥٠٢٤ - يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعجلٍ مشَّاجِ لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أمْشَاجِ
وقال الهذليُّ يصف السهم لهم بأنه قد نفذ في الرمية فالتطخ ريشه وفوقاه بدم يسير: [الوافر]
٥٠٢٥ - كَأنَّ الرِّيشَ والفُوقيْنِ مِنْهُ خِلافُ النَّصْلِ سيطَ بِهِ مشيجُ
ويقال: مَشَج يمشُج مشجاً إذا خلط، فمشيج ك «خليط»، وممشوج ك «مخلوط» انتهى.
فجوز أن يكون جمعاً ل «مشيج» كعدل، وقد تقدم أن الزمخشري منع من ذلك.
وقال الزمخشري: «ومشجه ومزجه بمعنى، من نطفة قد امتزج فيها الماءَانِ».
وقال القرطبي: ويقال: مشجت هذا بهذا أي: خلطته، فهو ممشوج ومشيج، مثل مخلواط وخليط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم، وهو دم الحيض، وذلك أنَّ المرأة إذا بلغت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها، فاختلطت النُّطفة بالدم.
وقال الفراء: أمشاج: اختلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة.
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: الأمشاج في الحمرة، والبياض في الحمرة، وعنه أيضاً قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق، فيخلق الولد فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم وشعر فهو من ماء المرأة.
قال القرطبي: «وقد روي هذا مرفوعاً؛ ذكره البزار».
وعن ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة.
وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء.
وقال ابن عباس: خلق من ألوان، خلق من تراب ثم من ماء الفرج والرحم وهي نطفة ثم علقة، ثم مضغة ثم عظم ثم لحم، ونحوه.
8
قال قتادة: هي أطوار الخلق: طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، وطوراً عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً.
قال ابن الخطيب: وقيل: إن الله - تعالى - جعل في النطفة أخلاطاً من الطَّبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والتقدير: من نطفة ذات أمشاج، فحذف المضاف وتم الكلام.
قوله: «نبتليه». يجوز في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها حال من فاعل خلقنا، أي: خلقناه حال كوننا مبتلين له.
والثاني: أنها حال من الإنسان، وصح ذلك لأن في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال، ثم هذه الحال أن تكون مقارنة إن كان معنى «نبتليه» نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة كما قال ابن عباس وأن تكون مقدرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف؛ لأنه وقت خلقه غير مكلف.
وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكون ناقلين له من حال إلى حال، فسمي بذلك ابتلاء على طريق الاستعارة».
قال شهاب الدين: «وهذا معنى قول ابن عباس المتقدم».
وقال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والأصل: إننا جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، أي: جعلنا له ذلك للابتلاء، وهذا لا حاجة إليه.

فصل في تفسير قوله تعالى نبتليه


قوله: «نبتليه» : لنبتليه، كقولك: «جئتك أقضي حقك، أي لأقضي حقك وآتيك أستمنحك كذا» ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾
[المدثر: ٦] أي: لتستكثر.
ومعنى: «نبتليه» نختبره، وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار، وفيما يختبر به وجهان:
أحدهما: قال الكلبي: نختبره بالخير والشر.
والثاني: قال الحسن: نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء.
9
وقيل: «نَبْتَلِيه» نكلّفه بالعمل بعد الخلق. قاله مقاتل رَحِمَهُ اللَّهُ. وقيل: نكلفه؛ ليكون مأموراً بالطاعة، ومنهياً عن المعاصي.
وقوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾.
والمعنى: إنا خلقناه في هذه الأمشاج لا للعبث بل للابتلاء والامتحان، ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، والمعنى: جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى وبصراً يبصر به الهدى كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ﴾ [مريم: ٤٢] وقد يراد بالسميع المطيع، كقوله: «سَمْعاً وطَاعَة»، وبالبصير: العالم، يقال: لفلان بصر في هذا الأمر.
وقيل: المراد بالسمع والبصر: الحاسَّتان المعروفتان، والله - تعالى - خصهما بالذكر؛ لأنهما أعظم الحواس وأشرفهما.
قوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل﴾ أي: بيَّنا له وعرفناه بطريق الهدى والضلال والخير والشر ببعث الرسل فآمن أو كفر.
وقال مجاهد: السبيل هنا خروجه من الرحم.
وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله.

فصل في ان العقل متأخر عن الحواس


قال ابن الخطيب: أخبر الله - تعالى - أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال، قال: والآية تدل على أن العقل متأخر عن الحواس، وهو كذلك ثم ينشأ عنها عقائد صادقة أولية كعلمنا بان النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي العقل.
قال الفراء: هذا يتعدى بنفسه وباللام.
قوله: ﴿إِمَّا شَاكِراً﴾. نصب على الحال، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من مفعول «هَدَيْنَاهُ» أي: هديناه مبيناً له كلتا حالتيه.
قال أبو البقاء: وقيل: وهي حال مقدرة.
قال شهاب الدين: لأنه حمل الهداية على أول البيان له وفي ذلك الوقت غير متصف بإحدى الصفتين.
10
والثاني: أنه حال من «السبيل» على المجاز.
قال الزمخشري: «ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل، إما سبيلاً شاكراً، وإما سبيلاً كفوراً، كقوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ [البلد: ١٠]، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً».
والعامة على كسر همزة «إما» وهي المرادفة ل «أو» وقد تقدم خلاف النحويين فيها.
ونقل مكي عن الكوفيين أن هاهنا: «إن» الشرطية زيدت بعدها «ما» ثم قال: «وهذا لا يجيزه البصريون؛ لأن» إن «الشرطية لا تدخل على الأسماء إلاَّ أن يضمر فعل نحو: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين﴾ [التوبة: ٦]، ولا يصح إضمار الفعل، ويمكن أن يضمر فعل ينصب» شاكر «، وأيضاً لا دليل على الفعل» انتهى.
قال شهاب الدين: لا نسلم أنه يلزم رفع «شاكراً» مع إضمار الفعل، ويمكن أن يضمر فعل ينصب «شاكراً» تقديره: إنا خلقناه شاكراً فشكوراً، وإنا حلقناه كافراً فكفوراً.
وقرأ أبو السمال، وأبو العجاج: بفتحها، وفيه وجهان:
أحدهما: أنها العاطفة وأنها لغة، وبعضهم فتح الهمزة؛ وأنشدوا على ذلك: [الطويل]
٥٠٢٦ - تُنفِّخُهَا أمَّا شِمالٌ عَرِيَّةٌ... وأمَّا صَبَا جُنحِ العَشِيِّ هَبُوبُ
بفتح الهمزة.
ويجوز مع فتح الهمزة إبدال ميمها الأولى ياء؛ قال [البسيط]
٥٠٢٧ - أيْمَا إلَى جَنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ... وحذف الواو بينهما.
والثاني: أنها «إما» التفصيلية وجوابها مقدر.
قال الزمخشري: وهي قراءة حسنة، والمعنى: إما شاكراً فبتوفيقنا، وإما كفوراً فبسوء اختياره انتهى، ولم يذكر غيره.
11

فصل في الكلام على الآية


قال ابن الخطيب بعد حكايته أن «شاكراً وكفوراً» حالان: إنّ المعنى: كلما يتعلق بهداية الله تعالى وإرشاده فقد تم حالتي الكفر والإيمان.
وقيل: وانتصب «شاكراً وكفوراً» بإضمار «كان» والتقدير: سواء كان شاكراً أو كان كفوراً.
وقيل: معناه إن هديناه السبيل ليكون إما شاكراً وإما كفوراً، أي يتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته كقوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك: ٢] قال القفال: ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل كقولك: «قد نصحت لك إن شئت فاقبل، وإن شئت قاترك» فتحذف الفاء، وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد، أي: إنا هديناه السبيل، فإن شاء فليشكر، وإن شاء فليكفر فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا قوله ﴿وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩].
وقيل: حالان من السبيل، فإن شاء فليشكر، وإن شاء فليكفر.
وقيل: حالان من السبيل، أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.
قال ابن الخطيب: وهذه الأقوال لائقةٌ بمذهب المعتزلة.
وقيل قول الخامس مطابق لمذهب أهل السنة واختاره الفراء وهو أن تكون «إما» في هذه الآية كما في قوله تعالى: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٠٦] والتقدير: إنا هديناه السبيل، ثم جعلناه تارة شاكراً، وتارة كفوراً ويؤيده قراءة أبي السمال المتقدمة، قالت المعتزلة: هذا التأويل باطل لتهديده الكفار بعد هذه الآية بقوله تعالى ﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً﴾ [الإنسان: ٤] ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه، ولما بطل هذا التأويل الأول، وهو أنه - تعالى - هدى جميع المكلفين، سواء آمن أو كفر، وبهذا بطل قول المجبرة.
وأجيب: بأنه - تعالى - لما علم من الكافر أنه لا يؤمن، ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بالجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان، وهذا تكليف بالجمع بين متنافيين، فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز ايضاً أن يخلق الكفر فيه، ولا يصير ذلك عذراً في سقوط التهديد والوعيد، فإذا ثبت هذا ظهر أن هنا التأويل هوالحق، وبطل تأويل المعتزلة.
12

فصل في جمعه تعالى بين الشاكر والكفور


قال القرطبي: «جمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة نفياً للمبالغة في الشكر، وإثباتاً لها في الكفر؛ لأن شكر الله - تعالى - لا يؤدّى فانتفت عنه المبالغة، ولم ينتف عن الكفر المبالغة فقلَّ شكره لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قلّ مع الإحسان إليه، حكاه الماوردي».
13
قوله :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان ﴾. يعني ابن آدم من غير خلاف «من نُطْفَة » أي : من ماء يقطر وهو المنيّ، وكل ماء قليل في وعاء، فهو نطفة ؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه :[ الرجز ]
٥٠٢٢- مَا لِي أرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّهْ هَلْ أنْتِ إلاَّ نُطفةٌ فِي شَنِّه ؟١
وجمعها : نطف ونطاف.
قوله :«أمْشَاجٍ » : نعت ل «نُطْفَةٍ » ووقع الجمع نعتاً لمفرد ؛ لأنه في معنى الجمع كقوله تعالى :﴿ رَفْرَفٍ خُضْرٍ ﴾ [ الرحمن : ٧٦ ] أو جعل جزء من النطفة نطفة، فاعتبر ذلك فوصفت بالجمع.
وقال الزمخشري :«نُطْفةٍ أمشاج » كبُرمةٍ أعشارٍ وبُرٍّ أكباش وثوب أخلاق وأرضٍ يباب وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد، ويقال : نطفة مشج ؛ قال الشماخ :[ الوافر ]
٥٠٢٣- طَوتْ أحْشَاءَ مُرْتِجَةٍ لوقتٍ عَلى مَشجٍ سُلالتُهُ مَهِينُ٢
ولا يصح في «أمْشَاجٍ » أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما.
فقد منع أن يكون «أمشاج » جمع «مشج » بالكسر.
قال أبو حيان٣ : وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن «أفعالاً » لا يكون مفرداً.
قال سيبويه : وليس في الكلام «أفْعَال » إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع، وما ورد من وصف المفرد ب «أفعال » تأولوه انتهى.
قال شهاب الدين٤ : هو لم يجعل «أفعالاً » مفرداً، إنما قال : يوصف به المفرد، يعني التأويل ذكرته من أنهم جعلوا كل قطعة من البُرْمة بُرْمة، وكل قطعة من البرد برداً، فوصفوهما بالجمع.
وقال أبو حيان٥ :«الأمشاج » : الأخلاط، وأحدها «مَشَج » بفتحتين أو مشج كعدل وأعدال، أو مشيج كشريف وأشراف. قاله ابن العربي ؛ وقال رؤبة [ الرجز ]
٥٠٢٤- يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعجلٍ مشَّاجِ لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أمْشَاجِ٦
وقال الهذليُّ يصف السهم لهم بأنه قد نفذ في الرمية فالتطخ ريشه وفوقاه بدم يسير :[ الوافر ]
٥٠٢٥- كَأنَّ الرِّيشَ والفُوقيْنِ مِنْهُ*** خِلافُ النَّصْلِ سيطَ بِهِ مشيجُ٧
ويقال : مَشَج يمشُج مشجاً إذا خلط، فمشيج ك «خليط »، وممشوج ك «مخلوط » انتهى.
فجوز أن يكون جمعاً ل «مشيج » كعدل، وقد تقدم أن الزمخشري منع من ذلك.
وقال الزمخشري :«ومشجه ومزجه بمعنى، من نطفة قد امتزج فيها الماءَانِ ».
وقال القرطبي٨ : ويقال : مشجت هذا بهذا أي : خلطته، فهو ممشوج ومشيج، مثل مخلواط وخليط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم، وهو دم الحيض٩، وذلك أنَّ المرأة إذا بلغت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها، فاختلطت النُّطفة بالدم.
وقال الفراء : أمشاج : اختلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة.
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : الأمشاج في الحمرة، والبياض في الحمرة١٠، وعنه أيضاً قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق، فيخلق الولد فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم وشعر فهو من ماء المرأة١١.
قال القرطبي١٢ :«وقد روي هذا مرفوعاً ؛ ذكره البزار ».
وعن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة١٣.
وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء١٤.
وقال ابن عباس : خلق من ألوان، خلق من تراب ثم من ماء الفرج والرحم وهي نطفة ثم علقة، ثم مضغة ثم عظم ثم لحم١٥، ونحوه.
قال قتادة : هي أطوار الخلق : طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، وطوراً عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً١٦.
قال ابن الخطيب١٧ : وقيل : إن الله - تعالى - جعل في النطفة أخلاطاً من الطَّبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والتقدير : من نطفة ذات أمشاج، فحذف المضاف وتم الكلام.
قوله :«نبتليه ». يجوز في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها حال من فاعل خلقنا، أي : خلقناه حال كوننا مبتلين له.
والثاني : أنها حال من الإنسان، وصح ذلك لأن في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال، ثم هذه الحال أن تكون مقارنة إن كان معنى «نبتليه » نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة كما قال ابن عباس وأن تكون مقدرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف ؛ لأنه وقت خلقه غير مكلف.
وقال الزمخشري :«ويجوز أن يكون ناقلين له من حال إلى حال، فسمي بذلك ابتلاء على طريق الاستعارة ».
قال شهاب الدين١٨ :«وهذا معنى قول ابن عباس المتقدم ».
وقال بعضهم : في الكلام تقديم وتأخير، والأصل : إننا جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، أي : جعلنا له ذلك للابتلاء، وهذا لا حاجة إليه.

فصل في تفسير قوله تعالى نبتليه


قوله :«نبتليه » : لنبتليه، كقولك :«جئتك أقضي حقك، أي لأقضي حقك وآتيك أستمنحك كذا » ونظيره قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴾[ المدثر : ٦ ]
أي : لتستكثر.
ومعنى :«نبتليه » نختبره، وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار، وفيما يختبر به وجهان :
أحدهما : قال الكلبي : نختبره بالخير والشر١٩.
والثاني : قال الحسن : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء٢٠.
وقيل :«نَبْتَلِيه » نكلّفه بالعمل بعد الخلق. قاله مقاتل رحمه الله. وقيل : نكلفه ؛ ليكون مأموراً بالطاعة، ومنهياً عن المعاصي.
وقوله :﴿ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾.
والمعنى : إنا خلقناه في هذه الأمشاج لا للعبث بل للابتلاء والامتحان، ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، والمعنى : جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى وبصراً يبصر به الهدى كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام :﴿ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ﴾ [ مريم : ٤٢ ] وقد يراد بالسميع المطيع، كقوله :«سَمْعاً وطَاعَة »، وبالبصير : العالم، يقال : لفلان بصر في هذا الأمر.
وقيل : المراد بالسمع والبصر : الحاسَّتان المعروفتان، والله - تعالى - خصهما بالذكر ؛ لأنهما أعظم الحواس وأشرفهما.
١ ينظر اللسان (شنن)، والقرطبي ١٩/٧٨، وجامع البيان ٢٩/١٢٦..
٢ ينظر ديوانه ٣١٨، والكشاف ٤/٦٦٦، وشرح شواهده ص ٥٥٩، والكامل ٣٠/١١٣، واللسان (شجج)، والبحر ٨/٣٨٤، والدر المصون ٦/٧٣٧..
٣ البحر المحيط ٨/٣٩٤..
٤ الدر المصون ٦/٤٣٧..
٥ البحر المحيط ٨/٣٩١..
٦ ينظر ديوانه ص (٣٢)، والطبري ٢٩/١٢٦، والبحر ٨/٣٨٤، والدر المصون ٦/٤٣٧..
٧ ينظر ديوان الهذليين ٣/١٠٤، ومجاز القرآن ٢/٢٧٩، والطبري ٢٩/ ١٢٦، والبحر المحيط ٨/٣٨٤، والكامل ٢/٩١، والدر المصون ٦/٤٠٣..
٨ ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩/٧٩..
٩ في أ: الحيضة..
١٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٤/٤٢٦- ٤٢٧) وينظر المصدر السابق..
١١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٤٢٦-٤٢٧) وينظر المصدر السابق..
١٢ ذكره الجامع لأحكام القرآن ١٩/٧٩..
١٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨١) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
١٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٥٥) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٣) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
١٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٥٥)..
١٦ أخرجه الطبري في "تفسيره' (١٢/٣٥٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
١٧ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٢٠٩..
١٨ ينظر الدر المصون ٦/٤٣٨..
١٩ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٦٣) والقرطبي (١٩/٧٩)..
٢٠ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل ﴾ أي : بيَّنا له وعرفناه بطريق الهدى والضلال والخير والشر ببعث الرسل فآمن أو كفر.
وقال مجاهد : السبيل هنا خروجه من الرحم١.
وقيل : منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله.

فصل في أن العقل متأخر عن الحواس


قال ابن الخطيب٢ : أخبر الله - تعالى - أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال، قال : والآية تدل على أن العقل متأخر عن الحواس، وهو كذلك ثم ينشأ عنها عقائد صادقة أولية كعلمنا بان النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي العقل.
قال الفراء : هذا يتعدى بنفسه وباللام.
قوله :﴿ إِمَّا شَاكِراً ﴾. نصب على الحال، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من مفعول «هَدَيْنَاهُ » أي : هديناه مبيناً له كلتا حالتيه.
قال أبو البقاء : وقيل : وهي حال مقدرة.
قال شهاب الدين٣ : لأنه حمل الهداية على أول البيان له وفي ذلك الوقت غير متصف بإحدى الصفتين.
والثاني : أنه حال من «السبيل » على المجاز.
قال الزمخشري :«ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل، إما سبيلاً شاكراً، وإما سبيلاً كفوراً، كقوله تعالى :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ [ البلد : ١٠ ]، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً ».
والعامة على كسر همزة «إما »، وهي المرادفة ل «أو » وقد تقدم خلاف النحويين فيها.
ونقل مكي عن الكوفيين أن هاهنا :«إن » الشرطية زيدت بعدها «ما » ثم قال :«وهذا لا يجيزه البصريون ؛ لأن » إن «الشرطية لا تدخل على الأسماء إلاَّ أن يضمر فعل نحو :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين ﴾ [ التوبة : ٦ ]، ولا يصح إضمار الفعل، ويمكن أن يضمر فعل ينصب «شاكر »، وأيضاً لا دليل على الفعل » انتهى.
قال شهاب الدين٤ : لا نسلم أنه يلزم رفع «شاكراً » مع إضمار الفعل، ويمكن أن يضمر فعل ينصب «شاكراً » تقديره : إنا خلقناه شاكراً فشكوراً، وإنا حلقناه كافراً فكفوراً.
وقرأ أبو السمال٥، وأبو العجاج : بفتحها، وفيه وجهان :
أحدهما : أنها العاطفة وأنها لغة، وبعضهم فتح الهمزة ؛ وأنشدوا على ذلك :[ الطويل ]
٥٠٢٦- تُنفِّخُهَا أمَّا شِمالٌ عَرِيَّةٌ وأمَّا صَبَا جُنحِ العَشِيِّ هَبُوبُ٦
بفتح الهمزة.
ويجوز مع فتح الهمزة إبدال ميمها الأولى ياء ؛ قال [ البسيط ]
٥٠٢٧- *** أيْمَا إلَى جَنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ٧***
وحذف الواو بينهما.
والثاني : أنها «إما » التفصيلية وجوابها مقدر.
قال الزمخشري : وهي قراءة حسنة، والمعنى : إما شاكراً فبتوفيقنا، وإما كفوراً فبسوء اختياره انتهى، ولم يذكر غيره.

فصل في الكلام على الآية


قال ابن الخطيب بعد حكايته أن «شاكراً وكفوراً » حالان : إنّ المعنى : كلما يتعلق بهداية الله تعالى وإرشاده فقد تم حالتي الكفر والإيمان.
وقيل : وانتصب «شاكراً وكفوراً » بإضمار «كان » والتقدير : سواء كان شاكراً أو كان كفوراً.
وقيل : معناه إنا هديناه السبيل ليكون إما شاكراً وإما كفوراً، أي يتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته كقوله تعالى :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ الملك : ٢ ] قال القفال : ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل كقولك :«قد نصحت لك إن شئت فاقبل، وإن شئت قاترك » فتحذف الفاء، وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد، أي : إنا هديناه السبيل، فإن شاء فليشكر، وإن شاء فليكفر فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا قوله ﴿ وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ].
وقيل : حالان من السبيل، فإن شاء فليشكر، وإن شاء فليكفر.
وقيل : حالان من السبيل، أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.
قال ابن الخطيب٨ ٩ : وهذه الأقوال لائقةٌ بمذهب المعتزلة.
وقيل قول الخامس مطابق لمذهب أهل السنة واختاره الفراء وهو أن تكون «إما » في هذه الآية كما في قوله تعالى :﴿ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٦ ] والتقدير : إنا هديناه السبيل، ثم جعلناه تارة شاكراً، وتارة كفوراً ويؤيده قراءة أبي السمال المتقدمة، قالت المعتزلة : هذا التأويل باطل لتهديده الكفار بعد هذه الآية بقوله تعالى ﴿ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً ﴾، ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه، ولما بطل هذا التأويل الأول، وهو أنه - تعالى - هدى جميع المكلفين، سواء آمن أو كفر، وبهذا بطل قول المجبرة.
وأجيب : بأنه - تعالى - لما علم من الكافر أنه لا يؤمن، ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بالجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان، وهذا تكليف بالجمع بين متنافيين، فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز أيضا أن يخلق الكفر فيه، ولا يصير ذلك عذراً في سقوط التهديد والوعيد، فإذا ثبت هذا ظهر أن هنا التأويل هو الحق، وبطل تأويل المعتزلة.

فصل في جمعه تعالى بين الشاكر والكفور


قال القرطبي١٠ :«جمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة نفياً للمبالغة في الشكر، وإثباتاً لها في الكفر ؛ لأن شكر الله - تعالى - لا يؤدّى فانتفت عنه المبالغة، ولم ينتف عن الكفر المبالغة فقلَّ شكره لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قلّ مع الإحسان إليه، حكاه الماوردي ».
١ ذكره الماوردي (٦/١٦٤) والقرطبي (١٩/٨٠) عن أبي صالح والضحاك والسدي..
٢ الفخر الرازي ٣٠/٢١٠..
٣ الدر المصون ٦/٤٣٨..
٤ السابق..
٥ ينظر المحرر الوجيز ٥/٤٠٩، والبحر المحيط ٨/٣٨٦..
٦ البيت لأبي القمقام الأسدي ينظر خزانة الأدب ١١/٨٧، وشرح جمل الزجاجي لابن عصفور ١/٢٣٢، والبحر ٨/٣٨٧، والدر المصون ٦/٤٣٩..
٧ تقدم..
٨ الفخر الرازي ٣٠/٢١١..
٩ السابق..
١٠ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٨٠..
قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ﴾.
قرأ نافع والكسائي، وهاشم وأبو بكر، «سَلاسِلاً» والباقون: بغير تنوين.
ووقف هؤلاء، وحمزة، وقنبل عليه بالألف بلا خلاف.
وابن ذكوان والبزي وحفص: بالألف وبدونها - يعني بلا ألف - والباقون: وقفوا بالألف بلا خلاف.
فقد تحصّل من هذا أن القراء على أربع مراتب، منهم من ينون وصلاً ويقف بالألف وقفاً بلا خلاف وهما حمزة وقنبل، ومنهم من لم ينون ويقف بالألف بلا خلاف، وهو أبو عمرو وحده، ومنهم من لم ينون ويقف بالألف تارة وبدونها أخرى، وهم ابن ذكوان وحفص والبزي، فهذا ضبط ذلك.
13
فأما التنوين في «سَلاسِل» فذكروا له أوجهاً:
منها: أنه قصد بذلك التناسب؛ لأن ما قبله وما بعده منون منصوب.
ومنها: أن الكسائي وغيره من أهل «الكوفة» حكوا عن بعض العرب أنهم يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا «أفعل منك».
قال الأخفش: سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف؛ لأن الأصل في الأسماء الصرف، وترك الصرف لعارض فيها، وأن هذا الجمع قد جمع وإن كان قليلاً قالوا: «صواحب وصواحبات»، وفي الحديث: «إنَّكُنَّ لصَواحِباتُ يُوسُف» ؛ وقال: [الرجز]
٥٠٢٨ - قَدْ جَرتِ الطَّيْرُ أيَامِنينَا فجمع «أيامن» جمع تصحيح المذكر.
وأنشدوا: [الكامل]
٥٠٢٩ - وإذَا الرِّجالُ رَأوا يَزيدَ رَأيْتهُمْ خُضعَ الرِّقابِ نَواكِس الأبْصَارِ
بكسر السين من «نواكس» وبعدها ياء تظهر خطًّا لا لفظاً لالتقاء الساكنين، وهذا على رواية كسر السين، والأشهر فيها نصب السين، فلما جمع شابه المفردات فانصرف.
ومنها: أنه مرسوم في إمام «الحِجَاز» و «الكوفة» بالألف، رواه أبو عبيد، ورواه قالون عن نافع، وروى بعضهم ذلك عن مصاحف «البصرة» أيضاً.
وقال الزمخشري: فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون هذه النون بدلاً من حرف الإطلاق، ويجري الوصل مجرى الوقف.
والثاني: أن يكون صاحب هذه القراءة ممن ضري برواية الشعر ومرن لسانه على صرف ما لا ينصرف.
قال شهاب الدين: «وفي هذه العبارة فظاظة وغلظة، لا سيما على مشيخة
14
الإسلام، وأئمة العلماء الأعلام، ووقف هؤلاء بالألف ظاهر».
وأما لمن لم ينونه فظاهر، لأنه على صيغة منتهى الجموع.
وقولهم: قد جمع نحو «صواحبات، وأيامنين» لا يقدح؛ لأن المحذور جمع التكسير، وهذا جمع تصحيح، وعدم وقوفهم بالألف واضح أيضاً. وأما من لم ينون ووقف بالألف فاتباعاً للرسم الكريم كما تقدم.
وأيضاً: فإن الروم في المفتوح لا يجوزه القراء، والقارئ قد يبين الحركة في وقفه فأتوا بالألف ليبين منها الفتحة.
وروي عن بعضهم أنه يقول: «رَأيْتُ عُمَراً» بالألف، يعني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسلاسل: جمع سلسلة وهي القيود في جهنم، وقد تقدم الكلام عنها في سورة «الحاقة».

فصل


اعلم أنه بيّن - هاهنا - حال الفريقين، وأنه تعبد العقلاء، وكلّفهم ومكّنهم مما أمرهم فمن كفر فله العقاب، ومن وحد وشكر فله الثَّواب، والاعتداد هو اعتداد الشَّيء حتى يكون عتيداً حاضراً متى احتيج إليه، كقوله تعالى: ﴿هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ [ق: ٢٣]، والأغلال: جمع غل، تغلّ بها أيديهم إلى أعناقهم. وقد تقدم الكلام في السعير أيضاً.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ﴾ الآية. لما ذكر ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للشاكرين، والأبرار أهل الصدق، واحدهم: برّ، وهو من امتثل أمر الله تعالى.
وقيل: البر: الموحد، والأبرار: جمع «بار» مثل: «شاهد وأشهاد».
وقيل: هو جمع «بر» مثل: «نهر وأنهار».
وفي «الصحاح» : وجمع البر: الأبرار، وجمع البار: البررة، وفلان يبرُّ خالقه ويتبرره أي يطيعه، والأم برة بولدها.
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّما سمَّاهُم اللهُ - تَعالَى - الأبْرَارَ؛ لأنَّهُمْ بَرُّوا الآبَاءَ والأبناءَ، كما أنَّ لِوالديكَ عَلَيْكَ حقًّا، كذَلكَ لَوَلدكَ عَليْكَ حقًّاً».
وقال الحسن: البر الذي لا يؤذي الذَّرَّ.
15
وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدّون حق الله، ويوفون بالنذر، وفي الحديث: «الأبْرَارُ الَّذينَ لا يُؤذُوَن أحَداً».
﴿يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ﴾. أي: من إناء فيه الشراب.
قال ابن عباس: يريد الخمر.
والكأس في اللغة: الإناء فيه الشراب، وإذا لم يسمَّ كأساً.
قوله تعالى: ﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً﴾ المزاج: ما يمزج به أي: يخلط، يقال: مزجه يمزجه مزجاً أي: خلطه يخلطه خلطاً.
قال حسان: [الوافر]
٥٠٣٠ - كَأنَّ سَبيَئةً من بَيْتِ رَأسٍ يَكونُ مَزَاجهَا عَسلٌ ومَاءُ
فالمزاج كالقِوام اسم لما يقاوم به الشيء، ومنه مزاج البدن: وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة.
و «الكافور» : طيب معروف، وكأن اشتقاقه من الكفر، وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته، والكافور أيضاً: كمائم الشجر الذي يغطّي ثمرتها.
قال بعضهم: الكافُور: «فاعول» من الكفر كالنّاقور من النَّقر، والغامُوس من الغمس، تقول: غامسته في الماء أي: غمسته، والكفر: القرية والجبل العظيم؛ قال: [الطويل]
٥٠٣١ -.................................. تُطَلَّعُ ريَّاهُ من الكفَرَاتِ
والكافور: البحر، والكَافِر: الليل، والكَافِر: الساتر لنعم الله تعالى، والكَافِر: الزارع لتوريته الحب في الأرض؛ قال الشاعر: [السريع]
٥٠٣٢ - وكَافرٍ مَاتَ على كُُفْرِهِ وجَنَّةُ الفِرْدَوسِ للكَافِرِ
والكفَّارة: تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة، والكافور: ماء جوف شجر مكنون، فيغرزونه بالحديد، فيخرج إلى ظاهر الشجر، فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار.
16
ويقال: كفر الرجل يكفر إذا وضع يده على صدره.

فصل في الآية


قال ابن الخطيب: مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً، فما السبب في ذكره؟.
والجواب من وجوه:
أحدها: قال ابن عباس: اسم عين ماء في الجنة يقال له: عين الكافور أي: يمازجه ماء هذا العين التي تسمى كافوراً في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته.
وثانيها: أن رائحة الكافور عرض، والعرض لا يكون إلا في جسم، فخلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك التراب فسمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً فيكون ريحها لا طعمها.
وثالثها: أن الله تبارك وتعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة، ثم إنه - تعالى - يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها من المضرات في الدنيا.
قال سعيد عن قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك.
وقيل: أراد بالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده، لأن الكافور لا يشرب، كقوله تعالى: ﴿حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً﴾ [الكهف: ٩٦]، أي: كَنَارٍ.
وقيل: كان في علم الله تعالى، و «كان» زائدة، أي: من كأس مزاجها.
قال القرطبي: ويقال: «كافور وقافور» وهي قراءة عبد الله بالقاف بدل الكاف، وهذا من التعاقب بين الحرفين كقولهم: «عربي فجّ وكجّ».
ومفعول «يشربون» إما محذوف، أي: يشربون ماء أو خمراً من كأس، وإما مذكور وهو «عيناً»، وإما «من كأس» و «من» مزيدة فيه، وهذا يتمشّى عند الكوفيين والأخفش.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولاً، وبحرف
17
الإلصاق آخراً؟ قلت: لأن الكأس مبدأ شربهم، وأول غايته، وأما العين فبها يمزجون شرابهم، فكأن المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول: شربت الماء بالعسل».
قوله: ﴿عَيْناً﴾. في نصبها أوجه:
أحدها: بدل من «كافوراً» ؛ لأن ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وفي برده.
الثاني: أنها بدل من محل «من كأس». قاله مكي. ولم يقدر حذف مضاف.
وقدر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف، قال: كأنه قيل: يشربون خمراً، خمر عين. وأما أبو البقاء فجعل المضاف مقدراً على وجه البدل من «كافور».
قال: «والثاني: بدل من كافور، أي: من ماء عين، أو خمر عين». وهو معنى حسن.
والثالث: أنها مفعول ب «يشربون» يفسره ما بعده، أي يشربون عيناً من كأس.
الرابع: أن ينتصب على الاختصاص.
الخامس: بإضمار «يشربون» يفسره ما بعده، قاله أبو البقاء. وفيه نظر؛ لأن الظاهر أنه صفة ل «عين» فلا يصح أن يفسر.
السادس: بإضمار «يعطون».
السابع: على الحال من الضمير في «مزاجها». قاله مكي.
وقال القرطبي: «نصب بإضمار أعني».
قوله: «يشرب بها». في الباء أوجه:
أحدها: أنها مزيدة، أي: يشربها، ويدل له قراءة ابن أبي عبلة: يشربها معدى إلى الضمير بنفسه.
الثاني: أنها بمعنى «من».
الثالث: أنها حالية، أي: يشرب ممزوجة بها.
الرابع: أنها متعلقة ب «يشرب» والضمير يعود على الكأس، أي: يشربون العين بذلك الكأس، والباء للإلصاق كما تقدم في قول الزمخشري.
الخامس: أنه على تضمين «يشربون» معنى يلتذّون بها شاربين.
السادس: على تضمينه معنى يروى، أي: يروى بها عباد الله، وكهذه الآية الكريمة في بعض الأوجه قول الهذلي: [الطويل]
18
فهذه يحتمل الزيادة ويحتمل أن تكون بمعنى «من».
وقال الفراء: «يشربها ويشرب بها سواء في المعنى، وكأن يشرب بها: يروى بها وينفع بها، وأما يشربونها فبيِّن، وأنشد قول الهذلي، قال: ومثله: يتكلم بكلام حسن، ويتكلم كلاماً حسناً».
والجملة من قوله «يشرب بها» في محل نصب صفة ل «عيناً» إن جعلنا الضمير في «بها» عائداً على «عيناً» ولم نجعله مفسراً لناصب كما قاله أبو البقاء، و «يفجرونها» في موضع الحال.

فصل في المراد بعباد الله هاهنا


قال ابن الخطيب: قوله: ﴿يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله﴾ يفيد أن كل عباد الله يشربون منها، والكفار بالاتفاق لا يشربون على أن لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان، وإذا ثبت هذا فقوله تعالى: ﴿وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر﴾ [الزمر: ٧] لا يتناول الكفار، بل يختص بالمؤمنين، فيصير تقدير الآية: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، ولا تدل الآية على أنه - تعالى - لا يريد الكفر للكفار.
قوله: ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾. أي: يشققونها شقًّا كما يفجر الرجل النَّهر هاهنا وهاهنا إلى حيث شاءوا، ويتبعهم حيث مالوا مالت معهم.
روى القرطبي عن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أرْبع عُيونٍ في الجَنَّةِ اثْنان يَجْرِيَانِ مِنْ تَحْتِ العَرْشِ؛ إحداهما الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تعالى يُفجِّرونها تفجيراً وعينان يجريان من فَوْقِ العرشِ نضَّاختان: إحداهُما الَّتي ذكر اللهُ تعالى سبيلاً، والأُخرى: التَّسْنِيمُ» ذكره الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول».
وقال: فالتَّسْنيم للمقربين خاصة، شراباً لهم، والكافور للأبرار شراباً لهم، يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم، وأما الزَّنجبيل والسَّلسبيل فللأبرار [منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب فما كان للأبرار مزاج] للمقربين صرف، وما كان للأبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج، والأبرار هم الصادقون والمقربون: هم الصديقون.
قوله تعالى: ﴿يُوفُونَ بالنذر﴾ يجوز أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له ألبتة، ويجوز أن يكون خبراً ل «كان» مضمرة.
19
قال الفراء: التقدير «كانوا يوفون بالنَّذر في الدنيا، وكانوا يخافُون» انتهى. وهذا لا حاجة إليه.
الثالث: جواب لمن قال: ما لهم يرزقون ذلك؟.
قال الزمخشري: «يوفون» جواب من عيسى يقول: ما لهم يرزقون ذلك؟.
قال أبو حيان: «واستعمل» عسى «صلة ل» من «وهو لا يجوز، وأتى بالمضارع بعد» عسى «غير مقرون ب» أن «وهو قليل أو في الشعر».

فصل في معنى الآية


معناه: لا يخلفون إذا نذروا، وقال معمر عن قتادة: يأتون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات.
وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله تعالى.
وقال الفراء والجرجاني: وفي الكلام إضمار، أي: كانوا يوفون بالنذر في الدنيا والعرب قد تزيد مرة «كان» وتحذف أخرى.
وقال الكلبي: «يُوفُونَ بالنَّذرِ» أي: يتممون العهود لقوله تعالى ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله﴾ [النحل: ٩١] و ﴿أَوْفُواْ بالعقود﴾ [المادة: ١] أمرٌ بالوفاء بها؛ لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان.
قال القرطبي: «والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه [من شيء يفعله، وإن شئت قلت في حد النذر هو إيجاب المكلف على نفسه] من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه».
وقال ابن الخطيب: الإيفاءُ بالشيء هو الإتيان به وافياً.
وقال أبو مسلم: النذر كالوعد، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر، وإن كان من الله فهو وعد، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن تقول: لله عليَّ كذا وكذا من الصدقة، أو يسلم بأمر يلتمسه من الله - تعالى - مثل أن تقول: إن شفى الله مريضي، أو ردَّ غائبي
20
فعليَّ كذا وكذا، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر كقوله: إن أتى فلان الدَّار فعلى هذا، فمنهم من جعله كاليمين، ومنهم من جعله من باب النذور.

فصل في المراد بالإيفاء بالنذر


قال القشيري: روى أشهب عن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال «يُوفُونَ بالنَّذْرِ» هو نذر العتق، والصيام والصلاة.
وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال: قال مالك: «يُوفُونَ بالنَّذرِ» قال: النذر هو اليمين.
قال ابن الخطيب: هذه الآية تدلّ على وجوب الوفاء بالنذر؛ لأنه تعالى قال عقيبه: «ويخَافُونَ يَوْماً» وهذا يقتضي أنهم إنما وفَّوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً ويؤكده قوله تعالى:
﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: ٩١] وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ﴾ [الحج: ٢٩] وهذا محتمل ليوفوا أعمال نسكهمُ التي ألزموها أنفسهم.

فصل في زيادة كان


قال الفراء وجماعة من أهل المعاني: «كان» في قوله تعالى: ﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً﴾ زائدة وأما هاهنا فكان محذوفة، والتقدير: كانوا يوفون بالنذر.
قال ابن الخطيب: ولقائل أن يقول: إنا بينا أن «كان» في قوله تعالى: ﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً﴾ ليست بزائدة، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها؛ لأنه - تعالى - ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي: سيشربون، فإن لفظ المضارع مشترك ين الحال والاستقبال، ثم قال السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنه الآن يوفون بالنذر.
قوله: ﴿وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾، أي: يخافون يوم القيامة، و «كَانَ شَرُّهُ» في موضع نصب صفة ل «يَوْم».
و «المُسْتطِيرُ» : المنتشر، يقال: اسْتَطَار يَسْتطِيرُ اسْتيطَاراً، فهو مستطير، وهو «استفعل» من الطيران.
قال الأعشى: [المتقارب]
٥٠٣٣ - شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرفَّعَتْ مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ
٥٠٣٤ - فَبَانَتْ وقَدْ أسْأرَتْ في الفُؤا دِ صَدعاً على نَأيِهَا مُسْتَطيرَا
والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة، أو استطال إذا امتدّ، ويقال: استطار الحريق إذا انتشر.
21
وقال الفرَّاء: المستطير: المستطيل، كأنه يريد أن مثله في المعنى، لأنه أبدل من اللام راء، والفجر: فجران، مستطيل كذنبِ السَّرحان وهو الكاذب، ومستطير، وهو الصادق لانتشاره في الأفق.
قال قتادة: استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض.
وقال مقاتل: كان شره فاشياً في السموات، فانشقت وتناثرت بالكواكبِ وفزعت الملائكة في الأرض، ونسفت الجبال وغارت المياه.
فإن قيل: أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله تعالى، وكل ما كان فعلاً لله، فهو حكمه وصواب، وما كان كذلك لا يكون شرًّا، فكيف وصفها الله بأنها شرّ؟.
والجواب: إنما سميت شرًّا لكونها مضرة بمن تنزل عليه، وصعبة عليه كما سميت الأمراض، وسائر الأمور المكروهة شروراً.
قال ابن الخطيب: وقيل: المستطير هو الذي يكون سريع الوصول إلى أهله، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع.
فإن قيل: لم قال: كان شره، ولم يفل: سيكون شره مستطيراً؟.
فالجواب: أن اللفظ وإن كان للماضي إلا أن معناه كان شره في علم الله وحكمته.
قوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ﴾ وهذا الجار والمجرور حال إما من «الطعام» أي: كائنين على حبهم الطعام كقوله تعالى: ﴿وَآتَى المال على حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧].
قال ابن عباس ومجاهد: على قلة حبهم إياه وشهوتهم له، وإما من الفاعل.
والضمير في «حبه» لله تعالى، أي: على حب الله، وعلى التقدير: فهو مصدر مضاف للمفعول.
قال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطَّعام.
قوله «مسكيناً». أي: ذا مسكنة، «ويَتيماً» أي: من يتامى المسلمين «وأسِيراً» أي: الذي يؤسر فيحبس، وذلك أن المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه، واليتيم: هو الذي مات من يكتسب له، وبقي عاجزاً عن الكسبِ لصغره، والأسير: هو المأخوذ من قومه المملوك رقبة، الذي لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلةً.
22
قال ابن عباس والحسن وقتادة: الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم.
فإن قيل: لمَّا وجب قتله، فكيف يجب إطعامه؟.
فالجواب: أن القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى، ولا يجب إذا عوقب بوجهٍ أن يعاقب بوجه آخر، وكذلك لا يحسن فيمن عليه قصاص أن يفعل به ما هو دون القتل، ويجب على الإمام أن يطعمه فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: الأسير: المحبوس.
وقال السديُّ: الأسير: المملوك، وقيل: الأسير: الغريم، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أسِيرُكَ غَريمُكَ» وقال عطاء: الأسير من أهل القبلةِ وغيرهم.
قال القرطبي: «هذا يعم جميع الأقوال، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا».
وقيل: الأسير: الزوجة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتَّقُوا اللهَ فِي النِّساءِ، فإنَّهُنَّ عوانٍ عِنْدكُمْ».
قال القفال: واللفظ يحتمل كل ذلك؛ لأن أصل الأسر هو الشك بالقدر، وكان الأسير يفعل به ذلك حبساً له.

فصل في الكلام على الآية


قال القرطبي: قيل نسخ آية المسكين آية الصدقات، وإطعام الأسير بالسيف قاله سعيد بن جبير.
وقال غيره: بل هو ثابت الحكم، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام.
وقال الماورديُّ: ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل؛ لأنه في أسر خبله وجنونه، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام، وهذا برٌّ وإحسان.
23
قوله ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله﴾ على إضمار القول، أي: يقولون بألسنتهم لليتيم والمسكين والأسير إنما نطعمكم في الله - جل ثناؤه - فزعاً من عذابه وطمعاً في ثوابه ﴿لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً﴾ أي: ولا تثنوا علينا بذلك.
قال ابن عباس: كذلك كانت نيَّاتهم في الدنيا حين أطعموا.
وعن مجاهد: أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله منهم، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب.
قيل: هذه الآيات نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذراً فوفى به.
وقيل: نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر، وهم سبعة من المهاجرين: أبو بكر، وعمر، وعلي، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد، وأبو عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ذكره الماوردي.
وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً، ويتيماً، وأسيراً.
وقيل: نزلت في علي وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وجارية لهما اسمها فضة.
قال القرطبي: نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلاً حسناً، فهي عامة، وما ذكر عن عليٍّ، وفاطمة لا يصح.
وروى جابر الجعفي في قوله تعالى: ﴿يُوفُونَ بالنذر﴾، عن قنبر مولى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يا أبا الحسن لو نذرت عن ولديك نذراً، فقال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إن برأ ولدي صمت ثلاثة أيام شكراً.
وقالت فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - مثل ذلك، وقال الحسن والحسين مثل ذلك وذكر الحديث. قال أهل الحديث: جابر الجعفي كذاب.

فصل في الإحسان إلى الغير


قال ابن الخطيب: اعلم أن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله، وتارة يكون لغير الله، إما طلباً لمكافأة أو طلباً لحمدٍ وثناء، وتارة يكون لهما، وهذا هو الشرك، والأول هو المقبول عند الله، وأما القسمان الباقيان فمردودان، قال تعالى: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس﴾ [البقرة: ٢٦٤].
24
وقال تعالى: ﴿وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون﴾ [الروم: ٣٩]، ولا شك أن التماس الشكر من جنس المنّ والأذى، إذا عرفت ذلك فنقول: القوم لما قالوا: «إنَّما نُطعِمكُمْ لوجْهِ اللهِ» بقي فيه احتمال، أنه أطعمه لوجه الله ولسائر الأغراض على سبيل التشريك، فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله تعالى: ﴿لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً﴾.

فصل في الشكر والكفور


الشُّكور والكُفور: مصدران ك «الشكر والكفر» وهو على وزن «الدُّخول والخُروج» هذا قول جمهور أهل اللغة.
وقال الأخفش: إن شئت جعلت الشكور، جماعة الشكر، وجعلت الكفور في قوله تعالى: ﴿فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُوراً﴾ مثل «برد وبرود» وإن شئت جعلته مصدراً واحداً في معنى جمع مثل: قعد قعوداً، وخرج خروجاً.
قوله: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: إن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لإرادة مكافأتهم.
والثاني: لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى علَّل المكافأة بخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة.
فإن قيل: إنه - تعالى - لما حكى عنهم الإيفاء بالنذر، علَّل ذلك بخوف القيامة فقط، ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين: بطلب رضا الله تعالى، وبالخوف، فما الحكمة في ذلك؟.
فالجواب: أن النذر هو الذي أوجبه على نفسه لأجل الله، فلما كان كذلك، لا جرم علله بخوف القيامة فقط، وإما الإطعام فالله - تعالى - هو الذي شرعه، فلا جرم ضم إليه خوف القيامة.
قوله: ﴿يَوْمَاً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾. القَمْطَرِيرُ: الشديد، وأصله كما قال الزجاج: «مشتق من اقمطرّت الناقة إذا رفعت ذنبها، وجمعت قطريها وزمت بأنفها».
قال الزمخشري: اشتقاقه من القطر، وجعلت الميم زائدة؛ قال أسد بن ناعصة: [الخفيف]
25
قال أبو حيان: واختلف النحاة في هذا الوزن، والأكثر على أنه لا يثبت «افْمَعَلَّ» في أوزان الأفعال ويقال: اقمطرَّ يقمطرُّ فهو مقمطرّ؛ قال الشاعر: [الرجز]
٥٠٣٦ - قَدْ جَعلَتْ شَبْوَةُ تَزبَئِرُّ... تَكْسُو استهَا لَحْماً وتقْمَطِرُّ
ويوم قَمْطَرير وقُمَاطر: بمعنى شديد؛ قال الشَّاعرُ: [الطويل]
٥٠٣٧ - فَفِرُّوا إذَا مَا الحَرْبُ ثَار غُبَارُهَا... ولَجَّ بِها اليَوْمَ العَبُوسُ القُمَاطِرُ
وقال الزجاج: القَمْطَرير: الذي يعبسُ حتى يجتمع ما بين عينيه. انتهى.
فعلى هذا استعماله في اليوم مجاز، وفي بعض كلام الزمخشري، أنه جعله من «القمط» فعلى هذا تكون الرَّاءان فيه مزيدتين.
وقال القرطبي: «القمطرير: الطَّويل» ؛ قال الشاعر:
٥٠٣٨ - شَدِيداً عَبُوساً قَمْطَريراً... تقول العرب: يوم قمطرير، وقُماطر، وعصيب بمعنى؛ وأنشد الفراء: [الطويل]
٥٠٣٩ - بَنِي عَمَِّنَا هل تَذْكُرونَ بَلاءنَا... عَليْكُمْ إذا مَا كَانَ يومٌ قُماطِرُ
بضم القاف، واقمطرّ: إذا اشتد، وقال الأخفش: القمطرير: أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء؛ وأنشد: [الطويل]
٥٠٤٠ - فَفِرُّوا إذَا ما الحَرْبُ... البيت المتقدم.
وقال الكسائي: يقال: اقمطرَّ اليوم وازمهرَّ اقمطراراً وازمهراراً، وهو القمطريرُ والزمهريرُ، ويوم مقمطرٌّ، إذا كان صعباً شديداً؛ قال الهذليُّ: [الطويل]
٥٠٤١ - بَنُو الحَرْبِ ارضْعنَا لَهُم مُقمطرَّةً... ومَنْ يُلقَ مِنَّا ذلِكَ اليَوْمَ يهْربِ
26
و «العبوس» أيضاً صفة ل «اليوم»، «يوماً» تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، والمعنى: نخاف يوماً ذا عبوس.
وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرقٌ كالقطران.
وقال مجاهد: إن العبوس بالشَّفتين، والقَمْطرير بالجبهةِ والحاجبينِ فجعلهما من صفات الوجه المتغيّر من شدائد ذلك اليوم.
قوله: ﴿فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم﴾. أي: دفع عنهم بأس ذلك اليوم وشدته وعذابه.
وقرأ أبو جعفر: «فوقَّاهم الله» بتشديد القاف على المبالغة.
واعلم أنه - تعالى - لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين: لأجل رضا الله تعالى والخوف من القيامة، بيّن هنا أنه أعطاهم هذين الغرضين وهو أنه حفظهم من أهوال القيامة، وهو قوله جل ثنائه ﴿فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم﴾ وأما طلبهم رضا الله فاعطاهم الله بسببه «نُضْرةً» في الوجه، أي: حسناً، حين رأوه، «وسروراً» في القلب قال الضحاك: النضرة: البياض والنقاء.
وقال ابن جبير: الحسن والبهاء.
وقال ابن زيد: أثر النعمة.
قوله تعالى: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ﴾. «ما» مصدرية، و «جنَّة» مفعول ثانٍ، أي: جزاهم جنة بصبرهم وقدر مكي مضافاً، فقال: تقديره دخول الجنة، ولبس حرير، والمعنى: وجزاهم بصبرهم على الفقر.
وقال القرظي: على الصوم.
وقال عطاء: على الجوع ثلاثة أيام، وهي أيام نذر.
وقيل: بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم عن معصية الله ومحارمه، وهذا يدل على أن الآيات نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلاً حسناً.
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن رسول الله صلى الله عن الصبر، فقال: «الصَّبْرُ عند الصَّدمةِ الأولَى، والصَّبرُ على أداءِ الفَرائضِ، والصَّبرُ على اجتنابِ محارم اللهِ تعالى، والصَّبرُ على المَصائبِ».
27
قوله تعالى: ﴿جَنَّةً وَحَرِيراً﴾. أي: أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير.
قوله: ﴿مُّتَّكِئِينَ﴾. حال من مفعول «جزاهم» والعامل فيها «جزى» ولا يعمل فيها «صبروا» ؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتِّكاء في الآخرة.
وقرأ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «وجازاهم».
وجوَّز أبو البقاء: أن يكون صفة ل «جَنَّةً».
وهذا لا يجوز عند البصريين؛ لأنه كان يلزم بروز الضمير، فيقال: «مُتَّكِئِينَ هُمْ فِيهَا» لجريان الصفة على غير من هي له.
وقد منع مكي أن يكون «متكئين» صفة ل «جنة» لما ذكرنا من عدم بروز الضمير.
وممن ذهب إلى كون «متكئين» صفة ل «جنة»، الزمخشري، فإنه قال: «ويجوز أن يكون مُتَّكينَ، ولا يَروْنَ، ودَانيةً، كلها صفات الجنة». وهو مردود بما تقدم.
ولا يجوز أن يكون «متكئين» حالاً من فاعل «صبروا» ؛ لأن الصبر كان في الدنيا، واتكاؤهم إنما هو في الآخرة. قال معناه مكي.
ولقائل أن يقول: إن لم يكن المانع إلا هذا فاجعلها حالاً مقدرة، لا ما لهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة، وله نظائر.
قال ابن الخطيب: وقال الأخفش: وقد ينصب على المدح والضمير في «فيها» أي في الجنة وقال الفراء: وإن شئت جعلت «متكئين» تابعاً، كأنه قال: جزاؤهم جنة متكئين فيها.
والأرائك: السُّرُر في الحجال، وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات: إحداها الأريكة لا تكون إلاَّ حجلة على سرير. وثانيها: السَّجل، وهو الدلو الممتلئ ماء، فإذا صفرت لم تسم سجلاً، وكذلك الذنُوب لا تسمى ذَنوباً حتى تملأ، قاله القرطبي.
وهذا فيه نظر، لأنه قد ورد في شعر العرب يصف البازي؛ قال: [الكامل]
٥٠٤٢ -................................... يَغْشَى المُهَجْهِجْ كالذَّنُوبِ المُرسَلِ
يعني الدَّلو إذا ألقي في البئر، وهو لا يلقى في البئر إلا إذا كان فارغاً.
28
قال: والكأس لا تسمى كأساً حتى تُترعَ من الخمر، قال: وكذلك الطبق الذي تهدى فيه الهدية إذا كانت فيه يسمى مِهْدًى، فإذا كان فارغاً يُسمَّى طبقاً أو خواناً.
قال ابن الأعرابي: مِهْدى - بكسر الميم -، ولا يسمى الطبق مهدى إلا وفيه ما يهدى، والمهداء - بالمد - الذي من عادته أن يهدى.
وقيل: الأرائك: الفرش على السرر؛ قال ذو الرمة: [الطويل]
٥٠٣٥ - واصْطَليْتَ الحُروبَ فِي كُلِّ يومٍ بَاسلَ الشَّرِّ قَمْطَريرَ الصَّباحِ
٥٠٤٣ - خُدودٌ جَفتْ في السَّيْرِ حتَّى كأنَّمَا يُبَاشِرْنَ بالمَعْزَاءِ مسَّ الأرَائِكِ
أي: الفرش على السرر.
قوله: ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً﴾. فيها أوجه:
أحدها: أنها حال ثانية من مفعول «جزاءهم».
الثاني: أنها حال من الضمير المرفوع المستكن في «متَّكئينَ» فتكون حالاً متداخلة.
الثالث: أن تكون صفة ل «جنة» ك «متكئين» عند من يرى ذلك - كما تقدم - عن الزمخشري.
والزمهرير: أشد البرد، وهذا هو المعروف؛ وقيل: هو القمرُ بلغة طيّيء، وأنشد: [الرجز]
٥٠٤٤ - فِي لَيْلةٍ ظلامُهَا قد اعْتكَرْ قطَّعتُهَا والزَّمهرِيرُ مَا نَهَرْ
ويروى: ما ظهر، أي: لم يطلع القمر، والمعنى: لا يرون فيها شمساً كشمس الدنيا، ولا قمراً كقمر الدنيا، أي: أنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه ولا نهار لأن ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر، والمعنى: أن الجنة لا يحتاج فيها إلى شمس ولا إلى قمر، ووزنه «فعلليل»، وقيل: المعنى: لا يرون في الجنَّة شدة حر كحرِّ الشمس، ولا زمهريراً، أي: ولا برداً مفرطاً.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اشْتَكَتِ النَّارُ إلى ربِّهَا سُبحانَهُ، قالتْ: يَا ربِّ، أكَلَ بَعْضِي بعْضاً، فجعلَ لَهَا نفسينِ: نفساً في الشِّتاء، ونفساً في الصَّيْف فشِدَّةُ ما تَجِدُونَ من البَرْدِ من زَمْهَرِيرِهَا، وشدَّةِ ما تَجِدُونَ من الحرَِّ في الصَّيْفِ من سَمُومِهَا».
29
قال مرة الهمداني: الزمهرير: البرد القاطع.
وقال مقاتل بن حيان: هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد.
وقال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هو لونٌ من العذاب، وهو البرد الشديد، حتى إن أهل النار أذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم في النار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوماً واحد.
قوله: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ﴾ العامة على نصبها، وفيها أوجه:
أحدها: أنها عطف على محل «لا يرون».
الثاني: أنها معطوفة على «مُتَّكِئينَ» فيكون فيها ما فيها.
قال الزمخشري: «فإن قلت:» ودانية عليها ظلالها «علام عطفت؟.
قلت: على الجملة التي قبلها؛ لأنها في موضع الحال من المجزيين، وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في»
عليهم «، إلاَّ أنها اسم مفرد، وتلك جماعة في حكم مفرد، تقديره: غير رائين فيها شمساً، ولا زمهريراً ودانية عليهم ظلالها، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقمر ودنو الظلال عليهم».
الثالث: أنها صفة لمحذوف، أي: وجنة دانية.
قال أبو البقاء: كأنه قيل: «وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً» أي: أخرى دانية عليهم ظلالها، لأنهم قد وعدوا جنتين، لأنهم خافوا مقام ربهم بقولهم: «إنَّا نخَافُ مِن ربِّنا يَوماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً».
الرابع: أنها صفة ل «جنة» الملفوظ بها. قاله الزجاج.
وقال الفراء: نصب على المدحِ، أي: دانية عليهم، لقوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦].
وقرأ أبو حيوة: «ودانية» بالرفع، وفيها وجهان:
أظهرهما: أن يكون «ظلالها» مبتدأ، و «دانية» خبر مقدم، والجملة في موضع الحال.
قال الزمخشري: «والمعنى: لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، والحال أن ظلالها دانية».
والثاني: أن ترتفع «دانية» بالابتداء، و «ظلالها» فاعل به، وبها استدل الأخفش على جواز إعمال اسم الفاعل، وإن لم يعتمد، نحو «قائم الزيدون»، فإن «دانية» لم تعتمد على شيء مما ذكره النحويون، ومع ذلك فقد رفعت «ظلالها».
30
وهذا لا حجة فيه لجواز أن يكون مبتدأ وخبراً مقدماً كما تقدم.
وقال أبو البقاء: وحكي بالجر، أي: في جنة دانية، وهو ضعيف، لأنه عطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. يعني أنه قرئ شاذاً: «وَدانِيةٍ» بالجر على أنها صفة لمحذوف، ويكون حينئذٍ نسقاً على الضمير المجرور من قوله تعالى: ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا﴾ أي: ولا في جنة دانية، وهو رأي الكوفيين حيث يجوزون العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، ولذلك ضعفه، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة.
وأما رفع «ظلالها» فيجوز أن يكون مبتدأ، و «عليهم» خبر مقدم، ولا يرتفع ب «دانية»، لأن «دنا» يتعدى ب «إلى» لا ب «على»، ويجوز أن ير فع ب «دانية» على أن يضمن معنى مشرفة؛ لأن «دنا» و «أشرف» متقاربان، قال معناه أبو البقاء، وهذان الوجهان جاريان في قراءة من نصب «دانية».
وقرأ الأعمش: «ودانياً» بالتذكير للفصل بين الوصف وبين مرفوعه ب «عليهم» أو لأن الجمع مذكر.
وقرأ أبيّ: «ودَانٍ عَليْهِمْ» بالتذكير مرفوعاً، وهي شاذة. فمذهب الأخفش حيث يرفع باسم الفاعل وإن لم يعتمد، ولا جائز أن يعربا مبتدأ وخبراً لعدم المطابقة.
وقال مكي: «وقرئ» ودانياً «بالتذكير» ثم قال: «ويجوز:» ودانية «بالرفع، ويجوز» دانٍ «بالرفع والتذكير»، فلم يصرح بأنهما قرئا، وقد تقدم أنهما مقروء بهما، فكأنه لم يطلع على ذلك.

فصل في معنى الآية


قال المفسرون: معناه: أن ظل الأشجار في الجنة قريب من الأبرار فهي مظلة عليهم زيادة على نعيمهم.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، وهناك لا شمس في الجنة، فكيف يحصل الظل؟.
فالجواب: أن أشجار الجنَّة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت الأشجار مظلة منها وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شعث. ثم قوله: ﴿وَذُلِّلَتْ﴾ يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال عطفاً على دانية
31
فيمن نصبها، أي: ومذللةا ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «عليهم» سواء نصبت «دانية» أو رفعتها، أو جررتها، ويجوز أن تكون مستأنفة.
وأما على قراءة رفع «ودانية» فتكون جملة فعلية عطفت على اسمية، ويجوز أن تكون حالاً كما تقدم.

فصل في تذليل قطوف الجنة


والمعنى: وسخرت لهم قطوفها، أي: ثمارها «تذليلاً» أي: تسخيراً، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك.
قال ابن قتيبة: «ذللت» أدنيت منهم، من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصير السمك.
وقيل: «ذُلِّلَتْ» أي: جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا.
قال البراءُ بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ذلّلت لهم، فهم يتناولون منها كيف شاءوا، فمن أكل قائماً لم يؤذه، ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إذا همَّ يتناول من ثمارها تدلّت إليه حتى يتناول منها ما يريد.
وتذليل القطوف: تسهيل التناول، والقُطُوف: الثمار، الواحد: قِطْف - بكسر القاف - سمي به؛ لأنه يقطف، كما سمي الجَنَى لأنه يُجْنَى.
قوله: ﴿تَذْلِيلاً﴾ تأكيد لما وصف به من الذل، كقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً﴾ [الإسراء: ١٠٦] ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ [النساء: ١٦٤].
قال الماوردي: ويحتمل أن تكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها، وتخلص لهم من نواها وقال النحاس: ويقال: المذلل الذي قد ذلله الماء، أي: أرواه.
ويقال: المذلل: الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته، ويقال: المسوى؛ لأن أهل الحجاز يقولون: ذَلَّلْ نخلك، أي: سوِّه.
قوله: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ﴾ لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف شرابهم، وقد وصف الأواني التي يشرب بها، ومعنى «يطاف» أي: يدور على هؤلاء الأبرار والخدم إذا أرادوا الشراب بآنية من فضة.
32
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، أي: الذي في الجنة أشرف وأعلا، ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى: يُسقوْنَ في أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب، كما قال تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١]، أي والبرد، فنبه بذكر أحدهما على الأخرى. قوله: «بآنية» هذا هو القائم مقام الفاعل؛ لأنه هو المفعول به في المعنى، ويجوز أن يكون «عليهم».
و «آنية» جمع إناء، والأصل: «أأنية» بهمزتين، الأولى مزيدة للجمع، والثانية فاء الكلمة، فقلبت الثانية ألفاً وجوباً، وهذا نظير: كساء وأكسية، وغطاه وأغطية ونظيره في صحيح اللام: حمار وأحمرة.
وقوله: ﴿مِّن فِضَّةٍ﴾ نعت ل «آنية».
قوله: ﴿وَأَكْوابٍ﴾. الأكواب هي الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى، الواحد منها كوب؛ وقال عدي: [السريع]
٥٠٤٥ - مُتَّكِئاً تُقْرَعُ أبْوابهُ يَسْعَى عليْه العَبْدُ بالكُوبِ
قوله: ﴿كَانَتْ قَوَارِيرَاْ﴾. اختلف القراءُ في هذين الحرفين بالنسبة إلى التنوين وعدمه، وفي الوقوف بالألف وعدمها، كما تقدم خلافهم في «سلاسل».
واعلم أن القراء فيهما على خمس مراتب:
إحداها: تنوينهما معاً والوقف عليهما بالألف لنافع والكسائي وأبي بكر.
الثانية: مقابلة هذه، وهي عدم تنوينهما، وعدم الوقف عليهما بالأف، لحمزة وحده.
الثالثة: عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف وعلى الثاني بدونها لهشام وحده.
والرابعة: تنوين الأول دون الثاني، والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها لابن كثير وحده.
الخامسة: عدم تنوينهما معاً، والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها، لأبي عمرو، وابن ذكوان، وحفص.
فأما من نونهما فكما مرّ في تنوين «سلاسل» ؛ لأنها صيغة منتهى الجموع، ذاك على «مفاعل» وذا على «مفاعيل»، والوقف بالألف التي هي بدل من التنوين، وفيه موافقة للمصاحف المرسومة، فإنهما مرسومان فيهما بالألف على ما نقل أبو عبيد.
33
وأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف عليهما فظاهر جدًّا.
وأما من نون الأول دون الثاني، فإنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي ولم يناسب بين الثاني والأول والوجه في وقفه على الأول بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر.
وقد روى أبو عبيد أنه كذلك في مصاحف أهل «البصرة».
وأما من لم ينونهما، ووقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها فلأن الأول رأس آية فناسب بينه وبين رءوس الآي في الوقف بالألف وفرق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليس برأس آية.
وأما من لم ينونهما، ووقف عليهما بالألف، فلأنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي، وناسب بين الثاني وبين الأول.
وحصل مما تقدم في «سَلاسِلا» وفي هذين الحرفين، أن القراء منهم من وافق مصحفه، ومنهم من خالفه لاتباع الأثر. وتقدم الكلام على «قوارير» في سورة «النمل» ولله الحمد.
وقال الزمخشري: «وهذا التنوين بدل من حرف الإطلاق لأنه فاصلة، وفي الثاني لإتباعه الأول». يعني أنهم يأتون بالتنوين بدلاً من حرف الإطلاق الذي للترنم؛ كقوله: [الرجز]
٥٠٤٦ - يَا صَاحِ، مَا هَاجَ الدُّمُوعَ الذُّرَّفَنْ... وفي انتصاب «قوارير» وجهان:
أظهرهما: أنه خبر «كان».
والثاني: أنها حال و «كان» تامة، أي كونت فكانت.
قال أبو البقاء: «وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها، ولو كان التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية لشدة اتصال الصفة بالموصوف».
وقرأ الأعمش: «قَوَارِيرُ» بالرفع، على إضمار مبتدأ، أي: هي قوارير، و «مَنْ فضَّةٍ» صفة ل «قوارير»، والمعنى: في صفاء القوارير، وبياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة.
34

فصل في وصف تربة الجنة


رُوي أن أرض الجنة من فضة، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي منها، ذكره ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وقال: ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة.
قال ابن الخطيب: ومعنى «كانت» هو من يكون، من قوله: ﴿فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠] أي: فتكونت قوارير بتكوين الله - تعالى - تفخيماً لتلك الخلقةِ العظيمة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين، ثم قال: فإن قيل: كيف تكون هذه الأكوابُ من فضة ومن قوارير؟.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن أصل القوارير في الدنيا الرَّمل، وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة، فكما أن الله - تعالى - قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية، فكذلك قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة، فالغرض من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة الفضة إلى الرمل فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين فكذا بين القارورتين.
وثانيها: ما تقدم من قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، أي: أنها جامعة بين صفاء الزجاج وشفافيته وبين نقاء الفضة وشرفها.
وثالثها: أنه ليس المراد بالقوارير الزجاج، بل العرب تسمي ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة مما رق وصفا قارورة، فالمعنى: وأكواب من فضة مستديرة صافية.
قوله: ﴿تَقْدِيراً﴾ صفة ل «قوارير»، والواو في «قَدَّرُوها» فيها وجهان:
أحدهما: أنها عطف عليهم، ومعنى تقديرهم إياها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدروا.
والثاني: أن الواو للطائفين للدلالة عليهم في قوله تعالى: «ويُطَافُ»، والمعنى: أنهم قدروا شرابها على قدر ريِّ الشارب، وهذا ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها، ولا يعجز. قاله الزمخشري.
وجوز أبو البقاء: أن تكون الجملة مستأنفة.
35
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أتوا بها على قدر ريِّهم بغير زيادة ولا نقصان، قال الكلبي: وذلك ألذّ وأشهى، والمعنى: قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قدروها على ملء الكف لا يزيد ولا ينقص حتى لا تؤذيهم بثقل، أو بإفراط صغر.
وقرأ علي، وابن عباس، والسلمي، والشعبي، وزيد بن علي، وعبيد بن عمير، وأبو عمرو في رواية الأصمعي: «قُدِّروها» بضم القاف وكسر الدال مبنياً للمفعول أي: جعلت لهم على قدر إرادتهم.
وجعله الفارسي من باب المقلوب، قال: كان اللفظُ قدروها عليها، وفي المعنى قلب؛ لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدرت عليهم، فهي مثل قوله تعالى: ﴿لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة﴾ [القصص: ٧٦]، ومثل قول العرب: إذا طلعت الجوزاء، ألقى العود على الحرباء.
قال الزمخشري: ووجهه أن يكون من قدر منقولاً، تقول: قدرت الشيء وقَدّرَنِيهِ فلان: إذات جعلك قادراً له، ومعناه: جعلوا قادرين لها كما شاءوا وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا.
وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهم ما لم يسمَّ فاعله فحذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدير النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل.
وفي هذا التخريج تكلف مع عجرفة ألفاظه.
وقال أبو حيان: والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل: قدر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاف وهو الري، وأقيم الضمير بنفسه، فصار قدروها، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف، واتساع في الفعل.
قال شهاب الدين: وهذا منتزع من تفسير كلام أبي حاتم.
وقال القرطبي: وقال المهدوي: من قرأها «قدروها» فهو راجع إلى معنى القراءة
36
الأخرى، وكأن الأصل: قدروا عليها، فحذف حرف الجر، والمعنى: قدرت عليهم؛ وأنشد سيبويه البيت [البسيط]
٥٠٤٧ - آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ آكُلُهُ والحَبُّ يأكُلهُ في القَرْيَةِ السُّوسُ
وذهب إلى أن المعنى: على حبّ العراق، وقيل: هذا التقدير: هو أن الأقداح تطير فتغرف بمقدار شهوة الشَّارب، وذلك قوله تعالى: ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً﴾.
أي: لا يفضل عن الري ولا ينقص منه، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهي حتى تغترف بذلك المقدار. ذكر الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول».
قوله: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً﴾. وهي الخمر في الإناء ﴿كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً﴾، «كان» صلة، أي: مزاجها زنجبيل، أو كان في حكم الله زنجبيلاً، وكانت العرب يستلذُّون من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته؛ لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، ويحدث في المشروب ضرباً من اللّذع، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب.
والزنجبيل: نبث معروف؛ وسميت الكأس بذلك؛ لوجود طعم الزنجبيل فيها؛ وأنشد الزمخشري للأعشى: [المتقارب]
٥٠٤٨ - كَأنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِي لَ بَاتَا بِفيهَا وأريْاً مَشُورا
وأنشد للمسيب بن علس يصف ثغر امرأة: [الكامل]
٥٠٤٩ - أ - وكَأنَّ طَعْمَ الزَّنْجبيلَِ بِهِ إذْ ذُقْتُهُ وسُلافَة الخَمْرِ
ويروى: وسلافَةُ الكَرْمِ.
وقال مجاهد: «الزنجبيل» اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار، وكذا قال قتادة: وقيل: هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل.
والمعنى: كأن فيها، وتكون قد عطفت «رأيت» الثاني على الأول، ويكون فعل الجواب محذوفاً، ويكون فعل الجواب المحذوف هو الناصب لقوله تعالى: ﴿نَعِيماً﴾ والتقدير: إذا صدر منك رؤية؛ ثم صدر منك رؤية أخرى رأيت نعيماً وملكاً فرأيت هذا هو الجواب.
37

فصل في بيان الخطاب لمن؟!


هذا الخطاب قيل: للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: عامّ، والنعيم: ما يتنعم به.
والملك الكبير: قال سفيان الثوري: بلغنا أن الملك الكبير، تسليم الملائكة عليهم.
وقيل: كون التيجان على رءوسهم كما يكون على رءوس الملوك.
وقال السديُّ ومقاتل: هو استئذان الملائكة عليهم.
وقال الحكيم والترمذي: هو ملك التكوين إذا أراد شيئاً قال له: كن.
وفي الخبر: أن الملك الكبير هو أن أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وأن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربِّه - تعالى - كل يوم مرتين.
و «عيناً» فيها من الوجوه ما تقدم، قوله «سلسبيلاً» السلسبيل: ما سهل انحداره في الحلق، قال الزجاج: هو في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة، وقال الزمخشري: يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية، ودلت على غاية السلاسة.
قال أبو حيان: فإن كان عنى أنه زيدت حقيقة فليس بجيد؛ لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو، وإن عنى أنها حرف جاء في سنخ الكلمة، وليس في سلسل ولا سلسال؛ فيصح، ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة.
وقال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن.
وقال مكي: هو اسم أعجمي نكرة فلذلك صرف. ووزن سلسبيل فعلليل مثل دردبيس.
وقيل: فعفليل؛ لأن الفاء مكررة.
وقرأ طلحة سلسبيل دون تنوين ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث؛ لأنها اسم لعين بعينها، وعلى هذا فكيف صرف في قراءة العامة؟ فيجاب أنها سميت بذلك لا على
38
جهة العلمية بل على جهة الإطلاق المجرد، أو يكون من باب تنوين «سلاسل» و «قوارير» وقد تقدم.
وأغرب ما قيل في هذا الحرف: أنه مركب من كلمتين من فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول، والتقدير سل أنت سبيلاً إليها.
قال الزمخشري: وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن معناه سل سبيلاً إليها، قال: وهذا غير مستقيم على ظاهره إلا أن يراد أن جملة قول القائل: سل سبيلاً جعلت علماً للعين؛ كما قيل: تأبط شراً، وذرى حبًّا، وسميت بذلك؛ لأنه لا يشرب منها إلاَّ من سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالح، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع وعزوه إلى مثل علي أبدع وفي شعر بعض المحدثين
٥٠٤٩ - ب - سَلْ سَبيلاً فِيهَا إلى رَاحةِ النَّفْ سِ كأنَّهَا سَلسبيلُ
قال أبو حيان بعد تعجبه من هذا القول: وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته.
قال شهاب الدين: ولو تأمل ما قاله الزمخشري لم يلمه ولم يتعجب مه؛ لأن الزمخشري هو الذي شنع على هذا القول غاية التشنيع.
وقال أبو البقاء: والسلسبيل كلمة واحدة. وفي قوله كلمة واحدة تلويح وإيماء إلى هذا الوجه المذكور.
قوله: «ثمَّ» هذا ظرف مكان، وهو مختص بالبعد، وفي انتصابه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب على الظرف ومفعول الرؤية غير مذكور؛ لأنّ القَصْد: وإذا صدرت منك رؤية في ذلك المكان رأيت كيت وكيت، ف «رأيت» الثاني جواب ل «إذا».
وقال الفراء: «ثَمَّ» مفعولة به ل «رأيت»، والمعنى: وإذا رأيت ما ثم، وصلح إضمار «ما»، كما قال ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤]، يريد: ما بينكم.
قال الزجاج: لا يجوز إضمار «ما».
وقال الفراء: «وإذَا رَأيْتَ» تقديره: ما ثمَّ، ف «ما» مفعول، وحذفت «ما»، وقامت «ثمَّ» مقام «ما».
وقال الزمخشري تابعاً لأبي إسحاق: ومن قال: معناه: ما ثمَّ، فقد أخطأ؛ لأن «ثمَّ» صلة ل «ما» ولا يجوز إسقاط الموصول، وترك الصِّلة.
39
وفي هذا نظر؛ لأن الكوفيين يجوزون مثل هذا، واستدلوا عليه بأبيات وآيات تقدم الكلام عليها مستوفى في أوائل هذا الموضوع.
وقال ابن عطية: و «ثم» ظرف والعامل فيه «رأيت» أو معناه، والتقدير: رأيت ما ثم فحذفت ما.
قال أبو حيان: وهذا فاسد؛ لأنه من حيث جعله معمولاً ل «رأيت» لا يكون صلة ل «ما» ؛ لأن العامل فبه إذا ذاك محذوف: أي ما استقر ثم.
قال شهاب الدِّين: ويمكن أن يجاب عنه، بأن قوله أو معناه هو القول بأنه صلة لموصول فيكونان وجهين لا وجهاً واحداً حتى يلزمه الفساد، ولولا ذلك لكان قوله أو معناه لا معنى له، ويعني بمعناه أي معنى الفعل من حيث الجملة، وهو الاستقرار المقدر.
والعامة على فتح الثاء من «ثمَّ» كما تقدم.
وقرأ حميد الأعرج بضمها، على أنها العاطفة، وتكون قد عطفت «رأيت» الثاني على الأول ويكون فعل الجواب محذوفاً، ويكون فعل الجواب المحذوف هو الناصب لقوله «نعيماً» والتقدير: وإذا صدرت منك رؤية ثم صدرت رؤية أخرى رأيت نعيماً وملكاً؛ فرأيت هذا هو الجواب.

فصل


واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادماً في تلك المجالس.
فقال ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ﴾ وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الوقعة والأقرب أن المراد به دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة، قال الفراء يقال مخلدون مسورون ويقال مقرطون وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون.
والصفة الثالثة: قوله تعالى ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً﴾ وفي كيفية التشبيه وجوه:
أحدها: شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور ولو كان صفاً لشبهوا باللؤلؤ المنظوم؛ ألا ترى أنه تعالى قال ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾ فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين.
وثانيها: أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء.
40
وثالثها: قال القاضي هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفاً للمجتمع منه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة، أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾.

فصل


اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة: قضاء الشهوة، وإمضاء الغضب، واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه، وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها، فالملك الكبير الذي ذكره الله ههنا لا بد وأن يكون مغايراً لتلك اللذات الحقيرة، وما هو إلا أن تصير نفسه منتقشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت، وأما ما هو على أصول المتكلمين، فالوجه فيه أيضاً أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين الله تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم، وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره، قال ابن عباس لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه. ويقال إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه وقيل لا زوال له وقيل إذ أرادوا شيئاً حصل، ومنهم من حمله على التعظيم، فقال الكلبي هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه، ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان.

فصل


قال بعضهم قوله ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ﴾ خطاب لمحمد خاصة، والدليل عليه أن رجلاً قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أرأيت إن دخلت الجنة أترى عيناي ما ترى عيناك؟ فقال نعم، فبكى حتى مات، وقال آخرون بل هو خطاب لكل أحد.
قوله: ﴿عَالِيَهُمْ﴾. قرأ نافع وحمزة: بسكون الياء وكسر الهاء، والباقون: بفتح الياء وضم الهاء، لما سكنت الياء كسر الهاء، ولما تحركت ضمت على ما تقدم في أول الكتاب.
فأما قراءة نافع وحمزة، ففيها أوجه:
41
أظهرها: أن يكون خبراً مقدماً، و «ثياب» مبتدأ مؤخر.
والثاني: أن «عاليهم» مبتدأ، و «ثياب» مرفوع على جهة الفاعلية، وإن لم يعتمد الوصف، وهذا قول الأخفش.
والثالث: أن «عاليهم» منصوب، وإنما سكن تخفيفاً. قاله أبو البقاء.
وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجه، وهي واردة هنا، إلا أن تقدير الفتحة من المنقوص لا يجوز إلا في ضرورة أو شذوذ، وهذه القراءة متواترة، فلا ينبغي أن يقال به فيها، وأما قراءة من نصب، ففيه أوجه:
أحدها: أنه ظرف خبر مقدم، و «ثياب» مبتدأ مؤخر، كأنه قيل: فوقهم ثياب.
قال أبو البقاء: لأن عاليهم بمعنى فوقهم.
قال ابن عطية: يجوز في النصب أن يكون على الظرف؛ لأنه بمعنى فوقهم.
قال أبو حيان: وعالٍ وعالية اسم فاعل فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب: «عاليك أو عاليتك ثوب».
قال شهاب الدين: قد وردت ألفاظه من صيغة أسماء الفاعلين ظروفاً، نحو خارج الدار، وداخلها وظاهرها، وباطنها، تقول: جلست خارج الدَّار، وكذلك البواقي، فكذلك هنا.
الثاني: أنه حال من الضمير في «عَلَيْهِم».
الثالث: أنه حال من مفعول «حَسِبْتَهُمْ».
الرابع: أنه حال من مضاف مقدر، أي: رأيت أهل نعيم وملكٍ كبير عاليهم، ف «عَاليهم» حال من «أهل» المقدر، ذكر هذه الأوجه الثلاثة: الزمخشري، فإنه قال: «وعاليهم» بالنصب على أنه حال من الضمير في «يطوف عليهم» أو في «حسبتهم» أي: يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب، ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب.
قال أبو حيان: أما أن يكون حالاً من الضمير في «حَسِبْتَهُمْ»، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول، وهو لا يعود إلا على «ولدان»، وهذا لا يصح؛ لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمعطوف عليهم من قوله تعالى ﴿وحلوا﴾، ﴿وَسَقَاهُمْ﴾ و ﴿إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً﴾ وفك الضمائر يجعل كذا وذلك كذا مع عدم الاحتياج إلى ذلك، والاضطرار إلى ذلك لا يجوز، وأما جعله حالاً من محذوف، وتقديره: أهل نعيم، فلا
42
حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف.
قال شهاب الدين: جعل أحد الضمائر لشيء، والآخر لشيء آخر لا يمنع صحة ذلك مع ما يميز عود كل واحد إلى ما يليق به، وكذلك تقدير المحذوف غير ممنوع أيضاً وإن كان الأحسن أن تتفق الضمائر وألاَّ يقدر محذوف، والزمخشري إنما ذكر ذلك على سبيل التجويز لا على سبيل أنه مساوٍ أو أولى، فيرد عليه ما ذكره.
الخامس: أنه حال من مفعول «لقَّاهم».
السادس: أنه حال من مفعول «جزاهم». ذكرهما مكي.
وعلى هذه الأوجه: التي انتصب فيها على الحال يرتفع به «ثياب» على الفاعلية، ولا يضر إضافته إلى معرفة في وقوعه حالاً؛ لأن الإضافة لفظية كقوله تعالى: ﴿عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] فأنّث «عارضاً» ولم يؤنث عالياً لأن مرفوعه غير حقيقي التأنيث.
السابع: أن ينتصب «عاليهم» على الظرف، ويرتفع «ثياب» به على جهة الفاعلية، وهذا ماشٍ على قول الأخفش والكوفيين حيث يعملون الظرف وعديله، وإن لم يعتمد كما تقدم ذلك في الصفّ.
وإذا رفع «عاليهم» بالابتداء، و «ثياب» على أنه فاعل به، كان مفرداً على بابه لوقوعه موقع الفعل، وإذا جعل خبراً مقدماً كان مفرداً لا يراد به الجمع، فيكون كقوله تعالى: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ القوم﴾ [الأنعام: ٤٥] أي أدبار. قاله مكي.
وقرأ ابن مسعود وزيدُ بن علي: «عاليتهم» مؤنثاً بالتاء مرفوعاً.
والأعمش وأبان عن عاصم كذلك، إلا أنه منصوب.
وقد عرف الرفع والنصب مما تقدم.
وقرأت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «عَليَتْهُم» فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة، و «ثياب» فاعل به، وهي مقوية للأوجه المذكورة في رفع «ثياب» بالصفة في قراءة الباقين كما تقدم تفصيله.
وقرأ ابن سيرين ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة وخلائق: جاراً ومجروراً.
وإعرابه كإعراب «عاليهم» ظرفاً في جواز كونه خبراً مقدماً، أو حالاً مما تقدم وارتفاع «ثياب» به على التفصيل المذكور.
43

فصل في الضمير في عاليهم


قال ابن الخطيب: والضمير في «عاليهم» إما للولدان أو للأبرار.
فكأنهم يلبسُون عدة من الثياب، فيكون الذي يعلوها أفضلها، ولهذا قال تعالى «عاليهم» أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثيابُ سندسٍ، والمعنى: أن حجالهم من الحرير والديباج.
قوله تعالى: ﴿ثِيَابُ سُندُسٍ﴾. قرأ العامة: بإضافة الثياب لما بعدها.
وأبو حيوة وابن أبي عبلة: «ثِيَابٌ» منونة، ﴿سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ برفع الجميع ف «سُنْدُسٌ» نعت ل «ثِيَابٌ» ؛ لأن «السندس» نوع، و «خُضْرٌ» نعت ل «سُنْدُسٌ» يكون أخضر وغير أخضر، كما أن الثياب تكون سندساً وغيره، و «إسْتَبْرَقٌ» نسق على ما قبله، أي: وثياب إستبرق.
واعلم أن القراءة السبعة في «خُضْرٌ»، و «إسْتَبْرَقٌ» على أربع مراتب.
الأولى: رفعهما، لنافع وحفص فقط.
الثانية: خفضهما، الأخوين فقط.
الثالثة: رفع الأول، وخفض الثاني، لأبي عمرو وابن عامر فقط.
الرابعة: عكسه، لابن كثير وأبي بكر فقط.
فأما القراءة الأولى: فإن رفع «خضرٌ» على النعت ل «ثياب» ورفع «إستبرق» نسق على «الثياب» ولكن على حذف مضاف أي: وثيابٌ إستبرق ومثله: على زيد ثوبُ خزٍّ وكتانٍ أي: وثوبُ كتَّانٍ.
وأما القراءة الثانية: فيكون جر «خضر» على النعت ل «سندس».
ثم استشكل على هذا وصف المفرد بالجمع، فقال مكي: هو اسم جمع.
وقيل: هو جمع «سندسة» ك «تمر وتمرة» ووصف اسم الجنس بالجمع يصح، قال تعالى ﴿وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال﴾ [الرعد: ١٢]، و ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠]، و ﴿مِّنَ الشجر الأخضر﴾ [يس: ٨٠] وإذا كانوا قد وصفوا المحل لكونه مراداً به الجنس بالجمع في قولهم: «أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِّرهمُ البيضُ»، وفي التنزيل: {أَوِ
44
الطفل الذين} [النور: ٣١] فلأن يوجد ذلك في أسماء الجموع أو أسماء الأجناس الفارق بينها وبين واحدها تاء التأنيث بطريق الأولى، وجر «إستبرق» نسقاً على «سندس»، لأن المعنى ثياب من سندس، وثياب من إستبرق.
وما القراءة الثالثة: فرفع «خضر» نعتاً ل «ثياب» وجر «إستبرق» نسقاً على سندس أي: ثياب خضر من سندس، ومن إستبرق، فعلى هذا يكون الإستبرق أيضاً أخضر.
وأما القراءة الرابعة: فجر «خضر» على أنه نعت ل «سندس» ورفع «إستبرق» على النسق على «ثياب» بحذف مضاف، أي: وثياب استبرق. وتقدم الكلام على مادة السندس والإستبرق في سورة الكهف.
وقرأ ابن محيصن: «وإستبرق» بفتح القاف، ثم اضطرب النقل عنه في الهمزة، فبعضهم ينقل عنه أنه قطعها، وبعضهم ينقل أنه وصلها.
قال الزمخشري: «وقرئ:» وإستبرق «نصباً في موضع الجر على منع الصرف، لأنه أعجمي، وهو غلط؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول الإستبرق، إلا أنه يزعم ابن محيصن أنه قد جعل علماً لهذا الضرب من الثياب، وقرأ:» واستبرقَ «بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى ب» استفعل «من البريق، وهو ليس بصحيح - أيضاً - لأنه معرب مشهور تعريبه وأصله استبره».
وقال أبو حيان: ودل قوله: إلا أن يزعم ابن محيصن، وقوله بعد: وقرئ «واستبرق» بوصل الألف والفتح، أنّ قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف والمنقول عنه في كتب القراءات: أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف.
قال شهاب الدين: قد سبق الزمخشري إلى هذا مكي، فإنه قال: وقد قرأ ابن محيصن بغير صرف وهو وهم إن جعله اسماً؛ لأنه نكرة منصرفة.
وقيل: بل جعله فعلاً ماضياً من «برق» فهو جائز في اللفظ بعيد في المعنى.
وقيل: إنه في الأصل فعل ماض على «استفعل» من «برق»، فهو عربي من البريق، فلما سمِّي به قطعت ألفه؛ لأنه ليس من أصل الأسماء أن يدخلها ألف الوصل، وإنما دخلت معتلة مغيرة عن أصلها، معدودة، لا يقاس عليها؛ انتهى، فدل قوله «قطعت ألفه» إلى آخره، أنه قرأ بقطع الهمزة وفتح القاف، ودل قوله أولاً: وقيل: بل جعله فعلاً ماضياً من «برق»، أنه قرأ بوصل الألف، لأنه لا يتصور أن يحكم عليه بالفعلية غير منقول إلى
45
الأسماء، ويترك ألفه ألف قطعٍ ألبتة، وهذا جهل باللغة، فيكون قد رُوِيَ عنه قراءتا قطع الألف ووصلها، فظهر أن الزمخشري لم ينفرد بالنقل عن ابن محيصن بقطع الهمزة.
وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن: لا يجوز، والصواب: أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً ويؤيد ذلك دخول لام المعرفة عليه، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعةِ.
قال أبو حيان: نقول: إن ابن محيصن قارئٌ جليلٌ مشهورٌ بمعرفة العربية، وقد أخذ عن أكابر العلماء، فيتطلب لقراءته وجه، وذلك أنه يجعل «استفعل» من البريق تقول: برق واستبرق، ك «عجب واسْتعجَبَ»، ولما كان قوله: «خضر» يدل على الخضرة، وهي لون ذلك السُّنْدس، وكانت الخضرة مما يكون فيها لشدتها دُهمة وغبش، أخبر أن في ذلك بريقاً وحسناً يزيل غبشيته، ف «استبرق» فعل ماض، والضمير فيه عائد على السُّندس، أو على الأخضر الدالّ عليه خضر، وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف بالعربية، وتوهيم ضابط ثقة. وهذا هو الذي ذكره مكي. وهذه القراءة قد تقدمت في سورة الكهف.
قوله تعالى: ﴿وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ عطف على «ويَطُوفُ» عطف ماضياً لفظاً مستقبلاً معنى، وأبرزه بلفظ الماضي لتحققه.
وقال الزمخشري بعد سؤال وجواب من حيث المعنى: وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سِوَار من ذهب وسوار من فضة.
وناقشه أبو حيان في قوله: «بالمِعْصَم»، فقال: قوله: «بالمعصم» إما أن يكون مفعول «أحسن» وإما أن يكون بدلاً منه، وقد فصل بينهما بالجار والمجرورن فإن كان الأول فلا يجوز؛ لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول «أفعل» التعجب، لا تقول: ما أحسن بزيد، تريد: ما أحسن زيداً، وإن كان الثاني ففي هذا الفصل خلافٌ، والمنقول عن بعضهم أنه لا يجوز، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه فيما فيه خلافٌ.
قال شهاب الدين: وأي غرض له في تتبع كلام هذا الرجل حتى في الشيء اليسير على أن الصحيح جوازه، وهو المسموع من العرب نثراً، قال عمرو بن معديكرب: لله درُّ بني مجاشع ما أكثر في الهيجاء لقاءها، وأثبت في المكرمات بقاءها، وأحسن في اللَّزْباتِ عطاءها، والتشاغل بغير هذا أولى.

فصل في المراد بالأساور


قال هنا: «أساور من فضة» وفي سورة «فاطر» :﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ [
46
فاطر: ٣٣]، وفي سورة «الحج» :﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً﴾ [الحج: ٢٣] فقيل: حليُّ الرجل الفضة.
وقيل: يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب، وسواران من فضة، وسواران من لؤلؤ، ليجتمع محاسن أهل الجنة. قاله سعيد بن المسيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقيل: يعطى كل أحد ما يرغب فيه وتميل نفسه إليه.
وقيل: أسورةُ الفضة إنما تكون للولدان وأسورة الذهب للنساء.
وقيل: هذا للنساء والصبيان.
وقيل: هذا بحسب الأوقات.
قوله تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾ [قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في قوله تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾ ]، قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مرُّوا بشجرة تخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداها، فيجري عليهم بنضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تشعّث أشعارهم أبداً، ثم يشربون من الأخرى، فيخرج ما في بطونهم من الأذى، ثم تستقبلهم خزنةُ الجنة، فيقولون لهم: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣].
وقال النخعي وأبو قلابة، هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسكٍ وضمرت بطونهم.
وقال مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة ينبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غشٍّ وغلٍّ وحسدٍ، وما كان في جوفه من أذى، وعلى هذا فيكون «فعولاً» للمبالغة، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر. قاله القرطبي.
قال ابن الخطيب: قوله تعالى: ﴿طَهُوراً﴾ فيه قولان:
الأول: المبالغة في كونه طاهراً ثم على التفسير احتمالان:
أحدهما: ألاَّ يكون نجساً كخمر الدنيا.
47
وثانيهما: المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة، يعني ما مسته الأيدي الوضيعة والأرجل الدنسة.
وثانيهما: أنه لا يؤول إلى النجاسة، لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسكِ، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهراً؛ لأنه يطهِّرُ باطنهم عن الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾ هو نوع ما ذكره قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور والزنجبيل والسلسبيل، أو هذا نوع آخر؟.
قلنا: بل هذا نوع آخر، لوجوه:
أحدها: التِّكرار.
والثاني «أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه تبارك وتعالى، بقوله تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾، وذلك يدل على فضل هذا على غيره.
والثالث: ما روي من أنه يقدِّم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتُوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسكِ، وهذا يدل على أن الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب وهو أنه يجعل سار الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه كريح المسك وكل ذلك يدل على المغايرة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً﴾، أي: يقال لهم: إن هذا كان حزاؤكم، أي: ثواب أعمالكم، فيزداد بذلك القول فرحهم وسرورهم، كما أن المعاقب يزداد غمّه، إذا قيل له: هذا جزاء عملك الرديء «وكَانَ سَعيُكُمْ»
أي: عملكم «مَشْكوراً» أي: من قبل الله وشكره للعبد قبُول طاعته وثناؤه عليه وإثابته.
وقال قتادةُ: غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى.
وقيل: هذا إخبار من الله - تعالى - لعباده في الدنيا كأنه - تعالى - شرح لهم ثواب أهل الجنة، أي أنَّ هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبيدي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها.

فصل في الكلام على الآية


قال ابن الخطيب: وفي الآية سؤالان:
48
الأول: إذا كان فعل العبد خلقاً لله - تعالى - فكيف يعقل أن يكون فعل الله - تعالى - جزاء على فعل الله؟.
والجواب: أن الجزاء هو الكافي وذلك لا ينافي كونه فعلاً لله.
السؤال الثاني: كون سعي العبد مشكوراً يقتضي كون الله شاكراً له؟.
والجواب: كون الله - تعالى - شاكراً للعبد محال إلى على وجه المجاز، وهو من ثلاثة أوجه:
الأول: قال القاضي: إن الثواب مقابل لعملهم كما أن الشكر مقابل للنعم.
والثاني: قال القفال: إنه مشهور في كلام الناس أن يقولوا للراضي بالقليل والمثنى به أنه مشكور، فيحتمل أن يكون شكر الله لعباده، وهو رضاه عنهم بالقليل من الطاعات وإعطائه إياهم عليهم ثواباً كبيراً.
الثالث: أن منتهى درجة العبد راضياً من ربه مرضيًّا لربه، كما قال تعالى: ﴿ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ [الفجر: ٢٧ - ٢٨]، وكونها راضية من ربه أقلُّ درجة من كونها مرضية لربه، فقوله تعالى: ﴿إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً﴾ إشارة إلى الأمر الذي تصير به النفس راضية مرضية، وقوله: ﴿وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً﴾ إشارة إلى كونها مرضية لربها لما كانت الحالة أعلى المقامات وآخر الدرجات لا جرم وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين.
49
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ ﴾ الآية. لما ذكر ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للشاكرين، والأبرار أهل الصدق، واحدهم : برّ، وهو من امتثل أمر الله تعالى.
وقيل : البر : الموحد، والأبرار : جمع «بار » مثل :«شاهد وأشهاد ».
وقيل : هو جمع «بر » مثل :«نهر وأنهار ».
وفي «الصحاح »١ : وجمع البر : الأبرار، وجمع البار : البررة، وفلان يبرُّ خالقه ويتبرره أي يطيعه، والأم برة بولدها.
وروى ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنَّما سمَّاهُم اللهُ - تَعالَى - الأبْرَارَ ؛ لأنَّهُمْ بَرُّوا الآبَاءَ والأبناءَ، كما أنَّ لِوالديكَ عَلَيْكَ حقًّا، كذَلكَ لَوَلدكَ عَليْكَ حقًّاً »٢.
وقال الحسن : البر الذي لا يؤذي الذَّرَّ٣.
وقال قتادة : الأبرار الذين يؤدّون حق الله، ويوفون بالنذر، وفي الحديث :«الأبْرَارُ الَّذينَ لا يُؤذُوَن أحَداً »٤.
﴿ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ ﴾. أي : من إناء فيه الشراب.
قال ابن عباس : يريد الخمر٥.
والكأس في اللغة : الإناء فيه الشراب، وإذا لم يكن فيه الشراب لم يسمَّ كأساً.
قوله تعالى :﴿ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾ المزاج : ما يمزج به أي : يخلط، يقال : مزجه يمزجه مزجاً أي : خلطه يخلطه خلطاً.
قال حسان :[ الوافر ]
٥٠٣٠- كَأنَّ سَبيَئةً من بَيْتِ رَأسٍ*** يَكونُ مَزَاجهَا عَسلٌ ومَاءُ٦
فالمزاج كالقِوام اسم لما يقاوم به الشيء، ومنه مزاج البدن : وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة.
و«الكافور » : طيب معروف، وكأن اشتقاقه من الكفر، وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته، والكافور أيضاً : كمائم الشجر الذي يغطّي ثمرتها.
قال بعضهم الكافُور :«فاعول » من الكفر كالنّاقور من النَّقر، والغامُوس من الغمس، تقول : غامسته في الماء أي : غمسته، والكفر : القرية والجبل العظيم ؛ قال :[ الطويل ]
٥٠٣١-. . . *** تُطَلَّعُ ريَّاهُ من الكفَرَاتِ٧ ***
والكافور : البحر، والكَافِر : الليل، والكَافِر : الساتر لنعم الله تعالى، والكَافِر : الزارع لتوريته الحب في الأرض ؛ قال الشاعر :[ السريع ]
٥٠٣٢- وكَافرٍ مَاتَ على كُُفْرِهِ وجَنَّةُ الفِرْدَوسِ للكَافِرِ٨
والكفَّارة : تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة، والكافور : ماء جوف شجر مكنون، فيغرزونه بالحديد، فيخرج إلى ظاهر الشجر، فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار.
ويقال : كفر الرجل يكفر إذا وضع يده على صدره.

فصل في الآية


قال ابن الخطيب٩ : مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً، فما السبب في ذكره ؟.
والجواب من وجوه :
أحدها : قال ابن عباس : اسم عين ماء في الجنة يقال له : عين الكافور أي : يمازجه ماء هذا العين التي تسمى كافوراً في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته١٠.
وثانيها : أن رائحة الكافور عرض، والعرض لا يكون إلا في جسم، فخلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك التراب فسمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً فيكون ريحها لا طعمها.
وثالثها : أن الله تبارك وتعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة، ثم إنه - تعالى - يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها من المضرات في الدنيا.
قال سعيد عن قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك١١.
وقيل : أراد بالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده، لأن الكافور لا يشرب، كقوله تعالى :﴿ حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً ﴾ [ الكهف : ٩٦ ]، أي : كَنَارٍ.
وقيل : كان في علم الله تعالى، و«كان » زائدة، أي : من كأس مزاجها.
قال القرطبي١٢ : ويقال :«كافور وقافور » وهي قراءة عبد الله١٣ بالقاف بدل الكاف، وهذا من التعاقب بين الحرفين كقولهم :«عربي فجّ وكجّ ».
ومفعول «يشربون » إما محذوف، أي : يشربون ماء أو خمراً من كأس، وإما مذكور وهو «عيناً »، وإما «من كأس » و «من » مزيدة فيه، وهذا يتمشّى عند الكوفيين والأخفش.
وقال الزمخشري :«فإن قلت : لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولاً، وبحرف الإلصاق آخراً ؟ قلت : لأن الكأس مبدأ شربهم، وأول غايته، وأما العين فبها يمزجون شرابهم، فكأن المعنى : يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول : شربت الماء بالعسل ».
١ ينظر الصحاح ٢/٥٨٨..
٢ أخرجه ابن عدي في "الكامل" (٤/٣٢٣) وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (٤٥٤٩٢) وعزاه للطبراني عن ابن عمر..
٣ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٦٥) بمعناه والقرطبي (١٩/٨١)..
٤ ينظر المصدر السابق..
٥ ينظر المصدر السابق..
٦ تقدم..
٧ عجز بيت لعبد الله بن نمير الثقفي وصدره:
*** له أرج من مجمر الهند ساطع ***...
ينظر اللسان (أرج)، (كفر)..

٨ ينظر اللسان (كفر)..
٩ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٢١٣..
١٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٨٢) والرازي (٣٠/٢١٣)..
١١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٥٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٣) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
١٢ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٨٢..
١٣ ينظر: الدر المصون ٦/٤٤١..
قوله :﴿ عَيْناً ﴾. في نصبها أوجه :
أحدها : بدل من «كافوراً » ؛ لأن ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وفي برده.
الثاني : أنها بدل من محل «من كأس ». قاله مكي. ولم يقدر حذف مضاف.
وقدر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف، قال : كأنه قيل : يشربون خمراً، خمر عين. وأما أبو البقاء فجعل المضاف مقدراً على وجه البدل من «كافور ».
قال :«والثاني : بدل من كافور، أي : من ماء عين، أو خمر عين ». وهو معنى حسن.
والثالث : أنها مفعول ب «يشربون » يفسره ما بعده، أي يشربون عيناً من كأس.
الرابع : أن ينتصب على الاختصاص.
الخامس : بإضمار «يشربون » يفسره ما بعده، قاله أبو البقاء. وفيه نظر ؛ لأن الظاهر أنه صفة ل «عين » فلا يصح أن يفسر.
السادس : بإضمار «يعطون ».
السابع : على الحال من الضمير في «مزاجها ». قاله مكي.
وقال القرطبي١ :«نصب بإضمار أعني ».
قوله :«يشرب بها ». في الباء أوجه :
أحدها : أنها مزيدة، أي : يشربها، ويدل له٢ قراءة ابن أبي عبلة : يشربها معدى إلى الضمير بنفسه.
الثاني : أنها بمعنى «من ».
الثالث : أنها حالية، أي : يشرب ممزوجة بها.
الرابع : أنها متعلقة ب «يشرب » والضمير يعود على الكأس، أي : يشربون العين بذلك الكأس، والباء للإلصاق كما تقدم في قول الزمخشري.
الخامس : أنه على تضمين «يشربون » معنى يلتذّون بها شاربين.
السادس : على تضمينه معنى يروى، أي : يروى بها عباد الله، وكهذه الآية الكريمة في بعض الأوجه قول الهذلي :[ الطويل ]
٥٠٣٣- شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرفَّعَتْ مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ٣
فهذه يحتمل الزيادة ويحتمل أن تكون بمعنى «من ».
وقال الفراء :«يشربها ويشرب بها سواء في المعنى، وكأن يشرب بها : يروى بها وينفع بها، وأما يشربونها فبيِّن، وأنشد قول الهذلي، قال : ومثله : يتكلم بكلام حسن، ويتكلم كلاماً حسناً ».
والجملة من قوله «يشرب بها » في محل نصب صفة ل «عيناً » إن جعلنا الضمير في «بها » عائداً على «عيناً » ولم نجعله مفسراً لناصب كما قاله أبو البقاء، و«يفجرونها » في موضع الحال.

فصل في المراد بعباد الله هاهنا


قال ابن الخطيب٤ : قوله :﴿ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله ﴾ يفيد أن كل عباد الله يشربون منها، والكفار بالاتفاق لا يشربون على أن لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان، وإذا ثبت هذا فقوله تعالى :﴿ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر ﴾ [ الزمر : ٧ ] لا يتناول الكفار، بل يختص بالمؤمنين، فيصير تقدير الآية : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، ولا تدل الآية على أنه - تعالى - لا يريد الكفر للكفار.
قوله :﴿ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾. أي : يشققونها شقًّا كما يفجر الرجل النَّهر هاهنا وهاهنا إلى حيث شاءوا، ويتبعهم حيث مالوا مالت معهم.
روى القرطبي٥ عن الحسن - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أرْبع عُيونٍ في الجَنَّةِ اثْنان يَجْرِيَانِ مِنْ تَحْتِ العَرْشِ ؛ إحداهما الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تعالى يُفجِّرونها تفجيراً وعينان يجريان من فَوْقِ العرشِ نضَّاختان : إحداهُما الَّتي ذكر اللهُ تعالى سلسبيلاً، والأُخرى : التَّسْنِيمُ »٦ ذكره الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول ».
وقال : فالتَّسْنيم للمقربين خاصة، شراباً لهم، والكافور للأبرار شراباً لهم، يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم، وأما الزَّنجبيل والسَّلسبيل فللأبرار [ منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب فما كان للأبرار مزاج ]٧ للمقربين صرف، وما كان للأبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج، والأبرار هم الصادقون والمقربون : هم الصديقون.
١ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٨٢..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣١٠، والبحر المحيط ٨/٣٨٧، والدر المصون ٦/٤٤١..
٣ تقدم..
٤ ينظر الرازي ٣/٢١٤..
٥ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٨٣..
٦ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٨) وعزاه إلى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"..
٧ سقط من: ب..
قوله تعالى :﴿ يُوفُونَ بالنذر ﴾ يجوز أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له ألبتة، ويجوز أن يكون خبراً ل «كان » مضمرة.
قال الفراء : التقدير «كانوا يوفون بالنَّذر في الدنيا، وكانوا يخافُون » انتهى. وهذا لا حاجة إليه.
الثالث : جواب لمن قال : ما لهم يرزقون ذلك ؟.
قال الزمخشري :«يوفون » جواب من عيسى يقول : ما لهم يرزقون ذلك ؟.
قال أبو حيان١ :«واستعمل » «عسى » صلة ل «من » وهو لا يجوز، وأتى بالمضارع بعد «عسى » «غير مقرون » ب «أن » وهو قليل أو في الشعر ».

فصل في معنى الآية


معناه : لا يخلفون إذا نذروا، وقال معمر عن قتادة : يأتون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات٢.
وقال مجاهد وعكرمة : يوفون إذا نذروا في حق الله تعالى٣.
وقال الفراء والجرجاني : وفي الكلام إضمار، أي : كانوا يوفون بالنذر في الدنيا والعرب قد تزيد مرة «كان » وتحذف أخرى.
وقال الكلبي :«يُوفُونَ بالنَّذرِ » أي : يتممون العهود لقوله تعالى ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله ﴾ [ النحل : ٩١ ] و ﴿ أَوْفُواْ بالعقود ﴾ [ المائدة : ١ ] أمرٌ بالوفاء بها ؛ لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان.
قال القرطبي٤ :«والنذر : حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه [ من شيء يفعله، وإن شئت قلت في حد النذر هو إيجاب المكلف على نفسه ]٥ من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه ».
وقال ابن الخطيب٦ : الإيفاءُ بالشيء هو الإتيان به وافياً.
وقال أبو مسلم : النذر كالوعد، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر، وإن كان من الله فهو وعد، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن تقول : لله عليَّ كذا وكذا من الصدقة، أو يسلم بأمر يلتمسه من الله - تعالى - مثل أن تقول : إن شفى الله مريضي، أو ردَّ غائبي فعليَّ كذا وكذا، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر كقوله : إن أتى فلان الدَّار فعلي هذا، فمنهم من جعله كاليمين، ومنهم من جعله من باب النذور.

فصل في المراد بالإيفاء بالنذر


قال القشيري : روى أشهب عن مالك - رضي الله عنه - أنه قال «يُوفُونَ بالنَّذْرِ » هو نذر العتق، والصيام والصلاة.
وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال : قال مالك :«يُوفُونَ بالنَّذرِ » قال : النذر هو اليمين.
قال ابن الخطيب٧ : هذه الآية تدلّ على وجوب الوفاء بالنذر ؛ لأنه تعالى قال عقيبه :«ويخَافُونَ يَوْماً » وهذا يقتضي أنهم إنما وفَّوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً ويؤكده قوله تعالى :
﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ [ النحل : ٩١ ] وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ ﴾ [ الحج : ٢٩ ] وهذا محتمل ليوفوا أعمال نسكهمُ التي ألزموها أنفسهم.

فصل في زيادة كان


قال الفراء وجماعة من أهل المعاني :«كان » في قوله تعالى :﴿ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾ زائدة وأما هاهنا فكان محذوفة، والتقدير : كانوا يوفون بالنذر.
قال ابن الخطيب٨ : ولقائل أن يقول : إنا بينا أن «كان » في قوله تعالى :﴿ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾ ليست بزائدة، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها ؛ لأنه - تعالى - ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي : سيشربون، فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، ثم قال السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنه الآن يوفون بالنذر.
قوله :﴿ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾، أي : يخافون يوم القيامة، و«كَانَ شَرُّهُ » في موضع نصب صفة ل «يَوْم ».
و«المُسْتطِيرُ » : المنتشر، يقال : اسْتَطَار يَسْتطِيرُ اسْتيطَاراً، فهو مستطير، وهو «استفعل » من الطيران.
قال الأعشى :[ المتقارب ]
٥٠٣٤- فَبَانَتْ وقَدْ أسْأرَتْ في الفُؤا دِ صَدعاً على نَأيِهَا مُسْتَطيرَا٩
والعرب تقول : استطار الصدع في القارورة والزجاجة، أو استطال إذا امتدّ، ويقال : استطار الحريق إذا انتشر.
وقال الفرَّاء : المستطير : المستطيل، كأنه يريد أن مثله في المعنى، لأنه أبدل من اللام راء، والفجر : فجران، مستطيل كذنبِ السَّرحان وهو الكاذب، ومستطير، وهو الصادق لانتشاره في الأفق.
قال قتادة : استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض١٠.
وقال مقاتل : كان شره فاشياً في السموات، فانشقت وتناثرت بالكواكبِ وفزعت الملائكة في الأرض، ونسفت الجبال وغارت المياه١١.
فإن قيل : أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله تعالى، وكل ما كان فعلاً لله، فهو حكمه وصواب، وما كان كذلك لا يكون شرًّا، فكيف وصفها الله بأنها شرّ ؟.
والجواب : إنما سميت شرًّا لكونها مضرة بمن تنزل عليه، وصعبة عليه كما سميت الأمراض، وسائر الأمور المكروهة شروراً.
قال ابن الخطيب١٢ : وقيل : المستطير هو الذي يكون سريع الوصول إلى أهله، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع.
فإن قيل : لم قال : كان شره، ولم يفل : سيكون شره مستطيراً ؟.
فالجواب : أن اللفظ وإن كان للماضي إلا أن معناه كان شره في علم الله وحكمته.
١ ينظر البحر المحيط ٨/٣٩٥..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٥٩) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٣) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٥٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٣) وعزاه إلى عبد بن حميد..
٤ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٨٣..
٥ سقط من ب..
٦ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٢١٤..
٧ السابق..
٨ السابق..
٩ تقدم..
١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٥٩)..
١١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٨٤) عن مقاتل..
١٢ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٢١٥..
قوله :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ ﴾ وهذا الجار والمجرور حال إما من «الطعام » أي : كائنين على حبهم الطعام كقوله تعالى :﴿ وَآتَى المال على حُبِّهِ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ].
قال ابن عباس ومجاهد : على قلة حبهم إياه وشهوتهم له١، وإما من الفاعل.
والضمير في «حبه » لله تعالى، أي : على حب الله، وعلى التقدير : فهو مصدر مضاف للمفعول.
قال الفضيل بن عياض : على حب إطعام الطَّعام.
قوله «مسكيناً ». أي : ذا مسكنة، «ويَتيماً » أي : من يتامى المسلمين «وأسِيراً » أي : الذي يؤسر فيحبس، وذلك أن المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه، واليتيم : هو الذي مات من يكتسب له، وبقي عاجزاً عن الكسبِ لصغره، والأسير : هو المأخوذ من قومه المملوك رقبة، الذي لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلةً.
قال ابن عباس والحسن وقتادة : الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم٢.
فإن قيل : لمَّا وجب قتله، فكيف يجب إطعامه ؟.
فالجواب : أن القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى، ولا يجب إذا عوقب بوجهٍ أن يعاقب بوجه آخر، وكذلك لا يحسن فيمن عليه قصاص أن يفعل به ما هو دون القتل، ويجب على الإمام أن يطعمه فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الأسير : المحبوس٣.
وقال السديُّ : الأسير : المملوك٤، وقيل : الأسير : الغريم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أسِيرُكَ غَريمُكَ »٥ وقال عطاء : الأسير من أهل القبلةِ وغيرهم٦.
قال القرطبي٧ :«هذا يعم جميع الأقوال، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا ».
وقيل : الأسير : الزوجة، قال صلى الله عليه وسلم :«اتَّقُوا اللهَ فِي النِّساءِ، فإنَّهُنَّ عوانٍ عِنْدكُمْ »٨.
قال القفال٩ : واللفظ يحتمل كل ذلك ؛ لأن أصل الأسر هو الشك بالقدر، وكان الأسير يفعل به ذلك حبساً له.

فصل في الكلام على الآية


قال القرطبي١٠ : قيل نسخ آية المسكين آية الصدقات، وإطعام الأسير بالسيف قاله سعيد بن جبير.
وقال غيره : بل هو ثابت الحكم، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام.
وقال الماورديُّ : ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل ؛ لأنه في أسر خبله وجنونه، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام، وهذا برٌّ وإحسان.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٥٩) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في "شعب الإيمان"..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٦٠) عن الحسن وقتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٤) عن الحسن وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن مردويه وذكره أيضا عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٦٠) عن مجاهد وسعيد بن جبير..
٤ ورد مثله مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٥) وعزاه إلى ابن مردويه وابن نعيم..
٥ ذكره الزمخشري في "الكشاف" (٤/٦٦٨)..
٦ ذكره السيوطي في الدر المنثور" (٦/٤٨٤) وعزاه إلى ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير وعطاء..
٧ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٨٤..
٨ تقدم..
٩ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٢١٧..
١٠ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٨٤..
قوله ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله ﴾ على إضمار القول، أي : يقولون بألسنتهم لليتيم والمسكين والأسير إنما نطعمكم في الله - جل ثناؤه - فزعاً من عذابه وطمعاً في ثوابه ﴿ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ﴾ أي : ولا تثنوا علينا بذلك.
قال ابن عباس : كذلك كانت نيَّاتهم في الدنيا حين أطعموا١.
وعن مجاهد : أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله منهم، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب٢.
قيل : هذه الآيات نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذراً فوفى به.
وقيل : نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر، وهم سبعة من المهاجرين : أبو بكر، وعمر، وعلي، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد، وأبو عبيدة - رضي الله عنهم - ذكره الماوردي.
وقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً، ويتيماً، وأسيراً٣.
وقيل : نزلت في علي وفاطمة - رضي الله عنهما - وجارية لهما اسمها فضة.
قال القرطبي٤ : نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلاً حسناً، فهي عامة، وما ذكر عن عليٍّ، وفاطمة لا يصح.
وروى جابر الجعفي في قوله تعالى :﴿ يُوفُونَ بالنذر ﴾، عن قنبر مولى علي - رضي الله عنه - قال : مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا أبا الحسن لو نذرت عن ولديك نذراً، فقال عليٌّ - رضي الله عنه - إن برأ ولدي صمت ثلاثة أيام شكراً.
وقالت فاطمة - رضي الله عنها - مثل ذلك، وقال الحسن والحسين مثل ذلك وذكر الحديث. قال أهل الحديث : جابر الجعفي كذاب.

فصل في الإحسان إلى الغير


قال ابن الخطيب٥ : اعلم أن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله، وتارة يكون لغير الله، إما طلباً لمكافأة أو طلباً لحمدٍ وثناء، وتارة يكون لهما، وهذا هو الشرك، والأول هو المقبول عند الله، وأما القسمان الباقيان فمردودان، قال تعالى :﴿ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ].
وقال تعالى :﴿ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون ﴾ [ الروم : ٣٩ ]، ولا شك أن التماس الشكر من جنس المنّ والأذى، إذا عرفت ذلك فنقول : القوم لما قالوا :«إنَّما نُطعِمكُمْ لوجْهِ اللهِ » بقي فيه احتمال، أنه أطعمه لوجه الله ولسائر الأغراض على سبيل التشريك، فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله تعالى :﴿ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ﴾.

فصل في الشكر والكفور


الشُّكور والكُفور : مصدران ك «الشكر والكفر » وهو على وزن «الدُّخول والخُروج » هذا قول جمهور أهل اللغة.
وقال الأخفش : إن شئت جعلت الشكور، جماعة الشكر، وجعلت الكفور في قوله تعالى :﴿ فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُوراً ﴾ مثل «برد وبرود » وإن شئت جعلته مصدراً واحداً في معنى جمع مثل : قعد قعوداً، وخرج خروجاً.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٨٤)..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٦١) عن مجاهد..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٨٤)..
٤ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٨٥..
٥ الفخر الرازي ٣٠/٢١٨..
قوله :﴿ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : إن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لإرادة مكافأتهم.
والثاني : لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى علَّل ترك المكافأة بخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة.
فإن قيل : إنه - تعالى - لما حكى عنهم الإيفاء بالنذر، علَّل ذلك بخوف القيامة فقط، ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين : بطلب رضا الله تعالى، وبالخوف، فما الحكمة في ذلك ؟.
فالجواب : أن النذر هو الذي أوجبه على نفسه لأجل الله، فلما كان كذلك، لا جرم علله بخوف القيامة فقط، وإما الإطعام فالله - تعالى - هو الذي شرعه، فلا جرم ضم إليه خوف القيامة.
قوله :﴿ يَوْمَاً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ﴾. القَمْطَرِيرُ : الشديد، وأصله كما قال الزجاج :«مشتق من اقمطرّت الناقة إذا رفعت ذنبها، وجمعت قطريها وزمت بأنفها ».
قال الزمخشري : اشتقاقه من القطر، وجعلت الميم زائدة١ ؛ قال أسد بن ناعصة :[ الخفيف ]
٥٠٣٥- واصْطَليْتَ الحُروبَ فِي كُلِّ يومٍ*** بَاسلَ الشَّرِّ قَمْطَريرَ الصَّباحِ٢
قال أبو حيان : واختلف النحاة في هذا الوزن، والأكثر على أنه لا يثبت «افْمَعَلَّ » في أوزان الأفعال ويقال : اقمطرَّ يقمطرُّ فهو مقمطرّ ؛ قال الشاعر :[ الرجز ]
٥٠٣٦- قَدْ جَعلَتْ شَبْوَةُ تَزبَئِرُّ تَكْسُو استهَا لَحْماً وتقْمَطِرُّ٣
ويوم قَمْطَرير وقُمَاطر : بمعنى شديد ؛ قال الشَّاعرُ :[ الطويل ]
٥٠٣٧- فَفِرُّوا إذَا مَا الحَرْبُ ثَار غُبَارُهَا ولَجَّ بِها اليَوْمَ العَبُوسُ القُمَاطِرُ٤
وقال الزجاج : القَمْطَرير : الذي يعبسُ حتى يجتمع ما بين عينيه. انتهى.
فعلى هذا استعماله في اليوم مجاز، وفي بعض كلام الزمخشري، أنه جعله من «القمط » فعلى هذا تكون الرَّاءان فيه مزيدتين.
وقال القرطبي٥ :«القمطرير : الطَّويل » ؛ قال الشاعر :
٥٠٣٨- *** شَدِيداً عَبُوساً قَمْطَريراً ***
تقول العرب : يوم قمطرير، وقُماطر، وعصيب بمعنى ؛ وأنشد الفراء :[ الطويل ]
٥٠٣٩- بَنِي عَمَِّنَا هل تَذْكُرونَ بَلاءنَا عَليْكُمْ إذا مَا كَانَ يومٌ قُماطِرُ٦
بضم القاف، واقمطرّ : إذا اشتد، وقال الأخفش : القمطرير : أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ؛ وأنشد :[ الطويل ]
٥٠٤٠- *** فَفِرُّوا إذَا ما الحَرْبُ ***
البيت المتقدم٧.
وقال الكسائي : يقال : اقمطرَّ اليوم وازمهرَّ اقمطراراً وازمهراراً، وهو القمطريرُ والزمهريرُ، ويوم مقمطرٌّ، إذا كان صعباً شديداً ؛ قال الهذليُّ :[ الطويل ]
٥٠٤١- بَنُو الحَرْبِ ارضْعنَا لَهُم مُقمطرَّةً ومَنْ يُلقَ مِنَّا ذلِكَ اليَوْمَ يهْربِ٨
و«العبوس » أيضاً صفة ل «اليوم »، «يوماً » تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، والمعنى : نخاف يوماً ذا عبوس.
وقال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرقٌ كالقطران.
وقال مجاهد : إن العبوس بالشَّفتين، والقَمْطرير بالجبهةِ والحاجبينِ فجعلهما من صفات الوجه المتغيّر من شدائد ذلك اليوم٩.
١ في أ: فريدة..
٢ ينظر الكشاف ٤/٦٦٩، والقرطبي ١٩/٩٠، والبحر ٨/٣٨٤، والدر المصون ٦/٤٤٢..
٣ ينظر اللسان (قطمر)، والبحر ٨/٣٥٤، والدر المصون ٦/٤٤٢..
٤ ينظر اللسان (لجج) و(قمطر)، والقرطبي ١٩/٨٨، والبحر ٨/٣٨٤، والدر المصون ٦/٤٤٢..
٥ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٨٨..
٦ ينظر معاني القرآن للفراء ٣/٢١٦، وإعراب القرآن ٥/٩٩، والطبري ٢٩/١٣١، ومجمع البيان ١٠/٦١١، والقرطبي ١٩/٨٨، واللسان (قمطر)..
٧ تقدم..
٨ البيت كما في ديوان الهذليين:
بَنُو الحَرْبِ ارضْعنَا لَهُم مُقمطرَّةً ومَنْ يُلقَ مِنَّا يلق سيد يهرب
ينظر ديوان الهذليين ٣/٢٥، والقرطبي ١٩/٨٨..

٩ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٥) وعزاه إلى عبد بن حميد..
قوله :﴿ فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم ﴾. أي : دفع عنهم بأس ذلك اليوم وشدته وعذابه.
وقرأ١ أبو جعفر :«فوقَّاهم الله » بتشديد القاف على المبالغة.
واعلم أنه - تعالى - لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين : لأجل رضا الله تعالى والخوف من القيامة، بيّن هنا أنه أعطاهم هذين الغرضين وهو أنه حفظهم من أهوال القيامة، وهو قوله جل ثنائه ﴿ فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم ﴾ وأما طلبهم رضا الله فأعطاهم الله بسببه «نُضْرةً » في الوجه، أي : حسناً، حين رأوه، «وسروراً » في القلب قال الضحاك : النضرة : البياض والنقاء٢.
وقال ابن جبير : الحسن والبهاء٣.
وقال ابن زيد : أثر النعمة٤.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤١١، والبحر المحيط ٨/٣٨٨..
٢ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٦٧) والقرطبي (١٩/٨٩)..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ينظر المصدر السابق..
قوله تعالى :﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ ﴾. «ما » مصدرية، و«جنَّة » مفعول ثانٍ، أي : جزاهم جنة بصبرهم وقدر مكي مضافاً، فقال : تقديره دخول الجنة، ولبس حرير، والمعنى : وجزاهم بصبرهم على الفقر.
وقال القرظي١ : على الصوم.
وقال عطاء : على الجوع ثلاثة أيام، وهي أيام نذر.
وقيل : بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم عن معصية الله ومحارمه، وهذا يدل على أن الآيات نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلاً حسناً.
وروى ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عن الصبر، فقال :«الصَّبْرُ عند الصَّدمةِ الأولَى، والصَّبرُ على أداءِ الفَرائضِ، والصَّبرُ على اجتنابِ محارم اللهِ تعالى، والصَّبرُ على المَصائبِ »٢.
قوله تعالى :﴿ جَنَّةً وَحَرِيراً ﴾. أي : أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير.
١ ينظر تفسير القرطبي (١٩/٨٩)..
٢ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ مُّتَّكِئِينَ ﴾. حال من مفعول «جزاهم » والعامل فيها «جزى » ولا يعمل فيها «صبروا » ؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتِّكاء في الآخرة.
وقرأ علي١ - رضي الله عنه - «وجازاهم ».
وجوَّز أبو البقاء : أن يكون صفة ل «جَنَّةً ».
وهذا لا يجوز عند البصريين ؛ لأنه كان يلزم بروز الضمير، فيقال :«مُتَّكِئِينَ هُمْ فِيهَا » لجريان الصفة على غير من هي له.
وقد منع مكي أن يكون «متكئين » صفة ل «جنة » لما ذكرنا من عدم بروز الضمير.
وممن ذهب إلى كون «متكئين » صفة ل «جنة »، الزمخشري، فإنه قال :«ويجوز أن يكون مُتَّكئينَ، ولا يَروْنَ، ودَانيةً، كلها صفات الجنة ». وهو مردود بما تقدم.
ولا يجوز أن يكون «متكئين » حالاً من فاعل «صبروا » ؛ لأن الصبر كان في الدنيا، واتكاؤهم إنما هو في الآخرة. قال معناه مكي.
ولقائل أن يقول : إن لم يكن المانع إلا هذا فاجعلها حالاً مقدرة، لا ما لهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة، وله نظائر.
قال ابن الخطيب٢ : وقال الأخفش : وقد ينصب على المدح والضمير في «فيها » أي في الجنة وقال الفراء : وإن شئت جعلت «متكئين » تابعاً، كأنه قال : جزاؤهم جنة متكئين فيها.
والأرائك : السُّرُر في الحجال، وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات : إحداها الأريكة لا تكون إلاَّ حجلة على سرير. وثانيها : السَّجل، وهو الدلو الممتلئ ماء، فإذا صفرت لم تسم سجلاً، وكذلك الذنُوب لا تسمى ذَنوباً حتى تملأ، قاله القرطبي٣.
وهذا فيه نظر، لأنه قد ورد في شعر العرب يصف البازي ؛ قال :[ الكامل ]
٥٠٤٢-. . . *** يَغْشَى المُهَجْهِجْ كالذَّنُوبِ المُرسَلِ٤
يعني الدَّلو إذا ألقي في البئر، وهو لا يلقى في البئر إلا إذا كان فارغاً.
قال : والكأس لا تسمى كأساً حتى تُترعَ من الخمر، قال : وكذلك الطبق الذي تهدى فيه الهدية إذا كانت فيه يسمى مِهْدًى، فإذا كان فارغاً يُسمَّى طبقاً أو خواناً.
قال ابن الأعرابي : مِهْدى - بكسر الميم -، ولا يسمى الطبق مهدى إلا وفيه ما يهدى، والمهداء - بالمد - الذي من عادته أن يهدى.
وقيل : الأرائك : الفرش على السرر ؛ قال ذو الرمة :[ الطويل ]
٥٠٤٣- خُدودٌ جَفتْ في السَّيْرِ حتَّى كأنَّمَا *** يُبَاشِرْنَ بالمَعْزَاءِ مسَّ الأرَائِكِ٥
أي : الفرش على السرر.
قوله :﴿ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً ﴾. فيها أوجه :
أحدها : أنها حال ثانية من مفعول «جزاهم ».
الثاني : أنها حال من الضمير المرفوع المستكن في «متَّكئينَ » فتكون حالاً متداخلة.
الثالث : أن تكون صفة ل «جنة » ك «متكئين » عند من يرى ذلك - كما تقدم - عن الزمخشري.
والزمهرير : أشد البرد، وهذا هو المعروف ؛ وقيل : هو القمرُ بلغة طيّىء، وأنشد :[ الرجز ]
٥٠٤٤- فِي لَيْلةٍ ظلامُهَا قد اعْتكَرْ *** قطَّعتُهَا والزَّمهرِيرُ مَا نَهَرْ٦
ويروى : ما ظهر، أي : لم يطلع القمر، والمعنى : لا يرون فيها شمساً كشمس الدنيا، ولا قمراً كقمر الدنيا، أي : أنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه ولا نهار لأن ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر، والمعنى : أن الجنة لا يحتاج فيها إلى شمس ولا إلى قمر، ووزنه «فعلليل »، وقيل : المعنى : لا يرون في الجنَّة شدة حر كحرِّ الشمس، ولا زمهريراً، أي : ولا برداً مفرطاً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشْتَكَتِ النَّارُ إلى ربِّهَا سُبحانَهُ، قالتْ : يَا ربِّ، أكَلَ بَعْضِي بعْضاً، فجعلَ لَهَا نفسينِ : نفساً في الشِّتاء، ونفساً في الصَّيْف فشِدَّةُ ما تَجِدُونَ من البَرْدِ من زَمْهَرِيرِهَا، وشدَّةِ ما تَجِدُونَ من الحرَِّ في الصَّيْفِ من سَمُومِهَا »٧.
قال مرة الهمداني : الزمهرير : البرد القاطع.
وقال مقاتل بن حيان : هو شيء مثل رءوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هو لونٌ من العذاب، وهو البرد الشديد، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم في النار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوماً واحد.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤١١، والبحر المحيط ٨/٣٨٨..
٢ الفخر الرازي ٣٠/٢١٩..
٣ ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩/٨٩..
٤ عجز بيت للبيد وصدره:
*** أو ذو زوائد لا يطاف بأرضه ***
ينظر ديوانه ص ١٢٧، واللسان (هجهج).
.

٥ ينظر ديوانه ٣/١٧٢٩، ومجاز القرآن ١/٤٠١، ٢/١٦٤، والقرطبي ١٩/٨٨..
٦ ينظر الكشاف ٤/٦٧٠، والقرطبي ١٩/٩٠، والبحر ٨/٣٨٥، والدر المصون ٦/٤٤٣، وروح المعاني ٢٩/٢٠٠..
٧ أخرجه البخاري (٢/٣٢)، كتاب مواقيت الصلاة: باب الإبراد بالظهر في شدة الحر رقم (٥٣٦، ٥٣٧) ومسلم (١/٤٣٠) كتاب المساجد: باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر رقم (١٨٠/٢١٥) والشافعي في "مسنده" (١/٥٢) رقم (١٥٤) والترمذي (٢٥٩٥) وابن ماجه (٤٣١٩) وأحمد (٢/٢٣٨، ٢٧٧) والبغوي في "شرح السنة" (٢/٢٤) من حديث أبي هريرة..
قوله :﴿ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ﴾ العامة على نصبها، وفيها أوجه :
أحدها : أنها عطف على محل «لا يرون ».
الثاني : أنها معطوفة على «مُتَّكِئينَ » فيكون فيها ما فيها.
قال الزمخشري :«فإن قلت :» ودانية عليها ظلالها «علام عطفت ؟.
قلت : على الجملة التي قبلها ؛ لأنها في موضع الحال من المجزيين، وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في «عليهم »، إلاَّ أنها اسم مفرد، وتلك جماعة في حكم مفرد، تقديره : غير رائين فيها شمساً، ولا زمهريراً ودانية عليهم ظلالها، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقمر ودنو الظلال عليهم ».
الثالث : أنها صفة لمحذوف، أي : وجنة دانية.
قال أبو البقاء : كأنه قيل :«وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً » أي : أخرى دانية عليهم ظلالها، لأنهم قد وعدوا جنتين، لأنهم خافوا مقام ربهم بقولهم :«إنَّا نخَافُ مِن ربِّنا يَوماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ».
الرابع : أنها صفة ل «جنة » الملفوظ بها. قاله الزجاج.
وقال الفراء : نصب على المدحِ، أي : دانية عليهم، لقوله تعالى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمن : ٤٦ ].
وقرأ أبو حيوة١ :«ودانية » بالرفع، وفيها وجهان :
أظهرهما : أن يكون «ظلالها » مبتدأ، و «دانية » خبر مقدم، والجملة في موضع الحال.
قال الزمخشري :«والمعنى : لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، والحال أن ظلالها دانية ».
والثاني : أن ترتفع «دانية » بالابتداء، و«ظلالها » فاعل به، وبها استدل الأخفش على جواز إعمال اسم الفاعل، وإن لم يعتمد، نحو «قائم الزيدون »، فإن «دانية » لم تعتمد على شيء مما ذكره النحويون، ومع ذلك فقد رفعت «ظلالها ».
وهذا لا حجة فيه لجواز أن يكون مبتدأ وخبراً مقدماً كما تقدم.
وقال أبو البقاء : وحكي بالجر، أي : في جنة دانية، وهو ضعيف، لأنه عطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. يعني أنه قرئ شاذاً :«وَدانِيةٍ » بالجر على أنها صفة لمحذوف، ويكون حينئذٍ نسقاً على الضمير المجرور من قوله تعالى :﴿ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا ﴾ أي : ولا في جنة دانية، وهو رأي الكوفيين حيث يجوزون العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، ولذلك ضعفه، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة.
وأما رفع «ظلالها » فيجوز أن يكون مبتدأ، و«عليهم » خبر مقدم، ولا يرتفع ب «دانية »، لأن «دنا » يتعدى ب «إلى » لا ب «على »، ويجوز أن ير فع ب «دانية » على أن يضمن معنى مشرفة ؛ لأن «دنا » و«أشرف » متقاربان، قال معناه أبو البقاء، وهذان الوجهان جاريان في قراءة من نصب «دانية ».
وقرأ الأعمش٢ :«ودانياً » بالتذكير، للفصل بين الوصف وبين مرفوعه ب «عليهم » أو لأن الجمع مذكر.
وقرأ أبيّ٣ :«ودَانٍ عَليْهِمْ » بالتذكير مرفوعاً، وهي شاذة. فمذهب الأخفش حيث يرفع باسم الفاعل وإن لم يعتمد، ولا جائز أن يعربا مبتدأ وخبراً لعدم المطابقة.
وقال مكي :«وقرئ » ودانياً «بالتذكير » ثم قال :«ويجوز :«ودانية » بالرفع، ويجوز «دانٍ » بالرفع والتذكير »، فلم يصرح بأنهما قرئا، وقد تقدم أنهما مقروء بهما، فكأنه لم يطلع على ذلك.

فصل في معنى الآية


قال المفسرون : معناه : أن ظل الأشجار في الجنة قريب من الأبرار فهي مظلة عليهم زيادة على نعيمهم.
قال ابن الخطيب٤ : فإن قيل : الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، وهناك لا شمس في الجنة، فكيف يحصل الظل ؟.
فالجواب : أن أشجار الجنَّة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت الأشجار مظلة منها وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شعث. ثم قوله :﴿ وَذُلِّلَتْ ﴾ يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال عطفاً على دانية فيمن نصبها، أي : ومذللة، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «عليهم » سواء نصبت «دانية » أو رفعتها، أو جررتها، ويجوز أن تكون مستأنفة.
وأما على قراءة رفع «ودانية » فتكون جملة فعلية عطفت على اسمية، ويجوز أن تكون حالاً كما تقدم.

فصل في تذليل قطوف الجنة


والمعنى : وسخرت لهم قطوفها، أي : ثمارها «تذليلاً » أي : تسخيراً، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك.
قال ابن قتيبة :«ذللت » أدنيت منهم، من قولهم : حائط ذليل إذا كان قصير السمك.
وقيل :«ذُلِّلَتْ » أي : جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا.
قال البراءُ بن عازب رضي الله عنه : ذلّلت لهم، فهم يتناولون منها كيف شاءوا، فمن أكل قائماً لم يؤذه، ومن أكل جالساً لم يؤذه، ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه٥.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إذا همَّ يتناول من ثمارها تدلّت إليه حتى يتناول منها ما يريد٦.
وتذليل القطوف : تسهيل التناول، والقُطُوف : الثمار، الواحد : قِطْف - بكسر القاف - سمي به ؛ لأنه يقطف، كما سمي الجَنَى لأنه يُجْنَى.
قوله :﴿ تَذْلِيلاً ﴾ تأكيد لما وصف به من الذل، كقوله تعالى :﴿ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾ [ الإسراء : ١٠٦ ] ﴿ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً ﴾ [ النساء : ١٦٤ ].
قال الماوردي : ويحتمل أن تكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها، وتخلص لهم من نواها وقال النحاس : ويقال : المذلل الذي قد ذلله الماء، أي : أرواه.
ويقال : المذلل : الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته، ويقال : المسوى ؛ لأن أهل الحجاز يقولون : ذَلَّلْ نخلك، أي : سوِّه.
١ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٨٨، والدر المصون ٦/٤٤٣..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤١١، والبحر المحيط ٨/٣٨٨، والدر المصون ٦/٤٤٤..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤١١-٤١٢، والبحر المحيط ٨/٣٨٨، والدر المصون ٦/٤٤٤..
٤ الفخر الرازي: ٣٠/٢٢٠..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٦٤) عن مجاهد مثله وأخرجه الحاكم (٢/٥١١): عن البراء وقال: صحيح على شرط الشخين ولم يخرجاه.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٦) وزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد بن السري وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "البعث"..

٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٩١)..
قوله :﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ ﴾ لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف شرابهم، وقد وصف الأواني التي يشرب بها، ومعنى «يطاف » أي : يدور على هؤلاء الأبرار والخدم إذا أرادوا الشراب بآنية من فضة.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء١، أي : الذي في الجنة أشرف وأعلا، ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى : يُسقوْنَ في أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب، كما قال تعالى :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ]، أي والبرد، فنبه بذكر أحدهما على الأخرى. قوله :«بآنية » هذا هو القائم مقام الفاعل ؛ لأنه هو المفعول به في المعنى، ويجوز أن يكون «عليهم ».
و«آنية » جمع إناء، والأصل :«أأنية » بهمزتين، الأولى مزيدة للجمع، والثانية فاء الكلمة، فقلبت الثانية ألفاً وجوباً، وهذا نظير : كساء وأكسية، وغطاه وأغطية، ونظيره في صحيح اللام : حمار وأحمرة.
وقوله :﴿ مِّن فِضَّةٍ ﴾ نعت ل «آنية ».
قوله :﴿ وَأَكْوابٍ ﴾. الأكواب هي الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى، الواحد منها كوب ؛ وقال عدي :[ السريع ]
٥٠٤٥- مُتَّكِئاً تُقْرَعُ أبْوابهُ يَسْعَى عليْه العَبْدُ بالكُوبِ٢
قوله :﴿ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ ﴾. اختلف القراءُ في هذين الحرفين بالنسبة إلى التنوين وعدمه، وفي الوقوف بالألف وعدمها، كما تقدم خلافهم في «سلاسل ».
واعلم أن القراء فيهما على خمس مراتب :
إحداها٣ : تنوينهما معاً والوقف عليهما بالألف لنافع والكسائي وأبي بكر.
الثانية : مقابلة هذه، وهي عدم تنوينهما، وعدم الوقف عليهما بالأف، لحمزة وحده.
الثالثة : عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف وعلى الثاني بدونها لهشام وحده.
والرابعة : تنوين الأول دون الثاني، والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها لابن كثير وحده.
الخامسة : عدم تنوينهما معاً، والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها، لأبي عمرو، وابن ذكوان، وحفص.
فأما من نونهما فكما مرّ في تنوين «سلاسل » ؛ لأنها صيغة منتهى الجموع، ذاك على «مفاعل » وذا على «مفاعيل »، والوقف بالألف التي هي بدل من التنوين، وفيه موافقة للمصاحف المرسومة، فإنهما مرسومان فيهما بالألف على ما نقل أبو عبيد.
وأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف عليهما فظاهر جدًّا.
وأما من نون الأول دون الثاني، فإنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي ولم يناسب بين الثاني والأول والوجه في وقفه على الأول بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر.
وقد روى أبو عبيد أنه كذلك في مصاحف أهل «البصرة ».
وأما من لم ينونهما، ووقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها، فلأن الأول رأس آية، فناسب بينه وبين رءوس الآي في الوقف بالألف، وفرق بينه وبين الثاني ؛ لأنه ليس برأس آية.
وأما من لم ينونهما، ووقف عليهما بالألف، فلأنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي، وناسب بين الثاني وبين الأول.
وحصل مما تقدم في «سَلاسِلا » وفي هذين الحرفين، أن القراء منهم من وافق مصحفه، ومنهم من خالفه لاتباع الأثر. وتقدم الكلام على «قوارير » في سورة «النمل »٤ ولله الحمد.
وقال الزمخشري :«وهذا التنوين بدل من حرف الإطلاق لأنه فاصلة، وفي الثاني لإتباعه الأول ». يعني أنهم يأتون بالتنوين بدلاً من حرف الإطلاق الذي للترنم ؛ كقوله :[ الرجز ]
٥٠٤٦- *** يَا صَاحِ، مَا هَاجَ الدُّمُوعَ الذُّرَّفَنْ٥***
وفي انتصاب «قوارير » وجهان :
أظهرهما : أنه خبر «كان ».
والثاني : أنها حال و«كان » تامة، أي كونت فكانت.
قال أبو البقاء :«وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها، ولو كان التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية لشدة اتصال الصفة بالموصوف ».
وقرأ الأعمش٦ :«قَوَارِيرُ » بالرفع، على إضمار مبتدأ، أي : هي قوارير.
١ ينظر القرطبي (١٩/٩١)..
٢ تقدم..
٣ تنظر هذه الوجوه في: السبعة ٦٦٤، والحجة، ٦/٣٤٨، وإعراب القراءات ٢/٤٢٠-٤٢١، وحجة القراءات ٧٣٩..
٤ آية ٤٤..
٥ الرجز للعجاج ينظر ديوانه ٢/٢١٩، وتخليص الشواهد ص ٤٧، وخزانة الأدب ٣/٤٤٣، وشرح أبيات سيبويه ٢/٣٥١، والكتاب ٤/٢٠٧، والمقاصد النحوية ١/٢٦، والإيضاح ص ١٩..
٦ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٨٩، والدر المصون ٦/٤٤٥..
و«مَنْ فضَّةٍ » صفة ل «قوارير »، والمعنى : في صفاء القوارير، وبياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة.

فصل في وصف تربة الجنة


رُوي أن أرض الجنة من فضة، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي منها، ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، وقال : ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة.
قال ابن الخطيب١ : ومعنى «كانت » هو من يكون، من قوله :﴿ فَيَكُونُ ﴾ [ النحل : ٤٠ ] أي : فتكونت قوارير بتكوين الله - تعالى - تفخيماً لتلك الخلقةِ العظيمة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين، ثم قال : فإن قيل : كيف تكون هذه الأكوابُ من فضة ومن قوارير ؟.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن أصل القوارير في الدنيا الرَّمل، وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة، فكما أن الله - تعالى - قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية، فكذلك قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة، فالغرض من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة الفضة إلى الرمل فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين فكذا بين القارورتين.
وثانيها : ما تقدم من قول ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، أي : أنها جامعة بين صفاء الزجاج وشفافيته وبين نقاء الفضة وشرفها٢.
وثالثها : أنه ليس المراد بالقوارير الزجاج، بل العرب تسمي ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة مما رق وصفا قارورة، فالمعنى : وأكواب من فضة مستديرة صافية.
قوله :﴿ تَقْدِيراً ﴾ صفة ل «قوارير »، والواو في «قَدَّرُوها » فيها وجهان :
أحدهما : أنها عطف عليهم، ومعنى تقديرهم إياها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدروا.
والثاني : أن الواو للطائفين للدلالة عليهم في قوله تعالى :«ويُطَافُ »، والمعنى : أنهم قدروا شرابها على قدر ريِّ الشارب، وهذا ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها، ولا يعجز. قاله الزمخشري.
وجوز أبو البقاء : أن تكون الجملة مستأنفة.
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : أتوا بها على قدر ريِّهم بغير زيادة ولا نقصان٣، قال الكلبي : وذلك ألذّ وأشهى، والمعنى : قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم٤، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قدروها على ملء الكف لا يزيد ولا ينقص حتى لا تؤذيهم بثقل، أو بإفراط صغر٥.
وقرأ علي، وابن٦ عباس، والسلمي، والشعبي، وزيد بن علي، وعبيد بن عمير، وأبو عمرو في رواية الأصمعي :«قُدِّروها » بضم القاف وكسر الدال مبنياً للمفعول أي : جعلت لهم على قدر إرادتهم.
وجعله الفارسي من باب المقلوب، قال : كان اللفظُ قدروها عليها، وفي المعنى قلب ؛ لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم، فهي مثل قوله تعالى :﴿ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة ﴾ [ القصص : ٧٦ ]، ومثل قول العرب : إذا طلعت الجوزاء، ألقى العود على الحرباء.
قال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قدر منقولاً، تقول : قدرت الشيء وقَدّرَنِيهِ فلان : إذا جعلك قادراً له، ومعناه : جعلوا قادرين لها كما شاءوا، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا.
وقال أبو حاتم : قدرت الأواني على قدر ريهم ما لم يسمَّ فاعله، فحذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم، لما حذف المضاف مما قبلها، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدير النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل.
وفي هذا التخريج تكلف مع عجرفة ألفاظه.
وقال أبو حيان٧ : والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل : قدر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاف وهو الري، وأقيم الضمير بنفسه، فصار قدروها، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف، واتساع في الفعل.
قال شهاب الدين٨ : وهذا منتزع من تفسير كلام أبي حاتم.
وقال القرطبي٩ : وقال المهدوي : من قرأها «قدروها » فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى، وكأن الأصل : قدروا عليها، فحذف حرف الجر، والمعنى : قدرت عليهم ؛ وأنشد سيبويه البيت [ البسيط ]
٥٠٤٧- آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ آكُلُهُ والحَبُّ يأكُلهُ في القَرْيَةِ السُّوسُ١٠
وذهب إلى أن المعنى : على حبّ العراق، وقيل : هذا التقدير : هو أن الأقداح تطير فتغترف بمقدار شهوة الشَّارب، وذلك قوله تعالى :﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾.
أي : لا يفضل عن الري ولا ينقص منه، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهي حتى تغترف بذلك المقدار. ذكر الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول ».
١ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٢٢٠..
٢ في أ: ونقائها..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٦٧) عن مجاهد والحسن. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٨٧) من طريق مجاهد عن ابن عباس وعزاه إلى الفريابي..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٩٢)..
٥ ينظر المصدر السابق..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤١٢، والبحر المحيط ٨/٣٨٩، والدر المصون ٦/٤٤٥..
٧ البحر المحيط ٨/٣٩٨..
٨ الدر المصون ٦/٤٤٥..
٩ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٩٢..
١٠ تقدم..
قوله :﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً ﴾. وهي الخمر في الإناء ﴿ كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ﴾، «كان » صلة، أي : مزاجها زنجبيل، أو كان في حكم الله زنجبيلاً، وكانت العرب يستلذُّون من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته ؛ لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، ويحدث في المشروب ضرباً من اللّذع، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب.
والزنجبيل : نبث معروف ؛ وسميت الكأس بذلك ؛ لوجود طعم الزنجبيل فيها ؛ وأنشد الزمخشري للأعشى :[ المتقارب ]
٥٠٤٨- كَأنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِي لَ بَاتَا بِفيهَا وأريْاً مَشُورا١
وأنشد للمسيب بن علس يصف ثغر امرأة :[ الكامل ]
٥٠٤٩أ- وكَأنَّ طَعْمَ الزَّنْجبيلَِ بِهِ إذْ ذُقْتُهُ وسُلافَة الخَمْرِ٢
ويروى : وسلافَةُ الكَرْمِ.
وقال مجاهد :«الزنجبيل » اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار، وكذا قال قتادة٣ : وقيل : هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل.
والمعنى : كأن فيها، وتكون قد عطفت «رأيت » الثاني على الأول، ويكون فعل الجواب محذوفاً، ويكون فعل الجواب المحذوف هو الناصب لقوله تعالى :﴿ نَعِيماً ﴾، والتقدير : إذا صدر منك رؤية ؛ ثم صدر منك رؤية أخرى رأيت نعيماً وملكاً فرأيت هذا هو الجواب.

فصل في بيان الخطاب لمن ؟ !


هذا الخطاب قيل : للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : عامّ، والنعيم : ما يتنعم به.
والملك الكبير : قال سفيان الثوري : بلغنا أن الملك الكبير، تسليم الملائكة عليهم.
وقيل : كون التيجان على رءوسهم كما يكون على رءوس الملوك.
وقال السديُّ ومقاتل : هو استئذان الملائكة عليهم٤.
وقال الحكيم والترمذي : هو ملك التكوين إذا أراد شيئاً قال له : كن.
وفي الخبر : أن الملك الكبير هو أن أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وأن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربِّه - تعالى - كل يوم مرتين.
١ رواية البيت كما في ديوان الأعشى:
كَأنَّ جنيا من الزَّنْجَبي لَ بَاتَ بِفيهَا وأريْاً مَشُورا
ينظر ديوان الأعشى ص ٨٥، والكشاف ٤/٦٧٢، واللسان (زنجبيل)، ومجمع البيان ٦/٣٨٥، ١٠/٦٢١، والقرطبي ١٩/٩٢، والدر المصون ٦/٤٤٦.
.

٢ ينظر الكشاف ٤/٦٧٢، والقرطبي ١٩/٩٢، والبحر ٨/٣٨٥، والدر المصون ٦/٤٤٦..
٣ ذكره الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٦٨) والماوردي (٦/١٧٠) والقرطبي (١٩/٩٢)..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٩٢)..
و«عيناً » فيها من الوجوه ما تقدم، قوله «سلسبيلاً » السلسبيل : ما سهل انحداره في الحلق، قال الزجاج : هو في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة، وقال الزمخشري : يقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية، ودلت على غاية السلاسة.
قال أبو حيان١ : فإن كان عنى أنه زيدت حقيقة فليس بجيد ؛ لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو، وإن عنى أنها حرف جاء في سنخ الكلمة، وليس في سلسل ولا سلسال ؛ فيصح، ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة.
وقال ابن الأعرابي : لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن.
وقال مكي : هو اسم أعجمي نكرة فلذلك صرف. ووزن سلسبيل فعلليل مثل دردبيس٢.
وقيل : فعفليل ؛ لأن الفاء مكررة.
وقرأ طلحة سلسبيل دون تنوين ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث ؛ لأنها اسم لعين بعينها، وعلى هذا فكيف صرف في قراءة العامة ؟ فيجاب أنها سميت بذلك لا على جهة العلمية بل على جهة الإطلاق المجرد، أو يكون من باب تنوين «سلاسل » و«قوارير » وقد تقدم.
وأغرب ما قيل في هذا الحرف : أنه مركب من كلمتين من فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول، والتقدير سل أنت سبيلاً إليها.
قال الزمخشري : وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن معناه سل سبيلاً إليها، قال : وهذا غير مستقيم على ظاهره إلا أن يراد أن جملة قول القائل : سل سبيلاً جعلت علماً للعين ؛ كما قيل : تأبط شراً، وذرى حبًّا، وسميت بذلك ؛ لأنه لا يشرب منها إلاَّ من سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالح، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع وعزوه إلى مثل علي أبدع وفي شعر بعض المحدثين :
٥٠٤٩ب- سَلْ سَبيلاً فِيهَا إلى رَاحةِ النَّفْ سِ براح كأنَّهَا سَلسبيلُ٣
قال أبو حيان٤ بعد تعجبه من هذا القول : وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته.
قال شهاب الدين٥ : ولو تأمل ما قاله الزمخشري لم يلمه ولم يتعجب منه ؛ لأن الزمخشري هو الذي شنع على هذا القول غاية التشنيع.
وقال أبو البقاء : والسلسبيل كلمة واحدة. وفي قوله كلمة واحدة تلويح وإيماء إلى هذا الوجه المذكور.
قوله :«ثمَّ » هذا ظرف مكان، وهو مختص بالبعد، وفي انتصابه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب على الظرف ومفعول الرؤية غير مذكور ؛ لأنّ القَصْد : وإذا صدرت منك رؤية في ذلك المكان رأيت كيت وكيت، ف «رأيت » الثاني جواب ل «إذا ».
وقال الفراء :«ثَمَّ » مفعولة به ل«رأيت »، والمعنى : وإذا رأيت ما ثم، وصلح إضمار «ما »، كما قال ﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ]، يريد : ما بينكم.
قال الزجاج : لا يجوز إضمار «ما ».
وقال الفراء :«وإذَا رَأيْتَ » تقديره : ما ثمَّ، ف«ما » مفعول، وحذفت «ما »، وقامت «ثمَّ » مقام «ما ».
وقال الزمخشري تابعاً لأبي إسحاق : ومن قال : معناه : ما ثمَّ، فقد أخطأ ؛ لأن «ثمَّ » صلة ل «ما » ولا يجوز إسقاط الموصول، وترك الصِّلة.
وفي هذا نظر ؛ لأن الكوفيين يجوزون مثل هذا، واستدلوا عليه بأبيات وآيات تقدم الكلام عليها مستوفى في أوائل هذا الموضوع.
وقال ابن عطية : و«ثم » ظرف والعامل فيه «رأيت » أو معناه، والتقدير : رأيت ما ثم فحذفت ما.
قال أبو حيان٦ : وهذا فاسد ؛ لأنه من حيث جعله معمولاً ل«رأيت » لا يكون صلة ل«ما » ؛ لأن العامل فبه إذا ذاك محذوف : أي ما استقر ثم.
قال شهاب الدِّين٧ : ويمكن أن يجاب عنه، بأن قوله أو معناه هو القول بأنه صلة لموصول فيكونان وجهين لا وجهاً واحداً حتى يلزمه الفساد، ولولا ذلك لكان قوله أو معناه لا معنى له، ويعني بمعناه أي معنى الفعل من حيث الجملة، وهو الاستقرار المقدر.
والعامة على فتح الثاء من «ثمَّ » كما تقدم.
وقرأ حميد الأعرج بضمها، على أنها العاطفة، وتكون قد عطفت «رأيت » الثاني على الأول ويكون فعل الجواب محذوفاً، ويكون فعل الجواب المحذوف هو الناصب لقوله «نعيماً » والتقدير : وإذا صدرت منك رؤية ثم صدرت رؤية أخرى رأيت نعيماً وملكاً ؛ فرأيت هذا هو الجواب.
١ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٩٠..
٢ الدردبيس: خرزة سوداء كأن سوادها لون كبد إذا رفعتها واستشففتها رأيتها تشف مثل لون العنبة الحمراء تتحبب بها المرأة إلى زوجها انظر اللسان (دربس)..
٣ ينظر: الكشاف ٤/٦٧٢، والدر المصون ٦/٤٤٦..
٤ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٩٠..
٥ ينظر الدر المصون ٦/٤٤٦..
٦ ينظر البحر المحيط ٨/٣٩١..
٧ ينظر: الدر المصون ٦/٤٤٧..

فصل


واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادماً في تلك المجالس. فقال ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴾ وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الواقعة والأقرب أن المراد به دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها، وذلك يتضمن دوام بحياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة، قال الفراء يقال مخلدون مسورون ويقال مقرطون، وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون.
والصفة الثالثة : قوله تعالى ﴿ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾ وفي كيفية التشبيه وجوه :
أحدها : شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور ولو كان صفاً لشبهوا باللؤلؤ المنظوم ؛ ألا ترى أنه تعالى قال ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ﴾ فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين.
وثانيها : أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء.
وثالثها : قال القاضي هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفاً للمجتمع منه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة، أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:فصل
واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادماً في تلك المجالس. فقال ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴾ وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الواقعة والأقرب أن المراد به دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها، وذلك يتضمن دوام بحياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة، قال الفراء يقال مخلدون مسورون ويقال مقرطون، وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون.
والصفة الثالثة : قوله تعالى ﴿ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾ وفي كيفية التشبيه وجوه :
أحدها : شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور ولو كان صفاً لشبهوا باللؤلؤ المنظوم ؛ ألا ترى أنه تعالى قال ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ﴾ فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين.
وثانيها : أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء.
وثالثها : قال القاضي هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفاً للمجتمع منه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة، أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾.


فصل


اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة : قضاء الشهوة، وإمضاء الغضب، واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه، وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها، فالملك الكبير الذي ذكره الله ههنا لا بد وأن يكون مغايراً لتلك اللذات الحقيرة، وما هو إلا أن تصير نفسه منتقشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت، وأما ما هو على أصول المتكلمين، فالوجه فيه أيضاً أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين الله تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم، وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره، قال ابن عباس لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه. ويقال إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه وقيل لا زوال له وقيل إذ أرادوا شيئاً حصل، ومنهم من حمله على التعظيم، فقال الكلبي هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه، ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان.

فصل


قال بعضهم قوله ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ﴾ خطاب لمحمد خاصة، والدليل عليه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن دخلت الجنة أترى عيناي ما ترى عيناك ؟ فقال نعم، فبكى حتى مات، وقال آخرون بل هو خطاب لكل أحد.
قوله :﴿ عَالِيَهُمْ ﴾. قرأ نافع وحمزة١ : بسكون الياء وكسر الهاء، والباقون : بفتح الياء وضم الهاء، لما سكنت الياء كسر الهاء، ولما تحركت ضمت على ما تقدم في أول الكتاب.
فأما قراءة نافع وحمزة، ففيها أوجه :
أظهرها : أن يكون خبراً مقدماً، و «ثياب » مبتدأ مؤخر.
والثاني : أن «عاليهم » مبتدأ، و«ثياب » مرفوع على جهة الفاعلية، وإن لم يعتمد الوصف، وهذا قول الأخفش.
والثالث : أن «عاليهم » منصوب، وإنما سكن تخفيفاً. قاله أبو البقاء.
وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجه، وهي واردة هنا، إلا أن تقدير الفتحة من المنقوص لا يجوز إلا في ضرورة أو شذوذ، وهذه القراءة متواترة، فلا ينبغي أن يقال به فيها، وأما قراءة من نصب، ففيه أوجه :
أحدها : أنه ظرف خبر مقدم، و«ثياب » مبتدأ مؤخر، كأنه قيل : فوقهم ثياب.
قال أبو البقاء : لأن عاليهم بمعنى فوقهم.
قال ابن عطية : يجوز في النصب أن يكون على الظرف ؛ لأنه بمعنى فوقهم.
قال أبو حيان٢ : وعالٍ وعالية اسم فاعل فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب :«عاليك أو عاليتك ثوب ».
قال شهاب الدين٣ : قد وردت ألفاظه من صيغة أسماء الفاعلين ظروفاً، نحو خارج الدار، وداخلها وظاهرها، وباطنها، تقول : جلست خارج الدَّار، وكذلك البواقي، فكذلك هنا.
الثاني : أنه حال من الضمير في «عَلَيْهِم ».
الثالث : أنه حال من مفعول «حَسِبْتَهُمْ ».
الرابع : أنه حال من مضاف مقدر، أي : رأيت أهل نعيم وملكٍ كبير عاليهم، ف «عَاليهم » حال من «أهل » المقدر، ذكر هذه الأوجه الثلاثة : الزمخشري، فإنه قال :«وعاليهم » بالنصب على أنه حال من الضمير في «يطوف عليهم » أو في «حسبتهم » أي : يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب، ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب.
قال أبو حيان٤ : أما أن يكون حالاً من الضمير في «حَسِبْتَهُمْ »، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول، وهو لا يعود إلا على «ولدان »، وهذا لا يصح ؛ لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمعطوف عليهم من قوله تعالى ﴿ وحلوا ﴾، ﴿ وَسَقَاهُمْ ﴾ و ﴿ إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً ﴾ وفك الضمائر يجعل كذا وذلك كذا مع عدم الاحتياج إلى ذلك، والاضطرار إلى ذلك لا يجوز، وأما جعله حالاً من محذوف، وتقديره : أهل نعيم، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف.
قال شهاب الدين٥ : جعل أحد الضمائر لشيء، والآخر لشيء آخر لا يمنع صحة ذلك مع ما يميز عود كل واحد إلى ما يليق به، وكذلك تقدير المحذوف غير ممنوع أيضاً، وإن كان الأحسن أن تتفق الضمائر وألاَّ يقدر محذوف، والزمخشري إنما ذكر ذلك على سبيل التجويز لا على سبيل أنه مساوٍ أو أولى، فيرد عليه ما ذكره.
الخامس : أنه حال من مفعول «لقَّاهم ».
السادس : أنه حال من مفعول «جزاهم ». ذكرهما مكي.
وعلى هذه الأوجه التي انتصب فيها على الحال يرتفع به «ثياب » على الفاعلية، ولا يضر إضافته إلى معرفة في وقوعه حالاً ؛ لأن الإضافة لفظية كقوله تعالى :﴿ عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ﴾ [ الأحقاف : ٢٤ ] فأنّث «عارضاً » ولم يؤنث عالياً لأن مرفوعه غير حقيقي التأنيث.
السابع : أن ينتصب «عاليهم » على الظرف، ويرتفع «ثياب » به على جهة الفاعلية، وهذا ماشٍ على قول الأخفش والكوفيين حيث يعملون الظرف وعديله، وإن لم يعتمد كما تقدم ذلك في الصفّ.
وإذا رفع «عاليهم » بالابتداء، و«ثياب » على أنه فاعل به، كان مفرداً على بابه لوقوعه موقع الفعل، وإذا جعل خبراً مقدماً كان مفرداً لا يراد به الجمع، فيكون كقوله تعالى :﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم ﴾ [ الأنعام : ٤٥ ] أي أدبار. قاله مكي.
وقرأ ابن مسعود٦ وزيدُ بن علي :«عاليتهم » مؤنثاً بالتاء مرفوعاً.
والأعمش وأبان عن عاصم كذلك٧، إلا أنه منصوب.
وقد عرف الرفع والنصب مما تقدم.
وقرأت عائشة٨ - رضي الله عنها - «عَليَتْهُم » فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة، و«ثياب » فاعل به، وهي مقوية للأوجه المذكورة في رفع «ثياب » بالصفة في قراءة الباقين كما تقدم تفصيله.
وقرأ ابن سيرين٩ ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة وخلائق : جاراً ومجروراً.
وإعرابه كإعراب «عاليهم » ظرفاً في جواز كونه خبراً مقدماً، أو حالاً مما تقدم وارتفاع «ثياب » به على التفصيل المذكور.

فصل في الضمير في عاليهم


قال ابن الخطيب١٠ : والضمير في «عاليهم » إما للولدان أو للأبرار.
فكأنهم يلبسُون عدة من الثياب، فيكون الذي يعلوها أفضلها، ولهذا قال تعالى «عاليهم » أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثيابُ سندسٍ، والمعنى : أن حجالهم من الحرير والديباج.
قوله تعالى :﴿ ثِيَابُ سُندُسٍ ﴾. قرأ العامة : بإضافة الثياب لما بعدها.
وأبو حيوة١١ وابن أبي عبلة :«ثِيَابٌ » منونة، ﴿ سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ﴾ برفع الجميع ف «سُنْدُسٌ » نعت ل «ثِيَابٌ » ؛ لأن «السندس » نوع، و «خُضْرٌ » نعت ل «سُنْدُسٌ » يكون أخضر وغير أخضر، كما أن الثياب تكون سندساً وغيره، و«إسْتَبْرَقٌ » نسق على ما قبله، أي : وثياب إستبرق.
واعلم أن القراء السبعة في «خُضْرٌ »، و«إسْتَبْرَقٌ » على أربع مراتب١٢.
الأولى : رفعهما، لنافع وحفص فقط.
الثانية : خفضهما، الأخوين فقط.
الثالثة : رفع الأول، وخفض الثاني، لأبي عمرو وابن عامر فقط.
الرابعة : عكسه، لابن كثير وأبي بكر فقط.
فأما القراءة الأولى : فإن رفع «خضرٌ » على النعت ل «ثياب » ورفع «إستبرق » نسق على «الثياب » ولكن على حذف مضاف أي : وثيابٌ إستبرق ومثله : على زيد ثوبُ خزٍّ وكتانٍ أي : وثوبُ كتَّانٍ.
وأما القراءة الثانية : فيكون جر «خضر » على النعت ل «سندس ».
ثم استشكل على هذا وصف المفرد بالجمع، فقال مكي : هو اسم جمع.
وقيل : هو جمع «سندسة » ك «تمر وتمرة »، ووصف اسم الجنس بالجمع يصح، قال تعالى ﴿ وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال ﴾ [ الرعد : ١٢ ]، و﴿ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ [ القمر : ٢٠ ]، و﴿ مِّنَ الشجر الأخضر ﴾ [ يس : ٨٠ ] وإذا كانوا قد وصفوا المحل لكونه مراداً به الجنس بالجمع في قولهم :«أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِّرهمُ البيضُ »، وفي التنزيل :﴿ أَوِ الطفل الذين ﴾ [ النور : ٣١ ] فلأن يوجد ذلك في أسماء الجموع أو أسماء الأجناس الفارق بينها وبين واحدها تاء التأنيث بطريق الأولى، وجر «إستبرق » نسقاً على «سندس »، لأن المعنى ثياب من سندس، وثياب من إستبرق.
وأما القراءة الثالثة : فرفع «خضر » نعتاً ل «ثياب » وجر «إستبرق » نسقاً على سندس أي : ثياب خضر من سندس، ومن إستبرق، فعلى هذا يكون الإستبرق أيضاً أخضر.
وأما القراءة الرابعة : فجر «خضر » على أنه نعت ل «سندس » ورفع «إستبرق » على النسق على «ثياب » بحذف مضاف، أي : وثياب استبرق. وتقدم الكلام على مادة السندس والإستبرق في سورة الكهف١٣.
وقرأ ابن محيصن١٤ :«وإستبرق » بفتح القاف، ثم اضطرب النقل عنه في الهمزة، فبعضهم ينقل عنه أنه قطعها، وبعضهم ينقل أنه وصلها.
قال الزمخشري :«وقرئ :«وإستبرق » نصباً في موضع الجر على منع الصرف، لأنه أعجمي، وهو غلط ؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول الإستبرق، إلا أنه يزعم ابن محيصن أنه قد جعل علماً لهذا الضرب من الثياب، وقرأ :«واستبرقَ » بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى ب «استفعل » من البريق، وهو ليس بصحيح - أيضاً - لأنه معرب مشهور تعريبه وأصله استبره ».
وقال أبو حيان١٥ : ودل قوله : إلا أن يزعم ابن محيصن، وقوله بعد : وقرئ «وإستبرق » بوصل الألف والفتح، أنّ قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف، والمنقول عنه في كتب القراءات : أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف.
قال شهاب الدين١٦ : قد سبق الزمخشري إلى هذا مكي، فإنه قال : وقد قرأ ابن محيصن بغير صرف، وهو وهم إن جعله اسماً ؛ لأنه نكرة منصرفة.
وقيل : بل جعله فعلاً ماضياً من «برق » فهو جائز في اللفظ بعيد في المعنى.
وقيل : إنه في الأصل فعل ماض على «استفعل » من «برق »، فهو عربي من البريق، فلما سمِّي به قطعت ألفه ؛ لأنه ليس من أصل الأسماء أن يدخلها ألف الوصل، وإنما دخلت معتلة مغيرة عن أصلها، معدودة، لا يقاس عليها ؛ انتهى، فدل قوله «قطعت ألفه » إلى آخره، أنه قرأ بقطع الهمزة وفتح القاف، ودل قوله أولاً : وقيل : بل جعله فعلاً ماضياً من «برق »، أنه قرأ بوصل الألف، لأنه لا يتصور أن يحكم عليه بالفعلية غير منقول إلى الأسماء، ويترك ألفه ألف قطعٍ ألبتة، وهذا جهل باللغة، فيكون قد رُوِيَ عنه قراءتا قطع الألف ووصلها، فظهر أن الزمخشري لم ينفرد بالنقل عن ابن محيصن بقطع الهمزة.
وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن : لا يجوز، والصواب : أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً ويؤيد ذلك دخول لام المعرفة عليه، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعةِ.
قال أبو حيان١٧ : نقول : إن ابن محيصن قارئٌ جليلٌ مشهورٌ بمعرفة العربية، وقد أخذ عن أكابر العلماء، فيتطلب لقراءته وجه، وذلك أنه يجعل «استفعل » من البريق، تقول : برق واستبرق، ك «عجب واسْتعجَبَ »، ولما كان قوله :«خضر » يدل على الخضرة، وهي لون ذلك السُّنْدس، وكانت الخضرة مما يكون فيها لشدتها دُهمة وغبش، أخبر أن في ذلك بريقاً وحسناً يزيل غبشيته، ف «استبرق » فعل ماض، والضمير فيه عائد على السُّندس، أو على الأخضر الدالّ عليه خضر، وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف بالعربية، وتوهيم ضابط ثقة. وهذا هو الذي ذكره مكي. وهذه القراءة قد تقدمت في سورة الكهف.
قوله تعالى :﴿ وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ﴾ عطف على «ويَطُوفُ » عطف ماضياً لفظاً مستقبلاً معنى، وأبرزه بلفظ الماضي لتحققه.
وقال الزمخشري بعد سؤال وجواب من حيث المعنى : وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران : سِوَار من ذهب وسوار من فضة.
وناقشه أبو حيان في قوله :«بالمِعْصَم »، فقال١٨ : قوله :«بالمعصم » إما أن يكون مفعول «أحسن » وإما أن يكون بدلاً منه، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور، فإن كان الأول فلا يجوز ؛ لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول «أفعل » التعجب، لا تقول : ما أحسن بزيد، تريد : ما أحسن زيداً، وإن كان الثاني ففي هذا الفصل خلافٌ، والمنقول عن بعضهم أنه لا يجوز، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه فيما فيه خلافٌ.
قال شهاب الدين١٩ : وأي غرض له في تتبع كلام هذا الرجل حتى في الشيء اليسير على أن الصحيح جوازه، وهو المسموع من العرب نثراً ؛ قال عمرو بن معديكرب : لله درُّ بني مجاشع ما أكثر في الهيجاء لقاءها، وأثبت في المكرمات بقاءها، وأحسن في اللَّزْباتِ عطاءها، والتشاغل بغير هذا أولى.

فصل في المراد بالأساور


قال هنا :«أساور من فضة » وفي سورة «فاطر » :﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ﴾ [ فاطر : ٣٣ ]، وفي سورة «الحج » :﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ﴾ [ الحج : ٢٣ ] فق
١ ينظر: السبعة ٦٦٤، والحجة ٦/٣٥٤، وإعراب القراءات ٢/٤٢٢، وحجة القراءات ٧٣٩..
٢ ينظر: البحر المحيط: ٨/٣٩٩..
٣ الدر المصون ٦/٤٤٧..
٤ البحر المحيط ٨/٣٩٩..
٥ الدر المصون ٦/٤٤٨..
٦ ينظر: المحرر المحيط ٨/٤١٣، والدر المصون ٦/٤٤٨..
٧ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٩١، والدر المصون ٦/٤٤٨..
٨ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤١٤، والبحر المحيط ٨/٣٩١، والدر المصون ٦/٤٤٨..
٩ ينظر السابق..
١٠ الفخر الرازي ٣٠/٢٢٣..
١١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤١٤، والبحر المحيط ٨/٣٩١، والدر المصون ٦/٤٤٨..
١٢ ينظر في هذه القراءات: السبعة ٦٦٥، والحجة ٣٥٦، ٣٥٧، وإعراب القراءات ٢/٤٢٢-٤٢٤، وحجة القراءات ٧٣٩- ٧٤١..
١٣ آية ٣١..
١٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤١٤، والبحر المحيط ٨/٣٩٢، والدر المصون ٦/٤٤٩..
١٥ البحر المحيط ٨/٤٠٠..
١٦ الدر المصون ٦/٤٤٩..
١٧ البحر المحيط ٨/٤٠٠..
١٨ البحر المحيط ٨/٤٠٠..
١٩ الدر المصون ٦/٤٥٠..
قوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً ﴾، أي : يقال لهم : إن هذا كان جزاؤكم، أي : ثواب أعمالكم، فيزداد بذلك القول فرحهم وسرورهم، كما أن المعاقب يزداد غمّه، إذا قيل له : هذا جزاء عملك الرديء «وكَانَ سَعيُكُمْ » أي : عملكم «مَشْكوراً » أي : من قبل الله وشكره للعبد قبُول طاعته وثناؤه عليه وإثابته.
وقال قتادةُ : غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى١.
وقيل : هذا إخبار من الله - تعالى - لعباده في الدنيا كأنه - تعالى - شرح لهم ثواب أهل الجنة، أي أنَّ هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبيدي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها.

فصل في الكلام على الآية


قال ابن الخطيب٢ : وفي الآية سؤالان :
الأول : إذا كان فعل العبد خلقاً لله - تعالى - فكيف يعقل أن يكون فعل الله - تعالى - جزاء على فعل الله ؟.
والجواب : أن الجزاء هو الكافي وذلك لا ينافي كونه فعلاً لله.
السؤال الثاني : كون سعي العبد مشكوراً يقتضي كون الله شاكراً له ؟.
والجواب : كون الله - تعالى - شاكراً للعبد محال إلى على وجه المجاز، وهو من ثلاثة أوجه :
الأول : قال القاضي : إن الثواب مقابل لعملهم كما أن الشكر مقابل للنعم.
والثاني : قال القفال : إنه مشهور في كلام الناس أن يقولوا للراضي بالقليل والمثنى به أنه مشكور، فيحتمل أن يكون شكر الله لعباده، وهو رضاه عنهم بالقليل من الطاعات وإعطائه إياهم عليهم ثواباً كبيراً.
الثالث : أن منتهى درجة العبد راضياً من ربه مرضيًّا لربه، كما قال تعالى :﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴾ [ الفجر : ٢٧- ٢٨ ]، وكونها راضية من ربه أقلُّ درجة من كونها مرضية لربه، فقوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً ﴾ إشارة إلى الأمر الذي تصير به النفس راضية مرضية، وقوله :﴿ وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ﴾ إشارة إلى كونها مرضية لربها لما كانت الحالة أعلى المقامات وآخر الدرجات لا جرم وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين.
١ ينظر القرطبي (١٩/٩٦) وأخرجه الطبري (١٢/٣٧٣)..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٢٢٦..
قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا﴾. يجوز أن يكون توكيداً لاسم «إن» وأن يكون فصلاً و «نَزَّلْنَا» على هذين الوجهين هو خبر «إن»، ويجوز أن يكون «نحن» مبتدأ، و «نَزَّلْنَا» خبره والجملة خبر «إنَّ».
وقال مكي: «نَحْنُ» في موضع نصب على الصِّفة لاسم «إن» لأن الضمير يوصف بالمضمر؛ إذ هو بمعنى التأكيد لا بمعنى الغلبةِ، ولا يوصف بالمظهر؛ لأنه بمعنى التَّحلية والمضمر مستغن عن التحلية، لأنه لم يضمرْ إلا بعد أن عرف تحليته وعينه، وهو محتاج إلى التأكيد لتأكيد الخبر عنه.
قال شهاب الدين: وهذه عبارة غريبة جدًّا، كيف يجعل المضمر موصوفاً بمثله،
49
ولا نعلم خلافاً في عدم جواز وصف المضمر إلا ما نقل عن الكسائي أنه جوّز وصف ضمير الغائب بضمير آخر، فلا خرف في عدم جوازه، ثم كلامه يؤول إلى التأكيد فلا حاجة إلى العدول عنه.

فصل في مناسبة اتصال الآية بما قبلها


وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجةً إليه، فليس بسحرٍ ولا كهانةٍ ولا شعرٍ وأنه حقٌّ.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنزل القرآن متفرقاً آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة فلذلك قال: «نَزَّلْنَا».
قال ابن الخطيب: المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فذكر تعالى أن ذلك وحي من الله تعالى ولا جرم بالغ في تكرار الضمير بعد إيقاعه تأكيداً على تأكيد فكأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفار يقولون: إن ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق، أقول على سبيل التأكيد: إن ذلك وحيٌ حقٌّ وتنزيلُ صدقٍ من عندي، وفي ذلك فائدتان:
إحداهما: إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار؛ لأن الله - تعالى - عظّمهُ وصدقه.
والثانية: تقويته على تحمُّل مشاق التكليف، فكأنه - تعالى - يقول: إني ما نزلت عليك القرآن متفرقاً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال.
﴿فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ أي: لقضاء ربك.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: اصبر على أذى المشركين، ثم نسخ بآية القتال.
وقيل: اصبرْ لما حكم به عليك من الطَّاعات، أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة، ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً﴾ أي: ذا إثمٍ ﴿أَوْ كَفُوراً﴾ أي: لا تطع الكفار.
روى معمر عن قتادة، قال: قال أبو جهل: إن رأيتُ محمداً لأطأنَّ على عنقه، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾.
وقيل: نزلت في عتبة بن أبي ربيعة والوليد بن المغيرة، وكانا أتيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوة ففيهما نزلت، وعرض عليه عتبة
50
ابنته وكانت من أجمل النساء، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى، ويترك ما هو عليه، فقرأ عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشر آيات من أول «حم» السجدة، إلى قوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: ١ - ١٣]، فانصرنا عنه وقال أحدهما: ظننت أنَّ الكعبة ستقع عليَّ.
قوله: ﴿أَوْ كَفُوراً﴾. في «أوْ» هذه أوجه:
أحدها: أنها على بابها، وهو قول سيبويه.
قال أبو البقاء: وتفيد في النهي عن الجميع، لأنك إذا قلت في الإباحة: جالس الحسن أو ابن سيرين كان التقدير: جالس أحدهما، فأيهما كلمه كان أحدهما فيكون ممنوعاً منه، فكذلك في الآية، ويؤول المعنى إلى تقدير: ولا تطع منهما آثماً ولا كفوراً.
قال الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ: فإن قلت: معنى «أو» ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو لتكون نهياً عن طاعتهما جميعاً؟.
قلت: لو قال: لا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما، وإذا قيل: لا تطع أحدهما علم أن الناهي عن طاعة أحدهما هو عن طاعتهما جميعاً أنهى، كما إذا نهي أن يقول لأبويه: «أفٍّ» علم أنه منهي عن ضربهما على طريق الأولى.
الثاني: أنها بمعنى «لا» أي: لا تطع من أثم ولا من كفر.
قال مكي: «وهو قول الفراء، وهو بمعنى الإباحة التي ذكرنا».
الثالث: أنها بمعنى الواو، وقد تقدم أن ذلك قول الكوفيين.
والكفور وإن كان يستلزم الإثم إلا أنه عطف لأحد أمرين:
إما أن يكونا شخصين بعينهما كما تقدم فالآثم عتبة، والكفور الوليد.
وإما لما قاله الزمخشري: «فإن قلت: كانوا كلهم كفرةً، فما معنى القسمة في قوله» آثماً او كفوراً «؟.
قلت: معنا لا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه، لأنهم إمَّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر، أو غير إثم ولا كفر، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث»
.

فصل


قال ابن الخطيب: قوله تعالى: ﴿فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ يدخل فيه ألاَّ تطع فيه آثماً أو كفوراً، فكأن ذكره بعد ذلك تكرار؟.
51
والجواب أن الأول أمر بالمأمورات، والثاني: نهي عن المنهيات، ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح، فيكون التصريح، فيكون التصريح منه مفيداً.
فإن قيل: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كان يطيع أحداً منهم، فما فائدة هذا النهي؟.
فالجواب: أن المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى الفساد، وأن أحداً لو استغنى عن توفيق الله - تعالى - وإرشاده لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم أنه لا بدَّ من الرغبة إلى الله - تعالى - والتضرع إليه أن يصونه عن الشُّبهات والشَّهوات.
فإن قيل: ما الفرقُ بين الآثم والكفور؟.
فالجواب: أن الآثم هو الآتي بالمعاصي أيِّ معصيةٍ كانت، والكفُور: هو الجاحد للنعمة، فكل كفور آثم، وليس كل آثم كفوراً، لأن الإثم عام في المعاصي كلها، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً﴾ [النساء: ٤٨].
فسمى الشرك آثماً، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] وقال تعالى: ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٠]، وقال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩]. قد نزلت هذه الآيات على أن الإثم جميع المعاصي.
قوله تعالى: ﴿واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾. أي: صلِّ لربِّك أول النَّهار وآخره ففي أوله صلاة الصُّبح والظهر والعصر، وهو الأصيل، ﴿وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ﴾ يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة، ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾ يعني التَّطوع فيه. قاله ابن حبيب.
وقال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة.
وقيل: هو الذِّكْر المطلق، سواءٌ كان في الصَّلاة أو في غيرها.
وقال ابن زيد وغيره: إنَّ قوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾ منسوخ بالصلوات الخمس.
وقيل: هو ندب.
وقيل: هو مخصوص بالنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وجمع الأصيل: الأصائل، والأصل، كقولك: سفائن وسفن، والأصائل: جمع الجمع، ودخلت «من» على الظرف للتبغيض، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٣١].
52
قوله: ﴿وَسَبِّحْهُ﴾ فيه دليل على عدم صحة قول بعض أهل المعاني والبيان، أن الجمع بين الحاء والهاء - مثلاً - يخرج الكلمَ عن فصاحتها، وجعلوا من ذلك قوله: [الطويل].
٥٠٥٠ - كريمٌ مَتَى أَمْدحْهُ والوَرَى مَعِي وإذَا ما لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي
البيت لأبي تمام، ويمكن أن يفرق بين ما أنشدوه وبين الآية بأن التكرار في البيت هو المخرج عن الفصاحة بخلاف الآية فإنه لا تكرار فيها.
53
﴿ فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾ أي : لقضاء ربك.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : اصبر على أذى المشركين، ثم نسخ بآية القتال.
وقيل : اصبرْ لما حكم به عليك من الطَّاعات، أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة، ﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً ﴾ أي : ذا إثمٍ ﴿ أَوْ كَفُوراً ﴾ أي : لا تطع الكفار.
روى معمر عن قتادة، قال : قال أبو جهل : إن رأيتُ محمداً لأطأنَّ على عنقه، فأنزل الله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾١.
وقيل : نزلت في عتبة بن أبي ربيعة والوليد بن المغيرة، وكانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوة ففيهما نزلت، وعرض عليه عتبة ابنته وكانت من أجمل النساء، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى، ويترك ما هو عليه، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات من أول «حم » السجدة، إلى قوله :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [ فصلت : ١-١٣ ]، فانصرفا عنه وقال أحدهما : ظننت أنَّ الكعبة ستقع عليَّ.
قوله :﴿ أَوْ كَفُوراً ﴾. في «أوْ » هذه أوجه :
أحدها : أنها على بابها، وهو قول سيبويه.
قال أبو البقاء : وتفيد في النهي عن الجميع، لأنك إذا قلت في الإباحة : جالس الحسن أو ابن سيرين كان التقدير : جالس أحدهما، فإذا نهي قال : لا تكلم زيدا أو عمرا، فالتقدير : لا تكلم أحدهما، فأيهما كلمه كان أحدهما فيكون ممنوعاً منه، فكذلك في الآية، ويؤول المعنى إلى تقدير : ولا تطع منهما آثماً ولا كفوراً.
قال الزمخشري رحمه الله : فإن قلت : معنى «أو » ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو لتكون نهياً عن طاعتهما جميعاً ؟.
قلت : لو قال : لا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما، وإذا قيل : لا تطع أحدهما علم أن الناهي عن طاعة أحدهما هو عن طاعتهما جميعاً أنهى، كما إذا نهي أن يقول لأبويه :«أفٍّ » علم أنه منهي عن ضربهما على طريق الأولى.
الثاني : أنها بمعنى «لا » أي : لا تطع من أثم ولا من كفر.
قال مكي :«وهو قول الفراء، وهو بمعنى الإباحة التي ذكرنا ».
الثالث : أنها بمعنى الواو، وقد تقدم أن ذلك قول الكوفيين.
والكفور وإن كان يستلزم الإثم إلا أنه عطف لأحد أمرين :
إما أن يكونا شخصين بعينهما كما تقدم فالآثم عتبة، والكفور الوليد.
وإما لما قاله الزمخشري :«فإن قلت : كانوا كلهم كفرةً، فما معنى القسمة في قوله «آثماً أو كفوراً ؟.
قلت : معنا لا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه، لأنهم إمَّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر، أو غير إثم ولا كفر، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث ».

فصل


قال ابن الخطيب٢ : قوله تعالى :﴿ فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾ يدخل فيه ألاَّ تطع فيه آثماً أو كفوراً، فكأن ذكره بعد ذلك تكرار ؟.
والجواب : أن الأول أمر بالمأمورات، والثاني : نهي عن المنهيات، ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح، فيكون التصريح منه مفيداً.
فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يطيع أحداً منهم، فما فائدة هذا النهي ؟.
فالجواب : أن المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى الفساد، وأن أحداً لو استغنى عن توفيق الله - تعالى - وإرشاده لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم - عليه الصلاة والسلام - ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم أنه لا بدَّ من الرغبة إلى الله - تعالى - والتضرع إليه أن يصونه عن الشُّبهات والشَّهوات.
فإن قيل : ما الفرقُ بين الآثم والكفور ؟.
فالجواب : أن الآثم هو الآتي بالمعاصي أيِّ معصيةٍ كانت، والكفُور : هو الجاحد للنعمة، فكل كفور آثم، وليس كل آثم كفوراً، لأن الإثم عام في المعاصي كلها، قال الله تعالى :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً ﴾ [ النساء : ٤٨ ].
فسمى الشرك آثماً، وقال تعالى :﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ] وقال تعالى :﴿ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٠ ]، وقال تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ]. قد نزلت هذه الآيات على أن الإثم جميع المعاصي.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٧٣) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٩٠) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر..
٢ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٢٢٨..
قوله تعالى :﴿ واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾. أي : صلِّ لربِّك أول النَّهار وآخره ففي أوله صلاة الصُّبح والظهر والعصر، وهو الأصيل.
﴿ وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ ﴾ يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة، ﴿ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾ يعني التَّطوع فيه١. قاله ابن حبيب.
وقال ابن عباس وسفيان : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة٢.
وقيل : هو الذِّكْر المطلق، سواءٌ كان في الصَّلاة أو في غيرها.
وقال ابن زيد وغيره : إنَّ قوله تعالى :﴿ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾ منسوخ بالصلوات الخمس٣.
وقيل : هو ندب.
وقيل : هو مخصوص بالنبي عليه الصلاة والسلام.
وجمع الأصيل : الأصائل، والأصل، كقولك : سفائن وسفن، والأصائل : جمع الجمع، ودخلت «من » على الظرف للتبغيض، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٣١ ].
قوله :﴿ وَسَبِّحْهُ ﴾ فيه دليل على عدم صحة قول بعض أهل المعاني والبيان، أن الجمع بين الحاء والهاء - مثلاً - يخرج الكلمَ عن فصاحتها، وجعلوا من ذلك قوله :[ الطويل ].
٥٠٥٠- كريمٌ مَتَى أَمْدحْهُ والوَرَى مَعِي وإذَا ما لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي٤
البيت لأبي تمام، ويمكن أن يفرق بين ما أنشدوه وبين الآية بأن التكرار في البيت هو المخرج عن الفصاحة بخلاف الآية فإنه لا تكرار فيها.
١ في أ: في الليل..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٩٧)..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ قائلة – كما قال المؤلف بعده – هو أبو تمام. ينظر ديوانه ٢/١٦٦ ومعاهد التنصيص ١/٣٥، والدر المصون ٦/٤٥١..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة﴾. توبيخ وتقريع والمراد أهل «مكة»، والعاجلة، الدنيا.
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالتعظيم والأمر والنهي، عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين، فقال تعالى: ﴿إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة﴾، ومعناه: إن الذي حمل هؤلاء على الكفر والإعراض عما ينفعهم في الآخرة، هو محبتهم اللذات العاجلة والراحات الدنيوية البدنية.
قوله: ﴿وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ﴾، أي: بين أيديهم، وقال: «وَرَاءَهُم» ولم يقل: قُدَّامهم لأمور:
أحدها: أنهم لما أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم.
وثانيها: المراد: يذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل، أي عسير، فأسقط المضاف.
وثالثها: أن «وراء» يستعمل بمعنى «قُدّام»، كقوله تعالى: ﴿مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ﴾ [إبراهيم: ١٦] ﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ﴾ [الكهف: ٧٩].
وقال مكي: سمّي «وراء» لتواريه عنك، فظاهر هذا أنه حقيقة، والصحيح أنه استعير ل «قُدّام».
قوله: «يَوْماً». مفعول ب «يَذَرُونَ» لا ظرف، وصفه بالثقل على المجاز؛ لأنه من صفات الأعيان لا المعاني.
53
وقيل: معناه يتركون الإيمان بيوم القيامة.
وقيل: نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحة نبوته، وحبُّهم العاجلة: أخذهم الرّشا ما كتموه، وقيل: أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا، والآية تعُمّ، واليوم الثقيل: يوم القيامة، وسمي ثقيلاً لشدائده وأهواله وقيل: للقضاء فيه بين العباد.
قوله تعالى: ﴿نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ﴾ أي من طين، ﴿وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ﴾ أي: خلقهم. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم، والأسر: الخلق.
قال أبو عبيد: يقال: فرس شديد الأسر، أي: الخلق، ويقال: أسره الله، إذا شدد خلقه؛ قال لبيدٌ [الرمل]
٥٠٥١ - سَاهِمُ الوجْهِ شَدِيدٌ أسْرهُ مُشْرِفُ الحَارِكِ مَحْبُوكُ الكَتِدْ
وقال الأخطل: [الكامل]
٥٠٥٢ - مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَديدٍ أسْرهُ سَلِسُ القِيَادِ تخَالهُ مُخْتَالاً
وقال أبو هريرة والحسن والربيع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: شَددْنَا مفَاصِلهُمْ.
قال أهل اللغة: الأسر: الرَّبْط، ومنه: أسِرَ الرجُل، إذا أوثق بالقيد، وفرس مأسورة الخلق وفرس مأسورة بالعقب، والإسار: هو القيد الذي يشد به الأقتاب، تقول: أسرت القتب أسراً، أي: شددته وربطته.

فصل في معنى الأسر


قال ابن زيد: الأسر القوة، والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية، أي: سويت خلقك وأحكمته بالقوى ثم أنت تكفر بي.
قال ابن لخطيب: وهذا الكلام يوجب عليهم طاعة الله تعالى من حيث الترغيب والترهيب؛ أما الترغيب فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة، وخلق لهم جميع ما يمكن الانتفاع به، فإذا أحبوا اللذات العاجلة، وتلك اللذات لا تحصل إلا بالمنتفع والمنتفع به، وهما لا يحصلان إلا بتكوين
54
الله وإيجاده، وهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرُّد.
وأما الترهيب فإنه قادرٌ على أن يميتهم وأن يسلُب النعم عنهم، وأن يلقي بهم في كل محنة وبلية، فلأجل الخوف من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرّد، فكأنه قيل: هبْ أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة حسنة إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله - تعالى - والانقياد له، فلم توسلتم به إلى الكفر بالله - تعالى - والإعراض عن حكمه.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً﴾.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطْوَعَ لله منهم.
وقال ابن الخطيب: معناه: إذا شئنا أهلكناهم، وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلاً منهم كقوله تعالى: ﴿على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ﴾ [الواقعة: ٦١]، والغرض منه: بيان الاستغناء التام عنهم، كأنه قيل: لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة، وبتقدير إن ثبتت الحاجة، فلا حاجة بنا إلى هؤلاء الأقوام؛ فإنا قادرون على إبدالهم وإيجاد أمثالهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٩]، ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ [النساء: ١٣٣]. وروى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - معناه: لغيرنا محاسنهم إلى أقبح الصور.
وقيل: أمثالهم في الكفر.

فصل في نظم الآية


قال الزمخشري في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا شِئْنَا﴾ : وحقه أن يجيء ب «إن» لا ب «إذا»، كقوله تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨]، ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ يعني: أنَّ «إذا» للمحقَّق، و «إن» للمحتمل، وهو تعالى لم يشأ ذلك، وجوابه أن «إذا» قد تقع موقع «إن» كالعكس.
قال ابن الخطيب: فكأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف، لأن كل واحد من «إن» و «إذا» حرف شرط، إلا أن حرف «إن» لا يستعمل فيما هو معلوم الوقوع، فلا يقال: إن طلعت الشمس أكرمتك.
أما حرف «إذا» فإنه يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع تقول ابتداء: إذا طلعت الشمس - فهاهنا - لما كان الله تعالى عالماً أنه سيجيء وقت يبدل الله تعالى فيه أولئك الكفرة بأمقالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف «إذا».
55
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ﴾. أي: هذه السورة موعظة، ﴿فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ أي: طريقاً موصِّلاً إلى طاعته.
وقيل: «سبيلاً» أي وسيلة.
وقيل: وجهة وطريقة إلى الخير والمعنى: أنّ هذه السورة لما فيها من الترتيب العجيب، والوعد الوعيد، والترغيب والترهيب تذكرة للمتأملين وتبصرة للمتبصرين.

فصل في قول الجبرية


قال ابن الخطيب: متى ضمت هذه الآية إلى الآية بعدها خرج منهما صريح مذهب الجبر، لأن قوله تعالى: ﴿فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ الآية يقتضي أن مشيئة العبد متى كانت خالصة، فإنها تكون مستلزمة للفعل، وقوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ يقتضي كون مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد، ومستلزم المستلزم مستلزم، فإن مشيئة الله - تعالى - مستلزمة لفعل العبد، وذلك هو الجبر، وكذا الاستدلال على الجبر بقوله تعالى:
﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩]، لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل، ثم التقدير ما تقدم.
قال القاضي: المذكور هاهنا اتخاذ السبيل إلى الله - تعالى - وهو أمر قد شاءه؛ لأنه أمر به فلا بد وأن يكون قد شاءه، وهذا لا يقضي أن يقال: العبد لا يشاء إلاَّ ما قد شاء الله على الإطلاق إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أن الله تعالى أراده وشاءه. وهذا الكلام لا تعلق له بالاستدلال الذي ذكرناه، فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص العام بالصُّور المتقدمة، وذلك ضعيف لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث تعمّ تلك الصورة وغيرها.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال، أي إلاَّ في حال مشيئة الله تعالى. قاله أبو البقاء.
وفيه نظر: لأن هذا مقدر بالمعرفة إى أن يريد تفسير المعنى.
والثاني: أنه ظرف.
قال الزمخشري: «فإن قلت: ما محل أن يشاء الله؟.
قلت: النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله تعالى، وكذلك قرأ ابن مسعود: إلا ما يشاء الله، لأن»
ما «مع الفعل ك» إن «معه».
وردّ أبو حيان: بأنه لا يقوم مقام الظرف إلاَّ المصدر الصريح، لو قلت: أجيئك أن
56
يصيح الديك، أو ما يصيح، لم يجز. قال شهاب الدين: قد تقدم الكلام في ذلك مراراً.
وقرأ نافع والكوفيون: «تشاءون» خطاباً لسائر الخلق، أو على الالفتات من الغيبة في قوله تعالى: ﴿نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ﴾، والباقون: بالغيبة جرياً على قوله: «خلقناهم» وما بعده.
قوله: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ﴾ أي الطاعة والاستقامة، واتخاذ السبيل إلى الله ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ فأخبر أن الأمر إليه سبحانه، وليس لهم، وأنه لا ينفذ مشيئة أحد، ولا تقدّم إلا تقدّم مشيئة الله تعالى، قيل: إن الآية الأولى منسوخة بالثانية.
قال القرطبي: والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته.
قال الفراء: «ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أن يَشاءَ اللهُ» جواب لقوله تعالى: ﴿فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم، فقال: «ومَا تَشَاءُونَ» ذلك السبيل «إلاَّ أن يشَاءَ اللهُ» لكم، ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً﴾ بأعمالكم «حَكِيماً» في أمره ونهيه لكم.
قوله تعالى: ﴿يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾. أي: يدخله الجنة راحماً له.
قال ابن الخطيب: إن فسرنا الرحمة بالإيمان فالآية صريحة في أن الإيمان من الله تعالى وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئته بسبب مشيئة الله تعالى وفضله، وإحسانه لا بسبب الاستحقاق؛ لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجَهْل أو الحاجة، وهما محالان على الله تعالى، والمفضي إلى المحال محال، فتركه محال، فوجوده واجبٌ عقلاً، وعدمه ممتنعٌ عقلاً، وما كان كذلك لا يكون معلقاً على المشيئة ألبتة.
قوله: ﴿والظالمين﴾، أي: ويعذّب الظالمين، وهو منصوب على الاشتغال بفعل يفسره «أعَدَّ لَهُمْ» من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، تقديره: وعذب الظالمين، ونحوه: «زيداً مررت به» أي: جاوزت ولابست. وكان النصب هنا مختاراً لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها، وهو قوله «يُدْخِلُ».
قال الزجاج: نصب «الظَّالمينَ» لأن قبله منصوباً، أي: يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين، أي: المشركين، ويكون «أعَدَّ لَهُمْ» تفسيراً لهذا المضمر؛ قال الشاعر: [المنسرح]
57
٥٠٥٣ - أصْبَحتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا أمْلِكُ رَأسَ البَعيرِ إنْ نَفَرَا
والذِّئْب أخْشَاهُ إنْ مَررْتُ بِهِ وحْدِي وأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرَا
أي: أخشى الذئب أخشاه.
قال الزجاج: والاختيار النصب. وإن جاز الرفع.
وقوله تعالى في «حَم عَسق» :﴿يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمون﴾ [الشورى: ٨] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فنصب في المعنى، فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء، وهاهنا قوله: ﴿أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً﴾ يدل على «ويُعَذِّبُ» فجاز النصب.
وقرأ الزبير، وأبان بن عثمان، وابن أبي عبلة: «والظَّالمُونَ» رفعاً على الابتداء، وما بعده الخبر، وهو أمر مرجوح لعدم المناسبة.
وقرأ ابن مسعود: «ولِلظَّالِمينَ» بلام الجر، وفيه وجهان:
أظهرهما: أن يكون «للظَّالمين» متعلقاً ب «أعَدَّ» بعده، ويكون «لَهُمْ» تأكيداً.
والثاني: وهو ضعيف، أن يكون من باب الاشتغال، على أن يقدر فعلاً مثل الظاهر، ويجر الاسم بحرف الجر، فتقول: «بزيد مررت به» أي: مررت بزيد مررت به، والمعروف في لغة العرب مذهب الجمهور، وهو إضمار فعل ناصب موافق لفعل الظاهر في المعنى، فإن ورد نحو «بزيد مررت به» عُدَّ من التوكيد لا من الاشتغال. والأليم: المؤلم.
روى الثَّعلبيّ عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَة ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان﴾ كَانَ جَزَاؤهُ عَلى اللهِ تَعَالى جَنَّةً وحَرِيراً».
58
سورة المرسلات
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر.
وقال ابن عباس وقتادة - رضي الله عنهم -: إلا آية منها، وهي قوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون﴾ [المرسلات: ٤٨]، مدنية.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: نزلت ﴿والمرسلات عرفا﴾ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن ونحن نسير معه، حتى أوينا إلى غار بمنى فنزلت، فبينا نحن نتلقاها منه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت حية، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وقيتم شرها كما وقيت شركم ".
وعن كريب مولى ابن عباس، قال: قرأت سورة ﴿والمرسلات عرفا﴾ فسمعتني أم الفضل امرأة العباس، فبكت، وقالت: والله يا بني، لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بها في صلاة المغرب.
59
قوله تعالى :﴿ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ ﴾ أي من طين، ﴿ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ ﴾ أي : خلقهم. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم، والأسر : الخلق.
قال أبو عبيد : يقال : فرس شديد الأسر، أي : الخلق، ويقال : أسره الله، إذا شدد خلقه ؛ قال لبيدٌ [ الرمل ]
٥٠٥١- سَاهِمُ الوجْهِ شَدِيدٌ أسْرهُ *** مُشْرِفُ الحَارِكِ مَحْبُوكُ الكَتِدْ١
وقال الأخطل :[ الكامل ]
٥٠٥٢- مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَديدٍ أسْرهُ *** سَلِسُ القِيَادِ تخَالهُ مُخْتَالاً٢
وقال أبو هريرة والحسن والربيع رضي الله عنهم : شَددْنَا مفَاصِلهُمْ٣.
قال أهل اللغة : الأسر : الرَّبْط، ومنه : أسِرَ الرجُل، إذا أوثق بالقيد، وفرس مأسورة الخلق وفرس مأسورة بالعقب، والإسار : هو القيد الذي يشد به الأقتاب، تقول : أسرت القتب أسراً، أي : شددته وربطته.

فصل في معنى الأسر


قال ابن زيد : الأسر القوة، والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية، أي : سويت خلقك وأحكمته بالقوى ثم أنت تكفر بي٤.
قال ابن الخطيب٥ : وهذا الكلام يوجب عليهم طاعة الله تعالى من حيث الترغيب والترهيب ؛ أما الترغيب فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة، وخلق لهم جميع ما يمكن الانتفاع به، فإذا أحبوا اللذات العاجلة، وتلك اللذات لا تحصل إلا بالمنتفع والمنتفع به، وهما لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده، وهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرُّد.
وأما الترهيب فإنه قادرٌ على أن يميتهم وأن يسلُب النعم عنهم، وأن يلقي بهم في كل محنة وبلية، فلأجل الخوف من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرّد، فكأنه قيل : هبْ أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة حسنة إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله - تعالى - والانقياد له، فلم توسلتم به إلى الكفر بالله - تعالى - والإعراض عن حكمه.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطْوَعَ لله منهم٦.
وقال ابن الخطيب٧ : معناه : إذا شئنا أهلكناهم، وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلاً منهم كقوله تعالى :﴿ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ﴾ [ الواقعة : ٦١ ]، والغرض منه : بيان الاستغناء التام عنهم، كأنه قيل : لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة، وبتقدير إن ثبتت الحاجة، فلا حاجة بنا إلى هؤلاء الأقوام ؛ فإنا قادرون على إبدالهم وإيجاد أمثالهم، ونظيره قوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٩ ]، ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ﴾ [ النساء : ١٣٣ ]. وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهم - معناه : لغيرنا محاسنهم إلى أقبح الصور٨.
وقيل : أمثالهم في الكفر.

فصل في نظم الآية


قال الزمخشري في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا شِئْنَا ﴾ : وحقه أن يجيء ب «إن » لا ب «إذا »، كقوله تعالى :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ [ محمد : ٣٨ ]، ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ يعني : أنَّ «إذا » للمحقَّق، و«إن » للمحتمل، وهو تعالى لم يشأ ذلك، وجوابه أن «إذا » قد تقع موقع «إن » كالعكس.
قال ابن الخطيب٩ : فكأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف، لأن كل واحد من «إن » و«إذا » حرف شرط، إلا أن حرف «إن » لا يستعمل فيما هو معلوم الوقوع، فلا يقال : إن طلعت الشمس أكرمتك.
أما حرف «إذا » فإنه يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع تقول ابتداء : إذا طلعت الشمس - فهاهنا - لما كان الله تعالى عالماً أنه سيجيء وقت يبدل الله تعالى فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف «إذا ».
١ يروى الشطر الثاني برواية: مشرف الحال محبوك الكفل ***...
بنظر ديوان لبيد (١٤٤)، واللسان (حبك) (حرك)، والقرطبي ١٩/٩٨..

٢ ينظر ديوان الأخطل ص ٣٨٨، والطبري ٢٩/١٣٩، ومجمع البيان١٠/٦٢٥، والقرطبي ١٩/٩٨..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٧٥) عن أبي هريرة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٩٠) عن الربيع وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وذكره أيضا عن الحسن وعزاه إلى عبد حميد..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٧٥)..
٥ ينظر الفخر الرازي (٣٠/٢٢٨)..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٩٩)..
٧ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٢٣٠..
٨ ينظر تفسير القرطبي (١٩/٩٩)..
٩ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٢٣٠..
قوله تعالى :﴿ إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ ﴾. أي : هذه السورة موعظة، ﴿ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ أي : طريقاً موصِّلاً إلى طاعته.
وقيل :«سبيلاً » أي وسيلة.
وقيل : وجهة وطريقة إلى الخير والمعنى : أنّ هذه السورة لما فيها من الترتيب العجيب، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب تذكرة للمتأملين وتبصرة للمتبصرين.

فصل في قول الجبرية


قال ابن الخطيب١ : متى ضمت هذه الآية إلى الآية بعدها خرج منهما صريح مذهب الجبر، لأن قوله تعالى :﴿ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ الآية يقتضي أن مشيئة العبد متى كانت خالصة، فإنها تكون مستلزمة للفعل، وقوله تعالى بعد ذلك :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ يقتضي كون مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد، ومستلزم المستلزم مستلزم، فإن مشيئة الله - تعالى - مستلزمة لفعل العبد، وذلك هو الجبر، وكذا الاستدلال على الجبر بقوله تعالى :﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]، لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل، ثم التقدير ما تقدم.
قال القاضي : المذكور هاهنا اتخاذ السبيل إلى الله - تعالى - وهو أمر قد شاءه ؛ لأنه أمر به فلا بد وأن يكون قد شاءه، وهذا لا يقضي أن يقال : العبد لا يشاء إلاَّ ما قد شاء الله على الإطلاق إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أن الله تعالى أراده وشاءه. وهذا الكلام لا تعلق له بالاستدلال الذي ذكرناه، فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص العام بالصُّور المتقدمة، وذلك ضعيف لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث تعمّ تلك الصورة وغيرها.
قوله :﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال، أي إلاَّ في حال مشيئة الله تعالى. قاله أبو البقاء.
وفيه نظر : لأن هذا مقدر بالمعرفة إلا أن يريد تفسير المعنى.
والثاني : أنه ظرف.
قال الزمخشري :«فإن قلت : ما محل أن يشاء الله ؟.
قلت : النصب على الظرف، وأصله : إلا وقت مشيئة الله تعالى، وكذلك قرأ ابن مسعود٢ : إلا ما يشاء الله، لأن «ما » مع الفعل ك «إن » معه ».
وردّ أبو حيان٣ : بأنه لا يقوم مقام الظرف إلاَّ المصدر الصريح، لو قلت : أجيئك أن يصيح الديك، أو ما يصيح، لم يجز. قال شهاب الدين٤ : قد تقدم الكلام في ذلك مراراً.
وقرأ نافع والكوفيون :«تشاءون » خطاباً لسائر الخلق، أو على الالتفات من الغيبة في قوله تعالى :﴿ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ ﴾، والباقون٥ : بالغيبة جرياً على قوله :«خلقناهم » وما بعده.
١ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٢٣٠..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٦٧٦، والمحرر الوجيز ٥/٤١٥..
٣ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٠٢..
٤ الدر المصون ٦/٤٥٢..
٥ ينظر: السبعة ٦٦٥، والحجة ٦/٣٦٧، وإعراب القراءات ٢/٤٢٤ -٤٢٥- ٤٢٥، وحجة القراءات ٧٤١..
قوله :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ ﴾ أي الطاعة والاستقامة، واتخاذ السبيل إلى الله ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ فأخبر أن الأمر إليه سبحانه، وليس لهم، وأنه لا ينفذ مشيئة أحد، ولا تقدّم إلا تقدّم مشيئة الله تعالى، قيل : إن الآية الأولى منسوخة بالثانية.
قال القرطبي١ : والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته.
قال الفراء :«ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أن يَشاءَ اللهُ » جواب لقوله تعالى :﴿ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم، فقال :«ومَا تَشَاءُونَ » ذلك السبيل «إلاَّ أن يشَاءَ اللهُ » لكم، ﴿ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً ﴾ بأعمالكم «حَكِيماً » في أمره ونهيه لكم.
١ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/٩٩..
قوله تعالى :﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾. أي : يدخله الجنة راحماً له.
قال ابن الخطيب١ : إن فسرنا الرحمة بالإيمان فالآية صريحة في أن الإيمان من الله تعالى وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئته بسبب مشيئة الله تعالى وفضله، وإحسانه لا بسبب الاستحقاق ؛ لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجَهْل أو الحاجة، وهما محالان على الله تعالى، والمفضي إلى المحال محال، فتركه محال، فوجوده واجبٌ عقلاً، وعدمه ممتنعٌ عقلاً، وما كان كذلك لا يكون معلقاً على المشيئة ألبتة.
قوله :﴿ والظالمين ﴾، أي : ويعذّب الظالمين، وهو منصوب على الاشتغال بفعل يفسره «أعَدَّ لَهُمْ » من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، تقديره : وعذب الظالمين، ونحوه :«زيداً مررت به » أي : جاوزت ولابست. وكان النصب هنا مختاراً لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها، وهو قوله «يُدْخِلُ ».
قال الزجاج : نصب «الظَّالمينَ » لأن قبله منصوباً، أي : يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين، أي : المشركين، ويكون «أعَدَّ لَهُمْ » تفسيراً لهذا المضمر ؛ قال الشاعر :[ المنسرح ]
٥٠٥٣- أصْبَحتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا أمْلِكُ رَأسَ البَعيرِ إنْ نَفَرَا
والذِّئْب أخْشَاهُ إنْ مَررْتُ بِهِ وحْدِي وأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرَا٢
أي : أخشى الذئب أخشاه.
قال الزجاج : والاختيار النصب. وإن جاز الرفع.
وقوله تعالى في «حَم عَسق » :﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمون ﴾ [ الشورى : ٨ ] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فنصب في المعنى، فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء، وهاهنا قوله :﴿ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً ﴾ يدل على «ويُعَذِّبُ » فجاز النصب.
وقرأ الزبير، وأبان٣ بن عثمان، وابن أبي عبلة :«والظَّالمُونَ » رفعاً على الابتداء، وما بعده الخبر، وهو أمر مرجوح لعدم المناسبة.
وقرأ ابن مسعود٤ :«ولِلظَّالِمينَ » بلام الجر، وفيه وجهان :
أظهرهما٥ : أن يكون «للظَّالمين » متعلقاً ب «أعَدَّ » بعده، ويكون «لَهُمْ » تأكيداً.
والثاني : وهو ضعيف، أن يكون من باب الاشتغال، على أن يقدر فعلاً مثل الظاهر، ويجر الاسم بحرف الجر، فتقول :«بزيد مررت به » أي : مررت بزيد مررت به، والمعروف في لغة العرب مذهب الجمهور، وهو إضمار فعل ناصب موافق لفعل الظاهر في المعنى، فإن ورد نحو «بزيد مررت به » عُدَّ من التوكيد لا من الاشتغال. والأليم : المؤلم.
١ الفخر الرازي: ٣٠/٢٣٢..
٢ تقدم..
٣ ينظر: الكشاف ٤/٦٧٦، والمحرر الوجيز ٥/٥١٥، والبحر المحيط ٨/٣٩٣..
٤ ينظر: السابق، والدر المصون ٦/٤٥٢..
٥ في أ: أشهرهما..
Icon