ﰡ
قوله تبارك وتعالى :﴿ هَلْ أَتَى على الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ ﴾.
معناه : قد أتى على الإنسان حين من الدهر. «وهل » قد تكون جحدا، وتكون خبرا. فهذا من الخبر ؛ لأنك قد تقول : فهل وعظتك ؟ فهل أعطيتك ؟ تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته والجحد أن تقول : وهل يقدر واحد على مثل هذا ؟.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾.
يريد : كان شيئا، ولم يكن مذكورا. وذلك من حين خلقه الله من طين إلى أن نفخ فيه الروح.
الأمشاج : الأخلاط، ماء الرجل، وماء المرأة، والدم، والعلَقة، ويقال للشيء من هذا إذا [ ١١٧/ب ] خلط : مشيج ؛ كقولك : خليط، وممشوج، كقولك : مخلوط.
وقوله :﴿ نَّبْتَلِيهِ ﴾ والمعنى والله أعلم : جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، فهذه متقدَّمة معناها التأخير، إنما المعنى : خلقناه وجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه.
وإلى السبيل، وللسبيل. كل ذلك جائز في كلام العرب. يقول : هديناه : عرّفناه السبيل، شكر أو كفر، و ( إما ) ها هنا تكون جزاء، أي : إن شكر وإن كفر، وتكون على ( إما ) التي مثل قوله :﴿ إِما يُعَذِّبُهُمْ وَإِما يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ فكأنه قال : خلقناه شقيا أو سعيدا.
كتبت «سلاسل » بالألف، وأجراها بعض القراء لمكان الألف التي في آخرها. ولم يجر بعضهم. وقال الذي لم يجر : العرب تثبت فيما لا يجري الألف في النصب، فإِذا وصلوا حذفوا الألف، وكلٌّ صواب. ومثل ذلك قوله :﴿ كانَتْ قَوَارِيراً ﴾ أثبتت الألف في الأولى ؛ لأنها رأس آية، والأخرى ليست بآية. فكان ثباتُ الألف في الأولى أقوى لهذه الحجة، وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله، وقرأ بها أهل البصرة، وكتبوها في مصاحفهم كذلك. وأهل الكوفة والمدينة يثبتون الألف فيهما جميعا، وكأنهم استوحشوا أن يكتب حرف واحد في معنًى نصب بكتابين مختلفين. فإن شئت أجريتهما جميعا، وإن شئت لم تجرهما، وإن شئت أجريت الأولى لمكان الألف في كتاب أهل البصرة. ولم تجر الثانية إذ لم يكن فيها الألف.
يقال : إنها عين تسمى الكافور، وقد تكون كان مزاجها كالكافور لطيب ريحه، فلا تكون حينئذ اسما، والعرب [ ١١٨/ا ] تجعل النصب في أي هذين الحرفين أحبوا. قال حسان :
كأنَّ خبيئَةً من بيت رأْسٍ | يكونُ مِزاجُها عَسلٌ وماءُ |
إن شئت جعلتها تابعة للكافور كالمفسِّرة، وإن شئت نصبتها على القطع من الهاء في «مزاجها ».
وقوله عز وجل :﴿ يَشْرَبُ بِها ﴾، و«يَشْرَبُهَا ».
سواء في المعنى، وكأن يشرب بها : يَروَى بها، وينقَع. وأما يشربونها فبيّن، وقد أنشدني بعضهم :
شَرِبْنَ بِماء البحرِ ثمَّ تَرَفَّعتْ | مَتى لُججٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نئيجُ |
وقوله عز وجل :﴿ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ﴾.
أيها أحب الرجل من أهل الجنة فجرها لنفسه.
هذه من صفاتهم في الدنيا، كأن فيها إضمار كان : كانوا يوفون بالنذر.
وقوله عز وجل :﴿ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾.
ممتد البلاء، والعرب تقول : استطار الصدع في القارورة وشبهها، واستطال.
والقمطرير : الشديد، يقال : يوم قمطرير، ويوم قماطر، أنشدني بعضهم :
بَنِي عمِّنا، هل تذكُرونَ بَلاءَنا | علَيكُمْ إذا ما كانَ يومٌ قُمَاطِرُ |
منصوبة كالقطع. وإن شئت جعلته تابعاً للجنة، كأنك قلت : جزاؤهم جنة متكئين فيها.
يكون نصباً على ذلك : جزاؤهم جنة متكئين فيها، ودانيةً ظلالها. وإن شئت جعلت : الدانية تابعة للمتكئين على سبيل القطع الذي قد يكون رفعاً على [ ١١٨/ب ] الاستئناف. فيجوز مثل قوله :﴿ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً ﴾ «وشيخٌ »، وهي في قراءة أبي :«ودانٍ عليهم ظلالها » فهذا مستأنف في موضع رفع، وفي قراءة عبد الله :«ودانياً عليهم ظلالها »، وتذكير الداني وتأنيثه كقوله :﴿ خَاشِعاً أبْصَارُهم ﴾ في موضع، وفي موضع ﴿ خاشعةً أبصارهم ﴾. وقد تكون الدانيةُ منصوبة على مثل قول العرب : عند فلان جاريةٌ جميلةٌ، وشابةً بعد طريةً، يعترضون بالمدح اعتراضاً، فلا ينوون به النسق على ما قبله، وكأنهم يضمرون مع هذه الواو فعلا تكون به النصب في إحدى القراءتين :«وحوراً عينا ». أنشدني بعضهم :
ويأوي إلى نسوة عاطلاتٍ | وشُعثا مراضيعَ مثل السعالِي |
وقوله عز وجل :﴿ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً ﴾.
يجتني أهل الجنة الثمرة قياما وقعوداً، وعلى كل حال لا كلفة فيها.
يقول : كانت كصفاء القوارير، وبياض الفضة، فاجتمع فيها صفاء القوارير، وبياض الفضة.
قدروا الكأس على رِي أحدهم لا فضل فيه ولا عجز عن ريه، وهو ألذ الشراب.
وقد رَوى بعضهم عن الشعبي :( قُدِّروها تَقْدِيراً ). والمعنى واحد، والله أعلم، قدِّرت لهم، وقدِروا لها سواء.
إنما تسمى الكأس إذا كان فيها الشراب، فإذا لم يكن فيها الخمر لم يقع عليها اسم الكأس. وسمعت بعض العرب يقول للطبق الذي يُهدى عليه الهدية : وهو المِهْدَى، ما دامت عليه الهدية، فإذا كان [ ١١٩/ا ] فارغا رجع إلى اسمه إن كان طبقاً أو خواناً، أو غير ذلك.
وقوله عز وجل :﴿ زَنجَبِيلاً * عَيْنا ﴾.
ذكر أن الزنجبيل هو العين، وأن الزنجبيل اسم لها، وفيها من التفسير ما في الكافور.
وقوله عز وجل :﴿ تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ﴾.
ذكروا أن السلسبيل اسم للعين، وذكر أنه صفة للماء لسلسلته وعذوبته، ونرى أنه لو كان اسما للعين لكان ترك الإجراء فيه أكثر، ولم نَر أحدا من القراء ترك إجراءها وهو جائز في العربية، كما كان في قراءة عبد الله :﴿ وَلاَ تَذَرُنّ وَدًّا ولا سُوَاعاً ولا يَغُوثاً ويَعُوقاً ﴾ بالألف. وكما قال :«سلاسلا »، و«قواريرا » بالألف، فأجروا ما لا يجري، وليس بخطأ، لأن العرب تجري ما لا يجري في الشعر، فلو كان خطأ ما أدخلوه في أشعارهم، قال متمم بن نويرة :
فما وجد أظآرٍ ثلاثٍ روائمٍ | رأين مَجَرًّا من حُوارٍ ومصْرعَا |
إنما تسمى الكأس إذا كان فيها الشراب، فإذا لم يكن فيها الخمر لم يقع عليها اسم الكأس. وسمعت بعض العرب يقول للطبق الذي يُهدى عليه الهدية : وهو المِهْدَى، ما دامت عليه الهدية، فإذا كان [ ١١٩/ا ] فارغا رجع إلى اسمه إن كان طبقاً أو خواناً، أو غير ذلك.
وقوله عز وجل :﴿ زَنجَبِيلاً * عَيْنا ﴾.
ذكر أن الزنجبيل هو العين، وأن الزنجبيل اسم لها، وفيها من التفسير ما في الكافور.
وقوله عز وجل :﴿ تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ﴾.
ذكروا أن السلسبيل اسم للعين، وذكر أنه صفة للماء لسلسلته وعذوبته، ونرى أنه لو كان اسما للعين لكان ترك الإجراء فيه أكثر، ولم نَر أحدا من القراء ترك إجراءها وهو جائز في العربية، كما كان في قراءة عبد الله :﴿ وَلاَ تَذَرُنّ وَدًّا ولا سُوَاعاً ولا يَغُوثاً ويَعُوقاً ﴾ بالألف. وكما قال :«سلاسلا »، و«قواريرا » بالألف، فأجروا ما لا يجري، وليس بخطأ، لأن العرب تجري ما لا يجري في الشعر، فلو كان خطأ ما أدخلوه في أشعارهم، قال متمم بن نويرة :
فما وجد أظآرٍ ثلاثٍ روائمٍ | رأين مَجَرًّا من حُوارٍ ومصْرعَا |
يقول : محلّون مُسَورون، ويقال : مُقَرطون، ويقال : مخلدون دائم شبابهم لا يتغيرون عن تلك السنن، وهو أشبهها بالصواب والله أعلم وذلك أن العرب إذا كبر الرجل، وثبت سواد شعره قيل : إنه لمخلد، وكذلك يقال إذا كبر ونبتت له أسنانه وأضراسه قيل : إنه لمخلد ثابت الحال. كذلك الوُلدانُ ثابتة أسنانهم.
يقال : إذا رأيت ما ثَمّ رأيت نعيما، وصلح إضمار ( ما ) كما قيل :﴿ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾. والمعنى : ما بينكم، والله أعلم. ويقال : إذا رأيت [ ١١٩/ب ] ثم، يريد : إذا نظرت، ثم إذا رميت ببصرك هناك رأيت نعيما.
نصبها أبو عبد الرحمن وعاصم والحسن البصري، جعلوها كالصفة فوقهم. والعرب تقول : قومك داخل الدار، فينصبون داخل الدار ؛ لأنه مَحَل، فعاليهم من ذلك. وقد قرأ أهل الحجاز وحمزة :«عَالِيهم » بإرسال الياء، وهي في قراءة عبد الله :«عاليتُهم ثيابُ سُنْدُسٍ » بالتاء. وهي حجةٌ لمن أرسل الياء وسكنها. وقد اختلف القراء في : الخضر والسندس، فخفضهما يحيى بن وثاب أراد أن يجعل الخضر من صفة السندس ويكسر على الإستبرق ثيابَ سندس، وثيابَ إستبرق، وقد رفع الحسن الحرفين جميعاً. فجعل الخضر من صفة الثياب، ورفع الإستبرق بالرد على الثياب، ورفع بعضهم الخضر، وخفض الإستبرق ورفع الإستبرق وخفض الخضر، وكل ذلك صواب. والله محمود.
وقوله عز وجل :﴿ شَرَاباً طَهُوراً ﴾.
يقول : طهور ليس بنجس كما كان في الدنيا مذكوراً بالنجاسة.
( وُ ) ها هنا بمنزلة ( لا )، وأو في الجحد والاستفهام والجزاء تكون في معنى ( لا ) فهذا من ذلك. وقال الشاعر :
لا وَجْدُ ثَكْلَى كما وَجِدْتُ وَلا | وَجْدُ عَجُولٍ أَضَلَّها رُبَعُ |
أَوْ وَجْدُ شيخٍ أصَلَّ ناقَتهُ | يَوْمَ توافي الحجيجُ فاندفعُوا |
والأسر ؛ الخَلْق. تقول : لقد أُسِر هذا الرجل أحسنُ الأسر، كقولك : خُلِقَ أحْسَن الخَلْق.
يقول : هذه السورة تذكرة وعظة. ﴿ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ وِجهة وطريقاً إلى الخير.
جواب لقوله :﴿ فَمَنْ شَاء اتّخذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾.
ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم، فقال :﴿ وَما تَشَاءونَ ﴾ ذلك السبيل ﴿ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ﴾ لكم، وفي قراءة عبد الله ﴿ وَما تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ﴾ والمعنى في ( ما ) و ( أن ) متقارب.
نصبت الظالمين ؛ لأن الواو في لها تصير كالظرف لأعدّ. ولو كانت رفعاً كان صوابا، كما قال :﴿ والشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴾ بغير همز، وهي في قراءة عبد الله :«وللظالمين أعد لهم » فكرر اللام في ( الظالمين ) وفي ( لهم )، وربما فعلت العرب ذلك. أنشدني بعضهم :
أقول لها إذا سألت طلاقا | إلامَ تسارعين إلى فراقي |
فأصبحْنَ لا يَسلنهُ عن بما به | أصعَّد في غاوي الهَوى أم تصوَّبا ؟ |
وله وجه آخر يراد : عم يتساءلون يا محمد ؟ ! ثم أخبر، فقال : يتساءلون عن النبإ العظيم، ومثل هذا قوله في المرسلات :﴿ لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ﴾ تعجباً، ثم قال :﴿ ليوم الفصل ﴾ أي : أجلت ليوم الفصل.