تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة الدهر مكية
وهي إحدى وثلاثون آية وفيها ركوعان
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ هل أتى على الإنسان ﴾ : قد أتى على جنس بني آدم،
﴿ حين من الدهر ﴾ : طائفة من الزمن الممتد،
﴿ لم يكن شيئا مذكورا ﴾ : لم يعرف، ولم يذكر، وعن بعض المراد آدم، فإنه ملقى أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه، والجملة حال من الإنسان، أو وصف لحين بحذف الراجع أي : لم يكن فيه شيئا،
﴿ إنا خلقنا الإنسان ﴾ : بني آدم، ﴿ من نطفة أمشاج ﴾، جمع مشج أي : أخلاط أي : من نطفة قد اختلط، وامتزج فيها ماء الرجل والمرأة، أو ألوان فما للرجل لون وللمرأة لون ﴿ نبتليه ﴾ : مريدين اختباره، ﴿ فجعلناه سميعا بصيرا ﴾ : فإنه بالسمع والبصر يتمكن من الطاعة والمعصية،
﴿ إنا هديناه السبيل ﴾ : بينا له طريق الحق، ﴿ إما شاكرا وإما كفورا ﴾، حالان من أول مفعولي هدينا أي : في حاليه جميعا، أو مقسوما إلى الحالين بعضهم شاكر بأن سلوكا طريقا هديناهم، وبعضهم كفور بالإعراض عنه،
﴿ إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلال وسعيرا ﴾،
﴿ إن الأبرار ﴾ جمع بر أو بار، ﴿ يشربون من كأس ﴾ : من خمر، ﴿ كان مزاجها كافورا ﴾ : تخلق منها رائحة الكافور، وبياضه وبرده، فكأنها مزجت بالكافور، أو تمزج لهم بالكافور، وتختم لهم بالمسك،
﴿ عينا ﴾، بدل من محل من كأس بحذف مضاف أي : خمر عين، أو نصب على الاختصاص، أو الكافور اسم عين في الجنة، فيكون عينا بدلا منه، ﴿ يشرب بها ﴾ أي : ملتذا بها، أو يشرب بمعنى يروي، فلذلك عدى بالباء، أو الباء زائدة، أو بمعنى من، ﴿ عباد الله يفجرونها تفجيرا ﴾ : يجرونها حيث أرادوا من منازلهم،
﴿ يوفون بالنذر ﴾، مستأنفة كأنه قيل : لأي سبب رزقوا ذلك ؟ وعن بعض المراد بالنذر الواجب أي : يوفون بما يجب عليهم من الصلاة، والزكاة، وغيرهما، ﴿ ويخافون يوما كان شره مستطيرا ﴾ : منتشرا غاية الانتشار فيجتنبون عن المعاصي،
﴿ ويطعمون الطعام على حبه ﴾ الأولى أن يكون الضمير للطعام ليكون موافقا لقوله تعالى ﴿ لن تنالوا البر ﴾ الآية ( آل عمران : ٩٢ )، ولأن فيما بعده، وهو لوجه الله فنية أن يكون تقديره على حب الله، ﴿ مسكينا ويتيما وأسيرا ﴾ : وإن كان مكن أهل الشرك أمر -عليه السلام- يوم بدر بإكرام الأسراء أو المراد المسجون من المسلمين، أو المراد الأرقاء نزلت حين نذر علي وفاطمة صوم ثلاث في مرض ولديهما إن بريا فلما صاما وأرادوا الإفطار وقف عليهما مسكين فآثره فباتا بلا عشاء، ثم وقف عليهما في الليلة الثانية يتيم، فآثره فباتا جائعين ثم في الثالثة أسير من المشركين فآثره فلم يفطرا في صوم ثلاث إلا بالماء،
﴿ إنما نطعمكم ﴾ : قائلين ذلك بلسان الحال، أو المقال ليعرف الفقير أنها صدقة ليست للمجازاة، ﴿ لوجه الله ﴾ : خالصا غير مشوب بحظ النفس، ﴿ لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ﴾، مصدر كالقعود،
﴿ إنا نخاف من ربنا ﴾، مستأنفة للتعليل، ﴿ يوما ﴾ أي : عذابه، ﴿ عبوسا ﴾، مجاز أي : عبوسا فيه أهله، أو كالأسد العبوس في الضرر والشدة، ﴿ قمطريرا ﴾ : شديد العبوس، عن كعكرمة وغيره، يعبس الكافر حتى يسيل من بين عينيه عرق كالقطران، وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- العبوس الضيق، والقمطرير الطويل،
﴿ فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة ﴾، بدل عبوس الكفار، ﴿ وسرورا ﴾، بدل حزنهم،
﴿ وجزاهم بما صبروا ﴾ : على ترك الشهوات، وأداء الواجبات، ﴿ جنة وحريرا ﴾ : يلبسونه،
﴿ متكئين فيها ﴾، حال من أول مفعول جزاء، أو صفة لثاني مفعوليه على مذهب الكوفية، ﴿ على الأرائك ﴾ : السرر في الحجال، ﴿ لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ﴾ : لا حر مزعج، ولا برد مؤلم، بل هواء معتدل،
﴿ ودانية ﴾ : قريبة، ﴿ عليهم ظلالها ﴾، الواو للعطف على متكئين، " ولا يرون " يحتمل أن يكون حالا من ضمير متكئين، ﴿ وذللت ﴾ : سهلت، ﴿ قطوفها ﴾ : ثمارها، ﴿ تذليلا ﴾ : لا يمتنع على قطافها في أي حال يكونون من القيام، والرقود يحتمل أن يكون الواو حالا من ضمير عليهم بحذف العائد أي : وذلك لهم،
﴿ ويطاف عليهم بآنية ﴾، الباء للتعدية، ﴿ من فضة وأكواب ﴾ : أباريق بلا عروة، ﴿ كانت قواريرا ﴾
﴿ قواريرا من فضة ﴾ أي : جامعة بين صفاء الزجاجة، وبياض الفضة، ولينها ونصب قوارير على البدل، أو بتقدير أعني، ﴿ قدروها تقديرا ﴾، الضمير للطائفين بها الدال عليه " يطاف عليهم " أي : قدم الخدم الآنية على قدر ريهم وحاجتهم لا يزيد فيها شراب، ولا ينقص، وهو ألذ للشارب، وقيل : مرجع هذا الضمير مرجع سائر الضمائر في الآية أي قدروها في أنفسهم، فجاءت مقاديرها، وأشكالها كما تمنوه،
﴿ ويسقون فيها كأس ﴾ : خمرا، ﴿ كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها ﴾، المعنى والإعراب كما مر في كان مزاجها كافورا عينا، والعرب يستطيب طعم الزنجبيل جدا، وعن قتادة وغيره : الأبرار يمزج لهم من هذا تارة ومن ذلك أخرى، وأما المقربون فيشربون من كل منهما صرفا، ﴿ تسمى سلسبيلا ﴾، لسلاسة في الحلق ليس فيها إحراق الزنجبيل، ولدغة مع أن فيها طعمه، أو سميت به، لأنها تسيل عليهم في السبل، والطرق، والمنازل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:﴿ ويسقون فيها كأس ﴾ : خمرا، ﴿ كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها ﴾، المعنى والإعراب كما مر في كان مزاجها كافورا عينا، والعرب يستطيب طعم الزنجبيل جدا، وعن قتادة وغيره : الأبرار يمزج لهم من هذا تارة ومن ذلك أخرى، وأما المقربون فيشربون من كل منهما صرفا، ﴿ تسمى سلسبيلا ﴾، لسلاسة في الحلق ليس فيها إحراق الزنجبيل، ولدغة مع أن فيها طعمه، أو سميت به، لأنها تسيل عليهم في السبل، والطرق، والمنازل.
﴿ ويطوف عليهم ولدان مخلدون ﴾ : لا يموتون، ﴿ إذا رأيتم حسبتهم لؤلؤ منثورا ﴾ : من صفاء ألوانهم، وطراوتهم، وانبثاثهم في منازلهم،
﴿ وإذا رأيت ثم ﴾ أي : إذا وجدت الرؤية في الجنة، وترك مفعوله ليعم، ﴿ رأيت نعيما وملكا كبيرا ﴾ : واسعا،
﴿ عاليهم ﴾، بالنصب حال من عليهم وبسكون الياء مبتدأ، وقوله :﴿ ثياب سندس ﴾، خبره، وهو ما رق من الثياب، ﴿ خضر ﴾، بالجر صفة سندس، بالرفع صفة ثياب، ﴿ وإستبرق ﴾ : هو ما غلظ من الثياب، وله بريق، ولمعان عطف على ثياب، الجر على سندس، ﴿ وحلوا ﴾، عطف على ويطوف، ﴿ أساور ﴾، جمع سوار، ﴿ من فضة ﴾، وهذا للأبرار، وأما المقربون فيحلون من أساور من ذهب، أو للأبرار أساور من ذهب، وفضة، ﴿ وسقاهم ربهم شرابا طهورا ﴾، عين على باب الجنة من شرب منها نزع ما كان في قلبه من الأخلاق الرديئة، أو طاهرا من الأقذار لم يدنسه الأيدي، والأرجل كخمر الدنيا، لأنه يرشح عرقا له ريح كالمسك،
﴿ إن هذا كان لكم ﴾ أي : يقال لهم ذلك، ﴿ جزاء وكان سعيهم مشكورا ﴾ : غير مضيع.
﴿ إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ﴾ : متفرقا منجما آية بعد آية، وفي تكرير الضمير مع التأكيد بأن مزيد اختصاص التنزيل،
﴿ فاصبر لحكم ربك ﴾ : بتأخير نصرك، ﴿ ولا تطع منهم آثما أو كفورا ﴾، لفظ أو للدلالة على أن إطاعة كل واحد منهما قبيح، فالجمع بين الطاعتين أقبح، والآثم الكافر ؛ لأن الفسوق في الأفعال يظهر في الكافر، والكفور المنافق، لأنه صفة القلب، ولا تطع الكافرين، والمنافقين، وعن بعض الآثم عتبه، فإنه ركاب الفسوق، والكفور الوليد، فإنه الغالي في الكفر، وهما قالا لو رجعت عن هذا الأمر لزوجناك ابنتينا بغير مهر، وأعطيناك من المال حتى ترضى،
﴿ واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ﴾ : أول النهار وآخره،
﴿ ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ﴾، كما قال، ﴿ ومن الليل فتهجد به نافلة لك ﴾( الإسراء : ٧٩ ) وعن بعض المراد صلاة الصبح، والعصر، والمغرب، والعشاء، والتهجد،
﴿ إن هؤلاء يحبون العاجلة ﴾ : الدار العاجلة، ﴿ ويذرون وراءهم ﴾ : وراء ظهورهم، أو أمامهم، ﴿ يوما ثقيلا ﴾ : شديدا،
﴿ نحن خلقناهم وشددنا أسرهم ﴾ : ربطهم، وتوثيق مفاصلهم، ﴿ وإذا شئنا بدلنا أمثالهم ﴾ : في شدة الأسر بعد إهلاكهم، ﴿ تبديلا ﴾، والمراد النشأة الأخرى، والتبديل في الصفات، أو المراد إذا شئنا أهلكناهم، ونأت بخلق جديد مثلهم بدلهم فالتبديل في الذوات، وحقه حينئذ إن بدل إذا لكن جيء بإذا على المبالغة كأن له وقتا معينا،
﴿ إن هذه ﴾ أي : السورة، ﴿ تذكرة ﴾ : عظة، ﴿ فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ : طريقا ومسلكا إلى الله،
﴿ وما تشاءون ﴾ : ذلك، ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ أي : وقت أن يشاء الله مشيئتكم، ﴿ إن الله كان عليما حكيما ﴾ : فيعلم من يستحق الهداية، فيقيض له أسبابها، ومن يستحق الغواية فييسر له أسبابها، وله الحكم في ذلك،
﴿ يدخل من يشاء في رحمته ﴾ : هدايته، ﴿ والظالمين أعد لهم عذابا أليما ﴾، نصب الظالمين بفعل يفسره ما بعده، مثل أعد.
اللهم أدخلنا برحمتك في رحمتك ولا تجعلنا من الظالمين.