تفسير سورة الإنسان

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾.
اتفق المفسرون على أن هل هنا بمعنى قد أي أن الاستفهام تقريري يستوجب الإجابة عليه بنعم.
ولفظ الإنسان في ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ ﴾، وقيل هو الإنسان الأول آدم عليه السلام، أتى عليه حين من الدهر، لم يكن شيء يذكر.
وقيل : هو عموم الإنسان من بني آدم فيكون المعنى على الأول، أن آدم عليه السلام أتى عليه حين من الدهر قيل : أربعون سنة.
ذكر عن ابن عباس : كان طيناً ثم صلصالاً حتى نفخ فيه الروح.
ويكون على الثاني أن الإنسان أتى عليه حين من الدهر، هو أربعون يوماً نطفة، ثم أربعون يوماً علقة، ثم أربعون يوماً مضغة، وكل ذلك شيء ولكنه لم يكن مذكوراً، أي ضعيفاً، وكلاهما محتمل.
ولفظ الإنسان الثاني في قوله تعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ اتفقوا على أنه عام في بني آدم، لأنه هو الذي خلق من نطفة أمشاج أخلاط، وقد رجح الفخر الرازي أن لفظ الإنسان في الموضعين بمعنى واحد، وهو المعنى العام ليستقيم الأسلوب بدون مغايرة بين اللفظين إذ لا قرينة مميزة.
ولعل في السياق قرينة تدل على ما قاله، وهي أن قوله تعالى :﴿ نَّبْتَلِيهِ ﴾ قطعاً لبني آدم، لأن آدم عليه السلام، انتهى أمره بالسمع والطاعة ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ ولم يبق مجال لابتلائه، إنما ذلك لبنيه. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ فيه بيان مبدء خلق الإنسان، وله أطوار في وجوده بعد النطفة علقة ثم مضغة ثم خلقاً آخر، وكل ذلك من لا شيء قبله.
كما قال تعالى :﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾ [ مريم : ٩ ].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك عند الآية الكريمة ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾.
الهداية هنا بمعنى البيان، كما في قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ [ فصلت : ١٧ ].
والسبيل الطريق السوي، وفيه بيان انقسام الإنسان إلى قسمين : شاكر معترف بنعمة الله تعالى عليه، مقابل لها بالشكر أو كافر جاحد.
وقوله :﴿ إِمَّا شَاكِراً ﴾، يشير إلى إنعام الله تعالى على العبد، وقد ذكر تعالى نعمتين عظيمتين :
الأولى : إيجاد الإنسان من العدم بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً، وهذه نعمة عظمى لا كسب للعبد فيها.
والثانية : الهداية بالبيان والإرشاد إلى سبيل الحق والسعادة، وهذه نعمة إرسال الرسل وإنزال الكتب ولا كسب للعبد فيها أيضاً.
وقد قال العلماء : هناك ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها.
الأولى : وجوده بعد العدم.
الثانية : نعمة الإيمان.
الثالثة : دخول الجنة.
وقالوا : الإيجاد من العدم، تفضل من الله تعالى كما قال :﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [ الشورى : ٤٩ -٥٠ ]، ومن جعله الله عقيماً فلن ينجب قط.
والثانية : الإنعام بالإيمان، كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ القصص : ٥٦ ].
وقد جاء في الحديث : " كل مَولود يُولد على الفِطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه ". الحديث.
وكون المولود يولد بين أبوين مسلمين، لا كسب له في ذلك.
والثالثة، الإنعام بدخول الجنة كما في الحديث :" لن يدخل أحدكم الجنة بعلمه. قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ".
وقد ذكر تعالى نعمتين صراحة، وهما خلق الإنسان بعد العدم، وهدايته السبيل.
والثالثة : تأتي ضمناً في ذكر النتيجة ﴿ إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾ [ الإنسان : ٥ ] لأن الأبرار هم الشاكرون بدليل التقسيم ﴿ شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾ [ الإنسان : ٣ -٥ ].
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ﴾ تقدم أنها هداية بيان.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان الهداية العامة والخاصة. والجمع بينهما في أكثر من موضع، وفي مستهل هذه السورة بيان لمبدأ الإنسان وموقفه من بعثة الرسل وهدايتهم ونتائج أعمالهم من شكر أو كفر.
وقد جاءت السنة بقراءة هذه السورة في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة، مع قراءة سورة السجدة في الركعة الأولى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن قراءتهما معاً في ذلك اليوم لمناسبة خلق آدم في يوم الجمعة ليتذكر الإنسان في هذا اليوم، وهو يوم الجمعة مبدأ خلق أبيه آدم ومبدأ خلق عموم الإنسان ويتذكر مصيره ومنتهاه ليرى ما هو عليه من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل هو شاكر أو كفور ا ه. ملخصاً.
ومضمون ذلك كله أنه رحمه الله يرى أن الحكمة في قراءة السورتين في فجر الجمعة، أن يوم الجمعة هو يوم آدم عليه السلام فيه خلق، وفيه نفخ فيه الروح، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه ثيب عليه، وفيه تقوم الساعة.
كما قيل : يوم الجمعة يوم آدم ويوم الاثنين يوم محمد صلى الله عليه وسلم، أي فيه ولد وفيه أنزل عليه، وفيه وصل بالمدينة في الهجرة، وفيه توفي.
ولما كان يوم الجمعة يوم إيجاد الإنسان الأول ويوم أحداثه كلها إيجاداً من العدم وإنعاماً عليه بسكنى الجنة وتواجده على الأرض، وتلقى التوبة عليه من الله أي يوم الإنعام عليه حساً ومعنى، فناسب أن يذكر الإمام بقراءته سورة السجدة في فجر يوم الجمعة لما فيها من قصة خلق آدم في قوله :﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ﴾ [ السجدة : ٧ -٩ ].
وفيها قوله تعالى :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْي لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ السجدة : ١٣ ] مما يبث الخوف في قلوب العباد، إذ لا يعلم من أي الفريقين هو، فيجعله أشد حرصاً على فعل الخير، وأشد خوفاً من الشر.
ثم حذر من نسيان يوم القيامة } فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَآ } [ السجدة : ١٤ ].
وهكذا في الركعة الأولى، يرجع المسلم إلى أصل وجوده ويستحضر قصة الإنسان الأول.
وكذلك يأتي في الركعة الثاني بقصته هو منذ بدأ خلقه ﴿ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ ويذكره بالهدى الذي أنزل عليه ويرغبه في شكرانه عليه ويحذره من جحودها وكفرانها.
وقد بين له منتهاه على كلا الأمرين ﴿ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾ [ الإنسان : ٤ -٥ ].
فإذا قرع سمعه ذلك في يوم خلقه ويوم مبعثه حيث فيه تقوم الساعة فكأنه ينظر ويشاهد أول وجوده وآخر مآله فلا يكذب بالبعث. وقد علم مبدأ خلقه ولا يقصر في واجب، وقد علم منتهاه، وهذا في غاية الحكمة كما ترى.
ومما يشهد لما ذهب إليه رحمه الله، اعتبار المناسبات كما في كثير من الأمور، كما في قوله تعالى :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] فجميع الشهور من حيث الزمن سواء، ولكن بمناسبة بدء نزول القرآن في هذا الشهر جعله الله محلاً للصوم، وأكرم فيه الأمة كلها بل العالم كله، فتتزين فيه الجنة وتصفد فيه مردة الشياطين، وتتضاعف فيه الأعمال.
وكذلك الليلة منه التي كان فيها البدء اختصها تعالى عن بقية ليالي الشهر، وهي ليلة القدر جعلها الله تعالى خيراً من ألف شهر، وما ذاك إلا لأنها كما قال تعالى :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [ القدر : ١ ] السورة بتمامها.
مسألة
لقد أكثر الناس القول في اعتبار المناسبات في الإسلام وعدم اعتبارها، ووقع فيها الإفراط والتفريط، وكما قيل :
*كلا طرفي قصد الأمور ذميم*
ومنطلقاً من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تقدم هذه النبذة في هذه المسألة، وهي أنه بالتأمل في الشرع وأحداث الإسلام عامة وخاصة.
أي في عموم الأمم وخصوص هذه الأمة، نجد المناسبات قسمين مناسبة معتبرة عني بها الشرع لما فيها من عظة وذكرى تتجدد مع تجدد الأيام والأجيال، وتعود على الفرد والجماعة بالتزود منها، ومناسبة لم تعتبر، إما لاقتصارها في ذاتها وعدم استطاعة الأفراد مسايرتها.
فمن الأول يوم الجمعة، وتقدم طرف من خصائص هذا اليوم في سورة الجمعة، وكلام شيخ الإسلام رحمه الله، وقد عني بها الإسلام في الحث على القراءة المنوه عنها في صلاة الفجر، وفي الحث على أدائها والحفاوة بها من اغتسال وطيب وتبكير إليها، كما تقدم في سورة الجمعة.
ولكن من غير غلو ولا إفراط، فقد جاء النهي عن صوم يومها وحده، دون أن يسبق. بصوم قبله، أو يلحق بصوم بعده كما نهى عن إفراد ليلتها بقيام، والنصوص في ذلك متضافرة ثابتة، فكانت مناسبة معتبرة مع اعتدال وتوجه إلى الله أي بدون إفراط أو تفريط.
ومنها يوم الاثنين كما أسلفنا، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن صيامه يوم الاثنين فقال : " هذا يوم ولدت فيه وعلي فيه أنزل "، وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة وكان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد احتفى به صلى الله عليه وسلم للمسببات المذكورة، وكلها أحداث عظام ومناسبات جليلة.
فيوم مولده صلى الله عليه وسلم وقعت مظاهر كونية ابتداء من واقعة أبرهة، وإهلاك جيشه إرهاصاً بولده صلى الله عليه وسلم، ثم ظهور نجم بني الختان، وحدثت أمه وهي حامل به فيما قيل : إنها أتيت حين حملت به صلى الله عليه وسلم فقيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي :
أعيذه بالواحد *** من شر كل حاسد
ثم سميه محمداً "، وذكر ابن هشام أنها رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام.
وذكر ابن هشام. أن حسان بن ثابت وهو غلام سمع يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب : يا معشر يهود : حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا : ويلك مالك، قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به.
وساق ابن كثير في تاريخه، والبيهقي في خصائصه وابن هشام في سيرته أخباراً عديدة مما شهده العالم ليلة مولده صلى الله عليه وسلم، نوجز منها الآتي : عن عثمان بن أبي العاص أن أمه حضرت مولده صلى الله عليه وسلم قالت :
فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول : ليقعن علي.
وعن أبي الحكم التنوخي : قال : كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة إلى الصبح يكفأن عليه برمة، فأكفأن عليه صلى الله عليه وسلم برمة، فانفلقت عنه، ووجد مفتوح العينين شاخصاً ببصره إلى السماء.
وقد كان لمولده من الأحداث الكونية ما لفت أنظار العالم كله.
ذكر ابن كثير منها انكفاء الأصنام على وجوهها، وارتجاس إيوان كسرى، وسقوط بعض شرفه، وخمود نار فارس، ولم تخمد قبلها، وغاضت بحيرة ساوة، فكان في ذلك إرهاص بتكسير الأصنام وانتشار الإسلام، ودخول الفرس في الإسلام، ثم كان بدء الوحي
عليه صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين.
الحفاوة بهذا اليوم
لا شك أن العالم لم يشهد حدثين أعظم من هذين الحدثين. مولد سيد الخلق وبدء إنزال أفضل الكتب، فكان صلى الله عليه وسلم يحتفى به وذلك بصيامه، وهو العمل المشروع الذي يعبر به المسلم عن شعوره فيه، والعبادة الخالصة التي يشكر الله تعالى بها على هاتين النعمتين العظيمتين.
أما ما يفعله بعض الناس من احتفالات ومظاهر، فقد حدث ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني، ولا الثالث، وهي القرون المشهود لها بالخير، وأول إحداثه في القرن الرابع.
وقد افترق الناس فيه إلى فريقين، فريق ينكره، وينكر على من يفعله لعدم فعل السلف إياه، ولا مجيء أثر في ذلك، وفريق يراه جائزاً لعدم النهي عنه، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم كلام وسط في غاية الإنصاف، نورد موجزه لجزالته، والله الهادي إلى سواء السبيل.
قال رحمه الله في فصل قد عقده للأعياد المحدثة : فذكر أول جمعة من رجب وعيد خم في الثامن عشر من ذي الحجة، حيث خطب صلى الله عليه وسلم، وحث على اتباع السنة وبأهل بيته، ثم أتى إلى عمل المولد فقال :
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإم
قوله تعالى :﴿ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً ﴾.
بين تعالى نوع هذه السلاسل بذرعها في قوله تعالى ﴿ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً ﴾.
قوله تعالى :﴿ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ ﴾.
مادة يشرب تتعدى بنفسها، فيقال : يشرب كأساً بدون مجيء من، و من للتبعيض وللابتداء، فقيل : هي هنا للابتداء، وأن الفعل مضمن معنى فعل آخر، وهو يتنعمون ويرتوون كما قالوا في عيناً يشرب بها عباد الله. إذ الباء تكون للإرادة ولا إرادة هنا، فهم يتنعمون بها.
والذي يظهر أن من للتبعيض فعلاً، وأن شرب أهل الجنة على سبيل الترفه والتلذذ، وهي عادة المترفين المنعمين، يشربون بعض الكأس لا كله.
وقد دل على ذلك أنهم لا يشربون عن ظمإ كما في قوله تعالى لآدم ﴿ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ﴾ [ طه : ١١٨ -١١٩ ]، وسيأتي تعدية يسقون بنفسها إلى الكأس ﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً ﴾ [ الإنسان : ١٧ ]، ويأتي قوله تعالى ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ [ الإنسان : ٦ ].
ويؤيد هذا اتفاقهم على التضمين في ﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾، فهو هنا واضح.
وهناك التبعيض ظاهر.
قوله تعالى :﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ﴾.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث النذر وافياً عند قوله تعالى :﴿ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ ﴾ في سورة الحج.
قوله تعالى :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾.
اختلف في مرجع الضمير في على حبه، هل هو راجع على الطعام أم على الله تعالى ؟ أي ويطعمون الطعام على حب الطعام لقلته عندهم وحاجتهم إليه، أم على حب الله رجاء ثواب الله ؟
وقد رجح ابن كثير المعنى الأول، وهو اختيار ابن جرير وساق الشواهد على ذلك كقوله ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ]، وقوله ﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [ آل عمران : ٩٢ ].
والواقع أن الاستدلال الأول فيه ما في هذه الآية ولكن أقرب دليلاً وأصرح، قوله تعالى ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [ الحشر : ٩ ].
وفي الآية التي بعدها في هذه السورة قرينة تشهد لرجوعه للطعام على ما تقدم، وهي قوله تعالى بعدها ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ﴾ [ الإنسان : ٩ ] لأنها في معنى حب الله. مما يجعل الأولى للطعام وهذه لله. والتأسيس أولى من التأكيد، فيكون السياق : ويطعمون الطعام على حاجتهم إياه، ولوجه الله تعالى. والله تعالى أعلم.
مسألة
في قوله تعالى :﴿ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ جمع أصناف ثلاثة : الأول والثاني من المسلمين غالباً أما الثالث وهو الأسير فلم يكن لدى المسلمين أسرى إلا من الكفار، وإن كانت السورة مكية إلا أن العبرة بعموم اللفظ كما هو معلوم.
وقد نقل ابن كثير عن ابن عباس : أنها في الفرس من المشركين وساق قصة أسارى بدر.
واختار ابن جرير أن الأسرى هم الخدم، والذي يظهر والله تعالى أعلم أن الأسارى هنا على معناها الحقيقي، لأن الخدم لا يخرجون عن القسمين المتقدمين اليتيم والمسكين، وهؤلاء الأسارى بعد وقوعهم في الأسر، لم يبق لهم حول ولا طول. فلم يبق إلا الإحسان إليهم.
وهذا من محاسن الإسلام وسمو تعاليمه، وإن العالم كله اليوم لفي حاجة إلى معرفة هذه التعاليم السَّماوية السامية حتى مع أعدائه، وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على قوله تعالى ﴿ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ ﴾ [ الممتحنة : ٨ ]، وهؤلاء بعد الأسر ليسوا مقاتلين.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ﴾.
تقدم معنى قوله تعالى ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٢ ]، وهنا جمع لهم بين النضرة والسرور، والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن النضرة لما يرون من النعيم والسرور لما ينالونه من النظر إلى وجه الله الكريم كما تقدم، ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ فيكون السرور نتيجة النظر إلى وجه الله الكريم. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾.
فيه التنصيص على أواني الفضة في الجنة.
وجاء بصحاف من ذهب وأكواب، وهي محرمة في الدنيا، كما هو معلوم، وقد بين تعالى أن الذي يطوف عليهم هم ﴿ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾ [ الإنسان : ١٩ ].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الطور عند قوله ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ ﴾ [ الطور : ٢٤ ]، والقوارير جمع قارورة، والعرب تطلق القارورة على إناء الزجاج خاصة، ولكن الآية صريحة في أنها قوارير من فضة، مما يدل على صحة إطلاق القارورة، على غير آنية الزجاج كالفضة مثلاً.
قال صاحب اللسان : والقارورة : ما قر فيه الشراب وغيره، وقيل : لا يكون إلا من الزجاج خاصة.
وقوله تعالى :﴿ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ ﴾ [ الإنسان : ١٥ -١٦ ] قال بعض أهل العلم : معناه أواني زجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير، قال ابن سيده : وهذا أحسن ا ه.
وقال ابن شدياق في معجم مقاييس اللغة : إن مادة قر، القاف والراء أصلان صحيحان يدل أحدهما على برد، والآخر على تمكن، وذكر من التمكن استقر ومستقر، كما ذكر صاحب اللسان كثيراً من ذلك ثم قال :
ومن الباب القر : بضم الراء : صب الماء في الشيء. يقال : قررت الماء، والقر صب الكلام في الأذن، وذكر منه الإقرار ضد الجحود لاستقرار الحق به.
ثم ذكر مسألة إثبات اللغة بالسماع أو بالقياس فقال : وهذه مقاييس صحيحة، فإما أن نتعدى ونتحمل الكلام كما بلغنا عن بعضهم أنه قال : سميت القارورة لاستقرار الماء فيها وغيره، فليس هذا من مذهبنا.
وقد قلنا : إن كلام العرب ضربان. منه ما هو قياس وقد ذكرناه، ومنه ما وضع وضعاً.
والمسألة من مباحث الأصول في الألفاظ، هل هي بوضع لا يقاس عليه وتبقى كما وضعتها العرب، أو أنها توضع بالقياس ؟ وفائدة الخلاف هل المسكرات كلها مثلاً يتناولها مسمى الخمر بالوضع فتكون محرمة بنص ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ]، أو أنها محرمة قياساً على الخمر بجامع علة الإسكار وعليه، فإذا كانت اللغة تساعد على الإطلاق قياساً، فهو أقوى في الحكم بأن يأتي الحكم بالنص لا بالقياس بجامع العلة. ولعل التحقيق في هذه المسألة ما قاله علماء الوضع من أن اللغات منها توقيفي ومنها قياسي.
وفي قوله تعالى :﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾ توجيه إلى حسن الصنع في التسوية في التقدير، والمقاسات.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:
قوله تعالى :﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾.
فيه التنصيص على أواني الفضة في الجنة.
وجاء بصحاف من ذهب وأكواب، وهي محرمة في الدنيا، كما هو معلوم، وقد بين تعالى أن الذي يطوف عليهم هم ﴿ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾ [ الإنسان : ١٩ ].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الطور عند قوله ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ ﴾ [ الطور : ٢٤ ]، والقوارير جمع قارورة، والعرب تطلق القارورة على إناء الزجاج خاصة، ولكن الآية صريحة في أنها قوارير من فضة، مما يدل على صحة إطلاق القارورة، على غير آنية الزجاج كالفضة مثلاً.
قال صاحب اللسان : والقارورة : ما قر فيه الشراب وغيره، وقيل : لا يكون إلا من الزجاج خاصة.
وقوله تعالى :﴿ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ ﴾ [ الإنسان : ١٥ -١٦ ] قال بعض أهل العلم : معناه أواني زجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير، قال ابن سيده : وهذا أحسن ا ه.
وقال ابن شدياق في معجم مقاييس اللغة : إن مادة قر، القاف والراء أصلان صحيحان يدل أحدهما على برد، والآخر على تمكن، وذكر من التمكن استقر ومستقر، كما ذكر صاحب اللسان كثيراً من ذلك ثم قال :
ومن الباب القر : بضم الراء : صب الماء في الشيء. يقال : قررت الماء، والقر صب الكلام في الأذن، وذكر منه الإقرار ضد الجحود لاستقرار الحق به.
ثم ذكر مسألة إثبات اللغة بالسماع أو بالقياس فقال : وهذه مقاييس صحيحة، فإما أن نتعدى ونتحمل الكلام كما بلغنا عن بعضهم أنه قال : سميت القارورة لاستقرار الماء فيها وغيره، فليس هذا من مذهبنا.
وقد قلنا : إن كلام العرب ضربان. منه ما هو قياس وقد ذكرناه، ومنه ما وضع وضعاً.
والمسألة من مباحث الأصول في الألفاظ، هل هي بوضع لا يقاس عليه وتبقى كما وضعتها العرب، أو أنها توضع بالقياس ؟ وفائدة الخلاف هل المسكرات كلها مثلاً يتناولها مسمى الخمر بالوضع فتكون محرمة بنص ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ]، أو أنها محرمة قياساً على الخمر بجامع علة الإسكار وعليه، فإذا كانت اللغة تساعد على الإطلاق قياساً، فهو أقوى في الحكم بأن يأتي الحكم بالنص لا بالقياس بجامع العلة. ولعل التحقيق في هذه المسألة ما قاله علماء الوضع من أن اللغات منها توقيفي ومنها قياسي.
وفي قوله تعالى :﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾ توجيه إلى حسن الصنع في التسوية في التقدير، والمقاسات.

قوله تعالى :﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ﴾.
وقبلها، قال تعالى :﴿ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾، فقد قيل هما معاً، فهي في برد الكافور وطيب الزنجبيل.
قوله تعالى :﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾.
وهذا وصف شراب الجنة، والشراب هنا هو الخمر، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذا المفهوم من أن شراب خمر الدنيا ليس طهوراً، لأن أحوال الجنة لها أحكامها الخاصة، ويشهد لهذا ما تقدم في قوله تعالى :﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ ﴾ مع أن أواني الفضة محرمة في الدنيا لحديث : " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم "، ومع ذلك فإن أهل الجنة ينعمون بها.
وكذلك ينعمون بخمر الجنة، وكل أوصافها في الجنة عكس أوصافها في الدنيا كما تقدم، لا يصدعون عنها ولا ينزفون، كما أوضحه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند قوله تعالى ﴿ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ ﴾ [ الواقعة : ١٩ ] في سورة الواقعة.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ تَنزِيلاً ﴾.
نزلنا تنزيلاً يدل على التكرار بخلاف أنزلنا، وقد بين تعالى أنه أنزل القرآن في ليلة القدر في سورة القدر ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾، وهنا إثبات التنزيل.
وقد بين تعالى كيفية التنزيل في قوله تعالى :﴿ وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾ [ الإسراء : ١٠٦ ].
وقد بين تعالى الحكمة في هذا التفريق على مكث في قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٣٢ ]، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذه المسألة في سورة الفرقان، والإحالة فيها على بيان سابق.
قوله تعالى :﴿ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾.
تقدم بيان مقدار المطلوب قيامه من الليل في أول سورة المزمل في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ أنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ﴾ [ المزمل : ١ -٤ ].
قوله تعالى :﴿ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ ﴾.
الأسر : الربط بقوة مأخوذ من الأسر هو جلد البعير رطباً، وهو القد، وسمي الأسير أسيراً لشد قيده بقوة بجلد البعير الرطب، وهو هنا تقويه بشد ربط الأعضاء المتحركة في الإنسان في مفاصله بالعصب، وهو كناية عن الإتقان والقوة في الخلق.
وقد بين تعالى ذلك في قوله :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [ التين : ٤ ]، وقوله :﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾ [ السجدة : ٧ ].
قوله تعالى :﴿ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾.
السبيل هنا منكر، ولكنه معين بقوله :﴿ إِلَى رَبِّهِ ﴾، لأن السبيل إلى ربه هو السبيل المستقيم.
كما قال تعالى :﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] وفي النهاية قال :﴿ وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ]، وهو الصراط المستقيم الذي دعا إليه صلى الله عليه وسلم.
كما في قوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ [ الشورى : ٥٢ -٥٣ ] وهو القرآن الكريم كما تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في قوله تعالى :﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [ الفاتحة : ٦ ]، وقد بين تعالى أنه القرآن كله في قوله تعالى ﴿ ألم ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ١ -٢ ] بعد قوله :﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾، كأنه قال : الهادي إلى الصراط المستقيم المنوه عنه في الفاتحة : هو القرآن الكريم ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ إلى آخر الصفات، فيكون السبيل هنا معلوماً.
وقوله تعالى قبلها :﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ ﴾ مشعر بأن السبيل عن طريق التذكر فيها والاتعاظ بها.
وقوله :﴿ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾، علق اتخاذ السبيل إلى الله على مشيئة من شاء، وقيدها ربط مشيئة العبد بمشيئة الله تعالى في قوله :
﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الإنسان : ٣٠ ]، وهذه مسألة القدر.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحثها بحثاً وافياً عند قوله تعالى ﴿ فَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ يونس : ٩٩ ] في يونس وأحال على النساء. إلا أن قوله تعالى في التذييل على الآية الكريمة بقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ أن كل ما يقع في هذا الكون من سلوك وأعمال أنه بعلم من الله وحكمة.
Icon