تفسير سورة التين

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة التين من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة التين
هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة : مدنية. ولما ذكر فيما قبلها من كمله الله خلقاً وخلقاً وفضله على سائر العالم، ذكر هنا حالة من يعاديه، وأنه يرده أسفل سافلين في الدنيا والآخرة، أقسم تعالى بما أقسم به أنه خلقه مهيأ لقبول الحق، ثم نقله كما أراد إلى الحالة السافلة.

سورة التّين
[سورة التين (٩٥) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)
التِّينُ: هُوَ الْفَاكِهَةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَاسْمُ جَبَلٍ، وَتَأْتِي أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ.
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَدَنِيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا مَنْ كَمَّلَهُ اللَّهُ خَلْقًا وَخُلُقًا وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الْعَالَمِ، ذَكَرَ هُنَا حَالَةَ مَنْ يُعَادِيهِ، وَأَنَّهُ يَرُدُّهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَقْسَمَ تَعَالَى بِمَا أَقْسَمَ بِهِ أَنَّهُ خَلَقَهُ مُهَيَّأً لِقَبُولِ الْحَقِّ، ثُمَّ نَقَلَهُ كَمَا أَرَادَ إِلَى الْحَالَةِ السَّافِلَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التِّينَ وَالزَّيْتُونَ هُمَا الْمَشْهُورَانِ بِهَذَا الِاسْمِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَدْحُ التِّينِ وَأَنَّهَا تَقْطَعُ الْبَوَاسِيرَ وَتَنْفَعُ مِنَ النِّقْرِسِ»
، وَقَالَ تَعَالَى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ «١»، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ. وَقَالَ كَعْبٌ وَعِكْرِمَةُ: أَقْسَمَ تَعَالَى بِمَنَابِتِهِمَا، فَإِنَّ التِّينَ يَنْبُتُ كَثِيرًا بِدِمَشْقَ، وَالزَّيْتُونَ بِإِيلِيَّا، فَأَقْسَمَ بِالْأَرَضِينَ. وَقَالَ قتادة: هما جبلان
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٢٠.
502
بِالشَّامِ، عَلَى أَحَدِهِمَا دِمَشْقُ وَعَلَى الْآخَرِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، انْتَهَى. وَفِي شِعْرِ النَّابِغَةِ ذُكْرَ التِّينُ وَشُرِحَ بِأَنَّهُ جَبَلٌ مُسْتَطِيلٌ. قَالَ النَّابِغَةُ:
صهب الظلال أبين التِّينَ عَنْ عُرُضٍ يُزْجِينَ غيما قليلا ماؤه شبها
وَقِيلَ: هُمَا مَسْجِدَانِ، وَاضْطَرَبُوا فِي مَوَاضِعِهِمَا اضْطِرَابًا كَثِيرًا ضَرَبْنَا عَنْ ذَلِكَ صَفْحًا. وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي طُورِ سَيْنَاءَ أَنَّهُ جَبَلٌ بِالشَّامِ، وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى سِينِينَ: ذُو الشَّجَرِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حَسَنٌ مُبَارَكٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
سِينِينَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَأَبُو رَجَاءٍ: بِفَتْحِ السِّينِ، وَهِيَ لُغَةُ بَكْرٍ وَتَمِيمٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَحْوُ سِينُونَ بِيرُونَ فِي جَوَازِ الْإِعْرَابِ بِالْوَاوِ وَالْيَاءِ، والإقرار على الياء تحريك النون بِحَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ، انْتَهَى. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ وَالْحَسَنُ: سِينَاءُ بِكَسْرِ السِّينِ وَالْمَدِّ وَعُمَرُ أَيْضًا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِفَتْحِهَا وَالْمَدِّ، وَهُوَ لَفْظٌ سُرْيَانِيٌّ اخْتَلَفَتْ بِهَا لُغَاتُ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: سِينِينُ: شَجَرٌ وَاحِدُهُ سِينِينَةٌ.
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ: هُوَ مَكَّةُ، وَأَمِينٌ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ آمِنٌ مَنْ فِيهِ وَمَنْ دَخَلَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ طَيْرٍ وَحَيَوَانٍ، أَوْ مِنْ أَمُنَ الرَّجُلُ بِضَمِّ الْمِيمِ أَمَانَةً فَهُوَ أَمِينٌ، وَأَمَانَتُهُ حِفْظُهُ مَنْ دَخَلَهُ وَلَا مَا فِيهِ مِنْ طَيْرٍ وَحَيَوَانٍ، أَوْ مِنْ أَمُنَ الرَّجُلُ بِضَمِّ الْمِيمِ أَمَانَةً فَهُوَ أَمِينٌ، كَمَا يَحْفَظُ الْأَمِينُ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ أَمَّنَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُونُ الْغَوَائِلِ. كَمَا وُصِفَ بِالْآمِنِ فِي قَوْلِهِ: حَرَماً آمِناً «١» بِمَعْنَى ذِي أَمْنٍ. وَمَعْنَى الْقَسَمِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِبَانَةُ شَرَفِهَا وَمَا ظَهَرَ فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ بِسُكْنَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. فَمَنْبَتِ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ مُهَاجَرُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ومولد عيسى ومنشأه، وَالطُّورُ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي نُودِيَ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَكَّةُ مَكَانُ مَوْلِدِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَبْعَثِهِ وَمَكَانُ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، قَالَ النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: حُسْنُ صُورَتِهِ وَحَوَاسِّهِ. وَقِيلَ: انْتِصَابُ قَامَتِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ: عَقْلُهُ وَإِدْرَاكُهُ زَيَّنَاهُ بِالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: شَبَابُهُ وَقُوَّتُهُ، وَالْأَوْلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا هُوَ أَحْسَنُ. وَالْإِنْسَانُ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ، وَأَحْسَنُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ فِي تَقْوِيمٍ أَحْسَنَ.
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالنَّخَعِيُّ: بِالْهِرَمِ وَذُهُولِ الْعَقْلِ وَتَغَلُّبِ الْكِبَرِ حَتَّى يَصِيرَ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا. أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَمَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ والاستثناء على هذا
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٥٧.
503
مُنْقَطِعٌ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَعْتَرِيهِ هَذَا، بَلْ فِي الْجِنْسِ مَنْ يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ أَيْضًا: أَسْفَلَ سافِلِينَ فِي النَّارِ عَلَى كُفْرِهِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَافِلِينَ مُنَكَّرًا وَعَبْدُ اللَّهِ: السَّافِلِينَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَقْوَالَ السَّلَفِ وَحَسَّنَهَا ببلاغته وانتقاء أَلْفَاظِهِ فَقَالَ: فِي أَحْسَنِ تَعْدِيلٍ لِشَكْلِهِ وَصُورَتِهِ وَتَسْوِيَةِ أَعْضَائِهِ، ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ حِينَ لَمْ يَشْكُرْ نِعْمَةَ تِلْكَ الْخِلْقَةِ الْحَسَنَةِ الْقَوِيمَةِ السَّوِيَّةِ، إِذْ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ مَنْ سَفُلَ خَلْقًا وَتَرْكِيبًا، يَعْنِي أَقْبَحَ مَنْ قَبُحَ صُورَةً وَأَشْوَهَهُ خِلْقَةً، وَهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. وَأَسْفَلَ مَنْ سَفُلَ مِنْ أَهْلِ الدَّرَكَاتِ. أَوْ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّقْوِيمِ وَالتَّحْسِينِ أَسْفَلَ مَنْ سَفُلَ فِي حُسْنِ الصُّورَةِ وَالشَّكْلِ، حَيْثُ نَكَّسْنَاهُ فِي خَلْقِهِ، فَقُوِسَ ظَهْرُهُ بَعْدَ اعْتِدَالِهِ، وَابْيَضَّ شَعْرُهُ بَعْدَ سَوَادِهِ، وَتَشَنَّنَ جِلْدُهُ وَكَانَ بَضًّا، وَكَلَّ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَانَا حَدِيدَيْنِ، وَتَغَيَّرَ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ، فَمَشْيُهُ دَلْفٌ، وَصَوْتُهُ خُفَاتٌ، وَقُوَّتُهُ ضَعْفٌ، وَشَهَامَتُهُ خَرَفٌ،. انْتَهَى، وَفِيهِ تَكْثِيرٌ. وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرَّدَّ هُوَ إِلَى الْهِرَمِ، فَالْمَعْنَى:
وَلَكِنَّ الصَّالِحِينَ مِنَ الْهَرْمَى لَهُمْ ثَوَابٌ دَائِمٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى ابْتِلَاءِ اللَّهِ بِالشَّيْخُوخَةِ وَالْهِرَمِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا بَلَغَ مِائَةً وَلَمْ يَعْمَلْ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ»، وَفِيهِ أَيْضًا: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا رُدَّ لِأَرْذَلِ الْعُمُرِ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي قُوَّتِهِ»
، وَذَلِكَ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وَمَمْنُوعٍ مَقْطُوعٍ، أَيْ مَحْسُوبٍ يُمَنُّ بِهِ عَلَيْهِمْ.
وَالْخِطَابُ فِي فَما يُكَذِّبُكَ لِلْإِنْسَانِ الْكَافِرِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَيْ مَا الَّذِي يُكَذِّبُكَ، أَيْ يَجْعَلُكَ مُكَذِّبًا بِالدِّينِ تَجْعَلُ لِلَّهِ أَنْدَادًا وَتَزْعُمُ أَنْ لَا بَعْثَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ؟ وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا الَّذِي يُكَذِّبُكَ فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْبَعْثِ وَهُوَ الدين بعد هذه العبرة التي توجب النَّظَرُ فِيهَا صِحَّةَ مَا قَلْتَ. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ: وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ وَإِخْبَارٌ بعد له تعالى.
504
Icon