بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة القدرمقدمة وتمهيد
١- سورة " القدر " من السور المكية عند أكثر المفسرين، وكان نزولها بعد سورة " عبس "، وقبل سورة " الشمس "، فهي السورة الخامسة والعشرون في ترتيب النزول، ويرى بعض المفسرين أنها من السور المدنية، وأنها أول سورة نزلت بالمدينة.
قال الآلوسي : قال أبو حيان : مدنية في قول الأكثر، وحكى الماوردي عكسه. وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وقال الجلال في الإتقان : فيها قولان، والأكثر أنها مكية.. ( ١ ) وعدد آياتها خمس آيات، ومنهم من عدها ست آيات. والأول أصح وأرجح.
والسورة الكريمة من أهم مقاصدها : التنويه بشأن القرآن، والإعلاء من قدره، والرد على من زعم أنه أساطير الأولين، وبيان فضل الليلة التي نزل فيها، وتحريض المسلمين على إحيائها بالعبادة والطاعة لله رب العالمين.
ﰡ
[سورة القدر (٩٧) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤)سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)
والضمير المنصوب في قوله- تعالى- أَنْزَلْناهُ يعود إلى القرآن الكريم، وفي الإتيان بهذا الضمير للقرآن، مع أنه لم يجر له ذكر، تنويه بشأنه، وإيذان بشهرة أمره. حتى إنه ليستغنى عن التصريح به، لحضوره في أذهان المسلمين.
والمراد بإنزاله: ابتداء نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه من المعروف أن القرآن الكريم، قد نزل على النبي ﷺ منجما، في مدة ثلاث وعشرين سنة تقريبا.
ويصح أن يكون المراد بأنزلناه، أى: أنزلناه جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك منجما على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام ابن كثير: قال ابن عباس وغيره: أنزل الله- تعالى- القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع، في ثلاث وعشرين سنة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم. «١»
والقدر الذي أضيفت إليه الليلة، بمعنى الشرف والعظمة، مأخوذ من قولهم: لفلان قدر عند فلان، أى: له منزلة رفيعة، وشرف عظيم، فسميت هذه الليلة بذلك، لعظم قدرها وشرفها، إذ هي الليلة التي نزل فيها قرآن ذو قدر، بواسطة ملك ذي قدر، على رسول ذي
ويصح أن يكون المراد بالقدر هنا: التقدير، لأن الله- تعالى- يقدر فيها ما يشاء تقديره لعباده، إلا أن القول الأول أظهر، لأن قوله- سبحانه- بعد ذلك: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ يفيد التعظيم والتفخيم.
أى: إنا ابتدأنا بقدرتنا وحكمتنا، إنزال هذا القرآن العظيم، على رسولنا محمد ﷺ في ليلة القدر، التي لها ما لها عندنا من قدر وشرف وعظم.. لأن للطاعات فيها قدرا كبيرا، وثوابا جزيلا.
وليلة القدر هذه هي الليلة التي قال الله- تعالى- في شأنها في سورة الدخان: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وهذه الليلة هي من ليالي شهر رمضان، بدليل قوله- تعالى-: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
قال بعض العلماء: ومن تسديد ترتيب المصحف، أن سورة القدر وضعت عقب سورة العلق، مع أنها أقل عدد آيات من سورة البينة وسور بعدها، وكأن ذلك إيماء إلى أن الضمير في أَنْزَلْناهُ يعود إلى القرآن، الذي ابتدئ نزوله بسورة العلق. «١».
وقال صاحب الكشاف: عظم- سبحانه- القرآن من ثلاثة أوجه: أحدها: أن أسند إنزاله اليه، وجعله مختصا به دون غيره. والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر، شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، والثالث: الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه.
روى أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل على السفرة ثم كان ينزل به على رسول الله ﷺ نجوما في ثلاث وعشرين سنة.
وعن الشعبي: المعنى: أنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر... «٢».
وقوله- تعالى-: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ تنويه آخر بشرف هذه الليلة، وتفخيم لشأنها، حتى لكأن عظمتها أكبر من أن تحيط بها الكلمات والألفاظ.
أى: وما الذي يدريك بمقدار عظمتها وعلو قدرها، إن الذي يعلم مقدار شرفها هو الله
(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٨٠.
ثم- بين- سبحانه- مظاهر فضلها فقال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أى:
ليلة القدر أفضل من ألف شهر، بسبب ما أنزل فيها من قرآن كريم يهدى للتي هي أقوم.
ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبسبب أن العبادة فيها أكثر ثوابا، وأعظم فضلا من العبادة في أشهر كثيرة ليس فيها ليلة القدر.
والعمل القليل قد يفضل العمل الكثير، باعتبار الزمان والمكان، وإخلاص النية، وحسن الأداء، ولله- تعالى- أن يخص بعض الأزمنة والأمكنة والأشخاص بفضائل متميزة.
والتحديد بألف شهر يمكن أن يكون مقصودا. ويمكن أن يراد منه التكثير. وأن المراد أن أقل عدد تفضله هذه الليلة هو هذا العدد. فيكون المعنى: أن هذه الليلة تفضل الدهر كله.
ثم ذكر- سبحانه- بعد ذلك مزية أخرى لهذه الليلة المباركة فقال: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ.
أى: ومن مزايا وفضائل هذه الليلة أيضا، أن الملائكة- وعلى رأسهم الروح الأمين جبريل- ينزلون فيها أفواجا إلى الأرض، بأمره- تعالى- وإذنه، وهم جميعا إنما ينزلون من أجل أمر من الأمور التي يريد إبلاغها إلى عباده، وأصل «تنزل» تتنزل، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، ونزول الملائكة إلى الأرض، من أجل نشر البركات التي تحفهم، فنزولهم في تلك الليلة يدل على شرفها، وعلى رحمة الله- تعالى- بعباده.
والروح: هو جبريل، وذكره بخصوصه بعد ذكر الملائكة، من باب ذكر الخاص بعد العام، لمزيد الفضل، واختصاصه بأمور لا يشاركه فيها غيره.
وقوله- سبحانه- بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق بقوله: تَنَزَّلُ، والباء للسببية، أى:
يتنزلون بسبب إذن ربهم لهم في النزول.
قال الجمل ما ملخصه. وقوله: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ يجوز في «من» وجهان: أحدهما أنها بمعنى اللام، وتتعلق بتنزل، أى: تنزل من أجل كل أمر قضى إلى العام القابل. والثاني: أنها بمعنى الباء، أى: تنزل بكل أمر قضاه الله- تعالى- فيها من موت وحياة ورزق.
وليس المراد أن تقدير الله لا يحدث إلا في تلك الليلة بل المراد إظهار تلك المقادير لملائكته. «١»
أى: هذه الليلة يظلها ويشملها السلام المستمر، والأمان الدائم، لكل مؤمن يحييها في طاعة الله- تعالى- إلى أن يطلع الفجر، أو هي ذات سلامة حتى مطلع الفجر، أو هي سالمة من كل أذى وسوء لكل مؤمن ومؤمنة حتى طلوع الفجر.
هذا وقد أفاض العلماء في الحديث عن فضائل ليلة القدر، وعن وقتها. وعن خصائصها...
وقد لخص الإمام القرطبي ذلك تلخيصا حسنا فقال: وهنا ثلاث مسائل:
الأولى: في تعيين ليلة القدر... والذي عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين... والجمهور على أنها في كل عام من رمضان... وقيل: أخفاها- سبحانه- في جميع شهر رمضان، ليجتهدوا في العمل والعبادة طمعا في إدراكها.
الثانية: في علاماتها: ومنها أن تطلع الشمس في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها.
الثالثة: في فضائلها... وحسبك قوله- تعالى- لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وقوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها وفي الصحيحين «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه... » «١».
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا من المنتفعين بهذه الليلة المباركة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة البينةمقدمة وتمهيد
١- سورة «البينة»، تسمى- أيضا- سورة «لم يكن... » وسورة «المنفكين» وسورة «القيمة» وسورة «البرية»، وعدد آياتها ثماني آيات عند الجمهور، وعدها قراء البصرة تسع آيات.
٢- وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية، وقد لخص الإمام الآلوسى هذا الخلاف فقال: قال في البحر: هي مكية... وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار: مدنية... وجزم ابن كثير بأنها مدنية، واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد. عن أبى خيثمة البدري قال: لما نزلت هذه السورة، قال جبريل: يا رسول الله، إن ربك يأمرك أن تقرئها «أبيّا».
فقال ﷺ لأبىّ بن كعب- رضى الله عنه-: «إن جبريل أمرنى أن أقرئك هذه السورة، فقال أبىّ: أو قد ذكرت ثمّ يا رسول الله؟ قال: نعم.» فبكى أبىّ.
وقد رجح الإمام الآلوسى كونها مدنية، فقال: وهذا هو الأصح «١».
وهذا الذي رجحه الإمام الآلوسى هو الذي نميل إليه، لأن حديثها عن أهل الكتاب، وعن تفرقهم في شأن دينهم، يرجح أنها مدنية، كما أن الإمام السيوطي قد ذكرها ضمن السور المدنية، وجعل نزولها بعد سورة «الطلاق» وقبل سورة «الحشر» «٢».
(٢) الإتقان ج ١ ص ٢٧.