تفسير سورة الإخلاص

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة الإخلاص من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
المشهور في تسميتها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما روي عن الصحابة تسميتها ﴿ سورة قل هو الله أحد ﴾.
روى الترمذي عن أبي هريرة، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري وعن أم كلثوم بنت عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وهو ظاهر في أن أراد تسميتها بتلك الجملة لأجل تأنيث الضمير من قوله تعدل فإنه على تأويلها بمعنى السورة.
وقد روي عن جمع من الصحابة ما فيه تسميتها بذلك، فذلك هو الاسم الوارد في السنة.
ويؤخذ من حديث البخاري عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الله الواحد الصمد " ثلث القرآن فذكر ألفاظا تخالف ما تقرأ به، ومحمله على إرادة التسمية. وذكر القرطبي أن رجلا لم يسمه قرأ كذلك والناس يستمعون وادعى أن ما قرأ به هو الصواب وقد ذمه القرطبي وسبه.
وسميت في أكثر المصاحف وفي معظم التفاسير وفي جامع الترمذي ﴿ سورة الإخلاص ﴾ واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى، أي سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الإلهية.
وسميت في بعض المصاحف التونسية سورة التوحيد لأنها تشتمل على إثبات أنه تعالى واحد.
وفي الإتقان أنها تسمى سورة الأساس لاشتمالها على توحيد الله وهو أساس الإسلام. وفي « الكشاف » روي عن أبي وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أُسَّت السماوات السبع والأرضون السبع على ﴿ قل هو الله أحد ﴾١. يعني ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته.
وذكر في الكشاف : أنها وسورة الكافرون تسميان المقشقشتين، أي المبرئتين من الشرك ومن النفاق.
وسماها البقاعي في نظم الدرر ( سورة الصمد )، وهو من الأسماء التي جمعها الفخر. وقد عقد الفخر في التفسير الكبير فصلا لأسماء هذه السورة فذكر لها عشرين اسما بإضافة عنوان سورة إلى كل اسم منها ولم يذكر أسانيدها فعليك بتتبعها على تفاوت فيها وهي : التفريد، والتجريد ( لأنه لم يذكر فيها سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال )، والتوحيد ( كذلك )، والإخلاص ( لما ذكرناه آنفا )، والنجاة ( لأنها تنجي من الكفر في الدنيا ومن النار في الآخرة )، والولاية ( لأن من عرف الله بوحدانيته فهو من أوليائه المؤمنين الذين لا يتولون غير الله ) والنسبة ( لما روي أنها نزلت لما قال المشركون : أنسب لنا ربك، كما سيأتي )، والمعرفة ( لأنها أحاطت بالصفات التي لا تتم معرفة الله إلا بمعرفتها ) والجمال لأنها جمعت أصول صفات الله وهي أجمل الصفات وأكملها، ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله جميل يحب الجمال " فسألوه عن ذلك فقال : " أحد صمد لم يلد ولم يولد "، والمقشقشة يقال :( قشقش الدواء الجرب إذا أبرأه لأنها تقشقش من الشرك، وقد تقدم آنفا أنه اسم لسورة الكافرون أيضا )، والمعوذة ( لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مضعون وهو مريض فعوذه بها وبالسورتين اللتين بعدها وقال له : تعوذ بها. والصمد ( لأن هذا اللفظ خص بها )، والأساس ( لأنها أساس العقيدة الأسلامية ) والمانعة ( لما روي : أنها تمنع عذاب القبر ولفحات النار ) والمحضر ( لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت ). والمنفرة ( لأن الشيطان ينفر عند قراءتها ) والبراءة ( لأنها تبرئ من الشرك )، والمذكرة ( لأنها تذكر خالص التوحيد الذي هو مودع في الفطرة )، والنور ( لما روي : أن نور القرآن قل هو الله أحد )، والأمان ( لأن من اعتقد ما فيها أمن من العذاب ).
وبضميمة اسمها المشهور ﴿ قل هو الله أحد ﴾ تبلغ أسماؤها اثنين وعشرين، وقال الفيروز آبادي في بصائر التمييز أنها تسمى الشافية فتبلغ واحدا وعشرين اسما.
وهي مكية في قول الجمهور، وقال قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرضي : هي مدنية ونسب كلا القولين إلى ابن عباس.
ومنشأ هذا الخلاف الاختلاف في سبب نزولها فروى الترمذي عن أبي بن كعب، وروى عبيد العطار عن ابن مسعود، وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها فتكون مكية.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعو ( أخا لبيد ) أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر : إلام تدعونا؟ قال : إلى الله، قال : صفه لنا أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب؟ ( يحسب لجهله أن الإله صنم كأصنامهم من معدن أو خشب أو حجارة ) فنزلت هذه السورة، لإتكون مدنية لأنهما ما أتياه إلا بعد الهجرة.
وقال الواحدي « أن أحبار اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فنزلت ».
والصحيح أنه مكية فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة، ولعل تأويل من قال : إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربد، أو حينما سأل أحبار اليهود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم هذه السورة، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ أو لم يضبط الرواة عنهم عبارتهم تمام الضبط.
قال في الإتقان : وجمع بعضهم بين الروايتين بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية كما بينته في أسباب النزول اه.
وعلى الأصح من أنها مكية عدت السورة الثانية والعشرون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم.
وآياتها عند أهل العدد بالمدينة والكوفة والبصرة أربع، وعند أهل مكة والشام خمس باعتبار ﴿ لم يلد ﴾ آية ﴿ ولم يولد ﴾ آية.
أغراضها
إثبات وحدانية الله تعالى.
وأنه لا يقصد في الحوائج غيره وتنزيهه عن سمات المحدثات وإبطال أن يكون له ابن.
وإبطال ان يكون المولود إلها مثل عيسى عليه السلام.
والأحاديث في فضائلها كثيرة وقد صح أنها تعدل ثلث القرآن. وتأويل هذا الحديث مذكور في شرح الموطأ والصحيحين.
١ - يقال أسّ البناء إذا أقامه وفي نسخة أسست وهذا الحديث ضعيف..

وَآيَاتُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعَدَدِ بِالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ أَرْبَعٌ، وَعِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ وَالشَّامِ خَمْسٌ بِاعْتِبَارِ لَمْ يَلِدْ آيَةً وَلَمْ يُولَدْ آيَة.
أغراضها
إِثْبَاتُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ فِي الْحَوَائِجِ غَيْرُهُ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثَاتِ.
وَإِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ابْنٌ.
وَإِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ إِلَهًا مِثْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِهَا كَثِيرَةٌ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. وَتَأْوِيلُ هَذَا الْحَدِيثِ مَذْكُورٌ فِي شرح «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ».
[١]
[سُورَة الْإِخْلَاص (١١٢) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)
افْتِتَاحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِإِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِمَا بَعْدَ فِعْلِ الْقَوْلِ كَمَا عَلِمْتَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الْكَافِرُونَ: ١] وَلِذَلِكَ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى سَبَبِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَكَانَتْ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ: قُلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: ٨٥] فَكَانَ لِلْأَمْرِ بِفِعْلِ قُلْ فَائِدَتَانِ.
وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ، وَإِذَا سَمِعَهُ الَّذِينَ سَأَلُوا تَطَلَّعُوا إِلَى مَا بَعْدَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَيْضًا عَائِدًا إِلَى الرَّبِّ فِي سُؤَالِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ قَالُوا: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ عَدَّ ضَمِيرَ هُوَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ اسْمًا مِنْ أَسمَاء الله تَعَالَى وَهِيَ طَرِيقَةٌ صُوفِيَّةٌ دَرَجَ عَلَيْهَا فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي «شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى» نَقَلَهُ
612
ابْنُ عَرَفَةَ عَنْهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَذَكَرَ الْفَخْرُ ذَلِكَ فِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» وَلَا بُدَّ مِنَ الْمَزْجِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ.
وَحَاصِلُهُمَا قَوْلُهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ لِلَّهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى ثَلَاثَةِ مَقَامَاتٍ.
الْأَوَّلُ: مَقَامُ السَّابِقَيْنِ الْمُقَرَّبِينَ النَّاظِرِينَ إِلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَلَا جَرَمَ مَا رَأَوْا مَوْجُودًا سِوَى اللَّهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَجِبُ وُجُودُهُ فَمَا سِوَى اللَّهِ عِنْدَهُمْ مَعْدُومٌ، فَقَوْلُهُ: هُوَ إِشَارَةٌ مُطْلَقَةٌ. وَلَمَّا كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مُعَيَّنًا انْصَرَفَ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ إِلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ فَكَانَ قَوْلُهُ: هُوَ إِشَارَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى اللَّهِ فَلَمْ يَفْتَقِرُوا فِي تِلْكَ الْإِشَارَةِ إِلَى مُمَيِّزٍ فَكَانَتْ لَفْظَةُ هُوَ كَافِيَةً فِي حُصُولِ الْعِرْفَانِ التَّامِّ لِهَؤُلَاءِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: مَقَامُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الْمُقْتَصِدِينَ فَهُمْ شَاهَدُوا الْحَقَّ مَوْجُودًا وَشَاهَدُوا الْمُمْكَنَاتِ مَوْجُودَةً فَحَصَلَتْ كَثْرَةٌ فِي الْمَوْجُودَاتِ فَلَمْ تَكُنْ لَفْظَةُ هُوَ تَامَّةَ الْإِفَادَةِ فِي
حَقِّهِمْ فَافْتَقَرُوا مَعَهَا إِلَى مُمَيِّزٍ فَقِيلَ لِأَجْلِهِمْ هُوَ اللَّهُ وَالْمَقَامُ الثَّالِثُ: مَقَامُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَهُمُ الَّذِينَ يجوزون تعدد الْإِلَه فَقُرِنَ لَفْظُ أَحَدٌ بِقَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ إِبْطَالًا لِمَقَالَتِهِمْ اهـ.
فَاسْمُهُ تَعَالَى الْعَلَمُ ابْتُدِئَ بِهِ قَبْلَ إِجْرَاءِ الْأَخْبَارِ عَلَيْهِ لِيُكَوَنَ ذَلِكَ طَرِيقَ اسْتِحْضَارِ صِفَاتِهِ كُلِّهَا عِنْدَ التَّخَاطُبِ بَيْنَ الْمُسلمين وَعند الْمُحَاجَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ فَمُسَمَّاهُ لَا نِزَاعَ فِي وُجُودِهِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَصِفُونَهُ بِصِفَاتٍ تَنَزَّهَ عَنْهَا.
أَمَّا أَحَدٌ فَاسْمٌ بِمَعْنَى (وَاحِدٍ). وَأَصْلُ هَمْزَتِهِ الْوَاوُ، فَيُقَالُ: وَحَدٌ كَمَا يُقَالُ:
أَحَدٌ، قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّهَا مَفْتُوحَةٌ (بِخِلَافِ قَلْبِ وَاوِ وُجُوهٍ) وَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدٌ، قَالَ النَّابِغَةُ:
كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا بِذِي الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ
أَيْ كَأَنِّي وَضَعْتُ الرِّجْلَ عَلَى ثَوْرِ وَحْشٍ أَحَسَّ بِإِنْسِيٍّ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ عَنْ قَطِيعِهِ.
وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِثْلَ حَسَنٍ، يُقَالُ: وَحُدَ مِثْلَ كَرُمَ، وَوَحِدَ مِثْلَ فَرِحَ.
613
وَصِيغَةُ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ تُفِيدُ تَمَكُّنَ الْوَصْفِ فِي مَوْصُوفِهَا بِأَنَّهُ ذَاتِيٌّ لَهُ، فَلِذَلِكَ أُوثِرَ أَحَدٌ هُنَا عَلَى (وَاحِدٍ) لِأَن (وَاحِد) اسْمُ فَاعِلٍ لَا يُفِيدُ التَّمَكُّنَ. فَ (وَاحِدٌ) وأَحَدٌ وَصْفَانِ مَصُوغَانِ بِالتَّصْرِيفِ لِمَادَّةٍ مُتَّحِدَةٍ وَهِيَ مَادَّةُ الْوَحْدَةِ يَعْنِي التَّفَرُّدَ.
هَذَا هُوَ أَصْلُ إِطْلَاقِهِ وَتَفَرَّعَتْ عَنْهُ إِطْلَاقَاتٌ صَارَتْ حَقَائِقَ لِلَفْظِ (أَحَدٍ)، أَشْهَرُهَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْمًا بِمَعْنَى إِنْسَانٍ فِي خُصُوصِ النَّفْيِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ فِي الْبَقَرَةِ [٢٨٥]، وَقَوْلِهِ: وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً فِي الْكَهْفِ [٣٨] وَكَذَلِكَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْعَدَدِ فِي الْحِسَابِ نَحْوَ: أَحَدَ عَشَرَ، وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ، وَمُؤَنَّثُهُ إِحْدَى، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ خَلَطَ بَيْنَ (وَاحِدٍ) وَبَيْنَ أَحَدٌ فَوَقَعَ فِي ارْتِبَاكٍ.
فَوَصْفُ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْحَقِيقَةِ الَّتِي لُوحِظَتْ فِي اسْمِهِ الْعَلَمِ وَهِيَ الْإِلَهِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ، فَإِذَا قِيلَ: اللَّهُ أَحَدٌ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَإِذَا قِيلَ: اللَّهُ وَاحِدٌ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ وَاحِدٌ لَا مُتَعَدِّدٌ فَمَنْ دُونَهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ. وَمَآلُ الْوَصْفَيْنِ إِلَى مَعْنَى نَفْيِ الشَّرِيكِ لَهُ تَعَالَى فِي إِلَهِيَّتِهِ.
فَلَمَّا أُرِيدَ فِي صَدْرِ الْبَعْثَةِ إِثْبَاتُ الْوَحْدَةِ الْكَامِلَةِ لِلَّهِ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَإِبْطَالًا
لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ وُصِفَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِ أَحَدٌ وَلَمْ يُوصَفْ بِ (وَاحِدٍ) لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ نِهَايَةُ مَا يُمْكِنُ بِهِ تَقْرِيبُ مَعْنَى وَحْدَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى عُقُولِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ.
وَقَالَ ابْنُ سِينَا فِي تَفْسِيرٍ لَهُ لِهَذِهِ السُّورَةِ: إِن أَحَدٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ لَا كَثْرَةَ هُنَاكَ أَصْلًا لَا كَثْرَةً مَعْنَوِيَّةً وَهِيَ كَثْرَةُ الْمُقَوِّمَاتِ وَالْأَجْنَاسِ وَالْفُصُولِ، وَلَا كَثْرَةً حِسِّيَّةً وَهِيَ كَثْرَةُ الْأَجْزَاءِ الْخَارِجِيَّةِ الْمُتَمَايِزَةِ عَقْلًا كَمَا فِي الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ. وَالْكَثْرَةُ الْحِسِّيَّةُ بِالْقُوَّةِ أَوْ بِالْفِعْلِ كَمَا فِي الْجِسْمِ، وَذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ لِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنِ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ، وَالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْعَاضِ، وَالْأَعْضَاءِ، وَالْأَشْكَالِ، وَالْأَلْوَانِ، وَسَائِرِ مَا يَثْلَمُ الْوَحْدَةَ الْكَامِلَةَ وَالْبَسَاطَةَ الْحَقَّةَ اللَّائِقَةَ بِكَرَمِ وَجْهِهِ عز وَجل عَن أَنْ يُشْبِهَهُ شَيْءٌ أَوْ يُسَاوِيَهُ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ. وَتَبْيِينُهُ: أَمَّا الْوَاحِدُ فَمَقُولٌ عَلَى مَا تَحْتَهُ بِالتَّشْكِيكِ، وَالَّذِي لَا يَنْقَسِم بِوَجْه أصلا أولى بالوحدانيّة مِمَّا يَنْقَسِمُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَالَّذِي لَا يَنْقَسِمُ
614
انْقِسَامًا عقليّا أولى بالوحدانية مِنَ الَّذِي يَنْقَسِمُ انْقِسَامًا بِالْحِسِّ بِالْقُوَّةِ ثمَّ بِالْفِعْلِ، ف أَحَدٌ جَامِعٌ للدلالة على الوحدانية مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ لَا كَثْرَةَ فِي مَوْصُوفِهِ اهـ.
قُلْتُ: قَدْ فَهِمَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا فَقَدَ رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ إِذَا عُذِّبَ عَلَى الْإِسْلَامِ يَقُولُ:
أَحَدٌ أَحَدٌ، وَكَانَ شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
وَالَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْبَاحِثِينَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَن أَحَدٌ لَيْسَ مُلْحَقًا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ
فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ لله تِسْعَة وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»
. وَعَدَّهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا وَصْفَ أَحَدٍ، وَذَكَرَ وَصْفَ وَاحِدٍ وَعَلَى ذَلِكَ دَرَجَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِ «الْإِرْشَادِ» وَكِتَابِ «اللُّمَعِ» وَالْغَزَّالِيُّ فِي «شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى».
وَقَالَ الْفِهْرَيُّ فِي «شَرْحِهِ عَلَى لُمَعِ الْأَدِلَّةِ» لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى «الْوَاحِدِ». وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْأَحَدُ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ فِي اسْم.
ودرح ابْنُ بَرَّجَانَ الْإِشْبِيلِيُّ فِي «شَرْحِ الْأَسْمَاءِ» (١) وَالشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُومِيُّ
(بِالْمِيمِ) التُّونِسِيُّ، وَلُطْفُ اللَّهِ الْأَرْضَرُومِيُّ فِي «مَعَارِجِ النُّورِ»، عَلَى عَدِّ (أَحَدٍ) فِي عِدَادِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى مَعَ اسْمِهِ الْوَاحِدِ فَقَالَا: الْوَاحِدُ الْأَحَدُ بِحَيْثُ هُوَ كَالتَّأْكِيدِ لَهُ كَمَا يَقْتَضِيهِ عَدُّهُمُ الْأَسْمَاءَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَقْتَضِ حَصْرَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمَعْدُودَةِ فِيهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِلشِّرْكِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ أَهْلُ الشِّرْكِ، وَلِلتَّثْلِيثِ الَّذِي أَحْدَثَهُ النَّصَارَى الْمَلْكَانِيَّةُ وَلِلثَّانَوِيَّةِ عِنْد الْمَجُوس، وللعدد الَّذِي لَا يُحْصَى عِنْدَ الْبَرَاهِمَةِ.
فَقَوْلُهُ: اللَّهُ أَحَدٌ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النِّسَاء: ١٧١].
وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُدْرِكهُ المخاطبون بِهَذِهِ الْآيَةِ السَّائِلُونَ عَنْ نِسْبَةِ اللَّهِ، أَيْ حَقِيقَتُهُ
_________
(١) هُوَ عبد السَّلَام بن عبد الرَّحْمَن شهر بِابْن برجان بِفَتْح الْبَاء وَتَشْديد الرَّاء الْمَفْتُوحَة اللَّخْمِيّ الإشبيلي الْمُتَوفَّى سنة ٥٣٦ هـ، لَهُ «شرح على الْأَسْمَاء الْحسنى» وأبلغها إِلَى مائَة واثنين وَثَلَاثِينَ اسْما.
615
فَابْتُدِئَ لَهُمْ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ فِي شَيْءٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْأَحَدِيَّةَ تَقْتَضِي الْوُجُودَ لَا مَحَالَةَ فَبَطَلَ قَوْلُ الْمُعَطِّلَةِ وَالدَّهْرِيِّينَ.
وَقَدِ اصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ مِنْ مَعْنَى الْأَحَدِيَّةِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا بِالْإِلَهِيَّةِ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَن المخصّص بالإيجاد لِأَنَّهُ لَوِ افْتَقَرَ إِلَى مَنْ يُوجِدُهُ لَكَانَ مَنْ يُوجِدُهُ إِلَهًا أَوَّلَ مِنْهُ فَلِذَلِكَ كَانَ وُجُودُ اللَّهِ قَدِيمًا غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِعَدَمٍ وَلَا مُحْتَاجٍ إِلَى مُخَصِّصٍ بِالْوُجُودِ بَدَلًا عَنِ الْعَدَمِ، وَكَانَ مستعينا عَن الْإِمْدَادِ بِالْوُجُودِ فَكَانِ بَاقِيًا، وَكَانَ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ، وَكَانَ مُخَالِفًا لِلْحَوَادِثِ وَإِلَّا لَاحْتَاجَ مِثْلَهَا إِلَى الْمُخَصِّصِ فَكَانَ وَصْفُهُ تَعَالَى: بِ أَحَدٌ جَامِعًا لِلصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي مُرَادِفِهِ وَهُوَ وَصْفٌ وَاحِدٌ.
وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ أَحَدِيَّةَ اللَّهِ أَحَدِيَّةٌ وَاجِبَةٌ كَامِلَةٌ، فَاللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَعَلَى كُلِّ التَّقَادِيرِ فَلَيْسَ لِكُنْهِ اللَّهِ كَثْرَةٌ أَصْلًا لَا كَثْرَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَهِيَ تَعَدُّدُ الْمُقَوِّمَاتِ مِنَ الْأَجْنَاسِ وَالْفُصُولِ الَّتِي تَتَقَوَّمُ مِنْهَا الْمَوَاهِي، وَلَا كَثْرَةُ الْأَجْزَاءِ فِي الْخَارِجِ الَّتِي تَتَقَوَّمُ مِنْهَا الْأَجْسَامُ. فَأَفَادَ وَصْفُ أَحَدٌ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْعَاضِ، وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَسَائِرِ مَا يُنَافِي الْوَحْدَةَ الْكَامِلَةَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ سِينَا.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَفِي قِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَحَدٌ بِغَيْرِ قُلْ هُوَ اهـ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا
رُوِىَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَرَأَ: اللَّهُ أَحَدٌ كَانَ بِعَدْلِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ
، كَمَا ذَكَرَهُ
بِأَثَرِ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ بِدُونِ قُلْ كَمَا تَأَوَّلَهُ الطِّيبِيُّ إِذْ قَالَ: وَهَذَا اسْتِشْهَادٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ.
وَعِنْدِي إِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ مِنَ الْقِرَاءَةِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا التِّلَاوَةَ وَإِنَّمَا قَصَدَ الِامْتِثَالَ لِمَا أَمر بِأَن يَقُوله، وَهَذَا كَمَا كَانَ يُكْثِرُ أَنْ
يَقُولَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمَ وَبِحَمْدِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»

يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: ٣].
616

[سُورَة الْإِخْلَاص (١١٢) : آيَة ٢]

اللَّهُ الصَّمَدُ (٢)
جُمْلَةٌ ثَانِيَةٌ محكية بالْقَوْل المحكية بِهِ جُمْلَةُ: اللَّهُ أَحَدٌ، فَهِيَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الضَّمِيرِ. وَالْخَبَرُ الْمُتَعَدِّدُ يَجُوزُ عَطْفُهُ وَفَصْلُهُ، وَإِنَّمَا فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَن هَذِه الْجُمْلَة مَسُوقَةٌ لِتَلْقِينِ السَّامِعِينَ فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِذَاتِهَا غَيْرَ مُلْحَقَةٍ بِالَّتِي قَبْلَهَا بِالْعَطْفِ، عَلَى طَرِيقَةِ إِلْقَاءِ الْمَسَائِلِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: الْحَوْزُ شَرْطُ صِحَّةِ الْحَبْسِ، الْحَوْزُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْمُعَايَنَةِ، وَنَحْوَ قَوْلِكَ: عَنْتَرَةُ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ، عَنْتَرَةُ مِنْ أَبْطَالِ الْفُرْسَانِ.
وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَقَعَ إِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الصَّمَدُ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ الصَّمَدُ.
والصَّمَدُ: السَّيِّدُ الَّذِي لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَوْمِ الْمُطَاعُ فِيهِمْ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ: صَمَدَ إِلَيْهِ، إِذَا قَصَدَهُ، فَالصَّمَدُ الْمَصْمُودُ فِي الْحَوَائِجِ. قُلْتُ: وَنَظِيرُهُ السَّنَدُ الَّذِي تُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ الْمُهِمَّةُ. وَالْفَلَقُ اسْمُ الصَّبَاحِ لِأَنَّهُ يَتَفَلَّقُ عَنْهُ اللَّيْلُ.
والصَّمَدُ: مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الصَّمَدُ الْحَقُّ الْكَامِلُ الصَّمَدِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ.
فَالصَّمَدُ مِنَ الْأَسْمَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. وَمَعْنَاهُ:
الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهِ كُلُّ مَا عَدَاهُ، فَالْمَعْدُومُ مُفْتَقِرٌ وُجُودُهُ إِلَيْهِ وَالْمَوْجُودُ مفتقر فِي شؤونه إِلَيْهِ.
وَقَدْ كَثُرَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ فِي مَعْنَى الصَّمَدِ، وَكُلُّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ هَذَا الْمَعْنَى الْجَامِعِ، وَقَدْ أَنْهَاهَا فَخْرُ الدِّينِ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا. وَيَشْمَلُ هَذَا الِاسْمُ صِفَاتِ اللَّهِ الْمَعْنَوِيَّةَ الْإِضَافِيَّةَ وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى حَيًّا، عَالِمًا، مُرِيدًا، قَادِرًا، مُتَكَلِّمًا، سَمِيعًا،
بَصِيرًا، لِأَنَّهُ لَوِ انْتَفَى عَنْهُ أَحَدُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ يَكُنْ مَصْمُودًا إِلَيْهِ.
وَصِيغَةُ اللَّهُ الصَّمَدُ صِيغَةُ قَصْرٍ بِسَبَبِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ فَتُفِيدُ قَصْرَ صِفَةِ الصَّمَدِيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ مَا تَعَوَّدَهُ أَهْلُ الشِّرْكِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ دُعَائِهِمْ أَصْنَامَهُمْ فِي حَوَائِجِهِمْ وَالْفَزَعِ إِلَيْهَا فِي نَوَائِبِهِمْ حَتَّى نَسُوا اللَّهَ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَيْلَةَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لَقَدْ أَغْنَى عني شَيْئا»
. [٣]
[سُورَة الْإِخْلَاص (١١٢) : آيَة ٣]
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣)
جُمْلَةُ: لَمْ يَلِدْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الصَّمَدُ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ اللَّهُ الصَّمَدُ، لِأَنَّ مَنْ يُصْمَدُ إِلَيْهِ لَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِ أَنْ يَلِدَ لِأَنَّ طَلَبَ الْوَلَدِ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ فِي إِقَامَة شؤون الْوَالِدِ وَتَدَارُكِ عَجْزِهِ، وَلِذَلِكَ اسْتُدِلَّ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ الْغَنِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [يُونُس: ٦٨] فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ تَعَدُّدَ الْإِلَهِ بِالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، أَبْطَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَعَدُّدَ الْإِلَهِ بِطَرِيقِ تَوَلُّدِ إِلَهٍ عَنْ إِلَهٍ، لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مُسَاوٍ لِمَا تَوَلَّدَ عَنْهُ.
وَالتَّعَدُّدُ بِالتَّوَلُّدِ مُسَاوٍ فِي الِاسْتِحَالَةِ لِتَعَدُّدِ الْإِلَهِ بِالْأَصَالَةِ لِتَسَاوِي مَا يَلْزَمُ عَلَى التَّعَدُّدِ فِي كِلَيْهِمَا مِنْ فَسَادِ الْأَكْوَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] (وَهُوَ بُرْهَانُ التَّمَانُعِ) وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّدَ عَنِ اللَّهِ مَوْجُودٌ آخَرُ لَلَزِمَ انْفِصَالُ جُزْءٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلْأَحَدِيَّةِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا وَبَطَلَ اعْتِقَادُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى فَعَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ لذَلِك، لِأَن البنوّة لِلْإِلَهِ تَقْتَضِي إِلَهِيَّةَ الِابْنِ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦].
وَجُمْلَةُ لَمْ يُولَدْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَمْ يَلِدْ، أَيْ وَلَمْ يَلِدْهُ غَيْرُهُ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ سَدًّا لِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَالِدٌ، فَأُرْدِفَ نَفْيُ الْوَلَدِ بِنَفْيِ الْوَالِدِ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ نَفْيُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ إِذْ قَدْ نَسَبَ أَهْلُ الضَّلَالَةِ الْوَلَدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَنْسُبُوا
إِلَى اللَّهِ وَالِدًا.
وَفِيهِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ يَكُونُ مَوْلُودًا مِثْلَ عِيسَى لَا يَكُونُ إِلَهًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِلَهُ مَوْلُودًا لَكَانَ وُجُودُهُ مَسْبُوقًا بِعَدَمٍ لَا مَحَالَةَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَسْبُوقًا بِعَدَمٍ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى مَنْ يُخَصِّصُهُ بِالْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ جُمْلَةِ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَالِدًا لِمَوْلُودٍ، أَوْ مَوْلُودًا مِنْ وَالِدٍ بِالصَّرَاحَةِ. وَبَطَلَتْ إِلَهِيَّةُ كُلِّ مَوْلُودٍ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ فَبَطَلَتِ الْعَقَائِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى تَوَلُّدِ الْإِلَهِ مِثْلَ عَقِيدَةِ (زَرَادِشْتَ) الثَّانَوِيَّةِ الْقَائِلَةِ بِوُجُودِ إِلَهَيْنِ: إِلَهِ الْخَيْرِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَإِلَهِ الشَّرِّ وَهُوَ مُتَوَلَّدٌ عَنْ إِلَهِ الْخَيْرِ، لِأَنَّ إِلَهَ الْخَيْرِ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ (يَزْدَانَ) فَكَّرَ فِكْرَةَ سُوءٍ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ إِلَهُ الشَّرِّ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ (أَهْرُمُنْ)، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مَذْهَبِهِمْ أَبُو الْعَلَاءِ بِقَوْلِهِ:
قَالَ أُنَاسٌ بَاطِلٌ زَعْمُهُمْ فَرَاقِبُوا اللَّهَ وَلَا تَزْعُمُنْ
فَكَّرَ (يَزْدَانُ) عَلَى غِرَّةٍ فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ (أَهْرُمُنْ)
وَبَطَلَتْ عَقِيدَةُ النَّصَارَى بِإِلَهِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَأَنَّ ابْن الْإِلَه لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَهًا بِأَنَّ الْإِلَهَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ فَلَيْسَ عِيسَى بِابْن لله، وَبِأَنَّ الْإِلَهَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا بَعْدَ عَدَمٍ. فَالْمَوْلُودُ الْمُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ مَوْلُودٌ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِيسَى إِلَهًا.
فَلَمَّا أَبْطَلَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى إِلَهِيَّةَ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ بِالْأَصَالَةِ، وَأَبْطَلَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ إِلَهِيَّةَ غَيْرِ اللَّهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ، أَبْطَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ إِلَهِيَّةَ غَيْرِ اللَّهِ بِالْفَرْعِيَّةِ وَالتَّوَلُّدِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ.
وَإِنَّمَا نَفْيُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَالِدًا وَأَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، لِأَنَّ عَقِيدَةَ التَّوَلُّدِ ادَّعَتْ وُقُوعَ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ مَضَى، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ سَيَتَّخِذُ وَلَدًا فِي الْمُسْتَقْبل.
[٤]
[سُورَة الْإِخْلَاص (١١٢) : آيَة ٤]
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)
فِي معنى التذييل لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ مَضْمُونِهَا لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ صَرِيحَهَا وَكِنَايَتَهَا وَضِمْنِيَّهَا لَا يُشْبِهُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، مَعَ إِفَادَةِ هَذِهِ انْتِفَاءَِِ
619
شَبِيهٍ لَهُ فِيمَا عَدَاهَا مِثْلَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَج: ٧٣].
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَهِيَ وَاوُ الْحَالِ، كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: ١٧] فَإِنَّهَا تذييل لِجُمْلَةِ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا [سبأ: ١٧]، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْوَاوِ عَاطِفَةً إِنْ جُعِلَتِ الْوَاوُ الْأُولَى عَاطِفَةً فَيَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ إِثْبَاتَ وَصْفِ مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ وَتَكُونَ استفادة معنى التذييل تَبَعًا لِلْمَعْنَى، وَالنُّكَتِ لَا تَتَزَاحَمُ.
وَالْكُفُؤُ: بِضَمِّ الْكَافِ وَضَمِّ الْفَاءِ وَهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ. وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ، إِلَّا أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأَوَّلِينَ حَقَّقُوا الْهَمْزَةَ وَأَبُو جَعْفَرٍ سَهَّلَهَا وَيُقَالُ:
«كُفْءٌ» بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَبِالْهَمْزِ، وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوب، وَيُقَال: كُفُواً بِالْوَاوِ عِوَضَ الْهَمْزِ، وَبِهِ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَهِيَ لُغَاتٌ ثَلَاثٌ فَصِيحَةٌ.
وَمَعْنَاهُ: الْمسَاوِي والممائل فِي الصِّفَاتِ.
وأَحَدٌ هُنَا بِمَعْنَى إِنْسَانٍ أَوْ مَوْجُودٍ، وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ النَّكِرَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلْوُقُوعِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ.
وَحَصَلَ بِهَذَا جِنَاسٌ تَامٌّ مَعَ قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَتَقْدِيمُ خَبَرِ (كَانَ) عَلَى اسْمِهَا لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ الْكُفُؤِ عَقِبَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ لِيَكُونَ أَسْبَقَ إِلَى السَّمْعِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِقَوْلِهِ: لَهُ عَلَى متعلّقه وَهُوَ كُفُواً لِلِاهْتِمَامِ بِاسْتِحْقَاقِ اللَّهِ نَفْيَ كَفَاءَةِ أَحَدٍ لَهُ، فَكَانَ هَذَا الِاهْتِمَامُ مُرَجِّحًا تَقْدِيمَ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ تَأْخِيرَ الْمُتَعَلِّقِ إِذَا كَانَ ظرفا لَغوا. وَتَأْخِيرُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَحْسَنُ مَا لَمْ يَقْتَضِ التَّقْدِيمَ مُقْتَضٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ».
وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ وَحَسَنَةٌ اسْتَوْفَاهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَثَبَتَ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»
620
وَاخْتَلَفَتِ التَّأْوِيلَاتُ الَّتِي تَأَوَّلَ بِهَا أَصْحَابُ مَعَاني الْآثَار لهَذَا الحَدِيث ويجمعها أَرْبَعَة تَأْوِيلَاتٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ، أَيْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآن إِذا قرىء بِدُونِهَا حَتَّى لَوْ كَرَّرَهَا الْقَارِئُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ.
الثَّانِي: أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ إِذَا قَرَأَهَا مَنْ لَا يُحْسِنُ غَيرهَا من سُورَة الْقُرْآنِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ أَجْنَاسِ الْمَعَانِي لِأَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ أَحْكَامٌ وَأَخْبَارٌ وَتَوْحِيدٌ، وَقَدِ انْفَرَدَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِجَمْعِهَا أُصُولَ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَاتٍ مِثْلِهَا مِثْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا تُوجَدُ سُورَةٌ
وَاحِدَةٌ جَامِعَةٌ لِمَا فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ.
التَّأْوِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي الثَّوَابِ مِثْلَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ تَكْرِيرُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَنْزِلَةِ قِرَاءَةِ خَتْمَةٍ كَامِلَةٍ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» (١) : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُسَاوِي فِي الْأَجْرِ مَنْ أَحْيَا بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ اهـ. فَيَكُونُ هَذَا التَّأْوِيلُ قَيْدًا لِلتَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّ فِي حِكَايَتِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ المُرَاد نظر، فَإِنَّ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَكْرِيرَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَعْدِلُ قِرَاءَةَ خَتْمَةٍ كَامِلَةٍ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَاخْتِلَافُهُمْ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ لَا يَرْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَنِ الْحَدِيثِ الْإِشْكَالِ وَلَا يَتَخَلَّصُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ اعْتِرَاضٌ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ السُّكُوتُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا.
_________
(١) فِي سَماع ابْن الْقَاسِم عَن مَالك من كتاب الصَّلَاة الثَّانِي.
621

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١١٣- سُورَةُ الْفَلَقِ
سَمَّى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: اتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِبٌ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمِهِ فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةَ هُودٍ وَسُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ: لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ».
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ سُورَةَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ لِأَنَّهُ كَانَ جَوَابا عَن قَوْلِ عُقْبَةَ: أَقْرِئْنِي سُورَةَ هُودٍ إِلَخْ، وَلِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الْفَلَقِ: ١] قَوْلَهُ: وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [النَّاسِ: ١] وَلَمْ يُتِمَّ سُورَةَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» : سُورَةَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» بِإِضَافَةِ سُورَةِ إِلَى أَوَّلِ جُمْلَةٍ مِنْهَا.
وَجَاءَ فِي كَلَام بَعْضِ الصَّحَابَةِ تَسْمِيَتُهَا مَعَ سُورَةِ النَّاسِ «الْمُعَوِّذَتَيْنِ».
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ
(بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ وَبِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِتَأْوِيلِ الْآيَاتِ الْمُعَوِّذَاتِ، أَيْ آيَاتِ السُّورَتَيْنِ)
وَفِي رِوَايَةٍ: «بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ»

. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُمَا تُسَمَّى الْمُعَوِّذَةَ بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ سَمَّاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ سُورَةَ الْمُعَوِّذَةِ الْأُولَى، فَإِضَافَةُ «سُورَةٍ» إِلَى «الْمُعَوِّذَةِ» مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَمَّى إِلَى الِاسْمِ، وَوَصْفُ السُّورَةِ بِذَلِكَ مَجَازٌ يَجْعَلُهَا كَالَّذِي يَدُلُّ الْخَائِفَ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَعْصِمُهُ مِنْ مُخِيفِهِ أَوْ كَالَّذِي يُدْخِلُهُ الْمَعَاذَ.
وَسُمِّيَتْ فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ وَمُعْظَمِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الْفَلَقِ».
وَفِي «الْإِتْقَانِ» : أَنَّهَا وَسُورَةَ النَّاسِ تُسَمَّيَانِ «الْمُشَقْشِقَتَيْنِ» (بِتَقْدِيمِ الشِّينَيْنِ
623
عَلَى
الْقَافَيْنِ) مِنْ قَوْلِهِمْ خَطِيبٌ مُشَقْشِقٌ اهـ. (أَيْ مُسْتَرْسِلُ الْقَوْلِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْفَحْلِ الْكَرِيمِ مِنَ الْإِبِلِ يَهْدِرُ بِشِقْشَقَةٍ وَهِيَ كَاللَّحْمِ يَبْرُزُ مِنْ فِيهِ إِذَا غَضِبَ) وَلَمْ أُحَقِّقْ وَجْهَ وَصْفِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ بِذَلِكَ.
وَفِي «تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ» و «الْكَشَّاف» أَنَّهَا وَسُورَةَ النَّاسِ تُسَمِّيَانِ «المقشقشتين» (بِتَقْدِيم القافين عَلَى الشِّينَيْنِ) زَادَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ تُبَرِّئَانِ مِنَ النِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ، فَيَكُونُ اسْمُ الْمُقَشْقِشَةِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ أَرْبَعِ سُوَرٍ هَذِهِ، وَسُورَةِ النَّاسِ، وَسُورَةِ بَرَاءَةَ، وَسُورَةِ الْكَافِرُونَ.
وَاخْتُلِفَ فِيهَا أَمَكِّيَّةٌ هِيَ أَمْ مَدَنِيَّةٌ، فَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ:
مَكِّيَّةٌ، وَرَوَاهُ كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ لِأَنَّ رِوَايَةَ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَقْبُولَةٌ بِخِلَافِ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفِيهَا مُتَكَلَّمٌ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِي «الصِّحَاحِ» أَنَّهَا نَزَلَتْ بِهَذَا السَّبَبِ، وَبَنَى صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» عَلَيْهِ تَرْجِيحَ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى قِصَّةِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق: ٤] وَقَدْ قِيلَ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا وَالسُّورَةِ بَعْدَهَا: أَنَّ قُرَيْشًا نَدَبُوا، أَيْ نَدَبُوا مَنِ اشْتُهِرَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ يُصِيبُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ لِيَتَعَوَّذَ مِنْهُمْ بِهِمَا، ذَكَرَهُ الْفَخْرُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَلَمْ يُسْنِدْهُ.
وَعُدَّتِ الْعِشْرِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفِيلِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّاسِ.
وَعَدَدُ آيَاتِهَا خَمْسٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَاشْتُهِرَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ «الْمُعَوِّذَتَانِ» مِنَ الْقُرْآنِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِهِمَا
، أَيْ وَلَمْ يُؤْمَرْ
624
Icon