تفسير سورة النّمل

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة النمل من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية وهي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية، وألف ومائة وتسع وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ أي : الذي كمل علمه فبهرت حكمته ﴿ الرحمان ﴾ الذي عمّ بالهداية بأوضح البيان ﴿ الرحيم ﴾ أي : الذي منّ بجنات النعيم على من اتبع الصراط المستقيم.

﴿ طس ﴾ قال ابن عباس : هو اسم من أسماء الله عز وجلّ، وقد سبق الكلام في حروف الهجاء عليه، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة، بإمالة الطاء، والباقون بالفتح.
﴿ تلك ﴾ أي : هذه الآيات العالية المقام البعيدة المرام البديعة النظام ﴿ آيات القرآن ﴾ أي : الكامل في قرآنيته الجامع للأصول الناشر للفروع الذي لا خلل فيه ولا فصم ولا صدع ولا وصم ﴿ وكتاب مبين ﴾ أي : مظهر الحق من الباطل، فإن قيل : كيف صح أن يشار لاثنين أحدهما مؤنث والآخر مذكر باسم الإشارة المؤنث ولو قلت تلك هند وزيد لم يجز ؟.
أجيب من ثلاثة أوجه : أحدها : أنّ المراد بالكتاب هو الآيات لأنّ الكتاب عبارة عن الآيات المجموعة فلما كانا شيئاً واحدا صحت الإشارة إليهما بإشارة الواحد المؤنث، الثاني : أنه على حذف مضاف أي : وآيات كتاب مبين، الثالث : أنه لما ولي المؤنث ما تصح الإشارة به إليه اكتفى به وحسن، ولو ولي المذكر لم يحسن، ألا ترى أنك تقول جاءتني هند وزيد ولو أخرت هند لم يجز تأنيث الفعل، وقرأ ابن كثير بالنقل وصلاً وابتداءً وحمزة في الوقف لا غير، والباقون بغير نقل.
وقوله تعالى :﴿ هدى وبشرى ﴾ يجوز أن يكونا منصوبين على المصدر بفعل مقدّر من لفظهما، أي : يهدي هدىً ويبشر بشرى، وأن يكونا في موضع الحال من آيات والعامل فيهما ما في تلك من معنى الإشارة، وأن يكونا خبراً بعد خبر، وأن يكونا خبري مبتدأ مضمر، أي : هو هدى من الضلالة وبشرى ﴿ للمؤمنين ﴾ أي : المصدّقين به بالجنة كقوله تعالى :﴿ فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً ﴾ ( النساء : ١٧٥ ) ولهذا خص به المؤمنين، وقيل المراد بالهدى الدلالة، وإنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى، والبشرى إنما تكون للمؤمنين، أو لأنهم تمسكوا به كقوله تعالى :﴿ إنما أنت منذر من يخشاها ﴾ ( النازعات : ٤٥ ) أو لأنه يزيد في هداهم كقوله تعالى :﴿ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ﴾ ( مريم : ٧٦ ).
ولما كان وصف الإيمان خفياً وصفهم بما يصدّقه من الأمور الظاهرة بقوله تعالى :﴿ الذين يقيمون الصلاة ﴾ أي : بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والمراقبة والإحسان إصلاحاً لما بينهم وبين الخالق ﴿ ويؤتون الزكاة ﴾ أي : إحساناً فيما بينهم وبين الخلائق ﴿ وهم بالآخرة هم يوقنون ﴾ أي : يوجدون الإيقان حق الإيجاد بالاستدلال ويجدّدونه في كل حين بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة والإحجام عن المعصية، وأعيد " هم " لما فصل بينه وبين الخبر.
ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها ذكره بقوله تعالى :﴿ إن الذين لا يؤمنون ﴾ أي : لا يوجدون الإيمان ولا يجددونه ﴿ بالآخرة زينا ﴾ أي : بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها ﴿ لهم أعمالهم ﴾ أي : القبيحة بتركيب الشهوة حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها، والإسناد إليه حقيقيّ عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقيّ، وإلى الشيطان مجاز سببيّ، وعند المعتزلة بالعكس، قال الزمخشريّ في تفسيره : إنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة وإسناده إلى الله عز وجل مجاز ﴿ فهم ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنهم ﴿ يعمهون ﴾ أي : يتحيرون ويتردّدون في أودية الضلال ويتمادون في ذلك، فهم كل لحظة في خبط جديد بعمل غير سديد.
﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿ الذين لهم ﴾ أي : خاصة ﴿ سوء العذاب ﴾ أي : أشدّه في الدنيا بالخوف والقتل ﴿ وهم في الآخرة هم الأخسرون ﴾ أي : أشدّ الناس خسارة لأنهم خسروا ما لا خسارة مثله لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم.
ولما وصف تعالى القرآن بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران، ذكر حال المنزل عليه وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم مخاطباً له بقوله تعالى :﴿ وإنك ﴾ أي : وأنت يا أشرف الخلق وأعلمهم وأعظمهم وأحكمهم ﴿ لتلقى القرآن ﴾ أي : لتؤتاه وتلقنه أي : يلقى عليك بشدّة ﴿ من لدن ﴾ أي : من عند ﴿ حكيم ﴾ أي : بالغ الحكمة فلا شيء من أفعاله إلا وهو في غاية الإتقان ﴿ عليم ﴾ أي : عظيم العلم واسعه تامّه شامله، والجمع بينهما مع أنّ العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، والإشعار بأنّ علوم القرآن منها : ما هو كالعقائد والشرائع، ومنها : ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات.
ثم شرع في بيان تلك العلوم بقوله تعالى :﴿ إذ قال موسى ﴾ أي : اذكر قصته حين قال ﴿ لأهله ﴾ أي : زوجته بنت شعيب عليه السلام عند مسيره من مدين إلى مصر وهي القصة الأولى من قصص هذه السورة، قال الزمخشريّ : روي أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته، وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله : امكثوا، وكانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد، وفي مثل هذا الحال يقوى الناس بمشاهدة نار من بعد، لما يرجى فيها من زوال الحيرة وأمن الطريق ومن الانتفاع بالنار للإصطلاء، فلذلك بشرها فقال :﴿ إني آنست ﴾ أي : أبصرت إبصار حصل لي به الأنس وأزال عني الوحشة ﴿ ناراً سآتيكم منها بخبر ﴾ أي : عن حال الطريق وكان قد أضلها، وعبر بلفظ الجمع كما في قوله :﴿ امكثوا ﴾ فإن قيل : كيف جاء بسين التسويف ؟ أجيب : بأنّ ذلك عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ الإتيان أو كانت المسافة بعيدة، فإن قيل : قال هنا ﴿ سآتيكم منها بخبر ﴾ وفي السورة الآتية :﴿ لعلي آتيكم منها بخبر ﴾ ( القصص : ٢٩ ) وهما كالمتدافعين لأنّ أحدهما ترج والآخر تيقن ؟ أجيب : بأنّ الراجي قد يقول إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الحقيقة.
﴿ أو آتيكم بشهاب قبس ﴾ أي : شعلة نار في رأس فتيلة أو عود، قال البغويّ : وليس في الطرف الآخر نار، وقال بعضهم الشهاب شيء ذو نور مثل العمود والعرب تسمى كل شيء أبيض ذي نور شهاباً، والقبس : القطعة من النار، وقرأ الكوفيون بشهابٍ بالتنوين على أنّ القبس بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس، والباقون بإضافة الشهاب إليه لأنه يكون قبساً وغير قبس فهو من إضافة النوع إلى جنسه، نحو ثوب خز إذ الشهاب شعلة من النار والقبس قطعة منها يكون في عود أو غيره كما مرّ.
فإن قيل : لم جاء بأو دون الواو ؟ أجيب : بأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منهما، إمّا هداية الطريق وإمّا اقتباس النار ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعاً وهما العزان عز الدنيا وعز الآخرة، ثم إنه عليه السلام علل إتيانه بذلك إفهاماً لأنها ليلة باردة بقوله :﴿ لعلكم تصطلون ﴾ أي : لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفئ بذلك من البرد، والطاء بدل من تاء الافتعال، من صلى بالنار بكسر اللام وفتحها.
﴿ فلما جاءها ﴾ أي : تلك التي ظنها ناراً ﴿ نودي ﴾ من قبل الله تعالى ﴿ أن بورك ﴾ أن هي المفسرة لأنّ النداء فيه معنى القول، والمعنى قيل له : بورك، أو المصدرية أي : بأن بورك، وقوله تعالى :﴿ من في النار ﴾ أي : موسى ﴿ ومن حولها ﴾ أي : الملائكة هو نائب الفاعل لبورك، والأصل بارك الله من في النار ومن حولها، وهذا تحية من الله عز وجلّ لموسى بالبركة.
ومذهب أكثر المفسرين أنّ المراد بالنار النور ذكر بلفظ النار لأنّ موسى حسبه ناراً، أو من في النار هم الملائكة، وذلك أنّ النور الذي رآه موسى عليه السلام كان فيه الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس ومن حولها هو موسى لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها، وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها والنار إحدى حجب الله تعالى، كما جاء في الحديث :«حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه » الحديث.
تنبيه : بارك يتعدّى بنفسه وبحرف الجرّ يقال باركك الله وبارك عليك وبارك فيك وبارك لك، وقال الشاعر :
فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
قال الزمخشريّ : والظاهر أنه عامّ في كل من في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشأم، ولقد جعل الله تعالى أرض الشأم الموسومة بالبركات لكثرتها مبعث الأنبياء، وكفاتهم أحياء وأمواتاً، ومهبط الوحي عليهم، وخصوصاً تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وقوله تعالى ﴿ وسبحان الله رب العالمين ﴾ من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيهاً، وللعجب من عظمة الله في ذلك الأمر فإنه أتاه النداء، كما ورد من جميع الجهات فسمعه بجميع الحواس، أو تعجب من موسى لما دعاه من عظمته.
ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحاً، قال تعالى تمهيداً لما أراد سبحانه إظهاره على يد موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات :﴿ يا موسى إنه ﴾ أي : الشأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه، وجملة ﴿ أنا الله ﴾ أي : البالغ في العظمة ما تقصر عنه الأوهام، مفسرة له، أو المتكلم، وأنا خبر، والله بيان له، ثم وصف تعالى نفسه بوصفين يدلان على ما يفعله مع موسى عليه السلام : أحدهما :﴿ العزيز ﴾ أي : الذي يصل إلى سائر ما يريد ولا يرده عن مراده راد، والثاني :﴿ الحكيم ﴾ أي : الذي يفعل كل ما يفعله بحكمة وتدبير.
فإن قيل : هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى، فكيف علم موسى أنه من الله تعالى ؟ أجيب : بأنه سمع الكلام المنزه عن شائبة كلام المخلوقين لأنّ النداء أتاه من جميع الجهات وسمعه بجميع الحواس كما مر، فعلم بالضرورة أنه صفة الله سبحانه وتعالى.
ثم أرى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام آية تدلّ على قدرته ليعلم علم شهود وهي قوله تعالى :﴿ وألق عصاك ﴾ فألقاها كما مرّ فصارت في الحال، كما آذنت به الفاء حية عظيمة جدّاً، ومع كونها في غاية العظم هي في نهاية الخفة والسرعة في اضطرابها عند محاولتها ما تريد ﴿ فلما رآها تهتز ﴾ أي : تضطرب في تحرّكها مع كونها في غاية الكبر ﴿ كأنها جان ﴾ أي : حية صغيرة في خفتها وسرعتها فلا ينافي ذلك كبر جثتها ﴿ ولى ﴾ أي : موسى عليه السلام ثم إنّ التولية مشتركة بين معان، فلذا بين المراد منها بقوله تعالى :﴿ مدبراً ﴾ أي : التفت هارباً منها مسرعاً جدّاً لقوله تعالى :﴿ ولم يعقب ﴾ أي : لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليه.
تنبيه : قال الزمخشري : وألق عصاك معطوف على بورك لأنّ المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك كلاهما تفسير لنودي، والمعنى قيل : له : بورك من في النار، وقيل له : ألق عصاك انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير وقيل له ألق لتكون جمله خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها لأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة، والصحيح كما قاله أبو حيان : أنه لا يشترط ذلك. ولما تشوّفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة أجيب : بأنه قيل له ﴿ يا موسى لا تخف ﴾ أي : منها ولا من غيرها ثقة بي، ثم علل هذا النهي بقوله تعالى : مبشراً بالأمن والرسالة ﴿ إني لا يخاف لديّ ﴾ أي : عندي ﴿ المرسلون ﴾ أي : من حية وغيرها لأنهم معصومون من الظلم لا يخاف من الملك العدل إلا ظالم.
وقوله تعالى :﴿ إلا من ظلم ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه استثناء منقطع، لأنّ المرسلين معصومون من المعاصي وهذا هو الصحيح، والمعنى لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف إلا من تاب كما قال تعالى :﴿ ثم بدّل ﴾ أي : بتوبته ﴿ حسناً بعد سوء ﴾ وهو الظلم الذي كان عمله أي : جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه السلام ﴿ فإني ﴾ أرحمه بسبب أني ﴿ غفور ﴾ أي : من شأني أن أمحو الذنوب محواً يزيل جميع آثارها ﴿ رحيم ﴾ أي : أعامله معاملة الراحم البليغ الرحمة، والثاني : أنه استثناء متصل.
وللمفسرين فيه عبارات : قال الحسن : إنّ موسى ظلم بقتل القبطي ثم تاب فقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، وقال غيره : إنّ ذلك محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل، وقال بعض النحويين : إلا ههنا بمعنى ولا، أي : لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون كقوله تعالى :﴿ لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا ﴾ ( البقرة : ١٥٠ ) أي : ولا الذين ظلموا.
ثم أراه الله تعالى بعد هذه الآية آية أخرى ذكرها بقوله تعالى :﴿ وأدخل يدك في جيبك ﴾ أي : فتحة ثوبك وهو ما قطع منه ليحيط بعنقك، وكان عليه مدرعة صوف لا كم لها وقيل : الجيب القميص لأنه يجاب أي : يقطع ﴿ تخرج بيضاء ﴾ أي : بياضاً عظيماً نيراً جداً له شعاع كشعاع الشمس، وكانت الآية الأولى مما في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني، وهذه في يده نفسها بقلب عرضها التي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني، ثم نفى عنها أن يكون ذلك بسبب آفة بقوله تعالى :﴿ من غير سوء ﴾ أي : برص ولا غيره من الآفات، وقوله تعالى ﴿ في تسع آيات ﴾ كلام مستأنف، وحرف الجرّ فيه متعلق بمحذوف، والمعنى : اذهب في تسع آيات ﴿ إلى فرعون وقومه ﴾ كقول القائل :
فقلت إلى الطعام فقال منهم فريق تحسد الإنس الطعاما
ويجوز أن يكون بمعنى وألق عصاك وأدخل يدك في تسع آيات وعدادهنّ.
ولقائل أن يقول كانت الآيات إحدى عشرة آية : ثنتان منها العصا واليد، والتسع الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم، وقيل : في بمعنى من أي : من تسع آيات فتكون العصا واليد من التسع، ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله تعالى :﴿ إنهم كانوا قوماً فاسقين ﴾ أي : خارجين عن طاعتنا.
﴿ فلما جاءتهم آياتنا ﴾ أي : على يد موسى عليه السلام ﴿ مبصرة ﴾ أي : بينة واضحة هادية إلى الطريق الأقوم ﴿ قالوا هذا سحر ﴾ أي : خيال لا حقيقة له ﴿ مبين ﴾ أي : واضح في أنه خيال.
﴿ وجحدوا بها ﴾ أي : أنكروا كونها آيات موجبات لصدقه مع علمهم بإبطالهم لأنّ الجحود الإنكار مع العلم ﴿ واستيقنتها أنفسهم ﴾ أي : علموا أنها من عند الله تعالى وتخلل علمها صميم قلوبهم، فكانت ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم ولذلك أسند الاستيقان إلى النفس، ثم علل جحدهم ووصفهم لها بخلاف وصفها بقوله تعالى :﴿ ظلماً وعلواً ﴾ أي : شركاء وتكبراً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى ﴿ فانظر ﴾ يا أشرف الخلق ﴿ كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ وهو الإغراق في الدنيا بأيسر سعي وأيسر أمر، فلم يبق منهم عين تطرف ولم يرجع منهم مخبر على كثرتهم وعظمتهم وقوتهم، والإحراق في الآخرة بالنار المؤبدة.
القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ داود وسليمان ﴾ ابنه وهما من أتباع موسى عليهم السلام وبعده بأزمان متطاولة ﴿ علماً ﴾ أي : جزأ من العلم عظيماً من منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال وغير ذلك لم نؤته لأحد من قبلهما ولما كان التقدير فعملا بمقتضاه، عطف عليه قوله :﴿ وقالا ﴾ شكراً عليه ودلالة على شرف العلم وتنبيهاً لأهله على التواضع ﴿ الحمد ﴾ أي : الإحاطة بجميع أوصاف الكمال ﴿ لله ﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿ الذي فضلنا ﴾ أي : بما آتانا من النبوّة والكتاب وتسخير الشياطين والجنّ والإنس وغير ذلك ﴿ على كثير من عباده المؤمنين ﴾ أي : ممن لم يؤت علماً أو مثل علمهما، وفي ذلك تحريض للعالم أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير، فلا يتكبر ولا يفتخر ويشكر الله تعالى، وينفع به المسلمين كما نفعه الله تعالى به.
ثم إنه تعالى أشار إلى فضل سليمان بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه بقوله تعالى :﴿ وورث سليمان داود ﴾ أباه عليهما السلام دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابناً فأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين، قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبداً من سليمان، وكان سليمان شاكراً لنعم الله تعالى ﴿ وقال ﴾ تحدّثاً بنعمة ربه ومنبهاً على ما شرّفه الله تعالى به ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير ﴿ يا أيها الناس علمنا ﴾ أي : أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله ﴿ منطق الطير ﴾ أي : فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، فسمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس.
روي عن كعب الأحبار أنه قال : صاح ورشان عند سليمان عليه السلام فقال أتدرون ما يقول : قالوا : لا قال : إنه يقول : لدوا للموت وابنوا للخراب، وصاحت فاختة فقال : أتدرون ما تقول قالوا : لا قال : فإنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاووس فقال أتدرون ما يقول : قالوا : لا قال : فإنه يقول : كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم، وصاح صرد فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا قال فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين، وصاح طيطوى فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا قال فإنه يقول : كل حيّ ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال : أتدرون ما يقول قالوا : لا قال فإنه يقول : قدّموا خيراً تجدوه، وهدرت حمامة فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا، قال فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فقال : أتدرون ما يقول قالوا : لا، قال : فإنه يقول سبحان ربي الأعلى، قال والغراب يدعو على العشار، والحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول من سكت سلم، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه والضفدع يقول سبحان رب القدّوس، ويقول أيضاً سبحان ربي المذكور بكلّ لسان، والباز يقول سبحان ربي وبحمده، وعن مكحول قال : صاح دراج عند سليمان فقال أتدرون ما يقول هذا ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : الرحمان على العرش استوى.
وروي عن فرقد السبحيّ قال مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا الله ونبيه أعلم قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء : وهو بالفتح والمدّ التراب، وقال أبو عبيد : هو الدروس، وفي حديث صفوان :«إذا دخلت بيتي فأكلت رغيفاً وشربت عليه فعلى الدنيا العفاء »، وروي أنّ جماعة من اليهود قالوا لابن عباس إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمناً وصدّقنا، قال : اسألوا تفقهاً ولا تسألوا تعنتاً، قالوا : أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره والديك في صعيقه والضفدع في نعيقه والحمار في نهيقه والفرس في صهيله وما يقول الزرزور والدرّاج، قال نعم أمّا القنبر فيقول : اللهمّ العن مبغضي محمد وآل محمد، وأمّا الديك فيقول : اذكروا الله يا غافلين، وأمّا الضفدع فيقول : سبحان المعبود في لجج البحار، وأمّا الحمار فيقول : اللهمّ العن العشار، وأمّا الفرس فيقول : إذا التقى الصفان سبوح قدّوس رب الملائكة والروح، وأما الزرزور فيقول : اللهمّ إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق، وأمّا الدراج فيقول : الرحمان على العرش استوى قال : فأسلم اليهود وحسن إسلامهم.
ويروى عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جدّه عن الحسين بن عليّ قال : إذا صاح النسر قال : ابن آدم عش ما شئت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أنس، وإذا صاح القنبر قال : إلهي العن مبغضي آل محمد، وإذا صاح الخطاف قرأ : الحمد لله رب العالمين ويمدّ ولا الضالين كما يمدّ القارئ.
وقول سليمان عليه السلام ﴿ وأوتينا من كل شيء ﴾ أي : تؤتاه الأنبياء والملوك، قال ابن عباس من أمر الدنيا والآخرة، وقال مقاتل : يعني النبوّة والملك وتسخير الجنّ والإنس والرياح ﴿ إن هذا ﴾ أي : الذي أوتيناه ﴿ لهو الفضل المبين ﴾ أي : البين في نفسه لكلّ من ينظره الموضح لعلوّ قدر صاحبه، روي أنّ سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك أربعين سنة وستة أشهر جميع أهل الدنيا من الجنّ والأنس والدواب والطير والسباع وأعطى مع ذلك منطق الطير، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة، فقوله :﴿ إنّ هذا لهو الفضل المبين ﴾ تقرير لقوله ﴿ الحمد لله الذي فضلنا ﴾ والمقصود منه الشكر والحمد، كما قال صلى الله عليه وسلم :«أنا سيد ولد آدم ولا فخر »، فإن قيل : كيف قال علمنا وأوتينا وهو كلام المتكبر ؟ أجيب بوجهين : الأوّل : أنه يريد نفسه وأباه كما مرّ، الثاني : أنّ هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً.
ولما كان هذا مجرّد خبر أتبعه ما يصدّقه بقوله تعالى :﴿ وحشر ﴾ أي : جمع جمعاً حتماً بقهر وسطوة وإكراه بأيسر أمر ﴿ لسليمان جنوده ﴾ ثم بين ذلك بقوله تعالى :﴿ من الجنّ ﴾ وبدأ بهم لعسر جمعهم ثم ثنى بقوله تعالى :﴿ والإنس ﴾ لشرفهم ثم أتبع من يعقل بما لا يعقل بقوله ﴿ والطير ﴾ فقدّم القسم الأول لشرفه وذلك كان في مسير له في بعض الغزوات ﴿ فهم ﴾ أي : فتسبب عن مسيره بذلك أنهم ﴿ يوزعون ﴾ أي : يكفون بحبس أولهم على آخرهم بأدنى أمر وأسهله ليتلاحقوا فيكون ذلك أجدر بالهيبة وأعون على النصرة وأقرب إلى السلامة، قال قتادة : كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أوّلها على آخرها لئلا يتقدّموا في المسير، قال والوازع : الحابس وهو النقيب، وقال مقاتل : يوزعون أي : يساقون، وقال السدّيّ : يوقفون، وقيل : يجمعون، وأصل الوزع الكف والمنع.
قال محمد بن كعب القرظيّ : كان معسكر سليمان عليه السلام مئة فرسخ خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير، وقيل : نسجت له الجنّ بساطاً من ذهب وحرير فرسخاً في فرسخ وكان يوضع كرسيه وسطه فيقعد وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة والناس حولهم والجنّ والشياطين حول الناس والوحش حولهم وتظلهم الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة يعني : حرّة وسبعمائة سرّية، فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به مسيرة شهر، وأوحي إليه وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في في ملكك أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح فأخبرتك به، فيحكى أنه مرّ بحراث فقال لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال : إني مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود واستمرّ سائراً بمن معه.
﴿ حتى إذا أتوا ﴾ أي : أشرفوا ﴿ على وادي النمل ﴾ روي عن كعب الأحبار أنه قال : كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع كل قدر عشرة من الإبل يطبخ الطباخون ويخبز الخبازون واتخذ ميادين للدّواب فتجري بين يديه وهو بين السماء والأرض والريح تهوي بهم فسار من اصطخر يريد اليمن، فمرّ بمدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال سليمان هذه دار هجرة نبيّ يخرج في آخر الزمان طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه. ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله تعالى إلى البيت ما يبكيك ؟
فقال : يا رب أبكاني أنّ هذا نبيّ من أنبياءك وقوم من أوليائك مرّوا علي فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله تعالى إليه لا تبك فإني سوف أملؤك وجوهاً سجداً وأنزل فيك قرآناً جديداً وأبعث منك نبي آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يزفون إليك زفيف النسور إلى وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها وحنين الحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين، ثم مرّ سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف فأتى على وادي النمل هكذا قال كعب إنه واد بالطائف.
قال البقاعي : وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف عندهم إلى الآن بهذا الاسم، وقال قتادة ومقاتل : هو واد بالشأم وجرى عليه البيضاوي، وقيل : واد كانت تسكنه الجنّ وأولئك النمل مراكبهم، وقال نوف الحميري : كان نمل ذلك الوادي مثل الذباب، وقيل : كان كالبخاتي، وقال البغويّ والمشهور : أنه النمل الصغير.
فائدة : وقف الكسائي على وادي بالياء، والباقون بغير ياء، فإن قيل : لم عدى أتوا بعلى ؟ أجيب : بأنه يتوجه على معنيين : أحدهما : أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء، والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم، أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهوى لا يخاف حطمهم.
ولما كانوا في أمر مهول منظره وقربوا من ذلك الوادي ﴿ قالت نملة ﴾ قال الشعبيّ : كانت تلك النملة ذات جناحين، وقيل : كانت نملة عرجاء فنادت ﴿ يا أيها النمل ادخلوا ﴾ أي : قبل وصول ما أرى من الجيش ﴿ مساكنكم ﴾ ثم عللت أمرها فقالت :﴿ لا يحطمنكم ﴾ أي : يكسرنكم ويهشمنكم، أي : لا تبرزوا فيحطمكم فهو نهي لهم عن البروز في صورة نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى أميراً عن شيء كان لغيره أشدّ نهياً ﴿ سليمان وجنوده ﴾ أي : لأنهم لكثرتهم إذا صاروا في هذا الوادي استعلوا عليه فضيقوه فلم يدعوا فيه موضع شبر خالياً ﴿ وهم ﴾ أي : سليمان وجنوده ﴿ لا يشعرون ﴾ أي : بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وقولها هذا يدل على علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبيّ فهم رحماء، وإنما خاطبتهم خطاب من يعقل لأنها لما جعلت قائلة والنمل مقولاً له كما يكون في أولي العقل أجرت خطابهم، والنمل : اسم جنس معروف واحده نملة، ويقال نملة ونمل بضم النون وسكون الميم، ونملة ونمل بضمهما.
وعن قتادة : أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوني عما شئتم، وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى حاضراً وهو غلام حديث، فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى ؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى، فقيل له من أين عرفت ؟ فقال من كتاب الله، وهو قوله : قالت نملة ولو كانت ذكراً لقال قال نملة، قال الزمخشريّ : وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي انتهى.
وردّ هذا أبو حيان فقال : ولحاق التاء في قالت لا يدلّ على أنّ النملة مؤنثة بل يصح أن يقال في الذكر قالت نملة لأن النمل وإن كان بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، ولا يدلّ كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على كونه ذكراً وأنثى لأنّ التاء دخلت فيه للفرق لا للدّلالة على التأنيث له الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس، قال وكان قتادة بصيراً بالعربية، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذا علم أنّ النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين، ولحاق العلامة لا يدل، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ا. ه.
وقال الطيبي : العجب من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه لأنّ النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر والأنثى وأطال الكلام في ذلك.
فإن قيل : كيف يتصّور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض ؟ أجيب : بأنّ من جنوده ركباناً ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم، أو أنّ ذلك كان قبل تسخير الريح لسليمان، ويروى أنّ سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنده حتى دخل النمل بيوتهم، فقد روي أنه سمع كلامها من ثلاثة أميال، وقيل : كان اسمها طاخية.
فائدة : قال أهل المعاني في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة : نادت ونبهت وسمت وأمرت ونصت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وأعذرت، ووجهه : نادت يا، نبهت : ها، سمت : النمل، أمرت : ادخلوا، نصت : مساكنكم، حذرت : لا يحطمنكم، خصت : سليمان، عمت : وجنوده، أشارت : وهم، أعذرت : لا يشعرون.
ولما كان هذا أمر معجباً لما فيه من جزالة الألفاظ وجلالة المعاني تسبب عنه قوله :﴿ فتبسم ضاحكاً من قولها ﴾ أي : لما أوتيته من الفصاحة والبيان وسروراً بما وصفته به من العدل في أنه وجنوده لا يؤذي أحداً وهم يعلمون، وبما آتاه الله من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه.
تنبيه : ضاحكاً : حال مؤكدة لأنها مفهومة من تبسم، وقيل : هي حال مقدّرة فإنّ التبسم ابتداء الضحك، وقيل : التبسم قد يكون للغضب، ومنه تبسم تبسم الغضبان، فضاحكاً : مبيناً له، قال عنترة :
لما رآني قد قصدت أريده أبدى نواجذه لغير تبسم
وقال الزجاج : أكثر ضحك الأنبياء التبسم، وقوله : ضاحكاً أي : متبسماً، وعن عائشة رضي الله عنها قالت :«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم »، وعن عبد الله بن الحارث بن جبير قال :«ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم »، وقيل : كان أوّله التبسم، وآخره الضحك، ثم حمد الله تعالى على هذه النعمة وسأل ربه توفيق شكره لما تذكر ما أولاه ربه سبحانه وتعالى بحسن تربيته من فهم كلامها إلى ما أنعم عليه من غير ذلك ﴿ وقال رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿ أوزعني ﴾ أي : ألهمني ﴿ أن أشكر نعمتك ﴾ وقيل معناه لغة : اجعلني أزع شكر نعمتك أي : أكفه وأمنعه حتى لا يفلت مني فلا أزال شاكراً، وأزع بفتح الزاي أصله : أوزع فحذفت واوه كما في أدع. ولما أفهم ذلك تعلق النعمة به حققه بقوله ﴿ التي أنعمت عليّ ﴾ وأفهم قوله :﴿ وعلى والديّ ﴾ أن أمّه كانت أيضاً تعرف منطق الطير وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين خصوصاً النعمة الراجعة إلى الدين فإنه إذا كان تقياً نفعهما بدعائه وشفاعته ودعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له وقالوا رضي الله عنك وعن والديك.
تنبيه : الشكر لغة : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر أو غيره سواء كان ذكراً باللسان أم اعتقاداً أو محبة بالجنان أم عملاً وخدمة بالأركان، كما قال القائل :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
وعرفاً : صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله، وهذا لمن حفته العناية الربانية نسأل الله الكريم الفتاح أن يحفنا ومن يلوذ بنا بعنايته.
روي عن داود عليه السلام أنه قال : يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة أخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر ؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود إذا علمت أنّ ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني. والشكر ثلاثة أشياء : الأول : معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة، فرب جاهل تحسن إليه وتنعم عليه وهو لا يدري، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر، الثاني : قبول النعمة بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة، فإنّ ذلك شاهد بقبولها حقيقة، الثالث : الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه، فإنّ اليد العليا خير من اليد السفلى.
ولما علم من كلامه أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل بحسب ما يقدر عليه، وكان ذلك العمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسناً وهو ليس كذلك قال عليه السلام : مشيراً إلى هذا المعنى ﴿ وأن أعمل صالحاً ﴾ أي : في نفس الأمر، وقيده بقوله ﴿ ترضاه ﴾ لأنّ العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل، كما قيل :
إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب
وقوله ﴿ وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ يدل على أنّ دخول الجنة برحمته وفضله لا باستحقاق العبد، والمعنى : أدخلني في جملتهم وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم، قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين، فإن قيل : درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين والأولياء فما السبب في أنّ الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين وقد تمنى يوسف عليه السلام بقوله ﴿ فاطر السماوات والأرض أنت وليّ في الدنيا والآخرة توفّني مسلماً وألحقني بالصالحين ﴾ ( يوسف : ١٠١ ) وقال إبراهيم :﴿ هب لي حكماً وألحقني بالصالحين ﴾ ( الشعراء، ٨٣ ).
أجيب : بأنّ الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يفعل معصية ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية.
ثم إنّ سليمان عليه السلام لما وصل إلى المنزل الذي قصده تفقد أحوال جنوده كما تقتضيه العناية بأمور الملك. ﴿ وتفقد الطير ﴾ أي : طلبها وبحث عنها، والتفقد طلب ما فقد، ومعنى الآية طلب ما فقد من الطير ﴿ فقال ما لي لا أرى الهدهد ﴾ أي : أهو حاضر ﴿ أم كان من الغائبين ﴾ أم منقطعة، كأنه لما لم يره ظنّ أنه حاضر ولم يره لساتر أو غيره، فقال مالي لا أراه، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب ؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، وهذا يدل على أنه تفقد جماعة من الجند وتحقق غيبتهم وشك في غيبته.
وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء : أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب من الجنّ والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ عسكره مائة فرسخ فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم وكان ينحر في كل يوم مدة مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة وقال لمن حضر من أشراف قومه أنّ هذا المكان يخرج منه نبيّ عربي صفته كذا وكذا يعطى النصر على جميع ما يأواه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم، قالوا فبأي : دين يدين يا نبيّ الله ؟ قال بدين الحنيفية : فطوبى لمن أدركه وآمن به، قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبيّ الله ؟ قال : مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل، فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج منها صباحاً وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها فأحبّ النزول ليصلي ويتغدى، فلما نزل قال الهدهد : إنّ سليمان قد اشتغل بالنزول فأرتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها فنظر يميناً وشمالاً فرأى بستاناً لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير، فقال عنفير هدهد اليمن ليعفور سليمان من أين أقبلت وإلى أين تريد ؟ قال أقبلت من الشأم مع صاحبي سليمان بن داود فقال ومن سليمان ؟ قال ملك الإنس والجنّ والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمن أين أنت ؟ قال أنا من هذه البلاد، قال ومن ملكها ؟ قال امرأة يقال لها بلقيس، وإن لصاحبكم ملكاً عظيماً ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكت اليمن كله وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها، قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وغاب إلى وقت العصر، وكان نزول سليمان على غير ماء، قال ابن عباس : وكان الهدهد دليل سليمان على الماء، وكان يعرف الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة ويعرف بعده وقربه فينقر الأرض ثم تجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : انظر ما تقول : إن الصبيّ منا يصنع الفخ ويحثوا عليه التراب فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه ؟ فقال له ابن عباس ويحك إن القدر إذا جاء حال بين البصر، وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر، قال القائل :
هي المقادير فدعني والقدر *** إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
إذا أراد الله أمراً بامرئ *** وكان ذا عقل وسمع وبصر
يعبر الجهل فيعمى قلبه *** وسمعه وعقله ثم البصر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه *** ردّ عليه عقله ليعتبر
لا تقل لما جرى كيف جرى *** كل شيء بقضاء وقدر
فلما دخل على سليمان وقت الصلاة سأل الإنس والجنّ والشياطين عن الماء فلم يعلموه، فتفقد الهدهد فلم يجده فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو، وما أرسلته مكاناً، فغضب سليمان عند ذلك وقال :﴿ لأعذبنه ﴾ أي : بسبب غيبته فيما لم آذن فيه ﴿ عذاباً شديداً ﴾ أي : مع بقاء روحه ردعاً لأمثاله ﴿ أو لأذبحنه ﴾ أي : بقطع حلقومه أي : تأديباً لغيره ﴿ أو ليأتيني بسلطان مبين ﴾ أي : بحجة واضحة.
واختلفوا في تعذيبه الذي أوعده به على أقوال : قال البغوي : أظهرها أنّ عذابه أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطاً لا يمتنع من النمل والذباب ولا من هوام الأرض انتهى، وقيل : تعذيبه أن يؤذيه بما لا يحتمله ليعتبر به أبناء جنسه، وقيل : كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه، وقيل : أن يطلى بالقطران ويشمس، وقيل : أن يلقى للنمل تأكله، وقيل : إيداعه القفص، وقيل : التفريق بينه وبين ألفه، وقيل : لألزمنه صحبة الأضداد.
قال الزمخشريّ : وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد، وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه، ثم دعا العقاب سيد الطير فقال له : عليّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، فالتفت يميناً وشمالاً فإذا بالهدهد مقبلاً من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه يريده فلما رأى الهدهد ذلك علم أنّ العقاب يقصده بسوء، فناشده فقال بحق الله الذي قواك وأقدرك عليّ إلا ما رحمتني ولم تتعرّض لي بسوء، فولى عنه العقاب وقال له ويلك ثكلتك أمّك إنّ نبيّ الله قد حلف أن يعذبك أو ليذبحنك، قال فما استثنى، قال : بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له ويلك أين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال، فقال الهدهد وما استثنى نبي الله عليه السلام ؟ قالوا : بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين، قال فنجوت إذاً، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان، وكان قاعداً على كرسيه، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبيّ الله.
﴿ فمكث ﴾ أي : الهدهد، وقوله تعالى :﴿ غير بعيد ﴾ صفة للمصدر، أي : مكثاً غير بعيد، فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، وقال له أين كنت ؟ لأعذبنك عذاباً شديداً فقال له الهدهد : يا نبيّ الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم سأله فقال ما الذي أبطأك عني ﴿ فقال أحطت ﴾ أي : علماً ﴿ بما لم تحط به ﴾ أي : أنت مع اتساع علمك وامتداد ملكك، ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه، وتنبيهاً له على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ويكون لطفاً في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم، قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الروافضة أنّ الإمام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه، وقيل : الضمير في مكث لسليمان، وقيل : غير بعيد صفة للزمان أي : زماناً غير بعيد، وقرأ عاصم بفتح الكاف، والباقون بضمها، وهما لغتان إلا أنّ الفتح أشهر، ﴿ وجئتك ﴾ أي : الآن ﴿ من سبأ بنبأ ﴾ أي : خبر عظيم ﴿ يقين ﴾ أي : محقق، وقرأ أبو عمرو والبزيّ سبأ بفتح الهمزة من غير تنوين، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث، والباقون بالجر والتنوين جعلوه اسماً للحيّ أو المكان، قال البغوي : وجاء في الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال :«رجلاً كان له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة ».
فقال سليمان وما ذاك قال :﴿ إني وجدت امرأة تملكهم ﴾ وهي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكاً هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤاً لي، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه بامرأة من الجنّ يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت بلقيس ولم يكن له ولد غيرها.
قال البغوي : وجاء في الحديث «أنّ أحد أبوي بلقيس كان جنياً فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك، فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون، وملكوا عليهم رجلاً وافترقوا فرقتين كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن، ثم إنّ الرجل الذي ملكوه أساء السير في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهنّ، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها، وقال : ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا إياسي منك، فقالت لا أرغب عنك أنت كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني منهم، فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا لا نراها تفعل ذلك، فقال لهم إنها قد ابتدأتني وأنا أحبّ أن تسمعوا قولها، فجاؤها فذكروا لها قالت نعم أحببت الولد فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها، فلما جاءته أسقته الخمر حتى سكر، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلاً ورأسه منصوب على باب دارها، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت حيلة مكر وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وقالوا أنت بهذا الملك أحق من غيرك فملكوها ».
وعن الحسن عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل فارس قد ملكوا عليهم امرأة قال :«لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة » وقوله ﴿ وأوتيت ﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على تملكهم، وجاز عطف الماضي على المضارع لأنّ المضارع بمعناه، أي : ملكتهم، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال من مرفوع تملكهم، وقد معها مضمرة عند من يرى ذلك، وقوله ﴿ من كل شيء ﴾ عام مخصوص بالعقل لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان، فالمراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة ﴿ ولها عرش ﴾ أي : سرير ﴿ عظيم ﴾ أي : ضخم لم أجد لأحد مثله طوله ثمانون ذراعاً وعرضه أربعون ذراعاً وارتفاعه ثلاثون ذراعاً، مضروب من الذهب والفضة مكلل بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد، وقوائمه من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد عليه سبعة أبواب على كل باب بيت مغلق.
فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان ؟ وأيضاً كيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الرحمان في الوصف بالعظم ؟ أجيب عن الأوّل : بأنه يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان واستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء يكون في العظم أبلغ مما لغيره من أبناء جنسه من الملوك، ووصف عرش الرحمان بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض.
فإن قيل : كيف خفي على سليمان تلك المملكة العظيمة مع أنّ الإنس والجنّ كانوا في طاعته فإنه عليه السلام كان ملك الدنيا كلها مع أنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها كما أخفى مكان يوسف على يعقوب.
ولما كان الهدهد في خدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله تعالى فحصل له من النورانية ما هاله، قال مستأنفاً :﴿ وجدتها وقومها ﴾ أي : كلهم على ضلال كبير وذلك أنهم ﴿ يسجدون للشمس ﴾ مبتدئين ذلك ﴿ من دون الله ﴾ أي : من أدنى رتبة للملك الأعظم الذي لا مثل له ﴿ وزين لهم الشيطان أعمالهم ﴾ أي : هذه القبيحة حتى صاروا يظنونها حسنة، ثم تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق فلهذا قال ﴿ فصدّهم عن السبيل ﴾ أي : الذي لا سبيل إلى الله غيره، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ثم تسبب عن ذلك ضلالهم فلهذا قال ﴿ فهم ﴾ أي : بحيث ﴿ لا يهتدون ﴾ أي : لا يوجد لهم هدى بل هم في ضلال صرف وعمى محض.
﴿ ألا يسجدوا لله ﴾ أي : أن يسجدوا له، فزيدت لا وأدغم فيها نون أن، كما في قوله تعالى :﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ﴾ ( الحديد : ٢٩ ) والجملة في موضع مفعول يهتدون بإسقاط إلى، هذا إذا قرئ بالتشديد وهي قراءة غير الكسائي، وأمّا الكسائي : فقرأ بتخفيف ألا فألا فيها تنبيه واستفتاح وما بعدها حرف نداء ومناداه محذوف كما حذفه من قال :
ألايا اسلمي يا دار ميّ على البلى ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
ويقف الكسائي على ألا، وعلى يا، وعلى اسجدوا، وإذا ابتدأ اسجدوا ابتدأ بالضم، ثم وصف الله تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من الاتصاف بكمال القدرة والعلم حثاً على السجود له وردّاً على من يسجد لغيره سبحانه وتعالى بقوله :﴿ الذي يخرج الخبء ﴾ وهو مصدر بمعنى المخبوء من المطر والنبات وغيرهما وخصه بقوله :﴿ في السماوات والأرض ﴾ لأنّ ذلك منتهى مشاهدتنا فننظر ما يكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وما يشرق من الكواكب ويغرب إلى غير ذلك من الرياح والحرّ والبرد وما لا يحصيه إلا الله تعالى ﴿ ويعلم ما تخفون ﴾ في قلوبهم ﴿ وما تعلنون ﴾ بألسنتهم، وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فيهما، والباقون بالتحتية، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي لأنّ ما قبله أمرهم بالسجود وخاطبهم به، والغيبة على قراءة الباقين غير ظاهرة لتقدّم الضمائر الغائبة في قوله ﴿ أعمالهم ﴾ ﴿ فصدهم ﴾ و﴿ فهم ﴾ وأمّا قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ، ويجوز أن تكون إلتفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر فخطابه ملتفتاً إليه.
وقوله :﴿ الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ﴾ أي : الذي هو أوّل الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها، يحتمل أن يكون من كلام الهدهد استدراكاً لما وصف عرش بلقيس بالعظم، وأن يكون من كلام الله تعالى ردّاً عليه في وصفه عرشها بالعظم فبين العظمتين بون عظيم، فإن قيل : من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟
أجيب : بأنه لا يبعد أن يلهمه الله تعالى ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، خصوصاً في زمن نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها وجعل ذلك معجزة له، وهذه آية سجدة واختلف في محلها، هل هو هذه الآية أو عند قوله قبلها وما يعلنون ؟ الجمهور على الأوّل.
ولما فرغ الهدهد من كلامه :﴿ قال ﴾ له سليمان ﴿ سننظر ﴾ أي : نختبر ما قلته ﴿ أصدقت ﴾ فيه فنعذرك ﴿ أم كنت من الكاذبين ﴾ أي : معروفاً بالانخراط في سلكهم فإنه لا يجترئ على الكذب عندي إلا من كان غريقاً في الكذب فهو أبلغ من أم كذبت، وأيضاً لمحافظة الفواصل.
ثم شرع فيما يختبره به فكتب له كتاباً على الفور في غاية الوجازة قصداً للإسراع في إزالة المنكر على تقدير صدق الهدهد بحسب الاستطاعة، ودل على إسراعه في كتابته بقوله جواباً له :﴿ اذهب بكتابي هذا ﴾ فكأنه كان مهيأ عنده فدفعه إليه وأمره بالإسراع، فطار كأنه البرق ولهذا أشار بالفاء في قوله :﴿ فألقه إليهم ﴾ أي : الذين ذكرت أنهم يعبدون الشمس وذلك للاهتمام بأمر الدين، وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد بخلاف عنه فألقه بسكون الهاء، واختلس الكسرة قالون وهشام بخلاف عنه، والباقون بإشباع الكسرة. ﴿ ثم ﴾ قال له إذا ألقيته إليهم ﴿ تولّ ﴾ أي : تنحّ ﴿ عنهم ﴾ إلى مكان تسمع فيه كلامهم ولا يصلون معه إليك ﴿ فانظر ماذا يرجعون ﴾ أي : يردّون من الجواب، وقال ابن زيد في الآية تقديم وتأخير، مجازها اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم توّل عنهم أي : انصرف إليّ، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى إلى بلقيس وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام.
قال قتادة : فوافاها في قصرها وقد غلقت الأبواب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها، وقيل نقرها فانتبهت فزعة، وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة، والناس ينظرون إليه حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها، وقال وهب بن منبه وابن زيد : كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد إلى الكوّة فسدها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم بها، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر إليها، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأنّ ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أنّ الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها، وقرأت الكتاب وتأخر الهدهد فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد ألف مقاتل، وعن ابن عباس قال : كان مع بلقيس مائة ألف، قيل مع كل قيل مائة ألف، والقيل : الملك دون الملك الأعظم، وقال قتادة ومقاتل : كان أهل مشورتها ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف.
فلما جاؤوا أخذوا مجالسهم ﴿ قالت ﴾ لهم بلقيس ﴿ يا أيها الملأ ﴾ وهم أشراف الناس وكبراؤهم ﴿ إني ألقي إليّ ﴾ أي : بإلقاء ملق على وجه غريب ﴿ كتاب ﴾ أي : صحيفة مكتوب فيها كلام وخبر جامع، قال الزمخشريّ : وكانت كتب الأنبياء جملاً لا يطنبون ولا يكثرون. ولما حوى هذا الكتاب من الشرف أمراً باهراً لم يعهد مثله وصفته بقولها ﴿ كريم ﴾ وقال عطاء والضحاك : سمته كريماً لأنه كان مختوماً روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«كرامة الكتاب ختمه »، «وكان عليه السلام يكتب إلى العجم فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم فاصطنع له خاتماً »، وعن ابن المقنع : من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به، وقال مقاتل : كريم أي : حسن، وعن ابن عباس : أي : شريف لشرف صاحبه، وقيل : سمته كريماً لأنه كان مصدراً ب ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾.
ثم بينت ممن الكتاب فقالت :﴿ إنه من سليمان ﴾ ثم بينت المكتوب فيه فقالت ﴿ وإنه بسم الله الرحمان الرحيم ﴾.
﴿ ألا تعلو عليّ ﴾ قال ابن عباس : لا تتكبروا عليّ، وقيل لا تتعظموا ولا تترفعوا عليّ، أي : لا تمتنعوا عن الإجابة فإن ترك الإجابة من العلو والتكبر ﴿ وائتوني مسلمين ﴾ أي : منقادين خاضعين فهو من الاستسلام، أو مؤمنين فهو من الإسلام، فإن قيل : لم قدم سليمان اسمه على البسملة ؟ أجيب : بأنه لم يقع منه ذلك بل ابتدأ الكتاب بالبسملة وإنما كتب اسمه عنواناً بعد ختمه لأنّ بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه كما هو المعهود، ولذلك قالت :﴿ إنه بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ أي : إنّ الكتاب، فالتقديم واقع في حكاية الحال، واعلم أن قوله :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ مشتمل على إثبات الصانع وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً قال الطيبي : وقال القاضي : هذا كلام في غاية الوجازة مع إثبات كمال الصانع وإثبات كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الإله وصفاته صريحاً أو التزاماً، والنهي عن الترفع الذي هو أمّ الرذائل، والأمر بالإسلام الذي هو جامع لأمّهات الفضائل.
ولما سكتوا عن الجواب ﴿ قالت ﴾ لهم ﴿ يا أيها الملأ ﴾ ثم بينت ما داخلها من الرعب من صاحب هذا الكتاب بقولها ﴿ أفتوني ﴾ أي : تكرّموا عليّ بالإنابة عما أفعله ﴿ في أمري ﴾ هذا الذي أجيب به هذا الكتاب جعلت الشورى فتوى توسعاً، لأنّ الفتوى الجواب في الحادثة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة واواً، والباقون بتحقيقها وفي الابتداء الجميع بالتحقيق.
ثم عللت أمرها لهم بقولها ﴿ ما كنت قاطعة أمراً ﴾ أي : فاعلته وفاصلته غير متردّدة فيه ﴿ حتى تشهدون ﴾ أفادت بذلك أن شأنها دائماً مشاورتهم في كل جليل وحقير فكيف بهذا الأمر الخطير، وفي ذلك استعطافهم بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم ودلالة على غزارة عقلها وحسن أدبها.
ثم إنهم أجابوها عن ذلك بأن ﴿ قالوا ﴾ مائلين إلى الحرب ﴿ نحن أولو قوّة ﴾ أي : بالمال والرجال ﴿ وأولو ﴾ أي : أصحاب ﴿ بأس ﴾ عزم في الحرب ﴿ شديد والأمر ﴾ أي : في كل من المصادمة والمسالمة راجع وموكول ﴿ إليك فانظري ﴾ أي : بسبب أنه لا نزاع معك ﴿ ماذا تأمرين ﴾ فإنا نطيعك ونتبع أمرك.
ولما علمت أن من سخّر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده ﴿ قالت ﴾ جواباً لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب والحرب سجال لا يدري عاقبتها ﴿ إن الملوك ﴾ أي : مطلقاً فكيف بهذا النافذ الأمر، العظيم القدر ﴿ إذا دخلوا ﴾ عنوة بالقهر ﴿ قرية أفسدوها ﴾ أي : بالنهب والتخريب ﴿ وجعلوا أعزة أهلها أذلة ﴾ أي : أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر، ثم أكدت هذا المعنى بقولها ﴿ وكذلك ﴾ أي : ومثل هذا الفعل العظيم الشأن ﴿ يفعلون ﴾ أي : هو خلق لهم مستمرّ في جميعهم فكيف بمن تطيعه الوحوش والطيور وغيرهما.
تنبيه : هذه الجملة من كلامها وهو كما قال ابن عادل الظاهر، ولهذا جبلت عليه فتكون منصوبة بالقول، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تصديقاً لها فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب، وهي معترضة بين قولها.
ولما بينت ما في المصادمة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها :﴿ وإني مرسلة إليهم ﴾ أي : إلى سليمان وقومه ﴿ بهدية ﴾ وهي العطية على طريق الملاطفة، وذلك أن بلقيس كانت امرأة كيسة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها إني مرسلة إلى سليمان وقومه بهدية أصانعه بها عن ملكي فاختبره بها أملك هو أم نبي ؟ فإن يكن ملكاً قبل الهدية وانصرف، وإن يكن نبياً لم يقبل الهدية ولم يرضها منا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قولها ﴿ فناظرة بم ﴾ أي : أيّ شيء ﴿ يرجع المرسلون ﴾ فأهدت إليه وصفاً ووصائف، قال ابن عباس : ألبستهم لباساً واحداً كي لا يعرف ذكراً من أنثى، وقال مجاهد ألبست الجواري لباس الغلمان وألبست الغلمان لباس الجواري، واختلف في عددهم : فقال ابن عباس : مائة وصيف ومائة وصيفة، وقال مجاهد ومقاتل : مائة غلام ومائتا جارية، وقال قتادة : أرسلت إليه بلبنات من ذهب في حرير وديباج، وقال ثابت البناني : أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج، وقيل : كانت أربع لبنات من ذهب، وقال وهب وغيره : عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لباس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب وفي آذانهم أقراطاً وشنوفاً مرصعات بأنواع الجواهر وغواشيها من الديباج الملونة وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة من فضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع وأرسلت المسك والعنبر وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجذعة لعلها مثقوبة معوّجة الثقب ودعت رجلاً من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت معهم كتاباً بنسخة الهدية.
وقالت : إن كنت نبياً فميز بين الوصف والوصائف، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقباً مستوياً، وأدخل خيطاً في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جنّ، وأمرت بلقيس الغلمان : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرجل انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشاشاً لطيفاً فاعلم أنه نبيّ مرسل، فتفهم قوله ورد الجواب.
فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان فأخبره الخبر كله فأمر سليمان عليه السلام الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة وأن يجعلوا حول الميادين حائطاً شرفها من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال أيّ الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر قالوا يا نبيّ الله إنا رأينا دوابّ في مجر كذا وكذا منقطة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص، قال عليّ بها الساعة، فأتوا بها فقال شدّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة وألقوا لها علوفتها فيها، ثم قال للجنّ عليّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم عن يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي على يمينه ومثلها على يساره وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الإنس فاصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره.
فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تقاصرت أنفسهم ورموا ما معهم من الهدايا، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعاً على قدر موضع اللبنات التي معهم فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك الموضع الخالي فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ففزعوا، فقالت لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرّون على كردوس من الجنّ والإنس والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظراً حسناً بوجه طلق وقال : ما وراءكم ؟ فأخبره رئيس القوم بما جاءوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال أين الحقة ؟ فأتى بها فحركها وجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما في الحقة فقال : إنّ فيها درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوّجة الثقب، فقال الرسول صدقت فاثقب الدرّة وأدخل الخيط في الخرزة، فقال سليمان عليه السلام من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجنّ فلم يكن عندهم علم بذلك ثم سأل الشياطين فقالوا أرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت تصير رزقي في الشجرة فقال لك ذلك، وروي أنها جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف فجعل لها ذلك، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر، ثم قال من لهذه الخرزة بسلكها بالخيط فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت : تجعل رزقي في الفواكه قال لك ذلك، ثم ميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه، والغلام يأخذ من الآنية بيديه ويضرب بهما وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها، والغلام على ظاهر الساعد وكانت الجارية تصبّ الماء صباً، وكان الغلام يحدر الماء على ساعده حدراً، فميز بينهم بذلك.
ثم ردّ سليمان الهدية كما قال تعالى :﴿ فلما جاء ﴾ أي : الرسول الذي بعثته، والمراد به الجنس، قال أبو حيان وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث ﴿ سليمان ﴾ ورفع إليه ذلك ﴿ قال ﴾ أي : سليمان عليه السلام للرّسول ولمن في خدمته استصغاراً لما معه ﴿ أتمدّونني ﴾ أي : أنت ومن معك ومن أرسلك ﴿ بمال ﴾ وإنما قصدي لكم لأجل الدين تحقيراً لأمر الدنيا وإعلاماً بأنه لا التفات له نحوها بوجه ولا يرضيه شيء دون طاعة الله تعالى، وقرأ نافع وأبو عمرو : بإثبات الياء وصلاً لا وقفاً، وابن كثير : بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، وحمزة بإدغام النون الأولى في الثانية وإثبات الياء وصلاً ووقفاً، ثم تسبب عن ذلك قوله استصغاراً لما معهم ﴿ فما آتاني الله ﴾ أي : الملك الأعظم من الحكمة والنبوّة والملك، وهو الذي يغني مطيعه عن كل شيء سواه فمهما سأله أعطاه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص : بفتح الياء في الوصل، ولقالون وأبي عمرو وحفص أيضاً إثباتها وقفاً، والباقون بحذف الياء وقفاً ووصلاً، وأمالها حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين ﴿ خير ﴾ أي : أفضل ﴿ مما آتاكم ﴾ أي : من الملك الذي لا دين ولا نبوّة فيه ﴿ بل أنتم ﴾ أي : بجهلكم بالدين ﴿ بهديتكم ﴾ أي : بإهداء بعضكم إلى بعض ﴿ تفرحون ﴾ وأمّا أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي لأنّ الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوّة.
ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد ﴿ ارجع ﴾ أي : بهديتهم وجمع في قوله ﴿ إليهم ﴾ إكراماً لنفسه وصيانة لاسمها عن التصريح بضميرها وتعظيماً لكل من يهتم بأمرها ويطيعها ﴿ فلنأتينهم بجنود لا قبل ﴾ أي : لا طاقة ﴿ لهم بها ﴾ أي : بمقابلتها ﴿ ولنخرجنهم منها ﴾ أي : من أرضهم وبلادهم وهي سبأ ﴿ أذلة وهم صاغرون ﴾ أي : ذليلون لا يملكون شيئاً من المنعة.
فإن قيل : فلنأتينهم ولنخرجنهم قسم فلا بدّ أن يقع ؟ أجيب : بأنه معلق على شرط محذوف لفهم المعنى، أي : إن لم يأتوني مسلمين، قال وهب وغيره من أهل الكتب، لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت لهم قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به من طاقة فبعثت إلى سليمان أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعلته داخل سبعة أبواب داخل قصرها وقصرها داخل سبعة قصور وأغلقت الأبواب وجعلت عليها حرّاساً يحفظونه، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما وكلتك وبسرير ملكي لا يخلص إليه أحد حتى آتيك، ثم أمرت منادياً ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل وتجهزت للمسير فارتحلت في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يد كل قيل ألوف كثيرة.
قال ابن عباس : كان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوماً فجلس على سرير ملكه فرأى رهجاً قريباً منه، فقال ما هذا ؟ قالوا بلقيس وقد نزلت منا على مسيرة فرسخ.
فأقبل سليمان حينئذ على جنوده بأن ﴿ قال ﴾ لهم ﴿ يا أيها الملأ ﴾ أي : الأشراف ﴿ أيكم ﴾ وفي الهمزتين ما تقدم ﴿ يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ﴾ أي : مؤمنين، وقال ابن عباس : واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها فقال أكثرهم : لأنّ سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها، وقيل : ليريها قدرة الله تعالى ببعض ما خصه به من العجائب الدالة على عظيم القدرة وصدقه في دعوى النبوّة في معجزة يأتي بها في عرشها، وقال قتادة : لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد بالعظم فأحبّ أن يراه، وقال ابن زيد : يريد أن يأمر بتنكيره وتغييره فيختبر بذلك عقلها.
﴿ قال عفريت من الجن ﴾ وهو المارد القوي، قال وهب : اسمه كودي، وقيل : ذكوان، وقال ابن عباس العفريت الداهي، وقال الضحاك : هو الخبيث، وقال الربيع : الغليظ، وقال الفراء : القويّ الشديد، قيل : إنّ الشياطين أقوى من الجنّ وأنّ المردة أقوى من الشياطين وأنّ العفريت أقوى منهما، قال بعض المفسرين العفريت من الرجال الخبيث المتكبر، وقيل : هو صخر الجني وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه، وقوله تعالى ﴿ أنا آتيك به ﴾ قرأه في الموضعين نافع بإثبات الألف من أنا وصلاً ووقفاً، والباقون وصلاً لا وقفاً، ثم بيّن سرعة إسراعه بقوله ﴿ قبل أن تقوم من مقامك ﴾ أي : الذي تجلس فيه للقضاء، قال ابن عباس : كان له غداة كل يوم مجلس يقضي فيه إلى نصف النهار، ثم أوثق الأمر وأكده بقوله ﴿ وإني عليه ﴾ أي : على الإتيان به سالماً ﴿ لقويّ ﴾ أي : على حمله لا يحصل عجزي عنه ﴿ أمين ﴾ أي : على ما فيه من الجواهر وغيرها.
قال سليمان عليه السلام أريد أسرع من ذلك ﴿ قال الذي عنده علم من الكتاب ﴾ المنزل وهو علم الوحي والشرائع، وقيل : كتاب سليمان، وقيل : اللوح المحفوظ، والذي عنده علم من الكتاب جبريل، قال البقاعي ولعله التوراة والزبور انتهى، وفي ذلك إشارة إلى أنّ من خدم كتاب الله حق الخدمة كان الله تعالى معه، كما ورد في شرعنا «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويديه التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها »، أي : أنه يفعل له ما يشاء.
واختلفوا في تعيينه : فقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخيا كاتب سليمان، وقيل اسمه أسطوم وكان صديقاً عالماً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى، وقيل ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، وعن ابن لهيعة بلغني أنه الخضر عليه السلام ﴿ أنا آتيك به ﴾ ثم بين فضله على العفريت بقوله ﴿ قبل أن يرتدّ ﴾ أي : يرجع ﴿ إليك طرفك ﴾ أي : بصرك إذا طرفت أجفانك فأرسلته إلى منتهاه، ثم رددته فالطرف : تحريكك أجفانك إذا نظرت فوضع في موضع النظر. ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال الطرف في نحو قوله :
وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
وصف برد الطرف ووصف الطرف بالارتداد، روي أن آصف قال لسليمان مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ سليمان عينيه فنظر نحو اليمين ودعا آصف فبعث الله تعالى الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يجدّون جداً حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان، وقال الكلبي : خرّ آصف ساجداً ودعا باسم الله الأعظم فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع تحت كرسي سليمان بقدرة الله تعالى، وقيل : كانت المسافة شهرين، وقال سعيد بن جبير : يعني من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك، وقال قتادة : قبل أن يأتيك الشخص من مدّ البصر، وقال مجاهد : يعني : إدامة النظر حتى يرد البصر خاسئاً، قال الزمخشري : ويجوز أن يكون هذا مثلاً لاستقصار مدّة المجيء به، كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وفي ردّ طرف والتفت ترني وما أشبه ذلك تريد السرعة انتهى.
واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف : فقال مجاهد ومقاتل : بياذا الجلال والإكرام، وقال الكلبي : يا حيّ يا قيوم، وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وروي عن الزهريّ قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها، وعن الحسن يا الله يا رحمن، وقال محمد بن المنكدر إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله تعالى علماً وفهماً أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك قال سليمان هات قال أنت النبيّ ابن النبيّ وليس أحد أوجه عند الله منك فإن دعوت الله كان عندك فقال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت.
قال الرازي وهذا القول أقرب واستدل لذلك بوجوه منها : أنّ سليمان كان أعرف بالكتاب من غيره لأنه هو النبي فكان صرف اللفظ إليه أولى، ومنها : أنّ إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق، ومنها : أنه قال هذا من فضل ربي فظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.
﴿ فلما رآه ﴾ أي : رأى سليمان العرش ﴿ مستقرّاً عنده ﴾ أي : حاصلاً بين يديه ﴿ قال ﴾ شاكراً لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق ﴿ هذا ﴾ أي : الإتيان المحقق ﴿ من فضل ربي ﴾ أي : المحسن إليّ لا بعمل أستحق به شيئاً فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم ونظر إليّ بتوفيقي للعمل فكل عمل نعمة يستوجب عليّ بها الشكر، ولذلك قال ﴿ ليبلوني ﴾ أي : ليختبرني ﴿ أأشكر ﴾ فاعترف بكونه فضلاً ﴿ أم أكفر ﴾ بظني أني أوتيته باستحقاق.
تنبيه : ههنا همزتان مفتوحتان فنافع يسهل الهمزة الثانية، وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام، ولم يدخل ورش وابن كثير، ولورش أيضاً إبدالها ألفا، والباقون بالتحقيق وعدم الإدخال، ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله ﴿ ومن شكر ﴾ أي : أوقع الشكر لربه ﴿ فإنما يشكر لنفسه ﴾ فإن نفعه لها وهو أن يستوجب تمام النعمة ودوامها لأنّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وجلب للنعمة المفقودة ﴿ ومن كفر ﴾ أي : بالنعمة ﴿ فإنّ ربي ﴾ أي : المحسن إليّ بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر ﴿ غني ﴾ عن شكره لا يضرّه تركه شيئاً ﴿ كريم ﴾ أي : بإدرار الإنعام عليه فلا يقطعه عنه بسبب عدم شكره.
ولما حصل العرش عنده ﴿ قال ﴾ عليه السلام ﴿ نكروا ﴾ أي : غيروا ﴿ لها عرشها ﴾ أي : سريرها إلى حالة تنكره إذا رأته، قال قتادة ومقاتل : هو أن يزاد فيه وينقص، وروي أنه جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر اختباراً لعقلها، كما اختبرتنا بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك.
وإليه أشار بقوله ﴿ ننظر أتهتدي ﴾ أي : إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهدايتها في الدين ﴿ أم تكون من الذين ﴾ شأنهم أنهم ﴿ لا يهتدون ﴾ بل هم في غاية الغباوة ولا يتجدّد لهم اهتداء، وقال وهب ومحمد بن كعب : إنما حمل سليمان على ذلك، أنّ الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي له أسرار الجنّ لأنّ أمها كانت جنية وإذا ولدت له ولداً لا ينفكون عن تسخير سليمان وذرّيته من بعده، فأساؤوا الثناء عليها ليزهدوه فيها، فقالوا : إنّ في عقلها شيئاً وإنّ رجليها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين، فأراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح.
ثم أشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله :﴿ فلما جاءت ﴾ وكانت قد وضعت عرشها في بيت خلف سبعة أبواب ووكلت به حراساً أشدّاء ﴿ قيل ﴾ لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره ﴿ أهكذا عرشك ﴾ أي : مثل هذا عرشك ﴿ قالت كأنه هو ﴾ قال مقاتل : عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها، وقال عكرمة : كانت حكيمة لم تقل نعم خوفاً من أن تكذب ولم تقل لا خوفاً من التكذيب فقالت كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر، وقيل : اشتبه عليها أمر العرش لأنها خلفته في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها فقيل لها فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب.
وقوله تعالى :﴿ وأوتينا العلم من قبلها ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة الدال عليها السياق، والمعنى : وأوتينا العلم بنبوّة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة، وذلك لما رأت قبل ذلك من أمر الهدهد ورد الهدية والرسل من قبلها من قبل الآية في العرش ﴿ وكنا مسلمين ﴾ أي : منقادين طائعين لأمر سليمان، والثاني : أنه من كلام سليمان وأتباعه فالضمير في قبلها عائد على بلقيس فكان سليمان وقومه قالوا : إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة وقد رزقت الإسلام، ثم عطفوا على ذلك قولهم ﴿ وأوتينا العلم ﴾ يعني بالله تعالى وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة في مثل علمها وغرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزيد التقديم في الإسلام قاله مجاهد، وقيل : معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله تعالى.
واختلف في فاعل قوله عز وجل :﴿ وصدّها ما كانت تعبد من دون الله ﴾ على ثلاثة أوجه : أحدها : ضمير البارئ تعالى، الثاني ضمير سليمان عليه السلام، أي : منعها ما كانت تعبد من دون الله وهو الشمس، وعلى هذا فما كانت تعبد منصوب على إسقاط الخافض، أي : وصدّها الله تعالى أو سليمان عما كانت تعبد من دون الله قاله الزمخشريّ مجوزاً له، قال أبو حيان وفيه نظر من حيث إنّ حذف الجار ضرورة كقوله :
تمرّون الديار فلم تعوجوا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع، والثالث : أنّ الفاعل هو ما كانت أي : صدّها ما كانت تعبد عن الإسلام أي : صدّها عبادة الشمس عن التوحيد وقوله تعالى :﴿ إنها كانت من قوم كافرين ﴾ استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت بينهم ولم تعرف العبادة ولم تعرف إلا عبادة الشمس.
ولما تم ذلك فكأنه قيل : هل كان بعد ذلك اختبار فقيل نعم ﴿ قيل لها ﴾ أي : قائل من جنود سليمان عليه السلام فلم يمكنها المخالفة ﴿ ادخلي الصرح ﴾ وهو سطح من زجاج أبيض شفاف تحته ماء جار فيه سمك اصطنعه سليمان. ولما قالت له الشياطين إنّ رجليها كحافر الحمار وهي شعراء الساقين، فأراد أن ينظر إلى ساقيها من غير أن يسألها كشفهما، وقيل الصرح صحن الدار أجرى تحته الماء وألقى فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكف عليه الطير والجنّ والإنس، وقيل : اتخذ صحناً من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء ﴿ فلما رأته حسبته لجة ﴾ وهي معظم الماء ﴿ وكشفت عن ساقيها ﴾ لتخوضه فنظر إليها سليمان فرآها أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا أنها كانت شعراء الساقين.
فلما رأى سليمان ذلك صرف نظره عنها، وناداها بأن ﴿ قال ﴾ لها ﴿ إنه ﴾ أي : هذا الذي ظننته ماء ﴿ صرح ممرد ﴾ أي : مملس ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشعر ﴿ من ﴾ أي : كائن من ﴿ قوارير ﴾ أي : زجاج وليس بماء، ثم إنّ سليمان دعاها إلى الإسلام وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت بأن ﴿ قالت رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿ إني ظلمت نفسي ﴾ أي : بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك ﴿ وأسلمت مع سليمان لله ﴾ أي : مقرّة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية، ثم رجعت إشارة للعجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي بحر المعرفة فقالت ﴿ رب العالمين ﴾ فعممت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى، وقيل : إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت في نفسها إنّ سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا، فقولها ظلمت نفسي أي : بذلك الظنّ.
واختلفوا في أمرها بعد إسلامها هل تزّوجها سليمان عليه السلام ؟ فالذي عليه أكثر المفسرين فيما رأيت أنه تزوّج بها وكره ما رأى من شعر ساقيها فسأل الإنس ما يذهب هذا فقالوا الموس فقالت المرأة لا تمسني حديدة قط، فسأل الجنّ فقالوا لا ندري، فسأل الشياطين فقالوا إنا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ، فلما تزوّجها سليمان أحبها حباً شديداً وأقرّها على ملكها وأمر الجنّ فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها وارتفاعاً وحسناً، قال الطيبي سلحين ومؤمنة باليمن وغمدان قال في النهاية هم بضم الغين وسكون الميم البناء العظيم، وكان يزورها في الشهر مرّة ويقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له وقيل : إنها لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلاً من قومك أن أزوجك له قالت ومثلي يا نبيّ الله ينكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان، قال نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرّمي ما أحل الله، فقالت إن كان ولا بدّ فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوّجه بها ثم ردّها إلى اليمن وسلطن زوجها ذا تبع على اليمن وأمر زوبعة أمير جنّ اليمن أن يطيعه فبنى له المصانع ولم يزل أميراً حتى مات سليمان عليه السلام، فلما أن حال الحول وتبينت الجنّ موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجنّ إنّ الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرّقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان، وقيل : إنّ الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاثة عشر سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة فسبحان من يدوم ملكه وبقاؤه.
ولما أتم سبحانه وتعالى قصة سليمان وداود عليهما السلام ذكر قصة صالح عليه السلام وهي القصة الثالثة بقوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا ﴾ أي : بمالنا من العظمة ﴿ إلى ثمود أخاهم ﴾ أي : من القبيلة ﴿ صالحاً ﴾ ثم ذكر المقصود من الرسالة بما لا أعدل منه ولا أحسن بقوله :﴿ أن اعبدوا الله ﴾ أي : الملك الأعظم وحده ولا تشركوا به شيئاً، ثم تعجب منهم بما أشارت إليه الفاء وإذا المفاجأة من المبادرة إلى الافتراق بما يدعو إلى الاجتماع بقوله :﴿ فإذا هم ﴾ أي : ثمود ﴿ فريقان ﴾ وبين بقوله تعالى :﴿ يختصمون ﴾ أنهم فرقة افتراق بكفر وإيمان لا فرقة اجتماع في هدى وعرفان، ففريق صدق صالحاً واتبعه وفريق استمرّ على شركه وكذبه وكل فريق يقول أنا على الحق وخصمي على الباطل.
ثم استعطف صالح عليه السلام على المكذبين بأن ﴿ قال ﴾ لهم ﴿ يا قوم لم تستعجلون ﴾ أي : تطلبون العجلة بالإتيان ﴿ بالسيئة ﴾ أي : التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر ﴿ قبل ﴾ الحالة ﴿ الحسنة ﴾ من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم، والاستعجال : طلب الإتيان بالأمر قبل الوقت المضروب، واستعجالهم لذلك بالإصرار على سببه وقولهم استهزاءً ﴿ ائتنا بما تعدنا ﴾ وكانوا يقولون إنّ العقوبة التي يعدها صالح إن وقعت على زعمه تبنا حينئذ واستغفرنا، فحينئذ يقبل الله تعالى توبتنا ويدفع العذاب عنا.
فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب عقولهم واعتقادهم فقال :﴿ لولا ﴾ أي : هلا ولم لا ﴿ تستغفرون الله ﴾ أي : تطلبون غفرانه قبل نزول العذاب، فإنّ استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ تنبيهاً لهم على الخطأ فيما قالوه فإنّ العذاب إذا نزل بهم لا تقبل توبتهم.
تنبيه : وصف العذاب بأنه سيئة مجازاً إمّا لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً، وأمّا وصف الرحمة بأنها حسنة فقيل حقيقة وقيل مجاز.
ثم إنّ صالحاً عليه السلام لما قرّر لهم هذا الكلام الحق أجابوه بكلام فاسد بأن ﴿ قالوا ﴾ فظاظة وغلظة ﴿ اطّيرنا ﴾ أي : تشاءمنا ﴿ بك وبمن معك ﴾ أي : وبمن آمن بك، وذلك أن الله تعالى قد أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقحطوا، فقالوا حل بنا هذا الضرر والشدّة من شؤمك وشؤم أصحابك، قال الزمخشري : كان الرجل يخرج مسافراً فيمرّ بطائر فيزجره فإن مرّ سانحاً تيمن وإن مرّ بارحاً تشائم، قال الجوهريّ : السنيح والسانح ما ولاك ميامنه من ظبي أو طائر وغيرهما وبرح الظبي بروحاً إذا ولاك مياسره يمرّ من ميامنك إلى مياسرك والعرب تتطير بالبارح وتتفائل بالسانح، فلما نسبوا الخير والشرّ إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله تعالى وقسمته. تنبيه : أصل اطيرنا تطيرنا أدغمت التاء في الطاء واجتلبت همزة وصل.
ثم أجابهم صالح عليه السلام بأن ﴿ قال ﴾ لهم ﴿ طائركم ﴾ أي : ما يصيبكم من خير وشرّ ﴿ عند الله ﴾ أي : الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة وهو قضاؤه وقدره وليس شيء منه بيد غيره، وسمي طائراً لسرعة نزوله بالإنسان، فإنه لا شيء أسرع من قضاء محتوم، وقال ابن عباس : الشؤم أتاكم من عند الله تعالى بكفركم، وقيل : طائركم عملكم عند الله سمي طائراً لسرعة صعوده إلى السماء، ومنه قوله تعالى :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ﴾ ( الإسراء : ١٣ ) ﴿ بل أنتم قوم تفتنون ﴾ قال ابن عباس : تختبرون بالخير والشرّ كقوله تعالى :﴿ ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة ﴾ ( الأنبياء : ٣٥ ) وقال محمد بن كعب : تعذبون، وقيل : يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم بالتطير.
لما أخبر الله تعالى عن عامة هذا الفريق بالشرّ نبه على بعض شرّهم بقوله تعالى :
﴿ وكان في المدينة ﴾ أي : مدينة ثمود وهي الحجر ﴿ تسعة رهط ﴾ أي : رجال وإنما جاز تمييزاً لتسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة فكأنه قيل تسعة أنفس أو رجال كما قدّرته، والفرق بين الرهط والنفر أنّ الرهط من الثلاثة إلى العشرة أو من السبعة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة.
وأسماؤهم عن وهب : الهذيل بن عبد رب غنم بن غنم، رياب بن مهرج، مصدع بن مهرج، عمير بن كردبة، عاصم بن مخرمة، سبيط بن صدقة، سمعان بن صفي، قدار بن سالف وهم الذي سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح وكانوا من أبناء أشرافهم ورأسهم قدار بن سالف وهو الذي تولى عقر الناقة، وقوله :﴿ يفسدون في الأرض ﴾ إشارة إلى عموم فسادهم ودوامه وقوله :﴿ ولا يصلحون ﴾ يحتمل أن يكون مؤكداً للأوّل ويحتمل أن لا يكون وهو الأولى، لأنّ بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح فنفى عنهم ذلك فليس شأنهم إلا الفساد المحض الذي لا يخالطه شيء من الصلاح.
ولما اقتضى السياق السؤال عن بعض حالهم أجاب بقوله :﴿ قالوا تقاسموا ﴾ أي : قال بعضهم لبعض احلفوا ﴿ بالله ﴾ أي : الملك العظيم ﴿ لنبيتنه ﴾ أي : صالحاً ﴿ وأهله ﴾ أي : من آمن به لنهلكنّ الجميع ليلاً، فإنّ البيات مباغتة العدوّ ليلاً.
تنبيه : محل تقاسموا جزم على الأمر، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً، وحينئذ يجوز أن يكون مفسراً لقالوا كأنه قيل : ما قالوا : فقيل تقاسموا، ويجوز أن يكون حالاً على إضمار قدر أي : قالوا ذلك متقاسمين وإليه ذهب الزمخشريّ.
﴿ ثم لنقولنّ ﴾ أي : بعد إهلاك صالح ومن معه ﴿ لوليه ﴾ أي : المطالب بدمه إن بقي منهم أحد ﴿ ما شهدنا ﴾ أي : ما حضرنا ﴿ مهلك ﴾ أي : إهلاك ﴿ أهله ﴾ أي : أهل ذلك الولي فضلاً عن أن نكون باشرنا أو أهل صالح عليه السلام فضلاً عن أن نكون شهدنا مهلكه أو باشرنا قتله ولا موضع إهلاكه، وقرأ حمزة والكسائي بعد اللام من لنبيتنه بتاء فوقية مضمومة وبعد الياء التحتية بتاء فوقية مضمومة وبعد اللام من ليقولنّ بتاء فوقية مفتوحة وضمّ اللام بعد الواو، والباقون بعد اللام من لنقولنّ بنون مفتوحة ونصب اللام من لنقولنّ، وقرأ عاصم مهلك بفتح الميم، والباقون بضمها، وكسر اللام حفص، وفتحها الباقون.
ولما صمموا على هذا الأمر وظنوا أنفسهم على المبالغة في الحلف بقولهم ﴿ وإنا لصادقون ﴾ أي : في قولنا ما شهدنا مهلك أهله ذلك، فإن قيل : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه ؟ أجيب : على التفسير الثاني بأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين، ثم قالوا ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما، كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما، وفي هذا دليل قاطع على أنّ الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم إلا أنهم قصدوا قتل نبيّ الله ولم يرضوا لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سوّوا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون فيها عن الكذب.
ولما كان منهم عمل من لم يظنّ أنّ الله عالم به قال تعالى محذراً أمثالهم عن أمثال ذلك :﴿ ومكروا مكراً ﴾ وهو ما أخفوه من تدبيرهم الفتك بصالح وأهله ﴿ ومكرنا مكراً ﴾ أي : جازيناهم على مكرهم بتعجيل العقوبة ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أي : لا يتجدّد لهم شعور بما قدّرناه عليهم، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة، وقيل : إنّ الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرّز عنهم فذاك مكر الله تعالى في حقهم.
﴿ فانظر كيف كان عاقبة مكرهم ﴾ في ذلك ﴿ أنا دمرناهم ﴾ أي : أهلكناهم ﴿ وقومهم أجمعين ﴾ روي أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاثة فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة من أهضب جبالهم فبادروا إلى الشعب فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل الله تعالى بهم وبقومهم، وعذب الله تعالى كلاً منهم في مكانه بصيحة جبريل عليه السلام ورمتهم الملائكة بحجارة يرونها ولا يرونهم.
وقال ابن عباس : أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم، وقال مقاتل : نزلوا في سفح الجبل ينتظر بعضهم بعضاً ليأتوا دار صالح فحمى عليهم الجبل فأهلكهم وأهلك الله تعالى قومهم بالصيحة.
﴿ فتلك بيوتهم ﴾ أي : ثمود كلهم ﴿ خاوية ﴾ أي : خالية من خوى البطن إذا خلا أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط.
تنبيه : خاوية منصوب على الحال، والعامل فيها معنى اسم الإشارة، وقرأ الكوفيون أنا دمرناهم بفتح الهمزة إما على حذف حرف الجرّ، أي : لأنا دمرناهم وإمّا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي : هي أنا دمرناهم أي : العاقبة تدميرنا إياهم، وقيل غير ذلك، والباقون بكسر الهمزة على الاستئناف وهو تفسير للعاقبة، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتهم بضم الباء الموحدة، وكسرها الباقون، ولما ذكر تعالى هلاكهم اتبعه بقوله تعالى :﴿ بما ظلموا ﴾ أي : بسبب ظلمهم وهو عبادتهم من لا يستحق العبادة وتركهم من يستحقها، ثم زاد في التهويل بقوله تعالى :﴿ إن في ذلك ﴾ أي : هذا الأمر الباهر للعقول الذي فعل بثمود ﴿ لآية ﴾ أي : عبرة عظيمة ولكنها ﴿ لقوم يعلمون ﴾ قدرتنا فيتعظون أما من لا علم عنده فقد نادى على نفسه في عداد البهائم.
ولما ذكر تعالى الذين أهلكهم أتبعه بذكر الذين نجاهم فقال :﴿ وأنجينا ﴾ أي : بعظمتنا وقدرتنا ﴿ الذين آمنوا ﴾ وهم الفريق الذين كانوا مع صالح كلهم ﴿ وكانوا يتقون ﴾ أي : متصفين بالتقوى أيضاً فكأنهم مجبولون عليه فيجعلون بينهم وبين ما يسخط الله وقاية من الأعمال الصالحة.
ولما ذكر تعالى قصة صالح عليه السلام أتبعها قصة لوط عليه السلام وهي القصة الرابعة بقوله تعالى :﴿ ولوطاً ﴾ وهو إما منصوب عطفاً على صالح، أي : وأرسلنا لوطاً، وإما عطفاً على الذين آمنوا أي : وأنجينا لوطاً، وإما باذكر مضمرة ويبدل منه على هذا.
﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ قال لقومه ﴾ أي : الذين كان سكن فيهم لما فارق عمه إبراهيم الخليل عليهما السلام وصاهرهم وكانوا يأتون الأحداث منكراً موبخاً ﴿ أتأتون الفاحشة ﴾ أي : الفعلة المتناهية في الفحش ﴿ وأنتم تبصرون ﴾ من بصر القلب، أي : تعلمون فحشها واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح، أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معلنين لا يستتر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة وانهماكاً في المعصية، قال الزمخشري وكان أبا نواس بنى على مذهبهم قوله :
وبح باسم ما تأتي وذرني من الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر
أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم، فإن قيل : إذا فسر تبصرون بالعلم وبعده بل أنتم قوم تجهلون فكيف يكونون علماء جهلاء ؟.
أجيب : بأنهم يفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمهم بذلك أو يجهلون العاقبة، أو أنّ المراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها.
ثم عين ما أبهمه بقوله :﴿ أئنكم لتأتون ﴾ وقال ﴿ الرجال ﴾ إشارة إلى أنّ فعلتهم هذه مما يعني الوصف ولا يبلغ كنه قبحها ولا يصدّق ذو عقل أنّ أحداً يفعلها، ثم علل ذلك بقوله ﴿ شهوة ﴾ إنزالاً لهم إلى رتبة البهائم التي ليس فيها قصد ولد ولا إعفاف، وقال ﴿ من دون النساء ﴾ إشارة إلى أنهم أساؤوا من الطرفين في الفعل والترك، وقوله :﴿ بل أنتم قوم تجهلون ﴾ تقدّم في جواب تبصرون تفسيره، فإن قيل : تجهلون صفة لقوم والموصوف لفظه لفظ الغائب فهلا طابقت الصفة الموصوف ؟ أجيب : بأنه قد اجتمعت الغيبة والمخاطبة فغلبت المخاطبة لأنها أقوى وأرسخ أصلاً من الغيبة، وقرأ أئنكم نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة كالياء، وحققها الباقون، وأدخل بينهما قالون وأبو عمرو ألفاً، وهشام بخلاف عنه.
لما بين تعالى بجهلهم بين أنهم أجابوا بما لا يصلح أن يكون جواباً بقوله تعالى :﴿ فما كان جواب قومه ﴾ أي : لهذا الكلام الحسن لما لم يكن لهم حجة ولا شبهة في دفعه ﴿ إلا أن قالوا ﴾ عدولاً إلى المغلابة وتمادياً في الخبث ﴿ أخرجوا آل لوط ﴾ أي : أهله وقولوا ﴿ من قريتكم ﴾ مناً عليه بإسكانه عندهم، وعللوا ذلك بقولهم ﴿ إنهم أناس يتطهرون ﴾ أي : يتنزهون عن القاذورات كلها فينكرون هذا العمل القذر ويغيظنا إنكارهم، وعن ابن عباس : هو استهزاء أي : قالوه تهكماً بهم.
ولما وصولوا في الخبث إلى هذا الحدّ سبب سبحانه وتعالى عن قولهم وفعلهم قوله تعالى :﴿ فأنجيناه وأهله ﴾ أي : كلهم من أن يصلوا إليهم بأذى ويلحقهم من عذابنا ﴿ إلا امرأته قدرناها ﴾ أي : قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا ﴿ من الغابرين ﴾ أي : الباقين في العذاب، وقرأ شعبة بتخفيف الدال والباقون بالتشديد.
﴿ وأمطرنا عليهم مطراً ﴾ هو حجارة السجيل، أي : أهلكتهم ولذلك تسبب عنه قوله ﴿ فساء ﴾ أي : فبئس ﴿ مطر المنذرين ﴾ بالعذاب مطرهم.
ولما أتم سبحانه وتعالى هذه القصص الدالة على كمال قدرته وعظيم شأنه وما خص به رسله من الآيات والانتصار من البعداء أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحمده على هلاك الأمم الخالية بقوله :﴿ قل ﴾ يا أفضل الخلق. ﴿ الحمد ﴾ أي : الوصف بالإحاطة بصفات الكمال ﴿ لله ﴾ على إهلاك هؤلاء البعداء البغضاء، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك بقوله تعالى :﴿ وسلام على عباده الذين اصطفى ﴾ أي : اصطفاهم، واختلف فيهم فقال مقاتل : هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى :﴿ وسلام على المرسلين ﴾ ( الصافات، ١٨١ ) وقال ابن عباس في رواية أبي مالك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين.
تنبيه : سلام مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه دعاء.
ولما بين أنه تعالى أهلكهم ولم تغن عنهم آلهتهم من الله شيئاً قال تعالى :﴿ آلله ﴾ أي : الذي له الجلال والإكرام ﴿ خير ﴾ أي : لعباده الذين اصطفاهم وأنجاهم ﴿ أم ما يشركون ﴾ أي : الكفار من الآلهة خير لعبادها فإنهم لا يغنون عنهم شيئا. ً
تنبيه : لكل من القراء السبعة في هاتين الهمزتين وجهان : الأوّل : تحقيق همزة الاستفهام وإبدال همزة الوصل ألفاً مع المدّ، والثاني : تحقيق همزة الاستفهام أيضاً وتسهيل همزة الوصل مع القصر، وقرأ أبو عمرو وعاصم يشركون بالياء التحتية بالغيبة حملاً على ما قبله من قوله تعالى :﴿ وأمطرنا عليهم مطراً ﴾ وما بعده من قوله تعالى :﴿ بل أكثرهم ﴾ والباقون بالتاء الفوقية على الخطاب، وهو التفات للكفار، بعد خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا تبكيت للمشركين بحالهم لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى، ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة، فقيل لهم هذا الكلام تنبيهاً لهم على نهاية ضلالهم وجهلهم وتهكماً بهم وتسفيهاً لرأيهم إذ من المعلوم أنه لا خير فيما أشركوه رأساً حتى يوازنون بينه وبين من هو مبتدأ كل خير.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال :«بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم ».
ثم عدد سبحانه وتعالى أنواعاً من الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله : الأوّل منها قوله تعالى :﴿ أم من خلق السماوات والأرض ﴾ أي : التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع، فإن قيل : ما الفرق بين أم وأم في ﴿ أم ما يشركون ﴾ و﴿ أم من خلق السماوات ﴾ ؟ أجيب : بأنّ تلك متصلة لأنّ المعنى أيهما خير، وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال الله خير أم الآلهة قال بل أم من خلق السماوات والأرض خير تقريراً لهم بأنّ من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء ﴿ وأنزل لكم ﴾ أي : لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره ﴿ من السماء ماء ﴾ هو للأرض كالماء الدافق للأرحام ﴿ فأنبتنا به حدائق ﴾ جمع حديقة وهي البستان، وقيل : القطعة من الأرض ذات الماء.
قال الراغب : سميت بذلك تشبهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، وقال غيره : سميت بذلك لإحداق الجدران بها قاله ابن عادل، وليس بشيء لأنه يطلق عليها ذلك مع عدم الجدران ﴿ ذات بهجة ﴾ أي : بهاء وحسن ورونق وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها وتباين طعومها وأشكالها ومقاديرها وألوانها. ولما أثبت الإنبات له نفاه عن غيره بقوله تعالى :﴿ ما كان ﴾ أي : ما صح وما تصوّر بوجه من الوجوه ﴿ لكم ﴾ وأنتم أحياء فضلاً عن شركائكم الذين هم أموات بل موات ﴿ أن تنبتوا شجرها ﴾ أي : شجر تلك الحدائق ﴿ أإله مع الله ﴾ أعانه على ذلك، أي : ليس معه إله ﴿ بل هم ﴾ أي : في ادعائهم معه سبحانه شريكاً ﴿ قوم يعدلون ﴾ أي : عن الحق الذي لا مرية فيه إلى غيره، وقيل : يعدلون عن هذا الحق الظاهر، ونظير هذه الآية أوّل سورة الأنعام.
الثاني : منها قوله تعالى :﴿ أم من جعل الأرض قراراً ﴾ وهو بدل من ﴿ أم من خلق السماوات ﴾ وحكمه حكمه، ومعنى قراراً ألا تميد بأهلها، وكان القياس يقتضي أن تكون هادئة أو مضطربة كما يضطرب ما هو معلق في الهواء، ولكن الله تعالى أبدى بعضها من الماء بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها ﴿ وجعل خلالها ﴾ أي : وسطها ﴿ أنهاراً ﴾ أي : جارية على حالة واحدة فلو اضطربت الأرض أدنى اضطراب لتغيرت مجاري المياه.
ثم ذكر تعالى سبب القرار بقوله تعالى :﴿ وجعل لها رواسي ﴾ أي : جبالاً أثبت بها الأرض على ميزان دَبَّرهُ سبحانه وتعالى في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب.
ولما كان بعض مياه الأرض عذباً وبعضها ملحاً مع القرب جدّاً، بيّن الله تعالى أن أحدهما لم يختلط بالآخر بقوله تعالى :﴿ وجعل بين البحرين ﴾ أي : العذب والملح ﴿ حاجزاً ﴾ من قدرته يمنع أحدهما أن يختلط بالآخر ﴿ أإله مع الله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرة معين له على ذلك ﴿ بل أكثرهم ﴾ أي : الذين ينتفعون بهذه المنافع ﴿ لا يعلمون ﴾ توحيد ربهم بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح.
تنبيه : في قراءة أإله مثل أئنكم.
الثالث : منها قوله تعالى :﴿ أم من يجيب المضطرّ ﴾ أي : المكروب وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرّع إلى الله تعالى ﴿ إذا دعاه ﴾ وقت اضطراره، وعن ابن عباس : هو المجهود، وعن السدي هو الذي لا حول له ولا قوة. فإن قيل : هذا يعم كل مضطرّ وكم مضطرّ يدعو فلا يجاب ؟ أجيب : بأنّ اللام فيه للجنس لا للاستغراق ولا يلزم منه إجابة كل مضطرّ، وقوله تعالى :﴿ ويكشف السوء ﴾ كالتفسير للاستجابة وأنه لا يقدر أحد على كشف ما وقع له من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة إلا القادر الذي لا يعجزه شيء والقاهر الذي لا ينازع، والإضافة في قوله تعالى :﴿ ويجعلكم خلفاء الأرض ﴾ بمعنى في أي يخلف بعضكم بعضاً لا يزال يجدّد ذلك بإهلاك قرن وإنشاء آخر إلى قيام الساعة ﴿ أإله مع الله ﴾ أي : الملك الذي لا كفؤ له ثم استأنف التبكيت تفظيعاً له ومواجهاً به بقوله تعالى :﴿ قليلاً ما تذكرون ﴾ أي : تتعظون وقرأ أبو عمرو وهشام بالياء، التحتية على الغيبة، والباقون بالخطاب وفيه ادغام التاء في الذال وما زائدة لتقليل القليل.
الرابع منها : قوله تعالى :﴿ أم من يهديكم ﴾ أي : يرشدكم إلى مقاصدكم ﴿ في ظلمات البر ﴾ أي : بالنجوم والجبال والرياح ﴿ والبحر ﴾ بالنجوم والرياح ﴿ ومن يرسل الرياح ﴾ أي : التي هي دلائل السير ﴿ بُشراً ﴾ أي : تنشر السحاب وتجمعها ﴿ بين يدي رحمته ﴾ أي : التي هي المطر تسمية للمسبب باسم السبب والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربع : التي من تجاه الكعبة الصبا، ومن ورائها الدبور، ومن جهة يمينها الجنوب، ومن شمالها الشمال ولكل منها طبع فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة وهي ريح الجنة التي تهب على أهلها جعلنا الله ووالدينا ومشايخنا وأصحابنا ومن انتفع بشيء من هذا التفسير ودعا لنا بالمغفرة منهم، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير الريح بالإفراد، والباقون بالجمع، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو نشراً بضم النون والشين وابن عامر بضم النون وسكون الشين، وحمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين وعاصم بالباء الموحدة مضمومة وسكون الشين. ولما انكشف بما مضى من الآيات ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات واتضحت الأدلة، ولم يبق لأحد في شيء من ذلك علة، كرّر سبحانه وتعالى الإنكار في قوله تعالى ﴿ أإله مع الله ﴾ أي : الذي كمل علمه ﴿ تعالى الله ﴾ أي : الفاعل القادر المختار ﴿ عما يشركون ﴾ به غيره، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة.
الخامس : منها قوله تعالى :﴿ أم من يبدأ الخلق ﴾ أي : كلهم في الأرحام من نطفة ما علمتم منهم وما لم تعلموا ﴿ ثم يعيده ﴾ أي : بعد الموت لأنّ الإعادة أهون، فإن قيل : كيف قيل : لهم ثم يعيده ؟ أجيب : بأنهم كانوا مقرين بالابتداء ودلالته على الإعادة ظاهرة قوية لأنّ الإعادة أهون عليه من الابتداء، فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لا عذر لهم في إنكار الإعادة لقيام البراهين عليها. ولما كان الإمطار والإنبات من أدلّ ما يكون على الإعادة قال مشيراً إليهما على وجه عمّ جميع ما مضى.
﴿ ومن يرزقكم من السماء ﴾ أي : بالمطر والحرّ والبرد وغيرها مما له سبب في التكوين أو التلوين ﴿ والأرض ﴾ أي : بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله تعالى : وعبر عنها بالرزق لأنّ به تمام النعمة ﴿ أإله مع الله ﴾ أي : الذي له صفات الجلال والإكرام. ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة ودلائل قاطعة أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إعراضاً عنهم بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء المدّعين للعقول ﴿ هاتوا برهانكم ﴾ أي : حجتكم على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى أو على إثبات شيء منه لغيره ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي : في أنكم على حق في أنّ مع الله تعالى غيره، وأضاف تعالى البرهان إليهم تهكماً بهم وتنبيهاً على أنهم أبعدوا في الضلال وأغرقوا في المحال.
ثم إنهم سألوه عن وقت قيام الساعة فنزل. ﴿ قل ﴾ أي : لهم ﴿ لا يعلم من في السماوات والأرض ﴾ من الملائكة والناس ﴿ الغيب ﴾ أي : ما غاب عنهم وقوله تعالى :﴿ إلا الله ﴾ استثناء منقطع أي : لكن الله يعلمه. ولما كان الله تعالى منزهاً عن أن يحويه مكان جعل الاستثناء هنا منقطعاً، فإن قيل : من حق المنقطع النصب ؟.
أجيب : بأنه رفع بدلاً على لغة بني تميم يقولون ما في الدار أحد إلا حمار يريدون ما فيها إلا حمار كأن أحداً لم يذكر، ومنه قولهم : ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا أخوانه، فإن قيل : ما الداعي إلى المذهب التميمي على الحجازي ؟ أجيب : بأنه دعت إليه حاجة سرية حيث أخرج المستثنى مخرج قوله إلا اليعافير بعد قوله ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس ليؤل المعنى إلى قولك إن كان الله ممن في السماوات والأرض فهم يعلمون الغيب بمعنى أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أنّ معنى ما في البيت أن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، إنباء عن خلوها عن الأنيس.
ويصح أن يكون متصلاً والظرفية في حقه تعالى مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز كما قال به إمامنا الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، وإن منعه بعضهم، ومن ذلك قول المتكلمين : الله تعالى في كل مكان على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها فكأن ذاته فيها، وعلى هذا فيرتفع على البدل والصفة، والرفع أفصح من النصب لأنه منفي، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول :﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ﴾ وعن بعضهم أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً لئلا يأمن أحد من عبيده مكره، وقوله تعالى :﴿ وما يشعرون ﴾ صفة لأهل السماوات والأرض نفي أن يكون لهم علم بالغيب، وإن اجتمعوا وتعاونوا ﴿ أيان ﴾ أي : أيّ وقت ﴿ يبعثون ﴾ أي : ينشرون.
وقوله تعالى :﴿ بل ﴾ بمعنى هل ﴿ أدارك ﴾ أي : بلغ وتناهى ﴿ علمهم في الآخرة ﴾ أي : بها حتى سألوا عن وقت مجيئها، ليس الأمر كذلك ﴿ بل هم في شك ﴾ أي : ريب ﴿ منها ﴾ كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلاً ﴿ بل هم منها عمون ﴾ لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم، وهذا وإن اختص بالمشركين بمن في السماوات والأرض، نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل.
فإن قيل : هذه الاضرابات الثلاثة ما معناها ؟ أجيب : بأنها لتنزيل أحوالهم وصفهم أوّلاً بأنّهم لا يشعرون بوقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أنّ القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه لا يخطر بباله حقاً ولا باطلاً ولا يفكر في عاقبة وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون، ووصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكماً.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير بقطع الهمزة مفتوحة وسكون اللام قبلها وسكون الدال بعدها، والباقون بكسر اللام وإسقاط الهمزة بعدها وتشديد الدال وبعدها ألف بمعنى تتابع حتى استحكم أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك.
وقوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا ﴾ أي : نحن وآباؤنا الذين طال العهد بهم ﴿ لمخرجون ﴾ كالنبات، والعامل في إذا محذوف يدل عليه لمخرجون تقديره نبعث ونخرج، لأنّ بين يدي عمل اسم المفعول فيه عقبات وهي همزة الاستفهام وإنا ولام الابتداء وواحدة منها كافية فكيف إذا اجتمعت، والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على إذا وأنا جميعاً إنكار على إنكار وجحود عقب جحود ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه، والضمير في إنا لهم ولآبائهم لأنّ كونهم تراباً قد تناولهم وآباؤهم.
تنبيه : آباؤنا عطف على اسم كان وقام الفصل بالخبر مقام الفصل بالتوكيد.
وقرأ نافع بالخبر في إذا وبالاستفهام في أئنا، وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني وزادا فيه نوناً ثانية، وباقي القراء بالاستفهام في الأوّل والثاني وهم على مذاهبهم من التسهيل والتحقيق والمدّ والقصر، فمذهب قالون وأبي عمرو التسهيل في الهمزة الثانية، وإدخال ألف بينها وبين همزة الاستفهام، ومذهب ورش وابن كثير التسهيل وعدم الإدخال ومذهب هشام الإدخال وعدمه مع التحقيق، ومذهب الباقين التحقيق وعدم الإدخال.
ثم أقام الكفار الدليل في زعمهم على ذلك فقالوا تعليلاً لاستبعادهم :﴿ لقد وعدنا هذا ﴾ أي : الإخراج من القبور كما كنا أوّل مرّة ﴿ نحن وآباؤنا من قبل ﴾ أي : قبل محمد فقد مرّت الدهور على هذا الوعد ولم يقع منه شيء فذلك دليل على أنه لا حقيقة له، فكأنه قيل : فما فائدة المراد به فقالوا ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هذا إلا أساطير الأوّلين ﴾ أي : أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها ولا حقيقة لها.
تنبيه : أساطير الأوّلين : جمع أسطورة بالضم أي : ما سطر من الكذب، فإن قيل : لم قدم في هذه الآية هذا، على نحن وآباؤنا، وفي آية أخرى قدم نحن وآباؤنا، على هذا ؟ أجيب : بأنّ التقديم دليل على أنّ المقدّم هو الغرض المقصود بالذكر وأنّ الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين دل على أنّ إيجاد البعث هو الذي تعمد بالكلام وفي الأخرى على أنّ إيجاد المبعوث بذلك الصدد.
ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم بما في صورة التهديد بقوله تعالى :﴿ قل سيروا في الأرض ﴾ أي : أيها العمي الجاهلون ﴿ فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ﴾ بإنكارهم وهي هلاكهم بالعذاب فإنكم إن نظرتم وتأمّلتم أخبارهم حق التأمّل أسرع بكم ذلك إلى التصديق فنجوتم وإلا هلكتم كما هلكوا، وأراد بالمجرمين الكافرين، فإن قيل : فلم لم يقل عاقبة الكافرين ؟ أجيب : بأنّ هذا يحصل به التخويف لكل العصاة.
ثم إنّ الله تعالى صبر نبيه صلى الله عليه وسلم على ما يناله من جلافتهم وعماهم عن السبيل الذي هدى إليه الدليل بقوله تعالى :﴿ ولا تحزن عليهم ﴾ أي : في عدم إيمانهم فإنما عليك البلاغ ﴿ ولا تكن في ضيق مما يمكرون ﴾ أي : لا تهتم بمكرهم عليك فأنا ناصرك عليهم وجاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح.
تنبيه : الضيق الحرج يقال ضاق الشيء ضيقاً وضيقاً بالفتح والكسر، ولهذا قرأ ابن كثير بكسر الضاد، والباقون بالفتح.
ولما أشار تعالى إلى أنهم لم يبقوا في المبالغة في التكذيب بالساعة وجهاً أشار تعالى إلى أنهم في التكذيب بالوعيد بالساعة وغيرها من عذاب الله أشدّ مبالغة بقوله تعالى :﴿ ويقولون ﴾ بالمضارع المؤذن بالتجدّد كل حين والاستمرار ﴿ متى هذا الوعد ﴾ أي : العذاب والبعث والمجازاة الموعود بها وسموه وعداً إظهاراً لمجيئه تهكماً به ﴿ إن كنتم ﴾ أي : أنت ومن تبعك ﴿ صادقين ﴾ فيه.
ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ لهم ﴿ عسى أن يكون ردف لكم ﴾ أي : تبعكم وردفكم ولحقكم، فاللام مزيدة على هذا للتأكيد كالباء في قوله ﴿ ولا تلقوا بأيديكم ﴾ ( البقرة، ١٩٥ ) ويصح أن يكون تضمن ردف معنى فعل فتعدى باللام نحو دنا وقرب وأردف وبهذا فسره ابن عباس، وقد عدّي بمن في قول القائل :
فلما ردفنا من عمير وصحبه تولوا سراعاً والمنية تعنق
يعني دنونا من عمير ﴿ بعض الذي تستعجلون ﴾ أي : فحصل لهم القتل ببدر وباقي العذاب يأتي بعد الموت.
تنبيه : عسى ولعلّ وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها، وإنما يطلقون إظهاراً لوقارهم وإشعاراً بأنّ الرمز منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيد.
ولما كان التقدير فإنّ ربك لا يعجل على هذا العاصي بالانتقام مع تمام قدرته عطف عليه :﴿ وإن ربك ﴾ أي : المحسن إليك بالحلم على أمّتك ﴿ لذو فضل ﴾ أي : تفضل وإنعام ﴿ على الناس ﴾ أي : كافة ﴿ ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾ أي : لا يعرفون حق النعمة له ولا يشكرونه بل يستعجلون بجهلهم العذاب، قال ابن عادل : وهذه الآية تبطل قول من قال لا نعمة لله على كافر.
﴿ وإن ربك ﴾ أي : والحال أنه ﴿ ليعلم ما تكنّ ﴾ أي : تضمر وتسرّ وتخفي ﴿ صدورهم ﴾ أي : الناس كلهم فضلاً عن قومك ﴿ وما يعلنون ﴾ أي : يظهرون من عداوتك وغيرها فيجازيهم على ذلك.
﴿ وما من غائبة في السماء والأرض ﴾ أي : في أيّ موضع كان منهما، وأفردهما دلالة على إرادة الجنس الشامل لكل فرد.
تنبيه : في هذه التاء قولان : أحدهما : أنها للمبالغة كراوية وعلاّمة في قولهم ويل للشاعر من راوية السوء، كأنه تعالى قال وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى، والثاني : أنها كالتاء الداخلة على المصادر نحو العاقبة والعافية، قال الزمخشريّ : ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات ﴿ إلا في كتاب ﴾ هو اللوح المحفوظ كتب فيه ذلك قبل إيجاده لأنه لا يكون شيء إلا بعلمه وتقديره ﴿ مبين ﴾ أي : ظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة.
ولما تمم تعالى الكلام في إثبات المبدأ والمعاد ذكر بعده ما يتعلق بالنبوّة بقوله تعالى :﴿ إنّ هذا القرآن ﴾ أي : الآتي به هذا النبيّ الأميّ الذي لم يعرف قبله علماً ولا خالط عالماً ﴿ يقص على بني إسرائيل ﴾ أي : الموجودين في زمان نبينا صلى الله عليه وسلم ﴿ أكثر الذي هم فيه يختلفون ﴾ أي : من أمر الدين وإن بالغوا في كتمه كقصة الزاني المحصن في إخفائهم أنّ حدّه الرجم، وقصة عزيز والمسيح، وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مما في توراتهم فصح بحقيقته على لسان من لم يلمّ بعلم قط نبوّته صلى الله عليه وسلم لأنّ ذلك لا يكون إلا من عند الله.
ثم وصف تعالى فضل هذا القرآن بقوله تعالى :﴿ وإنه لهدى ﴾ أي : من الضلالة لما فيه من الدلائل على التوحيد والحشر والنشر والنبوّة وشرح صفات الله تعالى ﴿ ورحمة ﴾ أي : نعمة وإكرام ﴿ للمؤمنين ﴾ أي : الذين طبعهم على الإيمان فهو صفة لهم راسخة كما أنه للكافرين وقر في آذانهم وعمى في قلوبهم.
ولما ذكر تعالى دليل فضله أتبعه دليل عدله بقوله تعالى :﴿ إن ربك ﴾ أي : المحسن إليك بما لم يصل إليه أحد ﴿ يقضي بينهم ﴾ أي : بين جميع المختلفين ﴿ بحكمه ﴾ أي : الذي هو أعدل حكم وأتقنه وأنفذه، فإن قيل : القضاء والحكم شيء واحد فقوله تعالى :﴿ يقضي بينهم بحكمه ﴾ أي : بما يحكم به كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه ؟ أجيب : بأنّ معنى قوله تعالى :﴿ بحكمه ﴾ أي : بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكماً أو أراد بحكمته ﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه هو ﴿ العزيز ﴾ أي : فلا يردّ له أمر ﴿ العليم ﴾ فلا يخفى عليه سرّ ولا جهر.
فلما ثبت له تعالى العلم والحكمة والعظمة والقدرة تسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿ فتوكل على الله ﴾ أي : ثق به لتدع الأمور كلها إليه وتستريح من تحمل المشاق وثوقاً بنصره، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ إنك على الحق المبين ﴾ أي : البين في نفسه الموضح لغيره فصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله تعالى ونصره.
وقوله تعالى :﴿ إنك لا تسمع الموتى ﴾ تعليل آخر للأمر بالتوكل من حيث إنه يقطع طمعه من معاضدتهم، وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله تعالى :﴿ ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ﴾ أي : معرضين، فإن قيل : ما معنى قوله تعالى :﴿ ولوا مدبرين ﴾ أجيب : بأنه تأكيد لحال الأصم لأنه إذا تباعد عن محل الداعي بأن تولى عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته، وقرأ ابن كثير ولا يسمع بالياء التحتية المفتوحة وفتح الميم الصم برفع الميم، والباقون بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم الصم بالنصب، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية من الدعاء إذاً كالياء مع تحقيق الأولى، والباقون بتحقيقهما وهم على مراتبهم في المدّ.
ثم قطع طمعه في إيمانهم بقوله تعالى :﴿ وما أنت بهادي العمي ﴾ أي : في أبصارهم وبصائرهم مزيلاً لهم وناقلاً ومبعداً ﴿ عن ضلالتهم ﴾ أي : عن الطريق بحيث تحفظهم عن أن يزلوا عنها أصلاً فإنّ هذا لا يقدر عليه إلا الحيّ القيوم، وقرأ حمزة تهدي بتاء فوقيه وسكون الهاء والعمي بنصب الياء، والباقون بالباء الموحدة مكسورة وفتح الهاء بعدها ألف والعمي بكسر الياء.
ولما كان هذا ربما أوقف عن دعائهم رجاه في انقيادهم وارعوائهم بقوله تعالى :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ تسمع ﴾ أي : سماع انتفاع على وجه الكمال في كل حال ﴿ إلا من يؤمن ﴾ أي : من علمنا أنه يصدّق ﴿ بآياتنا ﴾ بأن جعلنا فيه قابلية السمع، ثم تسبب عنه قوله دليلاً على إيمانه ﴿ فهم مسلمون ﴾ أي : مخلصون في غاية الطواعية لك كما في قوله تعالى :﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ﴾ ( البقرة : ١١٢ ) أي : جعله سالماً خالصاً.
ثم ذكر تعالى ما يوعدون مما تقدّم استعجالهم له استهزاء بقوله تعالى :﴿ وإذا وقع القول عليهم ﴾ أي : مضمون القول وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب، ووقوعه حصوله، أو أطلق المصدر على المفعول أي : المقول ﴿ أخرجنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ لهم ﴾ حين مشارفة العذاب والساعة وظهور أشراطها حين لا تنفع التوبة ﴿ دابة من الأرض ﴾ وهي الجساسة جاء في الحديث :«إن طولها ستون ذراعاً لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب » وروي :«أنّ لها أربع قوائم وزغباً وهو شعر أصفر على ريش الفرخ وريشاً وجناحين ».
وعن ابن جريج في وصفها فقال : رأسها رأس الثور، وعينها عين الخنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّ، وذنبها ذنب كبش، وخفها خف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً بذراع آدم عليه السلام، وروي أنها لا تخرج إلا رأسها ورأسها يبلغ عنان السماء أي : يبلغ السحاب، وعن أبي هريرة فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للرّاكب، وعن الحسن لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام.
وعن علي رضي الله تعالى عنه : أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها، وروي أنه صلى الله عليه وسلم سئل من أين تخرج الدابة فقال :«من أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن » حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد فقوم يهربون وقوم : يقفون نظاراً، وقيل تخرج من الصفا. ولما كان التعبير بالدابة يفهم أنها كالحيوانات العجم لا كلام لها قال ﴿ تكلمهم ﴾ أي : بالعربية كما قاله مقاتل بكلام يفهمونه بلسان طلق ذلق فتقول ﴿ أنّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ﴾ أي : أنّ الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأنّ خروجها من الآيات، وتقول ألا لعنة الله على الظالمين، وعن السدي : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام.
وعن ابن عمر : تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المشرق ثم الشأم ثم اليمن فتفعل مثل ذلك، وروي أنها تخرج من أجياد، روي بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو تترك وجهه كأنه كوكب دريّ وتكتب بين عينيه مؤمن، وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه وتكتب بين عينيه كافر، وروي فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتخطم أنف الكافر بالخاتم ثم تقول لهم يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار.
وعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«بادروا بالأعمال ستاً طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة وخاصة أحدكم وأمر العامة » وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ أوّل الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها ».
وقال صلى الله عليه وسلم «للدّابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها في البادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم تكمن زماناً طويلاً ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم بينا الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله عز وجلّ يعني المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو، قال الراوي ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وثبتت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى أنّ الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه فيتجاور الناس في ديارهم ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال ويعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر ».
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية يشير إلى أنها رجل، والأكثرون على أنها دابة، وعن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال إنّ الدابة لتسمع قرع عصاي هذه، وعن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :«بئس الشعب شعب أجياد مرّتين أو ثلاثاً قيل ولم ذاك يا رسول الله قال تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين » وقال وهب : وجهها وجه الرجل وسائر خلقها خلق الطير فتخبر من يراها أنّ أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون، وقرأ الكوفيون بفتح الهمزة من أنّ على تقدير الباء أي : بأنّ الناس الخ، والباقون بكسرها على الاستئناف.
﴿ ويوم نحشر ﴾ أي : الناس على وجه الإكراه، قال أبو حيان الحشر الجمع على عنف ﴿ من كل أمّة ﴾ أي : قرن ﴿ فوجاً ﴾ أي : جماعة ﴿ ممن يكذب بآياتنا ﴾ أي : وهم رؤساؤهم المتبوعون ﴿ فهم يوزعون ﴾ أي : يجمعون يرد آخرهم إلى أوّلهم وأطرافهم على أوساطهم ليتلاحقوا ولا يشذ منهم أحد ولا يزالون كذلك.
﴿ حتى إذا جاؤوا ﴾ إلى مكان الحساب ﴿ قال ﴾ أي : الله تعالى لهم ﴿ أكذبتم ﴾ أي : أنبيائي ﴿ بآياتي ﴾ التي جاؤوا بها ﴿ و ﴾ الحال أنكم ﴿ لم تحيطوا بها ﴾ أي : من جهة تكذيبكم ﴿ علماً ﴾ أي : من غير فكر ولا نظر يؤدّي إلى الإحاطة بما في معانيها وما أظهرت لأجله حتى تعلموا ما تستحقه وما يليق بها بدليل الأمر به فيه، وأم في قوله تعالى :﴿ أم ماذا ﴾ منقطعة وتقدّم حكمها، وماذا يجوز أن يكون برمته استفهاماً منصوباً بتعلمون الواقع خبراً عن كنتم، وأن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا موصول خبره والصلة ﴿ كنتم تعلمون ﴾. وعائده محذوف أي : أي شيء الذي كنتم تعملونه.
﴿ ووقع القول ﴾ أي : وجب العذاب الموعود ﴿ عليهم بما ظلموا ﴾ أي : بسبب ما وقع منهم من الظلم من صريح التكذيب وما ينشأ عنه من الضلال في الأقوال والأفعال ﴿ فهم لا ينطقون ﴾ قال قتادة : كيف ينطقون ولا حجة لهم نظير قوله تعالى :﴿ هذا يوم لا ينطقون ( ٣٥ ) ولا يؤذن لهم فيعتذرون ﴾ ( المرسلات : ٣٥، ٣٦ ) وقيل : لا ينطقون لأن أفواههم مختومة.
ثم إنه تعالى لما خوّفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد والحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال :﴿ ألم يروا ﴾ مما يدلهم على قدرتنا على بعثهم بعد الموت وعلى كل ما أخبرناهم به ﴿ أنا جعلنا ﴾ أي : بعظمتنا الدالة على نفوذ مرادنا وفعلنا بالاختيار ﴿ الليل ﴾ أي : مظلماً ﴿ ليسكنوا فيه ﴾ عن الانتشار ﴿ والنهار مبصراً ﴾ أي : يبصر فيه ليتصرفوا فيه ويبتغوا من فضل الله فحذف من الأوّل ما ثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما ثبت نظيره في الأول إذ التقدير جعلنا الليل مظلماً كما مرّ ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ليتصرفوا فيه كما مرّ فحذف مظلماً لدلالة مبصراً وليتصرفوا لدلالة لتسكنوا فيه وقوله تعالى :﴿ مبصراً ﴾ كقوله تعالى :﴿ آية النهار مبصرة ﴾ ( الإسراء : ١٢ ) وتقدم الكلام على ذلك في الإسراء.
قال الزمخشري : فإن قلت ما للتقابل لم يراع في قوله تعالى ليسكنوا ومبصراً حيث كان أحدهما علة والآخر حالاً ؟ قلت : هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف لأنّ معنى مبصراً ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب، وأجاب غيره بأنّ السكون في الليل هو المقصود ولأنه وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : هذا المذكور ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات بينة على التوحيد والبعث والنبوّة وغير ذلك وخص المؤمنين بقوله تعالى :﴿ لقوم يؤمنون ﴾ لأنهم المنتفعون به وإن كانت الأدلة للكل كقوله تعالى :﴿ هدى للمتقين ﴾ ( البقرة : ٢ ).
ولما ذكر تعالى هذا الحشر الخاص والدليل على مطلق الحشر ذكر الحشر العام بقوله تعالى :﴿ ويوم ينفخ ﴾ أي : بأيسر أمر ﴿ في الصور ﴾ أي : القرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام ﴿ ففزع ﴾ أي : فصعق كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ فصعق ﴾ ( الزمر، ٦٨ ) ﴿ من في السماوات ومن في الأرض ﴾ أي : كلهم فماتوا والمعنى أنه يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا، وقيل : ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين، فإن قيل : لم قال الله تعالى ففزع ولم يقل فيفزع ؟ أجيب : بأنّ في ذلك نكتة وهي الإشعار بتحقيق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة واقع على أهل السماوات والأرض لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به، والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون ﴿ إلاّ من شاء الله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرة وعزة وعظمة أن لا يفزع.
روي أنه صلى الله عليه وسلم «سأل جبريل عنهم فقال هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول العرش » وعن ابن عباس هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم، وعن مقاتل : هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، ويروى أنّ الله تعالى يقول لملك الموت خذ نفس إسرافيل ثم يقول الله تعالى من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول الله تعالى خذ نفس ميكائيل ثم يقول الله تعالى من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول يا جبريل من بقي فيقول تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني قال يا جبريل لا بدّ من موتك فيقع ساجداً يخفق بجناحيه، فيروى أنّ فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم، ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش ثم روح إسرافيل ثم روح ملك الموت، وعن الضحاك هم رضوان والحور ومالك والزبانية عليهم السلام وقيل : عقارب النار وحياتها ﴿ وكل ﴾ أي : من فزع ومن لم يفزع ﴿ أتوه ﴾ أي : بعد ذلك للحساب بنفخة أخرى يقيمهم بها وفي ذلك دليل على تمام قدرته تعالى في كونه أقامهم بما به أماتهم ﴿ داخرين ﴾ أي : صاغرين.
وقرأ حفص وحمزة بقصر الهمزة وفتح التاء على أنه فعل ماض ومفعوله الهاء فالتعبير به لتحقق وقوعه، والباقون بمد الهمزة وضم التاء على أنه اسم فاعل مضاف للهاء وهذا حمل على معنى كل وهي مضافة تقديراً أي : وكلهم.
ولما ذكر تعالى دخورهم أتبعه بدخور ما هو أعظم منهم بقوله تعالى :﴿ وترى الجبال ﴾ أي : تبصرها وقت النفخة والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لكونه أنفذ الناس بصراً وأنورهم بصيرة أو لكل أحد ﴿ تحسبها ﴾ أي : تظنها ﴿ جامدة ﴾ أي : قائمة ثابتة في مكانها لا تتحرّك لأنّ الأجرام الكبار إذا تحرّكت في سمت واحد لا تكاد تتبين حركتها ﴿ وهي تمرّ ﴾ أي : تسير حتى تقع على الأرض فتسوى بها مبثوثة ثم تصير كالعهن ثم تصير هباءً منثوراً، وأشار تعالى إلى أن سيرها خفي وإن كان حثيثاً بقوله تعالى :﴿ مرّ السحاب ﴾ أي : مرّاً سريعاً لا يدرك على ما هو عليه لأنه إذا أطبق الجوّ لا يدرك سيره مع أنه لا شك فيه وإلا لم تنكشف الشمس بلا لبس وكذلك كبير الجرم أو كثير العدد يقصر عن الإحاطة به لبعد ما بين أطرافه ولكثرته البصر والناظر الحاذق يظنه واقفاً.
وقرأ تحسبها بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وفتحها الباقون وقوله تعالى ﴿ صنع الله ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله، أي : صنع الله ذلك صنعاً، ثم زاد في التعظيم بقوله دالاً على تمام الإحكام في ذلك الصنع ﴿ الذي أتقن ﴾ أي : أحكم ﴿ كل شيء ﴾ صنعه ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن والنظام الأمكن أنتج قطعاً قوله تعالى :﴿ إنه ﴾ أي : الذي أتقن هذه الأمور ﴿ خبير بما يفعلون ﴾ أي : عالم بظواهر الأحوال وبواطنها ليجازيهم عليها.
كما قال تعالى :﴿ من جاء بالحسنة ﴾ أي : الكاملة وهي الإيمان، وعن ابن عباس الحسنة كلمة الشهادة ﴿ فله خير ﴾ أي : أفضل ﴿ منها ﴾ مضاعفاً أقلّ ما يكون عشرة أضعاف إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقيل له خير : حاصل من جهتها وهو الجنة وفسر الجلال المحلي الحسنة بلا إله إلا الله، وقال في ﴿ فله ﴾ خير منها، أي : بسببها فليس للتفضيل إذ لا فعل خير منها وهذا يناسب القول الثاني ﴿ وهم ﴾ أي : الجاؤون بها ﴿ من فزع يومئذ ﴾ أي : يومئذ إذ وقعت هذه الأحوال العظيمة ﴿ آمنون ﴾ أي : حتى لا يحزنهم الفزع الأكبر.
وقرأ يفعلون ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء التحتية على الغيبة، والباقون بالفوقية على الخطاب، وقرأ وهم من فزع يومئذ آمنون الكوفيون بتنوين العين، والباقون بغير تنوين وهم أعمّ فإنه يقتضي الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وأمّا قراءة التنوين فتحتمل معنيين من فزع واحد وهو خوف العذاب، وأمّا ما يلحق الإنسان من الرعب ومشاهدته فلا ينفك منه أحد، ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف وهو خوف النار، وقرأ نافع والكوفيون : بفتح الميم من يومئذ والباقون بكسرها فإن قيل : أليس قال تعالى في أوّل الآية ﴿ ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ﴾ ( النمل، ٨٧ ) فكيف نفى الفزع ههنا ؟ أجيب : بأنّ الفزع الأوّل لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع أو هول يفجأ إلا ما استثنى وإن كان المحسن آمناً من لحاق الضرر، وأما الثاني فهو الخوف من العذاب.
﴿ ومن جاء بالسيئة ﴾ أي : التي لا سيئة مثلها وهي الشرك لقوله تعالى ﴿ فكبت ﴾ أي : بأيسر أمر ﴿ وجوههم في النار ﴾ بأن وليتها مع أنه ورد في الصحيح أنّ مواضع السجود التي أشرفها الوجه لا سبيل للنار عليها والوجه أشرف ما في الإنسان فإذا هان كان ما سواه أولى بالهوان، والمكبوب عليه منكوس ويقال له تبكيتاً ﴿ هل ﴾ أي : ما ﴿ تجزون إلا ﴾ جزاء ﴿ ما كنتم تعملون ﴾ أي : من الشرك والمعاصي.
تنبيه : جعل مقابلة الحسنة بالثواب والسيآت بالعقاب من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها وإجرائه لها على قضايا الحكمة إنه عليم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه فيكافئهم على حسب ذلك فانظر إلى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه، وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ إفراغاً واحداً ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق والادعاء.
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه :﴿ إنما أمرت ﴾ أي : بأمر من لا يردّ له أمر ﴿ أن أعبد ﴾ أي : بجميع ما آمركم به ﴿ رب ﴾ أي : موجد ومدبر ﴿ هذه البلدة ﴾ أي : مكة التي تخرج الدابة منها فيفزع كل من رآها ثم تؤمن أهل السعادة أخصه بذلك لا أعبد شيئاً مما تعبدونه ﴿ الذي حرّمها ﴾ أي : جعلها الله تعالى حرماً آمناً لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلي خلاها ولما خصص مكة بهذه الإضافة تشريفاً لها وتعظيماً لشأنها قال احترازاً عما قد يتوهم ﴿ وله كل شيء ﴾ أي : من غيرها مما أشركتموه به وغيره خلقاً وملكاً.
ولما كانوا ربما قالوا نحن نعبده بعبادة من نرجوه يقرّبنا إليه زلفى، عين له الدين الذي تكون به العبادة بقوله :﴿ وأمرت ﴾ أي : مع الأمر بالعبادة له وحده ﴿ أن أكون ﴾ أي : كوناً هو في غاية الرسوخ ﴿ من المسلمين ﴾ أي : المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتمّ انقياد ثابتاً على ذلك غاية الثبات.
﴿ وأن ﴾ أي : وأمرت أن ﴿ أتلو القرآن ﴾ عليكم تلاوة الدعوة إلى الإيمان، أو أن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئاً فشيئاً ﴿ فمن اهتدى ﴾ أي : باتباع هذا القرآن الداعي إلى الجنان ﴿ فإنما يهتدي لنفسه ﴾ أي : لأجلها لأنّ ثواب هدايته له ﴿ ومن ضلّ ﴾ أي : عن الإيمان الذي هو الطريق المستقيم ﴿ فقل ﴾ أي : له كما تقول لغيره ﴿ إنما أنا من المنذرين ﴾ أي : المخوّفين له عواقب صنعه فلا عليّ من وبال ضلاله شيء إذ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغت.
﴿ وقل ﴾ أي : إنذاراً لهم وترغيباً وترجئة وترهيباً ﴿ الحمد ﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿ لله ﴾ أي : الذي له العظمة كلها على نعمة النبوّة وعلى ما علمني ووفقني للعمل به ﴿ سيريكم آياته ﴾ القاهرة في الدنيا كوقعة بدر وخروج دابة الأرض وفي الآخرة بالعذاب الأليم ﴿ فتعرفونها ﴾ أي : فتعرفون أنها آيات الله ولكن حين لا تنفعكم المعرفة. ﴿ وما ربك ﴾ أي : المحسن إليك بجميع ما أقامك فيه من هذه الأمور العظيمة والأحوال الجسيمة. ﴿ بغافل عما تعملون ﴾ أي : فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم، وقرأ نافع وابن عامر وحفص : بالتاء على الخطاب لأنّ المعنى عما تعمل أنت وأتباعك من الطاعة وهم من المعصية، والباقون بالياء على الغيبة وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري :«من أنّ من قرأ طس كان له من الأجر عشرة حسنات بعدد من صدق سليمان وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلا الله » حديث موضوع.
Icon