﴿ بسم الله ﴾ أي : الذي كمل علمه فبهرت حكمته ﴿ الرحمان ﴾ الذي عمّ بالهداية بأوضح البيان ﴿ الرحيم ﴾ أي : الذي منّ بجنات النعيم على من اتبع الصراط المستقيم.
ﰡ
﴿ تلك ﴾ أي : هذه الآيات العالية المقام البعيدة المرام البديعة النظام ﴿ آيات القرآن ﴾ أي : الكامل في قرآنيته الجامع للأصول الناشر للفروع الذي لا خلل فيه ولا فصم ولا صدع ولا وصم ﴿ وكتاب مبين ﴾ أي : مظهر الحق من الباطل، فإن قيل : كيف صح أن يشار لاثنين أحدهما مؤنث والآخر مذكر باسم الإشارة المؤنث ولو قلت تلك هند وزيد لم يجز ؟.
أجيب من ثلاثة أوجه : أحدها : أنّ المراد بالكتاب هو الآيات لأنّ الكتاب عبارة عن الآيات المجموعة فلما كانا شيئاً واحدا صحت الإشارة إليهما بإشارة الواحد المؤنث، الثاني : أنه على حذف مضاف أي : وآيات كتاب مبين، الثالث : أنه لما ولي المؤنث ما تصح الإشارة به إليه اكتفى به وحسن، ولو ولي المذكر لم يحسن، ألا ترى أنك تقول جاءتني هند وزيد ولو أخرت هند لم يجز تأنيث الفعل، وقرأ ابن كثير بالنقل وصلاً وابتداءً وحمزة في الوقف لا غير، والباقون بغير نقل.
﴿ أو آتيكم بشهاب قبس ﴾ أي : شعلة نار في رأس فتيلة أو عود، قال البغويّ : وليس في الطرف الآخر نار، وقال بعضهم الشهاب شيء ذو نور مثل العمود والعرب تسمى كل شيء أبيض ذي نور شهاباً، والقبس : القطعة من النار، وقرأ الكوفيون بشهابٍ بالتنوين على أنّ القبس بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس، والباقون بإضافة الشهاب إليه لأنه يكون قبساً وغير قبس فهو من إضافة النوع إلى جنسه، نحو ثوب خز إذ الشهاب شعلة من النار والقبس قطعة منها يكون في عود أو غيره كما مرّ.
فإن قيل : لم جاء بأو دون الواو ؟ أجيب : بأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منهما، إمّا هداية الطريق وإمّا اقتباس النار ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعاً وهما العزان عز الدنيا وعز الآخرة، ثم إنه عليه السلام علل إتيانه بذلك إفهاماً لأنها ليلة باردة بقوله :﴿ لعلكم تصطلون ﴾ أي : لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفئ بذلك من البرد، والطاء بدل من تاء الافتعال، من صلى بالنار بكسر اللام وفتحها.
ومذهب أكثر المفسرين أنّ المراد بالنار النور ذكر بلفظ النار لأنّ موسى حسبه ناراً، أو من في النار هم الملائكة، وذلك أنّ النور الذي رآه موسى عليه السلام كان فيه الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس ومن حولها هو موسى لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها، وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها والنار إحدى حجب الله تعالى، كما جاء في الحديث :«حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه » الحديث.
تنبيه : بارك يتعدّى بنفسه وبحرف الجرّ يقال باركك الله وبارك عليك وبارك فيك وبارك لك، وقال الشاعر :
فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً | وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب |
فإن قيل : هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى، فكيف علم موسى أنه من الله تعالى ؟ أجيب : بأنه سمع الكلام المنزه عن شائبة كلام المخلوقين لأنّ النداء أتاه من جميع الجهات وسمعه بجميع الحواس كما مر، فعلم بالضرورة أنه صفة الله سبحانه وتعالى.
تنبيه : قال الزمخشري : وألق عصاك معطوف على بورك لأنّ المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك كلاهما تفسير لنودي، والمعنى قيل : له : بورك من في النار، وقيل له : ألق عصاك انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير وقيل له ألق لتكون جمله خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها لأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة، والصحيح كما قاله أبو حيان : أنه لا يشترط ذلك. ولما تشوّفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة أجيب : بأنه قيل له ﴿ يا موسى لا تخف ﴾ أي : منها ولا من غيرها ثقة بي، ثم علل هذا النهي بقوله تعالى : مبشراً بالأمن والرسالة ﴿ إني لا يخاف لديّ ﴾ أي : عندي ﴿ المرسلون ﴾ أي : من حية وغيرها لأنهم معصومون من الظلم لا يخاف من الملك العدل إلا ظالم.
وللمفسرين فيه عبارات : قال الحسن : إنّ موسى ظلم بقتل القبطي ثم تاب فقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، وقال غيره : إنّ ذلك محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل، وقال بعض النحويين : إلا ههنا بمعنى ولا، أي : لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون كقوله تعالى :﴿ لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا ﴾ ( البقرة : ١٥٠ ) أي : ولا الذين ظلموا.
فقلت إلى الطعام فقال منهم | فريق تحسد الإنس الطعاما |
ولقائل أن يقول كانت الآيات إحدى عشرة آية : ثنتان منها العصا واليد، والتسع الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم، وقيل : في بمعنى من أي : من تسع آيات فتكون العصا واليد من التسع، ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله تعالى :﴿ إنهم كانوا قوماً فاسقين ﴾ أي : خارجين عن طاعتنا.
روي عن كعب الأحبار أنه قال : صاح ورشان عند سليمان عليه السلام فقال أتدرون ما يقول : قالوا : لا قال : إنه يقول : لدوا للموت وابنوا للخراب، وصاحت فاختة فقال : أتدرون ما تقول قالوا : لا قال : فإنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاووس فقال أتدرون ما يقول : قالوا : لا قال : فإنه يقول : كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم، وصاح صرد فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا قال فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين، وصاح طيطوى فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا قال فإنه يقول : كل حيّ ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال : أتدرون ما يقول قالوا : لا قال فإنه يقول : قدّموا خيراً تجدوه، وهدرت حمامة فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا، قال فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فقال : أتدرون ما يقول قالوا : لا، قال : فإنه يقول سبحان ربي الأعلى، قال والغراب يدعو على العشار، والحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول من سكت سلم، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه والضفدع يقول سبحان رب القدّوس، ويقول أيضاً سبحان ربي المذكور بكلّ لسان، والباز يقول سبحان ربي وبحمده، وعن مكحول قال : صاح دراج عند سليمان فقال أتدرون ما يقول هذا ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : الرحمان على العرش استوى.
وروي عن فرقد السبحيّ قال مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا الله ونبيه أعلم قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء : وهو بالفتح والمدّ التراب، وقال أبو عبيد : هو الدروس، وفي حديث صفوان :«إذا دخلت بيتي فأكلت رغيفاً وشربت عليه فعلى الدنيا العفاء »، وروي أنّ جماعة من اليهود قالوا لابن عباس إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمناً وصدّقنا، قال : اسألوا تفقهاً ولا تسألوا تعنتاً، قالوا : أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره والديك في صعيقه والضفدع في نعيقه والحمار في نهيقه والفرس في صهيله وما يقول الزرزور والدرّاج، قال نعم أمّا القنبر فيقول : اللهمّ العن مبغضي محمد وآل محمد، وأمّا الديك فيقول : اذكروا الله يا غافلين، وأمّا الضفدع فيقول : سبحان المعبود في لجج البحار، وأمّا الحمار فيقول : اللهمّ العن العشار، وأمّا الفرس فيقول : إذا التقى الصفان سبوح قدّوس رب الملائكة والروح، وأما الزرزور فيقول : اللهمّ إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق، وأمّا الدراج فيقول : الرحمان على العرش استوى قال : فأسلم اليهود وحسن إسلامهم.
ويروى عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جدّه عن الحسين بن عليّ قال : إذا صاح النسر قال : ابن آدم عش ما شئت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أنس، وإذا صاح القنبر قال : إلهي العن مبغضي آل محمد، وإذا صاح الخطاف قرأ : الحمد لله رب العالمين ويمدّ ولا الضالين كما يمدّ القارئ.
وقول سليمان عليه السلام ﴿ وأوتينا من كل شيء ﴾ أي : تؤتاه الأنبياء والملوك، قال ابن عباس من أمر الدنيا والآخرة، وقال مقاتل : يعني النبوّة والملك وتسخير الجنّ والإنس والرياح ﴿ إن هذا ﴾ أي : الذي أوتيناه ﴿ لهو الفضل المبين ﴾ أي : البين في نفسه لكلّ من ينظره الموضح لعلوّ قدر صاحبه، روي أنّ سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك أربعين سنة وستة أشهر جميع أهل الدنيا من الجنّ والأنس والدواب والطير والسباع وأعطى مع ذلك منطق الطير، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة، فقوله :﴿ إنّ هذا لهو الفضل المبين ﴾ تقرير لقوله ﴿ الحمد لله الذي فضلنا ﴾ والمقصود منه الشكر والحمد، كما قال صلى الله عليه وسلم :«أنا سيد ولد آدم ولا فخر »، فإن قيل : كيف قال علمنا وأوتينا وهو كلام المتكبر ؟ أجيب بوجهين : الأوّل : أنه يريد نفسه وأباه كما مرّ، الثاني : أنّ هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً.
قال محمد بن كعب القرظيّ : كان معسكر سليمان عليه السلام مئة فرسخ خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير، وقيل : نسجت له الجنّ بساطاً من ذهب وحرير فرسخاً في فرسخ وكان يوضع كرسيه وسطه فيقعد وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة والناس حولهم والجنّ والشياطين حول الناس والوحش حولهم وتظلهم الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة يعني : حرّة وسبعمائة سرّية، فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به مسيرة شهر، وأوحي إليه وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في في ملكك أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح فأخبرتك به، فيحكى أنه مرّ بحراث فقال لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال : إني مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود واستمرّ سائراً بمن معه.
فقال : يا رب أبكاني أنّ هذا نبيّ من أنبياءك وقوم من أوليائك مرّوا علي فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله تعالى إليه لا تبك فإني سوف أملؤك وجوهاً سجداً وأنزل فيك قرآناً جديداً وأبعث منك نبي آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يزفون إليك زفيف النسور إلى وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها وحنين الحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين، ثم مرّ سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف فأتى على وادي النمل هكذا قال كعب إنه واد بالطائف.
قال البقاعي : وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف عندهم إلى الآن بهذا الاسم، وقال قتادة ومقاتل : هو واد بالشأم وجرى عليه البيضاوي، وقيل : واد كانت تسكنه الجنّ وأولئك النمل مراكبهم، وقال نوف الحميري : كان نمل ذلك الوادي مثل الذباب، وقيل : كان كالبخاتي، وقال البغويّ والمشهور : أنه النمل الصغير.
فائدة : وقف الكسائي على وادي بالياء، والباقون بغير ياء، فإن قيل : لم عدى أتوا بعلى ؟ أجيب : بأنه يتوجه على معنيين : أحدهما : أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء، والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم، أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهوى لا يخاف حطمهم.
ولما كانوا في أمر مهول منظره وقربوا من ذلك الوادي ﴿ قالت نملة ﴾ قال الشعبيّ : كانت تلك النملة ذات جناحين، وقيل : كانت نملة عرجاء فنادت ﴿ يا أيها النمل ادخلوا ﴾ أي : قبل وصول ما أرى من الجيش ﴿ مساكنكم ﴾ ثم عللت أمرها فقالت :﴿ لا يحطمنكم ﴾ أي : يكسرنكم ويهشمنكم، أي : لا تبرزوا فيحطمكم فهو نهي لهم عن البروز في صورة نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى أميراً عن شيء كان لغيره أشدّ نهياً ﴿ سليمان وجنوده ﴾ أي : لأنهم لكثرتهم إذا صاروا في هذا الوادي استعلوا عليه فضيقوه فلم يدعوا فيه موضع شبر خالياً ﴿ وهم ﴾ أي : سليمان وجنوده ﴿ لا يشعرون ﴾ أي : بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وقولها هذا يدل على علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبيّ فهم رحماء، وإنما خاطبتهم خطاب من يعقل لأنها لما جعلت قائلة والنمل مقولاً له كما يكون في أولي العقل أجرت خطابهم، والنمل : اسم جنس معروف واحده نملة، ويقال نملة ونمل بضم النون وسكون الميم، ونملة ونمل بضمهما.
وعن قتادة : أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوني عما شئتم، وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى حاضراً وهو غلام حديث، فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى ؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى، فقيل له من أين عرفت ؟ فقال من كتاب الله، وهو قوله : قالت نملة ولو كانت ذكراً لقال قال نملة، قال الزمخشريّ : وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي انتهى.
وردّ هذا أبو حيان فقال : ولحاق التاء في قالت لا يدلّ على أنّ النملة مؤنثة بل يصح أن يقال في الذكر قالت نملة لأن النمل وإن كان بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، ولا يدلّ كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على كونه ذكراً وأنثى لأنّ التاء دخلت فيه للفرق لا للدّلالة على التأنيث له الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس، قال وكان قتادة بصيراً بالعربية، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذا علم أنّ النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين، ولحاق العلامة لا يدل، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ا. ه.
وقال الطيبي : العجب من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه لأنّ النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر والأنثى وأطال الكلام في ذلك.
فإن قيل : كيف يتصّور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض ؟ أجيب : بأنّ من جنوده ركباناً ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم، أو أنّ ذلك كان قبل تسخير الريح لسليمان، ويروى أنّ سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنده حتى دخل النمل بيوتهم، فقد روي أنه سمع كلامها من ثلاثة أميال، وقيل : كان اسمها طاخية.
فائدة : قال أهل المعاني في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة : نادت ونبهت وسمت وأمرت ونصت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وأعذرت، ووجهه : نادت يا، نبهت : ها، سمت : النمل، أمرت : ادخلوا، نصت : مساكنكم، حذرت : لا يحطمنكم، خصت : سليمان، عمت : وجنوده، أشارت : وهم، أعذرت : لا يشعرون.
تنبيه : ضاحكاً : حال مؤكدة لأنها مفهومة من تبسم، وقيل : هي حال مقدّرة فإنّ التبسم ابتداء الضحك، وقيل : التبسم قد يكون للغضب، ومنه تبسم تبسم الغضبان، فضاحكاً : مبيناً له، قال عنترة :
لما رآني قد قصدت أريده | أبدى نواجذه لغير تبسم |
تنبيه : الشكر لغة : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر أو غيره سواء كان ذكراً باللسان أم اعتقاداً أو محبة بالجنان أم عملاً وخدمة بالأركان، كما قال القائل :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة | يدي ولساني والضمير المحجبا |
روي عن داود عليه السلام أنه قال : يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة أخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر ؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود إذا علمت أنّ ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني. والشكر ثلاثة أشياء : الأول : معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة، فرب جاهل تحسن إليه وتنعم عليه وهو لا يدري، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر، الثاني : قبول النعمة بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة، فإنّ ذلك شاهد بقبولها حقيقة، الثالث : الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه، فإنّ اليد العليا خير من اليد السفلى.
ولما علم من كلامه أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل بحسب ما يقدر عليه، وكان ذلك العمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسناً وهو ليس كذلك قال عليه السلام : مشيراً إلى هذا المعنى ﴿ وأن أعمل صالحاً ﴾ أي : في نفس الأمر، وقيده بقوله ﴿ ترضاه ﴾ لأنّ العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل، كما قيل :
إذا كان المحب قليل حظ | فما حسناته إلا ذنوب |
أجيب : بأنّ الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يفعل معصية ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية.
وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء : أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب من الجنّ والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ عسكره مائة فرسخ فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم وكان ينحر في كل يوم مدة مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة وقال لمن حضر من أشراف قومه أنّ هذا المكان يخرج منه نبيّ عربي صفته كذا وكذا يعطى النصر على جميع ما يأواه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم، قالوا فبأي : دين يدين يا نبيّ الله ؟ قال بدين الحنيفية : فطوبى لمن أدركه وآمن به، قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبيّ الله ؟ قال : مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل، فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج منها صباحاً وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها فأحبّ النزول ليصلي ويتغدى، فلما نزل قال الهدهد : إنّ سليمان قد اشتغل بالنزول فأرتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها فنظر يميناً وشمالاً فرأى بستاناً لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير، فقال عنفير هدهد اليمن ليعفور سليمان من أين أقبلت وإلى أين تريد ؟ قال أقبلت من الشأم مع صاحبي سليمان بن داود فقال ومن سليمان ؟ قال ملك الإنس والجنّ والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمن أين أنت ؟ قال أنا من هذه البلاد، قال ومن ملكها ؟ قال امرأة يقال لها بلقيس، وإن لصاحبكم ملكاً عظيماً ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكت اليمن كله وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها، قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وغاب إلى وقت العصر، وكان نزول سليمان على غير ماء، قال ابن عباس : وكان الهدهد دليل سليمان على الماء، وكان يعرف الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة ويعرف بعده وقربه فينقر الأرض ثم تجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : انظر ما تقول : إن الصبيّ منا يصنع الفخ ويحثوا عليه التراب فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه ؟ فقال له ابن عباس ويحك إن القدر إذا جاء حال بين البصر، وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر، قال القائل :
هي المقادير فدعني والقدر *** إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
إذا أراد الله أمراً بامرئ *** وكان ذا عقل وسمع وبصر
يعبر الجهل فيعمى قلبه *** وسمعه وعقله ثم البصر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه *** ردّ عليه عقله ليعتبر
لا تقل لما جرى كيف جرى *** كل شيء بقضاء وقدر
واختلفوا في تعذيبه الذي أوعده به على أقوال : قال البغوي : أظهرها أنّ عذابه أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطاً لا يمتنع من النمل والذباب ولا من هوام الأرض انتهى، وقيل : تعذيبه أن يؤذيه بما لا يحتمله ليعتبر به أبناء جنسه، وقيل : كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه، وقيل : أن يطلى بالقطران ويشمس، وقيل : أن يلقى للنمل تأكله، وقيل : إيداعه القفص، وقيل : التفريق بينه وبين ألفه، وقيل : لألزمنه صحبة الأضداد.
قال الزمخشريّ : وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد، وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه، ثم دعا العقاب سيد الطير فقال له : عليّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، فالتفت يميناً وشمالاً فإذا بالهدهد مقبلاً من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه يريده فلما رأى الهدهد ذلك علم أنّ العقاب يقصده بسوء، فناشده فقال بحق الله الذي قواك وأقدرك عليّ إلا ما رحمتني ولم تتعرّض لي بسوء، فولى عنه العقاب وقال له ويلك ثكلتك أمّك إنّ نبيّ الله قد حلف أن يعذبك أو ليذبحنك، قال فما استثنى، قال : بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له ويلك أين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال، فقال الهدهد وما استثنى نبي الله عليه السلام ؟ قالوا : بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين، قال فنجوت إذاً، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان، وكان قاعداً على كرسيه، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبيّ الله.
قال البغوي : وجاء في الحديث «أنّ أحد أبوي بلقيس كان جنياً فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك، فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون، وملكوا عليهم رجلاً وافترقوا فرقتين كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن، ثم إنّ الرجل الذي ملكوه أساء السير في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهنّ، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها، وقال : ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا إياسي منك، فقالت لا أرغب عنك أنت كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني منهم، فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا لا نراها تفعل ذلك، فقال لهم إنها قد ابتدأتني وأنا أحبّ أن تسمعوا قولها، فجاؤها فذكروا لها قالت نعم أحببت الولد فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها، فلما جاءته أسقته الخمر حتى سكر، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلاً ورأسه منصوب على باب دارها، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت حيلة مكر وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وقالوا أنت بهذا الملك أحق من غيرك فملكوها ».
وعن الحسن عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل فارس قد ملكوا عليهم امرأة قال :«لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة » وقوله ﴿ وأوتيت ﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على تملكهم، وجاز عطف الماضي على المضارع لأنّ المضارع بمعناه، أي : ملكتهم، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال من مرفوع تملكهم، وقد معها مضمرة عند من يرى ذلك، وقوله ﴿ من كل شيء ﴾ عام مخصوص بالعقل لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان، فالمراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة ﴿ ولها عرش ﴾ أي : سرير ﴿ عظيم ﴾ أي : ضخم لم أجد لأحد مثله طوله ثمانون ذراعاً وعرضه أربعون ذراعاً وارتفاعه ثلاثون ذراعاً، مضروب من الذهب والفضة مكلل بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد، وقوائمه من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد عليه سبعة أبواب على كل باب بيت مغلق.
فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان ؟ وأيضاً كيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الرحمان في الوصف بالعظم ؟ أجيب عن الأوّل : بأنه يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان واستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء يكون في العظم أبلغ مما لغيره من أبناء جنسه من الملوك، ووصف عرش الرحمان بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض.
فإن قيل : كيف خفي على سليمان تلك المملكة العظيمة مع أنّ الإنس والجنّ كانوا في طاعته فإنه عليه السلام كان ملك الدنيا كلها مع أنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها كما أخفى مكان يوسف على يعقوب.
ألايا اسلمي يا دار ميّ على البلى | ولا زال منهلاً بجرعائك القطر |
أجيب : بأنه لا يبعد أن يلهمه الله تعالى ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، خصوصاً في زمن نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها وجعل ذلك معجزة له، وهذه آية سجدة واختلف في محلها، هل هو هذه الآية أو عند قوله قبلها وما يعلنون ؟ الجمهور على الأوّل.
قال قتادة : فوافاها في قصرها وقد غلقت الأبواب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها، وقيل نقرها فانتبهت فزعة، وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة، والناس ينظرون إليه حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها، وقال وهب بن منبه وابن زيد : كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد إلى الكوّة فسدها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم بها، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر إليها، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأنّ ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أنّ الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها، وقرأت الكتاب وتأخر الهدهد فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد ألف مقاتل، وعن ابن عباس قال : كان مع بلقيس مائة ألف، قيل مع كل قيل مائة ألف، والقيل : الملك دون الملك الأعظم، وقال قتادة ومقاتل : كان أهل مشورتها ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف.
ثم عللت أمرها لهم بقولها ﴿ ما كنت قاطعة أمراً ﴾ أي : فاعلته وفاصلته غير متردّدة فيه ﴿ حتى تشهدون ﴾ أفادت بذلك أن شأنها دائماً مشاورتهم في كل جليل وحقير فكيف بهذا الأمر الخطير، وفي ذلك استعطافهم بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم ودلالة على غزارة عقلها وحسن أدبها.
تنبيه : هذه الجملة من كلامها وهو كما قال ابن عادل الظاهر، ولهذا جبلت عليه فتكون منصوبة بالقول، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تصديقاً لها فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب، وهي معترضة بين قولها.
وقالت : إن كنت نبياً فميز بين الوصف والوصائف، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقباً مستوياً، وأدخل خيطاً في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جنّ، وأمرت بلقيس الغلمان : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرجل انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشاشاً لطيفاً فاعلم أنه نبيّ مرسل، فتفهم قوله ورد الجواب.
فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان فأخبره الخبر كله فأمر سليمان عليه السلام الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة وأن يجعلوا حول الميادين حائطاً شرفها من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال أيّ الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر قالوا يا نبيّ الله إنا رأينا دوابّ في مجر كذا وكذا منقطة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص، قال عليّ بها الساعة، فأتوا بها فقال شدّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة وألقوا لها علوفتها فيها، ثم قال للجنّ عليّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم عن يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي على يمينه ومثلها على يساره وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الإنس فاصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره.
فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تقاصرت أنفسهم ورموا ما معهم من الهدايا، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعاً على قدر موضع اللبنات التي معهم فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك الموضع الخالي فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ففزعوا، فقالت لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرّون على كردوس من الجنّ والإنس والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظراً حسناً بوجه طلق وقال : ما وراءكم ؟ فأخبره رئيس القوم بما جاءوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال أين الحقة ؟ فأتى بها فحركها وجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما في الحقة فقال : إنّ فيها درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوّجة الثقب، فقال الرسول صدقت فاثقب الدرّة وأدخل الخيط في الخرزة، فقال سليمان عليه السلام من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجنّ فلم يكن عندهم علم بذلك ثم سأل الشياطين فقالوا أرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت تصير رزقي في الشجرة فقال لك ذلك، وروي أنها جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف فجعل لها ذلك، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر، ثم قال من لهذه الخرزة بسلكها بالخيط فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت : تجعل رزقي في الفواكه قال لك ذلك، ثم ميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه، والغلام يأخذ من الآنية بيديه ويضرب بهما وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها، والغلام على ظاهر الساعد وكانت الجارية تصبّ الماء صباً، وكان الغلام يحدر الماء على ساعده حدراً، فميز بينهم بذلك.
فإن قيل : فلنأتينهم ولنخرجنهم قسم فلا بدّ أن يقع ؟ أجيب : بأنه معلق على شرط محذوف لفهم المعنى، أي : إن لم يأتوني مسلمين، قال وهب وغيره من أهل الكتب، لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت لهم قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به من طاقة فبعثت إلى سليمان أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعلته داخل سبعة أبواب داخل قصرها وقصرها داخل سبعة قصور وأغلقت الأبواب وجعلت عليها حرّاساً يحفظونه، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما وكلتك وبسرير ملكي لا يخلص إليه أحد حتى آتيك، ثم أمرت منادياً ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل وتجهزت للمسير فارتحلت في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يد كل قيل ألوف كثيرة.
قال ابن عباس : كان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوماً فجلس على سرير ملكه فرأى رهجاً قريباً منه، فقال ما هذا ؟ قالوا بلقيس وقد نزلت منا على مسيرة فرسخ.
واختلفوا في تعيينه : فقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخيا كاتب سليمان، وقيل اسمه أسطوم وكان صديقاً عالماً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى، وقيل ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، وعن ابن لهيعة بلغني أنه الخضر عليه السلام ﴿ أنا آتيك به ﴾ ثم بين فضله على العفريت بقوله ﴿ قبل أن يرتدّ ﴾ أي : يرجع ﴿ إليك طرفك ﴾ أي : بصرك إذا طرفت أجفانك فأرسلته إلى منتهاه، ثم رددته فالطرف : تحريكك أجفانك إذا نظرت فوضع في موضع النظر. ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال الطرف في نحو قوله :
وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً | لقلبك يوماً أتعبتك المناظر |
واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف : فقال مجاهد ومقاتل : بياذا الجلال والإكرام، وقال الكلبي : يا حيّ يا قيوم، وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وروي عن الزهريّ قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها، وعن الحسن يا الله يا رحمن، وقال محمد بن المنكدر إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله تعالى علماً وفهماً أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك قال سليمان هات قال أنت النبيّ ابن النبيّ وليس أحد أوجه عند الله منك فإن دعوت الله كان عندك فقال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت.
قال الرازي وهذا القول أقرب واستدل لذلك بوجوه منها : أنّ سليمان كان أعرف بالكتاب من غيره لأنه هو النبي فكان صرف اللفظ إليه أولى، ومنها : أنّ إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق، ومنها : أنه قال هذا من فضل ربي فظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.
﴿ فلما رآه ﴾ أي : رأى سليمان العرش ﴿ مستقرّاً عنده ﴾ أي : حاصلاً بين يديه ﴿ قال ﴾ شاكراً لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق ﴿ هذا ﴾ أي : الإتيان المحقق ﴿ من فضل ربي ﴾ أي : المحسن إليّ لا بعمل أستحق به شيئاً فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم ونظر إليّ بتوفيقي للعمل فكل عمل نعمة يستوجب عليّ بها الشكر، ولذلك قال ﴿ ليبلوني ﴾ أي : ليختبرني ﴿ أأشكر ﴾ فاعترف بكونه فضلاً ﴿ أم أكفر ﴾ بظني أني أوتيته باستحقاق.
تنبيه : ههنا همزتان مفتوحتان فنافع يسهل الهمزة الثانية، وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام، ولم يدخل ورش وابن كثير، ولورش أيضاً إبدالها ألفا، والباقون بالتحقيق وعدم الإدخال، ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله ﴿ ومن شكر ﴾ أي : أوقع الشكر لربه ﴿ فإنما يشكر لنفسه ﴾ فإن نفعه لها وهو أن يستوجب تمام النعمة ودوامها لأنّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وجلب للنعمة المفقودة ﴿ ومن كفر ﴾ أي : بالنعمة ﴿ فإنّ ربي ﴾ أي : المحسن إليّ بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر ﴿ غني ﴾ عن شكره لا يضرّه تركه شيئاً ﴿ كريم ﴾ أي : بإدرار الإنعام عليه فلا يقطعه عنه بسبب عدم شكره.
وإليه أشار بقوله ﴿ ننظر أتهتدي ﴾ أي : إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهدايتها في الدين ﴿ أم تكون من الذين ﴾ شأنهم أنهم ﴿ لا يهتدون ﴾ بل هم في غاية الغباوة ولا يتجدّد لهم اهتداء، وقال وهب ومحمد بن كعب : إنما حمل سليمان على ذلك، أنّ الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي له أسرار الجنّ لأنّ أمها كانت جنية وإذا ولدت له ولداً لا ينفكون عن تسخير سليمان وذرّيته من بعده، فأساؤوا الثناء عليها ليزهدوه فيها، فقالوا : إنّ في عقلها شيئاً وإنّ رجليها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين، فأراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح.
وقوله تعالى :﴿ وأوتينا العلم من قبلها ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة الدال عليها السياق، والمعنى : وأوتينا العلم بنبوّة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة، وذلك لما رأت قبل ذلك من أمر الهدهد ورد الهدية والرسل من قبلها من قبل الآية في العرش ﴿ وكنا مسلمين ﴾ أي : منقادين طائعين لأمر سليمان، والثاني : أنه من كلام سليمان وأتباعه فالضمير في قبلها عائد على بلقيس فكان سليمان وقومه قالوا : إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة وقد رزقت الإسلام، ثم عطفوا على ذلك قولهم ﴿ وأوتينا العلم ﴾ يعني بالله تعالى وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة في مثل علمها وغرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزيد التقديم في الإسلام قاله مجاهد، وقيل : معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله تعالى.
تمرّون الديار فلم تعوجوا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع، والثالث : أنّ الفاعل هو ما كانت أي : صدّها ما كانت تعبد عن الإسلام أي : صدّها عبادة الشمس عن التوحيد وقوله تعالى :﴿ إنها كانت من قوم كافرين ﴾ استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت بينهم ولم تعرف العبادة ولم تعرف إلا عبادة الشمس.
فلما رأى سليمان ذلك صرف نظره عنها، وناداها بأن ﴿ قال ﴾ لها ﴿ إنه ﴾ أي : هذا الذي ظننته ماء ﴿ صرح ممرد ﴾ أي : مملس ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشعر ﴿ من ﴾ أي : كائن من ﴿ قوارير ﴾ أي : زجاج وليس بماء، ثم إنّ سليمان دعاها إلى الإسلام وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت بأن ﴿ قالت رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿ إني ظلمت نفسي ﴾ أي : بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك ﴿ وأسلمت مع سليمان لله ﴾ أي : مقرّة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية، ثم رجعت إشارة للعجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي بحر المعرفة فقالت ﴿ رب العالمين ﴾ فعممت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى، وقيل : إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت في نفسها إنّ سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا، فقولها ظلمت نفسي أي : بذلك الظنّ.
واختلفوا في أمرها بعد إسلامها هل تزّوجها سليمان عليه السلام ؟ فالذي عليه أكثر المفسرين فيما رأيت أنه تزوّج بها وكره ما رأى من شعر ساقيها فسأل الإنس ما يذهب هذا فقالوا الموس فقالت المرأة لا تمسني حديدة قط، فسأل الجنّ فقالوا لا ندري، فسأل الشياطين فقالوا إنا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ، فلما تزوّجها سليمان أحبها حباً شديداً وأقرّها على ملكها وأمر الجنّ فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها وارتفاعاً وحسناً، قال الطيبي سلحين ومؤمنة باليمن وغمدان قال في النهاية هم بضم الغين وسكون الميم البناء العظيم، وكان يزورها في الشهر مرّة ويقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له وقيل : إنها لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلاً من قومك أن أزوجك له قالت ومثلي يا نبيّ الله ينكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان، قال نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرّمي ما أحل الله، فقالت إن كان ولا بدّ فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوّجه بها ثم ردّها إلى اليمن وسلطن زوجها ذا تبع على اليمن وأمر زوبعة أمير جنّ اليمن أن يطيعه فبنى له المصانع ولم يزل أميراً حتى مات سليمان عليه السلام، فلما أن حال الحول وتبينت الجنّ موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجنّ إنّ الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرّقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان، وقيل : إنّ الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاثة عشر سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة فسبحان من يدوم ملكه وبقاؤه.
فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب عقولهم واعتقادهم فقال :﴿ لولا ﴾ أي : هلا ولم لا ﴿ تستغفرون الله ﴾ أي : تطلبون غفرانه قبل نزول العذاب، فإنّ استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ تنبيهاً لهم على الخطأ فيما قالوه فإنّ العذاب إذا نزل بهم لا تقبل توبتهم.
تنبيه : وصف العذاب بأنه سيئة مجازاً إمّا لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً، وأمّا وصف الرحمة بأنها حسنة فقيل حقيقة وقيل مجاز.
ثم أجابهم صالح عليه السلام بأن ﴿ قال ﴾ لهم ﴿ طائركم ﴾ أي : ما يصيبكم من خير وشرّ ﴿ عند الله ﴾ أي : الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة وهو قضاؤه وقدره وليس شيء منه بيد غيره، وسمي طائراً لسرعة نزوله بالإنسان، فإنه لا شيء أسرع من قضاء محتوم، وقال ابن عباس : الشؤم أتاكم من عند الله تعالى بكفركم، وقيل : طائركم عملكم عند الله سمي طائراً لسرعة صعوده إلى السماء، ومنه قوله تعالى :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ﴾ ( الإسراء : ١٣ ) ﴿ بل أنتم قوم تفتنون ﴾ قال ابن عباس : تختبرون بالخير والشرّ كقوله تعالى :﴿ ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة ﴾ ( الأنبياء : ٣٥ ) وقال محمد بن كعب : تعذبون، وقيل : يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم بالتطير.
﴿ وكان في المدينة ﴾ أي : مدينة ثمود وهي الحجر ﴿ تسعة رهط ﴾ أي : رجال وإنما جاز تمييزاً لتسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة فكأنه قيل تسعة أنفس أو رجال كما قدّرته، والفرق بين الرهط والنفر أنّ الرهط من الثلاثة إلى العشرة أو من السبعة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة.
وأسماؤهم عن وهب : الهذيل بن عبد رب غنم بن غنم، رياب بن مهرج، مصدع بن مهرج، عمير بن كردبة، عاصم بن مخرمة، سبيط بن صدقة، سمعان بن صفي، قدار بن سالف وهم الذي سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح وكانوا من أبناء أشرافهم ورأسهم قدار بن سالف وهو الذي تولى عقر الناقة، وقوله :﴿ يفسدون في الأرض ﴾ إشارة إلى عموم فسادهم ودوامه وقوله :﴿ ولا يصلحون ﴾ يحتمل أن يكون مؤكداً للأوّل ويحتمل أن لا يكون وهو الأولى، لأنّ بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح فنفى عنهم ذلك فليس شأنهم إلا الفساد المحض الذي لا يخالطه شيء من الصلاح.
تنبيه : محل تقاسموا جزم على الأمر، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً، وحينئذ يجوز أن يكون مفسراً لقالوا كأنه قيل : ما قالوا : فقيل تقاسموا، ويجوز أن يكون حالاً على إضمار قدر أي : قالوا ذلك متقاسمين وإليه ذهب الزمخشريّ.
﴿ ثم لنقولنّ ﴾ أي : بعد إهلاك صالح ومن معه ﴿ لوليه ﴾ أي : المطالب بدمه إن بقي منهم أحد ﴿ ما شهدنا ﴾ أي : ما حضرنا ﴿ مهلك ﴾ أي : إهلاك ﴿ أهله ﴾ أي : أهل ذلك الولي فضلاً عن أن نكون باشرنا أو أهل صالح عليه السلام فضلاً عن أن نكون شهدنا مهلكه أو باشرنا قتله ولا موضع إهلاكه، وقرأ حمزة والكسائي بعد اللام من لنبيتنه بتاء فوقية مضمومة وبعد الياء التحتية بتاء فوقية مضمومة وبعد اللام من ليقولنّ بتاء فوقية مفتوحة وضمّ اللام بعد الواو، والباقون بعد اللام من لنقولنّ بنون مفتوحة ونصب اللام من لنقولنّ، وقرأ عاصم مهلك بفتح الميم، والباقون بضمها، وكسر اللام حفص، وفتحها الباقون.
ولما صمموا على هذا الأمر وظنوا أنفسهم على المبالغة في الحلف بقولهم ﴿ وإنا لصادقون ﴾ أي : في قولنا ما شهدنا مهلك أهله ذلك، فإن قيل : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه ؟ أجيب : على التفسير الثاني بأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين، ثم قالوا ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما، كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما، وفي هذا دليل قاطع على أنّ الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم إلا أنهم قصدوا قتل نبيّ الله ولم يرضوا لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سوّوا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون فيها عن الكذب.
وقال ابن عباس : أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم، وقال مقاتل : نزلوا في سفح الجبل ينتظر بعضهم بعضاً ليأتوا دار صالح فحمى عليهم الجبل فأهلكهم وأهلك الله تعالى قومهم بالصيحة.
تنبيه : خاوية منصوب على الحال، والعامل فيها معنى اسم الإشارة، وقرأ الكوفيون أنا دمرناهم بفتح الهمزة إما على حذف حرف الجرّ، أي : لأنا دمرناهم وإمّا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي : هي أنا دمرناهم أي : العاقبة تدميرنا إياهم، وقيل غير ذلك، والباقون بكسر الهمزة على الاستئناف وهو تفسير للعاقبة، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتهم بضم الباء الموحدة، وكسرها الباقون، ولما ذكر تعالى هلاكهم اتبعه بقوله تعالى :﴿ بما ظلموا ﴾ أي : بسبب ظلمهم وهو عبادتهم من لا يستحق العبادة وتركهم من يستحقها، ثم زاد في التهويل بقوله تعالى :﴿ إن في ذلك ﴾ أي : هذا الأمر الباهر للعقول الذي فعل بثمود ﴿ لآية ﴾ أي : عبرة عظيمة ولكنها ﴿ لقوم يعلمون ﴾ قدرتنا فيتعظون أما من لا علم عنده فقد نادى على نفسه في عداد البهائم.
﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ قال لقومه ﴾ أي : الذين كان سكن فيهم لما فارق عمه إبراهيم الخليل عليهما السلام وصاهرهم وكانوا يأتون الأحداث منكراً موبخاً ﴿ أتأتون الفاحشة ﴾ أي : الفعلة المتناهية في الفحش ﴿ وأنتم تبصرون ﴾ من بصر القلب، أي : تعلمون فحشها واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح، أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معلنين لا يستتر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة وانهماكاً في المعصية، قال الزمخشري وكان أبا نواس بنى على مذهبهم قوله :
وبح باسم ما تأتي وذرني من الكنى | فلا خير في اللذات من دونها ستر |
أجيب : بأنهم يفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمهم بذلك أو يجهلون العاقبة، أو أنّ المراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها.
تنبيه : سلام مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه دعاء.
ولما بين أنه تعالى أهلكهم ولم تغن عنهم آلهتهم من الله شيئاً قال تعالى :﴿ آلله ﴾ أي : الذي له الجلال والإكرام ﴿ خير ﴾ أي : لعباده الذين اصطفاهم وأنجاهم ﴿ أم ما يشركون ﴾ أي : الكفار من الآلهة خير لعبادها فإنهم لا يغنون عنهم شيئا. ً
تنبيه : لكل من القراء السبعة في هاتين الهمزتين وجهان : الأوّل : تحقيق همزة الاستفهام وإبدال همزة الوصل ألفاً مع المدّ، والثاني : تحقيق همزة الاستفهام أيضاً وتسهيل همزة الوصل مع القصر، وقرأ أبو عمرو وعاصم يشركون بالياء التحتية بالغيبة حملاً على ما قبله من قوله تعالى :﴿ وأمطرنا عليهم مطراً ﴾ وما بعده من قوله تعالى :﴿ بل أكثرهم ﴾ والباقون بالتاء الفوقية على الخطاب، وهو التفات للكفار، بعد خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا تبكيت للمشركين بحالهم لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى، ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة، فقيل لهم هذا الكلام تنبيهاً لهم على نهاية ضلالهم وجهلهم وتهكماً بهم وتسفيهاً لرأيهم إذ من المعلوم أنه لا خير فيما أشركوه رأساً حتى يوازنون بينه وبين من هو مبتدأ كل خير.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال :«بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم ».
قال الراغب : سميت بذلك تشبهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، وقال غيره : سميت بذلك لإحداق الجدران بها قاله ابن عادل، وليس بشيء لأنه يطلق عليها ذلك مع عدم الجدران ﴿ ذات بهجة ﴾ أي : بهاء وحسن ورونق وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها وتباين طعومها وأشكالها ومقاديرها وألوانها. ولما أثبت الإنبات له نفاه عن غيره بقوله تعالى :﴿ ما كان ﴾ أي : ما صح وما تصوّر بوجه من الوجوه ﴿ لكم ﴾ وأنتم أحياء فضلاً عن شركائكم الذين هم أموات بل موات ﴿ أن تنبتوا شجرها ﴾ أي : شجر تلك الحدائق ﴿ أإله مع الله ﴾ أعانه على ذلك، أي : ليس معه إله ﴿ بل هم ﴾ أي : في ادعائهم معه سبحانه شريكاً ﴿ قوم يعدلون ﴾ أي : عن الحق الذي لا مرية فيه إلى غيره، وقيل : يعدلون عن هذا الحق الظاهر، ونظير هذه الآية أوّل سورة الأنعام.
ثم ذكر تعالى سبب القرار بقوله تعالى :﴿ وجعل لها رواسي ﴾ أي : جبالاً أثبت بها الأرض على ميزان دَبَّرهُ سبحانه وتعالى في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب.
ولما كان بعض مياه الأرض عذباً وبعضها ملحاً مع القرب جدّاً، بيّن الله تعالى أن أحدهما لم يختلط بالآخر بقوله تعالى :﴿ وجعل بين البحرين ﴾ أي : العذب والملح ﴿ حاجزاً ﴾ من قدرته يمنع أحدهما أن يختلط بالآخر ﴿ أإله مع الله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرة معين له على ذلك ﴿ بل أكثرهم ﴾ أي : الذين ينتفعون بهذه المنافع ﴿ لا يعلمون ﴾ توحيد ربهم بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح.
تنبيه : في قراءة أإله مثل أئنكم.
﴿ ومن يرزقكم من السماء ﴾ أي : بالمطر والحرّ والبرد وغيرها مما له سبب في التكوين أو التلوين ﴿ والأرض ﴾ أي : بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله تعالى : وعبر عنها بالرزق لأنّ به تمام النعمة ﴿ أإله مع الله ﴾ أي : الذي له صفات الجلال والإكرام. ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة ودلائل قاطعة أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إعراضاً عنهم بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء المدّعين للعقول ﴿ هاتوا برهانكم ﴾ أي : حجتكم على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى أو على إثبات شيء منه لغيره ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي : في أنكم على حق في أنّ مع الله تعالى غيره، وأضاف تعالى البرهان إليهم تهكماً بهم وتنبيهاً على أنهم أبعدوا في الضلال وأغرقوا في المحال.
أجيب : بأنه رفع بدلاً على لغة بني تميم يقولون ما في الدار أحد إلا حمار يريدون ما فيها إلا حمار كأن أحداً لم يذكر، ومنه قولهم : ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا أخوانه، فإن قيل : ما الداعي إلى المذهب التميمي على الحجازي ؟ أجيب : بأنه دعت إليه حاجة سرية حيث أخرج المستثنى مخرج قوله إلا اليعافير بعد قوله ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس ليؤل المعنى إلى قولك إن كان الله ممن في السماوات والأرض فهم يعلمون الغيب بمعنى أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أنّ معنى ما في البيت أن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، إنباء عن خلوها عن الأنيس.
ويصح أن يكون متصلاً والظرفية في حقه تعالى مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز كما قال به إمامنا الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، وإن منعه بعضهم، ومن ذلك قول المتكلمين : الله تعالى في كل مكان على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها فكأن ذاته فيها، وعلى هذا فيرتفع على البدل والصفة، والرفع أفصح من النصب لأنه منفي، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول :﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ﴾ وعن بعضهم أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً لئلا يأمن أحد من عبيده مكره، وقوله تعالى :﴿ وما يشعرون ﴾ صفة لأهل السماوات والأرض نفي أن يكون لهم علم بالغيب، وإن اجتمعوا وتعاونوا ﴿ أيان ﴾ أي : أيّ وقت ﴿ يبعثون ﴾ أي : ينشرون.
فإن قيل : هذه الاضرابات الثلاثة ما معناها ؟ أجيب : بأنها لتنزيل أحوالهم وصفهم أوّلاً بأنّهم لا يشعرون بوقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أنّ القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه لا يخطر بباله حقاً ولا باطلاً ولا يفكر في عاقبة وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون، ووصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكماً.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير بقطع الهمزة مفتوحة وسكون اللام قبلها وسكون الدال بعدها، والباقون بكسر اللام وإسقاط الهمزة بعدها وتشديد الدال وبعدها ألف بمعنى تتابع حتى استحكم أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك.
تنبيه : آباؤنا عطف على اسم كان وقام الفصل بالخبر مقام الفصل بالتوكيد.
وقرأ نافع بالخبر في إذا وبالاستفهام في أئنا، وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني وزادا فيه نوناً ثانية، وباقي القراء بالاستفهام في الأوّل والثاني وهم على مذاهبهم من التسهيل والتحقيق والمدّ والقصر، فمذهب قالون وأبي عمرو التسهيل في الهمزة الثانية، وإدخال ألف بينها وبين همزة الاستفهام، ومذهب ورش وابن كثير التسهيل وعدم الإدخال ومذهب هشام الإدخال وعدمه مع التحقيق، ومذهب الباقين التحقيق وعدم الإدخال.
تنبيه : أساطير الأوّلين : جمع أسطورة بالضم أي : ما سطر من الكذب، فإن قيل : لم قدم في هذه الآية هذا، على نحن وآباؤنا، وفي آية أخرى قدم نحن وآباؤنا، على هذا ؟ أجيب : بأنّ التقديم دليل على أنّ المقدّم هو الغرض المقصود بالذكر وأنّ الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين دل على أنّ إيجاد البعث هو الذي تعمد بالكلام وفي الأخرى على أنّ إيجاد المبعوث بذلك الصدد.
تنبيه : الضيق الحرج يقال ضاق الشيء ضيقاً وضيقاً بالفتح والكسر، ولهذا قرأ ابن كثير بكسر الضاد، والباقون بالفتح.
فلما ردفنا من عمير وصحبه | تولوا سراعاً والمنية تعنق |
تنبيه : عسى ولعلّ وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها، وإنما يطلقون إظهاراً لوقارهم وإشعاراً بأنّ الرمز منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيد.
تنبيه : في هذه التاء قولان : أحدهما : أنها للمبالغة كراوية وعلاّمة في قولهم ويل للشاعر من راوية السوء، كأنه تعالى قال وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى، والثاني : أنها كالتاء الداخلة على المصادر نحو العاقبة والعافية، قال الزمخشريّ : ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات ﴿ إلا في كتاب ﴾ هو اللوح المحفوظ كتب فيه ذلك قبل إيجاده لأنه لا يكون شيء إلا بعلمه وتقديره ﴿ مبين ﴾ أي : ظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة.
ولما كان هذا ربما أوقف عن دعائهم رجاه في انقيادهم وارعوائهم بقوله تعالى :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ تسمع ﴾ أي : سماع انتفاع على وجه الكمال في كل حال ﴿ إلا من يؤمن ﴾ أي : من علمنا أنه يصدّق ﴿ بآياتنا ﴾ بأن جعلنا فيه قابلية السمع، ثم تسبب عنه قوله دليلاً على إيمانه ﴿ فهم مسلمون ﴾ أي : مخلصون في غاية الطواعية لك كما في قوله تعالى :﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ﴾ ( البقرة : ١١٢ ) أي : جعله سالماً خالصاً.
وعن ابن جريج في وصفها فقال : رأسها رأس الثور، وعينها عين الخنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّ، وذنبها ذنب كبش، وخفها خف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً بذراع آدم عليه السلام، وروي أنها لا تخرج إلا رأسها ورأسها يبلغ عنان السماء أي : يبلغ السحاب، وعن أبي هريرة فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للرّاكب، وعن الحسن لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام.
وعن علي رضي الله تعالى عنه : أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها، وروي أنه صلى الله عليه وسلم سئل من أين تخرج الدابة فقال :«من أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن » حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد فقوم يهربون وقوم : يقفون نظاراً، وقيل تخرج من الصفا. ولما كان التعبير بالدابة يفهم أنها كالحيوانات العجم لا كلام لها قال ﴿ تكلمهم ﴾ أي : بالعربية كما قاله مقاتل بكلام يفهمونه بلسان طلق ذلق فتقول ﴿ أنّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ﴾ أي : أنّ الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأنّ خروجها من الآيات، وتقول ألا لعنة الله على الظالمين، وعن السدي : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام.
وعن ابن عمر : تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المشرق ثم الشأم ثم اليمن فتفعل مثل ذلك، وروي أنها تخرج من أجياد، روي بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو تترك وجهه كأنه كوكب دريّ وتكتب بين عينيه مؤمن، وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه وتكتب بين عينيه كافر، وروي فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتخطم أنف الكافر بالخاتم ثم تقول لهم يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار.
وعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«بادروا بالأعمال ستاً طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة وخاصة أحدكم وأمر العامة » وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ أوّل الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها ».
وقال صلى الله عليه وسلم «للدّابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها في البادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم تكمن زماناً طويلاً ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم بينا الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله عز وجلّ يعني المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو، قال الراوي ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وثبتت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى أنّ الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه فيتجاور الناس في ديارهم ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال ويعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر ».
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية يشير إلى أنها رجل، والأكثرون على أنها دابة، وعن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال إنّ الدابة لتسمع قرع عصاي هذه، وعن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :«بئس الشعب شعب أجياد مرّتين أو ثلاثاً قيل ولم ذاك يا رسول الله قال تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين » وقال وهب : وجهها وجه الرجل وسائر خلقها خلق الطير فتخبر من يراها أنّ أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون، وقرأ الكوفيون بفتح الهمزة من أنّ على تقدير الباء أي : بأنّ الناس الخ، والباقون بكسرها على الاستئناف.
قال الزمخشري : فإن قلت ما للتقابل لم يراع في قوله تعالى ليسكنوا ومبصراً حيث كان أحدهما علة والآخر حالاً ؟ قلت : هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف لأنّ معنى مبصراً ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب، وأجاب غيره بأنّ السكون في الليل هو المقصود ولأنه وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : هذا المذكور ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات بينة على التوحيد والبعث والنبوّة وغير ذلك وخص المؤمنين بقوله تعالى :﴿ لقوم يؤمنون ﴾ لأنهم المنتفعون به وإن كانت الأدلة للكل كقوله تعالى :﴿ هدى للمتقين ﴾ ( البقرة : ٢ ).
روي أنه صلى الله عليه وسلم «سأل جبريل عنهم فقال هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول العرش » وعن ابن عباس هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم، وعن مقاتل : هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، ويروى أنّ الله تعالى يقول لملك الموت خذ نفس إسرافيل ثم يقول الله تعالى من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول الله تعالى خذ نفس ميكائيل ثم يقول الله تعالى من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول يا جبريل من بقي فيقول تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني قال يا جبريل لا بدّ من موتك فيقع ساجداً يخفق بجناحيه، فيروى أنّ فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم، ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش ثم روح إسرافيل ثم روح ملك الموت، وعن الضحاك هم رضوان والحور ومالك والزبانية عليهم السلام وقيل : عقارب النار وحياتها ﴿ وكل ﴾ أي : من فزع ومن لم يفزع ﴿ أتوه ﴾ أي : بعد ذلك للحساب بنفخة أخرى يقيمهم بها وفي ذلك دليل على تمام قدرته تعالى في كونه أقامهم بما به أماتهم ﴿ داخرين ﴾ أي : صاغرين.
وقرأ حفص وحمزة بقصر الهمزة وفتح التاء على أنه فعل ماض ومفعوله الهاء فالتعبير به لتحقق وقوعه، والباقون بمد الهمزة وضم التاء على أنه اسم فاعل مضاف للهاء وهذا حمل على معنى كل وهي مضافة تقديراً أي : وكلهم.
وقرأ تحسبها بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وفتحها الباقون وقوله تعالى ﴿ صنع الله ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله، أي : صنع الله ذلك صنعاً، ثم زاد في التعظيم بقوله دالاً على تمام الإحكام في ذلك الصنع ﴿ الذي أتقن ﴾ أي : أحكم ﴿ كل شيء ﴾ صنعه ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن والنظام الأمكن أنتج قطعاً قوله تعالى :﴿ إنه ﴾ أي : الذي أتقن هذه الأمور ﴿ خبير بما يفعلون ﴾ أي : عالم بظواهر الأحوال وبواطنها ليجازيهم عليها.
وقرأ يفعلون ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء التحتية على الغيبة، والباقون بالفوقية على الخطاب، وقرأ وهم من فزع يومئذ آمنون الكوفيون بتنوين العين، والباقون بغير تنوين وهم أعمّ فإنه يقتضي الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وأمّا قراءة التنوين فتحتمل معنيين من فزع واحد وهو خوف العذاب، وأمّا ما يلحق الإنسان من الرعب ومشاهدته فلا ينفك منه أحد، ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف وهو خوف النار، وقرأ نافع والكوفيون : بفتح الميم من يومئذ والباقون بكسرها فإن قيل : أليس قال تعالى في أوّل الآية ﴿ ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ﴾ ( النمل، ٨٧ ) فكيف نفى الفزع ههنا ؟ أجيب : بأنّ الفزع الأوّل لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع أو هول يفجأ إلا ما استثنى وإن كان المحسن آمناً من لحاق الضرر، وأما الثاني فهو الخوف من العذاب.
تنبيه : جعل مقابلة الحسنة بالثواب والسيآت بالعقاب من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها وإجرائه لها على قضايا الحكمة إنه عليم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه فيكافئهم على حسب ذلك فانظر إلى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه، وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ إفراغاً واحداً ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق والادعاء.
ولما كانوا ربما قالوا نحن نعبده بعبادة من نرجوه يقرّبنا إليه زلفى، عين له الدين الذي تكون به العبادة بقوله :﴿ وأمرت ﴾ أي : مع الأمر بالعبادة له وحده ﴿ أن أكون ﴾ أي : كوناً هو في غاية الرسوخ ﴿ من المسلمين ﴾ أي : المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتمّ انقياد ثابتاً على ذلك غاية الثبات.