تفسير سورة النّمل

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة النمل من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة النمل
وتسمى أيضا كما في الدر المنثور سورة سليمان وهي مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم وذهب بعضهم إلى مدنية بعض آياتها كما سيأتي إنشاء الله تعالى وعدد آياتها خمسة وتسعون آية حجازي وأربع بصري وشامي وثلاث كوفي ووجه اتصالها بما قبلها أنها كالتتمة لها حيث زاد سبحانه فيها ذكر داود وسليمان وبسط فيها قصة لوط عليه السلام أبسط مما هي قبل وقد وقع فيها ( إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا ) الخ وذلك كالتفصيل لقوله سبحانه فيما قبل :( فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين ) وقد اشتمل كل من السورتين على ذكر القرآن وكونه من الله تعالى وعلى تسليته صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص

سورة النّمل
وتسمى أيضا كما في الدر المنثور سورة سليمان، وهي مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وذهب بعضهم إلى مدنية بعض آياتها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعدد آياتها خمس وتسعون آية حجازي وأربع بصري وشامي وثلاث كوفي، ووجه اتصالها بما قبلها أنها كالتتمة لها حيث زاد سبحانه فيها ذكر داود وسليمان وبسط فيها قصة لوط عليه السلام أبسط مما هي قبل وقد وقع فيها إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً [النمل: ٧] إلخ وذلك كالتفصيل لقوله سبحانه فيما قبل: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ الشعراء: ٢١] وقد اشتمل كل من السورتين على ذكر القرآن وكونه من الله تعالى وعلى تسليته صلّى الله عليه وسلّم إلى غير ذلك، وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص.
طس قرىء بالإمالة وعدمها، والكلام فيه كالكلام في نظائره من الفواتح.
تِلْكَ إشارة إلى السورة المذكورة، وأداة البعد للإشارة إلى بعد المنزلة في الفضل والشرف أو إلى الآيات التي تتلى بعد نظير الإشارة في قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: ١، ٢] أو إلى مطلق الآيات، ومحله الرفع
151
على الابتداء خبره قوله تعالى: آياتُ الْقُرْآنِ والجملة مستأنفة أو خبر لقوله تعالى: طس وإضافة آياتُ إلى الْقُرْآنِ لتعظيم شأنها فإن المراد به المنزل المبارك المصدق لما بين يديه الموصوف بالكمالات التي لا نهاية لها، ويطلق على كل المنزل عليه صلّى الله عليه وسلّم للإعجاز وعلى بعض منه، وجوز هنا إرادة كل من المعنيين وإذا أريد الثاني فالمراد بالبعض جميع المنزل عند نزول السورة، وقوله تعالى: وَكِتابٍ مُبِينٍ عطف على الْقُرْآنِ والمراد به القرآن وعطفه عليه مع اتحاده معه في الصدق كعطف إحدى الصفتين على الأخرى كما في قولهم: هذا فعل السخي والجواد الكريم، وتنوينه للتفخيم، و «المبين» إما من أبان المتعدي أي مظهر ما في تضاعيفه من الحكم والأحكام وأحوال القرون الأولى وأحوال الآخرة التي من جملتها الثواب والعقاب أو سبيل الرشد والغيّ أو نحو ذلك، والمشهور في أمثال هذا الحذف أنه يفيد العموم. وأما من أبان اللازم بمعنى بأن أي ظاهر الإعجاز أو ظاهر الصحة للإعجاز وهو على الاحتمالين صفة مادحة لكتاب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة.
ولما كان في التنكير نوع من الفخامة وفي التعريف نوع آخر وكان الغرض الجمع للاستيعاب الكامل عرف القرآن ونكر الكتاب وعكس في الحجر، وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه، ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص هاهنا قدم كونه قرآنا لأنه أدل على خصوص المنزل على محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم للإعجاز كذا في الكشف.
وقال بعض الأجلة: قدم الوصف الأول هاهنا نظرا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية وعكس هنالك لأن المراد تفخيمه من حيث اشتماله على كمال جنس الكتب الإلهية حتى كأنه كلها ومن حيث كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه والإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره من الكتب أدخل في المدح لئلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة، وفي هذا حمل أل على الجنس في الكتاب.
والظاهر أنها في الْقُرْآنِ للعهد فيختلف معناها في الموضعين وإليه يشير ظاهر كلام الكشاف كما قيل، واعتذر له بأنه إذا رجع المعنيان إلى التفخيم فلا بأس بمثل هذا الاختلاف، وجوز أن تكون في الموضعين للعهد وأن تكون فيهما للجنس فتأمل، وقيل: إن اختصاص كل من الموضعين بما اختص به من تعيين الطريق.
وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ وإبانته أنه خط فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة فهو يبينه للناظرين فيه، وتأخيره هنا عن القرآن باعتبار تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر عليه باعتبار الوجود الخارجي فإن القرآن بمعنى المقروء لنا مؤخر عن اللوح المحفوظ ولا يخفى أن إرادة غير اللوح من الكتاب أظهر. وقال بعضهم: لا يساعد إرادة اللوح منه هاهنا إضافة الآيات إليه إذ لا عهد باشتماله على الآيات ولا وصفه بالهداية والبشارة إذ هما باعتبار إبانته فلا بد من اعتبارها بالنسبة إلى الناس الذين من جملتهم المؤمنون لا إلى الناظرين فيه.
وقرأ ابن أبي عبلة «وكتاب مبين» برفعهما، وخرج على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي وآيات كتاب، وقيل: يجوز عدم اعتبار الحذف والكتاب لكونه مصدرا في الأصل يجوز الإخبار به عن المؤنث، وقيل: رب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا ألا ترى أنهم حظروا جاءتني زيد وأجازوا جاءتني هند وزيد، وقوله تعالى: هُدىً وَبُشْرى في حيز النصب على الحالية من آياتُ على إقامة المصدر مقام الفاعل فيه للمبالغة كأنها نفس الهدى والبشارة، والعامل معنى الإشارة وهو الذي سمته النحاة عاملا معنويا.
152
وجوز أبو البقاء على قراءة الرفع في كِتابٍ كون الحال منه ثم قال: ويضعف أن يكون من المجرور ويجوز أن يكون حالا من الضمير في مُبِينٍ على القراءتين، وجوز أبو حيان كون النصب على المصدرية أي تهدي هدي وتبشر بشرى أو الرفع على البدلية من آياتُ، واشتراط الكوفيين في إبدال النكرة من المعرفة شرطين اتحاد اللفظ وأن تكون النكرة موصوفة نحو قوله تعالى: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق: ١٥، ١٦] غير صحيح كما في شرح التسهيل لشهادة السماع بخلافه أو على أنه خبر بعد خبر لتلك أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي هدى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون قيدا للهدى والبشرى معا، ومعنى هداية الآيات لهم وهم مهتدون أنها تزيدهم هدى قال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: ١٢٤] وأما معنى تبشيرها إياهم فظاهر لأنها تبشرهم برحمة من الله تعالى ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم كذا قيل، وفي الحواشي الشهابية أن الهدى على هذا الاحتمال، إما بمعنى الاهتداء أو على ظاهره وتخصيص المؤمنين لأنهم المنتفعون به وإن كانت هدايتها عامة، وجعل المؤمنين بمعنى الصائرين للإيمان تكلف كحمل هداهم على زيادته، ويحتمل أن يكون قيدا للبشرى فقط ويبقى الهدى على العموم وهو بمعنى الدلالة والإرشاد أي هدى لجميع المكلفين وبشرى للمؤمنين الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ صفة مادحة للمؤمنين، وكنى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عن عمل الصالحات مطلقا، وخصا لأنهما على ما قيل إما العبادة البدنية والمالية، والظاهر أنه حمل الزكاة على الزكاة المفروضة.
وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة، وقيل كان في مكة زكاة مفروضة إلا أنها لم تكن كالزكاة المفروضة بالمدينة فلتحمل في الآية عليها، وقيل: الزكاة هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق وهو خلاف المشهور في الزكاة المقرونة بالصلاة ويبعده تعليق الإيتاء بها، وقوله تعالى: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ يحتمل أن يكون معطوفا على جملة الصلة، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من ضمير الموصول، ويحتمل أن يكون استئنافا جيء به للقصد إلى تأكيد ما وصف المؤمنون به من حيث إن الإيقان بالآخرة يستلزم الخوف المستلزم لتحمل مشاق التكليف فلا بد من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وقد أقيم الضمير فيه مقام اسم الإشارة المفيد لاكتساب الخلافة بالحكم باعتبار السوابق فكأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة، وسمى الزمخشري هذا الاستئناف اعتراضا وكونه لا يكون إلا بين شيئين يتعلق أحدهما بالآخر كالمبتدأ والخبر غير مسلم عنده.
واختار هذا الاحتمال فقال: إنه الوجه ويدل عليه أنه عقد الكلام جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هُمْ حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق انتهى. وأنكر ابن المنير إفادة نحو هذا التركيب الاختصاص وادعى أن تكرار الضمير للنظرية لمكان الفصل بين الضميرين بالجار والمجرور، والحق أنه يفيد ذلك كما صرحوا به في نحو هو عرف، وكذا يفيد التأكيد لما فيه من تكرار الضمير.
وزعم أبو حيان أن فيما ذكره الزمخشري دسيسة الاعتزال، ولا يخفى أنه ليس في كلامه أكثر من الإشارة إلى أن المؤمن العاصي لم يوقن بالآخرة حق الإيقان، ولعل جعل ذلك دسيسة مبني على أنه بنى ذلك على مذهبه في أصحاب الكبائر وقوله فيهم بالمنزلة بين المنزلتين. وأنت تعلم أن القول بما اختاره في الآية لا يتوقف على القول المذكور وتغيير النظم الكريم على الوجهين الأولين لما لا يخفى، وتقديم بِالْآخِرَةِ في جميع الأوجه لرعاية الفاصلة، وجوز أن يكون للحصر الإضافي كما في الحواشي الشهابية إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بيان لأحوال
153
الكفرة بعد أحوال المؤمنين أي لا يؤمنون بها وبما فيها من الثواب على الأعمال الصالحة والعقاب على الأعمال السيئة حسبما ينطق به القرآن زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة بما ركبنا فيهم من الشهوات والأماني حتى رأوها حسنة فَهُمْ يَعْمَهُونَ يتحيرون ويترددون والاستمرار في الاشتغال بها والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يتبعها. والفاء لترتيب المسبب على السبب. ونسبة التزيين إليه عز وجل عند الجماعة حقيقة وكذا التزيين نفسه، وذهب الزمخشري إلى أن التزيين إما مستعار للتمتيع بطول العمر وسعة الرزق وإما حقيقة وإسناده إليه سبحانه وتعالى مجاز وهو حقيقة للشيطان كما في قوله تعالى: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الأنفال: ٤٨].
والمصحح لهذا المجاز إمهاله تعالى الشيطان وتخليته حتى يزين لهم. والداعي له إلى أحد الأمرين إيجاب رعاية الأصلح عليه عز وجل. ونسب إلى الحسن أن المراد بالأعمال الأعمال الحسنة وتزيينها بيان حسنها في أنفسها حالا واستتباعها لفنون المنافع مآلا أي زينا لهم الأعمال الحسنة فهم يترددون في الضلال والإعراض عنها.
والفاء عليه لترتيب ضد المسبب على السبب كما في قولك: وعظته فلم يتعظ، وفيه إيذان بكمال عتوهم ومكابرتهم وتعكيسهم الأمور، وتعقب هذا القول بأن التزيين قد ورد غالبا في غير الخير نحو قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آل عمران: ١٤] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا [البقرة: ٢١٢] زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: ١٣٧] إلخ ووروده في الخير قليل نحو قوله تعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ٧] ويبعد حمل الأعمال على الأعمال الحسنة إضافتها إلى ضميرهم وهم لم يعملوا حسنة أصلا. وكون إضافتها إلى ذلك باعتبار أمرهم بها، وإيجابها عليهم لا يدفع البعد.
وذكر الطيبي أنه يؤيد ما ذكر أولا أن وزان فاتحة هذه السورة إلى هاهنا وزان فاتحة البقرة فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله سبحانه: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ كقوله جل وعلا: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: ٧].
وقد سبق بيان وجه دلالة ذلك على مذهب الجماعة هناك وإن التركيب من باب تحقيق الخبر وإن المعنى استمرارهم على الكفر وإنهم بحيث لا يتوقع منهم الإيمان ساعة فساعة أمارة لرقم الشقاء عليهم في الأزل والختم على قلوبهم وأنه تعالى زين لهم سوء أعمالهم فهم لذلك في تيه الضلال يترددون وفي بيداء الكفر يعمهون، ودل على هذا التأويل إيقاع لفظ المضارع في صلة الموصول والماضي في خبره وترتيب قوله تعالى: فَهُمْ يَعْمَهُونَ بالفاء عليه، واختصاص الخطاب بما يدل على الكبرياء والجبروت من باب تحقيق الخبر نحو قول الشاعر:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة بكوفة الجند غالت ودها غول
وفي الأخبار الصحيحة ما ينصر هذا التأويل أيضا أُوْلئِكَ إشارة إلى المذكورين الموصوفين بالكفر والعمه وهو مبتدأ خبره الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ يحتمل أن يكون المراد لهم ذلك في الدنيا بأن يقتلوا أو يؤسروا أو تشدد عليهم سكرات الموت لقوله تعالى: وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ويحتمل أن يكون المراد لهم ذلك في الدارين وهو الذي استظهره أبو حيان ويكون قوله تعالى: وَهُمْ إلخ لبيان أن ما في الآخرة أعظم العذابين بناء على أن «الأخسرين» أفعل تفضيل، والتفضيل باعتبار حاليهم في الدارين أي هم في الآخرة أخسر منهم في الدنيا لا غيرهم كما يدل عليه تعريف الجزأين على معنى أن خسرانهم في الآخرة أعظم من خسرانهم في الدنيا من حيث إن عذابهم في الآخرة غير منقطع أصلا وعذابهم في الدنيا منقطع ولا كذلك غيرهم من عصاة المؤمنين لأن خسرانهم في الآخرة
154
ليس أعظم من خسرانهم في الدنيا من هذه الحيثية فإن عذابهم في الآخرة ينقطع ويعقبه نعيم الأبد حتى يكادوا لا يخطر ببالهم أنهم عذبوا كذا قيل.
وقال بعضهم: إن التفضيل باعتبار ما في الآخرة أي هم في الآخرة أشد الناس خسرانا لا غيرهم لحرمانهم الثواب واستمرارهم في العقاب بخلاف عصاة المؤمنين، ويلزم من ذلك كون عذابهم في الآخرة أعظم من عذابهم في الدنيا ويكفي هذا في البيان، وقال الكرماني: إن أفعل هنا للمبالغة لا للشركة، قال أبو حيان: كأنه يقول: ليس للمؤمن خسران البتة حتى يشركه فيه الكافر ويزيد عليه ولم يتفطن لكون المراد أن خسران الكافر في الآخرة أشد من خسرانه في الدنيا فالاشتراك الذي يدل عليه أفعل إنما هو بين ما في الآخرة وما في الدنيا اه كلامه. وكأنه يسلم أن ليس للمؤمن خسران البتة وفيه بحث لا يخفى، وتقديم فِي الْآخِرَةِ إما للفاصلة أو للحصر، وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ كلام مستأنف سيق بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم تمهيدا لما يعقبه من الأقاصيص، وتصديره بحرفي التأكيد لإبراز كمال العناية بمضمونه وبنى الفعل للمفعول وحذف الفاعل وهو جبريل عليه السلام للدلالة عليه في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: ١٤٣] ولقي المخفف يتعدى لواحد والمضاعف يتعدى لاثنين وهما هنا نائب الفاعل والقرآن، والمراد وإنك لتعطي القرآن تلقنه مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي أي حكيم وأي عليم، وفي تفخيمهما تفخيم لشأن القرآن وتنصيص على علو طبقته عليه الصلاة والسلام في معرفته والإحاطة بما فيه من الجلائل والدقائق، والحكمة كما قال الراغب من الله عز وجل معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الأحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات وجمع بينها وبين العلم مع أنه داخل في معناها لغة كما سمعت لعمومه إذ هو يتعلق بالمعدومات ويكون بلا عمل ودلالة الحكمة على أحكام العمل وإتقانه وللإشعار بأن ما في القرآن من العلوم منها ما هو حكمة كالشرائع ومنها ما هو ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية.
وقوله تعالى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم وأمر بتلاوة بعض من القرآن الذي تلقاه صلّى الله عليه وسلّم من لدنه عز وجل تقريرا لما قبله وتحقيقا له أي اذكر لهم وقت قول موسى عليه السلام لأهله، وجوز أن تكون إِذْ ظرفا لعليم. وتعقبه في البحر بأن ذلك ليس بواضح إذ يصير الوصف مقيدا بالمعمول، وقال في الكشف: ما يتوهم من دخل التقييد بوقت معين مندفع إذ ليس مفهوما معتبرا عند المعتبر ولأنه لما كان تمهيد القصة حسن أن يكون قيدا لها كأنه قيل: ما أعلمه حيث فعل بموسى عليه السلام ما فعل، ولما كان ذلك من دلائل العلم والحكمة على الإطلاق لم يضر التقييد بل نفع لرجوعه بالحقيقة إلى نوع من التعليل والتذكير اهـ. ولا يخفى أن الظاهر مع هذا هو الوجه الأول ثم إن قول موسى عليه السلام إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ كان في أثناء سيره خارجا من مدين عند وادي طوى وكان عليه السلام قد حاد عن الطريق في ليلة باردة مظلمة فقدح فاصلد زنده فبدا له من جانب الطور نار، والمراد بالخبر الذي يأتيهم به من جهة النار الخبر عن حال الطريق لأن من يذهب لضوء نار على الطريق يكون كذلك ولم يجرد الفعل عن السين إما للدلالة على بعد مسافة النار في الجملة حتى لا يستوحشوا إن أبطأ عليه السلام عنهم أو لتأكيد الوعد بالإتيان فإنها كما ذكره الزمخشري تدخل في الوعد لتأكيده وبيان أنه كائن لا محالة وإن تأخر، وما قيل من أن السين للدلالة على تقريب المدة دفعا للاستيحاش إنما ينفع على ما قيل في اختياره على سوف دون التجريد الذي يتبادر من الفعل معه الحال الذي هو أتم في دفع الاستيحاش.
ولعل الأولى اعتبار كونه للتأكيد، لا يقال: إنه عليه السلام لم يتكلم بالعربية وما ذكر من مباحثها لأنا نقول: ما
155
المانع من أن يكون في غير اللغة العربية ما يؤدي مؤداها بل حكاية القول عنه عليه السلام بهذه الألفاظ يقتضي أنه تكلم في لغته بما يؤدي ذلك ولا بد، وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه عليه السلام غير امرأته للتعظيم وهو الوجه في تسمية الله تعالى شأنه امرأة موسى عليه السلام بالأهل مع أنه جماعة الأتباع أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها فقبس صفة شهاب أو بدل منه، وهذه قراءة الكوفيين ويعقوب، وقرأ باقي السبعة والحسن «بشهاب قبس» بالإضافة واختارها أبو الحسن وهي إضافة بيانية لما بينهما من العموم والخصوص كما في ثوب خز فإن الشهاب يكون قبسا وغير قبس، والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في سورة طه فلا تدافع بين ما وقع هنا وما وقع هناك، والترديد للدلالة على أنه عليه السلام إن لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما بناء على ظاهر الأمر وثقة بسنة الله عز وجل أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبد.
وقيل: يجوز أن يقال الترديد لأن احتياجه عليه السلام إلى أحدهما لا لهما لأنه كان في حال الترحال وقد ضل عن الطريق فمقصوده أن يجد أحدا يهدي إلى الطريق فيستمر في سفره فإن لم يجده يقتبس نارا ويوقدها ويدفع ضرر البرد في الإقامة.
وتعقب بأنه قد ورد في القصة أنه عليه السلام كان قد ولد له عند الطور ابن في ليلة شاتية وظلمة مثلجة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته فرأى النار فقال لأهله ما قال وهو يدل على احتياجه لهما معا لكنه تحرى عليه السلام الصدق فأتى بأو لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي رجاء أو لأجل أن تستدفئوا بها، والصلاة بكسر الصاد والمد ويفتح بالقصر الدنو من النار لتسخين البدن وهو الدفء ويطلق على النار نفسها أو هو بالكسر الدفء وبالفتح النار فَلَمَّا جاءَها أي النار التي قال فيها إِنِّي آنَسْتُ ناراً وقيل: الضمير للشجرة وهو كما ترى، وما ظنه داعيا ليس بداع لما أشرنا إليه نُودِيَ أي موسى عليه السلام من جانب الطور أَنْ بُورِكَ معناه أي بورك على أن أن مفسرة لما في النداء من معنى القول دون حروفه.
وجوز أن تكون أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، ومنعه بعضهم لعدم الفصل بينها وبين الفعل بقد أو السين أو سوف أو حرف النفي وهو مما لا بد منه إذا كانت مخففة لما في الحجة لأبي علي الفارسي أنها لما كانت لا يليها إلا الأسماء استقبحوا أن يليها الفعل من غير فاصل. وأجيب بأن ما ذكر ليس على إطلاقه. فقد صرحوا بعدم اشتراط الفصل في مواضع، منها ما يكون الفعل فيه دعاء فلعل من جوز كونها المخففة هاهنا جعل بُورِكَ دعاء على أنه يجوز أن يدعي أن الفصل بإحدى المذكورات في غير ما استثنى أغلبي لقوله:
علموا أن يؤملون فجادوا قبل أن يسألوا بأعظم سؤل
وجوز أن تكون المصدرية الناصبة للأفعال وبُورِكَ حينئذ إما خبر أو إنشاء للدعاء. وادعى الرضي أن بورك إذا جعل دعاء فإن مفسرة لا غير لأن المخففة لا يقع بعدها فعل إنشائي إجماعا وكذا المصدرية وهو مخلف لما ذكره النحاة، ودعوى الإجماع ليست بصحيحة، والقول بأن يفوت معنى الطلب بعد التأويل بالمصدر قد تقدم ما فيه، وفي الكشف يمنع عن جعلها مصدرية عدم سداد المعنى لأن بُورِكَ إذ ذاك ليس يصلح بشارة وقد قالوا: إن تصدير الخطاب بذلك بشارة لموسى عليه السلام بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة وهذا بخلاف ما إذا كان بُورِكَ تفسيرا للشأن اهـ وفيه نظر، وعلى الوجهين الكلام على حذف حرف الجر أي نودي بأن إلخ، والجار والمجرور متعلق بما عنده وليس نائب الفاعل بل نائب الفاعل ضمير موسى عليه السلام، وقيل: هو نائب الفاعل ولا ضمير.
156
وقال بعضهم في الوجه الأول أيضا إن الضمير القائم مقام الفاعل ليس لموسى عليه السلام بل هو لمصدر الفعل أي نودي هو أي النداء، وفسر النداء بما بعده، والأظهر في الضمير رجوعه لموسى وفي أن أنها مفسرة وفي بُورِكَ أنه خبر وهو من البركة وقد تقدم معناها، وقيل: هنا المعنى قدس وطهر وزيد خيرا مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ذهب جماعة إلى أن في الكلام مضافا مقدرا في موضعين أي من في مكان النار ومن حول مكانها قالوا: ومكانها البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص: ٣٠] وتدل على ذلك قراءة أبي «تباركت الأرض ومن حولها» واستظهر عموم من لكل مَنْ في ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء عليهم السلام وكفاتهم أحياء وأمواتا ولا ولا سيما تلك البقعة التي كلم الله تعالى موسى عليه السلام فيها.
وقيل: من في النار موسى عليه السلام ومن حولها الملائكة الحاضرون عليهم السلام، وأيد بقراءة أبي فيما نقل أبو عمرو الداني وابن عباس ومجاهد وعكرمة «ومن حولها من الملائكة» وهي عند كثير تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه، وقيل: الأول الملائكة والثاني موسى عليهم السلام، واستغنى بعضهم عن تقدير المضاف بجعل الظرفية مجازا عن القرب التام، وذهب إلى القول الثاني في المراد بالموصولين، وأيا ما كان فالمراد بذلك بشارة موسى عليه السلام، والمراد بقوله تعالى على ما قيل: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تعجيب له عليه السلام من ذلك وإيذان بأن ذلك مريده ومكونه رب العالمين تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون، ومن أحكام تربيته تعالى للعالمين أو خبر له عليه السلام بتنزيهه سبحانه لئلا يتوهم من سماع كلامه تعالى التشبيه بما للبشر أو طلب منه عليه السلام لذلك.
وجوز أن يكون تعجبا صادرا منه عليه السلام بتقدير القول أي وقال سبحان الله إلخ، وقال السدي: هو من كلام موسى عليه السلام قاله لما سمع النداء من الشجرة تنزيها لله تعالى عن سمات المحدثين، وكأنه على تقدير القول أيضا، وجعل المقدر عطفا على نُودِيَ. وقال ابن شجرة: هو من كلام الله تعالى ومعناه وبورك من سبح الله تعالى رب العالمين، وهذا بعيد من دلالة اللفظ جدا، وقيل: هو خطاب لنبينا صلّى الله عليه وسلّم مراد به التنزيه وجعل معترضا بين ما تقدم وقوله تعالى: يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فإنه متصل معنى بذلك والضمير للشأن، وقوله سبحانه: أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ نعتان للاسم الجليل ممهران لما أريد إظهاره على يده من المعجزة أي أنا الله القوي القادر على ما لا تناله الأوهام من الأمور العظام التي من جملتها أمر العصا واليد الفاعل كل ما أفعله بحكمة بالغة وتدبير رصين، والجملة خبر إن مفسرة لضمير الشأن.
وجوز أن يكون الضمير راجعا إلى ما دل عليه الكلام وهو المكلم المنادي وأَنَا خبر أي إن مكلمك المنادي لك أنا، والاسم الجليل عطف بيان لأنا، وتجوز البدلية عند من جوز إبدال الظاهر من ضمير المتكلم بدل كل، ويجوز أن يكون أَنَا توكيدا للضمير واللَّهُ الخبر. وتعقب أبو حيان إرجاع الضمير للمكلم المنادى بأنه إذا حذف الفاعل وبنى فعله للمفعول لا يجوز عود ضمير على ذلك المحذوف لأنه نقض للغرض من حذفه والعزم على أن لا يكون محدثا عنه، وفيه أنه لم يقل أحد إنه عائد على الفاعل المحذوف بل على ما دل عليه الكلام ولو سلّم فلا امتناع في ذلك إذا كان في جملة أخرى وأيضا قوله والعزم على أن لا يكون محدثا عنه غير صحيح لأنه قد يكون محدثا عنه ويحذف للعلم به وعدم الحاجة إلى ذكره، ثم إن الحمل مفيد من غير رؤية لأنه عليه السلام علمه سبحانه علم اليقين بما وقر في قلبه فكأنه رآه عز وجل، هذا وفي قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ إلخ أقوال أخر، الأول
157
أن المراد بمن في النار نور الله تعالى وبمن حولها الملائكة عليهم السلام وروي ذلك عن قتادة. والزجاج.
والثاني أن المراد بمن في النار الشجرة التي جعلها الله محلا للكلام وبمن حولها الملائكة عليهم السلام أيضا ونقل هذا عن الجبائي وفي ما ذكر إطلاق مَنْ على غير العالم.
والثالث ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس. قال في قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها يعني الملائكة عليهم السلام، واشتهر عنه كون المراد بمن في النار نفسه تعالى وهو مروي أيضا عن الحسن وابن جبير وغيرهما كما في البحر.
وتعقب ذلك الإمام بأنا نقطع بأن هذه الرواية عن ابن عباس موضوعة مختلقة.
وقال أبو حيان: إذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف أي بورك من قدرته وسلطانه في النار، وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني في رسالته تنبيه العقول على تنزيه الصوفية عن اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول إلى صحة الخبر عن الحبر رضي الله تعالى عنه وعدم احتياجه إلى التأويل المذكور فإن الذي دعا المؤولين أو الحاكمين بالوضع إلى التأويل أو الحكم بالوضع ظن دلالته على الحلول المستحيل عليه تعالى وليس كذلك بل ما يدل عليه هو ظهوره سبحانه في النار وتجليه فيها وليس ذلك من الحلول في شيء فإن كون الشيء مجلى لشيء ليس كونه محلا له فإن الظاهر في المرآة مثلا خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه ثم إن تجليه تعالى وظهوره في المظاهر يجامع التنزيه. ومعنى الآية عنده فلما جاءها نودي أن بورك أي قدس أو نحو ذلك من تجلى وظهر في صورة النار لما اقتضته الحكمة لكونها مطلوبة لموسى عليه السلام ومن حولها من الملائكة أو منهم ومن موسى عليهم السلام، وقوله تعالى: وَسُبْحانَ اللَّهِ دفع لما يتوهمه التجلي في مظهر النار من التشبيه أي وسبحان الله عن التقيد بالصورة والمكان والجهة وإن ظهر فيها بمقتضى الحكمة لكونه موصوفا بصفة رب العالمين الواسع القدوس الغني عن العالمين ومن هو كذلك لا يتقيد بشيء من صفات المحدثات بل هو جل وعلا باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق في حال تجليه وظهوره فيما شاء من المظاهر.
ولهذا
ورد في الحديث الصحيح «سبحانك حيث كنت»
فأثبت له تعالى التجلي في الحيث ونزهه عن أن يتقيد بذلك «يا موسى» إنه أي المنادي المتجلي في النار أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ فلا أتقيد بمظهر للعزة الذاتية لكني الحكيم ومقتضى الحكمة الظهور في صورة مطلوبك. وذكر أن تقدير المضاف كما فعل بعض المفسرين عدول عن الظاهر لظن المحذور فيه. وقد تبين أن لا محذور فلا حاجة إلى العدول انتهى، وكأني بك تقول: هذا طور ما وراء طور العقول. ثم إنه لا مانع على أصول الصوفية أن يريدوا بمن حولها الله عز وجل أيضا إذ ليس في الدار عندهم غيره سبحانه ديار، ولا بعد في أن تكون الآية عند ابن عباس إن صح عنه ما ذكر من المتشابه والمذاهب فيه معلومة عندك. والأوفق بالعامة التأويل بأن يقال: المراد أن بورك من ظهر نوره في النار.
ولعل في خبر الحبر السابق ما يشير إليه. وإضافة النور إليه تعالى لتشريف المضاف وهو نور خاص كان مظهرا لعظيم قدرته تعالى وعظمته، وسمعت من بعض أجلة المشايخ يقول: إن هذا النور لم يكن عينا ولا غيرا على نحو قول الأشعري في صفاته عز وجل الذاتية وهو أيضا منزع صوفي يرجع بالآخرة إلى حديث التجلي والظهور كما لا يخفى فتأمل.
وَأَلْقِ عَصاكَ عطف على بُورِكَ منتظم معه في سلك تفسير النداء أي نودي أن بورك وأن ألق عصاك.
158
ويدل عليه قوله تعالى: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ بعد قوله سبحانه: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ بتكرير أن فإن القرآن يفسر بعضه بعضا وهذا ما اختاره الزمخشري. وأورد عليه أن تجديد النداء في قوله تعالى: يا مُوسى إلخ يأباه. ورد بأنه ليس بتجديد نداء لأنه من جملة تفسير النداء المذكور، وقيل: لا يأباه لأنه جملة معترضة وفيه بحث، واعترض أيضا بأن بُورِكَ إخبار وَأَلْقِ إنشاء ولا يعطف الإنشاء على الإخبار، ومن هنا قيل: إن العطف على ذلك بتقدير وقيل له: ألق أو العطف على مقدر أي افعل ما آمرك وألق، وفيه إنه في مثل هذا يجوز عطف الإنشاء على الإخبار لكون النداء في معنى القول بل أجاز سيبويه جاء زيد ومن عمرو بالعطف.
ولا يرد هذا أصلا على من يجعل «بورك» إنشاء، ويرد على من جعل العطف على أفعل محذوفا أن الظاهر حينئذ فألق بالفاء، واختار أبو حيان كون العطف على جملة إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ولم يبال باختلاف الجملتين اسمية وفعلية وإخبارية وإنشائية لما ذكر أن الصحيح عدم اشتراط تناسب الجملتين المتعاطفتين في ذلك لما سمعت آنفا عن سيبويه، والفاء في قوله تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقه بظهورها ودلالة على سرعة وقوع مضمونها كأنه قيل: فألقاها فانقلبت حية فلما أبصرها تتحرك بشدة اضطرب، وجملة تَهْتَزُّ في موضع الحال من مفعول رأى فإنها بصرية كما أشرنا إليه لا علمية كما قيل.
وقوله تعالى: كَأَنَّها جَانٌّ في موضع حال أخرى منه أو هو حال من ضمير تَهْتَزُّ على طريقة التداخل، والجان الحية الصغيرة السريعة الحركة شبهها سبحانه في شدة حركتها واضطرابها مع عظم جثتها بصغار الحيات السريعة الحركة فلا ينافي هذا قوله تعالى في موضع آخر: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الأعراف: ١٠٧، الشعراء: ٣٢].
وقيل: يجوز أن يكون الإخبار عنها بصفات مختلفة باعتبار تنقلها فيها، وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد:
«جأن» بهمزة مفتوحة هربا من التقاء الساكنين وإن كان على حده كما قيل: دأبة وشأبة.
وَلَّى مُدْبِراً أي انهزم وَلَمْ يُعَقِّبْ أي ولم يرجع على عقبه من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار قال الشاعر:
فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
وهذا مروي عن مجاهد، وقريب منه قول قتادة: أي لم يلتفت وهو الذي ذكره الراغب، وكان ذلك منه عليه السلام لخوف لحقه، قيل: لمقتضى البشرية فإن الإنسان إذ رأى أمرا هائلا جدا يخاف طبعا أو لما أنه ظن أن ذلك لأمر أريد وقوعه به، ويدل على ذلك قوله سبحانه: يا مُوسى لا تَخَفْ أي من غيري أي مخلوق كان حية أو غيرها ثقة بي واعتمادا عليّ أو لا تخف مطلقا على تنزيل الفعل منزلة اللازم، وهذا إما لمجرد الإيناس دون إرادة حقيقة النهي وإما للنهي عن منشأ الخوف وهو الظن الذي سمعته، وقوله تعالى:
إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ تعليل للنهي عن الخوف، وهو على ما قيل يؤيد أن الخوف كان للظن المذكور وأن المراد لا تَخَفْ مطلقا، والمراد من لَدَيَّ في حضرة القرب مني وذلك حين الوحي.
والمعنى أن الشأن لا ينبغي للمرسلين أن يخافوا حين الوحي إليهم بل لا يخطر ببالهم الخوف وإن وجد ما يخاف منه لفرط استغراقهم إلى تلقي الأوامر وانجذاب أرواحهم إلى عالم الملكوت، والتقييد بلديّ لأن المرسلين في سائر الأحيان أخوف الناس من الله عز وجل فقد قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] ولا أعلم منهم بالله تعالى شأنه، وقيل: المعنى لا تخف من غيري أو لا تخف مطلقا فإن الذي ينبغي أن يخاف منه أمثالك
159
المرسلون إنما هو سوء العاقبة وأن الشأن لا يكون للمرسلين عندي سوء عاقبة ليخافوا منه.
والمراد بسوء العاقبة ما في الآخرة لا ما في الدنيا لئلا يرد قتل بعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام، والمراد بلديّ على ما قال الخفاجي: عند لقائي وفي حكمي على ما قال ابن الشيخ، وأيا ما كان يلزم مما ذكر أن المرسلين عليهم السلام لا يخافون سوء العاقبة لأن الله تعالى آمنهم من ذلك فلو خافوا لزم أن لا يكونوا واثقين به عز وجل وهذا هو الصحيح كما في الحواشي الشهابية عند الأشعري، وظاهر الآثار يقتضي أنهم عليهم السلام كانوا يخافون ذلك،
فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها يوما: يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا أراد يقلب قلب عبده»
وظاهر بعض الآيات يقتضي ذلك أيضا مثل قوله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: ٩٩] وكون الله تعالى آمنهم من ذلك إن أريد به ما جاء في ضمن تبشيرهم بالجنة فقد صرح أن المبشرين بالجنة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يخافون من سوء العاقبة مع علمهم ببشارته تعالى إياهم بالجنة، ويعلم منه أن الخوف يجتمع مع البشارة، ولا يلزم من ذلك عدم الوثوق به عز وجل لأنه لاحتمال أن يكون هناك شرط لم يظهره الله تعالى لهم للابتلاء ونحوه من الحكم الإلهية، وإن أريد به ما كان بصريح آمنتكم من سوء العاقبة كان هذا الاحتمال قائما أيضا فيه ويحصل الخوف من ذلك، وإن أريد به ما اقتضاه جعله تعالى إياهم معصومين من الكفر ونحوه ورد أن الملائكة عليهم السلام جعلهم الله تعالى معصومين من ذلك أيضا وهم يخافون.
ففي الأثر لما مكر بإبليس بكى جبرائيل وميكائيل عليهما السلام فقال الله عز وجل لهما: ما يبكيكما؟ قالا: يا رب ما نأمن مكرك فقال تعالى: هكذا كونا لا تأمنا مكري
، ولعل ذلك لأن العصمة عندنا على ما يقتضيه أصل استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء كما في المواقف وشرحه الشريف الشريفي أن لا يخلق الله تعالى في الشخص ذنبا، وعند الحكماء بناء على ما ذهبوا إليه من القول بالإيجاب واعتبار استعداد القوابل ملكة تمنع الفجور وتحصل ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات وتتأكد بتتابع الوحي بالأوامر والنواهي وهي بكلا المعنيين لا تقتضي استحالة الذنب، أما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الأول فلأن عدم خلقه تعالى إياه ليس بواجب عليه سبحانه ليكون خلقه مستحيلا عليه تعالى ومتى لم يكن الخلق مستحيلا عليه تعالى فكيف يحصل الأمن من المكر، وأما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الثاني فلأن زوال تلك الملكة ممكن أيضا واقتضاء العلم بالمثالب والمناقب إياها ابتداء وتأكدها بتتابع الوحي ليس من الضرورات العقلية ومتى كان الأمر كذلك لا يحصل الأمن بمجرد حصول الملكة، نعم قال قوم: العصمة تكون خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه، وقد يستند إليه من يقول بالأمن، ولا يخفى أنه لو سلّم تمام الاستدلال به على هذا المطلب فهو في حد ذاته غير صحيح.
ففي المواقف وشرحه أنه يكذب هذا القول أنه لو كان صدور الذنب ممتنعا لما استحق النبي عليه الصلاة والسلام المدح بترك الذنب إذ لا مدح بترك ما هو ممتنع لأنه ليس بمقدور داخلا تحت الاختيار، وأيضا فالإجماع على أن الأنبياء عليهم السلام مكلفون بترك الذنوب مثابون به ولو كان صدور الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك، وأيضا فقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف: ١١٠] يدل على مماثلتهم عليهم السلام لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما لا يمتنع صدوره عن سائر البشر اهـ، وذكر الخفاجي في شرح الشفاء عن ابن الهمام أنه قال في التحرير: العصمة عدم القدرة على المعصية وخلق مانع عنها
160
غير ملجىء، ثم قال: وهو مناسب لقول الماتريدي العصمة لا تزيل المحنة أي الابتلاء المقتضي لبقاء الاختيار، ومعناه كما في الهداية أنها لا تجبره على الطاعة ولا تعجزه عن المعصية بل هي لطف من الله تعالى تحمله على فعله وتزجره عن الشر مع بقاء الاختيار وتحقيق للابتلاء اه، وهو ظاهر على عدم الاستحالة الذاتية لصدور الذنب، ولعل ما وقع في كلام بعض الأجلة من استحالة وقوع الذنب منهم عليهم السلام محمول على الاستحالة الشرعية كما يؤذن به كلام العلامة ابن حجر في شرح الهمزية، وبالجملة الذي تقتضيه الظواهر ويشهد له العقل أن الأنبياء عليهم يخافون ولا يأمنون مكر الله تعالى لأنه وإن استحال صدور الذنب عنهم شرعا لكنه غير مستحيل عقلا بل هو من الممكنات التي يصح تعلق قدرة الله تعالى بها ومع ملاحظة إمكانه الذاتي وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء وقيام احتمال تقييد المطلق بما لم يصرح به لحكمة كالمشيئة لا يكاد يأمن معصوم من مكر الملك الحي القيوم فالأنبياء والملائكة كلهم خائفون ومن خشيته سبحانه عز وجل مشفقون، وليس لك أن تخص خوفهم بخوف الإجلال إذ الظاهر العموم ولا دليل على الخصوص يعول عليه عند فحول الرجال، نعم قد يقال بإمكان حصول الأمن من المكر وذلك بخلق الله تعالى علما ضروريا في العبد بعدم تحقق ما يخاف منه في وقت من الأوقات أصلا لعلم الله تعالى عدم تحققه كذلك وإن كان ممكنا ذاتيا، ولعله يحصل لأهل الجنة لتتم لذتهم فيها فقد قيل:
فإن شئت أن تحيا حياة هنية فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا
ولا يبعد حصوله لمن شاء الله تعالى من عباده يوم القيامة قبل دخولها أيضا، ولم تقم أمارة عندي على حصوله في هذه النشأة لأحد والله تعالى أعلم فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وروى الإمام عن بعضهم أنه قال معنى الآية:
إني إذا أمرت المرسلين بإظهار معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة.
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ الاستثناء فيه منقطع عند كثير إلا أنه روي عن الفراء والزجاج وغيرهما أن المراد بمن ظلم من أذنب من غير الأنبياء عليهم السلام، قال صاحب المطلع: والمعنى عليه لكن من ظلم من سائر العباد ثم تاب فإني أغفر له، وقال جماعة: إن المراد به من فرطت منه صغيرة ما وصدر منه خلاف الأولى بالنسبة إلى شأنه من المرسلين عليهم السلام.
والمراد استدراك ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم وفيهم من صدر منه ذلك، والمعنى عليه لكن من صدر منهم ما هو في صورة الظلم ثم تاب فإني أغفر له فلا ينبغي أن يخاف أيضا، وهو شامل على ما قيل لمن فعل منهم شيئا من ذلك قبل رسالته، وخصه بعضهم بمن صدر منه شيء من ذلك قبل النبوة وقال: يؤيده لفظه ثُمَّ فإنها ظاهرة في التراخي الزماني، ولعل الظاهر كونه خاصا بمن صدر منه بعد الرسالة لظهور المرسل في المتلبس بالرسالة لا فيمن يتلبس بها بعد أو الأعم، وكأن فيما ذكر على الوجهين الأولين تعريضا بما وقع من موسى عليه السلام من وكزه القبطي واستغفاره، وتسميته ظلما مشاكلة
لقوله عليه السلام ظلمت نفسي
، ولم يجعلوه على هذا متصلا مع دخول المستثني في المستثنى منه أعني المرسلين مطلقا لأنه لو كان متصلا لزم إثبات الخوف لمن فرطت منه صغيرة ما منهم لاستثنائه من الحكم وهو نفي الخوف عنهم ونفي النفي إثبات وذلك خلاف المراد فلا يكون متصلا بل هو شروع في حكم آخر.
ورجح الطيبي ما قاله الجماعة بأن مقام تلقي الرسالة وابتداء المكالمة مع الكليم يقتضي إزالة الخوف بالكلية وهو ظاهر على ما قالوه، وروى عن الحسن ومقاتل وابن جريج والضحاك ما يقتضي أنه استثناء متصل والظاهر أنهم أرادوا بمن من أراده الجماعة وفي اتصاله على ما سمعت خفاء. وربما يقال: إن من يطلق الاتصال عليه في رأي
161
الجماعة يكتفي في الاتصال بمجرد كون المستثني من جنس المستثنى منه فإن كفى فذاك وإلا يلتزم إثبات الخوف ويجعل «بدل» عطفا على مستأنف محذوف كأنه قيل: إلا من فرطت منه صغيرة فإنه يخاف فمن فرط ثم تاب غفر له فلا يخاف. وحاصله إلا من ظلم فإنه يخاف أولا ويزول عنه الخوف بالتوبة آخرا، وعن الفراء في رواية أخرى عنه أنه استثناء متصل من جملة محذوفة والتقدير وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم. ورده النحاس بأن الاستثناء من محذوف لا يجوز ولو جاز هذا لجاز أن يقال: لا تضرب القوم إلا زيدا على معنى وإنما اضرب غيرهم إلا زيدا وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه انتهى وهو كما قال: ولا يجدي نفعا القول باعتبار مفهوم المخافة. وقالت فرقة: إن إلا بمعنى الواو والتقدير ولا من ظلم إلخ.
وتعقبه في البحر بأنه ليس بشيء للمباينة التامة بين إلا والواو فلا تقع أحداهما موقع الأخرى. وحسن الظن يجوز أنهم لم يصرحوا بكون إلا بمعنى الواو وإنما فهم من نسبه إليهم من تقديرهم وهو يحتمل أن يكون تقدير معنى لا إعراب فلا تغفل، والظاهر انقطاع الاستثناء، ولعل الأوفق بشأن المرسلين أن يراد بمن ظلم من ارتكب ذنبا كبيرا أو صغيرا من غيرهم، وثُمَّ يحتمل أن تكون للتراخي الزمان فتفيد الآية المغفرة لمن بدل على الفور من باب أولى، ويحتمل أن تكون للتراخي الرتبي وهو ظاهر بين الظلم والتبديل المذكور والتبديل قد يتعدى إلى مفعولين بنفسه نحو بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: ٥٦] وقد يتعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر بالباء أو بمن وهو المذهوب به والمبدل منه نحو بدله بخوفه أو من خوفه أمنا وقد يتعدى إلى واحد نحو بدلت الشيء أي غيرته. وَمِنْهُ فمن بدل بعد ما سمعه والمعنى هنا على المتعدي إلى مفعولين. وقد تعدى إلى أحدهما. وهو المبدل منه بالباء أو بمن فكأنه قيل: ثم بدل بظلمه أو من ظلمه حسنا، ويشير إليه قوله تعالى: بَعْدَ سُوءٍ وحاصله ثم ترك الظلم وأتى بحسن، والمراد به التوبة.
فيكون المعنى في الآخرة إلا من ظلم ثم تاب وعدل عنه إلى ما في النظم الجليل لأنه أوفق بمقام الإيناس كذا قيل، والظاهر عليه أن إسناد التبديل إلى من ظلم حقيقي، وقيل: إن المعنى ثم رفع الظلم والسوء ومحاه من صحيفة أعماله ووضع مكانه الحسن بسبب توبته نظير ما في قوله تعالى: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: ٧٠]، وإسناد التبديل إلى من ظلم على هذا مجازي لأنه سبب لتبديل الله تعالى له بتوبته، وكأني بك تختار الأول، ومحل «من» على كل من تقديري انقطاع الاستثناء واتصاله ظاهر. والظاهر أنها موصولة في التقديرين. ولا يخفى أنها إذا اعتبرت منصوبة المحل على الاستثناء أو مرفوعته على البدل تكون جملة «فإني» إلخ مستأنفة. ومن قدر في الكلام محذوفا عطف عليه بَدَّلَ، وقال: التقدير من ظلم ثم بدل جعل الجملة خبر من، وجوز بعضهم أن تكون شرطية وجملة فَإِنِّي إلخ جوابها فتأمل ولا تغفل. وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم «ألا من ظلم» بفتح الهمزة وتخفيف اللام على أن إِلَّا حرف استفتاح. وجعل أبو حيان مَنْ على هذه القراءة شرطية ولا أراه واجبا وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني «حسنى» على وزن فعلى ممنوع الصرف. وقرأ ابن مقسم «حسنا» بضم الحاء والسين منونا.
وقرأ مجاهد وأبو حيوة وابن أبي علي والأعمش وأبو عمرو في رواية الجعفي وعصمة وعبد الوارث وهارون وعياش «حسنا» بفتح الحاء والسين مع التنوين وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي جيب قميصك وهو مدخل الرأس منه المفتوح إلى الصدر لا ما يوضع فيه الدراهم ونحوها كما هو معروف الآن لأنه مولد، ولم يقل سبحانه في كمك لأنه عليه السلام كان لابسا إذ ذاك مدرعة من صوف لا كم لها، وقيل: الجيب القميص نفسه لأنه يجاب أي يقطع فهو فعل بمعنى مفعول، وقال السدي: فِي جَيْبِكَ أي تحت إبطك.
ولعل مراده أن المعنى أدخلها في جيبك وضعها تحت إبطك، وكانت مدرعته عليه السلام على ما روى عن
162
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أزرار لها، وقد ورد في بعض الآثار أن نبينا صلّى الله عليه وسلّم كان مطلق القميص في بعض الأوقات،
ففي سنن أبي داود باب في حل الأزرار لم أخرج فيه من طريق معاوية بن قرة قال: حدثني أبي قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رهط من مزينة فبايعناه وإن قميصه لمطلق،
وفي رواية البغوي في معجم الصحابة لمطلق الأزرار قال: فبايعه ثم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم، قال عروة فما رأيت معاوية ولا أباه قط إلا مطلقي أزرارهما، ولا يزرانها أبدا
وجاء أيضا عليه الصلاة والسلام أمر بزر الأزرار.
فقد أخرج الطبراني عن زيد بن أبي أوفى «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فإذا أزراره محلولة فزرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده وقال: اجمع عطفي ردائك على نحرك»
وفي هذين الأثرين ما هو ظاهر في أن جيب القميص كان إذ ذاك على الصدر كما هو اليوم عند العرب. وهو يبطل القول بأنه خلاف السنة وأنه من شعائر اليهود، وأمره تعالى إياه عليه السلام بإدخال يده في جيبه مع أنه سبحانه قادر على أن يجعلها بيضاء من غير إدخال للامتحان وله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء، والظاهر أن قوله تعالى:
تَخْرُجْ جواب الأمر لأن خروجها مترتب على إدخالها، وقيل: في الكلام حذف تقديره وأدخل يدك في جيبك تدخل وأخرجها تخرج فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول فيكون في الكلام صنعة الاحتباك وهو تكلف لا حاجة إليه، وقوله تعالى: بَيْضاءَ حال وكذا قوله تعالى: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وهو احتراس وقد تقدم الكلام فيه. وكذا قوله سبحانه: فِي تِسْعِ آياتٍ أي آية معدودة من جملة تسع آيات أو معجزة لك معها على أن التسع هي: الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة وهي جعل أسبابهم حجارة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الجدب والنقصان في المزارع واحدا ولا يعد الفلق منها لأنه عليه السلام لم يبعث به إلى فرعون وإن تقدمه بيسير، ومن عده يقول: يكفي معاينته له في البعث به أو هو بعث به لمن آمن من قومه ولم تخلف من القبط ولم يؤمن، وفي التقريب أن الطمسة والجدب والنقصان يرجع إلى شيء واحد فالتسع هذا الواحد. والعصا واليد وما بقي من المذكورات.
وذهب صاحب الفرائد إلى أن الجراد. والقمل واحد، والجدب. والنقصان واحد، وجوز أن يكون في تسع منقطعا عما قبله متعلقا بمحذوف أي اذهب في تسع آيات. ويدل على ذلك قوله تعالى بعد: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا وفي بمعنى مع، ونظير هذا الحذف ما في قوله:
أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
وقلت إلى الطعام فقال منهم فريق يحسد الإنس الطعاما
فإن التقدير هلموا إلى الطعام. ويتعلق بهذا المحذوف قوله تعالى: إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وعلى ما تقدم يتعلق بمحذوف وقع حالا أي مبعوثا أو مرسلا إلى فرعون، وأيا ما كان فقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل لم أرسلت إليهم بما ذكر؟ فقيل: إنهم إلخ، والمراد بالفسق إما الخروج عما ألزمهم الشرع إياه إن قلنا بأنهم قد أرسل قبل موسى عليه السلام من يلزمهم اتباعه وهو يوسف عليه السلام، وإما الخروج عما ألزمه العقل واقتضاء الفطرة إن قلنا بأنه لم يرسل إليهم أحد قبله عليه السلام.
163
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا أي ظهرت لهم على يد موسى عليه السلام، فالمجيء مجاز عن الظهور وإسناده إلى الآيات حقيقي، وقال بعض الأجلة: المجيء حقيقة وإسناده إلى الآيات مجازي وهو حقيقة لموسى عليه السلام ولما بينهما من الملابسة لكونها معجزة له عليه السلام ساغ ذلك.
ولعل النكتة في العدول عن- فلما جاءهم موسى بآياتنا- إلى ما في النظم الجليل الإشارة إلى أن تلك الآيات خارجة عن طوقه عليه السلام كسائر المعجزات وأنه لم يكن له عليه السلام تصرف في بعضها وكونه معجزة له لإخباره به ووقوعه بدعائه ونحوه، ولا ينافي هذا الإسناد إليه لكونها جارية على يديه للإعجاز في قوله سبحانه: فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا [القصص: ٣٦] في محل آخر، وقد بين بعضهم وجها لاختصاص كل منهما بمحله بأن ثمة ذكر مقاولته عليه السلام ومجادلتهم معه فناسب الإسناد إليه، وهنا لما لم يكن كذلك ناسب الإسناد إليها لأن المقصود بيان جحودهم بها، وإضافة الآيات للعهد، وفي إضافتها إلى ضمير العظمة ما لا يخفى من تعظيم شأنها مُبْصِرَةً حال من الآيات أي بينة واضحة، وجعل الإبصار لها وهو حقيقة لمتأمليها للملابسة بينها وبينهم لأنهم إنما يبصرون بسبب تأملهم فيها فالإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب، ويجوز أن يراد مبصرة كل من نظر إليها من العقلاء أو من فرعون وقومه لقوله تعالى: وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي جاعلته بصيرا من أبصره المتعدي بهمزة النقل من بصر والإسناد أيضا مجازي.
ويجوز أن تجعل الآيات كأنها تبصر فتهدي لأن العمي لا تقدر على الاهتداء فضلا أن تهدي غيرها فيكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية مرشحة، قال في الكشف: وهذا الوجه أبلغ، وقيل: إن فاعلا أطلق للمفعول فالمجاز إما في الطرف أو في الإسناد فتأمل.
وقرأ قتادة وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما مُبْصِرَةً بفتح الميم والصاد على وزن مسبعة
، وأصل هذه الصيغة أن تصاغ في الأكثر لمكان كثر فيه مبدأ الاشتقاق فلا يقال: مسبعة مثلا إلا لمكان يكثر فيه السباع لا لما فيه سبع واحد ثم تجوز بها عما هو سبب لكثرة الشيء وغلبته كقولهم: الولد مجبنة ومبخلة أي سبب لكثرة جبن الوالد وكثرة بخله وهو المراد هنا أي سببا لكثرة تبصر الناظرين فيها، وقال أبو حيان هو مصدر أقيم مقام الاسم وانتصب على الحال أيضا قالُوا هذا أي الذي نراه أو نحوه سِحْرٌ مُبِينٌ أي واضح سحريته على أن مُبِينٌ من أبان اللازم وَجَحَدُوا بِها أي وكذبوا بها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي علمت علما يقينيا أنها آيات من عند الله تعالى، والاستيقان أبلغ من الإيقان.
164
وفي البحر أن استفعل هنا بمعنى تفعل كاستكبر بمعنى تكبر، والأبلغ أن تكون الواو للحال والجملة بعدها حالية إما بتقدير قد أو بدونها ظُلْماً أي للآيات كقوله تعالى: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ [الأعراف: ٩] وقد ظلموا بها أي ظلم حيث حطوها عن رتبتها العالية وسموها سحرا، وقيل: ظلما لأنفسهم وليس بذاك وَعُلُوًّا أي ترفعا واستكبارا عن الإيمان بها كقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها [الأعراف: ٣٦] وانتصابهما إما على العلية من جَحَدُوا وهي على ما قيل باعتبار العاقبة والادعاء كما في قوله:
لدوا للموت وابنوا للخراب وأما على الحال من فاعله أي جحدوا بها ظالمين عالين، ورجح الأول بأنه أبلغ وأنسب بقوله تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي ما آل إليه فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الهائل الذي هو عبرة للظالمين، وإنما لم يذكر تنبيها على أنه عرضة لكل ناظر مشهور لدى كل باد وحاصر. وأدخل بعضهم في العاقبة حالهم في الآخرة من الإحراق والعذاب الأليم. وفي إقامة الظاهر مقام الضمير ذم لهم وتحذير لأمثالهم.
وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة وأبان بن تغلب «وعليا» بقلب الواو ياء وكسر العين واللام، وأصله فعول لكنهم كسروا العين اتباعا، وروى ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة.
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من أنه عليه السلام تلقى القرآن من لدن حكيم عليم كقصة موسى عليه السلام، وتصديره بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه أي آتينا كل واحد منهما طائفة من العلم لائقة به من علم الشرائع والأحكام وغير ذلك مما يختص بكل منهما كصنعة لبوس ومنطق الطير، وخصها مقاتل بعلم القضاء، وابن عطاء بالعلم بالله عز وجل، ولعل الأولى ما ذكر أو علما سنيا غزيرا فالتنوين على الأول للتقليل وهو أوفق بكون القائل هو الله عز وجل فإن كل علم عنده سبحانه قليل وعلى الثاني للتعظيم والتكثير وهو أوفق بامتنانه جل جلاله فإنه سبحانه الملك العظيم فاللائق بشأنه الامتنان بالعظيم الكثير فلكل وجهة، وربما يرجح الثاني، ومما ينبغي أن لا يلتفت إليه كون التنوين للنوعية أي نوعا من العلم والمراد به علم الكيمياء وَقالا أي قال كل منهما شكرا لما أوتيه من العلم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بما آتانا من العلم عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ على أن عبارة كل منهما فضلني إلا أنه عبر عنهما عند الحكاية بصيغة المتكلم مع الغير إيجازا، وحكاية الأقوال المتعددة سواء كانت صادرة عن المتكلم أو عن غيره بعبارة جامعة للكل مما ليس بعزيز، ومن ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: ٥١] قيل وبهذا ظهر حسن موقع العطف بالواو دون الفاء إذ المتبادر من العطف بالفاء ترتب حمل كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما لا على إيتاء ما أوتي نفسه فقط.
وتعقب بأنه إذا سلّم ما ذكر فالعطف بالواو أيضا يتبادر معه كون حمد كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما فما يمنع من ذلك مع الواو يمنع نحوه مع الفاء، وقال العلامة الزمخشري: عطف بالواو دون الفاء مع أن الظاهر العكس كما في قولك: أعطيته فشكر إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد كأنه قال سبحانه: ولقد آتيناهما علما فعملا فيه وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، وقالا:
الحمد لله الذي فضلنا، وحاصله أن إيتاء العلم من جلائل النعم وفواضل المنح يستدعي إحداث الشكر أكثر مما ذكر فجيء بالواو لأنها تستدعي إضمارا فيضمر ما يقتضيه موجب الشكر من قوله: فعملا به وعلماه فإنه شكر فعلي، وقوله:
وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة فإنه شكر قلبي، وبقوله تعالى: وَقالا إلخ تتم أنواع الشكر لأنه شكر لساني، وفي
165
الطي إيماء بأن المطوي جاوز حد الإحصاء، ويعلم مما ذكر أن هذا الوجه لاختيار العطف بالواو أولى مما ذهب إليه السكاكي من تفويض الترتب إلى العقل لأن المقام يستدعي الشكر البالغ وهو ما يستوعب الأنواع وعلى ما ذهب إليه يكون بنوع القولي منها وحده، وهو أولى مما قيل أيضا: إنه لم يعطف بالفاء لأن الحمد على نعم عظيمة من جملتها العلم ولو عطف بالفاء لكان الحمد عليه فقط لأن السياق ظاهر في أن الحمد عليه لا على ما يدخل هو في جملته، وهل هناك على ما ذكره العلامة تقدير حقيقة أم لا قولان، وممن ذهب إلى الأول من يسمى هذه الواو الواو الفصيحة، والظاهر أن المراد من الكثير المفضل عليه من لم يؤت مثل علمهما عليهما السلام، وقيل: ذاك ومن لم يؤت علما أصلا.
وتعقب بأنه يأباه تبيين الكثير بعبادة تعالى المؤمنين فإن خلوهم عن العلم بالمرة مما لا يمكن، وفي تخصيصهما الكثير بالذكر إشارة إلى أن البعض مفضلون عليهما كذا قيل، والمتبادر من البعض القليل، وفي الكشاف أن في قوله تعالى: عَلى كَثِيرٍ أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وتعقب بأن فيه نظرا إذ يدل بالمفهوم على أنهما لم يفضلا على القليل فإما أن يفضل القليل عليهما أو يساوياه فلا بل يحتمل الأمرين.
ورده صاحب الكشف بأن الكثير لا يقابله القليل في مثل هذا المقام بل يدل على أن حكم الأكثر بخلافه، ولما بعد تساوي الأكثر من حيث العادة لا سيما والأصل التفاوت حكم صاحب الكشاف بأنه يدل على أنه فضل عليهما أيضا كثير على أن العرف طرح التساوي في مثله عن الاعتبار وجعل التقابل بين المفضل والمفضل عليه، ألا ترى أنهم إذا قالوا: لا أفضل من زيد فهم أنه أفضل من الكل انتهى.
وفي الآية أوضح دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه مما أوتياه من الملك العظيم وتحريض للعلماء على أن يحمدوا الله تعالى على ما آتاهم من فضله وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن في عباد الله تعالى من يفضلهم في العلم، ونعم ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين نهى على المنبر عن التغالي في المهور فاعترضت عليه عجوز بقوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [النساء:
٢٠] الآية: كل الناس أفقه من عمر، وفيه من جبر قلب العجوز وفتح باب الاجتهاد ما فيه، وجعل الشيعة له من المثالب من أعظم المثالب وأعجب العجائب. ولعل في الآية إشارة إلى جواز أن يقول العالم: أنا عالم. وقال قال ذلك جملة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم منهم أمير المؤمنين علي كرّم الله تعالى وجهه. وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وما شاع من حديث: «من قال أنا عالم فهو جاهل» إنما يعرف من كلام يحيى بن أبي كثير موقوفا عليه على ضعف في إسناده، ويحيى هذا من صغار التابعين فإنه رأى أنس بن مالك وحده، وقد وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتحقيقه في أعذب المناهل للجلال السيوطي.
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي قام مقامه في النبوة والملك وصار نبيا ملكا بعد موت أبيه داود عليهما السلام فوراثته إياه مجاز عن قيامه مقامه فيما ذكر بعد موته، وقيل: المراد وراثة النبوة فقط، وقيل: وراثة الملك فقط، وعن الحسن ونسبه الطبرسي إلى أئمة أهل البيت أنها وراثة المال، وتعقب بأنه
قد صح «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
وقد ذكره الصديق. والفاروق رضي الله تعالى عنهما بحضرة جمع من الصحابة وهم الذين لا يخافون في الله تعالى لومة لائم ولم ينكره أحد منهم عليهما.
وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء قال: «سمعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم يقول: إن العلماء
166
ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» وروى محمد بن يعقوب الرازي في الكافي عن أبي البحتري عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال ذلك أيضا
، ومما يدل على أن هذه الوراثة ليست وراثة المال ما روى الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأيضا وراثة المال لا تختص بسليمان عليه السلام فإنه كان لداود عدة أولاد غيره كما رواه الكليني عنه أيضا، وذكر غيره أنه عليه السلام توفي عن تسعة عشر ابنا فالأخبار بها عن سليمان ليس فيه كثير نفع وإن كان المراد الأخبار بما يلزمها من بقاء سليمان بعد داود عليهما السلام فما الداعي للعدول عما يفيده من غير خفاء مثل وقال سليمان بعد موت أبيه داود «يا أيها الناس» إلخ.
وأيضا السياق والسباق يأبيان أن يكون المراد وراثة المال كما لا يخفى على منصف، والظاهر أن الرواية عن الحسن غير ثابتة وكذا الرواية عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم، فقد سمعت في رواية الكليني عن الصادق رضي الله تعالى عنه ما ينافي ثبوتها، ووراثة غير المال شائعة في الكتاب الكريم فقد قال عز من قائل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ [فاطر: ٣٢]، وقال سبحانه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ [الأعراف: ١٦٩] ولا يضر تفاوت القرينة فافهم.
وكان عمره يوم توفي داود عليهما السلام اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة وكان داود قد أوصى له بالملك فلما توفي ملك وعمره ما ذكر، وقيل: إن داود عليه السلام ولاه على بني إسرائيل في حياته حكاه في البحر.
وَقالَ تشهيرا لنعمة الله تعالى وتعظيما لقدرها ودعاء للناس إلى التصديق بنبوته بذكر المعجزات الباهرات التي أوتيها لا افتخارا يا أَيُّهَا النَّاسُ الظاهر عمومه جميع الناس الذين يمكن عادة مخاطبتهم.
وقال بعض الأجلة: المراد به رؤساء مملكته وعظماء دولته من الثقلين وغيرهم، والتعبير عنهم بما ذكر للتغليب، وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال: الناس عندنا أهل العلم عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي نطقه وهو في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا أو مركبا، وقد يطلق على كل ما يصوت به على سبيل الاستعارة المصرحة، ويجوز أن يعتبر تشبيه المصوت بالإنسان ويكون هناك استعارة بالكناية وإثبات النطق تخييلا، وقيل يجوز أيضا أن يراد بالنطق مطلق الصوت على أنه مجاز مرسل وليس بذاك.
ويحتمل الأوجه الثلاثة قوله:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال
وقد يطلق على ذلك للمشاكلة كما في قولهم: الناطق والصامت للحيوان والجماد، والذي علمه عليه السلام من منطق الطير هو على ما قيل ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه،
ويحكى أنه عليه السلام مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله تعالى ونبيه أعلم قال: يقول أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاوس فقال يقول كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال: يقول استغفروا الله تعالى يا مذنبون، وصاح طيطوى فقال: يقول كل حي ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال: يقول قدّموا خيرا تجدوه، وصاحت رخمة فقال: يقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى، وقال الحدأ: يقول كل شيء هالك إلا الله تعالى، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء يقول: ويل لمن الدنيا همه والديك يقول: اذكروا الله تعالى يا غافلون. والنسر يقول: يا ابن آدم
167
عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس، والضفدع يقول: سبحان ربي القدوس والقنبرة تقول: اللهم العن مبغض محمد وآل محمد، والزرزور يقول: اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق والدراج يقول:
الرحمن على العرش استوى
انتهى. ونظم الضفدع في سلك المذكورات من الطير ليس في محله، ومع هذا الله تعالى أعلم بصحة هذه الحكاية. وقيل: كانت الطير تكلمه عليه السلام معجزة له نحو ما وقع من الهدهد في القصة الآتية.
وقيل: علم عليه السلام ما تقصده الطير في أصواتها في سائر أحوالها فيفهم تسبيحها ووعظها وما تخاطبه به عليه السلام وما يخاطب به بعضها بعضا. وبالجملة علم من منطقها ما علم الإنسان من منطق بني صنفه، ولا يستبعد أن يكون للطير نفوس ناطقة ولغات مخصوصة تؤدي بها مقاصدها كما في نوع الإنسان إلا أن النفوس الإنسانية أقوى وأكمل، ولا يبعد أن تكون متفاوتة تفاوت النفوس الإنسانية الذي قال به من قال.
ويجوز أن يعلم الله تعالى منطقها من شاء من عباده ولا يختص ذلك بالأنبياء عليهم السلام، ويجري ما ذكرناه في سائر الحيوانات وذهب بعض الناس إلى أن سليمان عليه السلام علم منطقها أيضا إلا أنه نص على الطير لأنها كانت جندا من جنوده يحتاج إليها في التظليل من الشمس وفي البعث في الأمور، ولا يخفى أن الآية لا تدل على ذلك فيحتاج القول به إلى نقل صحيح، وزعم بعضهم أنه عليه السلام علم أيضا منطق النبات فكان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها، ولم أجد في ذلك خبرا صحيحا. وكثير من الحكماء من يعرف خواص النبات بلونه وهيئته وطعمه وغير ذلك. ولا يحتاج في معرفتها إلى نطقه بلسان القال. والضمير في عُلِّمْنا وأُوتِينا قيل: له ولأبيه عليهما السلام وهو خلاف الظاهر. والأولى كونه له عليه السلام، ولما كان ملكا مطاعا خاطب رعيته على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة من التمهيد لما يراد من الرعية من الطاعة والانقياد في الأوامر والنواهي ولم يكن ذلك تعاظما وتكبرا منه عليه السلام، ومراعاة قواعد السياسة للتوصل بها إلى ما فيه رضا الله عز وجل من الأمور المهمة.
وقد أمر نبينا صلّى الله عليه وسلّم العباس بحبس أبي سفيان حتى تمر عليه الكتائب يوم الفتح لذلك، وكُلِّ في الأصل للإحاطة وترد للتكثير كثيرا نحو قولك: فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء وهي كناية في ذلك أو مجاز مشهور، وهذا المعنى هو المراد هنا إذا جعلت مِنْ صلة وهو المناسب لمقام التحدث بالنعم، وإن لم تجعل صلة فهي على أصلها فيما قيل. وأنت تعلم أنه لا يتسنى ذلك إلا إذا أريد الكل المجموعي وهو كما ترى.
وفي البحر أن قوله تعالى: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ إشارة إلى النبوة. وقوله سبحانه: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إشارة إلى الملك، والجملتان كالشرح للميراث وعن مقاتل أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإنس والشياطين والريح وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو ما يهمه عليه السلام من أمر الدنيا والآخرة. وقد يقال: إنه ما يحتاجه الملك من آلات الحرب وغيرها إِنَّ هذا إشارة إلى ما ذكر من التعليم والإيتاء لَهُوَ الْفَضْلُ والإحسان من الله تعالى الْمُبِينُ الواضح الذي لا يخفى على أحد أو أن هذا الفضل الذي أوتيته لهو الفضل المبين. فيكون من كلامه عليه السلام قطعا ذيل به ما تقدم منه ليدل على أنه إنما قال ما قال على سبيل الشكر كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»
بالراء المهملة آخره كما في الرواية المشهورة أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا.
ويقرب من هذا المعنى ولا فخر بالزاي كما في الرواية الغير المشهورة.
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ أي جمع له عساكره من الأماكن المختلفة مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ بيان للجنود في البحر وغيره. ولا يلزم من ذلك أن يكون الجنود المحشورون له عليه السلام جميع الجن وجميع الإنس
168
وجميع الطير إذ يأبى ذلك مع قطع النظر عن العقل قصة بلقيس الآتية بعد، وكذا قصة الهدهد.
ونقل عن بعضهم أنه عليه السلام كان يأتيه من كل صنف من الطير واحد وهو نص في أن المحشور ليس جميع الطير. ولا يكاد يصح إرادة الجميع في الجميع على ما ذكره الإمام في الآية أيضا وهو أن المعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده لأنه وإن لم يستدع الحضور والاجتماع في موضع واحد بل يكفي فيه مجرد الانقياد والدخول في حيطة تصرفه والاتباع له حيث كانوا لأباء قصة بلقيس أيضا عنه فإن المناسب الإخبار بهذا الجعل بعد الإخبار بدخولها ومن معها في حيطة تصرفه.
والظاهر أن هذا الحشر ليس إلا جمع العساكر ليذهب بهم إلى محاربة من لم يدخل في ربقة طاعته عليه السلام. وكونه ليذهب بهم إلى مكة شكرا على ما وفق له من بناء بيت المقدس خلاف الظاهر. لكن إذا صح فيه خبر قبل، وأن المجموع من الأنواع المذكورة ما يليق بشأنه وأبهته وعظمته سواء جعلت مِنَ بيانية أو تبعيضية. وكونه عليه السلام أحد المؤمنين اللذين ملكا المعمورة بأسرها إذا سلمنا صحة الخبر الدال عليه وسلامته من المعارض وأنه نص في المطلوب لا يستدعي سوى دخول سكان المعمورة في عداد رعيته وحيطة ملكته وليس ذلك دفعيا بل هو إن صح كان بحسب التدريج. وقد ذكر بعض المؤرخين أن بلقيس إنما دخلت تحت طاعته في السنة الخامسة والعشرين من ملكه، وكانت مدة ملكه عليه السلام أربعين سنة وكذا كانت مدة ملك أبيه داود عليهما السلام.
والظاهر أن الحاشر لكل نوع من الأنواع الثلاثة أشخاص منهم فيكون من كل نوع أشخاص مأمورون بذلك معدون له. ولا تستعبد ذلك في الطير إذا كنت من المؤمنين بقصة الهدهد، ولا يلزمك التزام ما قاله الإمام من أن الله تعالى جعل للطير عقلا في أيام سليمان عليه السلام ولم يجعل لها ذلك في أيامنا فما عليك بأس إذا قلت بأنها على حالة واحدة اليوم وذلك اليوم. ولا نعني بعقلها إلا ما تهتدي به لأغراضها، ووجود ذلك اليوم فيها وكذا في غيرها من سائر الحيوانات مما لا ينكره إلا مكابر، وما علينا أن نقول: إن عقولها من حيث هي كعقول الإنسان من حيث هي.
ولعل فيها من يهتدي إلى ما لا يهتدي إليه الكثير من بني آدم كالنحل، ولعمري أنها لو كانت خالية من العقل كما يقال وفرض وجود العقل فيها لا أظن أنها تصنع بعد وجوده أحسن مما تصنعه اليوم. وهي خالية منه ولا يجب أن يكون كل عاقل مكلفا فلتكن الطيور كسائر العقلاء الذين لم يبعث إليهم نبي يأمرهم وينهاهم، ويجوز أيضا أن تكون عارفة بربها مؤمنة به جل وعلا من غير أن يبعث إليها نبي كمن ينشأ بشاهق جبل وحده ويكون مؤمنا بربه سبحانه بل كونها مؤمنة بالله تعالى مسبحة له وكذا سائر الحيوانات مما تشهد له ظواهر الآيات والأخبار، وقد قدمنا بعضا من ذلك وليس عندنا ما يجب له التأويل، وبالغ بعضهم فزعم أنها مكلفة وفيها وكذا في غيرها من الحيوانات أنبياء لهم شرائع خاصة واستدل عليه بما استدل والمشهور إكفار من زعم ذلك. وقد نص على إكفاره جمع من الفقهاء، وتخصيص الأنواع الثلاثة بالذكر ظاهر في أنه عليه السلام لم يسخر له الوحش. وفي خبر أخرجه الحاكم عن محمد ابن كعب ما هو ظاهر في تسخيره له عليه السلام أيضا، وسنذكره قريبا إن شاء الله تعالى لكنه لا يعول عليه، وتقديم الجن للمسارعة إلى الإيذان بكمال قوة ملكه عليه السلام وعزة سلطانه من أول الأمر لما أن الجن طائفة عاتية وقبيلة طاغية ماردة بعيدة من الحشر والتسخير. ولم يقدم الطير على الإنس مع أن تسخيرها أشق أيضا وأدل على قوة الملك وعزة السلطان لئلا يفصل بين الجن والإنس المتقابلين والمشتركين في كثير من الأحكام.
وقيل في تقديم الجن: إن مقام التسخير لا يخلو من تحقير وهو مناسب لهم وليس بشيء لأن التسخير للأنبياء
169
عليهم السلام شرف لأنه في الحقيقة لله عز وجل الذي سخر كل شيء. وإذا اعتبر في نفسه فالتعليل بذلك غير مناسب للمقام ويكفي هذا في عدم قبوله فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة، ويجوز أن يكون ذلك لترتيب الصفوف كما هو المعتاد في العساكر والأول أولى وفيه مع الدلالة على الكثرة والإشعار بكمال مسارعتهم إلى السير الدلالة على أنهم كانوا مسوسين غير مهملين لا يتأذى أحد بهم. وأصل الوزع الكف والمنع، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن. وقول الحسن لا بد للقاضي من وزعة، وقول الشاعر:
ومن لم يزعه لبه وحياؤه فليس له من شيب فوديه وازع
وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضا لأن في ذلك شفقة على الطائفتين، أما الأوائل فمن جهة أن يستريحوا في الجملة بالوقوف عن السير، وأما الأواخر فمن جهة أن لا يجهدوا أنفسهم بسرعة السير، وقيل: إن ذلك لما أن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع، وأخرج الطبراني، والطستي في مسائله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير والله تعالى أعلم بصحة الخبر. والظاهر أن هذا الوزع إذا لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو، والأخبار في قصته عليه السلام كثيرة.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كان يوضع لسليمان ثلاثمائة ألف كرسي فيجلس مؤمني الإنس مما يليه ومؤمني الجن من ورائهم ثم يأمر الطير فتظله ثم يأمر الريح فتحمله فيمرون على السنبلة فلا يحركونها،
وأخرج الحاكم عن محمد بن كعب قال: بلغنا أن سليمان عليه السلام كان معسكره مائة فرسخ خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاطف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به. وأوحى الله عز وجل إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدتك في ملكك إنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح إليك وألقته في سمعك
ويروى أن الجن نسجت له عليه السلام بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ومنبره في وسطه من ذهب فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن وهب بن منبه قال: مر سليمان عليه السلام وهو في ملكه وقد حملته الريح على رجل حراث من بني إسرائيل فلما رآه قال: سبحان الله لقد أوتي آل داود ملكا فحملتها الريح فوضعتها في أذنه فقال: ائتوني بالرجل قال: ماذا قلت؟ فأخبره فقال سليمان: إني خشيت عليك الفتنة لثواب سبحان الله عند الله يوم القيامة أعظم مما رأيت. آل داود أوتوا فقال الحراث أذهب الله تعالى همك كما أذهبت همي.
وفي بعض الروايات أنه عليه السلام نزل ومشى إلى الحراث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال:
لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود
، وأكثر الأخبار في هذا الشأن لا يعول عليها فعليك بالإيمان بما نطق به القرآن ودلت عليه الأخبار الصحيحة وإياك من الانتصار لما لا صحة له مما يذكره كثير من القصاص والمؤرخين مما فيه مبالغات شنيعة بمجرد أنها أمور ممكنة يصح تعلق قدرته عز وجل بها فتفتح بذلك باب السخرية بالدين والعياذ بالله تعالى، ولا يبعد أن يكون أكثر ما تضمن مثل ذلك من وضع الزنادقة يريدون به التنفير عن دين
170
الإسلام حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ حتى هي التي يبتدأ بها الكلام ومع ذلك هي غاية لما قبلها وهي هاهنا غاية لما ينبىء عنه قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ من السير كأنه قيل: فساروا حتى إذا أتوا إلخ، ووادي النمل واد بأرض الشام كثير النمل على ما روي عن قتادة ومقاتل، وقال كعب: هو وادي السدير من أرض الطائف، وقيل: واد بأقصى اليمن وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها، وقيل: هو واد تسكنه الجن والنمل مراكبهم وهذا عندي مما لا يلتفت إليه.
وتعدية الفعل إليه بكلمة على مع أنه يتعدى بنفسه أو بإلى إما لأن إتيانهم كان من جانب عال فعدي بها للدلالة على ذلك كما قال المتنبي:
ولشدما جاوزت قدرك صاعدا ولشدما قربت عليك الأنجم
لما كان قرب الأنجم وإن أراد بها أبيات شعره من فوق، وإما لأن المراد بالإتيان عليه قطعه وبلوغ آخره من قولهم: أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره. ثم الإتيان عليه بمعنى قطعه مجاز عن إرادة ذلك وإلا لم يكن للتحذير من الحطم الآتي وجه إذ لا معنى له بعد قطع الوادي الذي فيه النمل ومجاوزته، والظاهر على الوجهين أنهم أتوا عليه مشاة، ويحتمل أنهم كانوا يسيرون في الهواء فأرادوا أن ينزلوا هناك فأحست النملة بنزولهم فأنذرت النمل قالَتْ نَمْلَةٌ جواب إذا. والظاهر أنها صوتت بما فهم سليمان عليه السلام منه معنى يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وهذا كما يفهم عليه السلام من أصوات الطير ما يفهم، ولا يقدح في ذلك أنه عليه السلام لم يعلم إلا منطق الطير إما لأنها كانت من الطير ذات جناحين كما أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي وهو وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة، وكم رأينا نملة لها جناحان تطير بهما، وكون ذلك لا يقتضي عدها من الطير محل نظر وإما لأن فهم ما ذكر وقع له عليه السلام هذه المرة فقط ولم يطرد كفهم أصوات الطير، وليس في الآية السابقة ولا في الأخبار ما ينفي فهم ما يقصده غير الطير من الحيوانات بدون اطراد، وقال ابن بحر: إنها نطقت بذلك معجزة لسليمان عليه السلام كما نطق الضب والذراع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال مقاتل: وقد سمع عليه السلام قولها من ثلاثة أميال، ويلزم على هذا أنها أحست بنزولهم من هذه المسافة والسمع من سليمان منها غير بعيد لأن الريح كما جاء في الآثار توصل الصوت إليه أو لأن الله تعالى وهبه إذ ذاك قوة قدسية سمع بها إلا أن إحساس النملة من تلك المسافة بعيد، والمشهور عند العرب بالإحساس من بعيد القراد حتى ضربوا به المثل. وأنت تعلم أنه لا ضرر في إنكار صحة هذا الخبر، وقيل: إنه عليه السلام لم يسمع صوتا أصلا وإنما فهم ما في نفس النملة إلهاما من الله تعالى، وقال الكلبي: أخبره ملك بذلك وإلى أنه لم يسمع صوتا يشير قول جرير:
لو كنت أوتيت كلام الحكل علم سليمان كلام النمل
فإنه أراد بالحكل ما لا يسمع صوته وقال بعضهم: كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها وصاحت صيحة تنبهت بها ما بحضرتها من النمل فتبعتها فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم حيث جعلت هي قائلة وما عداها من النمل مقولا له فيكون الكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية، ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية.
وأنت تعلم أنه لا ضرورة تدعو إلى ذلك. ومن تتبع أحوال النمل لا يستبعد أن تكون له نفس ناطقة فإنه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء ويشق ما يدخره من الحبوب نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت إلا الكزبرة والعدس
171
فإنه يقطع الواحدة منهما أربع قطع ولا يكتفي بشقها نصفين لأنها تنبت كما تنبت إذا لم تشق. وهذا وأمثاله يحتاج إلى علم كلي استدلالي وهو يحتاج إلى نفس ناطقة، وقد برهن شيخ الأشراف على ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات. وظواهر الآيات والأخبار الصحيحة تقتضيه كما سمعت قديما وحديثا فلا حاجة بك إلى أن تقول: يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق في النملة إذ ذاك النطق وفيما عداها من النمل العقل والفهم وأما اليوم فليس في النمل ذلك.
ثم إنه ينبغي أن يعلم أن الظاهر أن علم النملة بأن الآتي هو سليمان عليه السلام وجنوده كان عن إلهام منه عز وجل وذلك كعلم الضب برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم حين تكلم معه وشهد برسالته عليه الصلاة والسلام، والظاهر أيضا أنها كانت كسائر النمل في الجثة، وفيه اليوم ما يقرب من الذبابة ويسمى بالنمل الفارسي، وبالغ بعض القصاص في كبرها ولا يصح له مستند.
وفي بعض الآثار أنها كانت عرجاء واسمها طاخية، وقيل: جرمى، وفي البحر اختلف في اسمها العلم ما لفظه وليت شعري من الذي وضع لها لفظا يخصها أبنو آدم أم النمل انتهى، والذي يذهب إلى أن للحيوانات نفوسا ناطقة لا يمنع أن تكون لها أسماء وضعها بعضها لبعض لكن لا بألفاظ كألفاظنا بل بأصوات تؤدى على نحو مخصوص من الأداء ولعله يشتمل على أمور مختلفة كل منها يقوم مقام حرف من الحروف المألوفة لنا إذا أراد أن يترجم عنها من عرفها من ذوي النفوس القدسية ترجمها بما نعرف، ويقرب هذا لك أن بعض كلام الإفرنج وأشباههم لا نسمع منه إلا كما نسمع من أصوات العصافير ونحوها وإذا ترجم لنا بما نعرفه ظهر مشتملا على الحروف المألوفة، والظاهر أن تاء نَمْلَةٌ للوحدة فتأنيث الفعل لمراعاة ظاهر التأنيث فلا دليل في ذلك على أن النملة كانت أنثى قاله بعضهم.
وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم- وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه حاضرا وهو غلام حدث- فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكر أم أنثى؟ فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة: كانت أنثى فقيل له: من أين عرفت؟ فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله تعالى: «قالت نملة» ولو كان ذكرا لقال سبحانه قال نملة، وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم: حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي كذا في الكشاف، وتعقبه ابن المنير فقال: لا أدري العجب منه أم من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه، وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس فيقال: نملة ذكر ونملة أنثى كما يقولون: حمامة ذكر وحمامة أنثى وشاة ذكر وشاة أنثى فلفظها مؤنث ومعناها محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وإن كانت واقعة على ذكر بل هذا هو الفصيح المستعمل، ألا ترى
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يضحى بعوراء ولا عمياء ولا عجفاء»
كيف أخرج عليه الصلاة والسلام هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعني صلّى الله عليه وسلّم الإناث من الأنعام خاصة فحينئذ قوله تعالى: قالت نملة روعي فيه تأنيث اللفظ وأما المعنى فيحتمل التذكير والتأنيث على حد سواء، وكيف يسأل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بهذا ويفحم به قتادة مع غزارة علمه، والأشبه أن ذلك لا يصح عنهما اهـ.
وقال ابن الحاجب عليه الرحمة: التأنيث اللفظي هو أن لا يكون بإزائه ذكر في الحيوان كظلمة وعين، ولا فرق بين أن يكون حيوانا أو غيره كدجاجة وحمامة إذا قصد به مذكر فإنه مؤنث لفظي، ولذلك كان قول من زعم أن النملة في قوله تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ أنثى لورود تاء التأنيث في قالَتْ وهما لجواز أن يكون مذكرا في الحقيقة، وورود تاء التأنيث كورودها في الفعل المؤنث اللفظي نحو جاءت الظلمة. وأجاب بعض فضلاء ما وراء النهر وقال: لعمري إنه قد تعسف هاهنا ابن الحاجب وترك الواجب حيث اعترض على إمام أهل الإسلام، واعتراضه يقوله: وورود تاء التأنيث كورودها إلخ ليس بشيء إذ لو كان جائزا أن يؤتى بتاء التأنيث في الفعل لمجرد صورة التأنيث في الفاعل المذكر
172
الحقيقي لكان ينبغي جواز أن يقال: جاءتني طلحة مع أنه لا يجوز، وجوابه عن ذلك في شرحه بقوله: وليس ذلك كتأنيث أسماء الأعلام فإنها لا يعتبر فيها إلا المعنى دون اللفظ خلافا للكوفيين. والسر فيه هو أنهم نقلوها عن معانيها إلى مدلول آخر فاعتبروا فيها المدلول الثاني، ولو اعتبروا تأنيثها لكان اعتبارا للمدلول الأول فيفسد المعنى فلذلك لا يقال: أعجبتني طلحة تناقض محض كأنه نسي ما أمضى في صدر كتابه من قوله فإن سمى به مذكر فشرطه الزيادة يعني فإن سمي بالمؤنث المعنوي فشرطه الزيادة على ثلاثة أحرف فلا يخفى على من له أدنى مسكة أن عقرب مع أن علامة التأنيث فيه مقدرة العلمية لا تمنعها عن اعتبار تأنيثها حتى تمنع من الصرف فكيف تمنع العلمية عن اعتبار التأنيث في طلحة مع أن علامة التأنيث فيه لفظية فإذن ليس طرح التاء عن الفعل إلا لأن التاء إنما يجاء بها علامة لتأنيث الفاعل، والفاعل هاهنا مذكر حقيقي فكذا النملة لو كان مذكرا لكان هو مع طلحة حذو القذة بالقذة.
وينصر قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ما نقل عن ابن السكيت هذا بطة ذكر وهذا حمامة ذكر وهذا شاة إذا عنيت كبشا وهذا بقرة إذا عنيت ثورا فإن عنيت به أنثى قلت: هذه بقرة اهـ. وارتضاه الطيبي ثم قال فظهر أن القول ما قالت حذام والمذهب ما سلكه الإمام. وفي الكشف أن التاء في نملة للوحدة فهي في حكم المؤنث اللفظي جاز أن تعامل معاملته كتمر وتمرة على ما نص عليه في المفصل، ولا يشكل بنحو طلحة حيث لم يجز إلحاق فعله التاء لأن أسماء الأعلام يعتبر فيها المعنى دون اللفظ خلافا للكوفيين إلى آخر ما ذكره ابن الحاجب، ولا نقض باعتبار التأنيث في عقرب أن سمي به مذكر ولا في طلحة نفسه باعتبار منع الصرف على ما ظنه بعض فضلاء ما وراء النهر.
وصوبه شيخنا الطيبي لأن اعتبار المعنى هو فيما يرجع إلى المعنى لا فيما يرجع إلى اللفظ، وإلحاق العلامة باعتبار الفاعل إما للتأنيث الحقيقي وإما لشبه التأنيث من الوحدة أو الجمعية ونحوها فإذا لم يبق المعنى أعني التأنيث وشبه التأنيث فلا وجه للإلحاق. وأما منع الصرف فلا نظر فيه إلى معنى التأنيث بل إلى هذه الزيادة لفظا أو تقديرا وذلك غاير مختلف في المنقول والمنقول عنه، وكفاك دليلا لاعتبار اللفظ وحده في هذا الحكم تفرقتهم في سقر بين تسمية المذكر به والمؤنث دون عقرب فلو تأمل المناقض لكان ما أورده عليه لا له هذا، وإن الإمام رضي الله تعالى عنه كوفي والقاعدة على أصله مهدومة انتهى. وهو كلام متين.
والحزم القول بعدم صحة هذه الحكاية فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه من عرفت وإن كان إذ ذاك غلاما حدثا.
وقتادة بن دعامة السدوسي بإجماع العارفين بالرجال كان بصيرا بالعربية فيبعد كل البعد وقوع ما ذكر منهما والله تعالى أعلم.
والحطم الكسر والمراد به الإهلاك. والنهي في الظاهر لسليمان عليه السلام وجنوده وهو في الحقيقة نهي على طريق الكناية للنمل عن التوقف حتى تحطم لأن الحطم غير مقدور لها نحو قولك: لا أرينك هاهنا فإنه في الظاهر نهي للمتكلم عن رؤية المخاطب والمقصود نهي المخاطب عن الكون بحيث يراه المتكلم فالجملة استئناف أو بدل اشتمال من جملة ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، وقول بعضهم: إذا كان المعنى النهي عن التوقف حتى تحطم يحصل الاتحاد بين الجملتين يقتضي أنه بدل كل من كل بناء على أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده وعلى ما ذكر لا حاجة إليه وبالجملة اعتراض أبي حيان على وجه الإبدال باختلاف مدلولي الجملتين ليس في محله، وجوز الزمخشري كون لا يحطمنكم جوابا للأمر، أعني- ادخلوا- ولا حينئذ نافية وتعقب بأن دخول النون في جواب الشرط مخصوص بضرورة الشعر كقوله:
173
مهما تشأ منه فزارة تعطه ومهما تشأ منه فزارة يمنعا
وفي الكتاب وهو قليل في الشعر شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما غير واجب. وأرادت النملة على ما في الكشاف لا يحطمنكم جنود سليمان فجاءت بما هو أبلغ. ونحوه قوله:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها حيث أراد عجبت من إشفاق نفسي فجاء بما هو أبلغ للإجماع والتفصيل. وتعقب ذلك في البحر بأن فيه القول بزيادة الأسماء وهي لا تجوز بل الظاهر إسناد الحطم إليه عليه السلام وإلى جنوده والكلام على حذف مضاف أي خيل سليمان وجنوده أو نحو ذلك مما يصح تقديره وللبحث فيه مجال وجملة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من مجموع المتعاطفين والضمير لهما.
وجوز أن تكون حالا من الجنود والضمير لهم، وأيا ما كان ففي تقييد الحطم بعدم الشعور بمكانهم المشعر بأنه لو شعروا بذلك لم يحطموا ما يشعر بغاية أدب النملة مع سليمان عليه السلام وجنوده، وليت من طعن في أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله تعالى عنهم تأسى بها فكف عن ذلك وأحسن الأدب،
وروي أن سليمان عليه السلام لما سمع قول النملة: يا أَيُّهَا النَّمْلُ إلخ قال ائتوني بها فأتوا بها فقال لم حذرت النمل ظلمي؟ أما علمت أني نبي عدل فلم قلت: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وجنوده فقالت: أما سمعت قولي: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ومع ذلك إني لم أرد حطم النفوس وإنما أردت حطم القلوب خشيت أن يروا ما أنعم الله تعالى به عليك من الجاه والملك العظيم فيقعوا في كفران النعم فلا أقل من أن يشتغلوا بالنظر إليك عن التسبيح فقال لها سليمان عظيني فقالت أعلمت لم سمي أبوك داود؟ قال:
لا قالت: لأنه داوى جراحة قلبه وهل تدري لم سميت سليمان؟ قال: لا قالت: لأنك سليم القلب والصدر. ثم قالت:
أتدري لم سخر الله تعالى لك الريح؟ قال: لا قالت: أخبرك الله تعالى بذلك أن الدنيا كلها ريح فمن اعتمد عليها فكأنما اعتمد على الريح
. وهذا ظاهر الوضع كما لا يخفى وفيه ما يشبه كلام الصوفية والله تعالى أعلم بصحة ما روى من أنها أهدت إليه نبقة وأنه عليه السلام دعا للنمل بالبركة.
وجوز أن تكون جملة هُمْ لا يَشْعُرُونَ في موضع الحال من النملة والضمير للجنود كالضمائر السابقة في قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا أَتَوْا وهي من كلامه تعالى أي قالت ذلك في حال كون الجنود لا يشعرون به وليس بشيء وقد يقرب منه ما قيل إنه يجوز أن تكون الجملة معطوفة على مقدر وهي من كلامه عز وجل كأنه قيل: فهم سليمان ما قالت والجنود لا يشعرون بذلك. وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان وأبو سليمان التيمي نملة بضم الميم كسمرة وكذلك النمل كالرجل والرجل لغتان، وعن أبي سليمان التيمي نملة ونمل بضم النون والميم. وقرأ شهر بن حوشب «مسكنكم» على الإفراد. وعن أبي «أدخلن مساكنكن لا يحطمنكن» مخففة النون التي قبل الكاف.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي. ونوح القاضي بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون مضارع حطم مشددا. وعن الحسن بفتح الياء (١) وإسكان الحاء وشد الطاء وعنه كذلك مع كسر الحاء وأصله يحتطمنكم من الاحتطام. وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة ويعقوب وأبو عمرو في رواية عبيد كقراءة الجمهور إلا
(١) قوله وإسكان الحاء كذا بخطه ولعله سبق قلم ففي الكشاف وقرىء لا يَحْطِمَنَّكُمْ بفتح الحاء وكسرها وأصله يحتطمنكم اهـ.
174
أنهم سكنوا نون التأكيد، وقرأ الأعمش بحذف النون وجزم الميم. ولا خلاف على هذه القراءة في جواز أن يكون الفعل مجزوما في جواب الأمر فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها تفريع على ما تقدم فلا حاجة إلى تقدير معطوف عليه أي فسمعها فتبسم وجعل الفاء فصيحة كما قيل. ولعله عليه السلام إنما تبسم من ذلك سرورا بما ألهمت من حسن حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة وابتهاجا بما خصه الله تعالى به من إدراك ما هو همس بالنسبة إلى البشر وفهم مرادها منه.
وجوز أن يكون ذلك تعجبا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها: والأول أظهر مناسبة لما بعد من الدعاء. وانتصب ضاحِكاً على الحال أي شارعا في الضحك أعني قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك أو مقدر الضحك بناء على أنه حال مقدرة كما نقله الطيبي عن بعضهم. وقال أبو البقاء هو حال مؤكدة وهو يقتضي كون التبسم والضحك بمعنى والمعروف الفرق بينهما قال ابن حجر التبسم مبادئ الضحك من غير صوت والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفي فإن كان فيه صوت يسمع من بعد فهو القهقهة، وكأن من ذهب إلى اتحاد التبسم والضحك خص ذلك بما كان من الأنبياء عليهم السلام فإن ضحكهم تبسم، وقد قال البوصيري في مدح نبينا صلّى الله عليه وسلّم:
سيد ضحكه التبسم والم شي الهوينا ونومه الإغفاء
وروى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيته صلّى الله عليه وسلّم مستجمعا قط ضاحكا
أي مقبلا على الضحك بكليته إنما كان يتبسم، والذي يدل عليه مجموع الأحاديث إن تبسمه عليه الصلاة والسلام أكثر من ضحكه وربما ضحك حتى بدت نواجذه. وكونه ضحك كذلك مذكور
في حديث آخر أهل النار خروجا منها وأهل الجنة دخولا الجنة. وقد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
وكذا في حدب أخرجه البخاري في المواقع أهله في رمضان، وليس في حديث عائشة السابق أكثر من نفيها رؤيتها إياه صلّى الله عليه وسلّم مستجمعا ضاحكا وهو لا ينافي وقوع الضحك منه في بعض الأوقات حيث لم تره.
وأول الزمخشري ما روى من أنه صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه بأن الغرض منه المبالغة في وصف ما وجد منه عليه الصلاة والسلام من الضحك النبوي وليس هناك ظهور النواجذ وهي أواخر الأضراس حقيقة، ولعله إنما لم يقل سبحانه: فتبسم من قولها بل جاء جل وعلا بضاحكا نصبا على الحال ليكون المقصود بالإفادة التجاوز إلى الضحك بناء على أن المقصود من الكلام الذي فيه قيد إفادة القيد نفيا أو إثباتا، وفيه إشعار بقوة تأثير قولها فيه عليه السلام حيث أداه ما عراه منه إلى أن تجاوز حد التبسم آخذا في الضحك ولم يكن حاله التبسم فقط.
وكأنه لما لم يكن قول فضحك من قولها في إفادة ما ذكرنا مثل ما في النظم الجليل لم يؤت به، وفي البحر أنه لما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب كما يقولون: تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئ وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح أتى سبحانه بقوله تعالى: ضاحِكاً لبيان أن التبسم لم يكن استهزاء ولا غضبا انتهى.
ولا يخفى أن دعوى أن الضحك لا يكون إلا للسرور والفرح يكذبها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: ٢٩] فإن هذا الضحك كان من مشركي قريش استهزاء بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وغيرهم كما ذكره المفسرون ولم يكن للسرور والفرح. وكذا قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين: ٣٤] كما هو الظاهر. وإن هرعت إلى التأويل قلنا الواقع يكذبها فإن أنكرت ضحك
175
منك أولو الألباب، وفيه أيضا غير ذلك فتأمل والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب، وقرأ ابن السميقع «ضحكا» على أنه مصدر في موضع الحال، وجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول مطلق نحو شكرا في قولك حمد شكرا.
وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ أي اجعلني أزع شكر نعمتك أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني وهو مجاز عن ملازمة الشكر والمداومة عليه فكأنه قيل: رب اجعلني مداوما على شكر نعمتك، وهمزة أوزع للتعدية، ولا حاجة إلى اعتبار التضمين. وكون التقدير رب يسر لي أن أشكر نعمتك وازعا إياه وعن ابن عباس أن المعنى اجعلني أشكر. وقال ابن زيد: أي حرضني. وقال أبو عبيدة أي أولعني. وقال الزجاج فيما قيل أي ألهمني. وتأويله في اللغة كفني عن الأشياء التي تباعدني عنك. قال الطيبي فعلى هذا هو كناية تلويحية فإنه طلب أن يكفه عما يؤدي إلى كفران النعمة بأن يلهمه ما به تقيد النعمة من الشكر. وإضافة النعمة للاستغراق أي جميع نعمك. وقرىء «أوزعني» بفتح الياء الَّتِي أَنْعَمْتَ أي أنعمتها، وأصله أنعمت بها إلا أنه اعتبر الحذف والإيصال لفقد شرط حذف العائد المجرور وهو أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا، ومن لا يقول باطراد ذلك لا يعتبر ما ذكر ولا أرى فيه بأسا عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أدرج ذكر والديه تكثيرا للنعمة فإن الأنعام عليهما أنعام عليه من وجه مستوجب للشكر أو تعميما لها فإن النعمة عليه عليه السلام يرجع نفعها إليهما، والفرق بين الوجهين ظاهر، واقتصر على الثاني في الكشاف وهو أوفق بالشكر. وكون الدعاء المذكور بعد وفاة والديه عليهما السلام قطعا، ورجح الأول بأنه أوفق بقوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: ١٣] بعد قوله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ: ١٠] إلخ، وقوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ [الأنبياء: ٨١، سبأ: ١٢] إلخ فتدبر فإنه دقيق وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً عطف على أَنْ أَشْكُرَ فيكون عليه السلام قد طلب جعله مداوما على عمل العمل الصالح أيضا. وكأنه عليه السلام أراد بالشكر الشكر باللسان المستلزم للشكر بالجنان وأردفه بما ذكر تتميما له لأن عمل الصالح شكر بالأركان، وفي البحر أنه عليه السلام سأل أولا شيئا خاصا وهو شكر النعمة وثانيا شيئا عاما وهو عمل الصالح، وقوله تعالى: تَرْضاهُ قيل صفة مؤكدة أو مخصصة إن أريد به كمال الرضا، واختير كونه صفة مخصصة. والمراد بالرضا القبول وهو ليس من لوازم العمل الصالح أصلا لا عقلا ولا شرعا وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي في جملتهم.
والكلام عن الزمخشري كناية عن جعله من أهل الجنة. وقدر بعضهم الجنة مفعولا ثانيا لأدخلني، وعلى كونه كناية لا حاجة إلى التقدير، والداعي لأحد الأمرين على ما قيل دفع التكرار مع ما قبل لأنه إذا عمل عملا صالحا كان من الصالحين البتة إذ لا معنى للصالح إلا العامل عملا صالحا، وأردف طلب المداومة على عمل الصالح بطلب إدخاله الجنة لعدم استلزام العمل الصالح بنفسه إدخال الجنة،
ففي الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته»
وكأن في ذكر بِرَحْمَتِكَ في هذا الدعاء إشارة إلى ذلك.
ولا يأبى ما ذكر قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: ٧٢] لأن سببية العمل للإيراث برحمة الله تعالى.
وقال الخفاجي: لك أن تقول إنه عليه السلام عد نفسه غير صالح تواضعا أي فلا يحتاج إلى التقدير ولا إلى نظم الكلام في سلك الكناية، ولا يخفى أن هذا لا يدفع السؤال بإغناء الدعاء بالمداومة على عمل الصالح عنه.
وقيل: المراد أن يجعله سبحانه في عداد الأنبياء عليهم السلام ويثبت اسمه مع أسمائهم ولا يعزله عن منصب النبوة الذي هو منحة إلهية لا تنال بالأعمال ولذا ذكر الرحمة في البين، ونقل الطبرسي عن ابن عباس ما يلوح بهذا المعنى.
176
وقيل: المراد أدخلني في عداد الصالحين واجعلني أذكر معهم إذا ذكروا، وحاصله طلب الذكر الجميل الذي لا يستلزمه عمل الصالح إذ قد يتحقق من شخص في نفس الأمر ولا يعده الناس في عداد الصالحين. وفي هذا الدعاء شمة من دعاء إبراهيم عليه السلام وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: ٨٤] ومقاصد الأنبياء في مثل ذلك أخروية، وقيل: يحتمل أنه أراد بعمل الصالح القيام بحقوق الله عز وجل وأراد بالصلاح في قوله: فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ القيام بحقوقه تعالى وحقوق عباده فيكون من قبيل التعميم بعد التخصيص. وتعيين ما هو الأولى من هذه الأقوال مفوض إلى فكرك والله تعالى الهادي، وكان دعاؤه عليه السلام على ما في بعض الآثار بعد أن دخل النمل مساكنهن،
قال في الكشاف: روي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان عليه السلام الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن ثم دعا بالدعوة
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ أي أراد معرفة الموجود منها من غيره، وأصل التفقد معرفة الفقد، والظاهر أنه عليه السلام تفقد كل الطير وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا لا سيما الضعفاء منها قيل وكان يأتيه من كل صنف واحد فلم ير الهدهد، وقيل: كانت الطير تظله من الشمس وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن فمسته الشمس فنظر إلى مكان الهدهد فلم يره، وعن عبد الله بن سلام أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماء فيها وكان الهدهد يرى الماء في باطن الأرض فيخبر سليمان بذلك فيأمر الجن فتسلخ الأرض عنه في ساعة كما تسلخ الشاة فاحتاجوا إلى الماء فتفقد لذلك الطير فلم يرد الهدهد فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ وهو طائر معروف منتن يأكل الدم فيما قيل ويكنى بأبي الأخبار وأبي الربيع وأبي ثمامة وبغير ذلك مما ذكره الدميري، وتصغيره على القياس هديهد، وزعم بعضهم أنه يقال في تصغيره هداهد بقلب الياء ألفا، وأنشدوا:
كهداهد كسر الرماة جناحه ونظير ذلك دوابه وشوابه في دويبه وشويبه.
والظاهر أن قوله عليه السلام ذلك مبني على أنه ظن حضوره ومنع مانع له من رؤيته أي عدم رؤيتي إياه مع حضوره لأي سبب ألساتر أم لغيره ثم لاح له أنه غائب فاضرب عن ذلك وأخذ يقول: أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، فأم هي المنقطعة كما في قولهم إنها لإبل أم شاء.
وقال ابن عطية: مقصد الكلام الهدهد غاب ولكنه أخذ اللازم من مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم وهذا ضرب من الإيجاز، والاستفهام الذي في قوله: ما لِيَ ناب مناب الهمزة التي تحتاجها أم انتهى.
وظاهره أن أم متصلة والهمزة قائمة مقام همزة الاستفهام فالمعنى عنده أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته والحق ما تقدم، وقيل في الكلام قلب والأصل ما للهدهد لا أراه، ولا يخفى أنه لا ضرورة إلى ادعاء ذلك، نعم قيل هو أوفق بكون التفقد للعناية، وذكر أن اسم هذا الهدهد يعفور، وكون الهدهد يرى الماء تحت الأرض رواه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن أبي حاتم وسعيد بن منصور عن يوسف بن ماهك أن ابن عباس حين قال ذلك اعترض عليه نافع بن الأزرق كعادته بأنه كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ ويوضع فيه الحبة وتستر بالتراب فيصطاد فقال رضي الله تعالى عنه إن البصر ينفع ما لم يأت القدر فإذا جاء القدر حال دون البصر فقال ابن الأزرق: لا أجادلك
177
بعدها بشيء، ولا مانع من أن يقال: يجوز أن يرى الحبة أيضا إلا أنه لا يعرف أن التقاطها من الفخ يوجب اصطياده، وكثير من الطيور وسائر الحيوانات يصطاد بما يراه بنوع حيلة.
ويجوز أيضا أن يراها ويعرف المكيدة في وضعها إلا أن القدر يغلب عليه فيظن أنه ينجو إذا التقطها بأحد وجوه يتخيلها فيكون نظير من يخوض المهالك لظن النجاة مع مشاهدة هلاك الكثير ممن خاضها قبله وإذا أراد الله تعالى بقوم أمرا سلب من ذوي العقول عقولهم، نعم إن رؤيته الماء تحت الأرض وإن جاز على ما تقتضيه أصول الأشاعرة أمر يستبعده العقل جدا ولا جزم لي بصحة الخبر السابق، وتصحيح الحاكم محكوم عليه عند المحدثين بما تعلم، ومثله ما تقدم عن ابن سلام وكذا غيره من الأخبار التي وقفت عليها في هذا الشأن، وليس في الآية إشارة إلى ذلك بل الظاهر بناء على ما يقتضيه حال سليمان عليه السلام أن التفقد كان منه عليه السلام عناية بأمور ملكه واهتماما بضعفاء جنده، وكأنه عليه السلام أخرج كلامه كما حكاه النظم الجليل لغلبة ظنه أنه لم يصبه ما أهلكه وليكون ذلك مع التفقد من باب الجمع بين صفتي الجمال والجلال وهو الأكمل في شأن الملوك، ولعل ما وقع من حديث النملة كان كالحالة المذكرة له عليه السلام للتفقد.
وعلى ما تقدم عن ابن سلام أن الحالة المذكرة بل الداعية هي النزول في المفازة التي لا ماء فيها، وكون الهدهد قنا قنه، ويحكون في ذلك أن سليمان عليه السلام حين تم له بناء بيت المقدس تجهز ليحج بحشره فوافى الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كل يوم طول مقامه خمسة آلاف بقرة وخمسة آلاف ناقة وعشرين ألف شاة وقال لأشراف من معه إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا يعطي النصر على من عداه وينصر بالرعب من مسيرة شهر القريب والبعيد عنده سواء في الحق لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم قالوا: فبأي دين يدين يا نبي الله؟
فقال: بدين الحنيفية فطوبى لمن آمن به وأدركه فقالوا: كم بيننا وبين خروجه؟ قال: مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل عليهم السلام، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلي فلم يجدوا الماء فكان ما كان.
وفي بعض الآثار ما يعارض حكاية الحج، فقد روي عن كعب الأحبار أن سليمان عليه السلام سار من إصطخر يريد اليمن فمر على مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان طوبى لمن اتبعه، ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناما تعبد فجاوزه فبكى البيت فأوحى الله تعالى إليه ما يبكيك؟ قال يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا عليّ ولم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله تعالى إليه لا تبك فإني سوف أبكيك وجوها سجدا وأنزل فيك قرآنا جديدا وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ واجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني وأفرض عليهم فريضة يرفون إليك رفيف النسر إلى وكره ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان، ثم مضى سليمان حتى أتى على وادي النمل، ولا يظهر الجمع بين الخبرين، ولعل المقدار الذي يصح من الأخبار أنه عليه السلام لما تم له بناء بيت المقدس حج وأكثر من تقريب القرابين وبشر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وقصد اليمن وتفقد الطير فلم ير الهدهد فتوعده بقوله: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً قيل بنتف ريشه وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج.
والظاهر أن المراد جميع ريشه، وقال يزيد بن رومان بنتف ريش جناحيه، وقال ابن وهب بنتف نصف ريشه.
178
وزاد بعضهم مع النتف إلقاءه للنمل وآخر تركه في الشمس، وقيل: ذلك بطليه بالقطران وتشميسه وقيل بحبسه في القفص، وقيل بجمعه مع غير جنسه، وقيل بإبعاده من خدمة سليمان عليه السلام، وقيل بالتفريق بينه وبين إلفه، وقيل بإلزامه خدمة أقرانه. وفي البحر الأجود أن يجعل كل من الأقوال من باب التمثيل وهذا التعذيب للتأديب. ويجوز أن يبيح الله تعالى له ذلك لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة كما أباح سبحانه ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر من أجله إلا بالتأديب والسياسة جاز أن يباح له ما يستصطلح به. وفي الإكليل للجلال السيوطي قد يستدل بالآية على جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي أو إسراعها أو نحو ذلك. وعلى جواز نتف ريش الحيوان لمصلحة بناء على أن المراد بالتعذيب المذكور نتف ريشه.
وذكر فيه أن ابن العربي استدل بها على أن العذاب على قدر الذنب لا على قدر الجسد. وعلى أن الطير كانوا مكلفين إذ لا يعاقب على ترك فعل إلا من كلف به اهـ فلا تغفل أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ كالترقي من الشديد إلى الأشد فإن في الذبح تجريع كأس المنية. وقد قيل:
كل شيء دون المنية سهل أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة تبين عذره في غيبته. وما ألطف التعبير بالسلطان دون الحجة هنا لما أن ما أتى به من العذر انجر إلى الإتيان ببلقيس وهي سلطان. ثم إن هذا الشق وإن قرن بحرف القسم ليس مقسما عليه في الحقيقة وإنما المقسم عليه حقيقة الأولان وأدخل هذا في سلكهما للتقابل. وهذا كما في الكشف نوع من التغليب لطيف المسلك، ومآل كلامه عليه السلام ليكونن أحد الأمور على معنى إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح وإن لم يكن كان أحدهما فاو في الموضعين للترديد. وقيل: هي في الأول للتخيير بين التعذيب والذبح وفي الثاني للترديد بينهما وبين الإتيان بالسلطان وهو كما ترى.
وزعم بعضهم أنها في الأول للتخيير وفي الثاني بمعنى إلا وفيه غفلة عن لام القسم، وجوز أن تكون الأمور الثلاثة مقسما عليها حقيقة، وصح قسمه عليه السلام على الإتيان المذكور لعلمه بالوحي أنه سيكون أو غلبة ظنه بذلك لأمر قام عنده يفيدها وإلا فالقسم على فعل الغير في المستقبل من دون علم أو غلبة ظن به لا يكاد يسوغ في شريعة من الشرائع، وتعقب بأن قوله: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ [النمل: ٢٧] ينافي حصول العلم وما حكاه له. ودفع المنافاة بأنه يجوز أن يأتي بحجة لا يعلم سليمان عليه السلام ولا يظن صدقها وكذبها غير سديد إذ قوله: مُبِينٍ يأباه. وبالجملة الوجه ما ذكر أو لا فتأمل. وقرأ عيسى بن عمر «ليأتينّ» بنون مشددة مفتوحة بغير ياء، وكتب في الإمام «لا أذبحه» بزيادة ألف بين الذال والألف المتصلة باللام ولا يعلم وجهه كأكثر ما جاء فيه مما يخالف الرسم المعروف، وقيل: هو التنبيه على أن الذبح لم يقع.
وقال ابن خلدون في مقدمة تاريخه: إن الكتابة العربية كانت في غاية الإتقان والجودة في حمير ومنهم تعلمها مضر إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لبعدهم عن الحضارة وكان الخط العربي أول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإتقان والجودة وإلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع وما وقع في رسم المصحف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الرسوم المخالفة لما اقتضته أقيسة رسوم الخط وصناعته عند أهلها كزيادة الألف في «لا أذبحنه» من قلة الإجادة لصنعة الخط واقتفاء السلف رسمهم ذلك من باب التبرك. وتوجيه بعض المغفلين تلك المخالفة بما وجهه بها ليس بصحيح والداعي له إلى ذلك تنزيه الصحابة عن النقص لما زعم أن الخط كمال ولم
179
يتفطن لأن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية وذلك ليس بكمال في حقهم إذ الكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ونحوه وإنما يعود على أسباب المعاش. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أميا وكان ذلك كمالا في حقه وبالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام. ومثل الأمية تنزه عليه الصلاة والسلام عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران ولا يعد ذلك كمالا في حقنا إذ هو صلّى الله عليه وسلّم منقطع إلى ربه عز وجل ونحن متعاونون على الحياة الدنيا ومن هنا
قال عليه الصلاة والسلام: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»
انتهى ملخصا.
وأنت تعلم أن كون زيادة الألف في «لا أذبحنه» لقلة إجادتهم رضي الله تعالى عنهم صنعة الكتابة في غاية البعد، وتعليل ذلك بما تقدم من التنبيه على عدم وقوع الذبح كذلك وإلا لزادوها في لَأُعَذِّبَنَّهُ لأن التعذيب لم يقع أيضا. وما أشار إليه من أن الإجادة في الخط ليس بكمال في حقهم أن أراد به أن تحسين الخط وإخراجه على صور متناسبة يستحسنها الناظر وتميل إليها النفوس كسائر النقوش المستحسنة ليس بكمال في حقهم ولا يضر بشأنهم فقده فمسلم لكن هذا شيء وما نحن فيه شيء، وإن أراد به أن الإتيان بالخط على وجهه المعروف عند أهله من وصل ما يصلونه وفصل ما يفصلونه ورسم ما يرسمونه وترك ما يتركونه ليس بكمال فهذا محل بحث ألا ترى أنه لا يعترض على العالم بقبح الخط وخروجه عن الصور الحسنة والهيئات المستحسنة ويعترض عليه بوصل ما يفصل وفصل ما يوصل ورسم ما لا يرسم وعدم رسم ما يرسم ونحو ذلك إن لم يكن ذلك لنكتة.
والظاهر أن الصحابة الذين كتبوا القرآن كانوا متقنين رسم الخط عارفين ما يقتضي أن يكتب وما يقتضي أن لا يكتب. وما يقتضي أن يوصل. وما يقتضي أن لا يوصل إلى غير ذلك لكن خالفوا القواعد في بعض المواضع لحكمة ويستأنس لذلك بما أخرجه ابن الأنباري في كتابه التكملة عن عبد الله بن فروخ قال: قلت لابن عباس يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب العربي هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام والنون؟ قال: نعم قلت: وممن أخذتموه؟ قال: من حرب بن أمية قلت: وممن أخذه حرب؟ قال: من عبد الله بن جدعان قلت: وممن أخذه عبد الله بن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار قلت: وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طار طرأ عليهم من أهل اليمن قلت: وممن أخذ ذلك الطارئ؟ قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام وهو الذي يقول:
في كل عام سنة تحدثونها ورأي على غير الطريق يعبر
وللموت خير من حياة تسبنا بهاجرهم فيمن يسب وحمير
انتهى، وفي كتاب محاصرة الأوائل ومسامرة الأواخر أن أول من اشتهر بالكتابة في الإسلام من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم، والظاهر أنهم لم يشتهروا في ذلك إلا لإصابتهم فيها. والقول بأن هؤلاء الأجلة وسائر الصحابة لم يعرفوا مخالفة رسم الألف هنا لما يقتضيه قوانين أهل الخط وكذا سائر ما وقع من المخالفة مما لا يقدم عليه من له أدنى أدب وإنصاف.
ومثل هذا القول بأنه يحتمل أنه عرف ذلك من عرف منهم إلا أنه ترك تغييره إلى الموافق للقوانين أو وافقه على الغلط للتبرك، ومن الناس من جوز أن يكون ما وقع من الصحابة من الرسم المخالف بسبب قلة مهارة من أخذوا عنه صنعة الخط فيكون هو الذي خالف في مثل ذلك ولم يعلموا أنه خالف فالقصور إن كان ممن أخذوا عنه وإما هم فلا قصور فيهم إذ لم يخلوا بالقواعد التي أخذوها وإخلالهم بقواعد لم تصل إليهم ولم يعلموا بها لا يعد قصورا، وهذا
180
قريب مما تقدم إلا أنه ليس فيه ما فيه من البشاعة، ثم إن الإنصاف بعد كل كلام يقتضي الإقرار بقوة دعوى أن المخالفة لضعف صناعة الكتابة إذ ذاك إن صح أنها وقعت أيضا في غير الإمام من المكاتبات وغيرها ولعله لم يصح وإلا لنقل فتأمل والله تعالى يتولى هداك.
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ الظاهر أن الضمير للهدهد وبَعِيدٍ صفة زمان والكلام بيان لمقدر كأنه قيل: ما مضى من غيبته بعد التهديد؟ فقيل: مكث غير بعيد أي مكث زمانا غير مديد، ووصف زمان مكثه بذلك للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان عليه السلام وليعلم كيف كان الطير مسخرا له، وقيل: الضمير لسليمان وهو كما ترى، وقيل:
بَعِيدٍ صفة مكان أي فمكث الهدهد في مكان غير بعيد من سليمان، وجعله صفة الزمان أولى، ويحكى أنه حين نزل سليمان عليه السلام حلق الهدهد فرأى هدهدا واسمه فيما قيل عفير واقعا فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر،
وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما لم يره دعا عريف الطير وهو النسر فسأله فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: علي به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله تعالى وقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك عليّ ألا رحمتني فتركته وقالت: ثكلتك أمك إن نبي الله تعالى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فقال: نجوت إذا فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله تعالى اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه،
وعن عكرمة أنه إنما عفا عنه لأنه كان بارا بأبويه يأتيهما بالطعام فيزقهما لكبرهما، ثم سأله:
181
فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي علما ومعرفة وحفظته من جميع جهاته، وابتداء كلامه بذلك لترويجه عنده عليه السلام وترغيبه في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فإن النفس للاعتذار المنبئ عن أمر بديع أقبل وإلى تلقي ما لا تعلمه أميل، وأيد ذلك بقوله: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ حيث فسر إبهامه السابق نوع تفسير وأراه عليه السلام أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة له حيث عبر عما جاء به بالنبإ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه، وقال الزمخشري: إن الله تعالى ألهم الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ليتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ويكون لطفا به في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة انتهى، وتعقب بأن ما أحاط به من الأمور المحسوسة التي لا تعد الإحاطة بها فضيلة ولا الغفلة عنها نقيصة لعدم توقف إدراكها الأعلى مجرد إحساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم وماذا صدر عنه عليه السلام مع ما حكى عنهما حكي من الحمد والشكر والدعاء حتى يليق بالحكمة الإلهية تنبيهه عليه السلام على تركه، واعترض بأن قوله:
أَحَطْتُ إلخ ظاهر في أنه كلام مدل بعلمه مصغر لما عند صاحبه وأن العلم بالأمور المحسوسة وإن لم يكن فضيلة إلا أن فقده بالنسبة إلى سليمان عليه السلام وملكه وإلقاء الريح الأخبار في سمعه يدل على ما يدل، وفي التنبيه المذكور تثبيت منه تعالى له عليه السلام على الحمد والشكر وهو مما يناسب دعاؤه السابق بقوله: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ، ولعل الأولى والأظهر مع هذا ما ذكر أولا. وسَبَإٍ منصرف على أنه لحي من الناس سموا باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وفي حديث فروة وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن سبأ اسم رجل ولد عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة والستة (١) حمير وكندة والأزد وأشعر وخثعم، والأربعة لخم وجذام وعاملة وغسان
وقيل: سبأ لقب لأبي هذا الحي من قحطان واسمه عبد شمس، وقيل: عامر، ولقب بذلك لأنه أول من سبى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «من سبأ» بفتح الهمزة غير مصروف على أنه اسم للقبيلة ثم سميت به مأرب سبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، وجوز أن يراد به على الصرف الموضع المخصوص وعلى منع الصرف المدينة المخصوصة، وأنشدوا على صرفه قوله:
الواردون وتيم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقرأ قنبل من طريق النبال بإسكان الهمزة وخرج على إجراء الوصل مجرى الوقف، وقال مكي: الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي، وقرأ الأعمش «من سبإ» بكسر الهمزة من غير تنوين حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية، وخرجت على أن الجر بالكسرة لرعاية ما نقل عنه فإنه في الأصل اسم الرجل أو مكان مخصوص وحذف التنوين لرعاية ما نقل إليه فإنه جعل اسما للقبيلة أو للمدينة وهو كما ترى، وقرأ ابن كثير في رواية «من سبى» بتنوين الباء على وزن رحى جعله مقصورا مصروفا، وذكر أبو معاذ أنه قرأ «من سبأي» بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة على وزن فعلى فهو ممنوع من الصرف للتأنيث اللازم.
وروى ابن حبيب عن اليزيدي «من سبأ» بألف ساكنة كما في قولهم: تفرقوا أيدي سبأ وقرأت فرقة «بنبإ» بالألف عوض الهمزة وكأنها قراءة من قرأ سبا بالألف لتتوازن الكلمتان كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمزة المكسورة
(١) قوله والستة حمير إلخ المذكور في عبارته خمسة ويؤخذ السادس من حديث آخر أورده في شرح القاموس وهو مذحج كمجلس.
182
والتنوين، وفي التحرير أن مثل «من سبا بنبإ» يسمى تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل من الكلمتين بحرف كما في قوله تعالى: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر: ٧٥]
وحديث: «الخيل معقود بنواصيها الخير».
وقال الزمخشري: إن قوله تعالى: «من سبأ بنبإ» من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعا أو يصيغه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى ألا ترى لو وضع مكان بِنَبَإٍ بخبر لكان المعنى صحيحا، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال اهـ. وهذه الزيادة كون الخبر ذا شأن، وكون النبأ بمعنى الخبر الذي له شأن مما صرح به غير واحد من اللغويين. والظاهر أنه معنى وضعي له. وزعم بعضهم أنه ليس بوضعي وليس بشيء، وقول المحدثين: أنبأنا أحط درجة من أخبرنا غير وارد لأنه اصطلاح لهم. وقرأ الجمهور «فمكث» بضم الكاف، والفتح قراءة عاصم وأبي عمرو في رواية الجعفي وسهل وروح وقرأ أبي «فمكث ثم قال».
وعبد الله «فمكث فقال»، وكلتا القراءتين في الحقيقة على ما في البحر تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف.
وقرىء في السبعة أَحَطْتُ بإدغام التاء في الطاء مع بقاء صفة الإطباق وليس بإدغام حقيقي.
وقرأ ابن محيصن بإدغام حقيقي. واعترض ابن الحاجب القراءة الأولى بأن الإطباق وهو رفع اللسان إلى ما يحاذيه من الحنك للتصويت بصوت الحرف المخرج لا يستقيم إلا بنفس الحرف وهو الطاء هنا والإدغام يقتضي إبدالها تاء وهو ينافي وجود ذلك لأنه يقتضي أن تكون موجودة وغير موجودة وهو تناقض فالتحقيق إن نحو أحطت بالإطباق ليس فيه إدغام ولكنه لما أمكن النطق بالثاني مع الأول من غير ثقل على اللسان كان كالنطق بالمثل بعد المثل فأطلق عليه الإدغام توسعا قاله الطيبي. وفي النشر أن التاء تدغم في الطاء في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: ١١٤] وفي التسهيل أنه إذا أدغم المطبق يجوز إبقاء الإطباق وعدمه. وقال سيبويه: كل كلام عربي كذا الحواشي الشهابية فتأمل.
وفي قوله تعالى: أَحَطْتُ إلخ دليل بإشارة النص والإدماج على بطلان قول الرافضة إن الإمام ينبغي أن لا يخفى عليه شيء من الجزئيات، ولا يخفى أنهم إن عنوا بذلك أنه يجب أن يكون الإمام عالما على التفصيل بأحكام جميع الحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها وأن يكون مستحضرا الجواب الصحيح عن كل ما يسأل عنه فبطلان كلامهم في غاية الظهور،
وقد سئل علي كرّم الله تعالى وجهه وهو على منبر الكوفة عن مسألة فقال: لا أدري فقال السائل: ليس مكانك هذا مكان من يقول: لا أدري فقال الإمام علي كرّم الله تعالى وجهه. بلى والله هذا مكان من يقول لا أدري وأما من لا يقول ذلك فلا مكان له
يعني به الله عز وجل وإن عنوا أنه يجب أن يكون عالما بجميع القواعد الشرعية وبكثير من الفروع الجزئية لتلك القواعد بحيث لو حدثت حادثة ولا يعلم حكمها يكون متمكنا من استنباط الحكم فيها على الوجه الصحيح فذاك حق وهو في معنى قول الجماعة يجب أن يكون الإمام مجتهدا. وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. وقوله تعالى: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ أي تتصرف بهم ولا يعترض عليها أحد استئناف لبيان ما جاء به من النبأ. وتفصيل له إثر إجمال وعنى بهذه المرأة بلقيس (١) بنت شراحيل بن مالك ابن ريان من نسل يعرب بن قحطان، ويقال: من نسل تبع الحميري.
(١) بكسر الباء معرب وهو قبل التعريب بفتحها اه منه.
183
وروى ابن عساكر عن الحسن أن اسم هذه المرأة ليلى وهو خلاف المشهور، وقيل: اسم أبيها السرج بن الهداهد.
ويحكى أنه كان أبوها ملك أرض اليمن كلها وورث الملك من أربعين أبا ولم يكن له ولد غيرها فغلبت بعده على الملك ودانت لها الأمة. وفي بعض الآثار أنه لما مات أبوها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون فملكوا عليهم رجلا يقال: إنه ابن عمها وكان خبيثا فأساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يفجر بنساء رعيته فأرادوا خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا الياس منك قالت: لا أرغب عنك لأنك كفؤ كريم فاجمع رجال أهلي وأخطبني فجمعهم وخطبها فقالوا: لا نراها تفعل فقال: بلى إنها رغبت في فذكروا لها ذلك فقالت: نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت مع أناس كثير من حشمها وخدمها فلما خلت به سقته الخمر حتى سكر فقتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرّعتهم، وقالت: أما كان فيكم من يأنف من الفجور بكرائم عشيرته ثم أرتهم إياه قتيلا، وقالت: اختاروا رجلا تملكوه عليكم فقالوا: لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرا وخديعة منها واشتهر أن أمها جنية.
وقد أخرج ذلك ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد والحكيم الترمذي وابن مردويه عن عثمان بن حاضر أن أمها امرأة من الجن يقال لها بلقمة بنت شيصا وابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أن أمها فارعة الجنية وفي التفسير الخازني أن أباها شراحيل كان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج فيهم فخطب إلى الجن فزوجوه امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن وسبب وصوله إلى الجن حتى خطب إليهم على ما قيل إنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن وهم على صور الظباء فيخلى عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقا فخطب ابنته فزوجه إياها. وقيل: إنه خرج متصيدا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت فأطلقها فلما رجع إلى داره جلس وحده منفردا فإذا هو معه شاب جميل فخاف منه فقال: لا تخف أنا الحية البيضاء الذي أحييتني والأسود الذي قتله هو عبد لنا تمرد علينا وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال: لا حاجة لي به ولكن إن كان لك بنت فزوجينها فزوجه ابنته فولدت له بلقيس انتهى،
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحد أبوي بلقيس كان جنيا»
والذي ينبغي أن يعول عليه عدم صحة هذا الخبر، وفي البحر قد طولوا في قصصها يعني بلقيس بما لم يثبت في القرآن ولا الحديث الصحيح وأن ما ذكر من الحكايات أشبه شيء بالخرافات فإن الظاهر على تقدير وقوع التناكح بين الإنس والجن الذي قيل يصفع السائل عنه لحماقته وجهله أن لا يكون توالد بينهما، وقد ذكر عن الحسن فيما روى ابن عساكر أنه قيل بحضرته: إن ملكة سبأ أحد أبويها جني فقال: لا يتوالدون أي إن المرأة من الإنس لا تلد من الجن والمرأة من الجن لا تلد من الإنس. نعم روي عن مالك ما يقتضي صحة ذلك.
ففي الأشباه والنظائر لابن نجيم روى أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال: كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا: إن هاهنا رجلا من الجن زعم أنه يريد الحلال فقال: ما أرى بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها: من زوجك؟ قالت: من الجن فيكثر الفساد في الإسلام بذلك انتهى، ولعله لم يثبت عن مالك لظهور ما يرد على تعليل الكراهة، ثم ليت شعري إذا حملت الجنية من الإنسي هل تبقى على لطافتها فلا ترى والحمل على كثافته فيرى أو يكون الحمل لطيفا مثلها فلا يريان فإذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني آدم أو تكون
184
متشكلة بشكل نساء بني آدم ما دام الحمل في بطنها وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل إليه من غذائها وكل من الشقوق لا يخلو عن استبعاد كما لا يخفى، وإيثار وَجَدْتُ على رأيت لما أشير إليه فيما سبق من الإيذان بكونه عند غيبته بصدد خدمته عليه السلام بإبراز نفسه في معرض من يتفقد أحوالها ويتعرفها كأنها طلبته وضالته ليعرضها على سليمان عليه السلام، وقيل: للإشعار بأن ما ظفر به أمر غير معلوم أولا لأن الوجدان بعد الفقد وفيه رمز بغرابة الحال، وضمير تَمْلِكُهُمْ لسبأ على أنه اسم للحي أو لأهلها المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنها اسم لها. وليس في الآية ما يدل على جواز أن تكون المرأة ملكة ولا حجة في عمل قوم كفرة على مثل هذا المطلب.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»
ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ولم يصح عنه. وفي الأشباه لا ينبغي أن تولى القضاء وإن صح منها بغير الحدود والقصاص، وذكر أبو حيان أنه نقل عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنها تقضي فيما تشهد فيه لا على الإطلاق ولا أن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم وإنما ذلك على سبيل التحكيم لها وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من الأشياء التي تحتاج إليها الملوك بقرينة تَمْلِكُهُمْ، وقد يقال: ليس الغرض إلا إفادة كثرة ما أوتيت.
والجملة تحتمل أن تكون عطفا على جملة تَمْلِكُهُمْ وأن تكون حالا من ضمير تملكهم المرفوع بتقدير قد أو بدونه وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ قال ابن عباس كما أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر أي سرير كريم من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن، وروي عنه أيضا أنه كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا وكان طوله في السماء ثلاثين ذراعا أيضا، وقيل: كان طوله ثمانين في ثمانين وارتفاعه ثمانين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه سرير من ذهب وصفحتاه مرصعتان بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا في عرض أربعين ذراعا، وقيل: كان من ذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق، وقيل: غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وبالجملة فالظاهر أن المراد بالعرش السرير، وقال أبو مسلم: المراد به الملك ولا داعي إليه. واستعظام الهدهد لعرشها مع ما كان يشاهده من ملك سليمان عليه السلام إما بالنسبة إلى حالها أو إلى عروش أمثالها من الملوك، وجوز أن يكون ذلك لأنه لم يكن لسليمان عليه السلام مثله وإن كان عظيم الملك فإنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هم تحت طاعته. وأيا ما كان فوصفه بذلك بين يديه عليه السلام لما ذكر أولا من ترغيبه عليه السلام في الإصغاء إلى حديثه وفيه توجيه لعزيمته عليه السلام نحو تسخيرها ولذلك عقبه بما يوجب غزوها من كفرها وكفر قومها حيث قال: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله تعالى.
قال الحسن كانوا مجوسا يعبدون الأنوار، وقيل: كانوا زنادقة.
والظاهر أن هذه الجملة استئناف كلام وأن الوقف على عَظِيمٌ قال صاحب المرشد ولا يوقف على عرش وقد زعم بعضهم جوازه وقال معناه عظيم عند الناس. وقد أنكر هذا الوقف أبو حاتم وغيره من المتقدمين ونسبوا القائل به إلى الجهل، وقول من قال معناه عظيم عبادتهم للشمس من دون الله تعالى قول ركيك لا يعتد به وليس في الكلام ما يدل عليه، وفي الكشاف من نوكى القصاص من وقف على عَرْشٌ يريد عظيم إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله تعالى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ التي هي عبادة الشمس ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي، والجملة تحتمل العطف على جملة يَسْجُدُونَ والحالية من الضمير على نحو ما مر
185
آنفا فَصَدَّهُمْ أي الشيطان، وجوز كون الضمير للتزيين المفهوم من الفعل أي فصدهم تزيين الشيطان عَنِ السَّبِيلِ أي سبيل الحق والصواب فَهُمْ بسبب ذلك لا يَهْتَدُونَ إليه وقوله تعالى أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أي لئلا يسجدوا واللام للتعليل وهو متعلق بصدهم أو بزين. والفاء في فَصَدَّهُمْ لا يلزم أن تكون سببية لجواز كونها تفريعية أو تفصيلية أي فصدهم عن ذلك لأجل أن لا يسجدوا لله عز وجل أو زين لهم ذلك لأجل أن لا يسجدوا له تعالى، وجوز أن تكون أن وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من أعمالهم وما بينهما اعتراض كأنه قيل وزين لهم الشيطان عدم السجود لله تعالى، وتعقب بأنه ظاهر في عد عدم السجود من الأعمال وهو بعيد، وجوز أن يكون ذلك بدلا من السبيل و (لا) زائدة مثلها في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: ٢٩] كأنه قيل فصدهم عن السجود لله تعالى، وجوز أن يكون بتقدير إلى و (لا) زائدة أيضا والجار والمجرور متعلق بيهتدون كأنه قيل فهم لا يهتدون إلى السجود له عز وجل، وأنت تعلم أن زيادة- لا- وإن وقعت في الفصيح خلاف الظاهر، وجوز أن لا يكون هناك تقدير والمصدر خبر مبتدأ محذوف أي دأبهم عدم السجود، وقيل: التقدير هي أي أعمالهم عدم السجود وفيه ما مر آنفا، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر والزهري والسلمي والحسن وحميد والكسائي «ألا» بالتخفيف على أنها للاستفتاح ويا حرف نداء والمنادى محذوف أي ألا يا قوم اسجدوا كما في قوله:
ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد ونظائره الكثيرة. وسقطت ألف يا وألف الوصل في (اسجدوا) وكتبت بالياء متصلة بالسين على خلاف القياس. ووقف الكسائي في هذه القراءة على ياء وابتدأ باسجدوا وهو وقف اختيار، وفي البحر الذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء والمنادى محذوف لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء وانحذف فاعله لحذفه فلو حذفنا المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء وحذف متعلقه وهو المنادى وإذا لم نحذفه كان دليلا على العامل فيه وهو جملة النداء وليس حرف الندا حرف جواب كنعم وبلى ولا وأجل فيجوز حذف الجملة بعده كما يجوز حذفها بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجملة المحذوفة. فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به (ألا) التي للتنبيه وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد. وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله:
فأصبحن لا يسألنني عن بما به والمتفقي اللفظ العاملين أيضا في قوله:
فلا والله لا يلفى لما بي ولا للما بهم أبدا دواء
وجاز ذلك وإن عدّوه ضرورة أو قليلا فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزا. وليس- يا- في قوله:
يا لعنة الله والأقوام كلهم حرف نداء عندي بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ وليس مما حذف فيه المنادى لما ذكرناه انتهى، وللبحث فيه مجال. وعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام استئنافا من كلام الهدهد إما خطابا لقوم سليمان عليه السلام للحث على عبادة الله تعالى أو لقوم بلقيس لتنزيلهم منزلة المخاطبين. ويحتمل أن يكون استئنافا من جهة الله عز وجل أو من سليمان عليه السلام كما قيل وهو حينئذ بتقدير القول.
186
ولعل الأظهر احتمال كونه استئنافا من جهته عز وجل خاطب سبحانه به هذه الأمة. والجملة معترضة ويوقف على هذه القراءة على يَهْتَدُونَ استحسانا ويوجب ذلك زيادة عدة آيات هذه السورة على ما قالوه فيها عند بعض، وقيل: لا يوجبها فإن الآيات توقيفية ليس مدارها على الوقف وعدمه فتأمل. والفرق بين القراءتين معنى أن في الآية على الأولى ذما على ترك السجود وفيها على الثانية أمرا بالسجود. وأيا ما كان فالسجود واجب عند قراءة الآية، وزعم الزجاج وجوبه على القراءة الثانية وهو مخالف لما صرح به الفقهاء ولذا قال الزمخشري إنه غير مرجوع إليه. وقرأ الأعمش: «هلا يسجدون» على التحضيض وإسناد الفعل إلى ضمير الغائبين. وفي قراءة أبي «ألا تسجدون» على العرض وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين، وفي حرف عبد الله «ألا هل تسجدون» بألا الاستفتاحية وهل الاستفهامية. وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين قاله ابن عطية وفي الكشاف ما فيه مخالفة ما له والعالم بحقيقة الحال هو الله عز وجل.
الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يظهر الشيء المخبوء فيهما كائنا ما كان فالخبء مصدر أريد به اسم المفعول. وفسره بعضهم هنا بالمطر والنبات، وروي ذلك عن ابن زيد. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب أنه فسره بالماء والأولى التعميم كما روي ذلك جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وفِي السَّماواتِ متعلق بالخبء، وعن الفراء أن فِي بمعنى من فالجار والمجرور على هذا متعلق بيخرج والظاهر ما تقدم. واختيار هذا الوصف لما أنه أوفق بالقصة حيث تضمنت ما هو أشبه شيء بإخراج الخبء وهو إظهار أمر بلقيس وما يتعلق به. وعلى هذا القياس اختيار ما ذكر بعد من صفاته عز وجل، وقيل: إن تخصيص هذا الوصف بالذكر لما أن الهدهد أرسخ في معرفته والإحاطة بأحكامه بمشاهدة آثاره التي من جملتها ما أودعه الله تعالى في نفسه من القدرة على معرفة الماء تحت الأرض. وأنت تعلم أن كون الهدهد أودع فيه القدرة على ما ذكر مما لم يجيء فيه خبر يعول عليه، وأيضا التعليل المذكور لا يتسنى على قراءة ابن عباس والستة الذين معه أَلَّا يَسْجُدُوا بالتخفيف إذا جعل الكلام استئنافا من جهته عز وجل أو من جهة سليمان عليه السلام. وقرأ أبي وعيسى «الخب» بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة. وحكى ذلك سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد.
وقرأ عكرمة بألف بدل الهمزة فلزم فتح ما قبلها وهي قراءة عبد الله ومالك بن دينار وخرجت على لغة من يقول في الوقف هذا الخبو ومررت بالخبي ورأيت الخبا وأجرى الوصل مجرى الوقف. وأجاز الكوفيون أن يقال في المرأة والكمأة المرأة والكماة بإبدال الهمزة ألفا وفتح ما قبلها. وذكر أن هذا الإبدال لغة.
وجوز أن يكون الْخَبْءَ من ذلك ومنعه الزمخشري مدعيا أن ذلك لغة ضعيفة مسترذلة. وعلل بأن الهمزة إذا سكن ما قبلها فطريق تخفيفها الحذف لا القلب كما يقال في الكمء كمه. وتعقبه في الكشف فقال: تخريجه على الوقف فيه ضعفان لأن الوقف على ذلك الوجه ليس من لغة الفصحاء وإجراء الوصل مجرى الوقف فيما لا يكثر استعماله كذلك. وأما تلك اللغة فعن الكوفيين أنها قياس انتهى. وزعم أبو حاتم أن الخبا بالألف لا يجوز أصلا وهو من قصور العلم، قال المبرد: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه. وأشير بعطف قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ على يُخْرِجُ إلى أنه تعالى يخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخبايا لما أن المراد يظهر ما تخفونه من الأحوال فيجازيكم بها وذكر ما تعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي كذا قيل. ويشعر كلام بعضهم بأنه أشير بما تقدم إلى كمال قدرته تعالى وبهذا إلى كمال علمه عز وجل وأنه استوى فيه الباطن والظاهر. وقدم ما
187
تُخْفُونَ
لذلك مع مناسبته لما قبله من الخبء وقدم وصفه تعالى بإخراج الخبء من السماوات لأنه أشد ملاءمة للمقام، والخطاب على ما قيل إما للناس أو لقوم سليمان أو لقوم بلقيس. وفي الكلام التفات.
وقرأ الحرميان والجمهور «ما يخفون وما يعلنون» بياء الغيبة، وفي الكشاف عن أبي أنه قرأ «ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون».
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ في معنى التعليل لوصفه عز وجل بكمال القدرة وكمال العلم. والْعَظِيمِ بالجر صفة العرش وهو نهاية الأجرام فلا جرم فوقه، وفي الآثار من وصف عظمه ما يبهر العقول ويكفي في ذلك أن الكرسي الذي نطق الكتاب العزيز بأنه وسع السماوات والأرض بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، وهو عند الفلاسفة محدد الجهات وذهبوا إلى أنه جسم كري خال عن الكواكب محيط بسائر الأفلاك محرك لها قسرا من المشرق إلى المغرب ولا يكاد يعلم مقدار ثخنه إلا الله تعالى، وفي الأخبار الصحيحة ما يأبى بظاهره بعض ذلك. وأيا ما كان فبين عظمه وعظم عرش بلقيس بون عظيم.
وقرأ ابن محيصن وجماعة «العظيم» بالرفع فاحتمل أن يكون صفة للعرش مقطوعة بتقدير هو فتستوي القراءتان معنى. واحتمل أن يكون صفة للرب قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا فعل سليمان عليه السلام عند قوله ذلك؟
فقيل قال: سَنَنْظُرُ أي فيما ذكرته من النظر بمعنى التأمل والتفكر، والسين للتأكيد أي سنتعرف بالتجربة البتة أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ جملة معلق عنها الفعل للاستفهام. وكان مقتضى الظاهر أم كذبت وإيثار ما عليه النظم الكريم للإيذان بأن كذبه في هذه المادة يستلزم انتظامه في سلك الموسومين بالكذب الراسخين فيه فإن مساق هذه الأقاويل الملفقة مع ترتيب أنيق يستميل قلوب السامعين نحو قبولها من غير أن يكون لها مصداق أصلا لا سيما بين يدي نبي عظيم تخشى سطوته لا يكاد يصدر إلا عمن رسخت قدمه في الكذب والإفك وصار سجية له حتى لا يملك نفسه عنه في أي موطن كان، وزعم بعضهم أن ذاك لمراعاة الفاصلة وليس بشيء أصلا، وفي الآية على ما في الإكليل قبول الوالي عذر رعيته ودرء العقوبة عنهم وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به، وقوله تعالى: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ استئناف مبين لكيفية النظر الذي وعده عليه السلام بعد ما كتب كتابه في ذلك المجلس أو بعده.
فهذا إشارة إلى الحاضر وتخصيصه عليه السلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة ولئلا يبقى له عذر أصلا، وفي الآية دليل على جواز إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام لإبلاغ الدعوة والدعاء إلى الإسلام. وقد كتب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك العرب، وقرىء في السبعة «فألقه» بكسر الهاء وياء بعدها وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء، وقرأ مسلم بن جندب بضم الهاء وواو بعدها ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح وحمل على ذلك لأن التولي بالكلية ينافي قوله: فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ إلا أن يحمل على القلب كما زعم ابن زيد وأبو علي وهو غير مناسب.
وأمره عليه السلام إياه بالتنحي من باب تعليم الأدب مع الملوك كما روي عن وهب.
والنظر بمعنى التأمل والتفكر وماذا إما كلمة استفهام في موضع المفعول ليرجعون ورجع تكون متعدية كما تكون لازمة أو مبتدأ وجملة يَرْجِعُونَ خبره. وإما أن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا اسم موصول بمعنى الذي خبره وجملة يَرْجِعُونَ صلة الموصول والعائد محذوف. وأيا ما كان فالجملة معلق عنها فعل القلب فمحلها النصب على إسقاط الخافض، وقيل: النظر بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: ١٣] فلا
188
تعليق بل كلمة ماذا موصول في موضع المفعول كذا قيل، والظاهر أنه بمعنى التأمل وأن المراد فتأمل وتعرف ماذا يرد بعضهم على بعض من القول. وهذا ظاهر في أن الله تعالى أعطى الهدهد قوة يفهم بها ما يسمعه من كلامهم، والتعبير بالإلقاء لأن تبليغه لا يمكن بدونه. وجمع الضمير لأن المقصود تبليغ ما فيه لجميع القوم والكشف عن حالهم بعده.
قالَتْ أي بعد ما ذهب الهدهد بالكتاب فألقاه إليهم وتنحى عنهم حسبما أمر به، وإنما طوى ذكره إيذانا بكمال مسارعته إلى إقامة ما أمر به من الخدمة وإشعارا بالاستغناء عن التصريح به لغاية ظهوره.
روي أنه عليه السلام كتب كتابه وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهدهد فذهب به فوجدها راقدة في قصرها بمأرب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية
، وفي رواية بين ثدييها، وقيل: نقرها فانتبهت فزعة، وقيل: أتاها والقادة والجنود حواليها فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت فقالت ما قالت، وقيل: كانت في البيت كوة تقع الشمس منها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسدها بجناحيه فرأت ذلك وقامت إليه فألقى الكتاب إليها وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل يعرب بن قحطان واشتهر أنها من نسل تبع الحميري وكان الخط العربي في غاية الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة وهو المسمى بالخط الحميري وكان بحمير كتابة تسمى المسند حروفها مفصلة وكانوا يمنعون من تعليمها إلا بإذنهم ومن حمير تعلم مضر، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك.
واختار ابن خلدون القول بأنه تعلم الكتابة العربية من التبابعة وحمير أهل الحيرة وتعلمها منهم أهل الحجاز.
وظاهر كون بلقيس من العرب وأنها قرأت الكتاب يقتضي أن الكتاب كان عربيا، ولعل سليمان عليه السلام كان يعرف العربي وإن لم يكن من العرب، ومن علم منطق الطير لا يبعد أن يعلم منطق العرب الذي هو أشرف منطق، ويحتمل أن يكون عنده من يعرف ذلك وكذا من يعرف غيره من اللغات كعادة الملوك يكون عندهم من يتكلم بعدة لغات ليترجم لهم ما يحتاجونه، ويجوز أن يكون الكتاب غير عربي بل بلغة سليمان عليه السلام وقلمه وكان قلمه كما نقل عن الإمام أحمد البوني كاهنيا وكان عند بلقيس من ترجمه لها وأعلمها بما فيه فجمعت أشراف قومها وأخبرتهم بذلك واستشارتهم كما حكى سبحانه عنها بقوله جل وعلا قالت: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إلخ، وأقدم سليمان عليه السلام على كتابة الكتاب إليها كذلك قول الهدهد: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: ٢٣] والمترجم من الأشياء التي يحتاج إليها الملك وأن اللائق بشأنه وعظمته أن لا يترك لسانه ويتشبه بها في لسانها، ويحتمل أنها كانت بنفسها تعرف تلك الكتابة فقرأت الكتاب لذلك، ورجح احتمال أن يكون الكتاب غير عربي بأن الكتابة لها بالعربية تستدعي الوقوف على حالها وهو عليه السلام ما وقف عليه بعد.
وتعقب بأنه دله على كونها عربية قول الهدهد: جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [النمل: ٢٢، ٢٣] فإنه عليه السلام ممن لا يخفى عليه كون سبأ من العرب والظاهر كون ملكتهم منهم، ووصفت الكتاب بالكرم لكونه مختوما
ففي الحديث: «كرم الكتاب ختمه»
، وفي شرح أدب الكاتب يقال أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته، وقال ابن المقنع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به، وقد فسر ابن عباس وقتادة وزهير بن محمد «الكريم» هنا بالمختوم، وفيه كما قيل استحباب ختم الكتاب لكرم مضمونه وشرفه أو لكرم مرسله وعلو منزلته وعلمت ذلك بالسماع أو بكون كتابه مختوما باسمه على عادة الملوك والعظماء أو بكون رسوله به الطير أو
189
لبداءته باسم الله عز وجل أو لغرابة شأنه ووصوله إليها على منهاج غير معتاد، وقيل: إن ذلك لظنها إياه بسبب أن الملقى له طير أنه كتاب سماوي وليس بشيء. وبناء أُلْقِيَ للمفعول لعدم الاهتمام بالفاعل، وقيل: لجهلها به أو لكونه حقيرا. وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الفصوص: من حكمة بلقيس كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب وما ذاك إلا لتعلم أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها. وفي ذلك سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها وبهذا استحقت التقديم عليهم انتهى، وتأكيد الجملة للاعتناء بشأن الحكم، وأما التأكيد في قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فلذاك أيضا أو لوقوعه في جواب سؤال مقدر كأنه قيل:
ممن هذا الكتاب وماذا مضمونه؟ فقيل: إنه من سليمان إلخ، ويحسن التأكيد بأن في جواب السؤال ولا أرى فرقا في ذلك بين المحقق والمقدر، ويعلم مما ذكر أن ضمير إِنَّهُ الأول للكتاب وضمير إِنَّهُ الثاني للمضمون وإن لم يذكر، وليس في الآية ما يدل على أنه عليه السلام قدم اسمه على اسم الله عز وجل، وعلمها بأنه من سليمان يجوز أن يكون لكتابة اسمه بعد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن رومان أنه قال: كتب سليمان بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن داود إلى بلقيس ابنة ذي شرح وقومها- أن لا تعلوا
- إلخ، وجوز أن يكون لكتابته في ظاهر الكتاب وكان باطن الكتاب بِسْمِ اللَّهِ إلخ، وقيل: ضمير إِنَّهُ الأول للعنوان وأنه عليه السلام عنوان الكتاب باسمه مقدما له فكتب من سليمان بِسْمِ اللَّهِ إلخ واستظهر هذا أبو حيان ثم قال: وقدم عليه السلام اسمه لاحتمال أن يبدر منها ما لا يليق إذ كانت كافرة فيكون اسمه وقاية لاسم الله عز وجل وهو كما ترى، وكتابة البسملة في أوائل الكتب مما جرت به سنة نبينا صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية بلا خلاف، وأما قبله فقد قيل إن كتبه عليه الصلاة والسلام لم تفتتح بها، فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم فكتب النبي صلّى الله عليه وسلّم أول ما كتب باسمك اللهم حتى نزلت بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: ٤١] فكتب بسم الله ثم نزلت ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: ١١٠] فكتب بسم الله الرحمن ثم نزلت آية النمل إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ الآية فكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكتب باسمك اللهم فلما نزلت إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ الآية كتب بسم الله
إلخ، وروي نحو ذلك عن ميمون بن مهران وقتادة، وهذا عندي مما لا يكاد يتسنى مع القول بنزول البسملة قبل نزول هذه الآية وهذا القول مما لا ينبغي أن يذهب إلى خلافه، فقد قال الجلال السيوطي في إتقانه اختلف في أول ما نزل من القرآن على أقوال، أحدها وهو الصحيح اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: ١] واحتج له بعده أخبار منها خبر الشيخين في بدء الوحي وهو مشهور، وثانيها يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: ١] وثالثها سورة الفاتحة، ورابعها البسملة ثم قال وعندي أن هذا لا يعد قولا برأسه فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق اهـ.
وهو يقوي ما قلناه فإن البسملة إذا كانت أول آية نزلت كانت هي المفتتح لكتاب الله تعالى وإذا كانت كذلك كان اللائق بشأنه صلّى الله عليه وسلّم أن يفتتح بها كتبه كما افتتح الله تعالى بها كتابه وجعلها أول المنزل منه.
والقول بأنها نزلت قبل إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم مشروعيتها في أوائل الكتب والرسائل حتى نزلت هذه الآية المتضمنة لكتابة سليمان عليه السلام إياها في كتابه إلى أهل سبأ مما لا يقدم عليه إلا جاهل بقدره عليه الصلاة والسلام، وذكر بعض الأجلة أنها إذا كتبت في الكتب والرسائل فالأولى أن تكتب سطرا وحدها.
190
وفي أدب الكتاب للصولي أنهم يختارون أن يبدأ الكاتب بالبسملة من حاشية القرطاس ثم يكتب الدعاء مساويا لها ويستقبحون أن يخرج الكلام عن البسملة فاضلا بقليل ولا يكتبونها وسطا ويكون الدعاء فاضلا اهـ.
وما ذكر من كتابة الدعاء بعدها لم يكن في الصدر الأول وإنما كان فيه كتابة من فلان إلى فلان.
وتقديم اسم الكاتب على اسم المكتوب له مشروع وإن كان الأول مفضولا والثاني فاضلا، ففي البحر عن أنس ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتابا بدؤوا بأنفسهم.
وقال أبو الليث في البستان له: ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز لأن الأمة قد أجمعت عليه وفعلوه انتهى.
وظاهر الآية أن البسملة ليست من الخصوصيات، وقال بعضهم: إنها منها لكن باللفظ العربي والترتيب المخصوص، وما في كتاب سليمان عليه السلام لم تكن باللفظ العربي وترجمت لنا به وليس ذلك بعيد.
وقرأ عبد الله «وإنه من سليمان» بزيادة واو، وخرجه أبو حيان على أنها عاطفة للجملة بعدها على جملة إِنِّي أُلْقِيَ، وقيل: هي واو الحال والجملة حالية، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة «أنه من سليمان وأنه» بفتح همزة أن في الموضعين، وخرج على الإبدال من كِتابٌ أي ألقي إلي أنه إلخ أو على أن يكون التقدير لأنه إلخ كأنها عللت كرم الكتاب بكونه من سليمان وبكونه مصدرا باسم الله عز وجل، وقرأ أبي «أن من سليمان وأن بسم الله» بفتح الهمزة وسكون النون، وخرج على أن أن هي المفسرة لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول أو على أنها المخففة من الثقيلة وحذفت الهاء. و (أن) في قوله تعالى: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ يحتمل أن تكون مفسرة ولا ناهية. ويحتمل أن تكون مصدرية ناصبة للفعل ولا نافية، وقيل: يجوز كونها ناهية أيضا، ومحل المصدر الرفع على أنه بدل من كِتابٌ أو خبر لمبتدأ مضمر يليق بالمقام أي مضمونه أن لا تعلوا عليّ أي أن لا تتكبروا عليّ كما يفعل جبابرة الملوك، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي «أن لا تغلوا» بالغين المعجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد أي أن لا تتجاوزا حدكم وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ عطف على ما قبله فإن كانت فيه لا ناهية فعطف الأمر عليه ظاهر وإن كانت نافية وأن مصدرية فعطفه عليه من عطف الإنشاء على الأخبار والكلام فيه مشهور، والأكثرون على جوازه في مثل هذا. والمراد بالإسلام الإيمان أي وأتوني مؤمنين، وقيل: المراد به الانقياد أي ائتوني منقادين مستسلمين. والدعوة على الأول دعوة النبوة وعلى الثاني دعوة الملك واللائق بشأنه عليه السلام هو الأول.
وفي بعض الآثار كما ستعلم إن شاء الله تعالى ما يؤيده. ولا يرد أنه يلزم عليه أن يكون الأمر بالإيمان قبل إقامة الحجة على رسالته فيكون استدعاء للتقليد لأن الدعوة المذكورة هي الدعوة الأولى التي لا تستدعي إظهار المعجزة وإقامة الحجة، وعادة الأنبياء عليهم السلام الدعوة إلى الإيمان أولا فإذا عورضوا أقاموا الدليل وأظهروا المعجزة وفيما نحن فيه لم يصدر معارضة، وقيل: إن الدعوة ما كانت إلا مقرونة بإقامة الحجة لأن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة التي ذكرت فيما مر أولا معجزة باهرة دالة على رسالته عليه السلام دلالة بينة. وتعقب بأن كون الإلقاء المذكور معجزة غير واضح خصوصا وهي لم تقارن التحدي ورجح الثاني بأن قولها: إِنَّ الْمُلُوكَ إلخ صريح في دعوة الملك والسلطنة.
وأجيب بأن ذاك لعدم تيقنها رسالته عليه السلام حينئذ أو هو من باب الاحتيال لجلب القوم إلى الإجابة بإدخال الروع عليهم من حيثية كونه عليه السلام ملكا وهذا كما ترى، والظاهر أنه لم يكن في الكتاب أكثر مما قص الله تعالى وهو إحدى الروايتين عن مجاهد، وثانيتهما أن فيه- السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين
191
وفي بعض الآثار أن نسخة الكتاب- من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ السلام على من اتبع الهدى
- إلى آخر ما ذكر، ولعلها على ما هو الظاهر عرفت أنهم المعنيون بالخطاب من قرائن الأحوال، وقد تضمن ما قصه سبحانه البسملة التي هي هي في الدلالة على صفاته تعالى صريحا والتزاما والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل فيا له كتاب في غاية الإيجاز ونهاية الإعجاز، وعن قتادة كذلك كانت الأنبياء عليهم السلام تكتب جملا لا يطيلون ولا يكثرون.
هذا ولم أر في الآثار ما يشعر بأنه عليه السلام كتب ذلك على الكاغد أو الرق أو غيرهما، واشتهر على ألسنة الكتاب أن الكتاب كان من الكاغد المعروف وأن الهدهد أخذه من طرفه بمنقاره فابتل ذلك الطرف بريقه وذهب منه شيء وكان ذلك الزاوية اليمنى من جهة أسفل الكتاب، وزعموا أن قطعهم شيئا مر القرطاس من تلك الزاوية تشبيها لما يكتبونه بكتاب سليمان عليه السلام وهذا مما لا يعول عليه ولسائر أرباب الصنائع والحرف حكايات من هذا القبيل وهي عند العقلاء أحاديث خرافة.
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي كررت حكاية قولها للإيذان بغاية اعتنائها بما في حيزها، والإفتاء على ما قال صاحب المطلع الإشارة على المستفتي فيما حدث له من الحادثة بما عند المفتي من الرأي والتدبير وهو إزالة ما حدث له من الإشكال كالإشكاء إزالة الشكوى، وفي المغرب اشتقاق الفتوى من الفتى لأنها جواب في حادثة أو إحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل، وأيا ما كان فالمعنى أشيروا عليّ بما عندكم من الرأي والتدبير فيما حدث لي وذكرت لكم خلاصته، وقصدت بما ذكرت استعطافهم وتطييب نفوسهم ليساعدوها ويقوموا معها وأكدت ذلك بقولها: ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ أي ما أقطع أمرا من الأمور المتعلقة بالملك إلا بمحضركم وبموجب آرائكم، والإتيان بكان للإيذان بأنها استمرت على ذلك أو لم يقع منها غيره في الزمن الماضي فكذا في هذا وحَتَّى تَشْهَدُونِ غاية للقطع.
واستدل بالآية على استحباب المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة، وفي قراءة عبد الله «ما كنت قاضية أمرا» قالُوا استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولها كأنه قيل: فماذا قالوا في جوابها؟ فقيل قالوا: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ في الأجساد والعدد وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي نجدة وشجاعة مفرطة وبلاء في الحرب قيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلا كل واحد على عشرة آلاف، وروي ذلك عن قتادة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان لصاحبة سليمان اثنا عشر ألف قيل تحت يد كل قيل مائة ألف، وقيل: كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة ألف مقاتل ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد كل قائد تحت يده اثنا عشر ألف مقاتل، وهذه الأخبار إلى الكذب أقرب منها إلى الصدق، ولعمري إن أرض اليمن لتكاد تضيق عن العدد الذي تضمنه الخبران الأخيران، وليت شعري ما مقدار عدد رعيتها الباقين الذين تحتاج إلى هذا العسكر والقواد والوزراء لسياستهم وضبط أمورهم وتنظيم أحوالهم وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ تسليم للأمر إليها بعد تقديم ما يدل على القوة والشجاعة حتى لا يتوهم أنه من العجز. والأمر بمعناه المعروف أو المعنى الشأن وهو مبتدأ وإِلَيْكِ متعلق بمحذوف وقع خبرا له ويقدر مؤخرا ليفيد الحصر المقصود لفهمه من السياق أي والأمر إليك موكول.
فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ من الصلح والمقاتلة نطعك ونتبع رأيك، وقيل: أرادوا نحن من أبناء الحرب لا من
192
أبناء الرأي والمشورة وإليك الرأي والتدبير فانظري ماذا ترين نكن في الخدمة فلما أحست منهم الميل إلى الحرب والعدول عن السنن الصواب شرعت في تزييف مقالتهم المنبئة عن الغفلة عن شأن سليمان عليه السلام حسبما تعتقده، وذلك قوله تعالى: قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً من القرى على منهاج المقاتلة والحرب أَفْسَدُوها بتخريب عماراتها وإتلاف ما فيها من الأموال.
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة والإذلال، ولم يقل وأذلوا أعزة أهلها مع أنه أخصر للمبالغة في التصيير والجعل وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ تصديق لها من جهته عز وجل على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أو هو من كلامها جاءت به تأكيدا لما وصفت من حالهم بطريق الاعتراض التذييلي وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة فالضمير للملوك، وقيل: هو لسليمان ومن معه فيكون تأسيسا لا تأكيدا. وتعقب بأن التأكيد لازم على ذلك أيضا للاندراج تحت الكلية وكأنها أرادت على ما قيل: إن سليمان ملك والملوك هذا شأنهم وغلبتنا عليه غير محققة ولا اعتماد على العدد والعدة والشجاعة والنجدة فربما يغلبنا فيكون ما يكون فالصلح خير، وقيل: إنها غلب على ظنها غلبته حيث رأت أنه سخر له الطير فجعل يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب فأشارت لهم إلى أنه يغلب عليهم إذا قاتلوه فيفسد القرى ويذل الأعزة وأفسدت بذلك رأيهم وما أحسته منهم من الميل إلى مقاتلته عليه السلام وقررت رأيها بقولها: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ حتى أعمل بما يقتضيه الحال، وهذا ظاهر في أنها لم تثق بقبوله عليه السلام هديتها.
وروي أنها قالت لقومها: إن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك وإن كان نبيا لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه، والهدية اسم لما يهدى كالعطية اسم لما يعطى، والتنوين فيها للتعظيم و (ناظرة) عطف على مُرْسِلَةٌ وبِمَ متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أنه متعلق بناظرة وهو وهم فاحش كما في البحر، والنظر معلق والجملة في موضع المفعول به له والجملة الاسمية الدالة على الثبات المصدرة بحرف التحقيق للإيذان بأنها مزمعة على رأيها لا يلويها عنه صارف ولا يثنيها عاطف.
واختلف في هديتها فعن ابن عباس أنها كانت مائة وصيف ومائة وصيفة، وقال وهب. وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة وشنوفا مرصعة بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجوهر وعليه أغشية الديباج وبعثت إليه لبنات من ذهب ولبنات من فضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت وأرسلت بالمسك والعنبر والعود وعمدت إلى حق فجعلت فيه درة عذراء وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بني عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت معه كتابا تذكر فيه الهدية وقالت فيه: إن كنت نبيا ميز بين الغلمان والجواري وأخبر بما في الحق قبل أن تفتحه ثم قالت للرسول: فإن أخبر فقل له اثقب الدرة ثقبا مستويا وأدخل في الخرزة خيطا من غير علاج أنس ولا جن وقالت للغلمان: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث وتخنث يشبه كلام النساء وأمرت الجواري أن يكلموه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول: انظر إلى الرجل إذا دخلت فإن نظر إليك نظرا فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم أنه نبي فتفهم منه قوله ورد الجواب فانطلق الرجل بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره الخبر فأمر عليه السلام الجن أن يضربوا لبنا من الذهب والفضة ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار
193
تسع فراسخ وأن يفرشوا فيه لبن الذهب والفضة وأن يخلوا قدر تلك اللبنات التي معهم وأن يعملوا حول الميدان حائطا مشرفا من الذهب والفضة ففعلوا ثم قال: أي دواب البر والبحر أحسن فقالوا: يا نبي الله ما رأينا أحسن من دواب في البحر يقال لها كذا وكذا مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص قال عليّ بها الساعة فأتوه بها قال: شدوها عن يمين الميدان وشماله وقال للجن: عليّ بأولادكم فاجتمع منهم خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان وعلى شماله وأمر الجن والإنس والشياطين والوحوش والسباع والطير ثم قعد في مجلسه على سريره ووضع أربعة آلاف كرسي على يمينه وعلى شماله وأمر جميع الإنس والجن والشياطين والوحوش والسباع والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان عليه السلام ورأوا الدواب التي لم يروا مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تصاغرت إليهم أنفسهم وخبؤوا ما كان معهم من الهدايا، وقيل: إنهم لما رأوا ذلك الموضع الخالي من اللبنات خاليا خافوا أن يتهموا بذلك فوضعوا ما معهم من اللبن فيه ولما نظروا إلى الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا فقالت لهم الشياطين: جوزوا لا بأس عليكم وكانوا يمرون على كراديس الجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان فأقبل عليهم بوجه طلق وتلقاهم ملقى حسنا وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا فيه وأعطاه الكتاب فنظر فيه وقال: أين الحق فأتى به فحركه فجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما فيه فقال لهم: إن فيه درة غير مثقوبة وجزعة معوجة الثقب قال الرسول: صدقت فأثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة فقال سليمان عليه السلام من لي بثقبها وسأل الجن والإنس فلم يكن عندهم علم ذلك ثم سأل الشياطين فقالوا نرسل إلى الأرضة فلما جاءت أخذت شعرة بفيها ونفذت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها: ما حاجتك؟ قالت: تصير رزقي في الشجر فقال: لك ذلك ثم قال: من لهذه الخرزة؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا نبي الله فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال: ما حاجتك؟ قالت: يكون رزقي في الفواكه فقال: لك ذلك ثم ميز بين الغلمان والجواري أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب بها الأخرى وتغسل وجهها والغلام يأخذ الماء بيديه ويضرب به وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعديها والغلام على ظاهره ثم رد سليمان عليه
السلام الهدية كما أخبر الله تعالى، وقيل: إنها أنفذت مع هداياها عصا كان يتوارثها ملوك حمير وقالت: أريد أن تعرفني رأسها من أسفلها وبقدح ماء وقالت: تملؤه ماء رواء ليس من الأرض ولا من السماء فأرسل عليه السلام العصا إلى الهواء وقال أي الطرفين سبق إلى الأرض فهو أصلها وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها وقال: هذا ليس من ماء الأرض ولا من ماء السماء اهـ. وكل ذلك أخبار لا يدرى صحتها ولا كذبها، ولعل في بعضها ما يميل القلب إلى القول بكذبه والله تعالى أعلم.
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ في الكلام حذف أي فأرسلت الهدية فلما جاء إلخ، وضمير جاءَ للرسول، وجوز أن يكون لما أهدت إليه والأول أولى، وقرأ عبد الله «فلما جاؤوا» أي المرسلون قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ خطاب للرسول والمرسل تغليبا للحاضر على الغائب وإطلاقا للجمع على الاثنين، وجوز أن يكون للرسول ومن معه وهو أوفق بقراءة عبد الله، ورجح الأول لما فيه من تشديد الإنكار والتوبيخ المستفادين من الهمزة على ما قيل وتعميمهما لبلقيس وقومها، وأيد بمجيء قوله تعالى: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ بالإفراد وتنكير (مال) للتحقير.
وقرأ جمهور السبعة «تمدونن» بنونين وأثبت بعض الياء. وقرأ حمزة بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات ياء المتكلم. وقرأ المسيبي عن نافع بنون واحدة خفيفة والمحذوف نون الوقاية، وجوز أن يكون الأولى فرفعه بعلامة مقدرة كما قيل في قوله:
194
أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي
فَما آتانِيَ اللَّهُ أي من النبوة والملك الذي لا غاية وراءه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي من المال الذي من جملته ما جئتم به، وقيل: عنى بما آتاه المال لأنه المناسب للمفضل عليه والأول أولى لأنه أبلغ، والجملة تعليل للإنكار والكلام كناية عن عدم القبول لهديتهم، وليس المراد منه الافتخار بما أوتيه فكأنه قيل: أنكر إمدادكم إياي بمال لأن ما عندي خير منه فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي، والظاهر أن الخطاب المذكور كان أول ما جاؤوه كما يؤذن به قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ إلخ. ولعل ذلك لمزيد حرصه على إرشادهم إلى الحق، وقيل: لعله عليه السلام قال لهم ما ذكر بعد أن جرى بينهم وبينه ما جرى مما في خبر وهب وغيره، واستدل بالآية على استحباب هدايا المشركين.
والظاهر أن الأمر كذلك إذا كان في الرد مصلحة دينية لا مطلقا، وإنما لم يقل: وما آتاني الله خير مما آتاكم لتكون الجملة حالا لما أن مثل هذه الحال وهي الحال المقررة للإشكال يجب أن تكون معلومة بخلاف العلة وهي هنا ليست كذلك، وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ إضراب عما ذكر من إنكار الإمداد بالمال وتعليله إلى بيان ما حملهم عليه من قياس حاله عليه السلام على حالهم وهو قصور همتهم على الدنيا والزيادة فيها فالمعنى أنتم تفرحون بما يهدى إليكم لقصور همتكم على الدنيا وحبكم الزيادة فيها، ففي ذلك من الحط عليهم ما لا يخفى، والهدية مضافة إلى المهدي إليه وهي تضاف إلى ذلك كما تضاف إلى المهدي أو إضراب عن ذلك إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه عليه السلام فرح افتخار وامتنان واعتداد بها، وفائدة الإضراب التنبيه على أن إمداده عليه السلام بالمال منكر قبيح، وعد ذلك مع أنه لا قدر له عنده عليه السلام مما يتنافس فيه المتنافسون أقبح والتوبيخ به أدخل، قيل: وينبىء عن اعتدادهم بتلك الهدية التنكير في قول بلقيس: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ بعد عدها إياه عليه السلام ملكا عظيما.
وكذا ما تقدم في خبر وهب وغيره من حديث الحق والجزعة وتغيير زي الغلمان والجواري وغير ذلك، وقيل:
فرحهم بما أهدوه إليه عليه السلام من حيث توقعهم به ما هو أزيد منه فإن الهدايا للعظماء قد تفيد ما هو أزيد منها مالا أو غيره كمنع تخريب ديارهم هنا، وقيل: الكلام كناية عن الرد، والمعنى أنتم من حقكم أن تفرحوا بأخذ الهدية لا أنا فخذوها وافرحوا وهو معنى لطيف إلا أن فيه خفاء ارْجِعْ أمر للرسول ولم يجمع الضمير كما جمعه فيما تقدم من قوله: أَتُمِدُّونَنِ إلخ لاختصاص الرجوع به بخلاف الإمداد نحوه، وقيل: هو أمر للهدهد محملا كتابا آخر وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن زهير بن زهير.
وتعقب بأنه ضعيف دراية ورواية وقرأ عبد الله «ارجعوا» على أنه أمر للمرسلين والفعل هنا لازم أي انقلب وانصرف إِلَيْهِمْ أي إلى بلقيس وقومها فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ أي فو الله لنأتينهم بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها أي لا طافة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وأصل القبل المقابلة فجعل مجازا أو كناية عن الطاقة والقدرة عليها. وقرأ عبد الله «بهم» وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ عطف على جواب القسم مِنْها أي من سبأ أَذِلَّةً أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا فيه من العز والتمكين، وفي جمع القلة تأكيد لذلتهم، وقوله تعالى: وَهُمْ صاغِرُونَ حال أخرى، والصغار وإن كان بمعنى الذل إلا أن المراد به هنا وقوعهم في أسر واستعباد فيفيد الكلام أن إخراجهم بطريق الأسر لا بطريق الإجلاء وعدم وقوع جواب القسم لأنه كان معلقا بشرط قد حذف عند الحكاية ثقة بدلالة الحال عليه كأنه قيل: ارجع إليهم فليأتوني مسلمين وإلا فلنأتنيهم إلخ.
195
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ في الكلام حذف أي فرجع الرسول إليها وأخبرها بما أقسم عليه سليمان فتجهزت للمسير إليه إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتاله، فروي أنها أمرت عند خروجها فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في جوف بعض في آخر قصر من قصورها وغلقت الأبواب ووكلت به حراسا يحفظونه وتوجهت إلى سليمان في أقيالها وأتباعهم وأرسلت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، قال عبد الله بن شداد: فلما كانت على فرسخ من سليمان قال: أيكم يأتيني بعرشها.
وعن ابن عباس كان سليمان مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه فقال: ما هذا؟ فقالوا: بلقيس فقال: أيكم إلخ
، ومعنى مسلمين على ما روي عنه طائعين، وقال بعضهم: هو بمعنى مؤمنين، واختلفوا في مقصوده عليه السلام من استدعائه عرشها، فعن ابن عباس وابن زيد أنه عليه السلام استدعى ذلك
196
ليريها القدرة التي هي من عند الله تعالى وليغرب عليها. ومن هنا قال في الكشاف: لعله أوحى إليه عليه السلام باستيثاقها من عرشها فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى: من إجراء العجائب على يده مع اطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى وعلى ما يشهد لنبوة سليمان عليه السلام ويصدقها انتهى وتقييد الإتيان بقوله:
قَبْلَ إلخ لما أن ذلك أبدع وأغرب وأبعد من الوقوع عادة وأدل على عظيم قدرة الله عز وجل وصحة نبوته عليه السلام وليكون اطلاعها على بدائع المعجزات في أول مجيئها.
وقال الطبري: أراد عليه السلام أن يختبر صدق الهدهد في قوله: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: ٢٣] واستبعد ذلك لعدم احتياجه عليه السلام إلى هذا الاختبار فإن أمارة الصدق في ذلك غاية الوضوح لديه عليه السلام لا سيما إذا صح ما روي عن وهب وغيره. وقيل: أراد أن يؤتى به فينكر ويغير ثم ينظر أتثبته أم تنكره اختبارا لعقلها.
وقال قتادة وابن جريج: إنه عليه السلام أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإيمان ويمنع أخذ أموالهم. قال في الكشف: فيه أن حل الغنائم مما اختص به نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وقال في التحقيق لا يناسب رد الهدية. وتعليله بقوله: فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ. وأجيب بأن هذا ليس من باب أخذ الغنائم وإنما هو من باب أخذ مال الحربي. والتصريف بغير رضاه مع أن الظاهر أنه بوحي فيجوز أنه من خصوصياته لحكمة ولم يكن ذلك هدية لها حتى لا يناسب الرد السابق وفيه بحث، ولعل الألصق بالقلب أن ذاك لينكره فيمتحنها اختبارا لعقلها مع إراءتها بعض خوارقه الدالة على صحة نبوته وعظيم قدرة الله عز وجل. ثم الظاهر أن هذا القول بعد رد الهدية وهو الذي عليه الجمهور.
وفي رواية عن ابن عباس أنه عليه السلام قال ذلك حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير وأظن أنه لا يصح هذا عن ابن عباس قالَ عِفْرِيتٌ أي خبيث مارد مِنَ الْجِنِّ بيان له إذ يقال للرجل الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه، وقرأ أبو حيوة «عفريت» بفتح العين وقرأ أبو رجاء وأبو السمال وعيسى ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه «عفرية» بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء بعدها ياء مفتوحة بعدها تاء التأنيث، وقال ذو الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفرية مصوب في سواد الليل منقضب
وقرأت فرقة «عفر» بلا ياء ولا تاء ويقال في لغة طيىء وتميم: عفراة بألف بعدها تاء التأنيث، وفيه لغة سادسة عفارية وتاء عفريت زائدة للمبالغة في المشهور. وفي النهاية الياء في عفرية وعفارية للإلحاق بشرذمة وعذافرة والهاء فيهما للمبالغة والتاء في عفريت للإلحاق بقنديل اهـ. واسم هذا العفريت على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس صخر.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن شعيب الجبائي أن اسمه كوزن. وأخرج ابن أبي حاتم عن يزيد ابن رومان أن اسمه كوزي. وقيل: اسمه ذكوان أَنَا آتِيكَ بِهِ أي بعرشها، وآتي يحتمل أن يكون مضارعا وأن يكون اسم فاعل.
قيل: وهو الأنسب بمقام ادعاء الإتيان به في المدة المذكورة في قوله تعالى: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي من مجلسك الذي تجلس فيه للحكومة وكان عليه السلام يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم قاله قتادة ومجاهد ووهب وزهير بن محمد وقيل: أي قبل أن تستوي من جلوسك قائما وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ لا ينتقل على حمله.
والقوة صفة تصدر عنها الأفعال الشاقة ويطيق بها من قامت به لتحمل الأجرام العظيمة ولذا اختير قوي على قادر هنا، وظاهر كلام بعضهم أن في الكلام حذفا فمنهم من قال: أي على حمله ومنهم قال: أي على الإتيان به، ورجح الثاني
197
بالتبادر نظرا إلى أول الكلام. والأول بأنه أنسب بقوله لقوي: أَمِينٌ لا أقتطع منه شيئا ولا أبدله قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ فصله عما قبله للإيذان بما بين القائلين ومقالتيهما وكيفيتي قدرتيهما على الإتيان به من كمال التباين أو لإسقاط الأول عن درجة الاعتبار. واختلف في تعيين هذا القائل فالجمهور ومنهم ابن عباس ويزيد بن رومان والحسن على أنه آصف بن برخيا بن شمعيا بن منكيل، واسم أمه باطورا من بني إسرائيل كان وزير سليمان على المشهور، وفي مجمع البيان أنه وزيره وابن أخته وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم، وقيل كان كاتبه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه رجل اسمه اسطوم، وقيل: أسطورس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه رجل يقال له ذو النور. وأخرج هو أيضا عن ابن لهيعة أنه الخضر عليه السلام، وعن قتادة أن اسمه مليخا وقيل: ملخ، وقيل: تمليخا، وقيل: هود، وقالت جماعة هو ضبة بن أد جد بني ضبة من العرب وكان فاضلا يخدم سليمان كان على قطعة من خيله، وقال النخعي هو جبريل عليه السلام، وقيل: هو ملك آخر أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، وقال الجبائي: هو سليمان نفسه عليه السلام.
ووجه الفصل عليه واضح فإن الجملة حينئذ مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فما قال سليمان عليه السلام حين قال العفريت ذلك؟ فقيل: قال إلخ ويكون التعبير عنه بما في النظم الكريم للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه، ويكون الخطاب في قوله: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ للعفريت وإنما لم يأت به أولا بل استفهم القوم بقوله: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها ثم قال ما قال وأتى به قصدا لأن يريهم أنه يتأتى له ما لا يتهيأ لعفاريت الجن فضلا عن غيرهم. وتخصيص الخطاب بالعفريت لأنه الذي تصدى لدعوى القدرة على الإتيان به من بينهم، وجعله لكل أحد كما في قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا [النساء: ٣] غير ظاهر بالنسبة إلى ما ذكر.
وآثر هذا القول الإمام وقال إنه أقرب لوجوه. الأول أن الموصول موضوع في اللغة لشخص معين بمضمون الصلة المعلومة عند المخاطب والشخص المعلوم بأن عنده علم الكتاب هو سليمان وقد تقدم في هذه السورة ما يستأنس به لذلك فوجب إرادته وصرف اللفظ إليه وآصف وإن شاركه في مضمون الصلة لكن هو فيه أتم لأنه نبي وهو أعلم بالكتاب من أمته، الثاني إن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لأحد من أمته دونه لاقتضى تفضيل ذلك عليه السلام وأنه غير جائز، الثالث أنه لو افتقر في إحضاره إلى أحد من أمته لاقتضى قصور حاله في أعين الناس.
الرابع أن ظاهر قوله عليه السلام فيما بعد هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي إلخ يقتضي أن ذلك الخارق قد أظهره الله تعالى بدعائه عليه السلام اهـ. وللمناقشة فيه مجال. واعترض على هذا القول بعضهم بأن الخطاب في آتِيكَ يأباه فإن حق الكلام عليه أن يقال: أنا آتي به قبل أن يرتد إلى الشخص طرفه مثلا، وقد علمت دفعه. وبأن المناسب أن يقال فيما بعد- فلما أتى به- دون فَلَمَّا رَآهُ إلخ. وأجيب عن هذا بأن قوله ذاك للإشارة إلى أنه لا حول ولا قوة له فيه، ولعل الأظهر أن القائل أحد أتباعه، ولا يلزم من ذلك أنه عليه السلام لم يكن قادرا على الإتيان به كذلك فإن عادة الملوك تكليف أتباعهم بمصالح لهم لا يعجزهم فعلها بأنفسهم فليكن ما نحن فيه جاريا على هذه العادة، ولا يضر في ذلك كون الغرض مما يتم بالقول وهو الدعاء ولا يحتاج إلى أعمال البدن وأتعابه كما لا يخفى.
وفي فصوص الحكم كان ذلك على يد بعض أصحاب سليمان عليه السلام ليكون أعظم لسليمان في نفوس الحاضرين، وقال القيصري: كان سليمان قطب وقته ومتصرفا وخليفة على العالم وكان آصف وزيره وكان كاملا
198
وخوارق العادات قلما تصدر من الأقطاب والخلفاء بل من ورّاثهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلي فلا يتصرفون لأنفسهم في شيء، ومن منن الله تعالى عليهم أن يرزقهم صحبة العلماء الأمناء يحملون منهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم اهـ، وما في الفصوص أقرب لمشرب أمثالنا على أن ما ذكر لا يخلو عن بحث على مشرب القوم أيضا.
وفي مجمع البيان روى العياشي بإسناده قال: التقى موسى بن محمد بن علي بن موسى ويحيى بن أكثم فسأله عن مسائل منها: هل كان سليمان محتاجا إلى علم آصف؟ فلم يجب حتى سأل أخاه علي بن محمد فقال: اكتب له لم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف لكنه عليه السلام أحب أن يعرف أمته من الجن والإنس أنه الحجة من بعده، وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله تعالى ذلك لئلا يختلف في إمامته كما فهم سليمان في حياة داود لتعرف إمامته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق
اهـ وهو كما ترى. والمراد بالكتاب الجنس المنتظم لجميع الكتب المنزلة وقيل: اللوح المحفوظ، وكون المراد به ذلك على جميع الأقوال السابقة في الموصول بعيد جدا، وقيل: المراد به الذي أرسل إلى بلقيس، ومن ابتدائية وتنكير عِلْمٌ للتفخيم والرمز إلى أنه علم غير معهود، قيل: كان ذلك العلم باسم الله تعالى الأعظم الذي إذا سئل به أجاب، وقد دعا ذلك العالم به فحصل غرضه، وهو يا حي يا قيوم، وقيل يا ذا الجلال والإكرام، وقيل الله الرحمن وقيل: هو بالعبرانية آهيا شراهيا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الزهري أنه دعا بقوله: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها
، والطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر إلى شيء ثم تجوز به عن النظر وارتداده انقطاعه بانضمام الأجفان ولكونه أمرا طبيعيا غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد، فالمعنى آتيك به قبل أن ينضم جفن عينك بعد فتحه، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار التجوز في الطرف إذ المراد قبل ارتداد تحريك الأجفان بطبقها بعد فتحها وفيه نظر، والكلام جار على حقيقته وليس من باب التمثيل للسرعة،
فقد روي أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد طرفه فنظر نحو اليمن فقبل أن يرتد إليه حضر العرش عنده.
وقيل: هو من باب التمثيل فيحتمل أن يكون قد أتى به في مدة طلوع درجة أو درجتين أو نحو ذلك.
وعن ابن جبير وقتادة أن الطرف بمعنى المطروف أي من يقع إليه النظر، وأن المعنى قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى إذا نظرت أمامك وهو كما ترى فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أي فلما رأى سليمان عليه السلام العرش ساكنا عنده قارّا على حاله التي كان عليها قالَ تلقيا للنعمة بالشكر جريا على سنن إخوانه الأنبياء عليهم السلام وخلص عباد الله عز وجل هذا أي الإتيان بالعرش أو حضوره بين يدي في هذه المدة القصيرة، وقيل: أي التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات مِنْ فَضْلِ رَبِّي أي تفضله جل شأنه على من غير استحقاق ذاتي لي له ولا عمل مني يوجبه عليه سبحانه وتعالى، وفي الكلام حذف أي فأتاه به فرآه فلما رآه إلخ وحذف ما حذف للدلالة على كمال ظهوره واستغنائه عن الإخبار به وللإيذان بكمال سرعة الإتيان به كأنه لم يقع بين الوعد به ورؤيته عليه السلام إياه شيء ما أصلا، وفي تقييد رؤيته باستقراره عنده تأكيد لهذا المعنى لإيهامه أنه لم يتوسط بينهما ابتداء الإتيان أيضا كأنه لم يزل موجودا عنده. فمستقرا منتصب على الحال وعِنْدَهُ متعلق به. وهو على ما أشرنا إليه كون خاص ولذا ساغ ذكره. وظن بعضهم أنه كون عام فأشكل عليهم ذكره مع قول جمهور النحاة: إن متعلق الظرف إذا كان كونا عاما وجب حذفه فالتزم بعضهم لذلك كون الظرف متعلقا برآه لا به. ومنهم من ذهب كابن مالك إلى أن حذف ذلك أغلبي وأنه قد يظهر كما في هذه الآية. وقوله:
199
لك العز إن مولاك عز وإن يهن فأنت لدي بحبوحة الهون كائن
وأنت تعلم أنه يمكن اعتبار ما في البيت كونا خاصا كالذي في الآية. وفي كيفية وصول العرش إليه عليه السلام حتى رآه مستقرا عنده خلاف. فأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عباس أنه قال لم يجر عرش صاحبة سبأ بين السماء والأرض ولكن انشقت به الأرض فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان وإلى هذا ذهب مجاهد وابن سابط وغيرهما وقيل نزل بين يدي سليمان عليه السلام من السماء وكان عليه السلام إذ ذاك في أرض الشام على ما قيل رجع إليها من صنعاء وبينها وبين مأرب محل العرش نحو من مسافة شهرين. وعلى القول بأنه كان في صنعاء فالمسافة بين محله ومحل العرش نحو ثلاثة أيام، وأيا ما كان فقطعه المسافة الطويلة في الزمن القصير أمر ممكن وقد أخبر بوقوعه الصادق فيجب قبوله، وقد اتفق البر والفاجر على وقوع ما هو أعظم من ذلك وهو قطع الشمس في طرفة عين آلافا من الفراسخ مع أن نسبة عرش بلقيس إلى جرمها نسبة الذرة إلى الجبل، وقال الشيخ الأكبر قدس سره إن آصف تصرف في عين العرش فأعدمه في موضعه وأوجده عند سليمان من حيث لا يشعر أحد بذلك إلا من عرف الخلق الجديد الحاصل في كل آن وكان زمان وجوده عين زمان عدمه وكل منهما في آن وكان عين قول آصف عين الفعل في الزمان فإن القول من الكامل بمنزلة كن من الله تعالى.
ومسألة حصول العرش من أشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه من الإيجاد والإعدام فما قطع العرش مسافة ولا زويت له أرض ولا خرقها اه ملخصا. وله تتمة ستأتي إن شاء الله تعالى، وما ذكره من أنه كان بالإعدام والإيجاد مما يجوز عندي وإن لم أقل بتجدد الجواهر تجدد الأعراض عند الأشعري إلا أنه خلاف ظاهر الآية. واستدل بها على ثبوت الكرامات.
وأنت تعلم أن الاحتمال يسقط الاستدلال. وعلل عليه السلام تفضله تعالى بذلك عليه بقوله: لِيَبْلُوَنِي أي ليعاملني معاملة المبتلى أي المختبر أَشْكُرُ على ذلك بأن أراه محض فضله تعالى من غير حول من جهتي ولا قوة وأقوم بحقه أَمْ أَكْفُرُ بأن أجد لنفسي مدخلا في البين أو أقصر في إقامة مواجبه كما هو شأن سائر النعم الفائضة على العباد، وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن جريج أن المعنى ليبلوني أأشكر إذا أتيت بالعرش أم أكفر إذا رأيت من هو أدنى مني في الدنيا أعلم مني، ونقل مثله في البحر عن ابن عباس والظاهر عدم صحته، وأبعد منه عن الصحة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال لما رآه مستقرا عنده جزع وقال: رجل غيري أقدر على ما عند الله عز وجل مني، ولعل الحق الجزم بكذب ذلك، وجملة أَأَشْكُرُ إلخ في موضع نصب على أنها مفعول ثان لفعل البلوى وهو معلق بالهمزة عنها إجراء له مجرى العلم وإن لم يكن مرادفا له.
وقيل: محله النصب على البدل من الياء وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي لنفعها لأنه يربط به القيد ويستجلب المزيد ويحط به عن ذمته عبء الواجب ويتخلص عن وصمة الكفران وَمَنْ كَفَرَ أي لم يشكر فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكره كَرِيمٌ بترك تعجيل العقوبة والأنعام مع عدم الشكر أيضا، والظاهر أن من شرطية والجملة المقرونة بالفاء جواب الشرط، وجوز أن يكون الجواب محذوفا دل عليه ما قبله من قسيمه والمذكور قائم مقامه أي ومن كفر فعلى نفسه أي فضرر كفرانه عليها. وتعقب بأنه لا يناسب قوله: كَرِيمٌ وجوز أيضا أن تكون من موصولة ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط قالَ أي سليمان عليه السلام كررت الحكاية مع كون المحكي سابقا ولاحقا من كلامه عليه السلام تنبيها على ما بين السابق واللاحق من المخالفة لما أن الأول من باب الشكر لله عز وجل والثاني أمر لخدمه نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي اجعلوه بحيث لا يعرف ولا يكون ذلك إلا بتغييره عما كان
200
عليه من الهيئة والشكل، ولعل المراد التغيير في الجملة. روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك إنه كان بالزيادة فيه والنقص منه، وقيل: بنزع ما عليه من الجواهر، وقيل: بجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره، ولام لَها للبيان كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: ٢٣] فيدل على أنها المرادة خاصة بالتنكير نَنْظُرْ بالجزم على أنه جواب الأمر.
وقرأ أبو حيوة بالرفع على الاستئناف أَتَهْتَدِي إلى معرفته أو إلى الجواب اللائق بالمقام. وقيل: إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله عليه السلام إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليه الحراس والحجاب وحكاه الطبرسي عن الجبائي، وفيه أنه لا يظهر مدخلية التنكير في الإيمان أَمْ تَكُونُ أي بالنسبة إلى علمنا مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أي إلى ما ذكر من معرفة عرشها أو الجواب اللائق بالمقام فإن كونها في نفس الأمر منهم وإن كان أمرا مستمرا لكن كونها منهم عند سليمان عليه السلام وقومه أمر حادث يظهر بالاختبار فَلَمَّا جاءَتْ شروع في حكاية التجربة التي قصدها سليمان عليه السلام أي فلما جاءت بلقيس سليمان وقد كان العرش منكرا بين يديه قِيلَ أي من جهة سليمان بالذات أو بالواسطة أَهكَذا عَرْشُكِ أي أمثل هذا العرش الذي ترينه عرشك الذي تركتيه ببلادك، ولم يقل: أهذا عرشك لئلا يكون تلقينا لها فيفوت ما هو المقصود من الأمر بالتنكير من إبراز العرش في معرض الإشكال والاشتباه حتى يتبين لديه عليه السلام حالها وقد ذكرت عنده عليه السلام بسخافة العقل.
وفي بعض الآثار أن الجن خافوا من أن يتزوجها فيرزق منها ولدا يحوز فطنة الإنس وخفة الجن حيث كانت لها نسبة إليهم فيضبطهم ضبطا قويا فرموها عنده بالجنون وأن رجليها كحوافر البهائم فلذا اختبرها بهذا وبما يكون سببا للكشف عن ساقيها، ومن لم يقل بنسبتها إلى الجن: يقول لعلها رماها حاسد بذلك فأراد عليه السلام اختبارها ليقف على حقيقة الحال، ومنهم من يقول: ليس ذاك إلا ليقابلها بمثل ما فعلت هي حيث نكرت الغلمان والجواري وامتحنته عليه السلام بالدرة العذراء والجزعة المعوجة الثقب وكون ذلك في عرشها الذي يبعد كل البعد إحضاره مع بعد المسافة وشدة محافظتها له أتم وأقوى ويتضمن أيضا من إظهار المعجزة ما لا يخفى، وهذا عندي ألصق بالقلب من غيره قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ أجابت بما أنبأ عن كمال عقلها حيث لم تجزم بأنه هو لاحتمال أن يكون مثله بل أتت بكأن الدالة كما قيل على غلبة الظن في اتحاده معه مع الشك في خلافه وليست كأن هنا للدلالة على التشبيه كما هو الغالب فيها.
وذكر ابن المنير في الانتصاف ما يدل على أنها تفيد قوة الشبه فقال: الحكمة في عدول بلقيس في الجواب عن هكذا هو المطابق للسؤال إلى كَأَنَّهُ هُوَ إن كَأَنَّهُ هُوَ عبارة من قوي عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين وكاد يقول هو هو وتلك حال بلقيس، وأما هكذا هو فعبارة جازم بتغاير الأمرين حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير فلا تطابق حالها فلذا عدلت عنها إلى ما في النظم الجليل.
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ من تتمة كلامها على ما اختاره جمع من المفسرين كأنها استشعرت مما شاهدته اختبار عقلها وإظهار معجزة لها ولما كان الظاهر من السؤال هو الأول سارعت إلى الجواب بما أنبأ عن كمال رجاحة عقلها، ولما كان إظهار المعجزة دون ذلك في الظهور ذكرت ما يتعلق به آخرا وهو قولها:
وَأُوتِينَا إلخ وفيه دلالة على كمال عقلها أيضا، ومعناه وأوتينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة بما شاهدناه من أمر الهدهد وما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك وكنا مؤمنين من ذلك الوقت فلا حاجة إلى إظهار هذه المعجزة، ولك أن تجعله من تتمة ما يتعلق بالاختبار وحاصلة لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل وهذا كاف في الدلالة على كمال عقلي.
201
وجوز أن يكون لبيان منشأ غلبة الظن بأنه عرشها والداعي إلى حسن الأدب في محاورته عليه السلام أي وأوتينا العلم بإتيانك بالعرش من قبل الرؤية أو من قبل هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار وكنا من ذلك الوقت مؤمنين، والتعبير بنون العظمة جار على سنن تعبيرات الملوك وفيه تعظيم لأمر إسلامها وليس ذاك لإرادة نفسها ومن معها من قومها إذ يبعده قوله تعالى: وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهو بيان من جهته عز وجل لما كان يمنعها من إظهار ما ادعت من الإسلام إلى الآن أي صدها عن إظهار ذلك يوم أوتيت العلم الذي يقتضيه عبادتها القديمة للشمس، فما مصدرية والمصدر فاعل صد، وجوز كونها موصولة واقعة على الشمس وهي فاعل أيضا والإسناد مجازي على الوجهين.
وقوله تعالى: إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ تعليل لسببية عبادتها المذكورة للصد أي إنها كانت من قوم راسخين في الكفر فلذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بين ظهرانيهم إلى أن حضرت بين يدي سليمان عليه السلام. وقرأ سعيد بن جبير وابن أبي عبلة «أنها» بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل أي لأنها أو جعل المصدر بدلا من فاعل صد بدل اشتمال. وقيل: قوله تعالى: وَأُوتِينَا إلخ من كلام قوم سليمان عليه السلام كأنهم لما سمعوها أجابت السؤال بقولها: كَأَنَّهُ هُوَ قالوا. قد أصابت في جوابها فطبقت المفصل وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله عز وجل وصحة النبوة بالآيات التي تقدمت وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها وعطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا العلم بالله تعالى وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده سبحانه قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام، وكان هذا منهم شكرا لله تعالى على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله تعالى والإسلام قبلها، ويومىء إلى هذا المطوي جعل علمهم وإسلامهم قبلها، وقوله تعالى: وَصَدَّها إلخ على هذا يحتمل أن يكون من تتمة كلام القوم.
ويحتمل أن يكون ابتداء أخبار من جهته عز وجل. وعن مجاهد وزهير بن محمد أن وَأُوتِينَا من كلام سليمان عليه السلام، وفي وَصَدَّها إلخ عليه أيضا احتمال، ولا يخفي ما في جعل وَأُوتِينَا إلخ من كلام القوم أو من كلام سليمان عليه السلام من البعد والتكلف وليس في ذلك جهة حسن سوى اتساق الضمائر المؤنثة.
وقيل: إن وَأُوتِينَا إلخ من تتمة كلامها. وقوله تعالى: وَصَدَّها إلخ ابتداء أخبار من جهته تعالى لبيان حسن حالها وسلامة إسلامها عن شوب الشرك بجعل فاعل صدها ضميره عز وجل أو ضمير سليمان عليه السلام.
وما مصدرية أو موصولة قبلها حرف جر مقدر أي صدها الله تعالى أو سليمان عن عبادتها من دون الله أو عن الذي تعبده من دونه تعالى. ونقل ذلك أبو حيان عن الطبري وتعقبه بقوله: وهو ضعيف لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله:
تمرون الديار ولم تعوجوا وليس من مواضع حذف حرف الجر.
وأنت تعلم أن المعنى مع هذا مما لا ينشرح له الصدر، وأبعد بعضهم كل البعد فزعم أن قوله تعالى:
وَصَدَّها إلخ متصل بقوله سبحانه: أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ والواو فيه للحال وقد مضمرة وفي البحر أنه قول مرغوب عنه لطول الفصل بينها ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة. ولعمري من أنصف رأى أن ما ذكر مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى المجيد، وأنا أقول بعد القيل والقال: إن وجه ربط هذه الجمل مما يحتاج إلى تدقيق النظر فليتأمل والله تعالى الموفق.
لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
استئناف بياني كأنه قيل فماذا قيل لها بعد الامتحان المذكور؟ فقيل: يلَ لَهَا
202
ادْخُلِي
إلخ ولم يعطف على قوله تعالى: أَهكَذا عَرْشُكِ لئلا يفوت هذا المعنى. وجيء بلها هنا دون ما مر لمكان أمرها، وصَّرْحَ
القصر وكل بناء عال. ومنه ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر: ٣٦] وهو من التصريح وهو الإعلان البالغ، وقال مجاهدصَّرْحَ
هنا البركة وقال ابن عيسى الصحن وصرحة الدار ساحتها وروي أن سليمان عليه السلام أمر الجن قبل قدومها فبنوا له على طريقها قصرا من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره. وفي رواية أنهم بنوا له صرحا وجعلوا له طوابيق من قوارير كأنها الماء وجعلوا في باطن الطوابيق كل ما يكون من الدواب في البحر ثم أطبقوه، وهذا أوفق بظاهر الآية- ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس وفعل ذلك امتحانا لها أيضا على ما قيل، وقيل: ليزيدها استعظاما لأمره وتحقيقا لنبوته وثباتا على الدين، وقيل لأن الجن قالوا له عليه السلام إنها شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فأراد الكشف عن حقيقة الحال بذلك، وقال الشيخ الأكبر قدس سره ما حاصله إنه أراد أن ينبهها بالفعل على أنها صدقت في قولها في العرش «كأنه هو» حيث إنه انعدم في سبأ ووجد مثله بين يديه فجعل لها صرحا في غاية اللطف والصفاء كأنه ماء صاف وليس به، وهذا غاية الإنصاف منه عليه السلام ولا أظن الأمر كما قال والله تعالى أعلم. واستدل بالآية على القول بأن أمرها بدخول الصرح ليتوصل به إلى كشف حقيقة الحال على إباحة النظر قبل الخطبة وفيه تفصيل مذكور في كتب الفقه.
َمَّا رَأَتْهُ
أي رأت صحنه بناء على أن الصرح بمعنى القصرسِبَتْهُ لُجَّةً
أي ظنته ماء كثيرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لئلا تبتل أذيالها كما هو عادة من يريد الخوض في الماء، وقرأ ابن كثير برواية قنبل «سأقيها» بهمز ألف ساق حملا له على جمعه سؤق وأسؤق فإنه يطرد في الواو المضمومة هي أو ما قبلها قلبها همزة فانجر ذلك بالتبعية إلى المفرد الذي في ضمنه.
وفي البحر حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد:
أحب المؤقدين إلى مؤسى وفي الكشف الظاهر أن الهمز لغة في ساق ويشهد له هذه القراءة الثابتة في السبعة. وتعقب بأنه يأباه الاشتقاق.
وأيا ما كان فقول من قال: إن هذه القراءة لا تصح لا يصح الَ
أي سليمان عليه السلام حين رأى ما اعتراها من الدهشة والرعب، وقيل: القائل هو الذي أمرها بدخول الصرح وهو خلاف الظاهرنَّهُ
أي ما حسبته لجةرْحٌ مُمَرَّدٌ
أي مملس ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر في وجهه وشجرة مرداء لا ورق عليها ورملة مرداء لا تنبت شيئا والمراد المتعري من الخيرنْ قَوارِيرَ
من الزجاج وهو جمع قارورة.
لَتْ
حين عاينت هذا الأمر العظيم بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
أي بما كنت عليه من عبادة الشمس، وقيل: بظني السوء بسليمان عليه السلام حيث ظنت أنه يريد إغراقها في اللجة وهو بعيد. ومثله ما قيل أرادت ظلمت نفسي بامتحاني سليمان حتى امتحنني لذلك بما أوجب كشف ساقي بمرأى منه أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
تابعة له مقيدة به، وما في قوله تعالى: لَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
من الالتفات إلى الاسم الجليل لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى وتفرده باستحقاق العبادة وربوبيته لجميع الموجودات التي من جملتها ما كانت تعبده قبل ذلك من الشمس، وكأن هذا القول تجديد لإسلامها على أتم وجه وقد أخرجته مخرجا لا أنانية فيه ولا كبر أصلا كما لا يخفى. واختلف في أمرها بعد الإسلام فقيل إنه عليه السلام تزوجها وأحبها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له.
203
وأخرج ابن عساكر عن سلمة بن عبد الله بن ربعي أنه عليه السلام أمهرها بعلبك،
وذكر غير واحد أنها حين كشفت عن ساقيها أبصر عليهما شعرا كثيرا فكره أن يتزوجها كذلك فدعا الإنس فقال: ما يذهب بهذا؟ فقالوا: يا رسول الله المواسي فقال: المواسي تقطع ساقي المرأة
وفي رواية أنه قيل لها ذلك فقالت لم يمسسني الحديد قط فكره سليمان المواسي وقال: إنها تقطع ساقيها ثم دعا الجن فقالوا مثل ذلك ثم دعا الشياطين فوضعوا له النورة
، قال ابن عباس وكان ذلك اليوم أول يوم رؤيت فيه النورة، وعن عكرمة أن أول من وضع النورة شياطين الإنس وضعوها لبلقيس وهو خلاف المشهور، ويروى أن الحمام وضع يومئذ.
وفي تاريخ البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم أول من صنعت له الحمامات سليمان»
وأخرج الطبراني. وابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أول من دخل الحمام سليمان فلما وجد حره قال أوه من عذاب الله تعالى»
وروي عن وهب أنه قال: زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان: اختاري رجلا من قومك أزوجكه فقالت: أمثلي يا نبي الله تنكح الرجال وقد كان في قومي من الملك والسلطان ما كان؟ قال: نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك وما ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله تعالى لك فقالت: زوجني إن كان لا بد من ذلك ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال: اعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم يزل بها ملكا يعمل له فيها حتى مات سليمان فلما أن حال الحول وتبين الجن موته عليه السلام أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان عليه السلام.
وقال عون بن عبد الله: سأل رجل عبد الله بن عتبة هل تزوج سليمان بلقيس فقال انتهى أمرها إلى قولها: سْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
قيل:
يعني لا علم لنا وراء ذلك.
والمشهور أنه عليه السلام تزوجها وإليه ذهب جماعة من أهل الأخبار وأخرج البيهقي في الزهد عن الأوزاعي قال: كسر برج من أبراج تدمر فأصابوا فيه امرأة حسناء دعجاء مدمجة كأن أعطافها طي الطوامير عليها عمامة طولها ثمانون ذراعا مكتوب على طرف العمامة بالذهب «بسم الله الرحمن الرحيم أنا بلقيس ملكة سبأ زوجة سليمان بن داود عليهما السلام ملكت من الدنيا كافرة ومؤمنة ما لم يملكه أحد قبلي ولا يملكه أحد بعدي صار مصيري إلى الموت فاقصروا يا طالبي الدنيا» والله تعالى أعلم بصحة الخبر، وكم في هذه القصة من أخبار الله تعالى أعلم بالصحيح منها، والقصة في نفسها عجيبة وقد اشتملت على أشياء خارقة للعادة بل يكاد العقل يحيلها في أول وهلة، ومما يستغرب ولله تعالى فيه سر خفي خفاء أمر بلقيس على سليمان عدة سنين كما قاله غير واحد مع أن المسافة بينه وبينها لم تكن في غاية البعد وقد سخر الله تعالى له من الجن والشياطين والطير والريح ما سخر وهذا أغرب من خفاء أمر يوسف على يعقوب عليهما السلام بمراتب، وسبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات وفي الأرض، وهذا وللصوفية في تطبيق ما في هذه القصة على ما في الأنفس كلام طويل، ولعل الأمر سهل على من له أدنى ذوق بعد الوقوف على بعض ما مر من تطبيقاتهم ما في بعض القصص على ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا عطف على قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً مسوق لما سيق هو له، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وبالله لقد أرسلنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً وإنما أقسم على ذلك اعتناء بشأن الحكم، وصالِحاً بدل من أَخاهُمْ أو عطف بياني، وأن في قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مفسرة لما في الإرسال من معنى القول دون حروفه.
204
وجوز كونها مصدرية حذف منها حرف الجر أي بأن، وقيل لأن ووصلها بالأمر جائز لا ضير فيه كما مر.
وقرىء بضم النون اتباعا لها للباء فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي فاجأ إرسالنا تفرقهم واختصامهم فآمن فريق وكفر فريق وكان ما حكى الله تعالى في محل آخر بقوله سبحانه: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف: ٧٥] الآية. فإذا فجائية والعامل فيها مقدر لا يَخْتَصِمُونَ خلافا لأبي البقاء لأنه صفة فَرِيقانِ كما قال ومعمول الصفة لا يتقدم على الموصوف، وقيل: هذا حيث لا يكون المعمول ظرفا، وضمير يَخْتَصِمُونَ لمجموع الفريقين ولم يقل يختصمان للفاصلة، ويوهم كلام بعضهم أن الجملة خبر ثان وهو كما ترى، وهُمْ راجع إلى ثمود لأنه اسم للقبيلة، وقيل: إلى هؤلاء المذكورين ليشمل صالحا عليه السلام والفريقان حينئذ أحدهما صالح وحده وثانيهما قومه.
والحامل على هذا كما ذكره ابن عادل العطف بالفاء فإنها تؤذن أنهم عقيب الإرسال بلا مهلة صاروا فريقين ولا يصير قومه عليه السلام فريقين إلا بعد زمان. وفيه أنه يأباه قوله تعالى: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ وتعقيب كل شيء بحسبه على أنه يجوز كون الفاء لمجرد الترتيب. ولعل فريق الكفرة أكثر ولذا ناداهم بقوله يا قوم كما حكي عنه في قوله تعالى: قالَ يا قَوْمِ لجعله في حكم الكل أي قال عليه السلام للفريق الكافر منهم بعد ما شاهد منهم ما شاهد من نهاية العتو والعناد حتى بلغوا من المكابرة إلى أن قالوا له عليه السلام يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين متلطفا بهم يا قوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ أي بالعقوبة التي تسوءكم قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي التوبة فتؤخرونها إلى حين نزولها حيث كانوا من جهلهم وغوايتهم يقولون إن وقع إبعاده تبنا حينئذ وإلا فنحن على ما نحن عليه لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ أي هلا تستغفرونه تعالى قبل نزولها لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبولها إذ سنة الله تعالى عدم القبول عند النزول. وقد خاطبهم عليه السلام على حسب تخمينهم وجهلهم في ذلك بأن ما خمنوه من التوبة إذ ذاك فاسدة وأن استعجالهم ذلك خارج من المعقول. والتقابل بين السيئة والحسنة بالمعنى الذي سمعت حاصل من كون أحدهما حسنا والآخر سيئا، وقيل: المراد بالسيئة تكذيبهم إياه عليه السلام وكفرهم به وبالحسنة تصديقهم وإيمانهم، والمراد من قوله: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ إلخ لومهم على المسارعة إلى تكذيبهم إياه وكفرهم به وحضهم على التوبة من ذلك بترك التكذيب والإيمان. وحاصله لومهم على إيقاع التكذيب عند الدعوة دون التصديق وحضهم على تلافي ذلك.
وإيهام الكلام انتفاء اللوم على إيقاع التكذيب بعد التصديق مما لا يكاد يلتفت إليه. ولا يخفى بعد طي الكشح عن المناقشة فيما ذكر أن المناسب لما حكى الله تعالى عن القوم في سورة الأعراف ولما جاء في الآثار هو المعنى الأول.
ومن هنا ضعف ما روي عن مجاهد من تفسير الحسنة برحمة الله تعالى لتقابل السيئة المفسرة بعقوبته عز وجل ويكون المراد من استعجالهم بالعقوبة قبل الرحمة طلبهم إياها دون الرحمة فتأمل قالُوا اطَّيَّرْنا أصله تطيرنا وقرىء به فأدغمت التاء في الطاء وزيدت همزة الوصل ليتأتى الابتداء، والتطير التشاؤم عبر عنه بذلك لما أنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين فيمرون بطائر يزجرونه فإن مر سانحا بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسرة تيمنوا وإن مر بارحا بأن مر من المياسر إل الميامن تشاءموا لأنه لا يمكن للمار به كذلك أن يرميه حتى ينحرف فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببا لهما من قدر الله تعالى وقسمته عز وجل أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنعمة أي تشاءمنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد- وقد كانوا قحطوا- ولم نزل في اختلاف وافتراق مذ اخترعتم دينكم، وتشاؤمهم يحتمل أن يكون من المجموع وأن يكون من كل من المتعاطفين.
قالَ طائِرُكُمْ أي سببكم الذي منه ينالكم ما ينالكم من الشر عِنْدَ اللَّهِ وهو قدره سبحانه أو عملكم
205
المكتوب عنده عز وجل بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ إضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه أي بل أنتم قوم تختبرون بتعاقب السراء والضراء أو تعذبون أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة، وجاء تُفْتَنُونَ بتاء الخطاب على مراعاة أَنْتُمْ وهو الكثير في لسان العرب، ويجوز في مثل هذا التركيب «يفتنون» بياء الغيبة على مراعاة لفظ قَوْمٌ وهو قليل في لسانهم وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ أي مدينة ثمود وقريتهم وهي الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ هو اسم جمع يطلق على العصابة دون العشرة كما قال الراغب وفي الكشاف هو من الثلاثة أو من السبعة إلى العشرة، وقيل: بل يقال إلى الأربعين وليس بمقبول، وأصله على ما نقل عن الكرماني من الترهيط وهو تعظيم اللقم وشدة الأكل، وقد أضيف العدد إليه. وقد اختلف في جواز إضافته إلى اسم الجمع فذهب الأخفش إلى أنه لا ينقاس وما ورد من الإضافة إليه فهو على سبيل الندور، وقد صرح سيبويه أنه لا يقال ثلاث غنم.
وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك وينقاس وهو مع ذلك قليل، وفصل قوم بين أن يكون اسم الجميع للقليل كرهط ونفر وذود فيجوز أن يضاف إليه إجراء له مجرى جمع القلة أو للكثير أو يستعمل لهما فلا يجوز إضافته إليه بل إذا أريد تمييزه به جيء به مقرونا بمن كخمسة من القوم، وقال تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة: ٢٦٠] وهو قول المازني. واختار غير واحد أن إضافة تسعة إلى رهط هاهنا باعتبار أن رهطا لكونه اسم جمع للقليل في حكم أشخاص ونحوه من جموع القلة وهي يضاف إليها العدد كتسعة أشخاص وتسع أنفس وهذا معنى قولهم: إن وقوع رهط تمييزا لتسعة باعتبار المعنى فكأنه قيل تسعة أشخاص، وقيل: أي تسعة أنفس، وتأنيث العدد لأنه المذكور في النظم الكريم رَهْطٍ وهو مذكر فليس ذاك من غير الفصيح كقوله ثلاثة أنفس وثلاث ذود، نعم تقدير ما تقدم أسلم من المناقشة، وأما ما قيل أي تسعة رجال ففيه الغفلة عما أشرنا إليه، ثم إنه ليس المراد أن الرهط بمعنى الشخص أو بمعنى النفس بل إن التسعة من الأشخاص أو من الأنفس هي الرهط فليس المعدود بالتسعة ما دل عليه الرهط من الجماعة ليكون هناك تسع جماعات لا تسعة أفراد.
وقال الإمام: الأقرب أن يكون المراد تسعة جمع إذ الظاهر من الرهط الجماعة، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد لاختلاف صفاتهم وأحوالهم لا لاختلاف النسب اهـ، وقيل: كان هؤلاء التسعة رؤساء مع كل واحد منهم رهط، ولذا قيل تسعة رهط وأسماؤهم عن وهب الهذيل بن عبد رب وغنم بن غنم ودباب ابن مهرج وعمير بن كردية وعاصم بن مخزمة وسبيط بن صدقة وسمعان بن صفي وقدار بن سالف وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح ومن أبناء أشرافهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أسماءهم دعمي ودعيم وهرمي وهريم ودواب وصواب ودياب ومسطح وقدار وهو الذي عقر الناقة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ لا في المدينة فقط إفسادا بحتا لا يخالطه شيء من الصلاح كما ينطق به قوله تعالى: وَلا يُصْلِحُونَ أي لا يفعلون شيئا من الإصلاح أو لا يصلحون شيئا من الأشياء، والمراد أن عادتهم المستمرة ذلك الإفساد كما يؤذن به المضارع، والجملة في موضع الصفة لرهط أو لتسعة.
قالُوا استئناف ببيان بعض ما فعلوا من الفساد أي قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه السلام. وكان ذلك على ما روي عن ابن عباس بعد أن عقروا الناقة أنذرهم بالعذاب، وقوله: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود: ٦٥] إلخ تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أمر من التقاسم أي التحالف وقع مقول القول وهو قول الجمهور.
وجوز أن يكون فعلا ماضيا بدلا من قالُوا أو حالا من فاعله بتقدير قد أو بدونها أي قالوا متقاسمين ومقول
206
القول لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ إلخ، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون بالله من جملة المقول. والبيات مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا وهو غافل، وأرادوا قتله عليه السلام وأهله ليلا وهم غافلون، وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال:
ليس من آيين الملوك استراق الظفر.
وقرأ ابن أبي ليلى «تقسموا» بغير ألف وتشديد السين، والمعنى كما في قراءة الجمهور وقرأ الحسن وحمزة والكسائي «لتبيتنه» بالتاء على خطاب بعضهم لبعض. وقرأ مجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش «ليبيتنه» بياء الغيبة. وتَقاسَمُوا على هذه القراءة لا يصح إلا أن يكون خبرا بخلافه عن القراءتين الأوليين فإنه يصح أن يكون خبرا كما يصح أن يكون أمرا. وذلك لأن الأمر خطاب والمقسم عليه بعده لو نظر إلى الخطاب وجب تاء الخطاب ولو نظر إلى صيغة قولهم عند الحلف وجب النون فأما ياء الغائب فلا وجه له. وإما إذا جعل خبرا فهو على الغائب كما تقول حلف ليفعلن ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي لولي صالح والمراد به طالب ثأره من ذوي قرابته إذا قتل. وقرأ «لتقولن» بالتاء من قرأ «لتبيتنه» كذلك. وقرأ «ليقولن» بياء الغيبة من قرأ بها فيما تقدم، وقرأ حميد بن قيس الأول بياء الغيبة وهذا بالنون، قيل:
والمعنى على ذلك قالوا متقاسمين بالله ليبيتنه قوم منا ثم لنقولن جميعنا لوليه ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي ما حضرنا هلاكهم على أن مَهْلِكَ مصدر كمرجع أو مكان هلاكهم على أنه للمكان أو زمان هلاكهم على أنه للزمان.
والمراد نفي شهود الهلاك الواقع فيه، واختاروا نفي شهود مهلك أهله على نفي قتلهم إياهم قصدا للمبالغة كأنهم قالوا ما شهدنا ذلك فضلا عن أن نتولى إهلاكهم. ويعلم من ذلك نفي قتلهم صالحا عليه السلام أيضا لأن من لم يقتل اتباعه كيف يقتله، وقيل في الكلام حذف أي ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه، واستظهره أبو حيان ثم قال وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] أي والبرد، وقال الشاعر:
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل
أي بين الخير وبيني اه وفيه ما لا يخفى. وقيل: الضمير في أَهْلَهُ يعود على الولي. والمراد بأهل الولي صالح وأهله. واعترض بأنه لو أريد أهل الولي لقيل أهلك أو أهله. ومنع بأن ذلك غير لازم. فقد قرىء «قل للذين كفروا ستغلبون» بالخطاب والغيبة ووجه ذلك ظاهر. نعم رجوع الضمير إلى الولي خلاف الظاهر كما لا يخفى، وقرأ الجمهور «مهلك» بضم الميم وفتح اللام من أهلك وفيه الاحتمالات الثلاث. وقرأ أبو بكر «مهلك» بفتحهما على أنه مصدر وَإِنَّا لَصادِقُونَ عطف على ما شَهِدْنا كما ذهب إليه الزجاج، والمعنى ونحلف وإنا لصادقون، وجوز أن تكون الواو للحال أي والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا واستشكل ادعاؤهم الصدق في ذلك وهم عقلاء ينفرون عن الكذب ما أمكن. وأجيب بأن حضور الأمر غير مباشرته في العرف لأنه لا يقال لمن قتل رجلا أنه حضر قتله وإن كان الحضور لازما للمباشرة فحلفوا على المعنى العرفي على العادة في الإيمان وأوهموا الخصم أنهم أرادوا معناه اللغوي فهم صادقون غير حانثين، وكونهم من أهل التعارف أيضا لا يضر بل يفيد فائدة تامة، وقال الزمخشري. كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين، ثم قالوا ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما. وتعقب بأن من فعل أمرين وجحد أحدهما لم يكن في كذبه شبهة وإنما تتم الحيلة لو فعلوا أمرا واحدا وادعى عليهم فعل أمرين فجحدوا المجموع. ولذا لم يختلف العلماء في أن من حلف لا أضرب زيدا فضرب زيدا وعمرا كان حانثا بخلاف من حلف لا أضرب زيدا وعمرا ولا آكل رغيفين فأكل أحدهما فإنه محل خلاف للعلماء في الحنث وعدمه، والحق أن تبرئتهم من الكذب فيما ذكر غير لازمة حتى يتكلف لها وهم الذين كذبوا على الله تعالى ورسوله عليه السلام وارتكبوا ما هو أقبح من الكذب فيما ذكر، ومقصود الزمخشري تأييد
207
ما يزعمه وهو وقومه من قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل بموافقة قوم صالح عليها ولا يكاد يتم له ذلك وَمَكَرُوا مَكْراً بهذه المواضعة وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي أهلكناهم إهلاكا غير معهود أو جازينا مكرهم من حيث لا يحتسبون فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ شروع في بيان ما ترتب على ما باشروه من المكر، والظاهر أن كَيْفَ خبر مقدم لكان وعاقِبَةُ الاسم أي كان عاقبة مكرهم واقعة على وجه عجيب يعتبر به، والجملة في محل نصب على أنها مفعول انظر وهي معلقة لمكان الاستفهام، والمراد تفكر في ذلك.
وقوله تعالى: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ في تأويل مصدر وقع بدلا من «عاقبة مكرهم» أو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير العاقبة، والجملة مبينة لما في عاقبة مكرهم من الإبهام أي هو أوهى تدميرنا وإهلاكنا إياهم وَقَوْمَهُمْ الذين لم يكونوا منهم في مباشرة التبييت أَجْمَعِينَ بحيث لم يشذ منهم شاذ أو هو على تقدير الجار أي لتدميرنا إياهم أو بتدميرنا إياهم ويكون ذلك تعليلا لما ينبىء عنه الأمر بالنظر في كيفية عاقبة أمرهم من الهول والفظاعة. وجوز بعضهم كونه بدلا من كَيْفَ، وقال آخرون: لا يجوز ذلك لأن البدل عن الاستفهام يلزم فيه إعادة حرفه كقولك كيف زيد أصحيح أم مريض؟.
وجوز أن يكون هو الخبر لكان وتكون كَيْفَ حينئذ حالا والعامل فيها كان أو ما يدل عليه الكلام من معنى الفعل، ويجوز أن تكون كان تامة وكَيْفَ عليه حال لا غير والاحتمالات الجائزة في أَنَّا دَمَّرْناهُمْ لا تخفى.
وقرأ الأكثر إنا بكسر الهمزة فكيف خبر كان وعاقِبَةُ اسمها وجملة أَنَّا دَمَّرْناهُمْ استئناف لتفسير العاقبة، وجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف. قال الخفاجي: الظاهر أنه الشأن أو ضميره لا شيء آخر مما يحتاج للعائد ليعترض عليه بعدم العائد. ولا يرد عليه أن ضمير الشأن المرفوع منع كثير من النحويين حذفه فإنه غير مسلم، ويجوز أن تكون كانَ تامة وكَيْفَ حال كما تقدم ولم يجوز الجمهور كونها ناقصة والخبر جملة أَنَّا دَمَّرْناهُمْ لعدم الرابط، وقيل: يجوز ويكفي للربط وجود ما يرجع إلى متعلق المبتدأ إذ رجوعه إليه نفسه غير لازم وهو تكلف وإنما يتمشى على مذهب الأخفش القائل إذا قام بعض الجملة مقام مضاف إلى العائد اكتفى به، وغيره من النحاة يأباه، وجوز أبو حيان على كلتا القراءتين أن تكون كانَ زائدة وعاقِبَةُ مبتدأ وكَيْفَ خبر مقدم له.
وقرأ أبي «أن دمرناهم» بأن التي من شأنها أن تنصب المضارع ويجري في المصدر الاحتمالات السابقة فيه على قراءة «أنا» بفتح الهمزة. هذا وفي كيفية التدمير خلاف، فروى أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا بعد ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة من الهضب حيالهم فبادروا فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم وعذب الله تعالى كلا منهم في مكانه ونجى صالحا ومن معه، وقيل: جاؤوا بالليل شاهري سيوفهم، وقد أرسل الله تعالى ملائكة ملء دار صالح عليه السلام فرموهم بالحجارة يرونها ولا يرون راميا وهلك سائر القوم بالصيحة وقيل: إنهم عزموا على تبييته عليه السلام وأهله فأخبر الله تعالى بذلك صالحا فخرج عنهم ثم أهلكهم بالصيحة وكان ذلك يوم الأحد فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ جملة مقررة لما قبلها.
وقوله تعالى: خاوِيَةً أي خالية أو ساقطة متهدمة أعاليها على أسافلها كما روي عن ابن عباس بِما ظَلَمُوا أي بسبب ظلمهم المذكور حال من بُيُوتُهُمْ والعامل فيها معنى الإشارة. وقرأ عيسى بن عمر «خاوية» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي خاوية أو خبر بعد خبر لتلك أو خبر لها وبُيُوتُهُمْ بدل وبيوتهم هذه هي التي
قال فيها
208
صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه عام تبوك «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين» الحديث
. وهي بوادي القرى بين المدينة والشام إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من التدمير العجيب بظلمهم لَآيَةً لعبرة عظيمة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي ما من شأنه أن يعلم من الأشياء أو لقوم يتصفون بالعلم، وقيل: لقوم يعلمون هذه القصة وليس بشيء، وفي هذه الآية على ما قيل دلالة على الظلم يكون سببا لخراب الدور.
وروي عن ابن عباس أنه قال أجد في كتاب الله تعالى أن الظلم يخرب البيوت وتلا هذه الآية، وفي التوراة ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك، قيل وهو إشارة إلى هلاك الظالم إذ خراب بيته متعقب هلاكه، ولا يخفى أن كون الظلم بمعنى الجور والتعدي على عباد الله تعالى سببا لخراب البيوت مما شوهد كثيرا في هذه الأعصار، وكونه بمعنى الكفر كذلك ليس كذلك. نعم لا يبعد أن يكون على الكفرة يوم تخرب فيه بيوتهم إن شاء الله تعالى وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا صالحا ومن معه من المؤمنين وَكانُوا يَتَّقُونَ من الكفر والمعاصي اتقاء مستمرا فلذا خصوا بالنجاة، روي أن الذين آمنوا به عليه السلام كانوا أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت وحين دخلها مات ولذلك سميت بهذا الاسم وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها حاضورا، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر وَلُوطاً منصوب بمضمر معطوف على «أرسلنا» في صدر قصة صالح عليه السلام داخل معه في حيز القسم أي وأرسلنا لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف للإرسال على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال وما جرى بينه وبين قومه من الأحوال والأقوال. وجوز أن يكون منصوبا بإضمار اذكر معطوفا على ما تقدم عطف قصة على قصة وإِذْ بدل منه بدل اشتمال وليس بذاك.
وقيل: هو معطوف على صالِحاً. وتعقب بأنه غير مستقيم لأن صالحا بدل أو عطف بيان لأخاهم وقد قيد بقيد مقدم عليه وهو «إلى ثمود» فلو عطف عليه تقيد به ولا يصح لأن لوطا عليه السلام لم يرسل إلى ثمود وهو متعين إذا تقدم القيد بخلاف ما لو تأخر، وقيل إن تعينه غير مسلم إذ يجوز عطفه على مجموع القيد والمقيد لكنه خلاف المألوف في الخطابيات وارتكاب مثله تعسف لا يليق، وجوز أن يكون عطفا على الذين آمنوا.
وتعقب بأنه لا يناسب أساليب سرد القصص من عطف إحدى القصتين على الأخرى لا على تتمة الأولى وذيلها كما لا يخفى أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي أتفعلون الفعلة المتناهية في القبح والسماجة، والاستفهام إنكاري.
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ جملة حالية من فاعل تَأْتُونَ مفيدة لتأكيد الإنكار فإن تعاطي القبيح من العالم بقبحه أقبح وأشنع، وتُبْصِرُونَ من بصر القلب أي أتفعلونها والحال أنتم تعلمون علما يقينيا كونها كذلك. (١)
ويجوز أن يكون من بصر العين أي وأنتم ترون وتشاهدون كونها فاحشة على تنزيل ذلك لظهوره منزلة المحسوس، وقيل: مفعول تُبْصِرُونَ من المحسوسات حقيقة أي وأنتم تبصرون آثار العصاة قبلكم أو وأنتم ينظر بعضكم بعضا لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك لعدم اكتراثكم به، ووجه إفادة الجملة على الاحتمالين تأكيد الإنكار أيضا ظاهر، وقوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً تثنية للإنكار وبيان لما يأتونه من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام، وتحلية الجملة بحرفي التأكيد للإيذان بأن مضمونها مما لا يصدق وقوعه أحد لكمال شناعته، وإيراد المفعول بعنوان الرجولية دون الذكورية لتربيته التقبيح وبيان اختصاصه ببني آدم، وتعليل الإتيان بالشهوة تقبيح على تقبيح لما أنها ليست في محلها، وفيه إشارة إلى أنهم مخطئون في محلها فعلا، وفي قوله تعالى: مِنْ دُونِ النِّساءِ
(١) تم الجزء التاسع عشر من تفسير روح المعاني ويليه إن شاء الله تعالى الجزء العشرون وأوله فما كان جواب قومه
209
أي متجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة إشارة إلى أنهم مخطؤن فيه تركا، ويعلم مما ذكرنا أن شَهْوَةً مفعول له للإتيان، وجوز أن يكون حالا.
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أي تفعلون فعل الجاهلين بقبح ذلك أو يجهلون العاقبة أو الجهل بمعنى السفاهة والمجون أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون كذا في الكشاف، وأيا ما كان فلا ينافي قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ولم يرتض ذلك الطيبي وزعم أن كلمة الإضراب تأباه: ووجه الآية بأنه تعالى لما أنكر عليهم فعلهم على الإجمال وسماه فاحشة وقيده بالحال المقررة لجهة الإشكال تتميما للإنكار بقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أراد مزيد ذلك التوبيخ والإنكار فكشف عن حقيقة تلك الفاحشة وأشار سبحانه إلى ما أشار ثم أضرب عن الكل بقوله سبحانه: بَلْ أَنْتُمْ إلخ أي كيف يقال لمن يرتكب هذه الفحشاء وأنتم تعلمون فأولى حرف الإضراب ضمير أَنْتُمْ وجعلهم قوما جاهلين والتفت في تَجْهَلُونَ موبخا معيرا اه وفيه نظر. والقول بالالتفات هنا مما قاله غيره أيضا وهو التفات من الغيبة التي في قَوْمٌ إلى الخطاب في تَجْهَلُونَ وتعقبه الفاضل السالكوتي بأنه وهم إذ ليس المراد بقوم قوم لوط حتى يكون المعبر عنه في الأسلوبين واحدا كما هو شرط الالتفات بل معنى كلي حمل على قوم لوط عليه السلام.
وقال بعض الأجلة: إن الخطاب فيه مع أنه صفة لقوم- وهو اسم ظاهر- من قبيل الغائب لمراعاة المعنى لأنه متحد مع أَنْتُمْ لحمله عليه، وجعله غير واحد مما غلب فيه الخطاب، وأورد عليه أن في التغليب تجوزا ولا تجوز هنا. وأجيب بأن نحو تَجْهَلُونَ موضوع للخطاب مع جماعة لم يذكروا بلفظ غيبة وهنا ليس كذلك فكيف لا يكون فيه تجوز، وقيل قولهم إن في التغليب تجوزا خارج مخرج الغالب، وقال الفاضل السالكوتي إن قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ إلخ من المجاز باعتبار ما كان فإن المخاطب في تَجْهَلُونَ باعتبار كون القوم مخاطبين في التعبير بأنتم فلا يرد أن اللفظ لم يستعمل فيه في غير ما وضع له ولا الهيئة التركيبية ولم يسند الفعل إلى غير ما هو له فيكون هناك مجاز فافهم.
210
الجزء العشرون
211

بسم الله الرحمن الرحيم

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي من اتبع دينه وإخراجه عليه السلام يعلم من باب أولى. وقال بعض المحققين: المراد بآل لوط هو عليه السلام ومن تبع دينه كما يراد من بني آدم آدم وبنوه، وأيا ما كان فلا تدخل امرأته عليه السلام فيهم، وقوله سبحانه: إِلَّا إلخ استثناء مفرغ واقع في موقع اسم كان، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «جواب» بالرفع فيكون ذاك واقعا موقع الخبر، وقد مر تحقيق الكلام في مثل هذا التركيب، وفي قوله تعالى: مِنْ قَرْيَتِكُمْ بإضافة القرية إلى- كم- تهوين لأمر الإخراج، وقوله جل وعلا: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ تعليل للأمر على وجه يتضمن الاستهزاء أي إنهم أناس يزعمون التطهر والتنزه عن أفعالنا أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذرا وهم متكلفون بإظهار ما ليس فيهم، والظاهر أن هذا الجواب صدر عنهم في المرة الأخيرة من مراتب مواعظه عليه
213
السلام بالأمر والنهي لا أنه لم يصدر عنهم كلام آخر غيره فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي بعد إهلاك القوم فالفاء فصيحة إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها أي قدرنا كونها مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في العذاب، وقدر المضاف لأن التقدير يتعلق بالفعل لا بالذات، وجاء في آية أخرى ما يقتضي ذلك، وهو قوله تعالى: قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ [الحجر: ٦٠].
وقرأ أبو بكر «قدرناها» بتخفيف الدال وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً غير معهود فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس مطر المنذرين مطرهم، وقد مر مثل هذا فارجع إلى ما ذكرناه عنده.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى إثر ما قص سبحانه وتعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم قصص الأنبياء المذكورين وأخبارهم الناطقة بكمال قدرته تعالى وعظم شأنه سبحانه وبما خصهم به من الآيات القاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على جلالة أقدارهم وصحة أخبارهم، وقد بين على ألسنتهم صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الكفر والإشراك وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى ومن أعرض عنهم فقد تردى في مهاوي الردى، وشرح صدره الشريف صلّى الله تعالى عليه وسلّم بما في تضاعيف تلك القصص من فنون المعارف الربانية، ونور قلبه بأنوار الملكات السبحانية الفائضة من عالم القدس، وقرر بذلك فحوى قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: ٦].
أمر صلّى الله تعالى عليه وسلّم أن يحمده بأتم وجه على تلك النعم ويسلم على كافة الأنبياء عليهم السلام الذين من جملتهم من قصت أخبارهم وشرحت آثارهم عرفانا لفضلهم وأداء لحق تقدمهم واجتهادهم في الدين، فالمراد بالعباد المصطفين الأنبياء عليهم السلام لدلالة المقام، وقوله تعالى في آية أخرى: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: ١٨١]، وقيل: هذا أمر له صلّى الله تعالى عليه وسلّم بحمده تعالى على هلاك الهالكين من كفار الأمم، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين صلّى الله تعالى عليهم وسلم، والسلام على غير الأنبياء عليهم السلام إذا لم يكن استقلالا مما لا خلاف في جوازه، ولعل المنصف لا يرتاب في جوازه على عباد الله تعالى المؤمنين مطلقا، وقيل: أمر له عليه الصلاة والسلام بالحمد على ما خصه جل وعلا به من رفع عذاب الاستئصال عن أمته ومخالفتهم لمن قبلهم ممن ذكرت قصته من الأمم المستأصلة بالعذاب، وبالسلام على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة.
فالمراد بالمصطفين الأنبياء خاصة، وأخرج عبد بن حميد والبزار وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس أنه قال فيهم:
هم أصحاب محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم اصطفاهم الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سفيان الثوري أنه قال في وَسَلامٌ إلخ: نزلت في أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصة. وهذا ظاهر في القول بجواز السلام على غير الأنبياء استقلالا كما هو مذهب الحنابلة وغيرهم، والكلام على جميع هذه الأقوال متصل بما قبله، وجعله الزمخشري من باب الاقتضاب كأنه خطبة مبتدأة حيث قال: أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته تعالى وقدرته على كل شيء وحكمته أعني قوله سبحانه:
آللَّهُ إلخ، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع، ولقد توارثت العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب فحمدوا الله تعالى وصلوا على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم أمام كل علم مفاد وقبل كل موعظة وتذكرة وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المتراسلون فآجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها
214
شأن انتهى، ولعل جعل ذلك تخلصا من قصص الأنبياء عليهم السلام إلى ما جرى له صلى الله تعالى عليه وسلّم مع المشركين أولى، وأبعد الأقوال باتصاله بما قبله، وجعل ذلك أمرا للوط عليه السلام بأن يحمده تعالى على إهلاك كفرة قومه، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة عن الهلاك لعدم ملاءمته لما بعده واحتياجه إلى تقدير وقلنا له، وعزا هذا القول ابن عطية للفراء، وقال: هذه عجمة من الفراء، والظاهر أن سَلامٌ مبتدأ وما بعده خبره، والجملة معطوفة على الْحَمْدُ لِلَّهِ داخلة معه في حيز القول.
وقرأ أبو السمال «الحمد لله» بفتح اللام آللَّهُ بالمد لقلب همزة الاستفهام ألفا والأصل أالله. خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ والظاهر أن (ما) موصولة والعائد محذوف أي (الله) الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير أم الذي يشركونه من الأصنام، وخَيْرٌ أفعل تفضيل ومرجع الترديد إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته عز وجل وتسفيه آرائهم الركيكة والتهكم بهم إذ من البين أن ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من هو خير محض، وقيل: خَيْرٌ ليست للتفضيل مثلها في قولك: الصلاة خير تعني خيرا من الخيور، والمختار الأول، واستظهره أبو حيان، وقال: كثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركة هناك، وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على الخطأ ويقصد بالاستفهام في مثل ذلك إلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد وانتفائه عن الآخر، واستظهر أيضا كون المراد بالخيرية الخيرية في الذات، وقيل: الخيرية فيما يتعلق بها، وفي الكلام حذف في موضعين، والتقدير أعبادة الله تعالى خير أم عبادة ما يشركون، وقيل: (ما) مصدرية والحذف في موضع واحد، والتقدير أتوحيد الله خير أم إشراكهم ولا داعي لجميع ذلك، وأيا ما كان فضمير الغائب لقريش ونحوهم من المشركين، وقيل: لأولئك المهلكين وليس بشيء، وقرأ الأكثرون- تشركون- بالتاء الفوقانية على توجيه الخطاب لمن ذكرنا من الكفرة وهو الأليق بما بعده من سياق النظم الكريم، وجعل أبو البقاء هذه الجملة من جملة القول المأمور به، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: فَأَنْبَتْنا إلخ فإنه صريح في أن التبكيت من قبله عز وجل بالذات، وحمله على أنه حكاية منه عليه الصلاة والسلام لما أمر به بعبادته كما في قوله سبحانه: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣]، تعسف ظاهر من غير داع إليه،
وفي بعض الآثار أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية قال: بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم
، و (أم) في قوله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ منقطعة لا متصلة كالسابقة، وبل المقدرة على القراءة الأولى وهي قراءة الحسن وقتادة وعاصم وأبي عمرو للإضراب والانتقال من التبكيت تعريضا إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد، وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الإلزام كنظائرها الآتية، والهمزة لحملهم على الإقرار بالحق الذي لا محيص لمن له أدنى تمييز عن الإقرار به، ومن مبتدأ خبره محذوف مع أم المعادلة للهمزة تعويلا على ما سبق في الاستفهام الأول خلا- أن تشركون- المقدر هاهنا بتاء الخطاب على القراءتين معا، وهكذا في المواضع الأربعة الآتية، والمعنى أم من خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما وَأَنْزَلَ لَكُمْ التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الأول لتشديد التبكيت والإلزام، واللام تعليلية أي وأنزل لأجلكم ومنفعتكم مِنَ السَّماءِ ماءً أي نوعا منه وهو المطر فَأَنْبَتْنا بِهِ بمقتضى الحكمة لا أن الإنبات موقوف عليه عقلا، وقيل: أي أنبتنا عنده حَدائِقَ جمع حديقة وهي كما في البحر البستان سواء أحاط به جدار أم لا، وهو ظاهر إطلاق تفسير ابن عباس حيث فسر الحدائق لابن الأزرق بالبساتين ولم يقيد، وقال الزمخشري: هي البستان عليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة، وهو مروي عن الضحاك، وقال الراغب:
هي قطعة من الأرض ذات ماء سميت حديقة تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، ولعل الأظهر ما في
215
البحر وكأن وجه تسمية البستان عليه حديقة أن من شأنها أن تحدق بالحيطان أو تصرف نحوها الأحداق وتنظر إليها ذاتَ بَهْجَةٍ أي ذات حسن ورونق يبتهج به الناظر ويسر ما كانَ لَكُمْ أي ما صح وما أمكن لكم أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها فضلا عن خلق ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون، وتقدير الخبر هكذا هو ما اختاره الزمخشري وتبعه غيره.
وقال ابن عطية: يقدر الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا في المعنى، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح له: ولا بد من إضمار معادل وذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه، والتقدير أم من خلق السماوات والأرض كمن لم يخلق، وكذلك يقدر في أخواتها، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر هنا كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: ١٧] انتهى، ولعل الأولى ما اختاره جار الله وكذا يقال فيما بعد.
وقرأ الأعمش «أمن» بالتخفيف على أن الهمزة للاستفهام، ومن بدل من الاسم الجليل وتقديم صلتي الإنزال على مفعوله لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر، والالتفات إلى التكلم بنون العظمة لتأكيد اختصاص الفعل بحكم المقابلة بذاته تعالى والإيذان بأن إنبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع ما لها من الحسن البارع والبهاء الرائع بماء واحد أمر عظيم لا يكاد يقدر عليه إلا هو وحده عز وجل ورشح ذلك بقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ إلخ سواء كان صفة لحدائق أو حالا أو استئنافا، وتوحيد وصفها السابق أعني ذات بهجة لما أن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة، وهذا شائع في جمع التكسير كقوله تعالى: أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: ٢٥، النساء: ٥٧، آل عمران: ١٥] وكذا الحال في ضمير شجرها.
وقرأ ابن أبي عبلة «ذوات» بالجمع «بهجة» بفتح الهاء أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي أإله آخر كائن مع الله تعالى الذي ذكر بعض أفعاله التي لا يكاد يقدر عليها غيره حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة، وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركونه به عز وجل في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد فإن أحدا ممن له أدنى تمييز كما لا يقدر على إنكار انتفاء الخيرية عنه بالمرة لا يكاد يقدر على إنكار انتفاء الألوهية عنه رأسا لا سيما بعد ملاحظة انتفاء أحكامها عما سواه عز وجل، وكذا الحال في المواقع الأربعة الآتية، وقيل: المراد نفي أن يكون معه تعالى إله آخر في الخلق، وما عطف عليه لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط فإنهم لا ينكرونه حسبما يدل عليه قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:
٢٥، الزمر: ٣٨] بل بإشراكهم به تعالى ما يعترفون بعدم مشاركته له سبحانه فيما ذكر من لوازم الألوهية كأنه قيل: أإله آخر مع الله في خواص الألوهية حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادة، وقيل: المعنى أغيره يقرن به سبحانه ويجعل له شريكا في العبادة مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين. فالإنكار للتوبيخ والتبكيت مع تحقق المنكر دون النفي كما في الوجهين السابقين، ورجح بأنه الأظهر الموافق لقوله تعالى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [المؤمنون: ٩١] والأوفى بحق المقام لإفادته نفي وجود إله آخر معه تعالى رأسا لا نفي معيته في الخلق وفروعه فقط.
وقرأ هشام عن ابن عامر «آاله» بتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين، وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير «أإلها» بالنصب على إضمار فعل يناسب المقام مثل أتجعلون أو أتدعون أو أتشركون.
بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ إضراب وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم ويَعْدِلُونَ من العدول بمعنى الانحراف أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية والانحراف عن
216
الاستقامة في كل أمر من الأمور فلذلك يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل البين الذي هو الإشراك، وقيل: من العدل بمعنى المساواة أي يساوون به غيره تعالى من آلهتهم، وروي ذلك عن ابن زيد، والأول أنسب بما قبله، وقيل: الكلام عليه خال عن الفائدة.
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإبداء بعضها من الماء ودحوها وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم- فقرارا- بمعنى مستقرا لا بمعنى قارة غير مضطربة كما زعم الطبرسي فإن الفائدة على ذلك أتم، والجعل إن كان تصييريا فالمنصوبان مفعولان وإلا فالثاني حال مقدرة، وجملة قوله تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ
إلخ على ما قيل: بدل من قوله سبحانه: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ إلى آخر ما بعدها من الجمل الثلاث وحكم الكل واحد، وقال بعض الأجلة: الأظهر أن كل واحدة منها إضراب وانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر داخل في الإلزام بجهة من الجهات، وإلى الإبدال ذهب صاحب الكشاف، وسننقل إن شاء الله تعالى عن صاحب الكشف ما فيه الكشف عن وجهه وَجَعَلَ خِلالَها أي أوساطها جمع خلل، وأصله الفرجة بين الشيئين فهو ظرف حل محل الحال من قوله تعالى: أَنْهاراً وساغ ذلك مع كونه نكرة لتقدم الحال أو المفعول الثاني- لجعل- وأَنْهاراً هو المفعول الأول، والمراد بالأنهار ما يجري فيها لا المحل الذي هو الشق أي جعل خلالها أنهارا جارية تنتفعون بها وَجَعَلَ لَها أي لصلاح أمرها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت فإن لها مدخلا عاديا اقتضته الحكمة في انكشاف المسكون منها وانحفاظها عن الميد بأهلها وتكون المياه الممدة للأنهار المفضية لنضارتها في حضيضها إلى غير ذلك، وذكر بعضهم في منفعة الجبال تكوّن المعادن فيها ونبع المنابع من حضيضها ولم يتعرض لمنفعة منعها الأرض عن الحركة والميلان، وعلل ترك التعرض بأنه لو كان المقصود ذلك لذكر عقب جعل الأرض قرارا، ومن أنصف رأى أن منع الجبال الأرض عن الحركة والميلان اللذين يخرجان الأرض عن حيز الانتفاع ويجعلان وجودها كعدمها من أهم ما يذكر هنا لأنه مما به صلاح أمرها ورفعة شأنها، وذكر لَها دون فيها أو عليها ظاهر في أن المراد ما هو من هذا القبيل من المنافع فتأمل.
وإرجاع ضمير لَها للأنهار ليكون المعنى وجعل لإمدادها رواسي ينبع من حضيضها الماء فيمدها لا يخفى ما فيه وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ أي العذب والملح- عن الضحاك- أو بحري فارس والروم- عن الحسن- أو بحري العراق والشام- عن السدي- أو بحري السماء والأرض- عن مجاهد- حاجِزاً فاصلا يمنع من الممازجة، وقد مر الكلام في تحقيق ذلك فتذكر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في الوجود أو في إبداع هذه البدائع على ما مر بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي شيئا من الأشياء معتدا به ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وهو الذي أحوجته شدة من الشدائد وألجأته إلى اللجأ والضراعة إلى الله عز وجل، فهو اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرورة، ويرجع إلى هذا تفسير ابن عباس له بالمجهود، وتفسير السدي بالذي لا حول ولا قوة له، وقيل: المراد بذلك المذنب إذا استغفر، واللام فيه على ما قيل: للجنس لا للاستغراق حتى يلزم إجابة كل مضطر وكم من مضطر لا يجاب.
وجوز حمله على الاستغراق لكن الإجابة مقيدة بالمشيئة كما وقع ذلك في قوله تعالى: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الأنعام: ٤١]، ومع هذا كره النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أن يقول الشخص: اللهم اغفر لي إن شئت
وقال عليه الصلاة والسلام: «إنه سبحانه لا مكره له»
، والمعتزلة يقيدونها بالعلم بالمصلحة لإيجابهم رعاية المصالح عليه جل وعلا، وقال صاحب الفرائد: ما من مضطر دعا إلا أجيب وأعيد نفع دعائه إليه إما في الدنيا وإما في
217
الآخرة، وذلك أن الدعاء طلب شيء. فإن لم يعط ذلك الشيء بعينه يعط ما هو أجل منه أو إن لم يعط هذا الوقت يعط بعده اهـ.
وظاهره حمله على الاستغراق من دون تقييد للإجابة، ولا يخفى أنه إذا فسرت الإجابة بإعطاء السائل ما سأله حسبما سأل لا بقطع سؤاله سواء كان بالإعطاء المذكور أم بغيره لم يستقم ما ذكره، وقال العلامة الطيبي: التعريف للعهد لأن سياق الكلام في المشركين يدل عليه الخطاب بقوله تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ والمراد التنبيه على أنهم عند اضطرارهم في نوازل الدهر وخطوب الزمان كانوا يلجأون إلى الله تعالى دون الشركاء والأصنام، ويدل على التنبيه قوله تعالى: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ قال صاحب المفتاح: كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله تعالى دون أصنامهم، فالمعنى إذا حزبكم أمر أو قارعة من قوارع الدهر إلى أن تصيروا آيسين من الحياة من يجيبكم إلى كشفها ويجعلكم بعد ذلك تتصرفون في البلاد كالخلفاء أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ فلا يكون المضطر عاما ولا الدعاء فإنه مخصوص بمثل قضية الفلك، وقد أجيبوا إليه في قوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: ٢٢] الآية اهـ.
وأنت تعلم أنه بعيد غاية البعد، ولعل الأولى الحمل على الجنس والتقييد بالمشيئة وهو سبحانه لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة، والدعاء بشيء من قبيل أحد الأسباب العادية فافهم وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي يرفع عن الإنسان ما يعتريه من الأمر الذي يسوءه، وقيل: الكشف أعم من الدفع والرفع، وعطف هذه الجملة على ما قبلها من قبيل عطف العام على الخاص، وقيل: المعنى ويكشف سوءه أي المضطر، أو ويكشف عنه السوء والعطف من قبيل عطف التفسير فإن إجابة المضطر هي كشف السوء عنه الذي صار مضطرا بسببه وهو كما ترى.
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها بعدهم، وقيل: المراد بالخلافة الملك والتسلط، وقرأ الحسن ونجعلكم بنون العظمة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي هذه شؤونه ونعمه تعالى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرا قليلا، أو زمانا قليلا تتذكرون- فقليلا- نصب على المصدرية، أو على الظرفية لأنه صفة مصدر أو ظرف مقدر، وما- مزيدة على التقديرين لتأكيد معنى القلة التي أريد بها العدم، أو ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى، ومفعول تَذَكَّرُونَ محذوف للفاصلة، فقيل: التقدير تذكرون نعمه، وقيل: تذكرون مضمون ما ذكر من الكلام، وقيل: تذكرون ما مر لكم من البلاء والسرور، ولعل الأولى نعمه المذكورة، وللإيذان بأن المتذكر في غاية الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه كان التذييل بنفي التذكر، وقرأ الحسن والأعمش وأبو عمرو- يذكرون- بياء الغيبة، وقرأ أبو حيوة- «تتذكرون» - بتاءين أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يرشدكم في ظلمات الليالي في البر والبحر بالنجوم ونحوها من العلامات، وإضافة الظلمات إلى البر والبحر للملابسة وكونها فيهما، وجوز أن يراد بالظلمات الطرق المشبهات مجازا فإنها كالظلمات في إيجاب الحيرة.
وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قد تقدم تفسير نظير هذه الجملة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ نفي لأن يكون معه سبحانه إله آخر، وقوله تعالى: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تقرير وتحقيق له، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإشعار بعلة الحكم أي تعالى وتنزه بذاته المنفردة بالألوهية المستتبعة لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال، المقتضية لكون جميع المخلوقات مقهورة تحت قدرته عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن وجود ما يشركونه به سبحانه بعنوان كونه إلها وشريكا له تعالى، أو تعالى الله عن شركة أو مقارنة ما يشركونه به سبحانه، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية أي تعالى الله عن إشراكهم، وقرىء «عما تشركون» بتاء الخطاب.
218
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي يوجده مبتدئا له ثُمَّ يُعِيدُهُ يكرر إيجاده ويرجعه كما كان، وذلك بعد إهلاكه ضرورة أن الإعادة لا تعقل إلا بعده، والظاهر أن المراد بهذا ما يكون من الإعادة بالبعث بعد الموت، فأل في الخلق ليست للاستغراق لأن منه ما لا يعاد بالإجماع، ومنه ما في إعادته خلاف بين المسلمين، وتفصيله في محله.
واستشكل الحمل على الإعادة بالبعث بأن الكلام مع المشركين وأكثرهم منكرون لذلك فكيف يحمل الكلام عليه ويخاطبون به خطاب المعترف؟ وأجيب بأن تلك الإعادة لوضوح براهينها جعلوا كأنهم معترفون بها لتمكنهم من معرفتها فلم يبق لهم عذر في الإنكار وقيل: إن منهم من اعترف بها، والكلام بالنسبة إليه وليس بذاك، وأما تجويز كون أل للجنس وأن المراد بالبدء والإعادة ما يشاهد في عالم الكون والفساد من إنشاء بعض الأشياء وإهلاكها، ثم إنشاء أمثالها وذلك مما لا ينكره المشركون المنكرون للإعادة بعد الموت فليس بشيء أصلا كما لا يخفى وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي بأسباب سماوية وأرضية قد رتبها على ترتيب بديع تقتضيه الحكمة التي عليها بنى أمر التكوين أَإِلهٌ آخر موجود مَعَ اللَّهِ حتى يجعل شريكا له سبحانه في العبادة، وقوله تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت أي هاتوا برهانا عقليا أو نقليا يدل على أن معه عز وجل إلها، وقيل: أي هاتوا برهانا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله عز وجل، وتعقب بأن المشركين لا يدعون ذلك صريحا ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة فمطالبتهم بالبرهان عليه لا على صريح دعواهم مما لا وجه له، وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم تهكم بهم لما فيها من إيهام أن لهم برهانا وأنى لهم ذلك، وقيل: إن الإضافة لزيادة التبكيت كأنه قيل: نحن نقنع منكم بما تعدونه أنتم أيها الخصوم برهانا يدل على ذلك وإن لم نعده نحن ولا أحد من ذوي العقول كذلك، ومع هذا أنتم عاجزون عن الإتيان به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في تلك الدعوى، واستدل به على أن الدعوى لا تقبل ما لم تنور بالبرهان.
هذا وفي الكشف أن مبنى هذه الآيات الترقي لأن الكلام في إثبات أن لا خيرية في الأصنام مع أن كل خير منه تبارك وتعالى، فأجمل أولا بذكر اسمه سبحانه الجامع في قوله تعالى: آللَّهُ ثم أخذ في المفصل فجعل خلق السماوات والأرض تمهيدا لإنزال الماء وإنبات الحدائق لا بل للأخير، يدل عليه الالتفات هنالك والتأكيد بقوله تعالى:
ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا كأنه يذكر سبحانه ما فيها من المنافع الكثيرة لونا وطعما ورائحة واسترواح ظل.
ولما أثبت أنه فعله الخاص أنكر أن يكون له شريك وجعلهم عادلين عن منهج الصواب أو عادلين به سبحانه من لا يستحق، والأول أظهر، ثم ترقى منه إلى ما هو أكثر لهم خيرا وأظهر في نفعهم من جعل الأرض قرارا وما عقبه، فذكر جل وعلا ما لا يتم الإنبات المذكور إلا به مع منافع يتصاغر لديها منفعة الإنبات، وعقبه بجهلهم المطلق المنتج للعدول المذكور، وأسوأ منه وأسوأ، ثم بالغ في الترقي فذكر ما هو لصيق بهم دون واسطة من دفع أو نفع فخص إجابتهم عند الاضطرار، وعم بكشف السوء والمضار، هذا فيما يرجع إلى دفع المحذور وإقامتهم خلفاء في الأرض ينتفعون بها وبما فيها كما أحبوا، وهذا أتم من الأولين وأعم وأجل موقعا وأهم، ولهذا فصل بعدم التذكر وبولغ فيه تلك المبالغات، وأما ذكر الهداية في ظلمات البر والبحر وذكر إرسال الرياح المبشرة استطرادا لمناسبة حديث الرياح مع الهداية في البحر، فمن متممات الخلافة وإجابة المضطر وكشف السوء فافهم.
ونبه على هذا بأنه فصل بقوله تعالى: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم ختم ذلك كله بالإضراب عن هذا الأسلوب بتذكير نعمتي الإيجاد والإعادة، فكل نعمة دونهما لتوقف النعم الدنيوية والأخروية عليها، وعقبه بإجمال
219
يتضمن جميع ما عدده أولا وزيادة أعني رزقهم من السماء والأرض، وأدمج في تأخيره أنه دون النعمتين، ولهذا بكتهم بطلب البرهان فيما ليس (١) وسجل بكذبهم دلالة على تعلقه بالكل وأن هذه الخاتمة ختام مسكي، والمعرض عن تشام نفحاته مسكي، وعن هذا التقرير ظهر وجه الإبدال مكشوف النقاب والحمد لله تعالى المنعم الوهاب اهـ.
وفي غرة التنزيل للراغب ما يؤيده، وقد لخصه الطيبي في شرح الكشاف، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ بعد ما تحقق تفرده تعالى بالألوهية ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العاملة عقب بذكر ما لا ينفك عنه، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث، وفي البحر قيل: سأل الكفار عن وقت القيامة- التي وعدوها- الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم وألحوا عليه عليه الصلاة والسلام فنزل قوله: قُلْ لا يَعْلَمُ الآية، فمناسبتها على هذا لما قبلها من قوله تعالى: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أتم مناسبة، والظاهر المتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم وهو موصول أو موصوف، والغيب مفعوله، والاسم الجليل مرفوع على البدلية من مَنْ والاستثناء على ما قيل: منقطع تحقيقا متصل تأويلا على حدّ ما في قول الراجز:
وبلدة ليس بها أنيس... إلا اليعافير وإلا العيس
بناء على إدخال اليعافر في الأنيس بضرب من التأويل فيفيد المبالغة في نفي علم الغيب عمن في السماوات والأرض بتعليق علمهم إياه بما هو بين الاستحالة من كونه تعالى منهم كأنه قيل: إن كان الله تعالى ممن فيهما ففيهم من يعلم الغيب يعني أن استحالة علمهم الغيب كاستحالة أن يكون الله تعالى منهم، ونظير هذا مما لا استثناء فيه قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع وقيل: هو منقطع على حد الاستثناء في قوله:
عشية ما تغني الرماح مكانها... ولا النبل إلا المشرفي المصمم
يعني أنه من اتباع أحد المتباينين الآخر نحو ما أتاني زيد إلا عمرو وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه، وقد ذكرهما سيبويه، وذكر ابن مالك أن الأصل فيهما: ما أتاني أحد إلا عمرو، وما أعانه أحد إلا إخوانه فجعل مكان أحد بعض مدلوله وهو زيد وإخوانكم، ولو لم يذكر الدخلاء فيمن نفي عنه الإتيان والإعانة، ولكن ذكرا توكيدا لقسطهما من النفي دفعا لتوهم المخاطب أن المتكلم لم يخطر له هذا الذي أكد به، فذكر تأكيدا، وعليه يكون الأصل في الآية لا يعلم أحد الغيب إلا الله فحذف أحد وجعل مكانه بعض مدلوله وهو من في السماوات والأرض، والبعض الآخر من ليس فيهما، ويكفي في كونه مدلولا له صدقه عليه ولا يجب في ذلك وجوده في الخارج، فقد صرحوا أن من الكلي ما يمتنع وجود بعض أفراده أو كلها في الخارج على أن من أجلة الإسلاميين من قال بوجود شيء غير الله عز وجل، وليس في السماوات ولا في الأرض وهو الروح الأمرية فإنها لا مكان لها عندهم على نحو العقول المجردة عند الفلاسفة، وقال: إن شرط الاتباع في هذا النوع أن يستقيم حذف المستثنى منه والاستغناء عنه بالمستثنى فإن لم يوجد هذا الشرط تعين النصب عند التميمي. والحجازي كما في قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود: ٤٣]، فإن الاستغناء فيه بالمستثنى عما قبله ممتنع إلا بتكلف، وزعم المازني أن اتباع المنقطع من تغليب
(١) قوله: فيما ليس، وسجل إلخ هكذا في نسخة المؤلف اهـ.
220
العاقل على غيره، ويلزم عليه أن يختص بأحد وشبهه وهو فاسد- كما قال ابن خروف- لأن ما يبدل منه في هذا الباب غير ما ذكر أكثر من أن يحصى اهـ.
وكلام الزمخشري يوهم صدره أن الاستثناء هنا من قبيل الاستثناء في المثالين اللذين ذكرهما سيبويه، وفي البيت الذي ذكرناه قبيلهما، ويفهم عجزه أنه من قبيل الاستثناء في الرجز السابق، وأن الداعي إلى اختيار المذهب التميمي نكتة المبالغة التي سمعتها، وقد صرحوا أن إفادة تلك النكتة إنما تتأتى إذا جعل الاستثناء منقطعا تحقيقا متصلا تأويلا، ولعل الحق أنه إذا أريد الدلالة على قوة النفي تعين جعل الاستثناء نحو الاستثناء في قوله: «وبلدة» إلخ، وإذا أريد الدلالة على عموم النفي تعين جعله نحو الاستثناء في قولهم: ما أعانه إخوانكم إلا إخوانه فتدبر، وجوز كونه متصلا كما هو الأصل في الاستثناء على أن المراد بمن في السماوات والأرض من اطلع عليهما اطلاع الحاضر فيهما مجازا مرسلا أو استعارة، وأيا ما كان فهو معنى مجازي عام له تعالى شأنه ولذوي العلم من خلقه وهو المخلص من لزوم ارتكاب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف في صحته كما فعله بعض القائلين بالاتصال، وقيل: يعلق الجار والمجرور على ذلك التقدير بنحو يذكر من الأفعال المنسوبة على الحقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين لا بنحو استقر مما لا يصح نسبته إليه سبحانه على الحقيقة أي لا يعلم من يذكر في السماوات والأرض الغيب إلا الله، ويجوز تعليقه باستقر أيضا إلا أنه يجعل مسندا إلى مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه أي لا يعلم من استقر ذكره في السماوات والأرض الغيب إلا الله فحذف الفعل والمضاف واستتر الضمير لكونه مرفوعا، وهذا وما قبله كما ترى، واعترض حديث الاتصال بأنه يلزم عليه التسوية بينه تعالى وبين غيره في إطلاق لفظ واحد وهو أمر مذموم،
فقد أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله»
، وأجيب بأن ذلك مما يذم إذا صدر من البشر أما إذا صدر منه تعالى فلا يذم على أن كونه مما يذم إذا صدر من البشر مطلقا ممنوع،
فقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان من كان الله تعالى ورسوله أحب إليه مما سواهما» الحديث
، ولعل مدار الذم والمدح تضمن ذلك نكتة لطيفة وعدم تضمنه إياها، وقد قيل في حديث أنس: النكتة في تثنية الضمير الإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، والنكتة في إفراده في حديث عدي الإشعار بأن كلا من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، وقد مر الكلام في هذا المبحث فتذكر، وجوز أن يعرب من مفعول- يعلم. والغيب- بدل اشتمال منه، والاسم الجليل فاعل يَعْلَمُ ويكون استثناء مفرغا أي لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا الله ولا يخفى بعده.
والغيب في الأصل مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين، واستعمل في الشيء الغائب الذي لم تنصب له قرينة وكون ذلك غيبا باعتباره بالناس ونحوهم لا بالله عز وجل فإنه سبحانه لا يغيب عنه تعالى شيء لكن لا يجوز أن يقال: إنه جل وعلا لا يعلم الغيب قصدا إلى أنه لا غيب بالنسبة إليه ليقال يعلمه، وقد شنع الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي المشهور بالإمام الرباني في مكتوباته- على من قال ذلك قاصدا ما ذكر- أتم تشنيع كما هو عادته جزاه الله تعالى خيرا فيمن لم يتأدب بآداب الشريعة الغراء، والظاهر عموم الغيب، وقيل: المراد به الساعة، وقيل: ما يضمره أهل السماوات والأرض في قلوبهم، وقيل: المراد جنس الغيب، ويلزم من نفي علم جنسه عن غيره عز وجل نفي علم كل فرد من أفراده عن ذلك الغير، ولا يضر في ذلك أن الآية لا تدل حينئذ على ثبوت علم كل غيب له عز وجل بل قصارى ما تدل عليه ثبوت علم جنس الغيب له سبحانه لأنه المنفي صريحا عن المستثنى منه ولا يلزم من
221
ثبوت علم هذا الجنس ثبوت علم كل فرد من أفراده لأنها لم تسق للاستدلال بها على ذلك، وكم وكم من دليل عقلي ونقلي يدل عليه، وتعقب بأن الغيب من حيث إنه غيب لا يتفاوت فمتى ثبت العلم ببعض أفراده ثبت العلم بجميعها دفعا للزوم الترجيح بلا مرجح فتأمل.
واختار بعضهم الاستغراق أي لا يعلم من في السماوات والأرض كل غيب إلا الله فإنه سبحانه يعلم كل غيب لأنه الأوفق بالمقام، واعترض بأنه يلزم أن يكون من أهل السماوات والأرض من يعلم بعض الغيوب، وظاهر كلام كثير من الأجلة يأبى ذلك، ويؤيده ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وجماعة من المحدثين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يخبر الناس بما يكون في غد. وفي بعض الروايات.
يعلم ما في غد فقد أعظم على الله تعالى الفرية والله تعالى يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، وجوز بعضهم أن يكون منهم من يعلم بعض الغيوب، ففي بيان قواطع الإسلام تأليف العلامة ابن حجر بعد الرد على من أكفر من قيل له: أتعلم الغيب؟ فقال: نعم لأن فيما قاله تكذيب النص وهو قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: ٥٩]، وقوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: ٢٦، ٢٧] ما نصه: وعلى كل فالخواص يجوز أن يعلموا الغيب في قضية أو قضايا كما وقع لكثير منهم واشتهر، والذي اختص به تعالى إنما هو علم الجميع وعلم مفاتح الغيب المشار إليها بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الجن: ٢٦] الآية، وينتج من هذا التقرير أن من ادعى علم الغيب في قضية أو قضايا لا يكفر وهو محمل ما في الروضة، ومن ادعى علمه في سائر القضايا يكفر وهو محمل ما في أصلها إلا أن عبارته لما كانت مطلقة تشمل هذا وغيره ساغ للنووي الاعتراض عليه فإن أطلق فلم يرد شيئا، فالأوجه ما اقتضاه كلام النووي من عدم الكفر انتهى.
ولعل الحق أن يقال: إن علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص لذاته أي بلا واسطة في ثبوته له، وهذا مما لا يعقل لأحد من أهل السماوات والأرض لمكان الإمكان فيهم ذاتا وصفة وهو يأبى ثبوت شيء لهم بلا واسطة، ولعل في التعبير عن المستثنى منه بمن في السماوات والأرض إشارة إلى علة الحكم، وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شيء ضرورة أنه من الواجب عز وجل أفاضه عليهم بوجه من وجوه الإفاضة فلا يقال:
إنهم علموا الغيب بذلك المعنى ومن قاله كفر قطعا، وإنما يقال: إنهم أظهروا أو اطلعوا. بالبناء للمفعول، على الغيب أو نحو ذلك مما يفهم الواسطة في ثبوت العلم لهم، ويؤيد ما ذكر أنه لم يجىء في القرآن الكريم نسبة علم الغيب إلى غيره تعالى أصلا، وجاء الإظهار على الغيب لمن ارتضى سبحانه من رسول لا يقال: يجوز على هذا أن يقال: أعلم فلان الغيب بالبناء للمفعول أيضا على معنى أن الله تعالى أعلمه وعرفه ذلك بطريق من طرق الإعلام والتعريف، ومتى جاز هذا جاز أن يقال: علم فلان الغيب بقصد نسبة علمه الحاصل من إعلامه إليه لأنا نقول: لا كلام في جواز. أعلم.
بالبناء للمفعول، وإنما الكلام في قولك: ومتى جاز هذا جاز أن يقال إلخ، فنقول: إن أريد بالجواز في تالي الشرطية الجواز معنى أي الصحة من حيث المعنى فمسلم لكن ليس كل ما جاز معنى بهذا المعنى جاز شرعا استعماله، وإن أريد الجواز شرعا بمعنى عدم المنع من استعماله فهو ممنوع لما فيه من الإيهام والمصادمة لظواهر الآيات كآية قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وغيرها وقد سمعت عن الإمام الرباني قدس سره النوراني أنه حط كل الحط على من قال الله سبحانه: «لا يعلم الغيب» متأولا له بما تقدم لما فيه من المصادمة للنصوص القرآنية وغيرها، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه، وقد شنعوا أيضا على من قال: أكره الحق وأحب الفتنة وأفر من الرحمة مريدا بالحق الموت، وبالفتنة المال أو الولد، وبالرحمة المطر لما في ظاهره من الشناعة والبشاعة ما لا يخفى. نعم لا يكفر قائل
222
ذلك بذلك القصد ويلزمه التعزير كيلا يعود إلى قوله، ثم إن علم غير الغيب من المحسوسات والمعقولات وإن كان لا يثبت لشيء من الممكنات بلا واسطة في الثبوت أيضا إلا أنه في نسبته لشيء منها لم يعتبر إلا اتصافه به غير مقيد بنفي تلك الواسطة لما أنه لم يرد حصر ذلك العلم به عز وجل ونفيه عمن سواه جل وعلا بل صرح في مواضع أكثر من أن تحصى بنسبته إلى غيره سبحانه ولو ورد فيه ما ورد في علم الغيب لالتزم فيه ما التزم فيه، وعلى ما تقرر لا يكون علم العقول بما لم يكن بعد من الحوادث على ما يزعمه الفلاسفة من علم الغيب بل هو لو سلّم علم حصل لهم من الفياض المطلق جل شأنه بطريق من الطرق التي تقتضيها الحكمة فلا ينبغي أن يقال فيهم: إنهم عالمون بالغيب، وقائله إما كافر أو مسلم آثم، وكذا يقال في علم بعض المرتاضين من المسلمين الصوفية والكفرة الجوكية فإن كل ما يحصل لهم من ذلك فإنما هو بطريق الفيض ومراتبه وأحواله لا تحصى، والتأهل له قد يكون فطريا، وقد يكون كسبيا، وطرق اكتسابه متشعبة لا تكاد تستقصى، وإفاضة ذلك على كفرة المرتاضين وإن أشبهت إفاضته على المؤمنين المتقين إلا أن بين الأمرين فرقا عظيما عند المحققين، وقد ذكر بعض المتصوفة أنه ما من حق إلا وقد جعل له باطل يشبهه لأن الدار دار فتنة وأكثر ما فيها محنة، ويلحق بعلم المرتاضين من الجوكية علم بعض المتصوفة المنسوبين إلى الإسلام المهملين أكثر أحكامه الواجبة عليهم المنهمكين في ارتكاب المحظورات في نهارهم وليلهم، فلا ينبغي اعتقاد أن ذلك كرامة بل هو نقمة مفضية إلى حسرة وندامة، وأما علم النجومي بالحوادث الكونية حسبما يزعمه فليس من هذا القبيل لأن تلك الحوادث التي يخبر بها ليست من الغيب بالمعنى الذي ذكرناه إذ هي وإن كانت غائبة عنا إلا أنها على زعمه مما نصب لها قرينة من الأوضاع الفلكية والنسب النجومية من الاقتران والتثليث والتسديس والمقابلة ونحو ذلك، وعلمه بدلالة القرائن التي يزعمها ناشىء من التجربة وما تقتضيه طبائع النجوم والبروج التي دل عليها بزعمه اختلاف الآثار في عالم الكون والفساد فلا أرى العلم بها إلا كعلم الطبيب الحاذق إذا رأى صفراويا مثلا علم رتبة مزاجه وحققها يأكل مقدارا معينا من العسل أنه يعتريه بعد ساعة أو ساعتين كذا وكذا من الألم، وإطلاق علم الغيب على ذلك فيه ما فيه، وإن أبيت إلا تسمية ذلك غيبا فالعلم به لكونه بواسطة الأسباب لا يكون من علم الغيب المنفي عن غيره تعالى في شيء وكذا كل علم بخفي حصل بواسطة سبب من الأسباب كعلمنا بالله تعالى وصفاته العلية وعلمنا بالجنة والنار ونحو ذلك، على أنك إذا أنصفت تعلم أن ما عند النجومي ونحوه ليس علما حقيقيا وإنما هو ظن وتخمين مبني على ما هو أوهن من بيت العنكبوت كما سنحقق ذلك بما لا مزيد عليه في محله اللائق به إن شاء الله تعالى.
وأقوى ما عنده معرفة زمني الكسوف والخسوف وأزمنة تحقق النسب المخصوصة بين الكواكب وهي ناشئة من معرفة مقادير الحركات للكواكب والأفلاك الكلية والجزئية وهي أمور محسوسة تدرك بالأرصاد والآلات المعمولة لذلك، وبالجملة علم الغيب بلا واسطة كلا أو بعضا مخصوص بالله جل وعلا لا يعلمه أحد من الخلق أصلا، ومتى اعتبر فيه نفي الواسطة بالكلية تعين أن يكون من مقتضيات الذات فلا يتحقق فيه تفاوت بين غيب وغيب، فلا بأس بحمل أل في الغيب على الجنس، ومتى حملت على الاستغراق فاللائق أن لا يعتبر في الآية سلب العموم بل يعتبر عموم السلب، ويلتزم أن القاعدة أغلبية. وكذا يقال في السلب والعموم في جانب الفاعل فتأمل فهذا ما عندي ولعل ما عندك خير منه والله تعالى أعلم.
وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي متى ينشرون من القبور مع كونه مما لا بد لهم منه، ومن أهم الأمور عندهم- فأيان- اسم استفهام عن الزمان، ولذا قيل: إن أصلها أي آن أي أيّ زمان، وإن كان المعروف خلافه وهي معمولة
223
ليبعثون، والجملة في موضع النصب. بيشعرون. وعلقت يَشْعُرُونَ لمكان الاستفهام، وضمير الجمع للكفرة وإن كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه وبين ما يذكر بعد من الضمائر الخاصة بهم قطعا، وقيل: الكل لمن وإسناد خواص الكفرة إلى الجميع من قبيل بنو فلان فعلوا كذا والفاعل بعض منهم، وفيه بحث.
وقرأ السلمي. «إيان». بكسر الهمزة وهي لغة بني سليم بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره، وأصل ادَّارَكَ تدارك فأدغمت التاء في الدال فسكنت فاجتلبت همزة الوصل وهو من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وهو مراد من فسر التدارك هنا بالاضمحلال والفناء، وإلا فأصل التدارك التتابع والتلاحق مطلقا، وفِي الْآخِرَةِ متعلق بعلمهم. والعلم يتعدى بفي كما يتعدى بالباء، وهي حينئذ بمعنى الباء كما نص عليه الفراء وابن عطية وغيرهما، والمعنى بل تتابع علمهم في شأن الآخرة التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها حتى انقطع وفني ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا مع توفر أسبابه فهو ترق عن وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش، وليس تدارك علمهم بذلك على معنى أنه كان لهم علم به على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا، بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه، وإجراء تساقطها عن درجة اعتبارهم كلما لا حظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع.
وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي ادّارك أسباب علمهم، والتدارك مجاز عما ذكر من التساقط، وقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها إضراب وانتقال عن عدم علمهم بها إلى ما هو أفحش منه على نحو ما مر وهو حيرتهم في ذلك أي بل هم في شك عظيم من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا فضلا عن الأمور التي ستقع فيها، وقوله سبحانه: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ إضراب وانتقال عن وصفهم بكونهم شاكين إلى وصفهم بما هو أفظع منه وهو كونهم عميا قد اختلت بصائرهم بالكلية بحيث لا يكادون يدركون طريق العلم بها وهو الدلائل الدالة على أنها كائنة لا محالة، فالمراد عَمُونَ عن دلائلها أو عمون عن كل ما يوصلهم إلى الحق ويدخل فيه دلائلها دخولا أوليا، ومِنْها متعلق بعمون، قدم عليه رعاية للفواصل، ولعل تعديته بمن دون عن لجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، والكفر بالعاقبة والجزاء يدع الشخص عاكفا على تحصيل مصالح بطنه وفرجه لا يتدبر ولا يتبصر فيما عدا ذلك.
وجوز أن يكون ادَّارَكَ بمعنى استحكم وتكامل ووصفهم باستحكام علمهم بذلك وتكامله من باب التهكم بهم كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك على سبيل الهزء، ومآل التهكم المذكور نفي علمهم بذلك كما في الوجه السابق لكن على الوجه الأبلغ، والإضرابان من باب الترقي من الوصف بالفظيع إلى الوصف بالأفظع نحو ما تقدم وهو وجه حسن، ويشعر كلام بعض المحققين بترجيحه على ما ذكرنا أولا.
وجوز أيضا أن يكون المراد بالإدراك الاستحكام لكن على معنى استحكم أسباب علمهم بأن القيامة كائنة لا محالة من الآيات القاطعة والحجج الساطعة وتمكنوا من المعرفة فضل تمكن وهم جاهلون في ذلك، وفيه أن دلالة النظم الكريم على إرادة وهم جاهلون ليست بواضحة.
وقال الكرماني: التدارك التتابع، والمراد بالعلم هنا الحكم والقول والمعنى بل تتابع منهم القول والحكم في الآخرة وكثر منهم الخوض فيها، فنفاهم بعضهم. وشك فيها بعضهم واستبعدها بعضهم وفيه ما فيه.
وقيل: إن في الآخرة متعلق. بادّارك. وإليه ذهب الزجاج والطبرسي، واقتضته بعض الآثار المروية عن ابن عباس
224
رضي الله تعالى عنهما، والمعنى على هذا عند بعضهم بل استحكم في الآخرة علمهم بما جهلوه في الدنيا حيث رأوا ذلك عيانا، وكان الظاهر يدّارك بصيغة الاستقبال إلا أنه عبر بصيغة الماضي لتحقق الوقوع.
وقيل: التدارك عليه من تداركت أمر فلان إذا تلافيته، ومفعوله هنا محذوف أي بل تدارك في الآخرة علمهم ما جهلوه في الدنيا أي تلافاه، وحاصل المعنى بل علموا ذلك في الآخرة حين لم ينفعهم العلم، والتعبير بصيغة الماضي على ما علمت، ولا يخفى أن في وجه ترتيب الإضرابات الثلاث حسب ما في النظم الكريم على هذين الوجهين خفاء فتدبر.
وقرأ أبيّ أم «تدارك». على الأصل وجعل أم بدل بَلِ، وقرأ سليمان بن يسار بل أدرك بنقل حركة الهمزة إلى اللام وشد الدال بناء على وزنه افتعل، فأدغم الدال وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالا فصار فيه قلب الثاني للأول كما في قولهم: اثرد وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل، وقرأ أبو رجاء والأعرج وشيبة وطلحة وتوبة العنبري كذلك إلا أنهم كسروا لام «بل»، وروى ذلك عن ابن عياش وعاصم والأعمش.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل مكة. «بل أدرك». على وزن أفعل بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر عن عاصم، وقرأ عبد الله في رواية وابن عباس في رواية أبي حيوة وغيره عنه والحسن وقتادة وابن محيصن. «بل آدّرك».
بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك فقلبت الثانية ألفا تخفيفا كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو بكر بن أبي العلاء هذه الرواية، وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد «بل» لأن بل للإيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى لم يكن كما في قوله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: ١٩]، أي لم يشهدوا خلقهم فلا يصح وقوعهما معا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار اهـ.
وقد أجاز بعض المتأخرين، كما قال أبو حيان، الاستفهام بعد بَلِ وشبهه بقول القائل: أخبزا أكلت، بل أماء شربت على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني، وقرأ مجاهد «أم أدرك» جعل أم بدل بَلِ وأدرك على وزن أفعل، وقرأ ابن عباس في رواية أيضا «بل أدارك» بهمزة داخلة على ادَّارَكَ فتسقط همزة الوصل المجتلبة لأجل الإدغام والنطق بالساكن، وقرأ ابن مسعود أيضا بل أأدرك بهمزتين همزة الاستفهام وهمزة أفعل، وقرأ الحسن أيضا والأعرج. «بل أدرك». بهمزة، وادغام فاء الكلمة وهي الدال في فاء افتعل بعد صيرورة التاء دالا، وقرأ ورش في رواية. «بل ادّرك».
بحذف همزة أدرك، ونقل حركتها إلى اللام، وقرأ ابن عباس أيضا. «بلى أدرك». بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي، وقرأ. «بل آإدّارك». بألف بين الهمزتين، فهذه عدة قراءات فما فيه منها استفهام صريح أو مضمن فهو إنكار ونفي، وما فيه بلى فقد قال فيه أبو حاتم: إن كان يلي جوابا لكلام تقدم جاز أن يستأنف بعده كأن قوما أنكروا ما تقدم من القدرة فقيل لهم: بلى إيجابا لما نفوا، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بمعنى أم هم في شك منها لأن حروف العطف قد تتناوب، وكف عن الجملتين بقوله تعالى: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ اهـ، يعني أن المعنى أأدرك علمهم بالآخرة أم شكوا؟ فبل بمعنى أم عودل بها الهمزة، وتعقبه في البحر بأن جعل بل بمعنى أم ومعادلتها لهمزة الاستفهام ضعيف جدا، وقال بعض المحققين: ما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إلخ له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إلخ إضراب عن التفسير مبالغة في النفي ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل إنهم منها عمون فهو على منوال:
225
تحية بينهم ضرب وجيع أو رد وإنكار لشعورهم على أن الإضراب إبطالي فافهم، وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ كالبيان لجهلهم بالآخرة وعما هم منها ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز صلته والإشعار بعلة حكمهم الباطل الذي تضمنه مقول القول، وإذا. ظرف لمحذوف دل عليه مخرجون. أي أنخرج إذا كنا ترابا ولا مساغ لأن يكون ظرفا لَمُخْرَجُونَ لأن كلا من الهمزة وإن واللام على ما قيل: مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها فكيف بها إذا اجتمعت، ولم يعتبر بعضهم اللام مانعة بناء على ما قرر في النحو من جواز تقدم معمول خبر إن المقرون باللام عليه نحو إن زيدا طعامك لآكل، ويكفي حينئذ مانعان وأظن أن من قال: يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها لا يقول باطراد الحكم في مثل هذا الموضع ومرادهم بالإخراج الإخراج من القبور، وجوز أن يكون الإخراج من حال الفناء إلى الحياة، والأول هو الظاهر، وتقييد الإخراج بوقت كونهم ترابا ليس لتخصيص الإنكار بالإخراج حينئذ فقط فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت مطلقا وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار بتوجيهه إلى الإخراج في حالة منافية له بزعمهم، وقوله سبحانه: وَآباؤُنا عطف على اسم كان واستغنى بالفصل بالخبر عن الفصل بالتأكيد، وتكرير الهمزة في أإنا. للمبالغة والتشديد في الإنكار، وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم، فإن تقديم الهمزة لأصالتها في الصدارة، والضمير في. أإنا. لهم ولآبائهم لأن الكون ترابا قد تناولهم وآباءهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو. أئذا. وأ إنا. بالجمع بين الاستفهامين، وقلب الثانية ياء وفصل بينهما بألف أبو عمرو.
وقرأ نافع «إذا» بهمزة واحدة مكسورة فهمزة الاستفهام مقدرة مع الفعل المقدر لأن المعنى ليس على الخبر، وآينا، بهمزة الاستفهام وقلب الثانية ياء وبينهما مدة، وقرأ آخرون أئذا. باستفهام ممدود أننا بنونين من غير استفهام لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي الإخراج المذكور نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي من قبل وعد محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتقديم الموعد على نَحْنُ هنا للدلالة على أنه هو الذي تعمد بالكلام وقصد به حتى كأن ما سواه مطرح وعلاوة له كما ينبىء عن ذلك ذكر ما صدر منهم أنفسهم مؤكدا مقررا مكررا وتأخيره عنه في آية سورة المؤمنين لرعاية الأصل، ولا مقتضى للعدول إذ لم يذكر هناك سوى أتباعهم أسلافهم في الكفر وإنكار البعث من غير نعي ذلك عليهم، والجملة استئناف مسوق لتقرير الإنكار وتصديرها بالقسم لمزيد التأكيد، وقوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ تقرير إثر تقرير.
226
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ بسبب تكذيبهم الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله عز وجل وحده وباليوم الآخر الذي تنكرونه فإن في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولي الأبصار، وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين الأعم منه بحسب المفهوم لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم لما فيه من إرشادهم إلى أن الجرم مطلقا مبغوض لله عز وجل وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لإصرارهم على الكفر والتكذيب وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ أي في حرج صدر مِمَّا يَمْكُرُونَ أي من مكرهم فإن الله تعالى يعصمك من الناس.
وقرأ ابن كثير «ضيق» بكسر الضاد وهو مصدر أيضا، وجوز أن يكون مفتوح الضاد مخففا من ضيق، وقد قرىء كذلك أي لا تكن في أمر ضيق، وكره أبو علي كون ذلك مخففا مما ذكر لأنه يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وليس من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد، وفيه بحث.
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي العذاب العاجل الموعود، وكأنهم فهموا وعدهم بالعذاب من الأمر بالسير والنظر في عاقبة أمثالهم المكذبين، ويعلم منه وجه للتعبير- بيقولون- وعدم إجرائه على سنن ما قبله أعني وقال الذين كفروا وسؤالهم عن وقت إتيان هذا العذاب على سبيل الاستهزاء والإنكار، ولذا قالوا:
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ عانين إن كنتم صادقين في إخباركم بإتيانه فبينوا لنا وقته، والجمع باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أصل معنى رَدِفَ تبع والمراد به هنا لحق، ووصل وهو مما يتعدى بنفسه وباللام كنصح.
وقيل: اللام مزيدة لتأكيد وصول الفعل إلى المفعول به كما زيدت الباء لذلك في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥]، وقيل: إن اللام لتضمين رَدِفَ معنى دنا وهو يتعدى باللام كما يتعدى بمن وإلى كما في الأساس ولتضمينه ذلك عدي بمن في قوله:
فلما ردفنا من عمير وصحبه تولوا سراعا والمنية تعنق
وقيل: اللام داخلة على المفعول لأجله والمفعول به الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه محذوف أي رَدِفَ الخلق لأجلكم ولا يخفى ضعفه، وقيل: إن الكلام تم عند رَدِفَ على أن فاعله ضمير يعود على الوعد، ثم استأنف بقوله تعالى: لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ على أن بَعْضُ مبتدأ، ولَكُمْ متعلق بمحذوف وقع خبرا له، ولا يخفى ما فيه من التفكيك للكلام والخروج عن الظاهر لغير داع لفظي ولا معنوي، والمعنى قل عسى أن يكون لحقكم ووصل إليكم بعض الذي تستعجلون حلوله وتطلبونه وقتا فوقتا، والمراد بهذا البعض عذاب يوم بدر، وقيل: عذاب القبر وليس بذاك، ونسبة استعجال ذلك إليهم بناء على ما يقتضيه ما هم عليه من التكذيب والاستهزاء وإلا فلا استعجال منهم حقيقة، والترجي المفهوم من عسى قيل: راجع إلى العباد.
وقال الزمخشري: إن عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجده وما لا مجال
227
للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله تعالى ووعيده سبحانه انتهى.
وعليه ففي الكلام استعارة تمثيلية ولا يخفى حسن ذلك، وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال: عسى أن يردفكم إلخ لكونه أدل على تحقق الوعد، وقرأ ابن هرمز «ردف» بفتح الدال وهو لغة فيه.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي لذو إفضال وإنعام كثير على كافة الناس، ومن جملة إفضاله عز وجل وإنعامه تعالى تأخير عقوبة هؤلاء على ما يرتكبونه من المعاصي وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي لا يشكرونه جل وعلا على إفضاله سبحانه عليهم ومنهم هؤلاء، وقيل: لا يعرفون حق فضله تعالى عليهم تعبيرا عن انتفاء معرفتهم ذلك بانتفاء ما يترتب عليها من الشكر وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي ما تخفيه من الأسرار التي من جملتها عداوتك وَما يُعْلِنُونَ أي وما يظهرونه من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما حكي عنهم فليس تأخير عقوبتهم لخفاء حالهم عليه سبحانه، أو فيجازيهم على ذلك، وفعل القلب إذا كان مثل الحب والبغض والتصديق والتكذيب والعزم المصمم على طاعة أو معصية فهو مما يجازى عليه، وفي الآية إيذان بأن لهم قبائح غير ما حكي عنهم، وتقديم الاكتنان ليظهر المراد من استواء الخفي والظاهر في علمه جل وعلا، أو لأن مضمرات الصدور سبب لما يظهر على الجوارح، وإلى الرمز إلى فساد صدورهم التي هي المبدأ لسائر أفعالهم أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال: وإن ربك ليعلم ما يكنون وما يعلنون.
وقرأ ابن محيصن وحميد وابن السميفع «تكنّ» بفتح التاء وضم الكاف من كن الشيء ستره وأخفاه.
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي من شيء خفي ثابت الخفاء فيهما على أن غائِبَةٍ صفة غلبت في هذا المعنى فكثر عدم إجرائها على الموصوف ودلالتها على الثبوت وإن لم تنقل إلى الاسمية كمؤمن وكافر، فتاؤها ليست للتأنيث إذ لم يلاحظ لها موصوف تجري عليه كالراوية للرجل الكثير الرواية فهي تاء مبالغة، ويجوز أن تكون صفة منقولة إلى الاسمية سمي بها ما يغيب ويخفى، والتاء فيها للنقل كما في الفاتحة، والفرق بين المغلب والمنقول- على ما قال الخفاجي- ان الأول يجوز إجراؤه على موصوف مذكر بخلاف الثاني.
والظاهر عموم الغائبة أي ما من غائبة كائنة ما كانت إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي بين، أو مبين لما فيه لمن يطالعه وينظر فيه من الملائكة عليهم السلام وهو اللوح المحفوظ، واشتماله على ذلك إن كان متناهيا لا إشكال فيه وإن كان غير متناه ففيه إشكال ظاهر ضرورة قيام الدليل على تناهي الأبعاد واستحالة وجود ما لا يتناهى، ولعل وجود الأشياء الغير المتناهية في علم الله تعالى في اللوح المحفوظ على نحو ما يزعمونه من وجود الحوادث في الجفر الجامع وإن لم يكن ذلك حذو القذة بالقذة.
وقيل: المراد بالكتاب المبين علمه تعالى الأزلي الذي هو مبدأ لإظهار الأشياء بالإرادة والقدرة، وقيل: حكمه سبحانه الأزلي وإطلاق الكتاب على ما ذكر من باب الاستعارة ولا يخفى ما في ذلك.
وقيل: المراد به القرآن واشتماله على كل غائبة على نحو ما ذكرنا في اشتمال اللوح المحفوظ عليه، وقد ذكر أن بعض العارفين استخرج من الفاتحة أسماء السلاطين العثمانية ومدد سلطنتهم إلى آخر من يتسلطن منهم أدام الله تعالى ملكهم إلى يوم الدين ووفقهم لما فيه صلاح المسلمين.
228
وذكر بعضهم في هذا الوجه أنه مناسب لما بعد من وصف القرآن وفيه ما فيه، وقال الحسن: الغائبة هو يوم القيامة وأهوالها، وقال صاحب الغنيان: الحوادث والنوازل، وقيل: أعمال العباد، وقيل: ما غاب من عذاب السماء والأرض، والعموم أولى، وروي ذلك عن ابن عباس، فقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية يقول سبحانه: ما من شيء في السماء والأرض سرا وعلانية إلا يعلمه سبحانه وتعالى، وأخذ منه بعضهم حمل الكتاب على العلم الأزلي، وفيه نظر لجواز أن يكون قد جعل كون ذلك في كتاب مبين كناية عن علمه تعالى به.
وذهب أبو حيان إلى أنه رضي الله تعالى عنه اعتبر في الآية حذف أحد المتقابلين اكتفاء بالآخر وكلامه رضي الله تعالى عنه محتمل لذلك، ويحتمل أنه ذكر العلانية في بيان المعنى لأن من علم السر علم العلانية من باب أولى، ويحتمل أن ذلك لأنه ما من علانية إلا وهي غيب بالنسبة إلى بعض الأشخاص، فيكون قد أشار رضي الله تعالى عنه ببيان المعنى وذكر السر والعلانية فيه إلى أن المراد- بغائبة- في الآية ما يشملهما وهو ما اتصف بالغيبة أعم من أن تكون مطلقة أو إضافية كذا قيل فتدبر.
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ لما ذكر سبحانه ما يتعلق بالمبدأ والمعاد ذكر تعالى ما يتعلق بالنبوة فإن القرآن أعظم ما تثبت به نبوة نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم فذكر جل وعلا أنه يقص على بني إسرائيل، والمراد بهم- كما روي عن قتادة- اليهود والنصارى أكثر ما تجدد واستمر اختلافهم فيه على وجهه ويبين لهم حقيقة الأمر فيه وذلك مما يقتضي إسلامهم لو تأملوا وأنصفوا لكنهم لم يفعلوا وكابروا مثلكم أيها المشركون، ومما اختلفوا فيه أمر المسيح عليه السلام، فمن قائل: هو الله تعالى، ومن قائل: ابن الله سبحانه، ومن قائل: ثالث ثلاثة، ومن قائل: هو نبي كغيره من الأنبياء عليهم السلام، ومن قائل: هو- وحاشاه- كاذب في دعواه النبوة وينسب مريم فيه إلى ما هي منزهة عنه رضي الله تعالى عنها وهم اليهود الذين كذبوه، وأمر النبي المبشر به في التوراة، فمن قائل: هو يوشع عليه السلام، ومن قائل: هو عيسى عليه السلام، ومن قائل: إنه لم يأت إلى الآن وسيأتي آخر الزمان ومما اختلفوا فيه أمر الخنزير فقالت اليهود: بحرمة أكله، وقالت النصارى: بحله إلى غير ذلك.
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ على الإطلاق فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولا أوليا، وتخصيص المؤمنين بهم كما فعل بعضهم خلاف الظاهر، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أنه رحمة للعالمين لأنهم المنتفعون به إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين بني إسرائيل الذين اختلفوا أو بين المؤمنين وبين الناس بِحُكْمِهِ قيل: أي بحكمته جل شأنه، ويدل عليه قراءة جناح بن حبيش بحكمه- بكسر الحاء وفتح الكاف- جمع حكمة مضاف إلى ضميره تعالى، وقيل: المراد بالحكم المحكوم به إطلاقا للمصدر على اسم المفعول، والمراد بالمحكوم به الحق والعدل، وعلى الوجهين لم يبق على المعنى المصدري، والداعي لذلك أن- يقضي- بمعنى يحكم فلو بقي الحكم على المعنى المصدري لصار الكلام نحو قولك: زيد يضرب بضربه وهو لا يقال مثله في كلام عربي، وأورد عليه أنه يصح أن يقال ذلك على معنى يضرب بضربه المعروف بالشدة مثلا، فالمعنى هنا يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق، أو يحكم بحكم نفسه تعالى لا بحكم غيره عز شأنه كالبشر، وقيل عليه: ليس المانع لصحة مثل هذا القول إضافة المصدر إلى ضمير الفاعل فإنه لا كلام في صحته كإضافته إلى ضمير المفعول في- سعى لها سعيها- إنما المانع دخول الباء على المصدر المؤكد، ثم إن المعنى الأول يوهم أن له سبحانه حكما غير معروف بملابسة الحق، والثاني إنما يظهر لو قدم بحكمه، وفيه أنه على ما ذكر ليس بمصدر مؤكد، وعدم الجواز في المصدر النوعي لا سيما إذا كان من غير لفظه ليس بمسلم، وأيضا الظاهر أن المانع بزعم المؤول لزوم اللغوية لو لم يؤول بما ذكر، والأولى إبقاؤه
229
على المصدرية، وجل الإضافة للعهد، وكون المعنى كما قال المورد: يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق وأمر التوهم على طرف الثمام وأيا ما كان فالضمير المجرور عائد على الرب سبحانه وعوده على القرآن على أن المعنى يحكم بالحكم الذي تضمنه القرآن واشتمل عليه من إثابة المحق وتعذيب المبطل وحينئذ لا يحتاج إلى كثرة القيل والقال لا يخفى ما فيه من القيل والقال على من له أدنى تمييز بأساليب المقال وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يرد حكمه سبحانه وقضاؤه جل جلاله الْعَلِيمُ بجميع الأشياء التي من جملتها ما يقضي به، والفاء في قوله تعالى: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لترتيب الأمر على ما ذكر من شؤونه عز وجل فإنها موجبة للتوكل عليه تعالى وداعية إلى الأمر به وفي ذكره تعالى بالاسم الجامع تأييد لذلك أي فتوكل على الله الذي هذا شأنه فإنه يوجب على كل أحد أن يتوكل عليه ويفوض جميع أموره إليه جل وعلا، وقوله تعالى:
إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ تعليل صريح للتوكل عليه تعالى بكونه عليه الصلاة والسلام على الحق البين، أو الفاصل بينه وبين الباطل. أو بين المحق والمبطل فإن كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم كذلك مما يوجب الوثوق بحفظه تعالى ونصرته وتأييده لا محالة، وقوله سبحانه: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى إلخ تعليل آخر للتوكل الذي هو عبارة عن التبتل إلى الله تعالى وتفويض الأمر إليه سبحانه والإعراض عن التشبث بما سواه وقد علل أولا بما يوجبه من جهته تعالى أعني قضاءه عز وجل بالحق وعزته وعلمه تبارك وتعالى، وثانيا بما يوجبه من جهته عليه الصلاة والسلام على أحد الوجهين أعني كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم على الحق ومن جهته تعالى على الوجه الآخر أعني إعانته تعالى وتأييده تعالى للمحق، ثم علل ثالثا بما يوجبه لكن لا بالذات بل بواسطة إيجابه للإعراض عن التشبث بما سواه تعالى، فإن كونهم كالموتى والصم والعمي موجب لقطع الطمع عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسا، وداع إلى تخصيص الاعتضاد به تعالى، وهو المعني بالتوكل عليه جل شأنه، وجوز أن يكون قوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ إلخ استئنافا بيانيا وقع جوابا لسؤال نشأ مما قبله، أعني إنك على الحق المبين كأنه قيل: ما بالهم غير مؤمنين بمن هو على الحق المبين فقيل: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى إلخ.
وتعقب بأنه يأباه السياق، واعترض بالمنع وإنما شبهوا بالموتى على ما قيل لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم من القوارع، وإطلاق الأسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات، وقيل: لعل المراد تشبيه قلوبهم بالموتى فيما ذكر من عدم الشعور فإن القلب مشعر من المشاعر أشير إلى بطلانه بالمرة، ثم بين بطلان مشعري الأذن والعين كما في قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها [الأعراف: ١٧٩]، وإلا فبعد تشبيه أنفسهم بالموتى لا يظهر لتشبيههم بالصم والعمي مزيد مزية وكأنه لهذا قال في البحر: أي موتى القلوب، أو شبهوا بالموتى لأنهم لا ينتفعون بما يتلى عليهم فقدم احتمال نسبة الموت إلى قلوبهم.
وتعقب بأن ما ذكر تخيل بارد لأن القلب يوصف بالفقه والفهم لا السمع، وما ذكر أولا من أنهم أنفسهم شبهوا بالموتى هو الظاهر، ووجهه أنه على طريق التسليم والنظر لأحوالهم كأنه قيل: كيف تسمعهم الإرشاد إلى طريق الحق وهم موتى وهذا بالنظر لأول الدعوة ولو أحييناهم لم يفد أيضا لأنهم صم، وقد ولوا مدبرين وهذا بالنظر لحالهم بعد التبليغ البليغ ونفرتهم عنه، ثم إنا لو أسمعناهم أيضا فهم عمي لا يهتدون إلى العمل بما يسمعون، وهذا خاتمة أمرهم، ويعلم من هذا ما في ذلك من مزيد المزية الخالية عن التكلف.
وجوز أن يكون التشبيه لطوائف على مراتبهم في الضلال، فمنهم من هو كالميت ومن هو كالأصم ومن هو كالأعمى، وهو وإن كان وجها خفيف المئونة إلا أنه خلاف الظاهر أيضا وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ أي الدعوة إلى
230
أمر من الأمور، وتقييد النفي بقوله تعالى: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ لتتميم وتأكيد النفي فإنهم مع صممهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي مولون على أدبارهم، ولا ريب في أن الأصم لا يسمع الدعاء مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريبا منه، فكيف إذا كان خلفه بعيدا منه، ومثله في التتميم قول امرئ القيس:
حملت ردينيا كأن سنانه سنا لهب لم يتصل بدخان
وقرأ ابن كثير- لا يسمع الصم الدعاء- بالياء التحتانية وفتح الميم ورفع الضم وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي وما أنت بصارف العمي عن ضلالتهم هاديا لهم هداية موصلة إلى المطلوب لفقد الشرط العادي للاهتداء وهو البصر، وعَنْ متعلقة بالهداية باعتبار تضمنها معنى الصرف كما أشرنا إليه، وجوز أبو البقاء أن تعلق بالعمى ويكون المعنى أن العمى صدر عن ضلالتهم وفيه بعد، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية.
وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة- «بهاد» - بالتنوين «العمي» بالنصب، وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وابن يعمر وحمزة- «تهدي» - مضارع هدى «العمي» بالنصب، وقرأ ابن مسعود- وما أن تهتدي- بزيادة أن بعد ما كما في قول امرئ القيس:
حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا فما إن من حديث ولا صال
و «تهتدي» - مضارع اهتدى، و «العمي» بالرفع إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع إسماعا يجدي السامع نفعا.
إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي من شأنهم الإيمان بها وهم الذين ليسوا موتى ولا صما ولا عميا.
وقال بعض الأجلة: أي إلا من هو في علم الله تعالى كذلك، واعترض بأن صيغة الاستقبال وإن صحت باعتبار تعلق العلم فيما لا يزال إلا أن المناسب صيغة المضي، واختار المعترض أن المعنى إلا الذين يصدقون أن القرآن كلام الله تعالى إذ حينئذ تثبت نبوته صلّى الله عليه وسلّم فيقبل قوله ويجدي إسماعه نفعا، وتعقب بأنه ينتقض الحصر بالمصدقين في الاستقبال إن كانت الصيغة للحال وبالمصدقين في الحال إن كانت للاستقبال، وإذا دفع لزوم الانتقاض بجعلها لهما لزم استعمال المشترك في معنييه معا أو الجمع بين الحقيقة والمجاز، وأجيب بأن المراد الحال ويدخل غيره فيه بدلالة النص من غير تكليف.
وقال بعض المحققين: قد يراد بالمضارع الاستقبال الشامل لجميع الأزمنة فإن الاستقبال كما يكون بالنظر لزمان الحكم والتكلم على ما حقق في الأصول يجوز أن يكون بالنظر إلى علم القائل أيضا فيشمل من يؤمن هنا من آمن حالا كما يشمل من يؤمن استقبالا فلا غبار في المعنى الذي اختاره ذلك المعترض من هذه الحيثية، نعم قيل: إن فيه شبه تحصيل الحاصل لأن التصديق بالقرآن هو استماعه النافع، ولعل من عدل عنه إنما عدل لذلك، ولم يعبأ بالمغايرة بين ذينك الأمرين الظاهرة بعد النظر الصحيح، والحق أن ما ذكر من شبه تحصيل الحاصل على طرف الثمام لظهور الفرق بين الاسماع المراد في الآية والتصديق بأن القرآن كلام الله تعالى كما لا يخفى، وجوز أن يزاد بالآيات المعجزات التي أظهرها الله تعالى على يده عليه الصلاة والسلام الشاملة للآيات التنزيلية والتكوينية وأن يراد بها الآيات التكوينية فقط، والإيمان بها التصديق بكونها آيات الله تعالى وليست من السحر وإذا أريد بالإسماع النافع على هذا إسماع الآيات التنزيلية ليؤتى بما تضمنته من الاعتقادات والأعمال كان الكلام أبعد وأبعد من أن يكون فيه شبه تحصيل الحاصل إلا أن ذلك لا يخلو عن شيء، وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الاسماع في النفي والإثبات دون الهداية مع قربها بأن يقال: إن تهدي إلا من يؤمن إلخ لما أن طريق الهداية هو إسماع الآيات التنزيلية فافهم، وقوله تعالى: فَهُمْ مُسْلِمُونَ قيل: تعليل لإيمانهم بها كأنه قيل: فإنهم منقادون للحق في كل وقت.
231
وقيل: مخلصون لله تعالى من قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة: ١١٢]، وقيل: هو تعليل لما يدل عليه الكلام من أنهم يسمعون إسماعا نافعا لهم، وفي توحيد الضمير تارة. وجمعه أخرى رعاية للفظ من ومعناها.
واستدل بقوله سبحانه: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى على أن الميت لا يسمع كلام الناس مطلقا، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في ذلك في سورة الروم على أتم وجه وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بيان لما أشير إليه بقوله تعالى: بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ من بقية ما يستعجلونه من الساعة ومباديها، والمراد بالقول ما نطق من الآيات الكريمة بمجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها وبوقوعه قيامها وحصولها عبر عن ذلك به للإيذان بشدة وقعها وتأثيرها، وإسناده إلى القول لما أن المراد بيان وقوعها من حيث إنها مصداق للقول الناطق بمجيئها، وقد أريد بالوقوع دنوه واقترابه كما في قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: ١] ففيه مجاز المشارفة أي إذا دنا وقوع مدلول القول المذكور الذي لا يكادون يسمعونه ومصداقه.
أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ وذلك على ما أخرج ابن مردويه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا، وهو.
وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفا «حين يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: «أكثروا الطواف بالبيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع، قيل: وكيف يرفع ما في صدور الرجال؟ قال: يسرى عليهم ليلا فيصبحون منه فقراء وينسون قول لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم فذلك حين يقع القول عليهم»، وهذا ظاهر في أن خروج الدابة حين لا يبقى في الأرض خير، ويقتضي ذلك أن يكون بعد موت عيسى والمهدي وأتباعهما عليهم السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى من الأخبار ما هو ناطق بأنها تخرج وعيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون.
وأخرج نعيم بن حماد عن وهب بن منبه قال: أول الآيات الروم والثانية الدجال والثالثة يأجوح ومأجوج والرابعة عيسى والخامسة الدخان والسادسة الدابة، وصوب السفاريني أنها قبل الدخان، والحق أنها تخرج وفي الناس مؤمن وكافر، فالظاهر أن الخبر المذكور عن ابن مسعود غير صحيح، ويدل على ما ذكرنا من الحق ما
أخرج أحمد والطيالسي ونعيم بن حماد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام فتجلو (١) وجه المؤمن بالخاتم وتحطم أنف الكافر بالعصا حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر»
وقد اختلفت الروايات فيها اختلافا كثيرا، فحكى أبو حيان في البحر والدميري في حياة الحيوان رواية أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مبثوث نوعها في الأرض فليست دابة واحدة وعليه يراد بدابة الجنس الصادق بالمتعدد، وأكثر الروايات أنها دابة واحدة وهو الصحيح، فالتعبير عنها باسم الجنس وتأكيد إبهامه بالتنوين الدال على التفخيم من الدلالة على غرابة شأنها وخروج أوصافها عن طور البيان ما لا يخفى، وعلى كونها واحدة اختلف فيها أيضا فقيل: هي من الإنس واستؤنس له بما
روى محمد بن كعب القرظي قال: سئل عليّ كرّم الله تعالى وجهه عن الدابة فقال: أما والله إنها ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية
، وفي الميزان للذهبي عن جابر الجعفي-
(١) قوله: فتجلو إلخ قال الطيبي: أهل الحديث يروونه بالحاء المهملة وفتح اللام والهمز من حلأت الأديم إذا قشرته، وفي الكشاف، وكذا في المطلع بالجيم من جلوت السيف إذا صقلته اهـ منه. [.....]
232
وهو كذاب- قال أبو حنيفة: ما لقيت أكذب منه أنه كان يقول: هي من الإنس وأنها عليّ نفسه كرّم الله تعالى وجهه وعلى ذلك جمع من إخوانه الشيعة ولهم في ذلك روايات: منها ما
رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان آية في كتاب الله تعالى أفسدت قلبي، قال عمار: وأية آية هي؟! فقال: قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ الآية فأية دابة هذه؟ قال عمار: والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين علي كرّم الله تعالى وجهه وهو يأكل تمرا وزبدا فقال: يا أبا اليقظان هلم فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل: سبحان الله حلفت أنك لا تجلس ولا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها قال عمار: قد أريتكها إن كنت تعقل، وروى العياشي هذه القصة بعينها عن أبي ذر
أيضا وكل ما يروونه في ذلك كذب صريح، وفيه القول بالرجعة التي لا ينتهض لهم عليها دليل.
وفي بعض الآثار ما يعارض ما ذكر،
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن النزال بن سبرة قال: قيل لعلي كرّم الله تعالى وجهه: إن ناسا يزعمون أنك دابة الأرض، فقال: والله إن لدابة الأرض لريشا وزغبا وما لي ريش ولا زغب وإن لها لحافرا وما لي من حافر وإنها لتخرج من حفر الفرس الجواد ثلاثا
وما خرج ثلثها، والمشهور- وهو الحق- أنها دابة ليست من نوع الإنسان، فقيل: هي الثعبان الذي كان في جوف الكعبة واختطفته العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام فمنعهم وأن العقاب التي اختطفته ألقته بالحجون فالتقمته الأرض، وذكر ذلك الدميري عن ابن عباس، والأكثرون على أنها غيرها.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هرة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا- زاد ابن جرير- بذراع آدم عليه السلام.
ونقل السفاريني عن كعب أنه قال: صوتها صوت حمار، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال: الدابة مؤلفة ذات زغب وريش فيها من ألوان الدواب كلها وفيها من كل أمة سيما وسيماها من هذه الأمة أنها تتكلم بلسان عربي مبين، وعن أبي هريرة أنه قال: فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للراكب، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن لها عنقا مشرفا يراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب ولها وجه كوجه الإنسان ومنقار كمنقار الطير ذات وبر وزغب، وعن وهب وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير، وصرح في بعض الروايات بأن لها جناحين، وذكر بعضهم أن طولها ستون ذراعا، واختلف في محل خروجها فقيل: المسجد الحرام لما
أخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان قال: «ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدابة فقال حذيفة: يا رسول الله من أين تخرج؟ قال: من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض من تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسجد فتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمن وكافر: أما المؤمن فيرى وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب كافر».
وأخرج ابن أبي شيبة والخطيب في تالي التلخيص عن ابن عمر قال: تخرج الدابة من جبل جياد في أيام التشريق والناس بمنى
وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تخرج دابة الأرض من جياد فيبلغ صدرها الركن ولم يخرج ذنبها بعد وهي دابة ذات وبر وقوائم»
233
وأخرج البخاري في تاريخه وابن ماجة وابن مردويه عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: «ذهب بي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى موضع بالبادية قريب من مكة فإذا أرض يابسة حولها رمل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تخرج الدابة من هذا الموضع فإذا شبر في شبر».
وجاء في بعض الروايات أنها تخرج من أقصى البادية
وفي بعض من مدينة قوم لوط
وفي بعض أن لها ثلاث خرجات في الدهر: تخرج في أول خرجة في أقصى اليمن منتشرا ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة، ثم تخرج خرجة أخرى فيعلو ذكرها في البادية ويدخل القرية، ثم بينما الناس في أعظم المساجد حرمة لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد من الركن الأسود وباب بني مخزوم فيرفضّ الناس عنها شتى وتثبت عصابة من المسلمين عرفوا أنهم لن يعجزوا الله تعالى فتنفض عن رأسها التراب فتجلو عن وجوههم حتى كأنهم الكواكب الدرية
، واختلف أيضا في أنها هل تخلق يوم تخرج أو هي مخلوقة الآن؟ فقيل: إنها تخلق يوم تخرج، وقيل: إنها مخلوقة الآن لكن لم تؤمر بالخروج.
واستدل بما روي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه، وعليه من يقول: إنها الثعبان، ومن يقول: إنها الجساسة التي تتجسس الأخبار للدجال كما هو المروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وزعم بعضهم أنها مخلوقة في عهد الأنبياء المتقدمين عليهم السلام،
فقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن «أن موسى عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الدابة فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء لا يرى واحد من طرفيها فرأى عليه السلام منظرا فظيعا فقال: يا رب ردها فردها
وجاء في حديث أخرجه نعيم بن حماد في الفتن والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود أنها إذا خرجت تقتل إبليس عليه اللعنة- وهو ساجد- وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها
وتحقق هلاكه عنده، والأخبار في هذه الدابة كثيرة.
وفي البحر أنهم اختلفوا- في ماهيتها وشكلها ومحل خروجها وعدد خروجها ومقدار ما يخرج منها وما تفعل بالناس وما الذي تخرج به- اختلافا مضطربا معارضا بعضه بعضا فاطرحنا ذكره لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح وتضييع لزمان نقله اه، وهو كلام حق وأنا إنما نقلت بعض ذلك دفعا لشهوة من يحب الاطلاع على شيء من أخبارها صدقا كان أو كذبا، وقد تصدى السفاريني في كتابه البحور الزاخرة للجمع بين بعض هذه الأخبار المتعارضة ولا أظنه أتى بشيء.
ثم إن الأخبار المذكورة أقربها للقبول الخبر الذي حسنه الترمذي، ومن الأخبار في هذا الباب ما صححه الحاكم وتصحيحه محكوم عليه بين المحدثين بعدم الاعتبار، وقصارى ما أقول في هذه الدابة أنها دابة عظيمة ذات قوائم ليست من نوع الإنسان أصلا يخرجها الله تعالى آخر الزمان من الأرض، وفي تقييد إخراجها بقوله سبحانه: مِنَ الْأَرْضِ نوع إشارة على ما قيل: إلى أن خلقها ليس بطريق التوالد بل هو بطريق التولد نحو خلق الحشرات.
وقيل: إنه للإشارة إلى تكونها في جوف الأرض فيكون في إخراجها من الأرض رمز إلى ما يكون في الساعة التي أخرجت هي بين يديها من تشقق الأرض وخروج الناس من جوفها أحياء كاملة خلقتهم، وفي هذا وما قبله ذهاب إلى تعلق مِنَ الْأَرْضِ ب أَخْرَجْنا وهو الظاهر الذي ينبغي أن يعول عليه دون كونه متعلقا بمحذوف وقع صفة لدابة أي دابة كائنة من الأرض.
تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي تكلمهم بأنهم كانوا لا يتيقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآيات، وقيل: بآياته التي من جملتها خروجها بين يدي الساعة وليس بذاك، وإضافة الآيات إلى نون العظمة لأنها حكاية منه تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها.
234
وقيل: لأنها حكاية منها لقول الله عز وجل وقيل: لاختصاصها به تعالى وأثرتها عنده سبحانه كما يقول بعض خواص الملك خيلنا وبلادنا، وإنما الخيل والبلاد لمولاه، وقيل: هناك مضاف محذوف أي بآيات ربنا.
والظاهر أن ضمير الجمع في تكلمهم للكفرة المنكرين للبعث مطلقا لا للكفرة المحدث عنهم فيما سبق بخصوصهم ضرورة أنهم ليسوا موجودين عند إخراج الدابة لتكلمهم، وتكليمها إياهم- وهم موتى- بعيد أو غير معقول، والرجعة التي يعتقدها الشيعة لا نعتقدها، والآية الآتية لا تدل كما يزعمون عليها. ويسهل أمر ذلك أنه ليس مدار الحديث عنهم سوى ما هم عليه من الشرك والكفر بالآيات وإنكار البعث وذلك موجود فيهم وفي الكفرة الموجودين عند إخراج الدابة، ومثله ضميرا- عليهم. ولهم- والمراد بالناس الكفرة الماضون مطلقا لا مشركو أهل مكة فقط، والمراد بإخبارها إياهم بذلك التحسر على ما فاتهم من الإيقان بما قرب وقوعه وظهور بطلان ما اعتقدوه فيه ومؤاخذتهم على التكذيب به أشد مؤاخذة، وفي ذلك استدعاء لأمثالهم إلى ترك ما هم عليه مما شاركوهم به من التكذيب وإنكار البعث، وجوز أن يراد بالناس مشركو أهل مكة وأمر الإخبار على حاله.
وقيل: يجوز أن تكون الضمائر للناس لا للكفرة منهم خاصة، ويراد بالناس إما الكفرة المنكرون للبعث، والمراد بالإخبار التنفير عما كانوا عليه من الإنكار ليثبت المؤمن ويرتدع الكافر، وإما مشركو أهل مكة والمراد بالإخبار ذلك.
وقيل: المراد به التشنيع عليهم بين أحبائهم وأعدائهم وكان بلسان الدابة ليكون أبلغ لما فيه من ظهور خطئهم عند ما لا يظن إدراكه له فضلا عن النطق به وإذاعته على سبيل التشنيع، وكان بين يدي الساعة ليردفه بلا كثير فصل ما يشبهه من شهادة الأعضاء عليهم وهي أبعد وقوعا مع تشنيع الدابة، وفي وقوعها بعده ما يشبه الترقي من العظيم إلى الأعظم، وأيد كون الضمائر للناس على الإطلاق وأن المراد بالناس المذكور في النظم الكريم أهل مكة ما
روي عن وهب أن الدابة تخبر كل من تراه أن أهل مكة كانوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن لا يوقنون
وقيل: ضميرا- عليهم. ولهم- لمشركي أهل مكة المحدث عنهم فيما سبق، ومعنى لَهُمْ لذمهم أو نحوه، وضمير تُكَلِّمُهُمْ للناس الموجودين عند الإخراج أو للكفرة كذلك، والمراد بالناس المذكور في النظم الكريم أولئك المشركون، وقيل: غير ذلك، ولا يخفى عليك بأدنى تأمل ما هو الأولى والأظهر في الآية من الأقوال، وأيا ما كان فوصف الناس بعدم الإيقان بالآيات مع أنهم كانوا جاحدين لها للإيذان بأنه كان من حقهم أن يوقنوا بها ويقطعوا بصحتها، وقد اتصفوا بنقيض ذلك وكون التكليم من الكلام هو الظاهر، ويؤيده قراءة أبي- تنبئهم- وقراءة يحيى بن سلام تحدثهم.
وقيل: هو من الكلم بمعنى الجرح والتفعيل للتكثير، ويؤيده قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبي زرعة والجحدري وأبي حيوة وابن أبي عبلة «تكلمهم» بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف اللام وقراءة بعضهم- «تجرحهم» - مكان تكلمهم، وكأنه أريد بالجرح ما هو مقابل التعديل، ويرجع ذلك إلى معنى التشنيع ورجوع الضمائر عليه إلى الكفرة المحدث عنهم فيما سبق مما لا غبار عليه، وقوله تعالى: أَنَّ النَّاسَ إلخ بتقدير بأن الناس، والمعنى تشنع عليهم بهذا الكلام، ويراد بالناس فيه أولئك المشنع عليهم، وظاهر الآية وقوعه في كلامها بهذا اللفظ، ولعل فهم السامعين كون المراد به مشركي مكة وقت التشنيع بمعونة قرينة تدل على ذلك إذ ذاك، ويحتمل أن يكون الواقع فيه بدله مشركي مكة أو نحوه، لكن جاء في الحكاية بلفظ الناس، والنكتة فيه على ما قيل: الإيماء إلى كثرتهم.
وقيل: الرمز إلى مزيد قبح عدم الإيقان منهم، ويعلم مما ذكر وجه العدول عن- أنهم- إلى أَنَّ النَّاسَ وجوز أن يكون بتقدير حرف التعليل أي لأن الناس إلخ، وهو تعليل من جهته تعالى لجرحها إياهم، وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع كالضمائر السابقة إلى مشركي مكة، وجوز أن تقدر الباء على أنها سببية.
235
وجوز أيضا أن يكون المراد بالكلم الجرح بمعنى الوسم،
فقد روي أنها تسم جبهة الكافر،
وفي رواية أخرى أنها تحطم أنفه بعصا موسى عليه السلام التي معها
، واختار بعضهم كون المراد به ما ذكر لما
في حديث أخرجه نعيم بن حماد وابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا ليس ذلك بحديث ولا كلام ولكنه سمة تسم من أمرها الله تعالى
، وسأل أبو الحوراء ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هل ما في الآية تكلمهم أو تكلمهم؟ فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر تجرحه، والظاهر أن الضمائر على تقدير أن يراد بالكلم الجرح، والوسم راجعة إلى الكفرة على الإطلاق دون المحدث عنهم فيما سبق إذ لا معنى لوسمها إياهم، ويتعين أن يراد بالناس أولئك الكفرة الذين عادت عليهم الضمائر، ولعل المعنى تسمهم لأنهم كانوا في علمنا بآياتنا لا يوقنون، وقرأ ابن مسعود- بأن- وجعلت مؤيدة لكون التكليم من الكلام وهو مبني على الظاهر وإلا فالباء تحتمل أن تكون للسببية فتلائم كونه من الكلم بمعنى الجرح، وقرأ بعض السبعة- إن- بكسر الهمزة، وخرج على إضمار القول. أو إجراء التكليم من الكلام مجراه، أو على أن الكلام استئناف مسوق من جهته سبحانه للتعليل فتدبر.
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا بيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها، ويَوْمَ منصوب بفعل مضمر خوطب به نبينا صلّى الله عليه وسلّم أي اذكر يوم، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيان سره مرارا، والمراد بهذا الحشر الحشر للتوبيخ والعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق وهو المذكور فيما بعد من قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النمل: ٨٧] إلى آخره، ولعل تقديم ما تضمن هذا على ما تضمن ذلك دون العكس مع أن الترتيب الوقوعي يقتضيه للإيذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة قد أمر بذكرها كما مر في سورة البقرة مع أن الأنسب بذكر أن الكفرة لا يوقنون بالآيات المراد به أنهم يكذبون بها أن يذكر بعده ما تضمن التوبيخ منه عز وجل والتعذيب على ذلك التكذيب، ومن الثانية بيانية جيء بها لبيان فَوْجاً، ومن الأولى تبعيضية لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب، أي ويوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء عليهم السلام أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة مكذبة بآياتنا فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة، وفيه من الدلالة على كثرة عددهم وتباعد أطرافهم ما لا يخفى، وقيل: مِنْ الثانية تبعيضية كالأولى، والمراد بالفوج جماعة من الرؤساء المتبوعين للكفرة، وعن ابن عباس أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار وهذه الآية من أشهر ما استدل بها الإمامية على الرجعة.
قال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان: واستدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية بأن قال: إن دخول مِنْ في الكلام يوجب التبعيض فدل بذلك على أنه يحشر قوم دون قوم وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف: ٤٧]، وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم في أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب بالقتل على أيدي شيعته أو الذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته.
ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه وقد فعل الله تعالى ذلك في الأمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره عليه السلام،
وصح عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم قوله:
236
«سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه»
، وتأول جماعة من الإمامية ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات، وأولوا الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافي التكليف وليس كذلك لأنه ليس فيها ما يلجىء إلى فعل الواجب والامتناع من القبيح، والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعبانا وما أشبه ذلك ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها، وإنما المعول عليه في ذلك إجماع الشيعة الإمامية وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده انتهى.
وأقول: أول من قال بالرجعة عبد الله بن سبأ ولكن خصها بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتبعه جابر الجعفي في أول المائة الثانية فقال برجعة الأمير كرّم الله تعالى وجهه أيضا لكن لم يوقتها بوقت، ولما أتى القرن الثالث قرر أهله من الإمامية رجعة الأئمة كلهم وأعدائهم وعينوا لذلك وقت ظهور المهدي، واستدلوا على ذلك بما رووه عن أئمة أهل البيت، والزيدية كافة منكرون لهذه الدعوى إنكارا شديدا، وقد ردّوها في كتبهم على وجه مستوفى بروايات عن أئمة أهل البيت أيضا تعارض روايات الإمامية، والآيات المذكورة هنا لا تدل على الرجعة حسبما يزعمون ولا أظن أن أحدا منهم يزعم دلالتها على ذلك، بل قصارى ما يقول: إنها تدل على رجعة المكذبين أو رؤسائهم فتكون دالة على أصل الرجعة وصحتها لا على الرجعة بالكيفية التي يذكرونها، وفي كلام الطبرسي ما يشير إلى هذا.
وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إرادة الرجعة إلى الدنيا من الآية لإفادتها أن الحشر المذكور لتوبيخ المكذبين وتقريعهم من جهته عز وجل بل ظاهر ما بعد يقتضي أنه تعالى بذاته يوبخهم ويقرعهم على تكذيبهم بآياته سبحانه، والمعروف من الآيات لمثل ذلك هو يوم القيامة مع أنها تفيد أيضا وقوع العذاب عليهم واشتغالهم به عن الجواب ولم تفد موتهم ورجوعهم إلى ما هو أشد منه وأبقى وهو عذاب الآخرة الذي يقتضيه عظم جنايتهم، فالظاهر استمرار حياتهم وعذابهم بعد هذا الحشر، ولا يتسنى ذلك إلا إذا كان حشر يوم القيامة، وربما يقال أيضا:- مما يأبى حمل الحشر المذكور على الرجعة- أن فيه راحة لهم في الجملة حيث يفوت به ما كانوا فيه من عذاب البرزخ الذي هو للمكذبين كيفما كان أشد من عذاب الدنيا، وفي ذلك إهمال لما يقتضيه عظم الجناية، وأيضا كيف تصح إرادة الرجعة منها، وفي الآيات ما يأبى ذلك، منه قوله تعالى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: ٩٩، ١٠٠] فإن آخر الآية ظاهر في عدم الرجعة مطلقا وكون الإحياء بعد الإماتة والإرجاع إلى الدنيا من الأمور المقدورة له عز وجل مما لا ينتطح فيه كبشان إلا أن الكلام في وقوعه وأهل السنة ومن وافقهم لا يقولون به ويمنعون إرادته من الآية ويستندون في ذلك إلى آيات كثيرة، والأخبار التي روتها الإمامية في هذا الباب قد كفتنا الزيدية مؤنة ردها، على أن الطبرسي أشار إلى أنها ليست أدلة وأن التعويل ليس عليها، وإنما الدليل إجماع الإمامية والتعويل ليس إلا عليه، وأنت تعلم أن مدار حجية الإجماع على المختار عندهم حصول الجزم بموافقة المعصوم ولم يحصل للسني هذا الجزم من إجماعهم هذا فلا ينتهض ذلك حجة عليه مع أن له إجماعا يخالفه وهو إجماع قومه على عدم الرجعة الكاشف عما عليه سيد المعصومين صلّى الله تعالى عليه وسلم، وكل ما تقوله الإمامية في هذا الإجماع يقول السني مثله في إجماعهم، وما ذكر من
قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «سيكون في أمتي» الحديث
لا نعلم صحته بهذا اللفظ بل الظاهر عدم صحته فإنه كان في بني إسرائيل ما لم يذكر أحد أنه يكون مثله في هذه الأمة كنتق الجبل عليهم حين امتنعوا عن أخذ ما آتاهم الله تعالى من الكتاب والبقاء في التيه أربعين سنة حين قالوا لموسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٤] ونزول المن والسلوى عليهم فيه إلى غير ذلك.
237
وبالجملة القول بالرجعة حسبما تزعم الإمامية مما لا ينتهض عليه دليل، وكم من آية في القرآن الكريم تأباه غير قابلة للتأويل، وكأن ظلمة بغضهم للصحابة رضي الله تعالى عنهم حالت بينهم وبين أن يحيطوا علما بتلك الآيات فوقعوا فيما وقعوا فيه من الضلالات حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف السؤال والجواب والمناقشة والحساب قالَ أي الله عز وجل موبخا لهم على التكذيب لا سائلا سبحانه وتعالى سؤال استفسار لاستحالته منه عز وجل، وعدم وقوع الاستفسار عن الذنب يوم القيامة من غيره تعالى من الملائكة عليهم السلام وإن كان ممكنا على ما يدل عليه قوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: ٣٩] على أحد التفسيرين، والالتفات لتربية المهابة أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي الناطقة بلقاء يومكم هذا، وقوله تعالى: وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه، ومؤكدة للإنكار والتوبيخ أي أكذبتم بها بادىء الرأي غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق حتما، وهذا على ما قيل: ظاهر في أن المراد بالآيات فيما تقدم الآيات التنزيلية لأنها المنطوية على دلائل الصحة وشواهدها التي لم يحيطوا بها علما مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها لا نفس الساعة وما فيها.
وقال بعض الأجلة: إن التكذيب يأبى بظاهره أن يراد بالآيات الآيات التكوينية كالمعجزات ونحوها إذ ليس فيها نسبة يتعلق بها ذلك، وإرادة الأعم تستدعي اعتبار التغليب وكون التكذيب بمعنى نفي دلالتها على المراد منها كتصديق النبي صلّى الله عليه وسلّم في المعجزات ونحوه في نحوها من آيات الأنفس والآفاق خلاف الظاهر، فالأولى إبقاؤه على الظاهر وحمل الآيات على الآيات التنزيلية، وقيل: هو معطوف على- كذبتم- والهمزة لإنكار الجمع والتوبيخ عليه كأنه قيل:
أجمعتم بين التكذيب بآياتي وعدم التدبر فيها.
أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي أم ماذا كنتم تعملون بها على أن المراد التبكيت وأنهم لم يعملوا إلا التكذيب وهو أحد وجهين ذكرهما الزمخشري، وقرره في الكشف بأن (أم) متصلة، والأصل أكذبتم بآياتي أم صدقتم، والمعادلة بين الفعلين المتعلقين بالآيات لكن جيء بالأول مجيء معلوم محقق، وبالثاني لا على ذلك النهج تنبيها على انتفائه كأنه قيل: أهو ما عهد من التكذيب أم حدث حادث، ووجه الدلالة أنه جعل العديل مرددا فيه فلم يجعل التصديق مثل التكذيب في الاستفهام عن حاله بل إنما شك في وجود معادل التكذيب لأن قوله تعالى: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يشمل التكذيب المذكور أولا وعديله الحقيقي، وهذه قرينة أنه لم يجأ بالاستفهام جهلا بالحال بل إنما أريد التبكيت والإلزام على معنى قل لي ويحك إن حدث أمر آخر بتّا بالقول بأنه لم يحدث ما يضاد الأول وإشعارا بأنه إذا سئل عن الذي عمله لم يجب إلا بما قدم أولا، ثم قال: وهذا وجه لائح، وإنما جاز دخول (أم) على (ما) الاستفهامية لهذه النكتة فإنها خرجت عن حقيقة الاستفهام إلى البت بالحكم لا بالمعادل بل بالأول، وثانيهما أن المعنى ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله تعالى أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من غير ذلك، وقرره في الكشف أيضا بأن (أم) على اتصالها ولكن المعادلة بين التكذيب وكل عمل غيره تعلق بالآيات أولا والإيراد على صيغة الاستفهام للنكتة السابقة فدل على أنه لم يكن لهم عمل إلا التكذيب والكفر كأنهم لم يخلقوا إلا لذلك فلأجله لم يعملوا غيره، وجعل سائر أعمالهم لاستمرار الكفر بهم نفس الكفر أو كلا عمل، ثم قال: وهذا وجه وجيه بالغ، ومنه ظهر أن دخول (أم) على أسماء الاستفهام غير منكر إذا خرجت عن حقيقة الاستفهام وهو مقاس معنى وإن كانت مراعاة صورة الاستفهام أيضا منقاسة من حيث اللفظ لكنهم يرجحون في نحوه جانب المعنى ولا يلتفتون لفت اللفظ اهـ.
واختار أبو حيان كون (أم) منقطعة فتقدر ببل وحدها وهي للانتقال من توبيخ إلى توبيخ وليس في ذلك
238
شائبة من دخول الاستفهام على الاستفهام، وما تقدم أبعد مغزى، وماذا تحتمل أن تكون بجملتها استفهاما منصوب المحل بخبر كان وهو تَعْمَلُونَ أو مرفوعة على الابتداء والجملة بعده خبره والرابط محذوف أي تعملونه، وتحتمل أن تكون (ما) فيها استفهاما، وذا اسم موصول بمعنى الذي، وهما مبتدأ وخبر والجملة بعد صلة الموصول والعائد إليه محذوف.
وقرأ أبو حيوة- «أما ذا» - بتخفيف الميم وفيها دخول الاستفهام على الاستفهام وقد سمعت وجهه.
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ حل بهم العذاب الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله وهو كبهم في النار بِما ظَلَمُوا أي بسبب ظلمهم الذي هو تكذيبهم بآيات الله تعالى فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ بحجة لانتفائها عنهم بالكلية وابتلائهم بما حل بهم من العذاب الأليم، وقيل: يختم على أفواههم فلا يقدرون على النطق بشيء أصلا.
وفي البحر أن انتفاء نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة أو من فريق من الناس لأن القرآن الكريم ناطق بأنهم ينطقون في بعض المواطن بأعذار وما يرجون به النجاة من النار.
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ الرؤية قلبية لا بصرية لأن نفس الليل والنهار وإن كانا من المبصرات لكن جعلهما كما ذكر من قبيل المعقولات أي ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالقرار والنوم، قال بعض الرجاز:
النوم راحة القوى الحسية من حركات والقوى النفسية
وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور معاشهم فبولغ حيث جعل الابصار الذي هو حال الناس حالا له ووصفا من أوصافه التي جعل عليها بحيث لا ينفك عنها، ولم يسلك في الليل هذا المسلك لما أن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير ضوء النهار في الابصار، والمشهور أن في الآية صنعة الاحتباك والتقدير جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه والنهار مبصرا لينتشروا فيه إِنَّ فِي ذلِكَ أي في جعلهما كما وصفا وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإشعار ببعد درجته في الفضل لَآياتٍ عظيمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنه يدل على التوحيد وتجويز الحشر وبعث الرسل عليهم السلام لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين
239
بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهرة ليست لما أشركه المشركون، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة قادر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان، وأن من جعل الليل والنهار سببين لمنافعهم ومصالحهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم وهو بعثة الرسل عليهم السلام.
وفي إرشاد العقل السليم لآيات عظيمة كثيرة لقوم يؤمنون دالة على صحة البعث وصدق الآيات الناطقة به دلالة واضحة كيف لا وأن من تأمل في تعاقب الليل والنهار واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم رائقة تحار في فهمها العقول ولا يحيط بها إلا علم الله جل وعلا وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل المحاكية للموت بضياء النهار المضاهي للحياة وعاين في نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله تعالى يبعث من في القبور قضاء متقنا وجزم بأنه تعالى قد جعل هذا أنموذجا له ودليلا يستدل به على تحققه، وأن الآيات الناطقة به وبكون حال الليل والنهار برهانا عليه وسائر الآيات كلها حق نازل من عند الله تعالى اهـ.
ولعل الأول أولى لا سيما إذا ضم إلى الاستدلال على جواز الحشر مشابهة النوم واليقظة للموت والحياة لما في هذا من خفاء الدلالة، وتخصيص المؤمنين بالذكر لما أنهم هم المنتفعون بالآيات، ووجه ربط هذه الآية بما قبلها أنها كالدليل على صحة ما تضمنته من الحشر وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إما معطوف على يَوْمَ نَحْشُرُ منصوب بناصبه، أو منصوب بمضمر معطوف على ذلك الناصب، والصور- على ما في التذكرة- قرن من نور، وذكر البخاري عن مجاهد أنه كالبوق.
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما الصور؟ قال: قرن ينفخ فيه»،
والمشهور أن صاحب الصور هو إسرافيل عليه السلام.
وذكر القرطبي أن الأمم مجمعة على ذلك وهو مخلوق اليوم،
فقد أخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ؟! فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام لهم: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل»
وروي أيضا عن أبي هريرة مرفوعا «ما أطرق صاحب الصور مذ وكل به مستعدا بحذاء العرش مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد طرفه كأن عينيه كوكبان دريان».
وجاء عن أبي هريرة من حديث مرفوع «إن عظم دائرة فيه كعرض السماوات والأرض»
وهذا مما يؤمن به وتفوض كيفيته إلى علام الغيوب، وقيل: إن الصور بسكون الواو بمعنى الصور بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة- وعليه أبو عبيدة- والكلام في الوجهين على حقيقته، وقيل: في الكلام استعارة تمثيلية شبه هيئة انبعاث الموتى من القبور إلى المحشر إذا نودوا بالقيام بهيئة قيام جيش نفخ لهم في المزمار المعروف وسيرهم إلى محل عين لهم، والأول قول الأكثرين- وعليه المعول- لأن قوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى [الزمر: ٦٨] ظاهر في أن الصور ليس جمع صورة وإلا لقال سبحانه: فيها بدل فيه، وارتكاب التأويل بجعل الكلام من باب التمثيل ظاهر في إنكار أن يكون هناك صور حقيقة، وهو خلاف ما نطقت به الأحاديث الصحاح، وقد قال أبو الهيثم على ما نقل عنه القرطبي في تفسيره: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات، وهذا النفخ قيل:
المراد به النفخة الثانية، وإليه ذهب صاحب الغنيان، واختاره العلامة أبو السعود وقال: الذي يستدعيه سياق النظم الكريم وسباقه ذلك، وأن المراد بالفزع في قوله تعالى:
240
فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ما يعتري الكل عند البعث والنشور من الرعب والتهيب الضروريين الجبليين بمشاهدة الأمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق، ثم قال: وقيل: المراد بالنفخ هي النفخة الأولى، وبالفزع هو الذي يستتبع الموت لغاية شدة الهول كما في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فيختص أثرها بمن كان حيا عند وقوعها دون من مات قبل ذلك من الأمم.
وقيل: إن المراد بهذه النفخة الفزع التي تكون قبل نفخة الصعق التي أريدت بقوله تعالى: ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ [ص: ١٥] وشنع على كلا القولين بما هو مذكور في تفسيره.
وقال العلامة الطيبي الحق أن المراد بقوله تعالى: يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ هو النفخة الأولى، وقوله تعالى الآتي: وَكُلٌّ إلخ إشارة إلى النفخة الثانية، واعلم أنهم اختلفوا في عدد النفخة فقيل: ثلاث: نفخة الصعق المذكورة في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: ٦٨]، ونفخة البعث المذكورة في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: ٥١]، ونفخة الفزع المذكورة في الآية المذكورة هاهنا، وهو اختيار ابن العربي.
وقيل: اثنتان، ونفخة الفزع هي نفخة الصعق لأن الأمرين: الفزع بمعنى الخوف. والصعق بمعنى الموت لا زمان لها، قال القرطبي: والسنة كحديث مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو طويل منه مع حذف ثم ينفخ في الصور فأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق ثم يصعق الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. تدل على أن النفخ مرتين لا ثلاثة وهو الصحيح، ونفخ الفزع هو نفخ الصعق بعينه لاتحاد الاستثناء في آيتيهما. وتعقب في الرسالة المسماة بشرح العشر في معشر الحشر المنسوبة لابن الكمال بأنه لا دلالة في الحديث على عدم النفخة الثالثة، غايته أنه وسائر الأحاديث الواردة على نسقه ساكت عنها، ولا يلزم من ذلك عدمها، وكذا لا دلالة في اتحاد الاستثناء في الآيتين أن يكون المذكور فيهما نفخة واحدة، وهذا ظاهر، ثم قال: والصحيح عندي ما في القول الأول، من أن نفخة الفزع غير نفخة الصعق. فإن حديث الصحيحين لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى عليه السلام آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور: صريح في أن الصعق يوم القيامة، وأن لا موت فيه فهو فزع بلا موت، فمن قال: هي ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ثم نفخة الصعق وهو الموت، ثم نفخة البعث فقد أصاب في التفرقة بين نفخة الفزع ونفخة الصعق، إلا أنه لم يصب في زعمه أن نفخة الفزع قبل نفخة الصعق. كيف وقد دل حديث الصحيحين المذكور على عموم حكم نفخة الفزع للأنبياء عليهم السلام الذين ماتوا قبل نفخة الصعق أي الموت، قال القاضي عياض: إن نفخة الفزع بعد النشر حين تنشق السماوات والأرض، فظهر أن النفخات ثلاث بل أربع: نفخة يميت الله تعالى جميع الخلق بها كما جاء في الحديث وعند ذلك ينادي سبحانه: لمن الملك اليوم. وينادي على ذلك قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:
٨٨]. ونفخة البعث كما نطق به قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: ٥١] ونفخة الصعق وهي نفخة الفزع بعينها وقد سمعت آيتيهما، ونفخة للإفاقة كما قال تعالى بعد ذكر نفخة الصعق ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وقد عرفت ما في زعم أن نفخة الصعق هي نفخة الفزع بعينها فتدبر انتهى، وتعقبه بعضهم بأنه يلزم حينئذ على القول بالمغايرة بين نفخة الفزع ونفخة الصعق أن تكون النفخات خمسا ولم نسمع متنفسا يقول بذلك، وأيضا فيه القول بأن نفخة الصعق بعد نفخة البعث، ويأباه
قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأرفع رأسي فإذا موسى متعلق بقائمة من قوائم العرش فما أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله
241
تعالى»
فإن انشقاق الأرض عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد نفخة البعث لا محالة فإذا عقبه رفع رأسه عليه الصلاة والسلام ومفاجأة كون موسى عليه السلام متعلقا بقائمة من قوائم العرش فأين نفخة الصعق. ولا يخفى أن كون النفخات خمسا لم يسمع هو الغالب على الظن ويتوقف قبول ما ذكره ثانيا على صحة ما ذكره من الخبر، ولعل القائل بما تقدم من وراء المنع، وقيل: الأظهر أن النفخات ثلاث: الأولى نفخة الصعق بمعنى الموت كما هو أحد معنييه المدلول عليها بقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: ٦٨]، والثانية نفخة البعث المدلول عليها بقوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨] وقوله سبحانه:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: ٥١] والثالثة نفخة الفزع المدلول عليها بما هنا وهي على ما سمعت عن القاضي عياض بعد النشر حين تنشق السماوات والأرض.
وأصله كما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الشخص من الشيء المخيف والمراد به الرعب الشديد، ولعل الصعق المذكور في حديث الصحيحين هو غشي يترتب عليه بلا واسطة وعلى النفخ بواسطته وقد نص في الأساس على هذا المعنى له قال يقال صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه ويدل على أنه بمعنى الغشي
قوله عليه الصلاة والسلام «فأكون أول من يفيق»
لأن الإفاقة إنما تكون من الغشي دون الموت ولم يعبر هنا بالصعق مرادا به الغشي المذكور في الحديث لئلا يتوهم إرادة معنى الموت منه لخلوه هنا عن القرينة التي في الحديث واقترانه بما يلائم ذلك. وقد يختار ما هو المشهور من أن النفخة اثنتان ويجاب عما يشعر بالزيادة فالنفخة الأولى نفخة الصعق بمعنى الموت بحال هائلة فبها يموت من في السماوات والأرض من الأحياء قبيل ذلك إلّا من شاء الله تعالى، ويدل عليها آية ونفخ في الصور فصعق إلخ، والنفخة الثانية نفخة البعث المدلول عليها بآية ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وبينهما في المشهور أربعون سنة،
وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا «أربعون»
بدون ذكر التمييز فقيل أربعون يوما فقال أبو هريرة أبيت فقيل أربعون شهرا فقال أبيت فقيل أربعون سنة فقال أبيت، ونفخة الفزع بمعنى الرعب والخوف هي هذه النفخة بعينها ووجه ذلك أنه ينفخ في الصور للبعث فيبعث الخلق وينشرون فإذا تحققوا يوم القيامة وشاهدوا آثار عظمة الله تعالى فزعوا ورعبوا إلا من شاء الله تعالى وترتب الفزع على النفخ بالفاء للإشارة إلى قلة الزمان الفاصل لسرعة تحققهم ومشاهدتهم ما ذكر، والإضافة في قولنا نفخة البعث وقولنا نفخة الفزع من إضافة السبب إلى المسبب إلا أن سببية النفخ للبعث بلا واسطة وسببيته للفزع بواسطة،
وحديث الصحيحين «لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة»
إلخ ليس فيه سوى إثبات الصعق بمعنى الغشي كما يرشد إليه ذكر الإفاقة للناس يوم القيامة ولا تعرض له لنفخ يترتب عليه ذلك، نعم التعبير بالصعق على ما ذكروا في معناه يقتضي أن يكون هناك هدة أو صوت شديد يسمعه من يسمعه فيغشى عليه إلا أنه لا يعين النفخ لجواز أن يكون ذلك من صوت حادث من انشقاق السماوات الكائن بعد البعث والفزع من يوم القيامة وما شاهدوا من أهواله.
ومنع بعضهم اقتضاءه ذلك لجواز أن يراد به الغشي لحدوث أمر عظيم من أمور يوم القيامة غير النفخ، وقيل: هو من فروع النفخ للبعث وذلك أنه ينفخ فتبعث الخلائق فيتحققون ما يتحققون ويشاهدون ما يشاهدون فيفزعون فيغشى عليهم إلا ما شاء الله تعالى، وحديث الصحيحين مما لا يأبى ذلك واحتياج الإفاقة لنفخة أخرى في حيز المنع وقيل:
في بيان اتحاد نفخة البعث ونفخة الفزع أن المراد بالفزع الإجابة والإسراع للقيام لرب العالمين وقد صرحت الآيات بإسراع الناس عند البعث فقال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ وقال سبحانه:
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: ٤٣] ولا يخفى بعده واحتياج توجيه
242
الاستثناء بعد عليه إلى تكلف فالأولى أن يوجه الاتحاد بما سبق فتأمل، وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف أعني ينفخ مضارعا للدلالة على تحقق الوقوع كما في قوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: ٩٨] بعد قوله تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ [هود: ٩٨] ووجه تأخير بيان الأحوال الواقعة في ابتداء هذه النفخة عن بيان ما يقع بعد من حشر المكذبين قد تقدم الكلام فيه فتذكر فما في العهد من قدم إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ استثناء متصل كما هو الظاهر من من ومفعول المشيئة محذوف أي إلا من شاء الله تعالى أن لا يفزع، والمراد بذلك على ما قيل: من جاء بالحسنة لقوله تعالى فيهم: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وتعقب بأن الفزع في تلك الآية غير الفزع المراد من قوله سبحانه: فَفَزِعَ إلخ وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى، واختلف الذين حملوا النفخ هنا على النفخة الأولى التي تكون للصعق- أي الموت- في تعيينهم فقيل هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وروي ذلك عن مقاتل والسدي.
وقال الضحاك: هم الولدان والحور العين وخزنة الجنة وحملة العرش. وحكى بعضهم هذين القولين في المراد بالمستثنى على تقدير أن يراد بالنفخ النفخة الثانية وبالفزع الخوف والرعب وأورد عليهما أن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات والأرض لأن السماوات في داخل الكرسي ونسبتها إليه نسبة حلقة في فلاة ونسبة الكرسي إلى العرش كهذه النسبة أيضا فكيف يكون حملته في السماوات وكذا الولدان والحور وخزنة الجنة لأن هؤلاء كلهم في الجنة والجنان جميعها فوق السماوات ودون العرش على ما أفصح عنه
قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «سقف الجنة عرش الرحمن»
فما فيها من الولدان والحور والخزنة لا يصح استثناؤهم ممن في السماوات والأرض وأما جبرائيل ومن معه من الملائكة المقربين عليهم السلام فهم من الصافين المسبحين حول العرش وإذا كان العرش فوق السماوات لا يمكن أن يكون الاصطفاف حوله في السماوات، وأجيب بأنه يجوز أن يراد بالسماوات ما يعم العرش والكرسي وغيرهما من الأجرام العلوية فإنه الأليق بالمقام، وقد شاع استعمال من في السماوات والأرض عند إرادة الإحاطة والشمول.
وقيل: لا مانع من حمل السماوات على السماوات السبع والتزام كون الاستثناء على القولين المذكورين منقطعا ولا يخفى ما فيه، وعد بعضهم ممن استثنى موسى عليه السلام، وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إلا إذا أريد بالفزع الصعق يوم القيامة بعد النفخة الثانية، أما إذا أريد به ما يكون في الدنيا عند النفخة الأولى فلا، على أن عده عليه السلام ممن لا يصعق يوم القيامة بعد قوله صلّى الله تعالى عليه وسلّم في حديث الصحيحين السابق فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور يحتاج إلى خبر صحيح وارد بعد ذلك.
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون
وصححه القاضي أبو بكر بن العربي كما قال القرطبي وبه رد على من زعم أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ولفظه هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وكذا ذهب إليه الحليمي وقال: هو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم ضعف غيره من الأقوال. وقد ذكره غير واحد من المفسرين إلا أن بعضهم ذكره في تفسير من شاء الله في آية الصعق وبعض آخر ذكره في تفسيره في آية الفزع فتدبر.
وَكُلٌّ أي كل واحد من الفازعين المبعوثين عند النفخة أَتَوْهُ أي حضروا الموقف بين يدي رب العزة جل جلاله للسؤال والجواب والمناقشة والحساب، وقيل: أي رجعوا إلى أمره تعالى وانقادوا. وضمير الجمع باعتبار معنى كُلٌّ وقرأ قتادة أتاه فعلا ماضيا مسندا لضمير كُلٌّ على لفظها.
وقرأ أكثر السبعة آتوه اسم فاعل داخِرِينَ أي أذلاء، وقرأ الحسن والأعمش دخرين بغير ألف وهو على
243
القراءتين نصب على الحال من ضمير كُلٌّ وقوله سبحانه: وَتَرَى الْجِبالَ عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير وترى من رؤية العين، وقوله تعالى: تَحْسَبُها جامِدَةً أي ثابتة في أماكنها لا تتحرك حال من فاعل ترى أو من مفعوله، وجوز أن يكون بدلا من سابقه، وقوله عز وجل.
وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حال من ضمير الجبال في تحسبها، وجوز أن يكون حالا من ضميرها في جامدة ومنعه أبو البقاء لاستلزامه أن تكون جامدة ومارة في وقت واحد أي وترى الجبال رأي العين ساكنة والحال أنها تمر في الجو مر السحاب التي تسيرها الرياح سيرا حثيثا، وذلك أن الأجرام المجتمعة المتكاثرة العدد على وجه الالتصاق إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تبين حركتها، وعليه قول النابغة الجعدي في وصف جيش:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج
وقيل: شبه مرها بمر السحاب في كونها تسير سيرا وسطا كما قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحائب لا ريث ولا عجل
والمشهور في وجه الشبه السرعة وإن منشأ الحسبان المذكور ما سمعت، وقيل: إن حسبان الرائي إياها جامدة مع مرورها لهول ذلك اليوم فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها جامدة وليس بذاك وقد أدمج في التشبيه المذكور تشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما في قوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: ٥] واختلف في وقت هذا، ففي إرشاد العقل السليم أنه مما يقع بعد النفخة الثانية كالفزع المذكور عند حشر الخلق يبدل الله تعالى شأنه الأرض غير الأرض ويغير هيئتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة يشاهدها أهل المحشر وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكون بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ [طه: ١٠٥- ١٠٨]، وقوله سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: ٤٨] فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل وبروز الخلق لله تعالى لا يكونان إلا بعد النفخة الثانية وقد قالوا في تفسير قوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ [الكهف: ٤٧] إن صيغة الماضي في المعطوف مع كون المعطوف عليه مستقبلا للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك اهـ.
وقال بعضهم إنه مما يقع عند النفخة الأولى وذلك أنه ترجف الأرض والجبال ثم تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبا مهيلا ثم هباء منبثا، ويرشد إلى أن هذه الصيرورة مما لا يترتب على الرجفة ولا تعقبها بلا مهلة العطف بالواو دون الفاء في قوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل: ١٤] والتعبير بالماضي في قوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ لتحقق الوقوع كما مر آنفا واليوم في قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طه: ١٠٥] الآية، وقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ إلخ يجوز أن يجعل اسما للحين الواسع الذي يقع فيه ما يكون عند النفخة الأولى من النسف والتبديل وما يكون عند النفخة الثانية من اتباع الداعي والبروز لله تعالى الواحد القهار، وقد حمل اليوم على ما يسع ما يكون عند النفختين في قوله تعالى:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الحاقة: ١٣- ١٥] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة: ١٨] وهذا كما تقول جئته عام كذا وإنما مجيئك في وقت من أوقاته وقد ذهب غير
244
واحد إلى أن تبديل الأرض كالبروز بعد النفخة الثانية لما
في صحيح مسلم عن عائشة «قلت يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ فأين يكون الناس؟ قال على الصراط»
وجاء في غير خبر ما يدل على أنه قبل النفخة الأولى، وجمع صاحب الإفصاح بين الاخبار بأن التبديل يقع مرتين مرة قبل النفخة الأولى وأخرى بعد النفخة الثانية، وحكى في البحر أن أول الصفات ارتجاجها ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ثم نسفها بإرسال الرياح عليها ثم تطييرها بالريح في الجو كأنها غبار ثم كونها سرابا، وهذا كله على ما يقتضيه كلام السفاريني قبل النفخة الثانية، ومن تتبع الأخبار وجدها ظاهرة في ذلك، والآية هنا تحتمل كون الرؤية المذكورة فيها قبل النفخة الثانية وكونها قبلها فتأمل صُنْعَ اللَّهِ الظاهر أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة وهي جملة الحال والعامل فيه ما دلت عليه من كون ذلك من صنعه تعالى فكأنه قيل: صنع الله تعالى ذلك صنعا وهذا نحو له عليّ ألف عرفا ويسمى في اصطلاحهم المؤكد لنفسه وإلى هذا ذهب الزجاج وأبو البقاء.
وقال بعض المحققين: مؤكد لمضمون ما قبله على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور وما ترتب عليه جميعا قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل وتهويل أمرها والإيذان بأنها ليست بطريق إخلال نظام العالم وإفساد أحوال الكائنات بالكلية من غير أن يكون فيه حكمة بل هي من قبيل بدائع صنع الله تعالى المبنية على أساس الحكمة المستتبعة للغايات الجميلة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع على الوجه المتين والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله تعالى: الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ
أي أتقن خلقه وسواه على ما تقتضيه الحكمة اهـ، وحسنه ظاهر.
وقال الزمخشري هو من المصادر المؤكدة إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ والمعنى ويوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت أثاب الله تعالى المحسنين وعاقب المجرمين ثم قال سبحانه: صنيع الله يريد عز وجل به الإثابة والمعاقبة إلى آخر ما قال، وهو يدل على أنه فرض اليوم ممتدا شاملا لزمان النفختين وما بعدهما وجعل المصدر مؤكدا لهذا المحذوف المدلول عليه بالتفصيل في قوله تعالى الآتي: من جاء ومن جاء وباستدعاء يوم ينفخ ناصبا وفرع عليه ما فرع وتعقبه أبو حيان بأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته لأنه منصوب بفعل من لفظه فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر وذلك حذف كثير مخل ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة وجد الجمل مصرحا بها لم يرد الحذف في شيء منها إذا الأصل أن لا يحذف المؤكد إذ الحذف ينافي التأكيد لأنه من حيث أكد معتنى به ومن حيث حذف غير معتنى به، وكأن الداعي له إلى العدول عن الظاهر على ما قيل إن الصنع المتقن لا يناسب تسيير الجبال ظاهرا وأنت تعلم أن هذا على طرف الثمام نعم الأحسن جعله مؤكدا لمضمون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده وجيء به للتنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل على ما سمعته عن بعض المحققين. وقيل هو منصوب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله وهو كما ترى.
واستدل بالآية على جواز إطلاق الصانع على الله عز وجل وهو مبني على مذهب من يرى أن ورود الفعل كاف.
واستدل بعضهم على الجواز المذكور
بالخبر الصحيح «إن الله صانع كل صانع وصنعته»
وتعقب بأن الشرط أن لا يكون الوارد على جهة المقابلة نحو أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: ٦٤] خلافا للحليمي على ما يقتضيه قوله يستحب لمن ألقى بذرا في أرض أن يقول الله تعالى الزارع والمنبت والمبلغ، وما في هذا الحديث من هذا القبيل وأيضا ما في الخبر بالإضافة فلا يدل على جواز الخالي عنها ألا ترى أن
قوله صلّى الله تعالى عليه وسلّم يا صاحب كل نجوى أنت الصاحب في السفر
لم يأخذوا منه أن الصاحب من غير قيد من أسمائه تعالى فكذا هو لا يؤخذ منه أن الصانع من غير قيد من أسمائه تعالى فتأمله، ونحو هذا الاستدلال
بخبر مسلم «ليعزم في الدعاء فإن الله
245
تعالى صانع ما شاء لا مكره له»
فإن ما فيه من قبيل المضاف أو المقيد والأولى الاستدلال بما
صح في حديث الطبراني والحاكم «اتقوا الله تعالى فإن الله تعالى فاتح لكم وصانع»
ولا فرق بين المعرف والمنكر عند الفقهاء لأن تعريف المنكر لا يغير معناه ولذا يجوزون في تكبيرة الإحرام: الله الأكبر.
واستدل القاضي عبد الجبار بعموم قوله سبحانه: أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ على أن قبائح العبد ليست من خلقه سبحانه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة والإجماع مانع منه وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض لأن الإتقان بمعنى الإحكام وهو من أوصاف المركبات ولو سلّم فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص ولو سلم فالإجماع المذكور ممنوع بل هي متقنة أيضا بمعنى أن الحكمة اقتضتها إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ جعله بعض المحققين تعليلا لكون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده صنعا محكما له تعالى ببيان أن علمه تعالى بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يستدعي إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب أخيريتها عليها بعد بعثهم وحشرهم وتسيير الجبال حسبما نطق به التنزيل. وقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها بيانا لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أخيريتها عليها. وقال العلامة الطيبي قوله تعالى إن الله إلخ استئناف وقع جوابا لقول من يسأل فماذا يكون بعد هذه القوارع فقيل إن الله خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم وفصل ذلك بقوله سبحانه من جاء إلخ. والخطاب في تَفْعَلُونَ لجميع المكلفين وقرأ العربيان وابن كثير «يفعلون» بياء الغيبة. والمراد بالحسنة على ما روي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والحسن والنخعي وأبي صالح وسعيد بن جبير وعطاء وقتادة
شهادة أن لا إله إلا الله وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة أن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم فسرها بذلك
والمراد بهذه الشهادة التوحيد المقبول وقيل المراد بالحسنة ما يتحقق بما ذكر وغيره من الحسنات وهو الظاهر، نظرا إلى أن اللام حقيقة في الجنس.
وقال بعضهم: الظاهر الأول، لأن الظاهر حمل المطلق على الكامل وأكمل جنس الحسنة التوحيد ولو أريد العموم لكان الظاهر الإتيان بالنكرة، ويكفي في ترجيح الأول ذهاب أكثر السلف إليه وإذا صح الحديث فيه لا يكاد يعدل عنه.
وكان النخعي يحلف على ذلك ولا يستثني، والظاهر أن خيرا للتفصيل وفضل الجزاء على الحسنة كائنة ما كانت.
قيل باعتبار الإضعاف أو باعتبار الدوام. وزعم بعضهم أن الكلام بتقدير مضاف أي خير من قدرها وهو كما ترى. وقال بعض الأجلة ثواب المعرفة النظرية والتوحيد الحاصل في الدنيا هي المعرفة الضرورية على أكمل الوجوه في الآخرة والنظر إلى وجهه الكريم جل جلاله وذلك أشرف السعادات. وقيل إن خيرا ليس للتفضيل ومن لابتداء الغاية أي فله خير من الخيور مبدؤه ومنشؤه منها أي من جهة الحسنة. وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وابن جريج وعكرمة وَهُمْ أي الذين جاؤوا بالحسنة مِنْ فَزَعٍ أي فزع عظيم هائل لا يقادر قدره يَوْمَئِذٍ ظرف منصوب بقوله تعالى: آمِنُونَ وبه أيضا يتعلق مِنْ فَزَعٍ والأمن يستعمل بالجار وبدونه كما في قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف: ٩٩]، وجوز أن يكون الظرف منصوبا بفزع وأن يكون منصوبا بمحذوف وقع صفة له أي من فزع كائن في ذلك الوقت، وقرأ العربيان وابن كثير وإسماعيل بن جعفر، عن نافع فزع يومئذ بإضافة فزع إلى يوم، وكسر ميم يوم، وقرأ نافع في غير رواية إسماعيل كذلك إلا أنه فتح الميم فتح بناء لإضافة يوم إلى غير متمكن وتنوين إذ للتعويض عن جملة، والأولى على ما في البحر أن تكون الجملة المحذوفة المعوض هو عنها ما قرب من الظرف أي يوم إذ جاء بالحسنة، وجوز أن يكون التقدير يوم إذ ينفخ في الصور لا سيما إذا أريد بذلك النفخ النفخة الثانية، واقتصر عليه شيخ الإسلام، وفسر الفزع بالفزع الحاصل من مشاهدة العذاب بعد تمام المحاسبة وظهور الحسنات والسيئات
246
وهو الذي في قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ١٠٣] وحكي عن الحسن أن ذاك حين يؤمر بالعبد إلى النار،
وعن ابن جريج أنه حين يذبح الموت وينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت
وهو كذلك في قراءة التنوين وقراءة الإضافة ولا يراد به في القراءة الثانية جميع الأفزاع الحاصلة يومئذ، ومدار الإضافة كون ذلك أعظم الأفزاع وأكبرها كأن ما عداه ليس بفزع بالنسبة إليه وقال تبعا لغيره إن الفزع المدلول عليه بقوله تعالى:
فَفَزِعَ إلخ ليس إلا التهيب والرعب الحاصل في ابتداء الإحساس بالشيء الهائل ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة وإن كان آمنا من لحاق الضرر به.
وقال أبو علي: يجوز أن يراد بالفزع في القراءتين فزع واحد وأن يراد به الكثرة لأنه مصدر فإن أريد الكثرة شمل كل فزع يكون في القيامة وإن أريد الواحد فهو الذي أشير إليه بقوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تتمة للكلام في الآية وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ وهو الشرك وبه فسرها من فسر الحسنة بشهادة أن لا إله إلا الله وقد علمت من هم، وقيل: المراد بها ما يعم الشرك وغيره من السيئات: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي كبوا فيها على وجوههم منكوسين، فإسناد الكب إلى الوجوه مجازي لأنه يقال كبه وأكبه إذا نكسه، وقيل: يجوز أن يراد بالوجوه الأنفس كما أريدت بالأيدي في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥] أي فكبت أنفسهم في النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على الالتفات للتشديد أو على إضمار القول أي مقولا لهم ذلك فلا التفات فيه لأنه في كلام آخر ومن شروط الالتفات اتحاد الكلامين كما حقق في المعاني، واستدل بعض المرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة بقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إلخ على أن المؤمن العاصي لا يعذب يوم القيامة وإلا لم يكن آمنا من فزع مشاهدة العذاب يومئذ وهو خلاف ما دلت عليه الآية الكريمة، وأجيب بمنع دخول المؤمن العاصي في عموم الآية لأن المراد بالحسنة الحسنة الكاملة وهو الإيمان الذي لم تدنسه معصية، وذلك غير متحقق فيه أو لأن المتبادر المجيء بالحسنة غير مشوبة بسيئة وهو أيضا غير متحقق فيه ومن تحقق فيه فهو آمن من ذلك الفزع بل لا يبعد أن يكون آمنا من كل فزع من أفزاع يوم القيامة وإن سلّم الدخول قلنا المراد بالفزع الآمن منه من جاء بالحسنة ما يكون حين يذبح الموت
وينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت كما سمعت عن ابن جريج
أو حين
تطبق جهنم على أهلها فيفزعون كما روي عن الكلبي
وليس ذلك إلا بعد تكامل أهل الجنة دخولا الجنة والعذاب الذي يكون لبعض عصاة المؤمنين إنما هو قبل ذلك والآية لا تدل على نفيه بوجه من الوجوه.
وأجاب بعضهم بأنه يجوز أن يكون المؤمن العاصي آمنا من فزع مشاهدة العذاب، وإن عذب لعلمه بأنه لا يخلد فيعد عذابه كالمشاق التي يتكلفها المحب في طريق وصال المحبوب وهذا في غاية السقوط كما لا يخفى.
واستدل بعض المعتزلة بقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ إلخ على عدم الفرق بين عذاب الكافر وعذاب المؤمن العاصي لأن مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يعمهما وقد أثبت له الكب على الوجوه في النار فحيث كان ذلك بالنسبة إلى الكافر على وجه الخلود كان بالنسبة إلى المؤمن العاصي كذلك، وأجيب بأن المراد بالسيئة الإشراك كما روي تفسيرها به عن أكثر سلف الأمة فلا يدخل المؤمن العاصي فيمن جاء بالسيئة ولو سلّم دخوله بناء على القول بعموم السيئة فلا نسلم أن في الآية دلالة على خلوده في النار وكون الكب في النار بالنسبة إلى الكافر على وجه الخلود لا يقتضي أن يكون بالنسبة إليه كذلك فكثيرا ما يحكم على جماعة بأمر كلي ويكون الثابت لبعضهم نوعا وللبعض الآخر نوعا آخر منه وهذا مما لا ريب فيه، ثم إن الآية من باب الوعيد فيجرى فيه على تقدير دخول المؤمن العاصي في عموم من ما قاله الأشاعرة في آيات الوعيد فافهم وتأمل.
247
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها استئناف بتقدير قل قبله وهو أمر له عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهؤلاء الكفرة ذلك بعد ما بين لهم أحوال المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة إثارة لهممهم بألطف وجه إلى أن يشتغلوا بتدارك أحوالهم وتحصيل ما ينفعهم والتوجه نحو التدبر فيما قرع أسماعهم من الآيات الباهرة الكافية في إرشادهم والشافية لعللهم والبلدة على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما هي مكة المعظمة، وفي تاريخ مكة أنها منى قال حدثنا يحيى بن ميسرة عن خلاد بن يحيى عن سفيان أنه قال: البلدة منى والعرب تسميها بلدة إلى الآن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية تفسيرها بذلك أيضا، وذكر بعض الأجلة أن أكثر المفسرين على الأول وتخصيصها بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها والتعرض لتحريمه تعالى إياها تشريف لها بعد تشريف وتعظيم إثر تعظيم مع ما فيه من الإشعار بعلة الأمر وموجب الامتثال به كما في قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: ٣، ٤] ومن الرمز إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها ألا ترى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها باختلاء خلاها وعضد شجرها وتنفير صيدها وإرادة الإلحاد فيها قد استمروا فيها على تعاطي أفظع أفراد الفجور وأشنع آحاد الإلحاد حيث تركوا عبادة ربها ونصبوا فيها الأوثان وعكفوا على عبادتها قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، ولا تعارض بين ما في الآية من نسبة تحريمها إليه عز وجل وما في
قوله عليه الصلاة والسلام «إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة وأنا حرمت المدينة»
من نسبة تحريمها إلى إبراهيم عليه السلام لأن ما هنا باعتبار أنه هو المحرم في الحقيقة وما في الحديث باعتبار أن إبراهيم عليه السلام مظهر لحكمه عز شأنه.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود التي صفة للبلدة وقراءة الجمهور أبلغ في التعظيم، ففي الكشف أن إجراء الوصف على الرب تعالى شأنه، تعظيم لشأن الوصف ولشأن ما يتعلق به الوصف وزيادة اختصاص له بمن أجرى عليه الوصف على سبيل الإدماج وجعل ذلك كالمسلم المبرهن ولا كذلك لو وصفت البلدة بوصف تخصيصا أو مدحا. وقوله تعالى: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي خلقا وملكا وتصرفا، من غير أن يشاركه سبحانه شيء في شيء من ذلك تحقيق للحق، وتنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة لما مر من التفخيم والتشريف مع عموم الربوبية لجميع الموجودات، واستدل به بعض الناس لجواز ما يقوله جهلة المتصوفة شيء لله، لأنه في معنى كل شيء لله عز وجل، نحو تمرة خير من جرادة، وأنت تعلم أنهم لا يأتون به لإرادة ذلك بل يقولون: شيء لله يا فلان لبعض الأكابر من أهل القبور، إما على معنى أعطني شيئا لوجه الله تعالى يا فلان، أو أنت شيء عظيم من آثار قدرة الله تعالى وقد وجهه بذلك من لم يكفرهم به وهو الحق وإن كان في ظاهره على أول التوجيهين طلب شيء ممن لا قدرة له على شيء نعم الأولى صيانة اللسان عن أمثال هذه الكلمات.
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي أثبت على ما كنت عليه من كوني من جملة الثابتين على ملة الإسلام والتوحيد أو الذين أسلموا وجوههم لله تعالى خالصة من قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء: ١٢٥] وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي أواظب على قراءته على الناس بطريق تكرير الدعوة وتثنيته الإرشاد لكفايته في الهداية إلى طريق الرشاد، وقيل أي أواظب على قراءته لينكشف لي حقائقه الرائقة المخزونة في تضاعيفه شيئا فشيئا فإن المواظبة على قراءته من أسباب فتح باب الفيوضات الإلهية والأسرار القدسية،
وقد حكي أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم قام ليلة يصلي فقرأ قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ [المائدة: ١١٨] فما زال يكررها ويظهر له من أسرارها ما يظهر حتى طلع الفجر
، وقيل أتلو من تلاه إذا تبعه، أي وأن أتبع القرآن، وهو خلاف الظاهر، ويؤيد ما ذكرناه أولا من المعنى ما في حرف أبي كما أخرجه أبو عبيد وابن المنذر عن هارون واتل عليهم القرآن وحكى عنه في البحر
248
أنه قرأ واتل هذا القرآن، ولا تأييد فيه لما ذكرنا. وقرأ عبد الله وأن اتل بغير واو أمرا من تلا فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار أمرت فَمَنِ اهْتَدى أي بالإيمان بالقرآن والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام، وقيل أي بالاتباع فيما ذكر من العبادة والإسلام، وتلاوة القرآن أو اتباعه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فإنما منافع اهتدائه تعود إليه وَمَنْ ضَلَّ بالكفر به والإعراض عنه، وقيل بالمخالفة فيما ذكر فَقُلْ أي له.
إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وقد خرجت عن عهدة الإنذار فليس عليّ من وبال ضلالك شيء وإنما هو عليك فقط ويعلم مما ذكرنا أن جواب الشرط جملة القول وما في حيزه والرابط المشترط في مثله محذوف وقدره بعضهم بعد المنذرين أي من المنذرين إياه، وجوز أبو حيان كون الجواب محذوفا أي من ضل فوبال ضلاله مختص به وحذف ذلك لدلالة جواب مقابله عليه، وجوز بعضهم كون الجملة بعد هي الجواب ولكونها كناية تعريضية عما قدره أبو حيان لم تحتج إلى رابط ثم إن ظاهر التصريح بقل هنا يقتضي أن يكون فمن اهتدى إلخ من كلامه عز وجل عقب به أمره صلى الله تعالى عليه وسلّم بأن يقول لهم ما قبله، ولا بعد في كونه من مقول القول المقدر قبل قوله تعالى: إِنَّما أُمِرْتُ كما سمعت وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على ما أفاض عليّ من نعمائه التي من أجلها نعمة النبوة المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها بالآيات البينة والبراهين النيرة، وقوله تعالى:
سَيُرِيكُمْ آياتِهِ من جملة الكلام المأمور به أي قل سيريكم آياته سبحانه: فَتَعْرِفُونَها أي فتعرفون أنها آيات الله تعالى حيث لا تنفعكم المعرفة، وقيل: أي سيريكم في الدنيا والمراد بالآيات الدخان وما حل بهم من نقمات الله تعالى وعد منها قتل يوم بدر واعتراف المقتولين بذلك بالفعل واعتراف غيرهم بالقوة، وقيل: هي خروج الدابة وسائر أشراط الساعة والخطاب لجنس الناس لا لمن في عهد النبوة.
وأخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن مجاهد أن المراد بالآيات الأنفسية والآفاقية فالآية كقوله تعالى:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: ٥٣]، وقيل: المراد بها معجزات الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم وإضافتها إلى ضميره تعالى لأنها فعله عز وجل أظهرها على يد رسوله عليه الصلاة والسلام للتصديق، والمراد بالمعرفة ما يجامع الجحود، وقوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ كلام مسوق من جهته سبحانه بطريق التذييل مقرر لما قبله متضمن للوعد والوعيد كما ينبىء عنه إضافة الرب إلى ضميره صلّى الله تعالى عليه وسلم وتخصيص الخطاب أولا به عليه الصلاة والسلام وتعميمه ثانيا للكفرة تغليبا أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازي كلا منكم بعمله لا محالة، وقرأ الأكثر يعملون بياء الغيبة فهو وعيد محض والمعنى وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم البتة فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلة سبحانه عن أعمالهم الموجبة له ومن تأمل في الآيات ظهر له أن هذه الخاتمة مما تدهش العقول وتحير الأفهام ولله تعالى در التنزيل وماذا عسى يقال في كلام الملك العلام.
ومن باب الإشارة في الآيات ما قيل وأنزل من السماء أي سماء القلب ماء هو ماء نظر الرحمة فأنبتنا به حدائق ذات بهجة من العلوم والمعاني والأسرار والحكم البالغة، ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أي أصولها لما أن العلوم الإلهية غير اختيارية بل كل علم ليس باختياري في نفسه وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه نعم هو اختياري باعتبار الأسباب أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ أي أرض النفس قرارا في الجسد وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً من دواعي البشرية وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ من قوى البشرية والحواس وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ بحر الروح وبحر النفس حاجِزاً وهو القلب أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ وهو المستعد لشيء من الأشياء إِذا دَعاهُ بلسان الاستعداد وطلب منه تعالى ما
249
استعد له، وقال بعضهم: المضطر المستغرق في بحار شوقه تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً وهي النفس الناطقة والروح الإنساني مِنَ الْأَرْضِ أي أرض البشرية وعلى هذا النمط تكلموا في سائر الآيات وساق الشيخ الأكبر قدس سره قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ دليلا على ما يدعيه من تجدد الجواهر كالأعراض عند الأشعري وعدم بقائها زمانين، ومبنى ذلك عنده القول بوحدة الوجود وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن، والكلام في صحة هذا المبنى واستلزامه للمدعى لا يخفى على العارف، وأما الاستدلال بهذه الآية لهذا المطلب فمن أمهات العجائب وأغرب الغرائب والله تعالى أعلم.
250
سورة القصص
مكية كلها على ما روي عن الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة، وقال مقاتل: فيها من المدني قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ إلى قوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: ٥٢- ٥٥] فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت هي وآخر الحديد في أصحاب النجاشي الذين قدموا وشهدوا واقعة أحد.
وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه أن الآية المذكورة نزلت بالجحفة في خروجه عليه الصلاة والسلام للهجرة، وقيل: نزلت بين مكة والجحفة،
وقال المدائني في كتاب العدد حدثني محمد ثنا عبد الله قال: حدثني أبي قال:
حدثني علي بن الحسين عن أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام قال بلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين هاجر نزل عليه جبريل عليه الصلاة والسلام بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها؟ قال:
نعم قال إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد الآية
وهي ثمان وثمانون آية بالاتفاق، ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على شرح بعض ما أجمل فيه من أمر موسى عليه السلام.
قال الجلال السيوطي: إنه سبحانه لما حكى في الشعراء قول فرعون لموسى عليه السلام: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشعراء: ١٨، ١٩] إلى قول موسى عليه السلام: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: ٢١]. ثم حكى سبحانه في طس قول موسى عليه السلام لأهله إِنِّي آنَسْتُ ناراً [النمل: ٧] إلى آخره الذي هو في الوقوع بعد الفرار وكان الأمران على سبيل الإشارة والإجمال فبسط جل وعلا في هذه السورة ما أوجزه سبحانه في السورتين وفصل تعالى شأنه ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما فبدأ عز وجل بشرح تربية فرعون له مصدرا بسبب ذلك من علو فرعون وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عليه السلام عند ولادته في اليم خوفا عليه من الذبح وبسط القصة في تربيته وما وقع فيها إلى كبره إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي إلى قتل القبطي وهي الفعلة التي فعل إلى النم عليه بذلك الموجب لفراره إلى مدين إلى ما وقع له مع شعيب عليه السلام وتزوجه بابنته إلى أن سار بأهله وآنس من جانب الطور نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا إلى ما وقع له فيها من المناجاة لربه جل جلاله وبعثه تعالى إياه رسولا وما استتبع ذلك إلى آخر القصة فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في السورتين معا على الترتيب، وبذلك عرف وجه الحكمة من تقديم طس على هذه وتأخيرها عن الشعراء في الذكر في المصحف وكذا في النزول فقد روي عن ابن عباس وجابر ابن زيد أن الشعراء نزلت، ثم طس، ثم القصص، وأيضا قد ذكر سبحانه في السورة السابقة من توبيخ الكفرة بالسؤال يوم القيامة ما ذكر، وذكر جل شأنه في هذه من ذلك ما هو أبسط وأكثر مما تقدم، وأيضا ذكر عز وجل من أمر الليل والنهار هنا فوق ما ذكره سبحانه منه هناك، وقد يقال في وجه المناسبة أيضا: إنه تعالى فصل في تلك السورة أحوال بعض المهلكين
251
Icon