تفسير سورة الأحقاف

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة الأحقاف

الجزء الثامن والعشرون

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سُورَةُ الْأَحْقَافِ
وَهِيَ ثَلَاثُونَ وَخَمْسُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ وقيل اربع وثلاثون آية
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
اعْلَمْ أَنَّ نَظْمَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ كَنَظْمِ أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِ بِهَذَا الْعَالَمِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا رَحِيمًا بِعِبَادِهِ، نَاظِرًا لَهُمْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ.
أَمَّا الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِ بِهَذَا الْعَالَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ التقدير، وآثار التقدير ظاهرة في السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الْوُجُوهَ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ.
وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: وَهُوَ إِثْبَاتُ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ عَادِلٌ رَحِيمٌ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا بِالْحَقِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا بِالْحَقِّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِأَجْلِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَضْلُهُ زَائِدًا وَأَنْ يَكُونَ إِحْسَانُهُ رَاجِحًا، وَأَنْ يَكُونَ وُصُولُ الْمَنَافِعِ مِنْهُ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ أَكْثَرَ مِنْ وُصُولِ الْمَضَارِّ إِلَيْهِمْ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا بَيْنَ السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْقَبَائِحِ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ خَلْقِهِ بَلْ هُوَ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِكُلِّ بَاطِلٍ، وَذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخَانِ: ٣٩] أَجَابَ أَصْحَابُنَا وَقَالُوا:
خَلْقُ الْبَاطِلِ غَيْرٌ، وَالْخَلْقُ بِالْبَاطِلِ غَيْرٌ، فَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْبَاطِلَ إِلَّا أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ
5
لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُلْكِ نَفْسِهِ وَتَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مُلْكِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ، قَالُوا وَالَّذِي يُقَرِّرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِكُلِّ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّ أَعْمَالَ العباد من جملة ما بين السموات وَالْأَرْضِ، فَوَجَبَ كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَوُقُوعُ التَّعَارُضِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ مُحَالٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنْ قَالُوا أَفْعَالُ الْعِبَادِ أَعْرَاضٌ، وَالْأَعْرَاضُ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَنَقُولُ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سَقَطَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: فَهُوَ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تُوجَدِ الْقِيَامَةُ لَتَعَطَّلَ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَلَتَعَطَّلَ تَوْفِيَةُ الثَّوَابِ عَلَى الْمُطِيعِينَ وَتَوْفِيَةُ الْعِقَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَذَلِكَ يمنع من القول بأنه تعالى خلق السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَا «١» بِالْحَقِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَجَلٍ مُسَمًّى فَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَا خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِلَّا لِأَجَلٍ مُسَمًّى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مَا خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ لِيَبْقَى مُخَلَّدًا سَرْمَدًا، بَلْ إِنَّمَا خَلَقَهُ لِيَكُونَ دَارًا لِلْعَمَلِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُفْنِيهِ ثُمَّ يُعِيدُهُ، فَيَقَعُ الْجَزَاءُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَعَلَى هَذَا الْأَجَلِ الْمُسَمَّى هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِإِفْنَاءِ الدُّنْيَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَعَ نَصْبِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الدَّلَائِلَ وَمَعَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَمَعَ مُوَاظَبَةِ الرُّسُلِ عَلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، بَقِيَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مُعْرِضِينَ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَيْهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الدليل مذموم في الدين والدنيا.
[في قوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلى قوله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ هَذَا الْأَصْلَ الدَّالَّ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ كَوْنِهِ عَادِلًا رَحِيمًا، وَعَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ بَنَى عَلَيْهِ التَّفَارِيعَ.
فَالْفَرْعُ الْأَوَّلُ: الرَّدُّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهِيَ الْأَصْنَامُ أَرُونِي أَيْ أَخْبِرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ وَالْمُرَادُ أَنَّ/ هَذِهِ الْأَصْنَامَ، هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا خَلْقُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْعَالَمِ؟ فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا أَعَانَتْ إِلَهَ الْعَالَمِ فِي خَلْقِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْعَالَمِ، وَلَمَّا كَانَ صَرِيحُ الْعَقْلِ حَاكِمًا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْنَادُ خَلْقِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْعَالَمِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْجُزْءُ أَقَلَّ الْأَجْزَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إِسْنَادُ الْإِعَانَةِ إِلَيْهَا فِي أَقَلِّ الْأَفْعَالِ وَأَذَلِّهَا، فَحِينَئِذٍ صَحَّ أَنَّ الْخَالِقَ الْحَقِيقِيَّ لِهَذَا الْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ الْمُنْعِمَ الْحَقِيقِيَّ بِجَمِيعِ أَقْسَامِ النِّعَمِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالْعِبَادَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِأَكْمَلِ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ صَدَرَ عَنْهُ أَكْمَلُ وُجُوهِ الْإِنْعَامِ، فَلَمَّا كَانَ الْخَالِقُ الْحَقُّ وَالْمُنْعِمُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِتْيَانُ بِالْعِبَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ إِلَّا لَهُ وَلِأَجْلِهِ، بَقِيَ أَنْ يُقَالَ إِنَّا لَا نَعْبُدُهَا لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ، بَلْ إِنَّمَا نَعْبُدُهَا لِأَجْلِ أَنَّ الْإِلَهَ الْخَالِقَ الْمُنْعِمَ أَمَرَنَا بِعِبَادَتِهَا، فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ وُرُودَ هَذَا الْأَمْرِ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، فَنَقُولُ هَذَا الوحي الدال
(١) في الأصل «إلا بالحق» وهو خطأ والصواب حذف الألف وجعل إلا الاستثنائية، لا النافية، وهو الممنوع.
6
عَلَى الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَوْثَانِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ أَوْ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ لَكِنَّهُ مِنْ تَقَابُلِ الْعُلُومِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمْ وَالْكُلُّ بَاطِلٌ، أَمَّا إِثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ، وَأَمَّا إِثْبَاتُهُ بِسَبَبِ اشْتِمَالِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ الضَّرُورِيِّ إِطْبَاقُ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا، وَأَمَّا إِثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْعُلُومِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى مَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ حَاصِلٌ بِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا دَعَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ وَلَمَّا بَطَلَ الْكُلُّ ثَبَتَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عَمَلٌ بَاطِلٌ وَقَوْلٌ فَاسِدٌ وَبَقِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ نَوْعَانِ مِنَ الْبَحْثِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْبَحْثُ اللُّغَوِيُّ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أَيْ بَقِيَّةٍ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ أَثارَةٍ مَا يُؤْثَرُ مِنْ عِلْمٍ أَيْ بَقِيَّةٍ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ أَثارَةٍ تُؤْثَرُ مِنْ عِلْمٍ كَقَوْلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ يُؤْثَرُ عَنْ فُلَانٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتِ الْأَخْبَارُ بِالْآثَارِ يُقَالُ جَاءَ فِي الْأَثَرِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَكَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَرْفِ يَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْبَقِيَّةُ وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ أَثَرْتُ الشَّيْءَ أُثِيرُهُ إِثَارَةً كَأَنَّهَا بَقِيَّةٌ تُسْتَخْرَجُ فَتُثَارُ الثاني: مِنَ الْأَثَرِ الَّذِي هُوَ الرِّوَايَةُ وَالثَّالِثُ: هُوَ الْأَثَرُ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقُرِئَ أَثَرَةٍ أَيْ مِنْ شَيْءٍ أُوثِرْتُمْ بِهِ وَخُصِّصْتُمْ مِنْ عِلْمٍ لَا إِحَاطَةَ بِهِ لِغَيْرِكُمْ وَقُرِئَ أَثْرَةٍ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ سُكُونِ الثَّاءِ فَالْإِثْرَةُ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْأَثَرِ، وَأَمَّا الْإِثْرُ فَالْمَرْأَةُ مِنْ مَصْدَرِ أَثَرَ الْحَدِيثَ إِذَا رَوَاهُ، وَأَمَّا الْأُثَرَةُ بِالضَّمِّ فَاسْمُ مَا يُؤْثَرُ كَالْخُطْبَةِ اسْمٌ لِمَا يخطب به، وهاهنا قَوْلٌ آخَرُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ/ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ هُوَ عِلْمُ الْخَطِّ الَّذِي يُخَطُّ فِي الرَّمْلِ وَالْعَرَبُ كَانُوا يَخُطُّونَهُ وَهُوَ عِلْمٌ مَشْهُورٌ،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطُّهُ خَطَّهُ عُلِّمَ عِلْمَهُ»
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمَعْنَى الْآيَةِ ائْتُونِي بِعِلْمٍ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْخَطِّ الَّذِي تَخُطُّونَهُ فِي الرَّمْلِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِكُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَإِنْ صَحَّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَبِأَقْوَالِهِمْ وَدَلَائِلِهِمْ وَاللَّهُ تعالى أعلم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٥ الى ٨]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْقَوْلَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ قَوْلٌ بَاطِلٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَا قُدْرَةَ لَهَا الْبَتَّةَ عَلَى الْخَلْقِ وَالْفِعْلِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، فَأَرْدَفَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَهِيَ أَنَّهَا جمادات فلا تسمع دعاء الداعين، ولا تعم حَاجَاتِ الْمُحْتَاجِينَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالدَّلِيلُ الْأَوَّلُ كَانَ إِشَارَةً إِلَى نَفْيِ الْعِلْمِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَإِذَا انْتَفَى الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لَمْ تَبْقَ عِبَادَةٌ مَعْلُومَةٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ فَقَوْلُهُ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا امْرَأَ أَبْعَدَ عَنِ الْحَقِّ، وأقرب إلى
الجهل ممن يدعوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الْأَصْنَامَ، فَيَتَّخِذُهَا آلِهَةً وَيَعْبُدُهَا وَهِيَ إِذَا دُعِيَتْ لَا تَسْمَعُ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهَا الْإِجَابَةُ لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ذلك غاية لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى يُحْيِيهَا وَتَقَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ/ يَعْبُدُهَا مُخَاطَبَةٌ فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ تَعَالَى حَدًّا، وَإِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ وَحُشِرَ النَّاسُ فَهَذِهِ الْأَصْنَامُ تُعَادِي هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُحْيِي هَذِهِ الْأَصْنَامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ تُظْهِرُ عَدَاوَةَ هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ وَتَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ الْمُرَادُ عَبَدَةُ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى فَإِنَّهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُظْهِرُونَ عَدَاوَةَ هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ فَإِنْ قِيلَ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَكَيْفَ يُعْقَلُ وَصْفُ الْأَصْنَامِ وَهِيَ جَمَادَاتٌ بِالْغَفْلَةِ؟ وَأَيْضًا كَيْفَ جَازَ وَصْفُ الْأَصْنَامِ بِمَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْعُقَلَاءِ؟ وَهِيَ لَفْظَةٌ مَنْ وقوله هم غَافِلُونَ قُلْنَا إِنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوهَا وَنَزَّلُوهَا مَنْزِلَةَ مَنْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ فِيهَا إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْغَافِلِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُجِيبُ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ لَفْظَةَ مِنْ وَلَفْظَةَ هُمْ كَيْفَ يَلِيقُ بِهَا، وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى وَعُزَيْرٍ وَالْأَصْنَامِ إِلَّا أَنَّهُ غَلَّبَ غَيْرَ الْأَوْثَانِ عَلَى الْأَوْثَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ تَكَلَّمَ فِي النُّبُوَّةِ وَبَيَّنَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعْجِزَاتِ زَعَمُوا أَنَّهُ سِحْرٌ فَقَالَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ وَعُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الْمُعْجِزَاتُ الظَّاهِرَةُ سَمَّوْهَا بِالسِّحْرِ، وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْمُعْجِزَةَ بِالسِّحْرِ بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَتَى سَمِعُوا الْقُرْآنَ قَالُوا إِنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ فِي أَمْ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ دَعْ هَذَا وَاسْمَعِ الْقَوْلَ الْمُنْكَرَ الْعَجِيبَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بُطْلَانَ شُبْهَتِهِمْ فَقَالَ إِنِ افْتَرَيْتُهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَاجِلُنِي بِعُقُوبَةِ بُطْلَانِ ذَلِكَ الِافْتِرَاءِ وَأَنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهِ عَنْ مُعَاجَلَتِي بِالْعُقُوبَةِ فَكَيْفَ أُقْدِمُ عَلَى هَذِهِ الْفِرْيَةِ، وَأُعَرِّضُ نَفْسِي لِعِقَابِهِ؟ يُقَالُ فُلَانٌ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ إِذَا غَضِبَ وَلَا يَمْلِكُ عِنَانَهُ إِذَا صَمَّمَ، وَمِثْلُهُ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [الْمَائِدَةِ: ١٧]، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً (الْمَائِدَةِ: ٤١)
وَمِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»
. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أَيْ تَنْدَفِعُونَ فِيهِ مِنَ الْقَدْحِ فِي وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَالطَّعْنِ فِي آيَاتِهِ وَتَسْمِيَتِهِ سِحْرًا تَارَةً وَفِرْيَةً أُخْرَى كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يَشْهَدُ لِي بِالصِّدْقِ وَيَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالْكَذِبِ وَالْجُحُودِ، وَمَعْنَى ذِكْرِ الْعِلْمِ وَالشَّهَادَةِ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى إِقَامَتِهِمْ فِي الطَّعْنِ وَالشَّتْمِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بِمَنْ رَجَعَ عَنِ الْكُفْرِ وَتَابَ وَاسْتَعَانَ بِحُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مع عظم ما ارتكبوه.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٩ الى ١٢]
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)
8
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ. مُعْجِزًا، بِأَنْ قَالُوا إِنَّهُ يَخْتَلِقُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْفِرْيَةِ، حَكَى عَنْهُمْ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ مِنْهُ مُعْجِزَاتٍ عَجِيبَةً قَاهِرَةً، وَيُطَالِبُونَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَالْبِدْعُ وَالْبَدِيعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الْمَبْدَأُ وَالْبِدْعَةُ مَا اخْتُرِعَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَهُ بِحُكْمِ السُّنَّةِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أَيْ مَا كُنْتُ أَوَّلَهُمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُنْكِرُوا إِخْبَارِي بِأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، وَلَا تُنْكِرُوا دُعَائِي لَكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَنَهْيِي عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّ كُلَّ الرُّسُلِ إِنَّمَا بُعِثُوا بِهَذَا الطَّرِيقِ الْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ مُعْجِزَاتٍ عَظِيمَةً وَإِخْبَارًا عَنِ الْغُيُوبِ فَقَالَ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ وَالْإِخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْغُيُوبِ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ، وَأَنَا مِنْ جِنْسِ الرُّسُلِ وَأَحَدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا تُرِيدُونَهُ فَكَيْفَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعِيبُونَهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَبِأَنَّ أَتْبَاعَهُ فُقَرَاءُ فَقَالَ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَكُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَبِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِي كَمَا لَا تَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَا أَدْرِي مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ، وَمَنِ الْغَالِبُ مِنَّا وَالْمَغْلُوبُ وَالثَّانِي:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: لَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَشَجَرٍ وَمَاءٍ، فَقَصَّهَا عَلَى أَصْحَابِهِ فَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ فَرَجٌ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَكَثُوا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ لَا يَرَوْنَ أَثَرَ ذَلِكَ، ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا الَّذِي قُلْتَ وَمَتَى نُهَاجِرُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي رَأَيْتَهَا فِي الْمَنَامِ؟ فَسَكَتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وَهُوَ شَيْءٌ رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ، وَأَنَا لَا أَتَّبِعُ إِلَّا مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ
الثَّالِثُ: قَالَ الضَّحَّاكُ لَا أَدْرِي مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَلَا أُؤْمَرُ بِهِ فِي بَابِ التَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ وَالْجِهَادِ وَلَا فِي الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ وَإِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِمَا أَعْلَمَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالرَّابِعُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَقُولُ لَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي فِي الدُّنْيَا أَأُمُوتُ أَمْ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي وَلَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ، أَتُرْمَوْنَ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ، أَمْ يُخْسَفُ بِكُمْ أَمْ يُفْعَلُ بِكُمْ مَا فُعِلَ بِسَائِرِ الْأُمَمِ، أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ وَقَالُوا كَيْفَ نَتَّبِعُ نَبِيًّا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ إِلَى قَوْلِهِ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً [الْفَتْحِ: ١- ٥] فَبَيَّنَ تَعَالَى مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِمَنِ اتَّبَعَهُ وَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ اسْتَبْعَدُوا هَذَا الْقَوْلَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ نَبِيًّا وَمَتَّى عَلِمَ كَوْنَهُ نَبِيًّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَصْدُرُ عَنْهُ الْكَبَائِرُ وَأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُهُ شَاكًّا فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ أَمْ لَا الثَّانِي: لَا شَكَّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَرْفَعُ حَالًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَمَّا قَالَ فِي هَذَا إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
9
اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
[الْأَحْقَافِ: ١٣] فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَبْقَى الرَّسُولُ الَّذِي هُوَ رَئِيسُ الْأَتْقِيَاءِ وَقُدْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ شَاكًّا فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مِنَ الْمَغْفُورِينَ أَوْ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ؟ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: ١٢٤] وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَمَالُ حَالِهِ وَنِهَايَةُ قُرْبِهِ مِنْ حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَبْقَى شَاكًّا فِي أَنَّهُ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ أَوْ مِنَ الْمَغْفُورِينَ؟ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ ما يفعل يفتح الْيَاءِ أَيْ يَفْعَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ قَالُوا مَا يَفْعَلُ مُثْبَتٌ وَغَيْرُ مَنْفِيٍّ وَكَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: مَا يَفْعَلُ بِي وَبِكُمْ؟ قُلْنَا التَّقْدِيرُ مَا أَدْرِي مَا يَفْعَلُ بِي وَمَا أَدْرِي مَا يَفْعَلُ بِكُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ يَعْنِي إِنِّي لَا أَقُولُ قَوْلًا وَلَا أَعْمَلُ عَمَلًا إِلَّا بِمُقْتَضَى الْوَحْيِ وَاحْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ قَوْلًا وَلَا عَمِلَ عَمَلًا إِلَّا بِالنَّصِّ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُنَا كَذَلِكَ بَيَانُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ بَيَانُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: ١٥٨] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النُّورِ: ٦٣].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ كَانُوا يُطَالِبُونَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْعَجِيبَةِ وَبِالْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ فَقَالَ قُلْ: وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ وَالْقَادِرُ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ وَالْعَالِمُ بِتِلْكَ الْغُيُوبِ لَيْسَ إلا الله سبحانه.
[قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ أَنْ يُقَالَ إِنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ ثُمَّ اسْتَكْبَرْتُمْ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ثُمَّ حُذِفَ هَذَا الْجَوَابُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ إِنْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَأَسَأْتَ إِلَيَّ وَأَقْبَلْتُ عَلَيْكَ وَأَعْرَضْتَ عني فقد ظلمتني، فكذا هاهنا التَّقْدِيرُ أَخْبِرُونِي إِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِسَبَبِ عَجْزِ الْخَلْقِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ وَحَصَلَ أَيْضًا شَهَادَةُ أَعْلَمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِكَوْنِهِ مُعْجِزًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَوِ اسْتَكْبَرْتُمْ وَكَفَرْتُمْ أَلَسْتُمْ أَضَلَّ النَّاسِ وَأَظْلَمَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ قَدْ يُحْذَفُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَقَدْ يُذْكَرُ، أَمَّا الْحَذْفُ فَكَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرَّعْدِ: ٣١] وَأَمَّا الْمَذْكُورُ، فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ [فُصِّلَتْ: ٥٢] وَقَوْلِهِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ [الْقَصَصِ: ٧١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ هَذَا الشَّاهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ،
رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ نَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ وَتَأَمَّلَهُ وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْتَظَرُ، فَقَالَ لَهُ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ مَا يَعْلَمُهُنَّ إلا نبي ما أول أشراط الساعات، وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْوَلَدُ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ
10
إِلَى أُمِّهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ نَزَعَ لَهُ وَإِنْ سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَ لَهَا» فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ وَإِنْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ عَنِّي بَهَتُونِي عِنْدَكَ، فَجَاءَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ؟ فَقَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا فَقَالَ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَقَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَانْتَقَصُوهُ فَقَالَ هَذَا مَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ سَعْدُ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ/ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَفِيهِ نَزَلَ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّعْبِيَّ وَمَسْرُوقًا وَجَمَاعَةً آخَرِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَالُوا لِأَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامَيْنِ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ عَلَى وَاقِعَةٍ حَدَثَتْ فِي آخِرِ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَجَابَ الْكَلْبِيُّ بِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَكَانَتِ الْآيَةُ تَنْزِلُ فَيُؤْمَرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يضعها في سورة كذا فهذا الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَضَعَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَيْتُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مُشْكِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يُوهِمُ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ، وَأَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْجَوَابَاتِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ لِأَجْلِ أَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ تِلْكَ الْجَوَابَاتِ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَوَّلِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَعَنْ أَوَّلِ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِخْبَارٌ عَنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ ذَلِكَ الْخَبَرِ صِدْقًا إِلَّا إِذَا عُرِفَ أَوَّلًا كَوْنُ الْمُخْبِرِ صَادِقًا فَلَوْ أَنَّا عَرَفْنَا صِدْقَ الْمُخْبِرِ يكون ذَلِكَ الْخَبَرِ صِدْقًا لَزِمَ الدَّوْرُ وَإِنَّهُ مُحَالٌ والثاني: أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْجَوَابَاتِ الْمَذْكُورَةَ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يَبْلُغُ الْعِلْمُ بِهَا إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ الْبَتَّةَ، بَلْ نَقُولُ الْجَوَابَاتُ الْقَاهِرَةُ عَنِ الْمَسَائِلِ الصَّعْبَةِ لَمَّا لَمْ تَبْلُغْ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْجَوَابَاتِ عَنْ هَذِهِ السُّؤَالَاتِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا بَلَغَتْ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ وَالْجَوَابُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ رَسُولَ آخِرِ الزَّمَانِ يُسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَهُوَ يُجِيبُ عَنْهَا بِهَذِهِ الْجَوَابَاتِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ عَالِمًا بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَابَ بِتِلْكَ الْأَجْوِبَةِ عَرَفَ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَوْنَهُ رَسُولًا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى أَنْ نَقُولَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْجَوَابَاتِ مُعْجِزٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجُودٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْبِشَارَةُ بِمَقْدِمِهِ حَاصِلَةٌ فِيهَا فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُنْصِفًا عَارِفًا بِالتَّوْرَاةِ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَاعْتَرَفَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرْتُمْ أَلَسْتُمْ كُنْتُمْ ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِكُمْ ضَالِّينَ عَنِ الْحَقِّ؟ فَهَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الشَّاهِدِ شَخْصًا مُعَيَّنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَثَبَتَ أَنَّ التَّوْرَاةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَقْلِ إِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مِثْلِهِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، وَالْأَقْرَبُ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
11
كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا أَقُولُ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِ مَا قُلْتُ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ أَلَسْتُمْ كُنْتُمْ ظَالِمِينَ أَنْفُسَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَهْدِيدٌ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ وَالتَّقْدِيرُ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ فَإِنَّكُمْ لَا تَكُونُونَ مُهْتَدِينَ بَلْ تَكُونُونَ ضَالِّينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا مَنَعَهُمُ الْهِدَايَةَ بِنَاءً عَلَى الْفِعْلِ الْقَبِيحِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُمْ أَوَّلًا، فَإِنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ لِكَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ أن يكون الحال فيها كما هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ شُبْهَةٌ أُخْرَى لِلْقَوْمِ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي سَبَبِ نُزُولِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا كَلَامُ كُفَّارِ مَكَّةَ قَالُوا إِنَّ عَامَّةَ مَنْ يَتَّبِعُ مُحَمَّدًا الْفُقَرَاءُ وَالْأَرَاذِلُ مِثْلُ عَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الثَّانِي: قِيلَ لَمَّا أَسْلَمَتْ جُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَغِفَارٌ، قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ وَغَطَفَانُ وَأَسَدٌ وَأَشْجَعُ لَوْ كَانَ هَذَا خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ رِعَاءُ الْبُهْمِ الثَّالِثُ: قِيلَ إِنَّ أَمَةً لِعُمَرَ أَسْلَمَتْ وَكَانَ عُمَرُ يَضْرِبُهَا حَتَّى يَفْتُرَ، وَيَقُولُ لَوْلَا أَنِّي فَتَرْتُ لَزِدْتُكِ ضَرْبًا، فَكَانَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ مَا يَدْعُو مُحَمَّدٌ إِلَيْهِ حَقًّا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ فُلَانَةُ. الرَّابِعُ: قِيلَ كَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ عِنْدَ إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ آمَنُوا ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينِ آمَنُوا، عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ كَمَا تَقُولُ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو، ثُمَّ تَتْرُكُ الْخِطَابَ وَتَنْتَقِلُ إِلَى الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يُونُسَ: ٢٢] الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِلَّذِينَ آمَنُوا لِأَجْلِهِمْ يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِأَجْلِ إِيمَانِ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ، وعندي فيه وجه الثالث: وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ جَمَاعَةً آمَنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطَبُوا جَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْحَاضِرِينَ، وَقَالُوا لَهُمْ لَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ خَيْرًا لَمَا سَبَقَنَا إليه أولئك الغائبون الذين أسلموا.
[في قوله تعالى وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَقِفُوا عَلَى وَجْهِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا، فَلَا بُدَّ مِنْ عَامِلٍ فِي الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ وَمِنْ مُتَعَلِّقٍ لِقَوْلِهِ فَسَيَقُولُونَ وَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ أَنْ يَكُونَ فَسَيَقُولُونَ هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ لِتَدَافُعِ دَلَالَتَيِ الْمُضِيِّ وَالِاسْتِقْبَالِ، فَمَا وَجْهُ هَذَا الْكَلَامِ؟ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ظَهَرَ عِنَادُهُمْ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً كِتَابُ مُوسَى مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ قَبْلِهِ ظَرْفٌ/ وَاقِعٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ إِماماً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِكَ فِي الدَّارِ زَيْدٌ قَائِمًا، وَقُرِئَ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى وَالتَّقْدِيرُ: وَآتَيْنَا الَّذِي قبله التوراة، ومعنى إِماماً أي قدوة وَرَحْمَةً يُؤْتَمُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ، كَمَا يؤتم
12
بِالْإِمَامِ وَرَحْمَةً لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ الْقَوْمَ طَعَنُوا فِي صِحَّةِ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الصَّعَالِيكُ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقُرْآنِ أَنَّكُمْ لَا تُنَازِعُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَ هَذَا الْكِتَابَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، ثُمَّ إِنِ التَّوْرَاةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا سَلَّمْتُمْ كَوْنَ التَّوْرَاةِ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، فَاقْبَلُوا حُكْمَهُ فِي كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا مِنَ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِكِتَابِ مُوسَى فِي أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِساناً عَرَبِيًّا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ قَالَ: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَفِي قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قِرَاءَتَانِ التَّاءُ لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْمُخَاطَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢] وَالْيَاءُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الْكِتَابِ فَأُسْنِدَ الْإِنْذَارُ إِلَى الْكِتَابِ كَمَا أُسْنِدَ إِلَى الرَّسُولِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الْكَهْفِ: ١، ٢].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ الْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَبُشْرى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَعْنَى وَهُوَ بُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى مَعْنَى لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ إنذار المعرضين وبشارة المطيعين.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٣ الى ١٦]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَذَكَرَ شُبُهَاتِ الْمُنْكِرِينَ وَأَجَابَ عَنْهَا، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ طَرِيقَةَ الْمُحِقِّينَ وَالْمُحَقِّقِينَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ ذَكَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ وَيَقُولُونَ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت: ٣٠] وهاهنا رَفَعَ الْوَاسِطَةَ مِنَ الْبَيْنِ وَذَكَرَ أَنَّهُ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَإِذَا جَمَعْنَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُبَلِّغُونَ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْبِشَارَةَ، وَأَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يُسْمِعُهُمْ هَذِهِ الْبِشَارَةَ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ من آمن بالله وعمل صالحا فَإِنَّهُمْ بَعْدَ الْحَشْرِ لَا يَنَالُهُمْ خَوْفٌ وَلَا حُزْنٌ، وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ إِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنُونَ مِنَ الْأَهْوَالِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ خَوْفُ الْعِقَابِ زَائِلٌ عَنْهُمْ، أَمَّا خَوْفُ
13
الْجَلَالِ وَالْهَيْبَةِ فَلَا يَزُولُ الْبَتَّةَ عَنِ الْعَبْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَاتِهِمْ وَكَمَالِ عِصْمَتِهِمْ لَا يَزُولُ الْخَوْفُ عَنْهُمْ فَقَالَ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: ٥٠] وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ سَبَقَتْ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٣].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَسَائِلَ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ لَيْسُوا إِلَّا الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الثَّوَابُ فَضْلٌ لَا جَزَاءٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْعَمَلِ لِلْعَبْدِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْأَثَرُ فِي حَالِ الْمُؤَثِّرِ، أَوْ أَيِّ أَثَرٍ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْجَبَ الثَّوَابَ الْمُتَأَخِّرَ وَخَامِسُهَا: كَوْنُ الْعَبْدِ/ مُسْتَحِقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ هَذَا النَّوْعِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، لَا جَرَمَ أَرْدَفَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَفِي سُورَةِ لُقْمَانَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً وَالْبَاقُونَ حُسْنًا.
وَاعْلَمْ أن الإحسان خلاف الإساءة والحسن خلاف القبيح، فَمَنْ قَرَأَ إِحْساناً فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: ٤٣] وَالْمَعْنَى أَمَرْنَاهُ بِأَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِمَا إِحْسَانًا، وَحَجَّةُ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْعَنْكَبُوتِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [العنكبوت: ٨] وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَالْمُرَادُ أَيْضًا أَنَّا أَمَرْنَاهُ بِأَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِمَا فِعْلًا حَسَنًا، إِلَّا أَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ الْفِعْلَ الْحَسَنَ بِالْحُسْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا الرَّجُلُ عِلْمٌ وَكَرَمٌ، وَانْتَصَبَ حُسْنًا عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أَمَرْنَاهُ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمَا إِحْسَانًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كُرْهًا بِضَمِّ الْكَافِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قِيلَ هُمَا لُغَتَانِ: مِثْلَ الضَّعْفُ وَالضُّعْفُ، وَالْفَقْرُ وَالْفُقْرُ، وَمِنْ غَيْرِ الْمَصَادِرِ: الدَّفُّ والدف، والشهد والشهد، قال الواحدي: الكره مَصْدَرٌ مِنْ كَرِهْتُ الشَّيْءَ أَكْرَهُهُ، وَالْكَرْهُ الِاسْمُ كَأَنَّهُ الشَّيْءُ الْمَكْرُوهُ قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢١٦] فَهَذَا بِالضَّمِّ، وَقَالَ: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاءِ: ١٩] فَهَذَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَمْ يَقْرَأِ الثَّانِيَةَ بِغَيْرِ الْفَتْحِ، فَمَا كَانَ مَصْدَرًا أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَالْفَتْحُ فِيهِ أَحْسَنُ، وَمَا كَانَ اسْمًا نَحْوَ ذَهَبْتُ بِهِ عَلَى كُرْهٍ كَانَ الضَّمُّ فِيهِ أَحْسَنَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. حَمَلَتْهُ أَمُّهُ عَلَى مَشَقَّةٍ وَوَضَعَتْهُ فِي مَشَقَّةٍ، وَلَيْسَ يُرِيدُ ابْتِدَاءَ الْحَمْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مَشَقَّةً، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً [الْأَعْرَافِ: ١٨٩] يُرِيدُ ابْتِدَاءَ الْحَمْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مَشَقَّةً، فَالْحَمْلُ نُطْفَةٌ وَعَلَقَةٌ ومضغة، فإذا أثقلت فحينئذ حملته كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً يُرِيدُ شِدَّةَ الطَّلْقِ.
14
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْأُمِّ أَعْظَمُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً فَذَكَرَهُمَا مَعًا، ثُمَّ خَصَّ الْأُمَّ بِالذِّكْرِ، فَقَالَ: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقَّهَا أَعْظَمُ، وَأَنَّ وَصُولَ الْمَشَاقِّ إِلَيْهَا بِسَبَبِ الْوَلَدِ أَكْثَرُ، وَالْأَخْبَارُ مَذْكُورَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ وَمُدَّةُ حَمْلِهِ وَفِصَالِهِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا وَالْفِصَالُ الْفِطَامُ وَهُوَ فَصْلُهُ عَنِ اللَّبَنِ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بَيَانُ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ لَا الْفِطَامِ، فَكَيْفَ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِصَالِ؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الرِّضَاعُ يَلِيهِ الْفِصَالُ وَيُلَائِمُهُ، لِأَنَّهُ يَنْتَهِي وَيَتِمُّ بِهِ سُمِّيَ فِصَالًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثون شَهْرًا، قَالَ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٣] فَإِذَا أَسْقَطْتَ الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا مِنَ الثَّلَاثِينَ، بَقِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ امْرَأَةً رُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا رَجْمَ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ الطَّرِيقَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ،
وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ هَمَّ بِذَلِكَ، فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ وَالتَّجْرِبَةَ يَدُلَّانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، قَالَ أَصْحَابُ التَّجَارِبِ: إِنَّ لِتَكْوِينِ الْجَنِينِ زَمَانًا مُقَدَّرًا، فَإِذَا تَضَاعَفَ ذَلِكَ الزَّمَانُ تَحَرَّكَ الْجَنِينُ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ مِثْلَاهُ انْفَصَلَ الْجَنِينُ عَنِ الْأُمِّ، فَلْنَفْرِضْ أَنَّهُ يَتِمُّ خَلْقُهُ فِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَإِذَا تَضَاعَفَ ذَلِكَ الزَّمَانُ حَتَّى صَارَ سِتِّينَ تَحَرَّكَ الْجَنِينُ، فَإِذَا تَضَاعَفَ إِلَى هَذَا الْمَجْمُوعِ مِثْلَاهُ وَهُوَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ حَتَّى صَارَ الْمَجْمُوعُ مِائَةً وَثَمَانِينَ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَصِلُ الْجَنِينُ، فَلْنَفْرِضْ أَنَّهُ يَتِمُّ خَلْقُهُ فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا فَيَتَحَرَّكُ فِي سَبْعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ مِثْلَاهُ وَهُوَ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا صَارَ الْمَجْمُوعُ مِائَةً وَثَمَانِينَ وَعَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ انْفَصَلَ الْوَلَدُ، وَلْنَفْرِضْ أَنَّهُ يَتِمُّ خَلْقُهُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَتَحَرَّكُ فِي ثَمَانِينَ يَوْمًا، فَيَنْفَصِلُ عِنْدَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَلْنَفْرِضْ أَنَّهُ تَمَّتِ الْخِلْقَةُ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَتَحَرَّكُ فِي تِسْعِينَ يَوْمًا، فَيَنْفَصِلُ عِنْدَ مِائَتَيْنِ وَسَبْعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، فَهَذَا هُوَ الضَّبْطُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ التجارب. قال جالينوس: إن كَنْتُ شَدِيدَ التَّفَحُّصِ عَنْ مَقَادِيرِ أَزْمِنَةِ الْحَمْلِ، فَرَأَيْتُ امْرَأَةً وَلَدَتْ فِي الْمِائَةِ وَالْأَرْبَعِ وَالثَّمَانِينَ ليلة، وزعم أو عَلِيِّ بْنُ سِينَا أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَارَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ بِحَسَبِ نَصِّ الْقُرْآنِ، وبحسب التجارب الطيبة شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَأَمَّا أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا: فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنَ الْمَقَالَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ عُنْوَانِ الشِّفَاءِ، بَلَغَنِي مِنْ حَيْثُ وَثَقْتُ بِهِ كُلَّ الثقة، أن المرأة وَضَعَتْ بَعْدَ الرَّابِعِ مِنْ سِنِي الْحَمْلِ وَلَدًا قَدْ نَبَتَتْ أَسْنَانُهُ وَعَاشَ. وَحُكِيَ عَنْ أَرِسْطَاطَالِيسَ أَنَّهُ قَالَ: أَزْمِنَةُ الْوِلَادَةِ، وَحَبْلُ الْحَيَوَانِ مَضْبُوطَةٌ سِوَى الْإِنْسَانِ، فَرُبَّمَا وَضَعَتِ الْحُبْلَى لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَرُبَّمَا وَضَعَتْ فِي الثَّامِنِ، وَقَلَّمَا يَعِيشُ الْمَوْلُودُ فِي الثَّامِنِ إِلَّا فِي بِلَادٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ مِصْرَ، وَالْغَالِبُ هُوَ الْوِلَادَةُ بَعْدَ التَّاسِعِ. قَالَ أَهْلُ التَّجَارِبِ: وَالَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَضَاعَفَ زَمَانُ التَّكْوِينِ تَحَرَّكَ الْجَنِينُ، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَى الْمَجْمُوعِ مِثْلَاهُ انْفَصَلَ الْجَنِينُ، إِنَّمَا قُلْنَاهُ بِحَسَبِ التَّقْرِيبِ لَا بِحَسَبِ التَّحْدِيدِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ بِحَسَبِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ عَلَى هَذَا الضَّبْطِ بُرْهَانٌ، إِنَّمَا هُوَ تَقْرِيبٌ ذَكَرُوهُ بِحَسَبِ التَّجْرِبَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
15
ثُمَّ قَالَ الْمُدَّةُ الَّتِي فِيهَا تَتِمُّ خِلْقَةُ الْجَنِينِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ فَأَوَّلُهَا: أَنَّ الرَّحِمَ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْمَنِيِّ وَلَمْ تَقْذِفْهُ إِلَى الْخَارِجِ اسْتَدَارَ الْمَنِيُّ عَلَى نَفْسِهِ مُنْحَصِرًا إِلَى ذَاتِهِ وَصَارَ كَالْكُرَةِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمَنِيِّ أَنْ يُفْسِدَهُ الْحَرَكَاتُ، لَا جَرَمَ يَثْخُنُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَبِالْحَرِيِّ أَنَّ خَلْقَ الْمَنِيِّ مِنْ مَادَّةٍ تَجِفُّ/ بِالْحَرِّ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَكَوُّنَ الْحَيَوَانِ وَاسْتِحْصَافَ أَجْزَائِهِ وَيَصِيرُ الْمَنِيُّ زَبَدًا فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ وَثَانِيهَا: ظُهُورُ النُّقَطِ الثَّلَاثَةِ الدَّمَوِيَّةِ فِيهِ إِحْدَاهَا: فِي الْوَسَطِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي إِذَا تَمَّتْ خِلْقَتُهُ كَانَ قَلْبًا وَالثَّانِي: فَوْقُ وَهُوَ الدِّمَاغُ وَالثَّالِثُ: عَلَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْكَبِدُ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ النُّقَطَ تَتَبَاعَدُ وَيَظْهَرُ فِيمَا بَيْنَهَا خُيُوطٌ حُمْرٌ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أُخْرَى فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ تِسْعَةَ أَيَّامٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ تَنْفُذَ الدَّمَوِيَّةُ فِي الْجَمِيعِ فَيَصِيرُ عَلَقَةً وَذَلِكَ بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أُخْرَى حَتَّى يَصِيرَ الْمَجْمُوعُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَصِيرَ لَحْمًا وَقَدْ تَمَيَّزَتِ الْأَعْضَاءُ الثَّلَاثَةُ، وَامْتَدَّتْ رُطُوبَةُ النُّخَاعِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَخَامِسُهَا: أَنْ يَنْفَصِلَ الرَّأْسُ عَنِ الْمَنْكِبَيْنِ وَالْأَطْرَافُ عن الضلوع والبطن يميز الحسن فِي بَعْضٍ وَيَخْفَى فِي بَعْضٍ وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ أُخْرَى فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَسَادِسُهَا: أَنْ يَتِمَّ انْفِصَالُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَيَصِيرُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ ذَلِكَ الْحِسُّ ظُهُورًا بَيِّنًا، وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أُخْرَى فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَتَأَخَّرُ إِلَى خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا قَالَ وَالْأَقَلُّ هُوَ الثَّلَاثُونَ، فَصَارَتْ هَذِهِ التَّجَارِبُ الطِّبِّيَّةُ مُطَابِقَةً لِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ
فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا»
قَالَ أَصْحَابُ التَّجَارِبِ إِنَّ السَّقْطَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ إِذَا شُقَّ عَنْهُ السُّلَالَةُ وَوُضِعَ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ ظَهَرَ شَيْءٌ صَغِيرٌ مُتَمَيِّزُ الْأَطْرَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَقَلِّ الْحَمْلِ وَعَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ، أَمَّا إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ
[الْبَقَرَةِ: ٢٣٣] وَالْفُقَهَاءُ رَبَطُوا بِهَذَيْنِ الضَّابِطَيْنِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً فِي الْفِقْهِ، وَأَيْضًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ هُوَ الْأَشْهُرُ السِّتَّةُ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَأْتِيَ الْمَرْأَةُ بِالْوَلَدِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ يَبْقَى جَانِبُهَا مَصُونًا عَنْ تُهْمَةِ الزِّنَا وَالْفَاحِشَةِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مُدَّةَ الرَّضَاعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِذَا حَصَلَ الرَّضَاعُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الرَّضَاعِ فَتَبْقَى الْمَرْأَةُ مَسْتُورَةٌ عَنِ الْأَجَانِبِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَقْدِيرِ أَقَلِّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَتَقْدِيرُ أَكْثَرَ الرَّضَاعِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ السَّعْيُ فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ وَالْفَوَاحِشِ وَأَنْوَاعِ التُّهْمَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ وَنَفَائِسُ لَطِيفَةٌ، تَعْجَزُ الْعُقُولُ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِكَمَالِهَا.
وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا حَمَلَتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْهُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِذَا حَمَلَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْهُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ يُرِيدُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَاحْتَجَّ الْفَرَّاءُ عَلَيْهِ/ بِأَنْ قَالَ إِنَّ الْأَرْبَعِينَ أَقْرَبُ فِي النَّسَقِ إِلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ أَخَذْتُ عَامَّةَ الْمَالِ أَوْ كُلَّهُ، فَيَكُونُ أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِكَ أَخَذْتُ أَقَلَّ الْمَالِ أَوْ كُلَّهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ
16
[الْمُزَّمِّلِ: ٢٠] فَبَعْضُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ فكذا هاهنا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ الَّذِي يَكْمُلُ فِيهِ بَدَنُ الْإِنْسَانِ، وَأَقُولُ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مَرَاتِبَ سِنِّ الْحَيَوَانِ ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَدَنَ الْحَيَوَانِ لَا يَتَكَوَّنُ إِلَّا بِرُطُوبَةٍ غَرِيزِيَّةٍ وَحَرَارَةٍ غَرِيزِيَّةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّطُوبَةَ الْغَرِيزِيَّةَ غَالِبَةٌ فِي أَوَّلِ الْعُمْرِ وَنَاقِصَةٌ فِي آخِرِ الْعُمْرِ، وَالِانْتِقَالُ مِنَ الزِّيَادَةِ إِلَى النُّقْصَانِ لَا يُعْقَلُ حُصُولُهُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِي وَسَطِ هَاتَيْنِ الْمُدَّتَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُدَّةَ الْعُمْرِ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَوَّلُهَا: أَنْ تَكُونَ الرُّطُوبَةُ الْغَرِيزِيَّةُ زَائِدَةً عَلَى الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْأَعْضَاءُ قَابِلَةً لِلتَّمَدُّدِ في ذواتها وللزيادة بِحَسَبِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ وَهَذَا هُوَ سِنُّ النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ أَنْ تَكُونَ الرُّطُوبَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَافِيَةً بِحِفْظِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانَ وَهَذَا هُوَ سِنُّ الْوُقُوفِ وَهُوَ سِنُّ الشَّبَابِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْأَخِيرَةُ أَنْ تَكُونَ الرُّطُوبَةُ الْغَرِيزِيَّةُ نَاقِصَةً عَنِ الْوَفَاءِ بِحِفْظِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ ثُمَّ هَذَا النُّقْصَانُ عَلَى قِسْمَيْنِ فَالْأَوَّلُ: هُوَ النُّقْصَانُ الْخَفِيُّ وَهُوَ سِنُّ الْكُهُولَةِ وَالثَّانِي: هُوَ النُّقْصَانُ الظَّاهِرُ وَهُوَ سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ، فَهَذَا ضَبْطٌ معلوم. ثم هاهنا مُقَدِّمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ دَوْرَ الْقَمَرِ إِنَّمَا يَكْمُلُ فِي مُدَّةِ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَشَيْءٍ، فَإِذَا قَسَّمْنَا هَذِهِ الْمُدَّةَ بِأَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ كَانَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْهَا سَبْعَةً فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّرُوا الشَّهْرَ بِالْأَسَابِيعِ الْأَرْبَعَةِ، وَلِهَذِهِ الْأَسَابِيعِ تَأْثِيرَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ التَّجَارِبِ قَسَّمُوا مُدَّةَ سِنِّ النَّمَاءِ وَالنُّشُوءِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَسَابِيعَ وَيَحْصُلُ لِلْآدَمِيِّ بِحَسَبَ انْتِهَاءِ كُلِّ سَابُوعٍ مِنْ هَذِهِ السَّوَابِيعِ الْأَرْبَعَةِ نَوْعٌ مِنَ التَّغَيُّرِ يؤدي إلى كماله أما عند تمام السوابيع الأول من العمر فتصلب أعضاءه بَعْضَ الصَّلَابَةِ، وَتَقْوَى أَفْعَالُهُ أَيْضًا بَعْضَ الْقُوَّةِ، وَتَتَبَدَّلُ أَسْنَانُهُ الضَّعِيفَةُ الْوَاهِيَةُ بِأَسْنَانٍ قَوِيَّةٍ وَتَكُونُ قُوَّةُ الشَّهْوَةِ فِي هَذَا السَّابُوعِ أَقْوَى فِي الْهَضْمِ مِمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي نِهَايَةٍ السَّابُوعِ الثَّانِي فَتَقْوَى الْحَرَارَةُ وَتَقِلُّ الرُّطُوبَاتِ وَتَتَّسِعُ الْمَجَارِي وَتَقْوَى قُوَّةُ الْهَضْمِ وَتَقْوَى الْأَعْضَاءُ وَتَصْلُبُ قُوَّةً وَصَلَابَةً كَافِيَةً وَيَتَوَلَّدُ فِيهِ مَادَّةُ الزَّرْعِ، وَعِنْدَ هَذَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ بِالْبُلُوغِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ لَمَّا قَوِيَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ قَلَّتِ الرُّطُوبَاتُ وَاعْتَدَلَ الدِّمَاغُ فَتَكْمُلُ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْفِكْرُ وَالذِّكْرُ، فَلَا جَرَمَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِكَمَالِ الْعَقْلِ، فَلَا جَرَمَ حَكَمَتِ الشَّرِيعَةُ بِالْبُلُوغِ وَتَوَجُّهِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَا أَحْسَنَ قَوْلُ مَنْ ضَبَطَ الْبُلُوغَ الشَّرْعِيَّ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَحْوَالٌ فِي ظَاهِرِ الْبَدَنِ أَحَدُهَا: انْفِرَاقُ طَرَفِ الْأَرْنَبَةِ لِأَنَّ الرُّطُوبَةَ الْغَرِيزِيَّةَ الَّتِي هُنَاكَ تَنْتَقِصُ فَيَظْهَرُ الِانْفِرَاقُ وَثَانِيهَا: نُتُوءُ الْحَنْجَرَةِ وَغِلَظُ الصَّوْتِ لِأَنَّ الْحَرَارَةَ الَّتِي تَنْهَضُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تُوسِّعُ الحنجرة فتنتوء وَيَغْلُظُ الصَّوْتُ وَثَالِثُهَا: تَغَيُّرُ رِيحِ الْإِبِطِ وَهِيَ الفضلة العفينة الَّتِي يَدْفَعُهَا الْقَلْبُ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَمَّا قَوِيَتْ حَرَارَتُهُ، لَا جَرَمَ قَوِيَتْ عَلَى إِنْضَاجِ الْمَادَّةِ، وَدَفْعِهَا إِلَى اللَّحْمِ الْغُدَدِيِّ الرِّخْوِ الَّذِي فِي الْإِبِطِ وَرَابِعُهَا: نَبَاتُ الشَّعْرِ وَحُصُولُ الِاحْتِلَامِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرَارَةَ قَوِيَتْ فَقَدَرَتْ عَلَى تَوْلِيدِ الْأَبْخِرَةِ الْمُوَلِّدَةِ لِلشَّعْرِ وَعَلَى تَوْلِيدِ مَادَّةِ الزَّرْعِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ تَتَحَرَّكُ الشَّهْوَةُ فِي الصَّبَايَا وَيَنْهَدُ ثَدْيُهُنَّ وَيَنْزِلُ حَيْضُهُنَّ وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ الَّتِي فِيهِنَّ قَوِيَتْ فِي آخِرِ هَذَا السَّابُوعِ، وَأَمَّا فِي السَّابُوعِ الثَّالِثِ فَيَدْخُلُ فِي حَدِّ الْكَمَالِ وَيَنْبُتُ لِلذَّكَرِ اللِّحْيَةُ وَيَزْدَادُ حُسْنُهُ وَكَمَالُهُ، وَأَمَّا فِي السَّابُوعِ الرَّابِعِ فَلَا
17
تَزَالُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ فِيهِ مُتَكَامِلَةٌ مُتَزَايِدَةٌ، وَعِنْدَ انْتِهَاءِ السَّابُوعِ الرَّابِعِ نِهَايَةً أَنْ لَا يَظْهَرَ الِازْدِيَادُ، أَمَّا مُدَّةُ سِنِّ الشَّبَابِ وَهِيَ مُدَّةُ الوقوف السابوع وَاحِدٌ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ إِمَّا قَدْ تَزْدَادُ، وَإِمَّا قَدْ تَنْقُصُ بِحَسَبِ الْأَمْزِجَةِ جَعَلَ الْغَايَةَ فِيهِ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَهَذَا هُوَ السِّنُّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْكَمَالُ اللَّائِقُ بِالْإِنْسَانِ شَرْعًا وَطِبًّا، فَإِنَّ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَسْكُنُ أَفْعَالُ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ بَعْضَ السُّكُونِ وَتَنْتَهِي لَهُ أَفْعَالُ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ غَايَتُهَا، وَتَبْتَدِئُ أَفْعَالُ الْقُوَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ بِالْقُوَّةِ وَالْكَمَالِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ ظَهَرَ لَكَ أَنَّ بُلُوغَ الْإِنْسَانِ وَقْتَ الْأَشُدِّ شَيْءٌ وَبُلُوغَهُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ شَيْءٌ آخَرَ، فَإِنَّ بُلُوغَهُ إِلَى وَقْتِ الْأَشُدِّ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى آخِرِ سِنِّ النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ، وَأَنَّ بُلُوغَهُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى آخِرِ مُدَّةِ الشَّبَابِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ تَأْخُذُ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ فِي الِانْتِقَاصِ، وَتَأْخُذُ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنُّطْقِيَّةُ فِي الِاسْتِكْمَالِ وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ الْبَدَنِ، فَإِنَّ الْبَدَنَ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ يَأْخُذُ فِي الِانْتِقَاصِ، وَالنَّفْسُ مِنْ وَقْتِ الْأَرْبَعِينَ تَأْخُذُ فِي الِاسْتِكْمَالِ، وَلَوْ كَانَتِ النَّفْسُ عَيْنَ الْبَدَنِ لَحَصَلَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ الْكَمَالُ وَالنُّقْصَانُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَلَخَّصْنَاهُ مَذْكُورٌ فِي صَرِيحِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ تَنْتَهِي الْكِمَالَاتُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَأَمَّا الْكَمَالَاتُ الْحَاصِلَةُ بِحَسَبِ الْقُوَى النُّطْقِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّهَا تَبْتَدِئُ بِالِاسْتِكْمَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَ الْإِنْسَانِ إِلَى عَالِمِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِاشْتِغَالِ بِطَاعَةِ اللَّهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْقُوَّةَ النَّفْسَانِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ النُّطْقِيَّةَ إِنَّمَا تَبْتَدِئُ بِالِاسْتِكْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ فَسُبْحَانَ مَنْ أَوْدَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ هَذِهِ الْأَسْرَارَ الشَّرِيفَةَ الْمُقَدَّسَةَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقُولُ هَذَا مُشْكِلٌ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ/ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ مَا جَاءَهُ الْوَحْيُ إِلَّا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ، وَهَكَذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي حَقِّ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ إِلَى تَمَامِ الدُّعَاءِ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يُؤْمَرُ الْحَافِظَانِ أَنِ ارْفِقَا بِعَبْدِي مِنْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ قِيلَ احْفَظَا وَحَقِّقَا» فَكَانَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثَ إِذَا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بَكَى حَتَّى تَبْتَلَّ لِحْيَتُهُ رَوَاهُ الْقَاضِي فِي «التَّفْسِيرِ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كَالْمُحْتَاجِ إِلَى مُرَاعَاةِ الْوَالِدَيْنِ لَهُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ كَالنَّاقِصِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِعَايَةِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ نِعَمَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ تَمْتَدُّ إِلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِعَمَ الْوَالِدَيْنِ كَأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ وُسْعِ الْإِنْسَانِ مُكَافَأَتُهُمَا إِلَّا بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْمٍ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُفَسِّرِينَ وَمُتَقَدِّمِيهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَقَّتَ الْحَمْلَ وَالْفِصَالَ هاهنا بِمِقْدَارٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ يَنْقُصُ وَقَدْ يَزِيدُ عَنْهُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ شَخْصًا وَاحِدًا حَتَّى يُقَالَ إِنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ كَانَ حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ هَذَا الْقَدْرَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ إِنْسَانٍ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ
18
هَذِهِ الْآيَةِ إِنْسَانًا مُعَيَّنًا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَقَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي قَرِيبٍ مِنْ هَذَا السِّنِّ، لِأَنَّهُ كَانَ أَقَلَّ سِنًّا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ وَشَيْءٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَرِيبًا مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَهُوَ قَدْ صَدَّقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ صَالِحَةٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَوْلُ بِهَذِهِ الصَّلَاحِيَّةِ فَنَقُولُ: نَدَّعِي أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَفْضَلُ الْخَلْقِ لِأَنَّ الَّذِي يَتَقَبَّلُ اللَّهُ عَنْهُ أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ كُلِّ سَيِّئَاتِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَفَاضِلِ الْخَلْقِ وَأَكَابِرِهِمْ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْخَلْقِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَإِمَّا عَلَيٌّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا تَلِيقُ بِمَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ وَعِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، وَعَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا آمَنَ فِي زَمَانِ الصِّبَا أَوْ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الصِّبَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْزِعْنِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ أَلْهِمْنِي، قَالَ صَاحِبُ «الصِّحَاحِ» أَوْزَعْتُهُ بِالشَّيْءِ أَغْرَيْتُهُ بِهِ فَأَوْزِعُ بِهِ فَهُوَ مُوزَعٌ بِهِ أَيْ مُغْرًى بِهِ، وَاسْتَوْزَعْتُ اللَّهَ شُكْرَهُ، فَأَوْزَعَنِي أَيِ اسْتَلْهَمْتُهُ فَأَلْهَمَنِي.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذَا الدَّاعِي أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ لِلشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْإِتْيَانِ بِالطَّاعَةِ الْمَرْضِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ الثَّالِثُ: أَنْ يُصْلِحَ لَهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَفِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ ثَلَاثَةٌ أَكْمَلُهَا النَّفْسَانِيَّةُ وَأَوْسَطُهَا الْبَدَنِيَّةُ وَأَدْوَنُهَا الْخَارِجِيَّةُ وَالسَّعَادَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ هِيَ اشْتِغَالُ الْقَلْبِ بِشُكْرِ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَالسَّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ هِيَ اشْتِغَالُ الْبَدَنِ بِالطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ، وَالسَّعَادَاتُ الْخَارِجِيَّةُ هِيَ سَعَادَةُ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمَرَاتِبُ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا جَرَمَ رَتَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: لِرِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الشُّكْرَ عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّ الشُّكْرَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَالْعَمَلَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَشْرَفُ مِنْ عَمَلِ الْجَارِحَةِ، وَأَيْضًا الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ أَحْوَالُ الْقَلْبِ قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] بَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَطْلُوبَةٌ لِأَجْلِ أَنَّهَا تُفِيدُ الذِّكْرَ، فَثَبَتَ أَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَشْرَفُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَالْأَشْرَفُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ فِي الذِّكْرِ، وَأَيْضًا الِاشْتِغَالُ بِالشُّكْرِ اشْتِغَالٌ بِقَضَاءِ حُقُوقِ النِّعَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالطَّاعَةِ الظَّاهِرَةِ اشْتِغَالٌ بِطَلَبِ النِّعَمِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَقَضَاءُ الْحُقُوقِ الْمَاضِيَةِ يَجْرِي مَجْرَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَطَلَبُ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَقْبَلَةِ طَلَبٌ لِلزَّوَائِدِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْمُهِمَّاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قدم الشكر على سائر الطاعات، وأيضا أنه قَدَّمَ طَلَبَ التَّوْفِيقِ عَلَى الشُّكْرِ، وَطَلَبَ التَّوْفِيقِ عَلَى الطَّاعَةِ عَلَى طَلَبِ أَنْ يُصْلِحَ لَهُ ذُرِّيَّتَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ اشْتِغَالٌ بِالتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ اشْتِغَالٌ بِالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْظِيمَ لِأَمْرِ اللَّهِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا إِنَّ الْعَبْدَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُلْهِمَهُ الشُّكْرَ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْأَعْمَالِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِأَفْعَالِهِ لَكَانَ هَذَا الطَّلَبُ عَبَثًا، وَأَيْضًا الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ هُوَ الْإِيمَانُ أَوِ الْإِيمَانُ
19
يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَةِ: ٦، ٧] وَالْمُرَادُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الْعَبْدُ يَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مِنَ الْعَبْدِ لَا مِنَ اللَّهِ لَكَانَ ذَلِكَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى فِعْلِهِ لَا عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ قَبِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٨] فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَشْكُرُهُ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ/ بِهَا عَلَى وَالِدَيْهِ؟ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُ عَلَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ، قُلْنَا كُلُّ نِعْمَةٍ وَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى وَالِدَيْهِ، فَقَدْ وَصَلَ مِنْهَا أَثَرٌ إِلَيْهِ فَلِذَلِكَ وَصَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُ عَلَى الأمرين.
[في قوله تعالى وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ] وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: مِنَ الْمَطَالِبِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ، فَهُوَ قَوْلُهُ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يُعْتَقَدُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ كَوْنُهُ صَالِحًا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَكُونُ صَالِحًا عِنْدَهُ وَيَكُونُ صَالِحًا أَيْضًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: الَّذِي يَظُنُّهُ صَالِحًا وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ صَالِحًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا قَسَّمَ الصَّالِحَ فِي ظَنِّهِ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُوَفِّقَهُ لِأَنْ يَأْتِيَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ يَكُونُ صَالِحًا عِنْدَ اللَّهِ ويكون مرضيا عند الله.
[في قوله تعالى وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي] وَالْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: مِنَ الْمَطَالِبِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْوَالِدِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٥] فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى (فِي) فِي قَوْلِهِ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي؟ قُلْنَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ هَبْ لِي الصَّلَاحَ فِي ذُرِّيَّتِي وَأَوْقِعْهُ فِيهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ ذَلِكَ الدَّاعِي، أَنَّهُ طَلَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ التَّوْبَةِ، وَإِلَّا مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَتَبَيَّنَ أَنِّي إِنَّمَا أَقْدَمْتُ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ بَعْدَ أَنْ تُبْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْكُفْرِ وَمِنْ كُلِّ قَبِيحٍ، وَبَعْدَ أَنْ دَخَلْتُ فِي الْإِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِقَضَائِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ، قَالُوا إِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَسْلَمَ وَالِدَاهُ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْمُهَاجِرِينَ إِسْلَامُ الْأَبَوَيْنِ إِلَّا لَهُ، فَأَبَوْهُ أَبُو قُحَافَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو وَأُمُّهُ أُمُّ الْخَيْرِ بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَوْلُهُ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَأَعْتَقَ تِسْعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَبْقَ لِأَبِي بَكْرٍ وَلَدٌ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إِلَّا وَقَدْ آمَنُوا، وَلَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ وَجَمِيعُ أَوْلَادِهِ الذكور والإناث إلا لأبي بكر.
[في قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ أَيْ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ قُرِئَ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ وَقُرِئَ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، وَكَذَلِكَ نَتَجَاوَزُ وَكِلَاهُمَا فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهُوَ كَقَوْلِهِ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: ٣٨] فَبَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَيَسْلُكُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي تَقَدَّمَ
20
ذِكْرُهَا نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ وَالتَّقَبُّلُ مِنَ اللَّهِ هُوَ إِيجَابُ الثَّوَابِ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، / فَإِنْ قِيلَ وَلِمَ قَالَ تَعَالَى: أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَاللَّهُ يَتَقَبَّلُ الْأَحْسَنَ وَمَا دُونَهُ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالْأَحْسَنِ الْحَسَنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزُّمَرِ: ٥٥] كَقَوْلِهِمْ: النَّاقِصُ وَالْأَشَجُّ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ، أَيْ عَادِلَا بَنِي مَرْوَانَ الثَّانِي: أَنَّ الْحَسَنَ مِنَ الْأَعْمَالِ هُوَ الْمُبَاحُ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَالْأَحْسَنُ مَا يُغَايِرُ ذلك، وهو وكل ما كان مندوبا وَاجِبًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَتَقَبَّلُ طَاعَاتِهِمْ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ:
فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مِثْلُ قَوْلِكَ: أَكْرَمَنِي الْأَمِيرُ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُرِيدُ أَكْرَمَنِي فِي جُمْلَةِ مَنْ أَكْرَمَ مِنْهُمْ وَضَمَّنِي فِي عِدَادِهِمْ، وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ عَلَى مَعْنَى كَائِنِينَ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَمَعْدُودِينَ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُ وَعْدَ الصِّدْقِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ نَتَقَبَّلُ، نَتَجاوَزُ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ بِالتَّقَبُّلِ وَالتَّجَاوُزِ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُ مَنْ صِفَتُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ بِهَذَا الْجَزَاءِ، وَذَلِكَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَبَيَّنَ أَنَّهُ صِدْقٌ وَلَا شك فيه.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْوَلَدَ الْبَارَّ بِوَالِدَيْهِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَصَفَ الْوَلَدَ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالُوا كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى، وهو أُفٍّ لَكُما وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى صِحَّتِهِ، بِأَنَّهُ لَمَّا كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ يُبَايِعُ النَّاسَ لِيَزِيدَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا هِرَقْلِيَّةَ، أَتُبَايَعُونَ لِأَبْنَائِكُمْ؟ فَقَالَ مَرْوَانُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ دَعَاهُ أَبَوَاهُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ فَأَبَاهُ وَأَنْكَرَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي بِقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ آمَنَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَبَطَلَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالُوا: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا دَعَاهُ أَبَوَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرَاهُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، قَالَ: أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ مِنَ الْقَبْرِ، يَعْنِي أُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي يَعْنِي الْأُمَمُ الْخَالِيَةُ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ بُعِثَ فَأَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ، وَأَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الْمُرَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، وَبِالْجُمْلَةِ
21
فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْكَلْبِيُّ فِي دَفْعِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَهُوَ حَسَنٌ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، مَا رُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ لَمَّا خَاطَبَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ الْكَلَامِ سَمِعَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ فَغَضِبَتْ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أَبَاكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْوَى، أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْوَلَدَ الْبَارَّ بِأَبَوَيْهِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَوَصَفَ الْوَلَدَ الْعَاقَّ لِأَبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْوَلَدِ أَنَّهُ بَلَغَ فِي الْعُقُوقِ إِلَى حَيْثُ لَمَّا دَعَاهُ أَبَوَاهُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ أَصَرَّ عَلَى الْإِنْكَارِ وَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَعَوَّلَ فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارِ عَلَى شُبُهَاتٍ خَسِيسَةٍ وَكَلِمَاتٍ وَاهِيَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمُرَادُ كُلُّ وَلَدٍ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ إِلَى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ أُفٍّ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَبِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ التَّنْوِينِ، وَهُوَ صَوْتٌ إِذَا صَوَّتَ بِهِ الْإِنْسَانُ عُلِمَ أَنَّهُ مُتَضَجِّرٌ، كَمَا إِذَا قَالَ حَسِّ، عُلِمَ أَنَّهُ مُتَوَجِّعٌ، وَاللَّامُ لِلْبَيَانِ مَعْنَاهُ هَذَا/ التَّأْفِيفُ لَكُمَا خَاصَّةً، وَلِأَجْلِكُمَا دُونَ غَيْرِكُمَا، وَقُرِئَ أَتَعِدانِنِي بنونين، وأ تعداني بأحدهما وأ تعداني بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: أَتَعِدَانَنِي بِفَتْحِ النُّونِ كَأَنَّهُ اسْتَثْقَلَ اجْتِمَاعُ النُّونَيْنِ وَالْكَسْرَيْنِ وَالْيَاءِ، فَفَتْحَ الْأُولَى تَحَرِّيًا لِلتَّخْفِيفِ كَمَا تَحَرَّاهُ مَنْ أَدْغَمَ وَمَنْ طَرَحَ أَحَدَهُمَا.
ثُمَّ قَالَ: أَنْ أُخْرَجَ أَيْ أَنْ أُبْعَثَ وَأُخْرَجَ مِنَ الْأَرْضِ، وَقُرِئَ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي يَعْنِي وَلَمْ يُبْعَثْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أَيْ الْوَالِدَانِ يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ، فَإِنْ قَالُوا: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ يَسْتَغِيثَانِ بِاللَّهِ؟
قُلْنَا الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ مَنْ كُفْرِهِ وَإِنْكَارِهِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ وُصِلَ الْفِعْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الباء حذف، لأنه أريد بالاستغاثة هاهنا الدُّعَاءُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ يَدْعُوَانِ اللَّهَ فَلَمَّا أُرِيدَ بِالِاسْتِغَاثَةِ الدُّعَاءُ حُذِفَ الْجَارُّ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَقْتَضِيهِ، وَقَوْلُهُ وَيْلَكَ أَيْ يَقُولَانِ لَهُ وَيْلَكَ آمِنْ وَصَدِّقْ بِالْبَعْثِ وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالثُّبُورِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَثُّ، وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الْإِيمَانِ لَا حَقِيقَةَ الْهَلَاكِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بِالْبَعْثِ حَقٌّ فَيَقُولُ لَهُمَا مَا هَذَا الَّذِي تَقُولَانِ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَتَدْعُوَانِنِي إِلَيْهِ إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَيْ حَقَّتْ عليهم كلمة العذاب، ثم هاهنا قَوْلَانِ: فَالَّذِينَ يَقُولُونَ الْمُرَادُ بِنُزُولِ الْآيَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالُوا الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ هُمُ الْقُرُونُ الَّذِينَ خَلَوْا مَنْ قَبْلِهِ، وَالَّذِينَ قَالُوا الْمُرَادُ بِهِ لَيْسَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، بَلْ كُلُّ وَلَدٍ كَانَ مَوْصُوفًا بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، قَالُوا هَذَا الْوَعِيدُ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، وَقَوْلُهُ فِي أُمَمٍ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَكْرَمَنِي الْأَمِيرُ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُرِيدُ أَكْرَمَنِي فِي جُمْلَةِ مَنْ أَكْرَمَ مِنْهُمْ.
ثم قال: إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَقُرِئَ أَنَّ بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى آمَنَ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
ثُمَّ قَالَ: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْوَلَدَ الْبَارَّ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْوَلَدِ الْعَاقِّ، فَقَوْلُهُ وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْبَارَّ بِوَالِدَيْهِ لَهُ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ، وَمَرَاتِبُ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قوله لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا عَائِدٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ،
22
وَالْمَعْنَى وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ دَرَجَاتٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ قَالُوا كَيْفَ يَجُوزُ ذِكْرُ لَفْظِ الدَّرَجَاتِ فِي أَهْلِ النَّارِ، وقد جاء في الأثر الجنة الدرجات، وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيبِ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ زَيْدٌ: دَرَجُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَذْهَبُ علوا، ودرج أهل النار ينزلوا هُبُوطًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّرَجَاتِ الْمَرَاتِبُ الْمُتَزَايِدَةُ، إِلَّا أَنَّ زِيَادَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَزِيَادَاتِ أَهْلِ النَّارِ فِي الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِيُوَفِّيَهُمْ وَقُرِئَ بِالنُّونِ وَهَذَا تَعْلِيلٌ مُعَلَّلُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَلَا يَظْلِمَهُمْ حُقُوقَهُمْ، قَدَّرَ جَزَاءَهُمْ عَلَى مَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ فَجَعَلَ الثَّوَابَ دَرَجَاتٍ وَالْعِقَابَ دَرَكَاتٍ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُوَصِّلُ حَقَّ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِ بَيَّنَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِقَابِ أَوَّلًا، فَقَالَ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ قِيلَ يَدْخُلُونَ النَّارَ، وَقِيلَ تُعْرَضُ عَلَيْهِمُ النَّارَ لِيَرَوْا أَهْوَالَهَا أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ أَذْهَبْتُمْ اسْتِفْهَامٌ بِهَمْزَةٍ وَمَدَّةٍ، وَابْنُ عَامِرٍ اسْتِفْهَامٌ بِهَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدَّةٍ وَالْبَاقُونَ أَذْهَبْتُمْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا قُدِّرَ لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالرَّاحَاتِ فَقَدِ اسْتَوْفَيْتُمُوهُ فِي الدُّنْيَا وَأَخَذْتُمُوهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَظِّكُمْ شَيْءٌ مِنْهَا، وَعَنْ عُمَرَ لَوْ شِئْتُ لَكُنْتُ أَطْيَبُكُمْ طَعَامًا وَأَحْسَنُكُمْ لِبَاسًا، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي،
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ وَهُمْ يُرَقِّعُونَ ثِيَابَهُمْ بِالْأَدَمِ مَا يَجِدُونَ لَهَا رِقَاعًا فَقَالَ: «أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ أَمْ يَوْمَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَيُغْدَى عَلَيْهِ بِجَفْنَةٍ وَيُرَاحُ عَلَيْهِ بِأُخْرَى وَيُسْتَرُ بَيْتُهُ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ، قَالُوا نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ قَالَ بَلْ أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ؟»، رَوَاهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ الصَّالِحِينَ يُؤْثِرُونَ التَّقَشُّفَ وَالزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَكْمَلَ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّنَعُّمِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَإِنَّمَا وَبَّخَ اللَّهُ الْكَافِرَ لِأَنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِالدُّنْيَا وَلَمْ يُؤَدِّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ بِطَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي بِإِيمَانِهِ شُكْرَ الْمُنْعِمِ فَلَا يُوَبَّخُ بِتَمَتُّعِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَافِ: ٣٢] نَعَمْ لَا يُنْكَرُ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنِ التَّنَعُّمِ أَوْلَى، لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا اعْتَادَتِ التَّنَعُّمَ صَعُبَ عَلَيْهَا الِاحْتِرَازُ وَالِانْقِبَاضُ، وَحِينَئِذٍ فَرُبَّمَا حَمَلَهُ الْمَيْلُ إِلَى تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ مِمَّا يَجُرُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ وَيَقَعُ فِي الْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أَيِ الْهَوَانِ، وَقُرِئَ عَذَابَ الْهَوَانِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ فَعَلَّلَ تَعَالَى ذَلِكَ الْعَذَابَ بِأَمْرَيْنِ: (أَوَّلُهُمَا) : الِاسْتِكْبَارُ وَالتَّرَفُّعُ وَهُوَ ذَنْبُ الْقَلْبِ الثَّانِي: الْفِسْقُ وَهُوَ ذَنْبُ الْجَوَارِحِ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ أَحْوَالَ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ وَقْعًا مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِكْبَارِ أَنَّهُمْ يَتَكَبَّرُونَ عَنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَيَسْتَنْكِفُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَمَّا الْفِسْقُ فَهُوَ الْمَعَاصِي وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ عَذَابَهُمْ بِأَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: الْكُفْرُ وَثَانِيهِمَا: الْفِسْقُ، وَهَذَا الْفِسْقُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِذَلِكَ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ فِسْقَ الْكُفَّارِ يُوجِبُ الْعِقَابَ فِي حَقِّهِمْ، وَلَا مَعْنَى لِلْفِسْقِ إِلَّا تَرْكُ المأمورات وفعل المنهيات، والله أعلم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
23
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْرَدَ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ بِسَبَبِ/ اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَاشْتِغَالِهِمْ بِطَلَبِهَا أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ قَوْمَ عَادٍ كَانُوا أَكْثَرَ أَمْوَالًا وَقُوَّةً وَجَاهًا مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ شُؤْمِ كُفْرِهِمْ فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ هاهنا لِيَعْتَبِرَ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ، فَيَتْرُكُوا الِاغْتِرَارَ بِمَا وَجَدُوهُ مِنَ الدُّنْيَا وَيُقْبِلُوا عَلَى طَلَبِ الدِّينِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ تَقْبِيحَ طَرِيقَةٍ عِنْدَ قَوْمٍ كَانَ الطَّرِيقُ فِيهِ ضَرْبَ الْأَمْثَالِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ كَذَا وَكَذَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ أَيْ وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ أَهْلَ مَكَّةَ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ أَيْ حَذَّرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَقَوْلُهُ بِالْأَحْقافِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْحِقْفُ الرَّمْلُ الْمُعْوَجُّ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمُعْوَجِّ مَحْقُوفٌ وَقَالَ الْفَرَّاءُ الْأَحْقَافُ وَاحِدُهَا حِقْفٌ وَهُوَ الْكَثِيبُ الْمُكَسَّرُ غَيْرُ الْعَظِيمِ وَفِيهِ اعْوِجَاجٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الأحقاف واد بين عمان ومهرة والنذر جَمْعُ نَذِيرٍ بِمَعْنَى الْمُنْذِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَنْذَرَهُمْ وَقَالَ لهم أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عليكم العذاب.
وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ بُعِثُوا قَبْلَهُ وَالَّذِينَ سَيُبْعَثُونَ بَعْدَهُ كُلُّهُمْ مُنْذِرُونَ نَحْوَ إِنْذَارِهِ.
ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا الْإِفْكُ الصَّرْفُ، يُقَالُ أَفَكَهُ عَنْ رَأْيِهِ أَيْ صَرَفَهُ، وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ لَتُزِيلَنَا بِضَرْبٍ مِنَ الْكَذِبِ عَنْ آلِهَتِنا وَعَنْ عِبَادَتِهَا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا مُعَاجَلَةُ الْعَذَابِ عَلَى الشِّرْكِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي وَعْدِكَ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ هُودٌ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا صَلَحَ هَذَا الْكَلَامُ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا اسْتِعْجَالٌ مِنْهُمْ لِذَلِكَ الْعَذَابِ فَقَالَ لَهُمْ هُودٌ لَا عِلْمَ عِنْدِي بِالْوَقْتِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ ذَلِكَ الْعَذَابُ، إِنَّمَا عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَهُوَ التَّحْذِيرُ عَنِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِوَقْتِهِ فَمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الرُّسُلَ لَمْ يُبْعَثُوا سَائِلِينَ عَنْ غَيْرِ مَا أُذِنَ لَهُمْ فِيهِ وَإِنَّمَا بُعِثُوا مُبَلِّغِينَ الثَّانِي:
أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّكُمْ بَقِيتُمْ مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِكُمْ وَجَهْلِكُمْ فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ قُرُبَ الْوَقْتُ الَّذِي
24
يَنْزِلُ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ هَذَا الْجَهْلِ الْمُفْرِطِ والوقاحة التامة الثالث: لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ حَيْثُ تُصِرُّونَ عَلَى طَلَبِ الْعَذَابِ وَهَبْ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَكُمْ كَوْنِي صَادِقًا، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَيْضًا لَكُمْ كَوْنِي كَاذِبًا فَالْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَبِ الشَّدِيدِ لِهَذَا الْعَذَابِ جَهْلٌ عَظِيمٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ ذَكَرَ الْمُبَرِّدُ فِي الضَّمِيرِ فِي رَأَوْهُ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ عارِضاً كَمَا قَالَ: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فَاطِرٍ: ٤٥] وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَرْضَ لكونها معلومة فكذا هاهنا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى السَّحَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمَّا رَأَوُا السَّحَابَ عَارِضًا وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ/ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ لَا عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أَيْ فَلَمَّا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ بِهِ عَارِضًا، قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْعَارِضُ السَّحَابَةُ الَّتِي تُرَى فِي نَاحِيَةِ السَّمَاءِ ثُمَّ تَطْبِقُ، وَقَوْلُهُ مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَانَتْ عَادٌ قَدْ حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ أَيَّامًا فَسَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ سَحَابَةً سَوْدَاءَ فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ يُقَالُ لَهُ الْمُغِيثُ فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ استبشروا وقالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا وَالْمَعْنَى مُمْطِرُ إِيَّانَا، قِيلَ كَانَ هُودٌ قَاعِدًا فِي قَوْمِهِ فَجَاءَ سَحَابٌ مُكْثِرٌ فَقَالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا فَقَالَ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ ثُمَّ بَيَّنَ مَاهِيَّتَهُ فَقَالَ: رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ. ثُمَّ وَصَفَ تِلْكَ الرِّيحَ فَقَالَ: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ تُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ بِأَمْرِ رَبِّها وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ تَأْثِيرَاتِ الْكَوَاكِبِ وَالْقِرَانَاتِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَدَثَ ابْتِدَاءً بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ تَعْذِيبِكُمْ فَأَصْبَحُوا يَعْنِي عَادًا لَا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَحْمِلُ الْفُسْطَاطَ فَتَرْفَعُهَا فِي الْجَوِّ حَتَّى يُرَى كَأَنَّهَا جَرَادَةٌ،
وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ أَبْصَرَ الْعَذَابَ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ قَالَتْ رَأَيْتُ رِيحًا فِيهَا كَشُهُبِ النَّارِ،
وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَا عَرَفُوا بِهِ أَنَّهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ،
أَنَّهُمْ رَأَوْا مَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ مِنْ رِجَالِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ يَطِيرُ بِهِ الرِّيحُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَدَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَغَلَّقُوا أَبْوَابَهُمْ فَعَلَّقَتِ الرِّيحُ الْأَبْوَابَ وَصَرَعَتْهُمْ، وَأَحَالَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَحْقَافَ، فَكَانُوا تَحْتَهَا سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَهُمْ أَنِينٌ، ثُمَّ كَشَفَتِ الرِّيحُ عَنْهُمْ فَاحْتَمَلَتْهُمْ فَطَرَحَتْهُمْ فِي الْبَحْرِ،
وَرُوِيَ أَنَّ هُودًا لَمَّا أَحَسَّ بِالرِّيحِ خَطَّ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَطًّا إِلَى جَنْبِ عَيْنٍ تَنْبُعُ فَكَانَتِ الرِّيحُ الَّتِي تُصِيبُهُمْ رِيحًا لَيِّنَةً هَادِئَةً طَيِّبَةً، وَالرِّيحُ الَّتِي تُصِيبُ قَوْمَ عَادٍ تَرْفَعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَتُطَيِّرُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَتَضْرِبُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ،
وَأَثَرُ الْمُعْجِزَةِ إِنَّمَا ظَهَرَ فِي تِلْكَ الرِّيحِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَمَرَ اللَّهُ خَازِنَ الرِّيَاحِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَى عَادٍ إِلَّا مِثْلَ مِقْدَارِ الْخَاتَمِ»
ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ أَهْلَكَهُمْ بِكُلِّيَّتِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِظْهَارُ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى الرِّيحَ فَزِعَ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ مَا أرسلت به».
المسألة الثانية: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ لَا يُرى بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا مَساكِنُهُمْ بِضَمِّ النُّونِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ مَعْنَاهُ لَا يُرَى شَيْءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ لَا تَرى عَلَى الْخِطَابِ أَيْ لَا تَرَى أَنْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَاصِمٍ لَا تُرَى بِالتَّاءِ مَساكِنُهُمْ بِضَمِّ النُّونِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَالتَّأْوِيلُ لَا تُرَى مِنْ بَقَايَا عَادٍ أَشْيَاءُ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَخْوِيفُ كَفَّارِ مَكَّةَ، فَإِنْ قِيلَ/ لِمَا قَالَ اللَّهُ
25
تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: ٣٣] فَكَيْفَ يَبْقَى التَّخْوِيفُ حَاصِلًا؟ قُلْنَا: قَوْلُهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إِنَّمَا أُنْزِلَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَكَانَ التَّخْوِيفُ حَاصِلًا قَبْلَ نُزُولِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَوَّفَ كُفَّارَ مَكَّةَ، وَذَكَرَ فَضْلَ عَادٍ بِالْقُوَّةِ وَالْجِسْمِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ مَا فِي قَوْلِهِ فِيما بِمَنْزِلَةِ الَّذِي. وإِنْ بِمَنْزِلَةِ مَا وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ مِنْكُمْ أَمْوَالًا، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةُ كَلِمَةُ إِنْ زَائِدَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَبَثٌ لَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقْوَى مِنْكُمْ قُوَّةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ مَا نَجَوْا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُكُمْ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ دلّت الآية على أنهم كانوا أقوى قوة مِنْ قَوْمِ مَكَّةَ الثَّالِثُ: أَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ تَعَالَى: هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً [مَرْيَمَ: ٧٤] وَقَالَ: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ [غَافِرٍ: ٨٢].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً وَالْمَعْنَى أَنَّا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ النِّعَمِ وَأَعْطَيْنَاهُمْ سَمْعًا فَمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي سَمَاعِ الدَّلَائِلِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ أَبْصَارًا فَمَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي تَأَمُّلِ الْعِبَرِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ أَفْئِدَةً فَمَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ صَرَفُوا كُلَّ هَذِهِ الْقُوَى إِلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، فَلَا جَرَمَ مَا أَغْنَى سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ، وَلَفْظُ إِذْ قَدْ يُذْكَرُ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ إِذْ أَسَاءَ، وَالْمَعْنَى ضَرَبْتُهُ لِأَنَّهُ أَسَاءَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَخْوِيفٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّ قَوْمَ عَادٍ لَمَّا اغْتَرُّوا بِدُنْيَاهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ اللَّهِ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ وَلَا كَثْرَتُهُمْ، فَأَهْلُ مَكَّةَ مَعَ عَجْزِهِمْ وَضَعْفِهِمْ أَوْلَى بِأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَخَافُوا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ نُزُولَ الْعَذَابِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَطْلُبُونَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ يَا كَفَّارَ مَكَّةَ مِنَ الْقُرَى، وَهِيَ قُرَى عَادٍ وَثَمُودَ بِالْيَمَنِ وَالشَّامِ وَصَرَّفْنَا الْآياتِ بَيَّنَّاهَا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ أَيْ لَعَلَّ أَهْلَ الْقُرَى يَرْجِعُونَ، فَالْمُرَادُ بِالتَّصْرِيفِ الْأَحْوَالُ الْهَائِلَةُ الَّتِي وُجِدَتْ قَبْلَ الْإِهْلَاكِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: قَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مَعْنَاهُ لِكَيْ يَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ رُجُوعَهُمْ وَلَمْ يَرِدْ إِصْرَارَهُمْ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ فَعَلَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِرَادَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً الْقُرْبَانُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تعالى،
أَيِ اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ مُتَقَرَّبًا بِهِمْ إِلَى اللَّهِ حَيْثُ قَالُوا هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُسَ: ١٨] وَقَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: ٣] وَفِي إِعْرَابِ الْآيَةِ وَجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَحَدُ مَفْعُولَيِّ اتَّخَذَ الرَّاجِعُ إِلَى الَّذِينَ هُوَ مَحْذُوفٌ وَالثَّانِي: آلِهَةً وَقُرْبَانًا حَالٌ، وَقِيلَ عَلَيْهِ إِنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِذِكْرِهِمَا لَفْظًا، وَالْحَالُ مُشْعِرٌ بِتَمَامِ الْكَلَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِتْيَانَ الْحَالِ بَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ قُرْباناً مَفْعُولٌ ثَانٍ قُدِّمَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ وَهُوَ آلِهَةً، فَقِيلَ عَلَيْهِ إِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى خُلُوِّ الْكَلَامِ عَنِ الرَّاجِعِ إِلَى الَّذِينَ وَالثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: يُضْمَرُ أَحَدُ مَفْعُولَيِ اتَّخَذُوا وَهُوَ الرَّاجِعُ إِلَى الَّذِينَ، وَيُجْعَلُ قُرْبَانًا مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَآلِهَةً عَطْفُ بَيَانٍ، إِذَا عَرَفْتَ الْكَلَامَ فِي الْإِعْرَابِ، فَنَقُولُ الْمَقْصُودُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ هَلَّا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مُتَقَرِّبُونَ بِعِبَادَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أَيْ غَابُوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَوْنَ آلِهَتِهِمْ نَاصِرِينَ لَهُمْ أَمْرٌ مُمْتَنِعٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَذلِكَ إِفْكُهُمْ أَيْ وَذَلِكَ الِامْتِنَاعُ أَثَرُ إِفْكِهِمُ الَّذِي هُوَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهَا آلِهَةً، وَثَمَرَةُ شِرْكِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ لَهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ إِفْكُهُمْ وَالْإِفْكُ وَالْأَفْكُ كَالْحِذْرِ وَالْحَذْرِ، وَقُرِئَ وَذَلِكَ أَفَكَهُمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْكَافِ، أَيْ ذَلِكَ الِاتِّخَاذُ الَّذِي هَذَا أَثَرُهُ وَثَمَرَتُهُ صَرَفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَقُرِئَ أَفَّكَهُمْ عَلَى التَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ أَفَّكَهُمْ جَعَلَهُمْ آفِكِينَ وَآفَكُهُمْ، أَيْ قَوْلُهُمِ الْإِفْكَ، أَيْ ذُو الْإِفْكِ كَمَا تَقُولُ قَوْلٌ كَاذِبٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَما كانُوا يَفْتَرُونَ وَالتَّقْدِيرُ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ فِي إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنْ فِي الْإِنْسِ مَنْ آمَنَ وَفِيهِمْ مَنْ كَفَرَ، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْجِنَّ فِيهِمْ مَنْ آمَنَ وَفِيهِمْ مَنْ كَفَرَ، وَأَنَّ مُؤْمِنَهُمْ مُعَرَّضٌ لِلثَّوَابِ، وَكَافِرَهُمْ مُعَرَّضٌ لِلْعِقَابِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ:
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتِ الْجِنُّ تَسْتَمِعُ فَلَمَّا رُجِمُوا قَالُوا: هَذَا الَّذِي حَدَثَ فِي السَّمَاءِ إِنَّمَا حَدَثَ لِشَيْءٍ فِي الْأَرْضِ فَذَهَبُوا يَطْلُبُونَ السَّبَبَ، وَكَانَ قَدِ اتُّفِقَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَيِسَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُجِيبُوهُ خَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ بِبَطْنِ نَخْلٍ قَامَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرَ، فَمَرَّ بِهِ نَفَرٌ مِنْ أَشْرَافِ جِنِّ نَصِيبِينَ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ بَعَثَهُمْ لِيَعْرِفُوا السَّبَبَ الَّذِي أَوْجَبَ حِرَاسَةَ السَّمَاءِ بِالرَّجْمِ، فَسَمِعُوا الْقُرْآنَ وَعَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُنْذِرَ الْجِنَّ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَقْرَأَ
27
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَصَرَفَ اللَّهُ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ لِيَسْتَمِعُوا مِنْهُ الْقُرْآنَ وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فُرُوعٌ الْأَوَّلُ: نُقِلَ عَنِ الْقَاضِي فِي تَفْسِيرِهِ الْجِنَّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَهُودًا، لِأَنَّ فِي الْجِنِّ مِلَلًا كَمَا فِي الْإِنْسِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَطْبَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ، سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ لِلْجِنِّ ثَوَابٌ؟ فَقَالَ نَعَمْ لَهُمْ ثَوَابٌ وَعَلَيْهِمْ عِقَابٌ، يَلْتَقُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَزْدَحِمُونَ عَلَى أَبْوَابِهَا الْفَرْعُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : النَّفَرُ دُونَ الْعَشْرَةِ وَيُجْمَعُ عَلَى أَنْفَارٍ، ثُمَّ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أُولَئِكَ الْجِنَّ كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، فَجَعَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلًا إِلَى قومهم، وعن زر ابن حبيش كانوا تسعة أحدهم ذوبعة، وَعَنْ قَتَادَةَ ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُمْ صُرِفُوا إِلَيْهِ مِنْ سَاوَةَ الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ وَالرِّوَايَاتُ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ وَمَشْهُورَةٌ الْفَرْعُ الرَّابِعُ:
رَوَى الْقَاضِي فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِبَالِ مَكَّةَ إِذْ أَقْبَلُ شَيْخٌ مُتَوَكِّئٌ عَلَى عُكَّازَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِشْيَةُ جِنِّيٍّ وَنَغْمَتُهُ، فَقَالَ أَجَلْ، فَقَالَ مَنْ أَيِّ الْجِنِّ أَنْتَ؟ فَقَالَ أَنَا هَامَةُ بن هيم بن لا قيس بْنِ إِبْلِيسَ، فَقَالَ لَا أَرَى بَيْنَكَ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ إِلَّا أَبَوَيْنِ فَكَمْ أَتَى عَلَيْكَ؟ فَقَالَ أَكَلْتُ عُمْرَ الدُّنْيَا إِلَّا أَقَلَّهَا، وَكُنْتُ وَقْتَ قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ أَمْشِي بَيْنَ الْآكَامِ، وَذَكَرَ كَثِيرًا مِمَّا مَرَّ بِهِ، وَذَكَرَ فِي جُمْلَتِهِ أَنْ قَالَ: قَالَ لِي عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ إِنْ لَقِيتَ مُحَمَّدًا فَأَقْرِئُهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقَدْ بَلَّغْتُ سَلَامَهُ وَآمَنْتُ بِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى عِيسَى السَّلَامُ، وَعَلَيْكَ يَا هَامَةُ مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ إِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَنِي التَّوْرَاةَ، وَعِيسَى عَلَّمَنِي الْإِنْجِيلَ، فَعَلِّمْنِي الْقُرْآنَ، فَعَلَّمَهُ عَشْرَ سُوَرٍ، وَقُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينعه»
قل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَلَا أَرَاهُ إِلَّا حَيًّا وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ الْكَلَامِ فِي قِصَّةِ الْجِنِّ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْجِنِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا لَمْ يَقْصِدُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ تَعَالَى أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمْ مَيْلًا وَدَاعِيَةً إِلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ:
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا حَضَرُوهُ الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ قالُوا أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنْصِتُوا أَيْ اسْكُتُوا مُسْتَمِعِينَ، يُقَالُ أَنْصَتَ لِكَذَا وَاسْتَنْصَتَ لَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ يُنْذِرُونَهُمْ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ غَيْرَهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ إِلَّا وَقَدْ آمنوا، فعنده قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى وَوَصَفُوهُ بِوَصْفَيْنِ الْأَوَّلُ: كَوْنُهُ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ مُصَدِّقًا لِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُتُبَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَالْأَمْرِ بِتَطْهِيرِ الْأَخْلَاقِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْكِتَابُ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّانِي: قَوْلُهُ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَصْفَ الْأَوَّلَ يُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ يُمَاثِلُ سَائِرَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالْوَصْفُ الثَّانِي يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطلب حَقَّةٍ صِدْقٍ فِي أَنْفُسِهَا، يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ بِصَرِيحِ عَقْلِهِ كَوْنَهَا كَذَلِكَ، سَوَاءٌ وَرَدَتِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ بِهَا أَوْ لَمْ تَرِدْ، فَإِنْ قَالُوا كَيْفَ قَالُوا مِنْ بَعْدِ مُوسى؟ قُلْنَا قَدْ نَقَلْنَا عَنِ الْحَسَنِ أنَّهُ قَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجِنَّ مَا سَمِعَتْ أَمْرَ عِيسَى فَلِذَلِكَ قَالُوا مِنْ بَعْدِ مُوسَى، ثُمَّ إِنَّ الْجِنَّ لَمَّا وَصَفُوا الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ قَالُوا يا
28
قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلِ الْمُرَادُ بِدَاعِي اللَّهِ الرَّسُولُ أَوِ الْوَاسِطَةُ الَّتِي تُبَلِّغُ عَنْهُ؟ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ هُوَ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ كَمَا كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْإِنْسِ قَالَ مُقَاتِلٌ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ قَبْلَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ أَمْرٌ بِإِجَابَتِهِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ إِلَّا أَنَّهُ أَعَادَ ذِكْرَ الْإِيمَانِ عَلَى التَّعْيِينِ، لِأَجْلِ أَنَّهُ أَهَمُّ الْأَقْسَامِ وَأَشْرَفُهَا، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ يَذْكُرُ اللَّفْظَ الْعَامَّ، ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ أَشْرَفَ أَنْوَاعِهِ كَقَوْلِهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] وَقَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: ٧] وَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ ذَكَرَ فَائِدَةَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَهِيَ قَوْلُهُ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قال بعضهم كلمة مِنْ هاهنا زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَقِيلَ بَلِ الفائدة فيه أن كلمة مِنْ هاهنا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَقَعُ ابْتِدَاءُ الْغُفْرَانِ بِالذُّنُوبِ، ثُمَّ يَنْتَهِي إِلَى غُفْرَانِ مَا صَدَرَ عَنْكُمْ مِنْ تَرْكِ الْأَوْلَى وَالْأَكْمَلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْجِنَّ هَلْ لَهُمْ ثَوَابٌ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ لَا ثَوَابَ لَهُمْ إِلَّا النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ كُونُوا تُرَابًا مِثْلَ الْبَهَائِمِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: ٣١] وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ بَنِي آدَمَ فَيَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِقَابَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ، وَجَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْبَابِ مُنَاظَرَةٌ، قَالَ الضَّحَّاكُ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هذا القول أن كل دليل عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ فِي حَقِّ الْجِنِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ بَعِيدٌ جِدًّا.
وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْجَنِّيَّ لَمَّا أَمَرَ قَوْمَهُ بِإِجَابَةِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ به حذرهم من تلك تِلْكَ الْإِجَابَةِ فَقَالَ: وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أَيْ لَا يُنْجِي مِنْهُ مَهْرَبٌ وَلَا يَسْبِقُ قَضَاءَهُ سَابِقٌ، وَنَظِيُرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً [الْجِنِّ: ١٢] وَلَا نَجِدُ لَهُ أَيْضًا وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، وَلَا دَافِعًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ثُمَّ بيّن أنهم في ضلال مبين.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ
فَرَّعَ عَلَيْهِ فَرْعَيْنَ: الْأَوَّلُ: إِبْطَالُ قَوْلِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَالثَّانِي: إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ وَذَكَرَ شُبُهَاتِهِمْ فِي الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ، وَأَجَابَ عَنْهَا، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ إِعْرَاضِ كَفَّارِ مَكَّةَ عَنْ قَبُولِ الدَّلَائِلِ بِسَبَبِ اغْتِرَارِهِمْ بِالدُّنْيَا وَاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي اسْتِيفَاءِ طَيِّبَاتِهِمْ وَشَهَوَاتِهَا، وَبِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ الِانْقِيَادُ لِمُحَمَّدٍ وَالِاعْتِرَافُ بِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِمْ ضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا وَهُمْ قَوْمُ عَادٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَكْمَلَ فِي مَنَافِعِ الدُّنْيَا مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ فَلَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ أَبَادَهُمُ اللَّهُ وَأَهْلَكَهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفًا لِأَهْلِ مَكَّةَ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ، ثُمَّ لَمَّا قَرَّرَ نُبُوَّتَهُ عَلَى الْإِنْسِ أَرْدَفَهُ بِإِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ فِي الجن، وإلى هاهنا قَدْ تَمَّ الْكَلَامُ فِي التَّوْحِيدِ وَفِي النُّبُوَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُمَا تَقْرِيرَ مَسْأَلَةِ الْمَعَادِ وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا الْبَيَانِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْ كُلِّ الْقُرْآنِ تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَأَمَّا الْقِصَصُ فَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى ضَرْبِ الْأَمْثَالِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى الْبَعْثِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَقَامَ الدَّلَائِلَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَا شَكَّ أَنَّ خَلْقَهَا أَعْظَمُ وَأَفْخَمُ مِنْ إِعَادَةِ هَذَا الشَّخْصِ حَيًّا بَعْدَ أَنْ صَارَ مَيِّتًا، وَالْقَادِرُ على الأقوى الأكمل لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَقَلِّ وَالْأَضْعَفِ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ تَعَلُّقَ الرُّوحِ بِالْجَسَدِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ لَمَا وَقَعَ أَوَّلًا، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى تِلْكَ الْإِعَادَةِ، وَهَذِهِ الدَّلَائِلُ يَقِينِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِقادِرٍ إِدْخَالُهُ الْبَاءَ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِدُخُولِ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى أَنْ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِقَادِرٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ لَوْ قُلْتَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ جَازَ، وَلَا يَجُوزُ ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُقَالُ عَيِيتُ بِالْأَمْرِ إِذَا لَمْ تَعْرِفْ وَجْهَهُ وَمِنْهُ أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: ١٥].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَقَوْلُهُ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ التَّقْدِيرُ يُقَالُ لَهُمْ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ وَالْمَقْصُودُ التَّهَكُّمُ بِهِمْ وَالتَّوْبِيخُ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِوَعْدِ الله ووعيده، وقولهم وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات: ٥٩].
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٣٥]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ الْمَطَالِبَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْمَعَادُ، وَأَجَابَ عَنِ الشُّبُهَاتِ أَرْدَفَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُؤْذُونَهُ وَيُوجِسُونَ صَدْرَهُ، فَقَالَ تعالى:
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أَيْ أُولُو الْجِدِّ وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ.
الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ وَيُرَادُ بِأُولُو الْعَزْمِ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ قِيلَ هُمْ نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ، وَإِبْرَاهِيمُ عَلَى النَّارِ وَذَبْحِ الْوَلَدِ، وَإِسْحَاقُ عَلَى الذَّبْحِ، وَيَعْقُوبُ عَلَى فِقْدَانِ الْوَلَدِ وَذَهَابِ الْبَصَرِ، وَيُوسُفُ عَلَى الْجُبِّ وَالسِّجْنِ، وَأَيُّوبُ عَلَى الضُّرِّ وَمُوسَى قال له قومه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
30
قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ
[الشُّعَرَاءِ: ٦١، ٦٢] وَدَاوُدُ بَكَى عَلَى زَلَّتِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعِيسَى لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَقَالَ: إِنَّهَا مَعْبَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمرُوهَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آدَمَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طَهَ: ١١٥] وَفِي يُونُسَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [الْقَلَمِ: ٤٨].
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ الرُّسُلِ أُولُو عَزْمٍ وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَّا كَانَ ذَا عَزْمٍ وَحَزْمٍ، وَرَأْيٍ وَكَمَالٍ وَعَقْلٍ، وَلَفْظَةُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنَ الرُّسُلِ تَبْيِينٌ لَا تَبْعِيضٌ كَمَا يُقَالُ كَسَيْتُهُ مِنَ الْخَزِّ وَكَأَنَّهُ قِيلَ اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ، وَوَصَفَهُمْ بِالْعَزْمِ لِصَبْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ وَمَفْعُولُ الِاسْتِعْجَالِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ بِالْعَذَابِ، قِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَجِرَ مِنْ قَوْمِهِ بَعْضَ الضَّجَرِ، وَأَحَبَّ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ الْعَذَابَ بِمَنْ أَبَى مِنْ قَوْمِهِ فَأُمِرَ بِالصَّبْرِ وَتَرْكِ الِاسْتِعْجَالِ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ مِنْهُمْ قَرِيبٌ، وَأَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ، وَعِنْدَ نُزُولِ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِهِمْ يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَحْسِبُونَهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ صَارَ طُولُ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ، كَأَنَّهُ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، أَوْ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لِهَوْلِ مَا عَايَنُوا، أَوْ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا مَضَى صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ إِذَا مَضَى كَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَزَلْ إذا أنى
واعلم أنه تم الكلام هاهنا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلاغٌ أَيْ هَذَا بَلَاغٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: ٥٢] أَيْ هَذَا الَّذِي وُعِظْتُمْ بِهِ فِيهِ كِفَايَةٌ فِي الْمَوْعِظَةِ أَوْ هَذَا تَبْلِيغٌ مِنَ الرُّسُلِ، فَهَلْ يَهْلَكُ إِلَّا الْخَارِجُونَ عَنْ الِاتِّعَاظِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
31
Icon