وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ من الشرك وخبث الجاهلية، وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم وإن كانت نسبة الضلال إليهم باعتبار الأكثر إذ منهم مهتد كورقة وأضرابه، وفي الكلام إزاحة لما عسى أن يتوهم من تعلمه عليه الصلاة والسلام من الغير وَإِنْ هي المخففة واللام هي الفارقة وَآخَرِينَ جمع آخر بمعنى الغير، وهو عطف على الْأُمِّيِّينَ أي وفي آخرين مِنْهُمْ أي من الأميين، ومن- للتبيين لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون، وهم الذين جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم الدين وجوز أن يكون عطفا على المنصوب في وَيُعَلِّمُهُمُ أي ويعلمهم ويعلم آخرين فإن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أوله فكأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي تولى كل ما وجد منه واستظهر الأول، والمذكور في الآية قومه صلّى الله تعالى عليه وسلم، وجنس الذين بعث فيهم، وأما المبعوث إليهم فلم يتعرض له فيها نفيا أو إثباتا، وقد تعرض لإثباته في آيات أخر، وخصوص القوم لا ينافي عموم ذلك فلا إشكال في تخصيص الآخرين بكونهم من الأميين أي العرب في النسب، وقيل: المراد من الأميين في الأمية فيشمل العجم، وبهم فسره مجاهد- كما رواه عنه ابن جرير وغيره- وتعقب بأن العجم لم يكونوا أميين.
وقيل: المراد منهم في كونهم منسوبين إلى أمة مطلقا لا في كونهم لا يقرؤون ولا يكتبون، وهو كما ترى إلا أنه لا يشكل عليه- وكذا على ما قبله- ما
أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن أبي هريرة قال:
«كنا جلوسا عند النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال: والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء» فإنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أشار بذلك إلى أنهم فارس
، ومن المعلوم أنهم ليسوا من الأميين المراد بهم العرب في النسب.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالأميين مقابل أهل الكتاب لعدم اعتناء أكثرهم بالقراءة والكتابة لعدم كتاب لهم سماوي تدعوهم معرفته إلى ذلك فيشمل الفرس إذ لا كتاب لهم كالعرب، وعلى ذلك يخرج ما أشار إليه الحديث من تفسير الآخرين بالفرس وهو مع ذلك باب التمثيل، والاقتصار على بعض الأنواع بناء على أن بعض الأمم لا كتاب لهم أيضا، وربما يقال: إن- من- في مِنْهُمْ اسمية بمعنى بعض مبتدأ كما قيل في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ [البقرة: ٨] وضمير الجمع- لآخرين- وجملة لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ خبر فيشمل آخرين، طوائف الناس الذين يلحقون إلى يوم القيامة من العرب والروم والعجم وغيرهم وبذلك فسره الضحاك وابن حيان ومجاهد في رواية، ويكون الحديث من باب الاقتصار والتمثيل كقول ابن عمر: هم أهل اليمن، وابن جبير هم الروم والعجم فتدبر.
وزعم بعضهم أن المراد بقوله تعالى: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أنهم لم يلحقوا بهم في الفضل لفضل الصحابة على التابعين ومن بعدهم، وفيه أن لَمَّا منفيها مستمر إلى الحال ويتوقع وقوعه بعده فتفيد أن لحوق التابعين ومن بعدهم في الفضل للصحابة متوقع الوقوع مع أنه ليس كذلك، وقد صرحوا أنه لا يبلغ تابعي وإن جل قدرا في الفضل مرتبة صحابي وإن لم يكن من كبار الصحابة، وقد سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية وعمر بن عبد العزيز أيهما أفضل؟ فقال: الغبار الذي دخل أنف فرس معاوية أفضل عند الله من مائة عمر بن عبد العزيز فقد صلّى معاوية خلف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقرأ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: ٦] إلخ فقال معاوية: آمين، واستدل على عدم اللحوق بما
صح من قوله عليه الصلاة والسلام فيهم:
«لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»
على القول بأن الخطاب لسائر الأمة، وأما
قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «أمتي كالمطر لا يدري
289
أوله خير أم آخره»
فمبالغة في خيريتهم كقول القائل في ثوب حسن البطانة: لا يدرى ظهارته خير أم بطانته ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من كونه عليه الصلاة والسلام رسولا في الأميين ومن بعدهم معلما مزكيا وما فيه من معنى البعد للتعظيم أي ذلك الفضل العظيم فَضْلُ اللَّهِ وإحسانه جل شأنه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده تفضلا، ولا يشاء سبحانه إيتاءه لأحد بعده صلّى الله تعالى عليه وسلم.
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي يستحقر دونه نعم الدنيا والآخرة مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي علموها وكلفوا العمل بما فيها، والتحميل في هذا شائع يلحق بالحقيقة، والمراد بهم اليهود ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يعملوا بما في تضاعيفها التي من جملتها الآيات الناطقة بنبوة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم.
كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً أي كتبا كبارا على ما يشعر به التنكير، وإيثار لفظ السفر وما فيه من معنى الكشف من العلم يتعب بحملها ولا ينتفع بها، ويَحْمِلُ إما حال من- الحمار- لكونه معرفة لفظا والعامل فيه معنى المثل، أو صفة له لأن تعريفه ذهني فهو معنى نكرة فيوصف بما توصف به على الأصح.
ونسب أبو حيان للمحققين تعين الحالية في مثل ذلك، ووجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة وعلى ألسنة أنبياء بني إسرائيل كأنه قيل: هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أمة أميين، مثل من جاءه نعته فيها وعلمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار، وفي الآية دليل على سوء حال العالم الذي لا يعمل بعلمه، وتخصيص الحمال بالتشبيه به لأنه كالعلم في الجهل، ومن ذلك قوله الشاعر:
ذوو أمل للأسفار لا علم عندهم | بجيدها إلا كعلم الأباعر |
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا | بأوساقه أو راح ما في الغرائر |
بناء على نقل عن ابن خالويه أن البعير اسم من أسماء الحمار كالجمل البازل، وقرأ يحيى بن يعمر وزيد بن علي
«حملوا» مبنيا للفاعل، وقرأ عبد الله- حمار- بالتنكير، وقرىء
«يحمّل» بشد الميم مبنيا للمفعول بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا فحذف المضاف وهو المخصوص بالذم وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يكون الَّذِينَ صفة القوم، والمخصوص محذوف أي بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله هو، والضمير راجع إلى مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، وظاهر كلام الكشاف أن المخصوص هو مَثَلُ المذكور، والفاعل مستتر يفسره تمييز محذوف، والتقدير بئس مثلا مثل القوم إلخ، وتعقب بأن سيبويه نص على أن التمييز الذي يفسر الضمير المستتر في باب نعم لا يجوز حذفه ولو سلم جوازه فهو قليل، وأجيب بأن ذاك تقرير لحاصل المعنى وهو أقرب لاعتبار الوجه الأول، وكان قول ابن عطية التقدير بئس المثل القوم من ذلك الباب، وإلا ففيه حذف الفاعل، وقد قالوا بعدم جوازه إلا في مواضع ليس هذا منها وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الواضعين للتكذيب في موضع التصديق، أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بسبب التكذيب.
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أي تهودوا أي صاروا يهودا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ أي أحباء له سبحانه ولم يضف أولياء إليه تعالى كما في قوله سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ قال الطيبي: ليؤذن بالفرق بين مدعي الولاية ومن يخصه عز وجل بها مِنْ دُونِ النَّاسِ حال من الضمير الراجع إلى اسم إِنْ أي متجاوزين عن الناس فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي فتمنوا من الله تعالى أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت فإن من
290
أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التي هي قرارة الأنكاد والأكدار، وأمر صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لهم ذلك إظهارا لكذبهم فإنهم كانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨] ويدّعون أن الآخرة لهم عند الله خالصة ويقولون: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: ١١١] وروي أنه لما ظهر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كتبت يهود المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتم محمدا أطعناه وإن خالفتموه خالفناه. فقالوا:
نحن أبناء خليل الرحمن ومنا عزير ابن الله والأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد ولا سبيل إلى اتباعه فنزلت قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا الآية، واستعمال إِنْ التي للشك مع الزعم وهو محقق للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجزم به لوجود ما يكذبه.
وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع
«فتمنّوا الموت» بكسر الواو تشبيها بلو استطعنا، وعن ابن السميفع أيضا فتحها، وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمزة مضمومة بدل الواو وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً إخبار بحالهم المستقبلة وهو عدم تمنيهم الموت، وذلك خاص على ما صرح به جمع بأولئك المخاطبين،
وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم:
«والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه»
فلم يتمنه أحد منهم وما ذلك إلا لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه الصلاة والسلام فعلموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد، وهذه إحدى المعجزات، وجاء نفي هذا التمني في آية أخرى- بلن- وهو من باب التفنن على القول المشهور في أن كلا من- لا- ولن- لنفي المستقبل من غير تأكيد، ومن قال: بإفادة- لن- التأكيد فوجه اختصاص التوكيد عنده بذلك الموضع أنهم ادعوا الاختصاص دون الناس في الموضعين، وزادوا هنالك أنه أمر مكشوف لا شبهة فيه محققة عند الله فناسب أن يؤكد ما ينفيه، والباء في قوله سبحانه: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ سببية متعلقة بما يدل عليه النفي أي يأبون التمني بسبب ما قدمت، وجوز تعلقه بالانتفاء كأنه قيل: انتفى تمنيهم بسبب ما قدمت كما قيل ذلك في قوله تعالى:
ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: ٢] والمراد بما قدمته أيديهم الكفر والمعاصي الموجبة لدخول النار، ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفعاله عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي بهم وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون في كل ما يأتون ويذرون من الأمور التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل، والجملة تذييل لما قبلها مقررة لما أشار إليه من سوء أفعالهم واقتضائها العذاب أي والله تعالى عليم بما صدر منهم من فنون الظلم والمعاصي وبما سيكون منهم فيجازيهم على ذلك.
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ولا تجسرون على أن تمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال أفعالكم فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه والجملة خبر إِنَّ والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار وصفه بالموصول، فإن الصفة والموصوف كالشيء الواحد، فلا يقال: إن الفاء إنما تدخل الخبر إذا تضمن المبتدأ معنى الشرط، والمتضمن له الموصول وليس بمبتدأ، ودخولها في مثل ذلك ليس بلازم كدخولها في الجواب الحقيقي، وإنما يكون لنكتة تليق بالمقام وهي هاهنا المبالغة في عدم الفوت، وذلك أن الفرار من الشيء في مجرى العادة سبب الفوت عليه فجيء بالفاء لإفادة أن الفرار سبب الملاقاة مبالغة فيما ذكر وتعكيسا للحال، وقيل: ما في حيزها جواب من حيث المعنى على معنى الإعلام فتفيد أن الفرار المظنون سببا للنجاة سبب للإعلام بملاقاته كما في قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: ٥٣] وهو وجه ضعيف فيما نحن فيه لا مبالغة فيه من حيث المعنى، ومنع قوم منهم الفراء دخول الفاء في نحو هذا، وقالوا: هي هاهنا زائدة، وجوز أن يكون الموصول خبر إِنَّ والفاء عاطفة كأنه قيل: إن الموت هو الشيء الذي تفرون منه فيلاقيكم.
291
وقرأ زيد بن علي
«إنه ملاقيكم» بدون فاء، وخرج على أن الخبر هو الموصول وهذه الجملة مستأنفة أو هي الخبر والموصول صفة كما في قراءة الجمهور، وجوز أن يكون الخبر مُلاقِيكُمْ وإنه- توكيدا لأن الموت، وذلك أنه لما طال الكلام أكد الحرف مصحوبا بضمير الاسم الذي لأن، وقرأ ابن مسعود
«تفرون منه ملاقيكم» بدون الفاء ولا- إنه- وهي ظاهرة ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الذي لا يخفى عليه خافية.
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي بأن يجازيكم بها، واستشعر غير واحد من الآية ذم الفرار من الطاعون، والكلام في ذلك طويل، فمنهم من حرمه- كابن خزيمة- فإنه ترجم في صحيحه- باب الفرار من الطاعون من الكبائر- وأن الله تعالى يعاقب من وقع منه ذلك ما لم يعف عنه، واستدل بحديث عائشة
«الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف» رواه الإمام أحمد والطبراني وابن عدي وغيرهم، وسنده حسن.
وذكر التاج السبكي أن الأكثر على تحريمه، ومنهم من قال: بكراهته كالإمام مالك، ونقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج عن الأرض التي يقع بها عن جماعة من الصحابة منهم أبو موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، وعن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق، وروى الإمام أحمد والطبراني أن عمرو بن العاص قال في الطاعون في آخر خطبته: إن هذا رجز مثل السيل من تنكبه أخطأه ومثل النار من تنكبها أخطأها ومن أقام أحرقته، وفي لفظ إن هذا الطاعون رجس فتفرقوا منه في الشعاب وهذه الأودية فتفرقوا فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فلم ينكره ولم يكرهه، وعن طارق بن شهاب قال: كنا نتحدث إلى أبي موسى الأشعري وهو في داره بالكوفة فقال لنا وقد وقع الطاعون: لا عليكم أن تنزحوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم حتى يرفع هذا الوباء فإني سأخبركم بما يكره من ذلك، أن يظن من خرج أنه لو أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه فاذا لم يظن هذا فلا عليه أن يخرج ويتنزه عنه.
وأخرج البيهقي وغيره عنه بسند حسن أنه قال: إن هذا الطاعون قد وقع فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل واحذروا اثنتين أن يقول قائل: خرج خارج فسلم وجلس جالس فأصيب، فلو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان ولو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان، ويفهم أنه لا بأس بالخروج مع اعتقاد أن كل مقدر كائن، وكأني بك تختار ذلك، لكن في فتاوى العلامة ابن حجر أن محل النزاع فيما إذا خرج فارا منه مع اعتقاد أنه لو قدر عليه لأصابه وأن فراره لا ينجيه لكن يخرج مؤملا أن ينجو أما الخروج من محله بقصد أن له قدرة على التخلص من قضاء الله تعالى وأن فعله هو المنجي له فواضح أنه حرام بل كفر اتفاقا.
وأما الخروج لعارض شغل أو للتداوي من علة طعن فيه أو غير ذلك فهو مما لا ينبغي أن يختلف في جوازه كما صرح به بعض المحققين، ومن ذلك فيما أرى عروض وسوسة طبيعية له لا يقدر على دفعها تضر به ضررا بينا وغلبة ظن عدم دفنه أو تغسيله إذا مات في ذلك المحل قيل: ولا يقاس على الفرار من الطاعون الفرار من غيره من المهالك فإنه مأمور به وقد قال الجلال السيوطي: الفرار من الوباء كالحمى ومن سائر أسباب الهلاك جائز بالإجماع، والطاعون مستثنى من عموم المهالك المأمور بالفرار منها للنهي التحريمي أو التنزيهي عن الفرار منه واختلفوا في علة النهي فقيل:
هي أن الطاعون إذا وقع في بلد مثلا عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيد الفرار منه بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا، وإن أقام فتعينت الإقامة لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء، واعترض بمنع عمومه إذا وقع في بلد جميع من فيه بمداخلة سببه ولو سلم فالوباء مثله في أن الشخص الذي في بلده إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا وإن أقام مع أنهم جوزوا الفرار منه، وقيل: هي أن الناس لو تواردوا على الخروج لضاعت المرضى العاجزون عن الخروج لفقد من يتعهدهم والموتى لفقد من يجهزهم، وأيضا في خروج الأقوياء كسرا
292
لقلوب الضعفاء عن الخروج، وأيضا إن الخارج يقول: لو لم أخرج لمت، والمقيم: لو خرجت لسلمت فيقعان في اللو المنهي عنه، واعترض كل ذلك بأنه موجود في الفرار عن الوباء أيضا، وكذا الداء الحادث ظهوره المعروف بين الناس بأبي زوعة الذي أعيا الأطباء علاجه ولم ينفع فيه التحفظ والعزلة على الوجه المعروف في الطاعون، وقيل: هي إن للميت به وكذا للصابر المحتسب المقيم في محله وإن لم يمت به أجر شهيد، وفي الفرار إعراض عن الشهادة وهو محل التشبيه في حديث عائشة عند بعض، واعترض بأنه قد صح أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم مر بحائط مائل فأسرع ولم يمنع أحد من ذلك. وكذا من الفرار من الحريق مع أن الميت بذلك شهيد أيضا، وذهب بعض العلماء إلى أن النهي تعبدي وكأنه لما رأى أنه لا تسلم علة له عن الطعن قال ذلك، ولهم في هذه المسألة رسائل عديدة فمن أراد استيفاء الكلام فيها فليرجع إليها.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أي فعل النداء لها أي الأذان، والمراد به على ما حكاه في الكشاف الأذان عند قعود الإمام على المنبر. وقد كان لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل عليه الصلاة والسلام أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذنا آخر فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني فإذا نزل أقام الصلاة فلم يعب ذلك عليه.
وفي حديث الجماعة- إلا مسلما- فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، وفي رواية للبخاري ومسلم زاد النداء الثاني، والكل بمعنى، وتسمية ما يفعل من الأذان أولا ثانيا باعتبار أنه لم يكن على عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وإنما كان بعد، وتسميته ثالثا لأن الإقامة تسمى أذانا كما
في الحديث
«بين كل أذانين صلاة»
وقال مفتي الحنفية في دار السلطنة السنية الفاضل سعد الله جلبي: المعتبر في تعلق الأمر يعني قوله تعالى الآتي: فَاسْعَوْا هو الأذان الأول في الأصح عندنا لأن حصول الإعلام به لا الأذان بين يدي المنبر، ورد بأن الأول لم يكن على عهد النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم كما سمعت فكيف يقال: المراد الأول في الأصح، وأما كون الثاني لا إعلام فيه فلا يضر لأن وقته معلوم تخمينا ولو أريد ما ذكر وجب بالأول السعي وحرم البيع وليس كذلك.
وفي كتاب الأحكام روي عن ابن عمر والحسن في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ إلخ قال: إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة انتهى، وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره كذا قال الخفاجي.
وفي كتب الحنفية خلافه ففي الكنز وشرحه: ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به، وهذا القول هو الصحيح في المذهب، وقيل:
العبرة للأذان الثاني الذي يكون بين يدي المنبر لأنه لم يكن في زمنه إلا هو- وهو ضعيف- لأنه لو اعتبر في وجوب
293
السعي لم يتمكن من السنة القبلية ومن الاستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى، ونحوه كثير لكن الاعتراض عليه قوي فتدبر مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي فيه كما في قوله تعالى: أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر:
٤٠] أي فيها، وجوز أبو البقاء أيضا كون مِنْ للتبعيض، وفي الكشاف هي بيان- لإذا- وتفسير له، والظاهر أنه أراد البيان المشهور فأورد عليه أن شرط مِنْ البيانية أن يصح حمل ما بعدها على المبين قبلها وهو منتف هنا لأن الكل لا يحمل على الجزء واليوم لا يصح أن يراد به هنا مطلق الوقت لأن يوم الجمعة علم لليوم المعروف لا يطلق على غيره في العرف ولا قرينة عليه هنا وقيل: أراد البيان اللغوي أي لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام إذا فيه إبهام فيجامع كونها بمعنى في، وكونها للتبعيض وهو كما ترى.
والجمعة بضم الميم وهو الأفصح، والأكثر الشائع، وبه قرأ الجمهور وقرأ ابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي والأعمش بسكونها، وروي عن أبي عمرو- وهي لغة تميم- وجاء فتحها ولم يقرأ به، ونقل بعضهم الكسر أيضا، وذكروا أن الجمعة بالضم مثل الجمعة بالإسكان. ومعناه المجموع أي يوم الفوج المجموع كقولهم:
ضحكة للمضحوك منه، وأما الجمعة: بالفتح فمعناه الجامع أي يوم الوقت الجامع كقولهم: ضحكة لكثير الضحك، وقال أبو البقاء: الجمعة بضمتين وبإسكان الميم مصدر بمعنى الاجتماع.
وقيل: في المسكن هو بمعنى المجتمع فيه كرجل ضحكة أي كثير الضحك منه انتهى، وقد صار يوم الجمعة علما على اليوم المعروف من أيام الأسبوع، وظاهر عبارة أكثر اللغويين أن الجمعة وحدها من غير يوم صارت علما له ولا مانع منه، وإضافة العام المطلق إلى الخاص جائزة مستحسنة فيما إذا خفي الثاني كما هنا لأن التسمية حادثة كما ستعلمه إن شاء الله تعالى فليست قبيحة كالإضافة في إنسان زيد، وكانت العرب- على ما قال غير واحد- تسمي يوم الجمعة عروبة، قيل: وهو علم جنس يستعمل بأل وبدونها وقيل: أل لازمة، قال الخفاجي: والأول أصح.
وفي النهاية لابن الأثير عروبة اسم قديم للجمعة، وكأنه ليس بعربي يقال: يوم عروبة، ويوم العروبة، والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام انتهى، وما ظنه من أنه ليس بعربي جزم به مختصر كتاب التذييل والتكميل مما استعمل من اللفظ الدخيل لجمال الدين عبد الله بن أحمد الشهير بالشيشي فقال: عروبة منكرا ومعرفا هو يوم الجمعة اسم سرياني معرب، ثم قال: قال السهيلي: ومعنى العروبة الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم انتهى وهو غريب فليحفظ.
وأول من سماه جمعة قيل: كعب بن لؤي، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن سيرين قال:
جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغذوا وتعشوا منها وذلك لعامتهم، فأنزل الله تعالى في ذلك بعد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية، وكون أسعد هذا أول من جمع مروي عن غير ابن سيرين أيضا، أخرج أبو داود وابن ماجة وابن حبان والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت: يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال:
لأنه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات من حرة بني بياضة قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا، وظاهر قوله ابن سيرين: فأنزل الله تعالى في ذلك بعد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ أن أسعد أقام الجمعة قبل أن تفرض، وكذا قوله:
جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، في فتح القدير التصريح بذلك، وقال العلامة ابن حجر
294
في تحفة المحتاج: فرضت- يعني صلاة الجمعة- بمكة ولم نقم بها لفقد العدد، أو لأن شعارها الإظهار، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم بها مستخفيا، وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة انتهى، فلعلها فرضت ثم نزلت الآية كالوضوء للصلاة فإنه فرض أولا بمكة مع الصلاة ثم نزلت آيته لكن يعكر على هذا ما
أخرجه ابن ماجة عن جابر أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خطب فقال:
«إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها استخفافا بها أو جحودا بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه»
فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير إذ ظاهر
قوله عليه الصلاة والسلام فيه:
«لا حج له»
أن الحج كان مفروضا إذ ذاك، وهو وإن اختلف في وقت فرضه فقيل:
فرض قبل الهجرة، وقيل: أول سنيها، وقيل: ثانيها، وهكذا إلى العاشرة لكن قالوا: إن الأصح أنه فرض في السنة السادسة فإما أن يقدح في صحة الحديث، وإما أن يقال: مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة أي بهذا القيد، ويقال:
إن الحاصل قبل افتراضها غير مقيد بهذا القيد ثم ما تقدم من كون أسعد أول من جمع بالمدينة يخالفه ما أخرج الطبراني من أبي مسعود الأنصاري قال: أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمع بهم قبل أن يقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلا.
وأخرج البخاري على ما نقله السيوطي نحوه وكان ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: أذن النبي عليه الصلاة والسلام بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب ابن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى بركعتين قال: فهو أول من جمع حتى قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك فلعل ما يدل على كون أسعد أول من جمع أثبت من هذه الأخبار أو يجمع بأن أسعد أول من أقامها بغير أمر منه صلّى الله تعالى عليه وسلم كما يدل عليه خبر ابن سيرين، وصرح به ابن الهمام ومصعبا أول من أقامها بأمره عليه الصلاة والسلام، أو بأن مصعبا أول من أقامها في المدينة نفسها وأسعد أول من أقامها في قرية قرب المدينة، وقولهم: في المدينة تسامح، وقال الحافظ ابن حجر: يجمع بين الحديثين بأن أسعد كان أميرا، ومصعبا كان إماما وهو كما ترى، ولم يصرح في شيء من الأخبار التي وقفت عليها فيمن أقامها قبل الهجرة بالمدينة بالخطبة التي هي أحد شروطها، وكان في خبر ابن سيرين رمزا إليها بقوله: وذكرهم، وقد يقال: إن صلاة الجمعة حقيقة شرعية في الصلاة المستوفية للشروط، فمتى قيل: إن فلانا أول من صلّى الجمعة كان متضمنا لتحقق الشروط لكن يبعد كل البعد كون ما وقع من أسعد رضي الله تعالى عنه إن كان قبل فرضيتها مستوفيا لما هو معروف اليوم من الشروط، ثم إني لا أدري هل صلّى أسعد الظهر ذلك اليوم أم اكتفى بالركعتين اللتين صلاهما عنها؟ وعلى تقدير الاكتفاء كيف ساغ له ذلك بدون أمره عليه الصلاة والسلام؟! وقصارى ما يظن أن الأنصار علموا فرضية الجمعة بمكة وعلموا شروطها وإغناءها عن صلاة الظهر فأرادوا أن يفعلوها قبل أن يؤمروا بخصوصهم فرغب خواصهم عوامهم على أحسن وجه وجاؤوا إلى أسعد فصلى بهم وهو خلاف الظاهر جدا فتدبر والله تعالى الموفق.
وأما ما كان من صلاته عليه الصلاة والسلام إياها
فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة وهو أول جمعة
295
صلاها عليه الصلاة والسلام
، وقال بعضهم: إنما سمي هذا اليوم يوم الجمعة لأن آدم عليه السلام اجتمع فيه مع حواء في الأرض، وقيل: لأن خلق آدم عليه السلام جمع فيه وهو نحو ما
أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قلت:
«يا نبي الله لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ فقال: لأن فيها جمعت طينة أبيكم آدم عليه السلام» الخبر،
ويشعر ذلك بأن التسمية كانت قبل كعب بن لؤي ويسميه الملائكة يوم القيامة يوم المزيد لما أن الله تعالى يتجلى فيه لأهل الجنة فيعطيهم ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر كما
في حديث رواه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعا وهو من أفضل الأيام
وفي خبر رواه كثيرون منهم الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي لبابة بن عبد المنذر مرفوعا
«يوم الجمعة سيد الأيام وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى»
وفيه أن فيه خلق آدم وإهباطه إلى الأرض وموته وساعة الإجابة- أي للدعاء- ما لم يكن سؤال حرام وقيام الساعة،
وفي خبر الطبراني
«وفيه دخل الجنة وفيه خرج».
وصحح ابن حبان خبر
«لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة»
وفي خبر مسلم
«فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس»
وصح خبر
«وفيه تيب عليه وفيه مات».
وأخذ أحمد من خبري مسلم وابن حبان أنه أفضل حتى من يوم عرفة، وفضل كثير من الحنابلة ليلته على ليلة القدر، قيل: ويردهما أن لذينك دلائل خاصة فقدمت، واختلف في تعيين ساعة الإجابة فيه، فعن أبي بردة: هي حين يقوم الإمام في الصلاة حتى ينصرف عنها، وعن الحسن: هي عند زوال الشمس، وعن الشعبي: هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، وعن عائشة: هي حين ينادي المنادي بالصلاة،
وفي حديث مرفوع أخرجه ابن أبي شيبة عن كثير ابن عبد الله المزني: هي حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها
، وعن أبي أمامة إني لأرجو أن تكون الساعة التي في الجمعة إحدى هذه الساعات: إذا أذن المؤذن أو جلس الإمام على المنبر، أو عند الإقامة، وعن طاوس ومجاهد: هي بعد العصر، وقيل: غير ذلك، ولم يصح تعيين الأكثرين، وقد أخفاها الله تعالى كما أخفى سبحانه الاسم الأعظم وليلة القدر وغيرها لحكمة لا تخفى.
فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي امشوا إليه بدون إفراط في السرعة،
وجاء في الحديث مقابلة السعي بالمشي،
وجعل ذلك في خصائص الجمعة،
فقد أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
«إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا»
والمراد بذكر الله الخطبة والصلاة، واستظهر أن المراد به الصلاة، وجوز كون المراد به الخطبة- وهو على ما قيل- مجاز من إطلاق البعض على الكل كإطلاقه على الصلاة، أو لأنها كالمحل له، وقيل:
الذكر عام يشمل الخطبة المعروفة ونحو التسبيحة، واستدلوا بالآية لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على أنه يكفي في خطبة الجمعة التي هي شرط لصحتها الذكر مطلقا ولا يشترط الطويل وأقله قدر التشهد كما اشترطه صاحباه، وبينوا ذلك بأنه تعالى ذكر الذكر من غير فصل بين كونه ذكرا طويلا يسمى خطبة أو ذكرا لا يسمى خطبة فكان الشرط هو الذكر الأعم بالقاطع غير أن المأثور عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم اختيار أحد الفردين وهو الذكر المسمى بالخطبة والمواظبة عليه فكان ذلك واجبا أو سنة لا أنه الشرط الذي لا يجزىء غيره إذ لا يكون بيانا لعدم الإجمال في لفظ الذكر، والشافعية يشترطون خطبتين: ولهما أركان عندهم، واستدلوا على ذلك بالآثار، وأيا ما كان فالأمر بالسعي للوجوب.
واستدل بذلك على فرضية الجمعة حيث رتب فيها الأمر بالسعي لذكر الله تعالى على النداء للصلاة فإن أريد به
296
الصلاة أو هي والخطبة فظاهر، وكذلك إن أريد به الخطبة لأن افتراض السعي إلى الشرط- وهو المقصود لغيره- فرع افتراض ذلك الغير، ألا ترى أن من لم تجب عليه الصلاة لا يجب عليه السعي إلى الجمعة بالإجماع؟ وكذا ثبتت فرضيتها بالسنة والإجماع، وقد صرح بعض الحنفية بأنها آكد فرضية من الظهر وبإكفار جاحدها وهي فرض عين، وقيل: كفاية وهو شاذ، وفي حديث رواه أبو داود وقال النووي: على شرط الشيخين
«الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض».
وأجمعوا على اشتراط العدد فيها لهذا الخبر وغيره، وقول القاشاني: تصح بواحد لا يعتد به كما في شرح المهذب لكنهم اختلفوا في مقداره على أقوال: أحدها أنه اثنان أحدهما الإمام- وهو قول النخعي والحسن بن صالح وداود- الثاني: ثلاثة أحدهم الإمام- وحكي عن الأوزاعي وأبي ثور وعن أبي يوسف ومحمد وحكاه الرافعي وغيره عن قول الشافعي القديم- الثالث: أربعه أحدهم الإمام- وبه قال أبو حنيفة والثوري والليث وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور واختاره، وحكاه في شرح المهذب عن محمد، وحكاه صاحب التلخيص قولا للشافعي في القديم- الرابع:
سبعة- حكي عن عكرمة- الخامس: تسعة- حكي عن ربيعة- السادس: اثني عشر- وفي رواية عن ربيعة. وحكاه الماوردي عن محمد والزهري والأوزاعي- السابع: ثلاثة عشر أحدهم الإمام- حكي عن إسحاق بن راهويه- الثامن:
عشرون- رواه ابن حبيب عن مالك- التاسع: ثلاثون- في رواية عن مالك- العاشر: أربعون أحدهم الإمام- وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والإمام الشافعي في الجديد، وهو المشهور عن الإمام أحمد، وأحد القولين المرويين عن عمر بن عبد العزيز- الحادي عشر: خمسون- في الرواية الأخرى عنه- الثاني عشر: ثمانون- حكاه المازري- الثالث عشر: جمع كثير بغير قيد- وهو مذهب مالك- فقد اشتهر أنه قال: لا يشترط عدد معين بل يشترط جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع، ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل، وأنا أقول أرجحها مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد رجحه المزني- وهو من كبار الآخذين عن الشافعي- وهو اختيار الجلال السيوطي، ووجه اختياره مع ذكر أدلة أكثر الأقوال بما لها وعليها مذكور في رسالة له سماها ضوء الشمعة في عدد الجمعة، ولولا مزيد التطويل لذكرنا خلاصتها. ومن أراد ذلك فليرجع إليها ليظهر له بنورها حقيقة الحال.
وقرأ كثير من الصحابة والتابعين- فامضوا- وحملت على التفسير بناء على أنه لا يراد بالسعي الإسراع في المشي ولم تجعل قرآنا لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه وَذَرُوا الْبَيْعَ أي واتركوا المعاملة على أن البيع مجاز عن ذلك فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات، أو هو دال على ما عداه بدلالة النص ولعله الأولى، والأمر للوجوب فيحرم كل ذلك بل روي عن عطاء حرمة اللهو المباح وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتابا أيضا.
وعبر بعضهم بالكراهة وحملت على كراهة التحريم، وقول الأكمل في شرح المنار: إن الكراهة تنزيهية مردود وكأنه مأخوذ من زعم القاضي الإسبيجاني أن الأمر في الآية للندب وهو زعم باطل عند أكثر الأئمة، وعامة العلماء على صحة البيع، وإن حرم نظير ما قالوا في الصلاة بالثوب المغصوب أو في الأرض المغصوبة.
وقال ابن العربي: هو فاسد، وعبر مجاهد بقوله: مردود ويستمر زمن الحرمة إلى فراغ الإمام من الصلاة، وأوله إما وقت أذان الخطبة- وروي عن الزهري، وقال به جمع- وإما أول وقت الزوال- وروى ذلك عن عطاء والضحاك والحسن- والظاهر أن المأمورين بترك البيع هم المأمورون بالسعي إلى الصلاة.
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم دخل على أهله يوم الجمعة وعندهم عطار يبايعونه
297
فاشتروا منه وخرج القاسم إلى الجمعة فوجد الإمام وقد خرج فلما رجع أمرهم أن يناقضوه البيع، وظاهره حرمة البيع إذا نودي للصلاة على غير من تجب عليه أيضا، والظاهر حرمة البيع والشراء حالة السعي.
وصرح في السراج الوهاج بعدمها إذا لم يشغله ذلك ذلِكُمْ أي المذكور من السعي إلى ذكر الله تعالى وترك البيع خَيْرٌ لَكُمْ أنفع من مباشرة البيع فإن نفع الآخرة أجلّ وأبقى، وقيل: أنفع من ذلك ومن ترك السعي، وثبوت أصل النفع للمفضل عليه باعتبار أنه نفع دنيوي لا يدل على كون الأمر للندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب كما لا يخفى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير والشر الحقيقيين، أو إن كنتم من أهل العلم على تنزيل الفعل منزلة اللازم فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي أديت وفرغ منها فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لإقامة مصالحهم وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي الربح على ما قيل، وقال مكحول والحسن وابن المسيب: المأمور بابتغائه هو العلم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: لم يؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله تعالى، وأخرج نحوه ابن جرير عن أنس مرفوعا، والأمر للإباحة على الأصح فيباح بعد قضاء الصلاة الجلوس في المسجد ولا يجب الخروج، وروي ذلك عن الضحاك ومجاهد.
وحكى الكرماني في شرح البخاري الاتفاق على ذلك وفيه نظر، فقد حكى السرخسي القول بأنه للوجوب، وقيل: هو للندب،
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن بسر الحراني قال: رأيت عبد الله ابن بسر المازني صاحب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا صلّى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فقيل له: لأي شيء تصنع هذا؟ قال: إني رأيت سيد المرسلين صلّى الله تعالى عليه وسلم هكذا يصنع وتلا هذه الآية فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
إلخ.
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: إذا انصرفت يوم الجمعة فاخرج إلى باب المسجد فساوم بالشيء وإن لم تشتره، ونقل عنه القول بالندبية وهو الأقرب والأوفق بقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي ذكرا كثيرا ولا تخصوا ذكره عز وجل بالصلاة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ كي تفوزوا بخير الدارين، ومما ذكرنا يعلم ضعف الاستدلال بما هنا على أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، واستدل بالآية على تقديم الخطبة على الصلاة وكذا على عدم ندب صلاة سنتها البعدية في المسجد، ولا دلالة فيها على نفي سنة بعدية لها، وظاهر كلام بعض الأجلة أن من الناس من نفى أن للجمعة سنة مطلقا فيحتمل على بعد أن يكون استشعر نفي السنة البعدية من الأمر بالانتشار وابتغاء الفضل، وأما نفي القبلية فقد استند فيه إلى ما روي في الصحيح وقد تقدم من أن النداء كان على عهده عليه الصلاة والسلام إذا جلس على المنبر إذ من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام إذا كمل الأذان أخذ في الخطبة وإذا أتمها أخذ في الصلاة، فمتى كانوا يصلون السنة؟ وأجيب عن هذا بأن خروجه عليه الصلاة والسلام كان بعد الزوال بالضرورة فيجوز كونه بعد ما كان يصلي الأربع، ويجب الحكم بوقوع الحكم بهذا المجوز لعموم ما صح من أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي إذا زالت الشمس أربعا، وكذا يجب في حقهم لأنهم أيضا يعلمون الزوال كالمؤذن بل ربما يعلمونه بدخول الوقت ليؤذن، واستدل بقوله تعالى: إِذا نُودِيَ إلخ من قال: إنما يجب إتيان الجمعة من مكان يسمع فيه النداء، والمسألة خلافية فقال ابن عمر وأبو هريرة ويونس والزهري: يجب إتيانها من ستة أميال، وقيل: من خمسة، وقال ربيعة: من أربعة، وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر.
وقال مالك والليث: من ثلاثة، وفي بحر أبي حيان وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجب الإتيان على من في المصر سمع النداء أو لم يسمع لا على من هو خارج المصر وإن سمع النداء وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد
298
وإسحاق على من سمع النداء، وعن ربيعة على من إذا سمع وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة، وكذا استدل بذلك من قال بوجوب الإتيان إليها سواء كان إذن عام أم لا، وسواء أقامها سلطان أو نائبه أو غيرهما أم لا لأنه تعالى إنما رتب وجوب السعي على النداء مطلقا كذا قيل، وتحقيق الكلام على ذلك كله في كتب الفروع المطولة.
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن جابر ابن عبد الله قال:
«بينما النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله تعالى وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً إلى آخر السورة
وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أنه بقي في المسجد اثنا عشر رجلا وسبع نسوة فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا»
وفي رواية عن قتادة
«والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم أولكم لالتهب الوادي عليكم نارا»
، وقيل: لم يبق إلا أحد عشر رجلا، وهم على ما قال أبو بكر: غالب بن عطية العشرة المبشرة وعمار في رواية وابن مسعود في أخرى، وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضا منهم. وعدوا بلالا وجابرا لكلامه السابق، ومنهم من لم يذكر جابرا وذكر بلالا وابن مسعود ومنه من ذكر عمارا بدل ابن مسعود، وقيل: لم يبق إلا ثمانية، وقيل: بقي أربعون، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه تحمل طعاما، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر.
وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى كان يوم الجمعة والنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يخطب وقد صلّى الجمعة فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قدم بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنوا إلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى وَإِذا رَأَوْا
إلخ فقدم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة، ولا أظن صحة هذا الخبر، والظاهر أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لم يزل مقدما خطبتها عليها، وقد ذكروا أنها شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه، ولم أر أحدا من الفقهاء ذكر أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط القبول متضمن ذلك، نعم ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن بعضهم شذ عن الإجماع على كون الخطبة قبلها والله تعالى أعلم، والآية لما كانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا: إن إِذا فيها قد خرجت عن الاستقبال واستعملت للماضي كما في قوله:
وندمان تزيد الكأس طيبا | سقيت إذا تغورت النجوم |
ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود، فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه، أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموما فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه؟ وقيل: الضمير للرؤية المفهومة من رَأَوْا وهو خلاف الظاهر المتبادر، وقيل: في الكلام تقدير، والأصل إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضمير لكل منهما بل يكفي الرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة، وقال الطيبي: يمكن أن يقال: إن أَوْ في أَوْ لَهْواً مثلها في قوله:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى | وصورتها أو أنت في العين أملح |
فقال الجوهري: يريد بل أنت فالضمير في إِلَيْها راجع إلى اللهو باعتبار المعنى، والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله تعالى عدت لهوا، وتعدّ فضلا إن لم تشغله كما في قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
299
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
انتهى وليس بشيء كما لا يخفى.
وقرأ ابن أبي عبلة- إليه- بضمير اللهو، وقرىء- إليهما- بضمير الاثنين كما في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: ١٣٥] وهو متأول لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا الخبر، والحال والوصف فهي على هذه القراءة بمعنى الواو كما قيل به في الآية التي ذكرناها وَتَرَكُوكَ قائِماً أي على المنبر.
واستدل به على مشروعية القيام في الخطبة وهو عند الحنفية أحد سننها، وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه، وأخرج ابن ماجة وغيره عن ابن مسعود أنه سئل أكان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا؟ فقال: أما تقرأ وَتَرَكُوكَ قائِماً؟ وكذا سئل ابن سيرين وأبو عبيدة وأجابا بذلك، وأول من خطب جالسا معاوية.
ولعل ذلك لعجزه عن القيام، وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم،
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب خطبتين يجلس بينهما
، وذكر أبو حيان أن أول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله تعالى عنه، وكأنه أراد بالاستراحة غير الجلوس بين الخطبتين إذ ذاك ما كان عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ فإن ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع، فإن نفع اللهو ليس بمحقق بل هو متوهم، ونفع التجارة ليس بمخلد، وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم بل لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم، وقال ابن عطية: قدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين، وهو قريب مما ذكرنا.
وقال الطيبي: قدم ما كان مؤخرا وكرر الجار لإرادة الإطلاق في كل واحد، واستقلاله فيما قصد منه ليخالف السابق في اتحاد المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة، واستدل الشيخ عبد الغني النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان أفعل التفضيل المقتضي لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة، وأنت تعلم أن ذلك مبني على الزعم والتوهم، وأعجب منه استدلاله على ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية، والأعجب الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعف من خصر شادن يدور على محور الغنج في مقابلتهم، ومنها أكاذيب لا أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها، ولا أظن ما يفعلونه إلا شبكة لاصطياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصا من ربقة الرق، فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله تعالى المالك وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإليه سبحانه اسعوا ومنه عز وجل اطلبوا الرزق.
واستدل بما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في جماعة الجمعة بأنه اثنا عشر بناء على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد الانفضاض كانوا كذلك، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف، وفيه أن ذلك وإن كان دالا على صحتها باثني عشر رجلا بلا شبهة لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر، وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلا وتمت بهم الجمعة، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم، وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف: فعند أبي حنيفة إن بقي وحده، أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع، وعند صاحبيه إذا كبروهم معه مضى فيها، وعند زفر إذا نفروا قبل القعدة بطلت لأن العدد شرط ابتداء فلا بد من دوامه كالوقت، ولهما أنه شرط الانعقاد فلا
300
يشترط دوامه كالخطبة، وللإمام أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها.
وقال جمهور الشافعية: إن انفض الأربعون، أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمونها ظهرا لنحو ما قال زفر، وفي قول: لا يضر إن بقي اثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وتمام ذلك في محله.
وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وروي أن ذلك قد وقع مرارا منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا، ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارا إن أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغني- والله تعالى أعلم- أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعلو عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته، وأنى بذلك؟! والجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر.
هذا
«ومن باب الإشارة» على ما قيل في الآيات: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ إشارة إلى عظيم قدرته عز وجل وأن إفاضة العلوم لا تتوقف على الأسباب العادية، ومنه قالوا: إن الولي يجوز أن يكون أميا كالشيخ معروف الكرخي- على ما قال ابن الجوزي- وعنده من العلوم اللدنية ما تقصر عنها العقول، وقال العز بن عبد السلام: قد يكون الإنسان عالما بالله تعالى ذا يقين وليس عنده علم من فروض الكفايات، وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة، ومن انقطع إلى الله عز وجل وخلصت روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لإدراك العلوم الربانية والمعارف اللدنية، فالولاية لا تتوقف قطعا على معرفة العلوم الرسمية كالنحو والمعاني والبيان وغير ذلك، ولا على معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو ذلك، ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من الأمور الشرعية كأكثر من تقبل يده في زماننا، وقد رأيت منهم من يقول- وقد بلغ من العمر نحو سبعين سنة- إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدل إلا فقلت له: منذ كم تقول هكذا؟ فقال: من صغري إلى اليوم فكررت عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد، ولا أظن ثباته على نحو ذلك،
وخبر
«لا يتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه»
ليس من كلامه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لا يفيد في دعوى ولاية من ذكرنا.
وذكر بعضهم أن قوله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ بعد قوله سبحانه: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفادة القالية اللسانية، وقال بحصولها للأولياء المرشدين: فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم، وهو سر ما يقال له التوجه عند السادة النقشبندية، وقالوا: بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلا يعول عليه عن الشارع الأعظم صلّى الله تعالى عليه وسلم،
301
ولا عن خلفائة رضي الله تعالى عنهم، وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلا لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر، ولولا خوف الإطناب لذكرتها مع ما فيها، ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين: التوجه والرابطة، وقد شاهدت ذلك من فضل الله عز وجل، وأيضا لا أدعي الجزم بعدم دليل في نفس الأمر، وفوق كل ذي علم عليم، ولعل أول من أرشد إليهما من السادة وجد فيهما ما يعول عليه، أو يقال: يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخريهم وإن كان للبحث فيه مجال ولأرباب القال في أمره مقال، وفي قوله تعالى: وَآخَرِينَ إلخ بناء على عطفه على الضمير المنصوب قيل: إشارة إلى عدم انقطاع فيضه صلّى الله تعالى عليه وسلم عن أمته إلى يوم القيامة، وقد قالوا بعدم انقطاع فيض الولي أيضا بعد انتقاله من دار الكثافة والفناء إلى دار التجرد والبقاء: وفي قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ إلخ إشارة إلى سوء حال المنكرين مع علمهم، وفي قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا الآية إشارة الى جواز امتحان مدعي الولاية ليظهر حاله بالامتحان فعند ذلك يكرم أو يهان، وفي عتاب الله تعالى المنفضين إشارة إلى نوع من كيفيات تربية المريد إذا صدر منه نوع خلاف ليسلك الصراط السوي ولا يرتكب الاعتساف، وفي الآيات بعد إشارات يضيق عنها نطاق العبارات،
«ومن عمل بما علم أورثه الله عز وجل علم ما لم يعلم».
302