تفسير سورة الملك

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الملك من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ ؛ أي تعالَى باستحقاقِ التعظيمِ الذي بيده إعطاءُ الْمُلْكِ وأخذهُ، يؤتِي الْمُلْكَ مَن يشاءُ فيُعِزُّهُ ويَنْزَعُهُ ممن يشاءُ فَيُذِلُّهُ، ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ من الإعزاز والإذلالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾ ؛ معناهُ : الذي قدَّرَ الإماتةَ والإحياءَ، ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾ ؛ فيما بين الإحياءِ والإماتةِ، ﴿ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ ؛ اللاَّمُ في ليَبلُوَكم متعلَّقٌ بخلقِ الحياة دون خلقِ الموت، لأنَّ الابتلاءَ في الحياةِ، ومعنى ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾ أي ليُعامِلَكم معاملةَ المختبر، فيُجازيَكم على ما ظهرَ منكم لا على ما يعلمُ منكم، ومعنى ﴿ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ أي أحسنُ عَقْلاً وأورَعُ عن محارمِ الله، قال ﷺ :" أتَمُّكُمْ عَقْلاً أشَدُّكُمْ خَوْفاً للهِ، وَأحْسَنُكُمْ نَظَراً فِيْمَا أمَرَ اللهُ بهِ وَنَهَى عَنْهُ ".
وقال الحسنُ :(مَعْنَاهُ : لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأتْرَكُ لَهَا) وارتفعَ ﴿ أَيُّكُمْ ﴾ على الابتداءِ لأنه بتأْويلِ ألف الاستفهامِ ولا يعملُ فيها ما قبلَها، تقديرهُ : ليَبلُوَكم أنتم أحسنُ عملاً أم غيركم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ ؛ أي العزيزُ بالنقمةِ لِمَن لا يؤمنُ، الغفورُ لِمَن تابَ وآمَنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ﴾ ؛ أي مُطْبَقَةً بعضُها على بعضٍ مثل القُبَّةِ، ﴿ مَّا تَرَى ﴾ ؛ أيُّها الرَّائي، ﴿ فِي خَلْقِ الرَّحْمَـانِ مِن تَفَاوُتٍ ﴾، في مخلوقاتِ الرَّحمنِ من تَفَاوُتٍ ؛ أي لا ترَى بعضَها حِكمَةً وبعضَها عَبثاً، ولا ترَى في السَّماء اضطِرَاباً وتبايُناً في الخِلقَةِ، وقال مقاتلُ :(مَا تَرَى ابْنَ آدَمَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ مِنْ عَيْبٍ).
وقال قتادةُ :(مَا تَرَى فِيهَا خَلَلاً وَلاَ اخْتِلاَفاً)، ﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ﴾ ؛ أي كرِّر النظرَ هل ترَى في السمَّاء من شُقوقٍ أو صُدوعٍ أو خُروقٍ، ﴿ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾ ؛ أي إنْ لم تستَدركْ بالمرَّة الأُولى، فرُدَّ البصرَ مرَّة أُخرى مُستقصياً، وردِّدِ البصر مرَّة أُخرى بعدَ مرَّة، ﴿ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً ﴾ ؛ صَاغِراً بمنْزِلة الخاسِئ وهو الذليلُ، ﴿ وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ ؛ أي كَلِيلٌ منقطعٌ قد أعَيى بمنْزِلة الحسيرِ الذي طلبَ شيئاً فلم يجدْهُ كما يحسِرُ البعيرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ﴾ ؛ السَّماءُ الدُّنيا هي الأدنَى إلينا، وهي التي يرَاها الناسُ، والمصابيحُ : النجومُ، واحدها مِصْبَاحٌ، سُمِّيت بذلك ؛ لأنَّها تضيءُ كما يضيء الْمِصْبَاحُ، ومِن ذلك الصُّبْحُ والصَّبَاحُ وهو السِّراجُ، والنجومُ لثلاث خصالِ : زينة، وعلامات يُهتدَى بها، ﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾ أي ورُجُومٌ لِمَن يسترقُ السمعَ من الشياطين، ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ ﴾ ؛ في الآخرةِ، ﴿ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴾ ؛ مع ما جعَلنا لهم في الدُّنيا من الرَّمي بالشُّهب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً ﴾ ؛ أي صَوْتاً قطيعاً كصوتِ الحِمَار، وهو آخرُ ما يَنهَقُ بنَفَسٍ شديدٍ، وهو أقبحُ الأصواتِ، وإذا اشتدَّ لَهَبُ النار سُمِعَ لها صوتٌ شديدٌ كأنَّها تطلبُ الوقودَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهِيَ تَفُورُ ﴾ ؛ أي تَغلِي بهم كغَلِيِ الْمِرْجَلِ. وقال مجاهدُ :(تَفُورُ بهِمْ، كَمَا يَفُورُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ بالْحَب الْقَلِيلِ)، والفَوْرُ ارتفاعُ الشيءِ بالغَلَيانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ ﴾ ؛ أي تكادُ تَنْشَقُّ وتَتَقَطَّعُ من تغيُّظِها على أهلها لتأخُذهم، والمعنى : تكادُ النار يَنْفَرِقُ بعضُها من بعضٍ غَضَباً على الكفار، وانتقاماً لله عَزَّ وَجَلَّ منهم، ﴿ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ ﴾ ؛ من الكفار ؛ أي جماعةٌ، ﴿ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ ﴾ ؛ أي النارُ، ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴾ ؛ أي رسولٌ مُنذِرٌ، وهذا التوبيخُ زيادةٌ لَهم في العذاب، ﴿ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا ﴾، له، ﴿ مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ ﴾ ؛ مِمَّا تقولُ، وقلنا للرَّسُولِ :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ ﴾ ؛ أي خطأ عظيمٍ. وَقِيْلَ : إن قَولَهُ ﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ ﴾ من قولِ الزَّبانِيَةِ للكُفَّار ؛ أي ما كُنتم في الدُّنيا إلاَّ في ضلالٍ كبير.
وقالَ أهلُ النار مُعتَرِفين بجهلِهم :﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ﴾ ؛ أي لو كُنَّا نسمعُ الهدى من الرُّسُلِ سَمَاعَ مَن يتفكرُ ويعقلُ منهم عقلَ مَن يُمَيِّزُ، ﴿ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ ﴾ ؛ أي أقَرُّوا بذلك، ﴿ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ ؛ أي أسْحَقَهُمُ اللهُ سُحْقاً ؛ أي باعدَهم من رحمتهِ، والسُّحْقُ : البُعْدُ، والمعنى : فبُعداً لأصحاب النار من رحمة الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّ الذين يعمَلون لربهم ويتَّقون معصيتَهُ في سرِّهم، ويخافونَهُ ولم يَرَوهُ، لهم مغفرةٌ لذُنوبهم وثوابٌ عظيم في الجنَّة، والْخِشْيَةُ في الغيب أدلُّ على الإخلاصِ وأبعَدُ من النِّفاقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ وهذا تحذيرٌ للكفَّار عن الإقدامِ على المعاصي، يقول : إنْ أخفَيتُم كلامَكم في أمرِ مُحَمَّدٍ ﷺ أو جهَرتُم به، فإنه عليمٌ بما في القلوب من الخير والشرِّ.
قال ابنُ عبَّاس :(كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَيُخْبرُهُ جِبْرِيلُ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : أسِرُّوا قَوْلَكُمْ كَيْلاَ يَسْمَعَ بهِ إلَهُ مُحَمَّدٍ) قال اللهُ هذه الآية :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾ ؛ هذه الأشياءَ ما في الضَّمير. وَقِيْلَ : معناهُ : ألا يعلمُ الله مخلوقاتهِ، وَقِيْلَ : ألا يعلمُ سرَّ العبدِ من خلقه، ﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ ؛ أي لَطُفَ عِلْمُهُ بالأشياءِ حتى لا تخفَى عليه غوامضُ الأمور، الخبيرُ بمصالِح عبادهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً ﴾ ؛ أي سَهْلَةً تنصَرفون فيها فلا تضطربُ بكم ولا تمتَنعُ عليكم، يقال : دابة ذلُولٌ إذا كانت سهلةَ الرُّكوب، والذلُولُ لا تمتنعُ على صاحبها فيما يريدُها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا ﴾ ؛ أي في أطرافِها، وَقِيْلَ : في جِبَالها وآكامِها وجوانبها، ﴿ وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ ﴾ ؛ أي وكُلوا من نباتِها الذي جعلَهُ اللهُ رزقاً في الأرض، ﴿ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ ؛ أي وإلى اللهِ المرجِعُ في الآخرةِ للحساب والجزاءِ، والنُّشُورُ هو البعثُ من القبور.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَءَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ ﴾ ؛ معناهُ : أأمِنتُم يا أهلَ مكَّة مَن في السَّماء سُلطانه وقدرتهُ ومُلكه أن يُغَيِّبَكم في الأرضِ جَزاءً على فُبْحِ أفعالِكم. وَقِيْلَ : معناهُ : أأمنت عقوبةَ مَن في السَّماء وعذابَ مَن في السَّماء. وَقِيْلَ : معناهُ : مَن جَرَتْ عادتهُ أن يُنْزِلَ نِقمَتَهُ مِن السَّماء على مَن يكفرُ به ويعصيَهُ.
وَقِيْلَ : أأمنتم مَن في السَّماء، وهو الْمَلَكُ الموكَّل بالعذاب، يعني جبريلَ أنْ يخسِفَ بكمُ الأرضَ بأمرِ الله تعالى، ﴿ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ﴾ ؛ أي تضطربُ وتتحرَّكُ، والمعنى : أنَّ اللهَ تعالى يحرِّكُ الأرضَ عند الخسفِ بهم حتى تضطربَ، وتتحركَ فتَعلُو بهم وهم يُخسَفُون فيها، والأرضُ تَمُورُ فوقَهم فتقلِبُهم إلى أسفل. والْمَوْرُ : التردُّدُ في الذهاب والمجيءِ ؛ لأنه إذا خُسِفَ بقومٍ دارت الأرضُ فتدورُ بهم كما يدورُ الماء بمَن يُغرِقهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ﴾ ؛ كما أرسلَ على قومِ لُوطٍ، والحاصِبُ : الرِّيحُ التي تَرمِي بالحصباءِ لا دافعَ لها ﴿ فَسَتَعْلَمُونَ ﴾ ؛ في الآخرةِ، ﴿ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ ؛ أي إنذاري إذا عايَنتم العذابَ، ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ ﴾ ؛ معناهُ : ولقد كذب الذين مِن قَبْلِ أهل مكة من كفَّار الأُمم الماضيةِ، فكيف كان الإنكارُ عليهم بالعذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـافَّـاتٍ ﴾ ؛ معناهُ : أوَلَمْ يَرَوا إلى الطيرِ صافَّاتٍ فوقَ رُؤوسِهم بانبساطِ أجنحتها تارةً وقابضاتِها أُخرى، معناهُ : صافَّات أجنحتَها، ﴿ وَيَقْبِضْنَ ﴾ ؛ أجنحتَها بعد البسطِ، وهذا معنى الطَّير ؛ وهو بَسْطُ الجناحِ وقبضهُ بعدَ البسطِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَـانُ ﴾ ؛ أي ما يُمسِكهُنَّ ويحفظُهُنَّ في الهوَاء في الحالَين ؛ في حالِ البسطِ والقبضِ إلاّ الرحمنُ. وهذا أكبرُ آيةٍ دالَّة على قدرةِ الله تعالى إذ أمسكَها في الهواءِ على ثُقلِها وضخم أبدانِها، فمَن قَدِرَ على إمساكِ الطيرِ في الهواء قَدِرَ على إرسالِ الحاصب من السَّماء. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴾ ؛ أي عالِمٌ، كما يقالُ : فلان بصيرٌ بالنَّحوِ وبالقرآنِ ؛ أي عالِمٌ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمَّنْ هَـاذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَـانِ ﴾ ؛ فيه تنبيهٌ على أنه إنْ أرادَ اللهُ تعذيبَهم ليس لَهم مَنعهُ، ولا أحدٌ يصرِفُ عنهم العذابَ، ولفظُ الْجُنْدِ مُوحَّدٌ، وهذا استفهامُ إنكارٍ ؛ أي لا جُندَ لكم ينصرُكم ويمنعكم من عذاب الله. قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى يَنْصُرُكُمْ : يَمْنَعُكُمْ مِنِّي إنْ أرَدْتُ عذابَكُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ ﴾ ؛ أي في غرورٍ من الشَّيطان، يغُرُّهم بأنَّ العذابَ لا ينْزِلُ بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمَّنْ هَـاذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ﴾ ؛ معناه : هل يَقدِرُ أحدٌ مِن مَعبُودِكم أنْ يُوصِلَ إليكم أرزاقَكم إن حَبَسَ اللهُ عنكم المطرَ والنباتَ، ﴿ بَل لَّجُّواْ ﴾ ؛ بل لَجَّ الكافرون ﴿ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ﴾ ؛ أي في مُجاوَزَةِ الحدِّ في الطُّغيان والتباعُدِ عن سماعِ الحقِّ وقَبولِهِ، وليسوا يعتَبرون ولا يتفكَّرون، لَجُّوا في طُغيانِهم وتَمادِيهم وتباعُدهم عن الإيمانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ؛ معناهُ : أفمَنْ يَمشِي نَاكِساً رأسَهُ على وجههِ لا يرَى ما يَصدِمهُ أو يَهجِمُ عليه من حُفرةٍ، أو بئرٍ في طريقهِ، فلا ينظرُ يَميناً ولا شِمالاً، يمشي مشيَ العُميان ؛ وهو مَثَلُ الكافرِ يقولُ : أهُدِيَ صَوْبَ طريقاً أمِ المؤمنُ الذي يَمشي مُستَوياً على طريقٍ مستقيم، يعني الإسلامَ.
وإنما شبَّهَ الكافرَ بالمُكِب على وجههِ ؛ لأنه ضالٌّ أعمَى القلب عن الهدى، وقال قتادةُ :(هَذا فِي الآخِرَةِ) معناه : أفمَن يَمشي مُكِبّاً على النار يومَ القيامة أهْدَى أم مَن يمشي على طريقِ الجنة ؟ كما قالَ تعالى في الكفَّار﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً ﴾[الاسراء : ٩٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ ﴾ ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : هو الذي خلَقَكم وخلقَ لكم السمعَ فاستمعوا إلى الحقِّ، والأبصارَ فأبصِرُوا بها الحقَّ، والأفئدةَ فاعلَمُوا بها الحقَّ، ﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ ؛ نِعَمَ اللهِ عليكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي هو الذي خلَقَكم صِغَاراً وربَّاكم إلى أن صيَّرَكم كِباراً، ﴿ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ ؛ أي تُجمَعون في الآخرةِ فيجزِيَكم بأعمالِكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ ﴾ ؛ أي هذا الحشرُ الذي تَعِدُنا به، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ؛ أنْ يكون ذلك، ﴿ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ ﴾ بوقت الحشرِ، ﴿ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أي مُخَوِّفٌ لكم بلُغةٍ تعرِفونَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ معناهُ : فلمَّا رأوا العذابَ قريباً تبيَّن السُّوءُ في وُجوهِهم وسَاءَهم ذلك. وَقِيْلَ : أُحرِقَتْ وجوهُ الذين كفَرُوا، فاسودَّتْ وَعَلَتها الكآبةُ والقَتْرَةُ. وَقِيْلَ : معنى ﴿ سِيئَتْ ﴾ قََبُحَتْ وجوهُهم بالسَّوادِ، ﴿ وَقِيلَ ﴾ ؛ لَهم :﴿ هَـاذَا ﴾ ؛ العذابُ، ﴿ الَّذِي كُنتُم بِهِ ﴾ ؛ من أجلهِ، ﴿ تَدَّعُونَ ﴾ ؛ الأباطيلَ والأكاذيبَ أنَّكم إذا مِتُّمْ. وكنتم تُراباً وعظاماً أنَّكم لا تُبعثون. وقرأ الضحَّاك وقتادةُ ويعقوب (تَدْعُونَ) مخفَّفاً ؛ أي تَدْعُونَ اللهَ أنْ يأتِيَكم به، من الدُّعاء وهو قولهم﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ﴾[الأنفال : ٣٢] الآية.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ ؛ وذلك أنَّ الكفارَ متمَنَّون موتَ رسولِ الله ﷺ وموتَ أصحابهِ، فقيلَ لَهم : أرأيتُم إنْ أصَبتُم مُنَاكُمْ فينا بالهلاكِ، فمَن يُجِيرُكم من العذاب الذي لا بدَّ نازلٌ بكم، أتَظنُّون أنَّ الأصنامَ أو غيرها تُجِيرُكم ؟ فإذا عَلمتُم أنْ لا مجيرَ لكم فهلاَّ تمسَّكتُم بما يُخلِّصُكم من العذاب وهو الإيمانُ باللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ هُوَ الرَّحْمَـانُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ ؛ أي هو الرَّحمنُ الذي نعبدهُ، ونفوِّضُ أمُورَنا إليه، ﴿ فَسَتَعْلَمُونَ ﴾ ؛ في الآخرةِ، ﴿ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ ؛ نحن أم أنتم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً ﴾ ؛ أي غَائِراً في الأرضِ لا تَنالهُ الأيدِي والدِّلاءُ، ﴿ فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ؛ ﴾ ظاهرٍ يظهرُ من العيونِ إلاَّ اللهُ الذي به تُشرِكون، فإذا لم تَقدِرُوا أنتم ولا آلِهتُكم على أن تَجعَلُوا الماءَ الغائرَ في الأرضِ ظَاهراً، فكيف تَقدِرُون على أن تَدفَعُوا عذابَ الله عن أنفسكم إذا نزلَ بكم ؟ وكيفَ يقدِرُ على ذلك مَن اتَّخذتُموهُ إلهاً من دونِ الله.
ويُحكى أنَّ متَّهماً في دينهِ سَمِعَ رجُلاً يقرأ ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ﴾ فقالَ : الماءُ مع الفأسِ والْمِعْوَلِ، فنامَ من ليلتهِ تلك فأصبحَ وقد ذهبَ ماءُ عَينَيهِ وبقي أعمَى إلى أن ماتَ، والعياذُ بالله من الْخُذلاَنِ.
Icon