تفسير سورة الفاتحة

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الفاتحة١
بسم الله القيوم الشهيد الذي لا يعزب شيء عن علمه، ولا يكون شيء إلا بإذنه، الرحمان الذي عمت رحمته الموجودات، وطبع في مرائي القلوب عظمته فتعالت تلك السبحات، وأجرى على الألسنة ذكره في العبادات والعادات، الرحيم الذي تمت نعمته بتخصيص أهل ولايته بأرضي العبادات
قال شيخنا الإمام المحقق أبو الفضل محمد بن العلامة القدوة أبى عبد الله محمد ابن العلامة القدوة أبي القاسم محمد المشدالي٢ المغربي٣البجائي٤ المالكي علامة الزمان سقى٥ الله عهده سحائب الرضوان، وأسكنه أعلى٦ الجنان : الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات ﴿ وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات-٧ في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه٨ من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء العليل٩ يدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها ؛ فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، وإذا١٠ فعلته تبين لك إن شاء الله١١ وجه النظم مفصلا بين كل آية وآية في كل سورة سورة والله الهادي – انتهى. وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تظهر١٢ المناسبة بينه وبين مسماه عنوانه الدال إجمالا على تفصيل ما فيه، وذلك هو الذي أنبأ به آدم عليه الصلاة والسلام١٣ عند العرض على الملائكة عليهم الصلاة والسلام١٤، ومقصود كل سورة هاد إلى تناسبها١٥ ؛ فاذكر المقصود من كل سورة، وأطبق بينه وبين اسمها، وأفسر كل بسملة بما يوافق مقصود السورة، ولا أخرج عن معاني كلماتها١٦ ؛ فالفاتحة١٧ اسمها " أم الكتاب " و " الأساس " و " المثاني١٨ " و " الكنز " ﴿ و " الشافية " ١٩ و " الكافية " و " الوافية " ﴿ و " الواقية " ٢٠ و " الرقية " و " الحمد " و " الشكر " و " الدعاء " و " الصلاة " ؛ فمدار هذه الأسماء٢١ كما ترى٢٢ على٢٣ أمر خفي كاف لكل مراد وهو المراقبة التي سأقول إنها٢٤ مقصودها فكل شيء لا يفتتح بها لا اعتداد به، وهي أم كل خير، وأساس كل معروف، ولا يعتد بها إلا إذا ثنيت٢٥ فكانت دائمة التكرار، وهي كنز لكل شيء٢٦ شافية لكل داء، كافية لكل هم٢٧، وافية٢٨ بكل مرام، واقية من كل سوء، رقية لكل ملم، وهي إثبات للحمد الذي/ هو الإحاطة بصفات الكمال، وللشكر٢٩ الذي هو تعظيم المنعم، وهي عين٣٠ الدعاء فإنه التوجه إلى المدعو، وأعظم بجامعها الصلاة٣١.
إذا تقرر٣٢ ذلك فالغرض٣٣ الذي سيقت له الفاتحة و هو إثبات استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال، واختصاصه بملك الدنيا والآخرة، وباستحقاق العبادة والاستعانة، بالسؤال في المن بإلزام صراط الفائزين والإنقاذ٣٤ من طريق الهالكين مختصا بذلك كله، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم٣٥، لإفراده بالعبادة٣٦، فهو مقصود الفاتحة بالذات وغيره وسائل إليه، فإنه لا بد في ذلك من إثبات إحاطته تعالى بكل شيء ولن يثبت حتى يعلم أنه المختص بأنه الخالق الملك المالك، لأن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب نصب الشرائع، والمقصود٣٧ من نصب الشرائع جمع الخلق على الحق، والمقصود من جمعهم تعريفهم الملك٣٨ وبما يرضيه٣٩، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة بالقصد الأول، ولن يكون ذلك إلا بما ذكر علما وعملا.
١ ي م ومد وظ: فاتحة الكتاب.
٢ ن م و ظ، وفي الأصل: المسدالي، وفي مد: المبشر إلى، ترجم له في معجم المؤلفين ١١/٢٥٩ وقال: محمد ابن محمد ابن أبي القاسم ابن محمد بن عبد الصمد ابن حسن بم عبد المحسن المشدالي، البجائي، المغربي، المالكي، فاضل؛ ولد بعد سنة ٨٢٠هـ، وتوفي بعينتات (سنة ٨٦٥ هـ) من آثاره شرح جمل الخونجي في المنطق ـ انتهى. /.
٣ من م ومد ظ، وفي الأصل: العربي، قال أبو سعد في الأنساب (البجاوي) ٢/٨٨: وهذه النسبة إلى بجاية وهي من بلاد المغرب، وعلق عليه شيخنا عبد الرحمان المعلمي اليمائي رحمه الله وقال: وقع لأبي سعد رحمه الله في فصل (البجاوي) أوهام الأول قوله أنه نسبة إلى بجاية، وهذا وإن جاز عربية فلم نعلمه استعمل و (بجاية) الموجودة بلدة بساحل المغرب بنيت في حدود سنة ٤٥٧ ونسب إليها من نسب بعد ذلك ﴿البجائي﴾ الخ..
٤ في م و مد: البجاوي، وفي ظ: البجاي، وفي الأصل: البخاري..
٥ ي الأصل والنسخ الأخرى : يبقى - كذا.
٦ ن م ومد وظ، وفي الأصل: عالي.
٧ يد من م و مد وظ.
٨ ن م وظ، وفي الأصل يستبقه، وفي مد يستبقه.
٩ ي م وظ ومد: الغليل – كذا بالغين المعجمة.
١٠ ي م ومد/ فإذا.
١١ يد في م: تعالى.
١٢ ي م وظ ومد: تلحظ.
١٣ يست في م ومد وظ.
١٤ يست في م وظ ومد.
١٥ ي م: متناسبها.
١٦ يست في ظ، ولفظ "لا" في "لا أخرج" ليس في م.
١٧ ي تفسير عرائس البيان: سمى الفاتحة لأنها مفتاح أبواب خزائن أسرار الكتاب، ولأنها مفتاح كنوز لطائف الخطاب، بانجلائها ينكشف جميع القرآن لأهل البيان لأن من عرف معانيها يفتح بها أقفال المتشابهات، ويقتبس بسنائها أنوار الآيات –انتهى..
١٨ ي مد: المباني – كذا..
١٩ يد من م ومد وظ، لأن المنصف فسرها بعد أسطر بقوله: شافية..
٢٠ قط من الأصل والنسخ الأخرى وقد فسرها المصنف بعد قوله: واقية من كل سوء، فزدناه.
٢١ يست في مد.
٢٢ يست في مد.
٢٣ ي م: عين.
٢٤ يس فيم.
٢٥ ن م ومد وظ، وفي الأصل: ثبتت، خطأ عن قلم الناسخ وهو تفسير "المثاني".
٢٦ ن مد، وفي الأصل وم وظ: منى- كذا.
٢٧ ي مد وظ: مهم.
٢٨ ن م و مد، وفي الأصل : كافية - كرره الكاتب.
٢٩ ي م وظ: الشكر.
٣٠ ي مد: غير.
٣١ يد في الأصل: الذي – كذا وليس في م ومد وظ فحذفناه.
٣٢ ي ظ: تقررت.
٣٣ وفي تفسير المهائمي ما نصه: ومعرفة أسمائه بأنها الوسائظ القريبة له بينه وبين خلقه بها يربى ويرحم ويفضل، ومعرفة توحيده بأنه رب كل شيء ما عداه، ومعرفة استحقاقه للعبادة بأنه المنعم المتفضل المرجوع إليه، ومعرفة استحقاق افتقار العبد إليه ابتداء بأنه الرب ووسطا بأنه الرحمان الرحيم وانتهاء بأنه ملك يوم الدين، ومعرفة النبوة والولاية والإيمان والإنعام، ومعرفة الكفر والبدعة والفسق بالغضب والضلالة، ومعرفة السعادة والشقاوة بذلك أيضا- الخ.
٣٤ ي الأصل بالفاء الموحدة، والصواب بالقاف المثناة..
٣٥ زيد في م/ والمقصود من جمعهم تعريفهم بالملك وبما يرضيه وهو إفراده بالعبادة وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة (ولا حاجة إلى هذه الزيادة لأن المصنف قد حررها بعد أسطر، وهو على محلها)..
٣٦ يست في ظ.
٣٧ يس في م وظ.
٣٨ ي م ومد وظ: بالملك.
٣٩ يد في م ومد: وهو إفراده بالعبادة.
ولما أثبت بقوله: ﴿الحمد لله﴾ أنه المستحق لجميع المحامد لا لشيء غير ذاته الحائز لجميع الكمالات أشار إلى أنه يستحقه أيضاً من حيث كونه رباً مالكاً منعماً فقال: ﴿رب﴾ وأشار بقوله: ﴿العالمين﴾ إلى ابتداء الخلق تنبيهاً على الاستدلالات بالمصنوع على الصانع وبالبداءة على الإعادة
27
كما ابتدأ التوراة بذلك لذلك قال الحرالي: و ﴿الحمد﴾ المدح الكامل الذي يحيط بجميع الأفعال والأوصاف، على أن جميعها إنما هو من الله سبحانه تعالى وأنه كله مدح لا يتطرق إليه ذم، فإذا اضمحل ازدواج المدح بالذم وعلم سريان المدح في الكل استحق عند ذلك ظهور اسم الحمد مكملاً معرفاً بكلمة «أل» وهي كلمة دالة فيما اتصلت به على انتهائه وكماله. انتهى.
ولما كانت مرتبة الربوبية لا تستجمع الصلاح إلا بالرحمة اتبع ذلك بصفتي ﴿الرحمن الرحيم﴾ ترغبياً في لزوم حمده، وهي تتضمن تثنية تفصيل ما شمله الحمد أصلاً؛ وسيأتي سر لتكرير هاتين الصفتين
28
في الأنعام عند ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه﴾ [الأنعام: ١١٨] عن الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى أنه لا مكرر في القرآن.
ولما كان الرب المنعوت بالرحمة قد لا يكون مالكاً وكانت الربوبية لا تتم إلا بالمِلك المفيد للعزة المقرون بالهيبة المثمرة للبطش والقهر المنتج لنفوذ الأمر اتبع ذلك بقوله: ﴿مالِك يوم الدين﴾ ترهيباً من سطوات مجده. قال الحرالّي: واليوم مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر،
29
ثم قال: و ﴿يوم الدين﴾ في الظاهر هو يوم ظهور انفراد الحق بإمضاء المجازاة حيث تسقط دعوى المدعين، وهو من أول يوم الحشر إلى الخلود فالأبد، وهو في الحقيقة من أول يوم نفوذ الجزاء عند مقارفة الذنب في باطن العامل أثر العمل إلى أشد انتهائه في ظاهره، لأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر، ولذلك يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام: «إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء» وأيضاً فكل عقاب يقع في الدنيا على أيدي الخلق فإنما هو جزاء من الله وإن كان أصحاب الغفلة ينسبونه للعوائد، كما قالوا: ﴿مس آباءنا الضراء والسراء﴾ [الأعراف: ٩٥] ويضيفونه للمعتدين عليهم بزعمهم، وإنما هو كمال قال تعالى: ﴿وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم﴾ [الشورى: ٣٠] وكما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: «الحمى من فيح جهنم، وإن شدة الحر والقر من نفسها» وهي سوط الجزاء الذي أهل الدنيا بأجمعهم مضروبون
30
به، ومنهل التجهّم الذي أجمعهم واردوه من حيث لا يشعر به أكثرهم، قال عليه الصلاة والسلام: «المرض سوط الله في الأرض يؤدب به عبادة» وكذلك ما يصيبهم من عذاب النفس بنوع الغم والهم والقلق والحرص وغير ذلك، وهو تعالى مَلِك ذلك كله ومالكه، سواء ادعى فيه مدح أو لم يدع، فهو تعالى بمقتضى ذلك كله ملِك يوم الدين ومالكه مطلقاً في الدنيا والآخرة وإلى الملك أنهى الحق تعالى تنزل أمره العلي لأن به رجع الأمر عوداً على بدء بالجزاء العائد على آثار ما جبلوا عليه من الأوصاف تظهر عليهم من الأفعال كما قال تعالى:
﴿وسيجزيهم وصفهم﴾ [الأنعام: ١٩٣] و ﴿جزاء بما كانوا يعملون﴾ [السجدة: ١٧]. [الأحقاف: ٤]، [الواقعة: ٢٤] وبه تم انتهاء
31
الشرف العلي وهو المجد الذي عبر عنه قوله تعالى: «مجدني عبدي» انتهى، ولما لم يكن فرق هنا في الدلالة على الملك بين قراءة «مَلِك» وقراءة «مالك» جاءت الرواية بهما، وذلك لأن المالك إذا أضيف إلى اليوم أفاد اختصاصه بجميع ما فيه من جوهرة وعرض، فلا يكون لأحد معه أمر ولا معنى للمَلِك سوى هذا، ولما لم تُفد إضافته إلى الناس هذا المعنى لم يكن خلاف في ﴿ملِك الناس﴾ [الناس: ٢]. فلما استجمع الأمر استحقاقاً وتحبيباً وترغيباً وترهيباً كان من شأن كل ذي لب الإقبال إليه وقصر الهمم عليه فقال عادلاً عن أسلوب الغيبة إلى الخطاب لهذا مقدماً
32
للوسيلة على طلب الحاجة لأنه أجدر بالإجابة ﴿إياك﴾ أي يا من هذه الصفات صفاته! ﴿نعبد﴾ إرشاداً لهم إلى ذلك؛ ومعنى ﴿نعبد﴾ كما قال الحرالي: تبلغ الغاية في أنحاء التذلل، وأعقبه بقوله مكرراً للضمير حثاً على المبالغة في طلب العون ﴿وإياك نستعين﴾ إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته وإلى أن ملاك الهداية بيدة: فانظر كيف ابتدأ سبحانه بالذات، ثم دل عليه بالأفعال، ثم رقي إلى الصفات، ثم رجع إلى الذات إيماء إلى أنه الأول والآخر المحيط، فلما حصل الوصول إلى شعبة من علم الفعال والصفات علم الاستحقاق للأفراد بالعبادة
33
فعلم العجز عن الوفاء بالحق فطلب الإعانة، فهو كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه مسلم وأبو داود في الصلاة والترمذي وابن ماجه في الدعاء والنسائي وهذا لفظه في التعوذ عن عائشة رضى الله عنها: «أعوذ بعفوك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، وبك منك» ثم أتبعه فيما زاد عن النسائي الاعتراف بالعجز في قوله: «لا أحصي ثناء عليك أنت أثنيت على نفسك» وفي آخر سورة اقرأ شرح بديع لهذا الحديث.
قال الحرالي: وهذه الآيات أي هذه وما بعدها مما جاء كلام الله فيه جارياً على لسان خلقه فإن القرآن كله كلام الله لكن منه ما هو كلام الله عن نفسه ومنه ما هو كلام الله عما كان يجب أن ينطق على اختلاف
34
ألسنتهم وأحوالهم وترقي درجاتهم ورتب تفاضلهم مما لا يمكنهم البلوغ إلى كنهه لقصورهم وعجزهم فتولى الله الوكيل على كل شيء الإنباء عنهم بما كان يجب عليهم مما لا يبلغ إليه وُسع خلقه وجعل تلاوتهم لما أنبأ به على ألسنتهم نازلاً لهم منزلة أن لو كان ذلك النطق ظاهراً منهم لطفاً بهم وإتماماً للنعمة عليهم، لأنه تعالى لو وكلهم في ذلك إلى أنفسهم لم يأتوا بشيء تصلح به أحوالهم في دينهم ودنياهم، ولذلك لا يستطيعون شكر هذه النعمة إلا أن يتولى هو تعالى بما يلقنهم من كلامه مما يكون أداء لحق فضله عليهم بذلك، وإذا كانوا لا يستطيعون الإنباء عن أنفسهم بما يجب عليهم من حق ربهم فكيف بما يكون نبأ عن تحميد الله وتمجيده، فإذاً ليس لهم
35
وصلة إلا تلاوة كلامه العلي بفهم كان ذلك أو بغير فهم، وتلك هي صلاتهم المقسمة التي عبر عنها فيما صح عنه علية الصلاة والسلام من قوله تعالى:
«قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» ثم تلا هذه السورة؛ فجاءت الآيات الثلاث الأول بحمد الله تعالى نفسه، فإذا تلاها العبد قبل الله منه تلاوة عبده كلامه وجعلها منه حمداً وثناء وتمجيداًَ، وجاءت هذه الآيات على لسان خلقه فكان ظاهرها التزام عُهَد العبادة وهو ما يرجع إلى العبد وعمادها طلب المعونة من الله سبحانه وهو
36
ما يرجع إلى الحق، فكانت بينه وبين عبده وتقدمت بينيّته تعالى، لأن المعونة متقدمة على العبادة وواقعة بها وهو مجاب فيما طلب من المعونة، فمن كانت عليه مؤنة شىء فاستعان الله فيها على مقتضى هذه الآية جاءته المعونة على قدر مؤنته، فلا يقع لمن اعتمد مقتضى هذه الآية عجز عن مرام أبداً وإنما يقع العجز ببخس الحظ من الله تعالى والجهل بمقتضى ما أحكمته هذه الآية والغفلة عن النعمة بها، وفي قوله: ﴿نعبد﴾ بنون الاستتباع إشعار بأن الصلاة بنيت على الاجتماع. انتهى. وفي الآية ندب إلى اعتقاد العجز واستشعار الافتقار والاعتصام بحوله وقوته، فاقتضى ذلك توجيه الرغبات إليه بالسؤال فقال: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ تلقيناً لأهل لطفه وتنبيهاً على محل السلوك الذي لا وصول بدونه، والهدى قال الحرالي: مرجع الضال إلى ما ضل عنه، والصراط الطريق الخطر السلوك، والآية من كلام الله تعالى على لسان العُلّية من خلقه، وجاء
37
مكملاً بكلمة «أل» لأنه الصراط الذي لا يضل بمهتديه لإحاطته ولشمول سريانه وفقاً لشمول معنى الحمد في الوجود كله وهو الذي تشتت الآراء وتفرقت بالميل إلى واحد من جانبيه وهو الذي ينصب مثاله. وعلى حذو معناه بين ظهراني جهنم يوم الجزاء للعيان وتحفه مثل تلك الآراء خطاطيف وكلاليب، تجري أحوال الناس معها في المعاد على حسب مجراهم مع حقائقها التي ابتداء في يوم العمل، وهذا الصراط الأكمل وهو المحيط المترتب على الضلال الذي يعبر به عن حال من لا وجهة له، وهو ضلال ممدوح لأنه يكون عن سلامة الفطرة لأن من لا علم له بوجهة فحقه الوقوف عن كل وجهة وهو ضلال يستلزم هدى محيطاً منه
﴿ووجدك ضالاً فهدى﴾ [الضحى: ٦] وأما من هدى وجهة ما
38
فضلّ عن مرجعها فهو ضلال مذموم لأنه ضلال بعد هدى وهو يكون عن اعوجاج في الجبلة. انتهى. ثم أكد سبحانه وتعالى الإخبار بأن ذلك لن يكون إلا بإنعامه منبهاً بهذا التأكيد الذي أفاده الإبدال على عظمة هذا الطريق فقال: ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ فأشار إلى أن الاعتصام به في اتباع رسله، ولما كان سبحانه عام النعمة لكل موجود عدواً كان أو ولياً، وكان حذف المنعم به لإرادة التعميم من باب تقليل اللفظ لتكثير المعنى فكان من المعلوم أن محط السؤال بعض أهل النعمة وهم أهل الخصوصية. يعني لو قيل: اتبع طريق أهل مصر مثلاً لا أهل دمشق، علم أن المنفي غير داخل في الأول لأن شرطه أن يتبعاه متعاطفاه كما صرحوا به، بخلاف ما لو قيل: اتبع طريق أهل مصر غير الظلمة، فإنه يعلم أن الظلمة منهم، فأريد هنا التعريف بأن النعمة عامة ولو لم تكن إلا بالإيجاد، ومن المعلوم أن السلوك لا بد وأن يصادف طريق بعضهم وهم منعم عليهم فلا يفيد السؤال حينئذ، فعرف أن المسؤول إنما
39
هو طريق أهل النعمة بصفة الرحيمية تشوقت النفوس إلى معرفتهم فميزهم ببيان أضدادهم تحذيراً منهم، فعرف أنهم قسمان: قسم أريد للشقاوة فعاند في إخلاله بالعمل فاستوجب الغضب، وقسم لم يرد للسعادة فضل من جهة إخلاله بالعلم فصار إلى العطب فقال مخوفاً بعد الترجية ليكمل الإيمان بالرجاء والخوف معرفاً بأن النعمة عامة والمراد منها ما يخص أهل الكرامة: ﴿غير المغضوب عليهم﴾ أي الذين تعاملهم معاملة الغضبان لمن وقع عليه غضبه، وتعرفت «غير» لتكون صفة للذين بإضافتها إلى الضد فكان مثل: الحركة غير السكون، ولما كان المقصود من «غير» النفي لأن السياق له وإنما عبر بها دون أداة استثناء دلالة
40
على بناء الكلام بادىء بدء على إخراج المتلبس بالصفة وصوناً للكلام عن إفهام أن ما يعد أقل ودون لا ﴿ولا الضالين﴾ فعلم مقدار النعمة على القسم الأول وأنه لا نجاة إلا باتباعهم وأن من حاد عن سبيلهم عامداً أو مخطئاً شقي ليشمّر أولو الجد عن ساق العزم وساعد الجهد في اقتفاء آثارهم للفوز بحسن جوارهم في سيرهم وقرارهم.
قال الحرالي: ﴿المغضوب عليهم﴾ الذين ظهر منهم المراغمة وتعمد
41
المخالفة فيوجب ذلك الغضب من الأعلى والبغض من الأدنى. ﴿الضالين﴾ الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها من غير تعمد لذلك. «أمين» كلمة عزم من الأمن، مدلولها أن المدعو مأمون منه أن يرد من دعاه لأنه لا يعجزه شيء ولا يمنعه وهي لا تصلح إلا لله لأن ما دونه لا ينفك عن عجز أو منع انتهى وهو صوت سمي به الفعل الذي هو استجب وقد انعطف المنتهى على المبتدأ بمراقبة القسم الأول اسم الله فحازوا ثمرة الرحمة وخالف هذان القسمان فكانوا من حزب الشيطان فأخذتهم النقمة، وعلم أن نظم القرآن على ما هو عليه معجز، ومن ثم اشتراط
42
في الفاتحة في الصلاة لكونها واجبة في الترتيب، فلو قدم فيها أو أخر لم تصح الصلاة وكذا لو أدرج فيها ما ليس منها للإخلال بالنظم.
قال الأصبهاني: فإن القرآن معجز والركن الأبين الإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب. انتهى. والحاصل أنه لما رفعت تلك الصفات العلية لمخاطبها الحجب وكشفت له بسمو مجدها وعلو جدها وشرف حمدها جلائل الستر وأشرقت به رياض الكرم ونشرت له لطائف عواطفها بسط البر والنعم ثم اخترقت به مهامه العظمة والكبرياء وطوت في تيسيرها له مفاوز الجبروت والعز وأومضت له بوارق
43
النقم من ذلك الجناب الأشم وصل إلى مقام الفناء عن الفاني وتمكن في رتبة شهود البقاء للباقي فبادر الخضوع له عن السوى حاكماً على الأغيار بما لها من ذواتها من العدم والتوى فقال: ﴿إياك نعبد﴾ وفي تلك الحال تحقق العجز عن توفية ذلك المقام ما له من الحق فقال: ﴿وإياك نستعين﴾.
فكشف له الشهود في حضرات المعبود عن طرق عديدة ومنازل سامية بعيدة ورأى أحوالاً جمة وأودية مدلهمة وبحاراً مغرقة وأنواراً هادية وأخرى محرقة، ورأى لكل أهلاً قد أسلكوا فجاء تارة حزناً وأخرى سهلاً، وعلم أن لا نجاة إلا بهدايته ولا عصمة بغير عنايته ولا سعادة إلا برحمته ولا سلامة لغير أهل نعمته؛ فلما أشرق واستنار
44
وعرف مواقع الأسرار بالأقدار كأنه قيل له: ماذا تطلب وفي أي مذهب تذهب؟ فقال: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾.
ولما طلب أشرف طريق سأل أحسن رفيق فقال: ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ ولما كانت النعمة قد تخص الدنيوية عينها واستعاذ من أولئك الذين شاهدهم في التيه سائرين وعن القصد عائرين جائرين أو حائرين فقال: ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾.
وقد أشير في أم الكتاب. كما قال العلامة سعد الدين مسعود ابن عمرو التفتازاني الشافعي. إلى جميع النعم فإنها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولاً وإلى إيجاد وإبقاء ثانياً في دار الفناء والبقاء، أما الإيجاد الأول فبقوله ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ فإن الإخراج من العدم إلى الوجود أعظم تربية، وأما الإبقاء الأول فبقوله: ﴿الرحمن الرحيم﴾ أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها التى بها البقاء، وأما الإيجاد الثاني فبقوله: {مالك
45
يوم الدين} وهو ظاهر، وأما الإبقاء الثاني فبقوله: ﴿إياك نعبد﴾ إلى آخرها، فإن منافع ذلك تعود إلى الآخرة.
ثم جاء التصدير بالحمد بعد الفاتحة في أربع سور أشير في كل سورة منها إلى نعمة من هذه النعم ترتيبها. انتهى، وسيأتي في أول كل سورة من الأربع ما يتعلق بها من بقية كلامه إن شاء الله تعالى، وهذا يرجع إلى أصل مدلول الحمد فإن مادته بكل ترتيب تدور على بلوغ الغاية ويلزم منه الاتساع والإحاطة والاستدارة فيلزمها مطأطأة الرأس وقد يلزم الغاية الرضا فيلزمه الشكر وسيبين وينزل على الجزئيات في سورة النحل إن شاء الله تعالى، ثم في أول سبأ تحقيق ما قاله الناس فيه وفي النسبة بينه وبين الشكر فقد بان سر الافتتاح من حيث تصديرها بالحمد جزئياً فكلياً الذي كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه فهو أجذم؛ وتعقبه بمدح المحمود بما ذكر من
46
أسمائه الحسنى مع اشتمالها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فهي أم القرآن لأنها له عنوان وهو كله لما تضمنته على قصرها بسط وتبيان.
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل في آخر الباب التاسع منه: ولننه هذه الأبواب بذكر القرآن ومحتواه على الكتب وجمعه وقراءته وبيانه وتنزيله وإنزاله وحكيمه ومبينه ومجيده وكريمه وعظيمه ومرجعه إلى السبع المثاني والقرآن العظيم أم القرآن ومحتواها عليه، فنذكر جميع ذلك في الباب العاشر، الباب العاشر في محل أم القرآن من القرآن ووجه محتوى القرآن على جميع الكتب والصحف المتضمنة لجميع الأديان.
اعلم أن الله سبحانه جمع نبأه العظيم كله عن شأنه العظيم في السبع المثاني أم القرآن وأم الكتاب وكنزها تحت عرشه ليظهرها في الختم عند تمام أمر الخلق وظهور بادىء الحمد بمحمد، لأنه تعالى يختم بما به بدأ ولم يظهرها قبل ذلك، لأن ظهورها
47
يذهب وهل الخلق ويمحو كفرهم ولا يتم بناء القرآن إلا مع قائم بمشهود بيان الفعل ليتم الأمر مسمعاً ومرأى وذلك لمن يكون من خلقه كل خلق ليبين به ما من أمره كل أمر، ثم فيما بين بدء الأمر المكنون وخاتم الخلق الكامل تدرج تنَشّؤ الخلق وبدو الأمر على حسب ذلك الأمر صحفاً فصحفاً وكتاباً فكتاباً، فالصحف لما يتبدل سريعاً، والكتاب لما يثبت ويدوم أمداً، والألواح لما يقيم وقتاً.
ففي التوراة أحكام الله على عباده في الدنيا بالحدود والمصائب والضراء والبأساء، وفي القرآن منها ما شاء الله وما يظهره الفقه من الحدود، ومعارف الصوفية من مؤاخذة المصائب؛ وفي الإنجيل أصول تلك الأحكام والإعلام بأن المقصود بها ليست هي بل ما وراءها من أمر الملكوت، وفي القرآن منها ما شاء الله مما يظهره العلم والحكمة الملكوتية، وفي الزبور تطريب الخلق وجداً وهم عن أنفسهم إلى ربهم، وفي الفرآن منه ما شاء الله مما تظهره الموعظة الحسنة، ثم أنهى
48
الأمر والخلق من جميع وجوهه، فصار قرآناً جامعاً للكل متمماً للنعمة مكملاً للدين
﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ [المائدة: ٣] الآية، بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وإن إلى ربك المنتهى.
ووجه فوت أم القرآن للقرآن أن القرآن مقصود تنزيله التفصيل والجوامع، فيه نجوم مبثوثة غير منتظمة، واحدة إثر واحدة، والجوامع في أم القرآن منتطمة واحدة بعد واحدة إلى تمام السبع على وفاء لا مزيد فيه ولا نقص عنه؛ أظهر تعالى بما له سورة صورة تجليه من بدء الملك إلى ختم الحمد، وبما لعبده مصورة تأديه من براءته من الضلال إلى هدى الصراط المستقيم، ﴿ووجدك ضالاً فهدى﴾ [الضحى: ٧] وبما بينه وبينه قيام ذات الأمر والخلق فكان ذلك هو القرآن
49
العظيم الجامع لما حواه القرآن المطلق الذكر بما فيه من ذلك تفصيلاً من مبينه وهو ما عوينت آية مسموعة، ومن مجيده وهو ما جربت أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم، يعلم ما شهد فكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي وما شهد له من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه، ومن كريمه وهو ما ظهرت فيه أفانين إنعامه فيما دق وجل وخفي وبدا، ومن حكيمه وهو ما ظهر في الحكمة المشهورة تقاضيه وانتظام مكتوب خلقه على حسب تنزيل أمره؛ وما كان منه بتدريج وتقريب للأفهام ففاءت من حال إلى حال وحكم إلى حكم كان تنزيلاً، وما أهوى به من علو إلى سفل كان إنزالاً، وهو إنزال حيث لا وسائط وتنزيل حيث الوسائط؛ وبيانه حيث الإمام العامل به مظهره في أفعاله وأخلاقه كان خلقه القرآن، وقرآنه تلفيق تلاوته على حسب ما تتقاضاه النوازل.
50
آخر آية أنزلت ﴿واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله﴾ [البقرة: ٢٨١] قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مضمون قوله تعالى ﴿إن علينا جمعه وقرآنه﴾ [القيامة: ١٧] «اجعلوها بين آية الدين والآية التي قبلها» لأنه ربما تقدم كيان الآية وتأخر في النظم قرآنها على ما تقدم عليها، آية ﴿يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك﴾ [الأحزاب: ٥٠] الآية متأخرة الكيان متقدمة القرآن على آية ﴿لا يحل لك النساء من بعد﴾ [الأحزاب: ٥٢] فقد يتطابق قرآن الأمر وتطوير الخلق وقد لا يتطابق والله يتولى إقامتهما؛ وأما الجمع ففي قلبه نسبة جوامعه السبع في أم القرآن إلى القرآن بمنزلة نسبة جمعه في قلبه لمحاً واحداً إلى أم القرآن ﴿وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر﴾ [القمر: ٥٠] فهو جمع في قلبه، وقرآن على لسانه،
51
وبيان في أخلاقه وأفعاله، وجملة في صدره، وتنزيل في تلاوته، ﴿وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة﴾ [الفرقان: ٣٢] قال الله تعالى: كذلك أي كذلك أنزلناه، إلا ما هو منك بمنزلة سماء الدنيا من الكون
﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ [الدخان: ٣] أي إلى سماء الدنيا ﴿ونزلناه تنزيلاً﴾ [الإسراء: ١٠٦] وعلى لسانه في أمد أيام النبوة، وقال في تفسيره: القرآن باطن وظاهره محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت عائشة رضى الله عنها: كان خلقه القرآن، فمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صورة باطن سورة القرآن، فالقرآن باطنه وهو ظاهره ﴿نزل به الروح الأمين * على قلبك﴾ [الشعراء: ١٩٤].
وقال في تفسير الفاتحة: وكانت سورة الفاتحة أمّاً للقرآن، لأن القرآن جميعه مفصل من مجملها، فالآيات الثلاث الأول شاملة لكل معنى تضمنته الأسماء الحسنى والصفات العلى، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصل من جوامعها، والآيات الثلاث الأخر من قوله:
52
﴿اهدنا﴾ شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله والتحيز إلى رحمة الله والانقطاع دون ذلك، فكل ما في القرآن منه فمن تفصيل جوامع هذه، وكل ما يكون وصلة بين مما ظاهرهن هذه من الخلق ومبدؤه وقيامه من الحق فمفصل من آية ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ انتهى.
ومن أنفع الأمور في ذوق هذا المشرب استجلاء الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة
53
رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولبعدي ما سأل فإذا قال العبد» الحمد لله رب العالمين «قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال» الرحمن الرحيم «قال الله: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال:» مالك يوم الدين «قال الله: مجدني عبدي. وقال مرة: فوض إليّ عبدي، وإذا قال:» إياك نعبد وإياك نستعين «قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال:» اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين «قال:» هذا لعبدي ولعبدي ما سأل «والله أعلم.
54
(سورة البقرة)
مقصودها إقامة الدليل على أن الكتاب هدى ليتبع يفي كل ما قال، وأعظم ما يهدي إليه الإيمالن بالغيب، ومجمعه الإيمان بالآخرة، فمداره الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصة البقرة التي مجارها الإيمان بالغيب فلذلك سميت بها السورة
55
وكانت بذلك أحق من قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنها في نوع البشر ومما تقدمها في قصة بني إسرائيل من الأحياء بعد الإماتة بالصعق وكذلك ما شاكلها، لأن الأحياء في في قصة البقرة عن سبب ضعيف في الظاهر بمباشرة من كان من آحاد الناس فهي أدل على القدرة ولا سيما وقد اتبعت بوصف القلوب والحجارة بما عم اللمهتدين بالكتاب والضالين فوصفها بالقسوة الموجبة للشقوة ووصفت الحجارة بالخشية الناشئة في الجملة عن التقوى المانحة للمدد المتعدي نفعه إلى عباد الله، وفيها إشارة إلى أن هذا الكتاب فينا كما لو كان فينا خليفة من أولي العزم من الرسل يرشدنا في كل أمر إلى صواب
56
المخرج منه فمن أعرض خاب، ومن تردد كاد، ومن أجاب اتقى وأجاد.
وسميت الزهراء لإنارتها طريق الهداية والكفاية في الدنيا والآخرة، ولأيجابها إسفار الوجوه يفي يوم الجزاء لمن آمن بالغيب ولم يكن في شك مريب فيحال بينه وبين ما يشتهي، بالسنام لأنه ليس في الإيمان بالغيب بعد التوحيد الذي هو الأساس الذي يتبني عليه كل خير والمنتهى الذي هو غاية السير والعالي على كل غير بأعلى
57
ولا أجمع من الإيمان بالآخرة، ولأن السنام أعلى ما في بطن المطية الحاملة والكتاب الذي هي سورته هو أعلى ما في الحامل للأمر وهو اللشرع الذي أتاهم به رسولهم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
بسم الله الذي نصب مع كونه باطنا دلائل الهدى حتى كان ظاهرا، " الرحمن " الذي أفاض رحمته على سائر خلقه بعد الإيجاد ببيان الطريق، " الرحيم " الذي خص أهل وده بالتوفيق. قال العلامة أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة لمفتاح الباب المقفل في معنى ما رواه عن ابن وهب من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: " كان الكتاب الأول ينزل من باب
58
واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه، وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه آمنوا بمتشابهه وقولوا: آمنا به، كل من عند ربنا " وهذا الحديث رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده وأبو يعلى الموصلي ومن طريقة ابن حبان في صحيحه، كلهم من طريق ابن وهب عن حيوة عن عقيل بن خالد عن سلمة بن أبي سلمة بت عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه. فذكره من غير ذكر النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وقال العلامة الحافظ أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي الشافعي في كتابه " المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز " بعد أن ساق هذا الحديث من رواية سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه.
59
قال أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث عند أهل الحديث لم يثبت، وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود، وابنه سلمة ليس مم يحتج به، نوهذا الحديث مجمع على ضعفه من جهة إسناده وقد رده قوم من أهل النظر منهم أحمد بن أبي عمران فيما سمعه الطحاتوي منه ويرويه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أم سلمة عن أبي سلمة عن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مرسلا، قال أبو شامة: وهكذا رواه البيهقي في كتاب المدخل وقال: هذا مرسل جيد، أبو سلمة لم يدرك ابن مسعود، ثم رواه موصولا وقال: فإن صح فمعنى قوله: سبعة أحرف، أي سبعة أوجه، وليس المراد به اللغات التي أبيحت القراءة عليها وهذا المراد به الأنواع التي نزل القرآن عليها والله أعلم.
قلت: عزاه شيخنا العلامة مقرئ زمانه شمس الدين محمد بن محمد بن محمد ابن الجزري الدمشقي الشافعي في أوائل كتابه " النشر في
60
القراءات العشر " إلى الطبراني من حديث عمر بن أبي سلمة المخزومي رضي الله عنهما أن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال لابن مسعود رضي الله عنه: " إن الكتب كانت تنزل من السماء من باب واحد وإن القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وضرب أمثال و [آمر و] زاجر، فأحل حلاله وحرم حرامه واعم لبمحكمه وقف عند ةمتشابهه واعتبر أمثاله، فإن كلا من عند الله وما يذكر إلا أولو الألباب ورواه الحافظ أبو بكر بن أبي داود في متالب المصاحف " من وجه آخر عن عبد الله قال: " إن القرآن أنزل على نبيكم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من سبعة أبواب على سبعة أحرف أو حروف. وإن الكتاب قبلكم كان ينزل أو نزل. من باب واحد على حرف واحد ورواه البيهقي في فضل القرآن من الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: " نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ".
قال الحرالي: في حديث آخر من طريق ابن عمر رضي الله عنهما: إن الكتب كانت تنزل من باب واحد وإن هذا القرآن أنزل من
61
سبعة أبواب على سبعة أحرف وقال في معنى ذلك: اعلم أن القرآن منزل عند انتهاء الخلق وكمال كل الأمر بدءاً فكان
المتخلق به جامعا لانتهاء كل خلق وكمال أمر فلذلك (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قثم الكون وهو الجامع الكامل. ولذلك كان خاتما، وكان كتابه ختما، وبدأ المعاد من حد ظهوره، إنه هو يبدئ، ويعيد، فاستوفى
62
صلاح هذه الجوامع الثلاث التي قد خلت في الأولين بداياتها وتمت عنده نهاياتها " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " رواه أحمد عن معاذ رضي الله عنه رفعه، وهي صلاح الدنيا والدين والمعاد التي جمعها في قوله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي " وفي كل صلاح إقدام وأحجام فتصير الثلاثة الجوامع ستة مفصلات هي حروف القرآن الستة التي لم يبرح يستزيدها من ربه حرفا حرفا، فلما استوفى الستة وهبه ربه حرفا جامعا سابعا فردا لا زوج له ن فتم إنزاله على سبعة أحرف.
فأدنى تلك الحروف هو حرف إصلاح الدنيا، فلها حرفان،
63
أحدهما: حرف الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهير منه لبعدهع عن تقويمها، والثاني حرف الحلال الذي تصلح النفس والبدن عليه لموافقته لتقويمها، وأصل هذين الحرفين في التوراة، وتمامهما في القرآن.
ثم يلي هذين حرفا صلاح المعاد: أحدهما حرف الزجر والنهي التي لا تصلح الآخرة إلا بالتطهير منه لبعده عن حسناها، والثاني حرف الأمر الذي تصلح الآخرة عليه لتقاضيه بحسناها، وقد يتضرر على ذلك حال الدنيا، لأنه يأتي على كثير من حلالها لوجوب إيثار الآخرة لبقائها ىوكليتها على الدنيا لفنائها وجزئيتها، لكون خير الدنيا جزءاَ من ماله وشر الدنيا جزءا من سبعين جزءا ولا يؤثر
64
هذا الجزء الأدنى لحضوره على ذلك الكل الأنهى لغيابه إلا من سفه نفسه وضعف إيمانه، فتخلص المرء من حرف الحرام طهره وتخلصه من النهي طيبه، وأصل هذين الحرفين في الإنجيل وتمامهما في القرآن.
ثم يلي هذين حرفا صلاح الدين: أحدهما حرف المحكم الذي بان للعبد فيه خطاب ربه من جهة أحوال قلبه وأخلاق نفسه وأعمال بدنه فيما بينه وبين ربه من غير التفات لغرض النفس في عاجل الدنيا ولا آجلها، والثاني حرف المتشابه الذي لا يبين للعبد فيه خطاب ربه من جهة قصور عقله من إدراكه ووجوب تسبيح ربه عن تمثل عبده إلى أن يؤيده الله بتأييده. والحروف الخمسة للاستعمال وهذا الحرف السادس للوقوف ليكون العبد قد وقف لله بقلبه عن حرف كما قد كان أقدم لله على تلك الحروف ولينسخ بعجزه وإيمانه عند هذا الحرف السادس انتهاء ما تقدم من طوقه وعلمه في تلك الحروف ابتداء، وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلها وتمامها
65
في القرآن.
فهذه الحروف الستة يشترك فيها القرآن مع سائر الكتب ويزيد عليها تمامها وبركة جمعها، ويختص القرآن بالحرف السابع الجامع مبين المثل الأعلى ومظهر اللمثول الأعظم حرف الحمد الخاص بمحمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وهو حرف المثل. وعن جمعه وكمال جمعه لمحمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في قلبه وقراءته على لسانه وبيانه في ذاته ظهرت عليه خواص خلقه الكريم وخلقه العظيم، ولا ينال إلا موهبة من الله تعالى لعبده بال واسطة والستة تتنزل بتوسطات من استواء الطبع وصفاء العقل بمثابة وحي النبي وإلهام الولي.
ولما كان حرف الحمد هو سابعها الجامع افتتح الله به سبحانه وتعالى الفاتحة أم القرآن وأم الكتاب وجمع فيها جوامع الحروف السبعة التي بثها في القرآن كما جمع في القرآن ما بث في جميع الكتب المتقدمة، كفضة ثقلت على مريد السفر فابتاع بها ذهبا فذلك مثل القرآن ثم ثقل عليه الذهب فابتاع به جواهرا، فذلك مثل أم القرآن فأذن كمال الحروف التي أنزل عليها القرآن موجودة في جوامع
66
أم القرآن، فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد السابع، والثانية تشتمل على حرفي الحلال والحرام الذين أقامت الرحمانية بهما الدنيا يريد - والله سلحانه وتعالى أعلم - أن الرحمانية وسعت على العباد الاستمتاع بالمخلوق من النعم والخيرات الموافقة لطباعهم وأمزجتهم زقبول نفوسهم في جميع جهات الاستمتاع، فكان في ذلك رحمتان: رحم بالإباحة وهي إزالة حرج الحظر ورحمة يمنع لحاق حرج الإثم أو يجعل المباح شهيا للطبع، وأما الرحيمية فطهرتهم من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم، ففي ذلك رحمة واحدة وهي حمية المحبوب عن المضار من المحبوب، أو يريد - وهو والله تعالى أعلم أقرب - أن الرحمانية أقامت بعمومها كل ما شملته الربوبية من إفاضة النعم وإزاحة النقم على وجه مسعد أو مشق، والرحيمية أقامت بخصوصها كما تقدم بما ترضاه الإلهية إدرار النعم ودفع النقم على الوجه المسعد خاصة. انتهى.
والآية الثالثة تشتمل على أمر المللك القيم على حرفي الأمر والنهي
67
اللذين ييبدو أمرهما في الدين، والرابعة تشتمل على حرفي المحكم في قوله) إياك نعبد) [الفاتحة: ٥] والمتشابه في قوله) وإياك نستعين) [الفاتحة: ٥] ولما كانت بناء خطاب محاضرة لم تردد مسألتها في السورةى فانفرد هذان الحرفان عن الدعاء فيهما / وعادتت مسألة الآيةى الخاتمسة على حرف الحمد ومسألة الآية السادسة على آية النعمة من حرفي الحلال والحرام ومسألأة الآية السابعة على آية الملك من حرفي الأمر والنهي فجمعت الفاتحة جوامع الحروف السبعة.
ولما ابتئت الفاتحة أم القرآن بالسابع الجامع الموهوب ابتدئ القرآن بالحرف السادس المعجوز عنه وهو حرف المتشابه، لأنه
68
عن إظهار العجز ومحض الإيمان كانت الهبة والتأييد، وليكون العبد يفتتح القرآن بالإيمان يغيب متشابه في قوله " الم " فيكون أتم انقيادا لما دونه وبريئا عن الدعنوى في مستطاعه في سائر الحروف، ثم ولى السادس المفتتح به القرآن الخامس المحكم كم وجه في قوله سبحانه وتعالى) ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (لأن من عمل بها من قلبه شعبة إيمان وعلم كانت له من المحكم، ومن عمل بها ائتمارا وإلجاء ولم يدخل الإيمان في قلبه كانت له حرف أمر) وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا) [الحجرات: ١٤].
وهذا إنما وقع ترتيبه هكذا في القرآن المتلو، وأما تنزيله يفي ترتيب البيان فإن أ، ل ما نزل على النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هو حرف المحكم وهو قوله سبحانه وتعالى) اقرأ باسم ربك الذي خلق
69
خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم ٨) [العلق: ١ - ٥] الآياتن الخمس، وأونل ما أنزل إلى الأمة يفي ترتيب البيان هو من حرف الزجر والنهي وهو قوله سبحانه وتعالى) يا أيها المدثر قم فأنذر) [المدثر: ١ - ٢] أي) نذير لكم بين يدي عذاب شديد) [سبأ: ٤٦] أعلمهم بما تخاف عاقبته في الآخرة وإن كانوا قد اتخذوا في الدنيا مودة بأوثانهم وقال تعالى) إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض) [العنكبوت: ٢٥] الآية، فابتدأ سبحانه وتعالى ترتيل الأمة بإصلاح المعاد الأهم لأن عليه يصلح أمر الدنيا، من استقل بآخرته كفاه الله أمر دنياه،
70
وبدأ منها بحرف الزجر والنهي وهو المبدوء به في الحديث ورده النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لفظ الزجر بلفظ النهي لأن المقصود بهما واحد وهو الردع عما يضر في المعاد إلا أن الردع عل وجهين: خطاب لمعرض ويسمى زجرا كما يسمى في حق البهائم، وخطاب لمقبل على التفهم ويسمى نهيا، قكأن الزجر يزيع الطبع والنهي يزيع العقل، انتهى. وقد بان من هذا سر افتتاح البقرة بالمعروف المقطعة.
ولما كان الذي ابتدئت به السور من ذلك شطر حروف المعجم كان كأنه قيل من زعم أن القرآن ليس كلام الله فليأخذ الشطر الآخر ويركب عليه كلاما يعارضه به، نقل ذلك الزركشي في البرهان عن القاضي أبي بكر قال: وقد علم ذلك بعض أرباب الحقائق، وجمعها
71
الزركشي في قوله: نص حكيم قاطع له سر، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه: في كل كتا بسر وسر الله في القرآن أوائل السوروعن علي رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه: أن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.
ولما كانت حروف المعجم تسعة وعشرين حرفا بالهمزة وكان أحد شطرها على التحرير متعذرا فقسمت خمسة عشر وأربعة عشر، وأخذ الأقل من باب الأنصاف وفرق في تسع وعشرين سورة
72
على عدد الحروف، وتحدي به على هذا الوجه، وأبدى الإمام شمس الدين ابن فقيم الجوزيه الدمشقي الحنبلي يفي كتاب به كالتذكرة سماه " بدائع الفرائد " سرا غريبا في ابتداء القرآن بقوله) الم (حاصله أن حروفه الثلاثة جمعت المخارج الثلاثية: الحلق واللسان والشفتان. على ترتيبها وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي المعاد والوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي، وفي ذلك تنبيه على أن هذا الكتاب الذي ركب من هذه الحروف التي لا تعدو المخارج الثلاثة التي بها يخاطب جميع الأمم جامع لما
73
يصلحكم من أحوال بدء الخلق وإعادته وما بين ذلك، وكل سورة افتتحت بهذه الحروف ذكرت فيها الأحوال الثلاثة.
وقال الحرالي في تفسيره: " الف " اسم للقائم الأعلى المحيط ثم لكل مستخلف في القيام كآدم والكعبة، " ميم " اسم للظاهر الأعلى الذي من أظهرة ملك يوم الدين، واسم للظاهر الكامل المؤتى جوامع الكلم محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). ثم لكل ظاهر دون ذلك كالسماء والفلك والأرض " لام " اسم لما بين باطن الإلهية التي هي محار العقول التي هي وصل تنزل ما بينهما كاللطيف ونحوه، ثم للوصل الذي كالملائكة وما تتولاه من أمر الملكوت، وهذه الألفاظ عند انعجام معناها تسمى حروفا، والحرف طرف الشيء الذي لا يؤخذ منفردا وطرف القول الذي لا يفهم وحده، وأحق ما تسمى حروفا إذا نظر إلى صورها ووقوعها أجزاء من الكلم
74
ولم تفهم لها دلالة فتضاف إلى مثلها جزء من كلمة مفهومة تسمى عند ذلك حروفا وعند النطق بها هكذا ألف لا ميم فينبغي أن يقال فيها أسماء وإن كانمت غير معلومة الدلالة كحروف ألف باء تاء فإنها كلها أسماء على ما فهمه الخليل وإنها إنما تسمى حروفا عند ما تكون أجزاء كلمة محركة للإبتداء أو مسكنة للوقف والانتهاء.
وأما حقيقتها فهي جوامع أصلها في ذمر أول من كلام الله تعالى فنزلت إلى الكلم العربية وترجمت بها ونظم منها هذا القرآن العربي المبين، فهي في الكنب العلوية الملكوتية المترتبة في الجمع والتفصيل آية وكلم وذات كتاب، فلما نزلت إلى غاية مفصل القرآن أبقيت
75
في افتتاحه لتكون علما على نقله للتفصيل من ذلك الكتاب، ولأنها أتم وأوجز فغيء الدلالة على الجمع من المفصل منها ودلالتها جامعة للوجود كله من أبطن قيمه إلى أظهره وأظهر مقامه وما بينهما من الوصلة والواصلة وهي جامعة الدلالة على الكون المرئي للعين بالعين والوحي المسموع، ولأجل ما اقتضته من الجمع لم تنزل يفي كتاب متقدم لأن كتا بكل وقت مطابق بحال الكون فيه والكون كان بعد لم يكمل فكانت كتبه وصحفه بحسبه ن ولما كمل الكون في وقت سيدنا محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كان كتابه كاملا جامعا فوجب ظهور هذه الجوامع فيه ليطابق الختم البدئ، لأنهما طرفا كمال وما بينهما تدرج إليه، وقد كان وعد بإنزالهما في بعض تلك الكتب فكان نزولها نجازا لذلك. انتهى.
76
وأما مناسبة ما بعد ذلك للفاتحة فهو أنه لما أخبلا سبحانه وتعالى أن عباده المخلصين سألوا في الفاتحة هداية الصراط المستقيم الذي همو غير طرلايق الهالكين أرشدهك في أول التي تليها إلى أن الهدى المؤول إنما هو في هذا الكتاب، وبين لهم صفات الفريقين الممنوحين بالهداية حتى على التخلق بها والممنوعين منها زجرا عن قربها. فكاتن ذلك أعظم المناسبات لعقيب الفاتحة بالبقرة، لأنها سيقت لنفي الريب عن هذا الكتاب ولأنه هدى للمتقين، ولوصف المتقين وما يجازون به بما في الآيات الثلاث ولوصف الكافرين الذين لا يؤمنون لما وقع من الختم على جواسهم والحتم لعقابهم ليعلم أن ما اتصف به المتقون هو الصراط المستقيم فيلزم وما اتصف به من
77
عداهم هو طريق الهالكين فيترك، وفي الوصف بالتقوى بعد ذكر المغضوب عليهم والضالين إشارة إلى أن المقام مقام الخوف.
وإن شئت قلت: مقصود هذه السورة وصف الكتاب فقط وما عدا ذلك فتوابع ولوازم ولن يثبت أنه هدى إلا بإثبات أ، هـ حق معنى ونظما، ولما كان المعنى أهم قدم الاستدلال عليه فأخبر من تماديهم على الكفر بما يكون تكذيبهم به تصديقا له، واتبع ذلك بذكر المنافقين إعلاما بأن المنفي الإيمان بالقلب وأنه لا عبرة باللسان إذا تجرد عنه،
78
وساق ذلك على وجه يعلمون به أنه الحق بما هتك من سرائرهم وكشف من ضمائرهم، فلما تم ذلك وكان المقصود منه الدعاء إلى الله انتهزت تلك الفلبرصة بقوله تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) [البقرة: ٢١] لما أسس لها من الترغيب بالترهيب، ثم أقيم الدليل على حقية نظمه بتقصيرهم عن مدى سهمه، فرجع حاصل ذلك إلى إثباته بعجزهم عن معارضته في معناه بإيجاد من أخبر بنفيه وفي نظمه بالإتيان بمثله، فلما ثبت ذلك ثبت أنه من عند الله فثبت تأهله لتعليم الشرائع فجعلها ضمن مجادلة أهل الكتاب بما يعلمون حقيته بلا ارتياب من الدعاء إلى ما أخفوه من الدعائم الخمس التي بني عليها الإسلام
79
Icon