تفسير سورة النّمل

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة النمل من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة النمل
سورة النمل مكية
وهي ثلاث أو أربع وتسعون آية وسبع ركوعات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ طس ﴾ عن ابن عباس : هو من أسماء الله ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ ﴾ إشارة إلى آيات تلك السورة ﴿ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ : وهو القرآن، وعطفه لعطف إحدى الصفتين على الأخرى١
١ نحو: هذا فعل السخي والجواد /١٢..
﴿ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ حالان من الآيات، أو خبران المحذوف، أو بدلا من الآيات، أو خبران بعد خبر
﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ١ تكرير الضمير للاختصاص، والواو للعطف أو للحال
١ لما كانت الصلاة والزكاة مما يتجدد، ولا تستغرق الأزمنة جاءت الصلة فعلا مضارعا، ولما كان الإيمان مما هو ثابت مستقر الديمومة جاءت الجملة الاسمية، وتكرير الضمير وتغيير الأسلوب للدلالة على قوة يقينهم وأنهم الأوحدون فيه /١٢ وجيز..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي : أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنة ﴿ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ عنها لا يدركون قباحتها
﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ : في الدارين ﴿ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ﴾ : ما أحد أشد منهم خسرانا
﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ﴾ لتؤتى ﴿ الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ أي حكيم أي عليم، ولهذا المعنى نكرهما، وهذا تمهيد لذكر هذه القصص التي تأتي، فكم فيها من لطائف حكمه، ودقائق علمه
﴿ إِذْ قَالَ ﴾ مقدر باذكر، كأنه قال خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى، أو متعلق بعليم ﴿ مُوسَى لِأَهْلِهِ ﴾ حين مسيره من مدين إلى مصر، وقد ضل الطريق ﴿ إِنِّي آنَسْتُ ﴾ : أبصرت ﴿ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا ﴾ : من أهل النار ﴿ بِخَبَر ﴾ عن حال الطريق ﴿ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ ﴾ الشهاب : الشعلة، والقبس : النار المقتبسة من جمر ونحوه، فهو إما بدل أو صفة، وقراءة الإضافة من إضافة الخاص إلى العام ﴿ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ رجاء أن تستدفئوا بها من البرد فإنهم في ليل شتوي
﴿ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ ﴾ أي : بأن، أو ( أن ) مفسرة، فإن في النداء معنى القول ﴿ مَن فِي النَّارِ ﴾ عن ابن عباس وغيره أي : قدس من في النار، وهو الله سبحانه، والنار نوره تعالى على معنى أنه نادى موسى منها، وأسمعه كلامه من جهتها، أو المراد من في طلب النار وهو موسى، أو المراد الملائكة، فإن فيها ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس ﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ الملائكة، أو موسى ﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ من تمام ما نودي به، لئلا يتوهم أنه مكاني يشبه شيئا من مخلوقاته
﴿ يَا مُوسَى إِنَّهُ ﴾ الضمير للشأن ﴿ أَنَا اللَّهُ ﴾ أو راجع إلى المتكلم، و( أنا ) خبره، والله بيان له، أو خبر بعد خبر ﴿ الْعَزِيزُ ﴾ : الغالب ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ فيما يفعله
﴿ وَأَلْقِ١ عَصَاكَ ﴾ عطف على بورك، أي : قيل له بورك من في النار، وقيل له : ألق عصاك ﴿ فَلَمَّا رَآهَا ﴾ أي : فلما ألقى رآها ﴿ تَهْتَزُّ ﴾ : تتحرك ﴿ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾ : حية خفيفة سريعة، ﴿ وَلَّى مُدْبِرًا ﴾ أي : هرب موسى، ﴿ وَلَمْ يُعَقِّبْ٢ : لم يرجع، ﴿ يَا مُوسَى ﴾ أي : نودي يا موسى، ﴿ لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ٣ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ حين يوحي إليهم من فرط الاستغراق، قيل معناه : من أمنته من عذابي لا يخاف من حية،
١ عطف على ﴿إنه أنا الله﴾ عطف جملة الأمر على جملة الخبر، وقد نص سيبويه على جوازه سيما في مثل هذا الموقع، فإنه لا ينكره أحد من العلماء /١٢ وجيز..
٢ عطف على (ولّى) يقال عقب المقاتل، إذا كر بعد الفرار وأقبل بعد الإدبار /١٢ وجيز..
٣ قيل: لا يخاف إلا من ظلم نفسه من مثل الصغائر ثم تاب فإنه يخاف مع أني غفرت له، وهذا كما وقع في الحديث الصحيح من حكاية الشافعة إن كل نبي أحل الشفاعة إلى نبي آخر لأجل خوفهم إلا خاتم النبيين فإنه قام بالشفاعة صلوات الله وسلامه عليه، وعليهم أجمعين /١٢ وجيز..
﴿ إِلَّا مَن ظَلَمَ ﴾، لكن من ظلم من العباد نفسه، ﴿ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ﴾ : تاب وعمل صالحا، ﴿ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أغفر له ظلمه أي : لستم أيها المرسلون من الظالمين التائبين، فلا خوف عليكم بوجه، أو لكن من ظلم قبل النبوة، ثم تاب فإني أغفر له، ومن غفر له لا يخاف، أو الاستثناء متصل أي : لا يخافون إلا الذين ظلموا بارتكاب الصغائر حينئذ تم الكلام، ويكون ( ثم بدل ) عطفا على محذوف تقديره : فمن ظلم ثم بدل إلخ، فإني أغفر له، أو معناه لا يخافون إلا من فرط منه ما غفر له فإنه يخاف، وقد تحقق أن المغفور له المرحوم لا يخاف من الذنب المغفور البتة، فإذن لا يخاف منهم أحد البتة على القطع،
﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ﴾ أي : في جيب درعك، وقد نقل١ أنه كان عليه مدرعة من صوف لا كم لها، ﴿ تَخْرُجْ بَيْضَاء ﴾ كأنها قطعة قمر تلألأ، ﴿ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ كبرص، ﴿ فِي تِسْعِ آيَاتٍ ﴾ أي : اذهب في تسع آيات، ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ﴾ أو معناه أدخل يدك في جملة تسع آيات وعدادهن، وعلى هذا ( إلى فرعون ) متعلق بمحذوف، أي : مبعوثا مرسلا إليه ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾
١ نقله محيي السنة /١٢ وجيز..
﴿ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا ﴾ بأن جاءهم موسى بها، ﴿ مُبْصِرَةً ﴾ : ظاهرة للناظرين، ﴿ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِين ﴾
﴿ وَجَحَدُوا ﴾ : كذبوا، ﴿ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ﴾ أي : وقد استيقنتها أنفسهم أنها من عند الله، الواو للحال١، ﴿ ظُلْمًا ﴾ أي : جحدوا للظلم، ﴿ وَعُلُوًّا ﴾ : وللترفع والتكبر عن اتباعه، ﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ في الدارين.
١ يعني جحدوا وكذبوا بالآيات للظلم والتكبر عن إتباعه، والحال أنهم متيقنون أنها آيات الله ليست بسحر/ ١٢ وجيز..
﴿ وَلَقَدْ١ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ﴾ أي علم، ﴿ وَ٢قَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ : شكرا على ما أعطاهما من العلم،
١ - ولما أتم قصته شرع في قصة أخرى فقال: ﴿ ولقد آتينا داود﴾ / ١٢ وجيز..
٢ - قيل: هذا موقع الفاء دون موقع الواو فقال السكاكي: أخبر تعالى عما صنع بهما، وأخبر عما قالا، فكأنه قال نحن فعلنا إيتاء العلم، وهما فعلا الحمد تفويضا لاستفادة ترتب الحمد على إيتائه العلم إلى فهم السامع / ١٢ وجيز..
﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ نبوته، وعلمه وملكه دون سائر١ أولاده، ﴿ وَقَالَ ﴾ سليمان يعدد نعم الله عليه ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا٢ مَنطِقَ الطَّيْرِ ﴾ : نفهم ما يقصد بصوته، ﴿ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ٣ أي : أوتينا ما يحتاج إليه الملك، أو المراد الكثرة كما تقول : فلان يعلم كل شيء، ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ٤
١ قيل: له تسعة عشر ابنا /١٢ وجيز..
٢ قيل: كانت الطير تكلمه معجزة، وهذا خلاف ظاهر القرآن، وقوله: ﴿علمنا﴾ كالمبين للميراث هذا ما في الوجيز، وفي الفتح قال جماعة من المفسرين: إنه علم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جنوده يسير معه لتظليله من الشمس، فخص بالذكر لكثرة مداخله، وقال قتادة والشعبي: إنما علم منطق الطير خاصة، ولا يتعرض ذلك بالنملة فإنها من جملة الطير، وكثيرا ما تخرج لها أجنحة فتطير، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع سليمان كلامها وفهمه أخرج أحمد في الزهد، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس، فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غني عن رزقك، فإما أن تسقينا، وإما أن تهلكنا، فقال سليمان للناس: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم، وقد ذكر الخازن والنسفي في تفسيريهما: منطق بعض الطيور وما تقوله القمري وغيرها، وكذا القرطبي بلا إسناد صحيح متصل يعتمد عليه ويصار إليه، فتركنا ذكره هاهنا فإن لا يأتي بكثير فائدة للمنقحين /١٢ فتح..
٣ وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان عن القرظي وغيره، لا تطيب النفس بذكر شيء منها فالإمساك عن ذكرها أولى /١٢ فتح..
٤ قال ذلك شكرا لا فخرا /١٢ فتح..
﴿ وَحُشِر ﴾ : جمع، ﴿ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ ﴾ وكانوا هم حول الإنس، ﴿ وَالْإِنسِ ﴾ وهم يلونه، ﴿ وَالطَّيْرِ ﴾ وهن فوق رأسه فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها، ﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ يحبس أولهم على آخرهم ليجتمعوا،
﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ ﴾ هو بالشام، أو بالطائف، ولما كان إتيانهم من فوق عدَّى بعلي، أو المراد قطعه كما تقول : أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره، ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ لما نسب إليهم ما يختص به العقلاء بحسب الظاهر خاطبهم خطاب العقلاء، ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ﴾ أي : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم، استئناف، أو بدل من الأمر، ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ أنهم يحطمونكم، فيه إشعار بأنهم لو علموا لم يحطموا ؛ لأنهم جنود نبي،
﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا ﴾ أي : تبسم مقدرا الضحك، فإن المتبسم يصير ضاحكا إذا اتصل وداوم، وهو للتعجب أو للسرور، ﴿ مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ﴾ : ألهمني شكرها، أو أولعني وحرصني به، ﴿ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي ﴾ : عداد، ﴿ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ : الكاملين في الصلاح،
﴿ وَتَفَقَّدَ ﴾ : تعرف، ﴿ الطَّيْرَ١ فلم ير فيها الهدهد، ﴿ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ﴾ كأنه ظن أنه حاضر٢، ولا يراه لساتر، ثم لاح أنه غائب فقال :﴿ أَمْ كَانَ ﴾ بل أكان، ﴿ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، عن ابن عباس : إن الهدهد يدل سليمان على الماء ينظر الماء تحت الأرض، ويعرف كم مساحة بعده، ويخبره فيأمر الجن بالحفر، فنزل بفلاة يوما ولم يجده٣ فقال :
١ تعرفها، وذلك للاهتمام بالرعايا، قيل: كان يأتيه من كل صنف واحد فلم ير فيها الهدهد /١٢ وجيز..
٢ لأن العادة أن لا يذهب من جنده إلا بإذنه /١٢ وجيز..
٣ نقله محيي السنة وقال: قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق: يا وصاف انظر ما تقول ! إن الصبي منا يصنع الفخ، ويحثوا عليه التراب فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه، فقال له ابن عباس: ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر، وفي رواية: إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمى البصر / ١٢ منه..
﴿ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا١ شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾، بحجة تبين عذره، حلف على أحد الثلاثة التعذيب أو الذبح أو العفو بشرط العذر، أو الحلف على الأولين إن لم يكن الثالث، والثالث للتقابل، أدخل في سلكهما لا أنه محلوف عليه بالحقيقة،
١ قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج: هو أن ينتف ريشه جميعا، وروى نحو هذا عن جماعة من التابعين، قال البغوي: أظهر الأقاويل أن ينتف ريشه وذنبه، ويلقيه في الشمس ممعطا لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض، وقيل غير ذلك /١٢..
﴿ فَمَكَثَ ﴾ الهدهد، ﴿ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ : زمانا غير مديد، ﴿ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ : علمت ما لم تعلمه، ﴿ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ ﴾ : مدينة باليمن، أو اسم قبيلة هم ملوك اليمن، ﴿ بِنَبَإٍ١ : بخبر، ﴿ يَقِينٍ ﴾
١ لا شك في صدقه بادر [في الأصل: بادر] إلى جوابه بما يسكن غيظه، وأبهم أولا حتى يتشوق النفس إلى معرفته، وتجاسر بأن له معلوم لم يكن لنبي الله، ثم انتقل إلى ما هو أقل إبهاما إذ فيه إخبار بما كان جاء منه وإن له علم بخبر يقيني، وراعى على الفصاحة في كلامه بوجوه، ثم صرح بما كان أبهم فقال: ﴿إني وجدت﴾ إلخ /١٢ وجيز..
﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً ﴾ أي : بلقيس، ﴿ تَمْلِكُهُمْ ﴾ الضمير للسبإ باعتبار أهلها، ﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾، يحتاج إليه الملوك، ﴿ وَلَهَا عَرْش١ عَظِيمٌ ﴾ بالنسبة إلى عروش أمثالها من ذهب مكلل بأنواع الجواهر،
١ وما أحسن انتقالات خبر هذا الطير بعد تهديد الهديد، وعلمه بذلك أخبر أولا: باطلاعه على ما لم يطلع تحصنا من العقوبة لعلمه برتبة العلم عنده، ثم أخبر ثانيا: بأنه أمر متيقن ليزيد شوق السامع، ثم أخبر ثالثا: عن ملك عظيم لامرأة وكان سليمان قد سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، ثم أخبر رابعا، بما ظاهره الاشتراك بين سليمان وامرأة بشيء ليس لفحول الرجال وهو أن لها كل شيء، ثم أخبر خامسا: بأن لها عرشا عظيما تجلس عليه، وقد كان لسليمان بساط عظيم قد صنع له، ولما علم أن سليمان عال همته لم يتأثر بأمر دنيوي أخبره سادسا: بما يهزه لطلب تلك المملكة ودعائها إلى الإيمان، فقال: (وجدتها) إلخ /١٢ وجيز..
﴿ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ : فلا يهتدون إلى قبائح أعمالهم، ﴿ فَصَدَّهُمْ ﴾ : منعهم، ﴿ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ : طريق الحق، ﴿ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ إليه،
﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا ﴾ أي : صدهم أو زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا، ومن قرأ ( ألا ) بالتخفيف، فمعناه : ألا يا قوم اسجدوا، وهو استئناف أمر من الله بالسجود، أو من الهدهد، أو من سليمان، ﴿ لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ ﴾ : يظهر ما خفي في غيره، وهو عام١ لإنزال المطر، وإنبات النبات، وإنشاء البنين، والبنات، وغيرها، ﴿ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ فله استحقاق السجود لا لكرة تدور على الفلك بأمر مديرها،
١ هكذا فسره ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير والحسن، وغير واحد من السلف / ١٢..
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم ﴾ : المحيط بجملة١المكونات،
١ فهو العرش لا عرش بلقيس، ولما فرغ الهدهد من كلامه أخر سليمان أمره إلى أن يتبين صدقه فقال: ﴿سننظر﴾ إلخ /١٢ وجيز..
﴿ قَالَ ﴾ سليمان :﴿ سَنَنظُرُ ﴾، نتعرف من النظر بمعنى التأمل، ﴿ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ أي : أم كذبت فالتغير للمبالغة، ومحافظ الفواصل،
﴿ اذْهَب بِّكِتَابِي١هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ﴾، تنح عنهم إلى مكان قريب٢، ﴿ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ : يردون بالجواب، أو ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول،
١ يعني أمر بكاتبة كتاب وذهاب الهدهد إليهم فقال: ﴿اذهب﴾ إلخ /١٢..
٢ بحيث تسمع كلامهم /١٢..
﴿ قَالَتْ ﴾ بعدما ألقي الكتاب إليها، ﴿ يَا أَيُّهَا المَلَأُ ﴾ خاطبت عظماء قومها، ﴿ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾ لوجازته وفصاحته، أو لأنه مختوم١ أو لشرف صاحبه، أو لغرابته من جهات،
١ وقد روى: كرامة الكتاب ختمه /١٢ وجيز..
﴿ إِنَّهُ١مِن سُلَيْمَانَ ﴾ استئناف، ﴿ وَإِنَّهُ ﴾ أي : المكتوب أو المضمون٢، ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، وعن السلف لم يكتب أحد قلبه البسملة،
١ قيل::: ﴿إنه من سليمان﴾ بيان لعنوان الكتاب فكذا قوله: من عبد الله سليمان إلى ملكة سبأ وليس من أصل الكتاب، كذا قاله الإمام، ويشعر به كلام الزمخشري فسؤال تقديم سليمان اسمه على اسم الله ساقط /١٢ منه..
٢ أخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب باسمك اللهم حتى نزلت هذه الآية، فكان يكتب البسلمة، وبعدها السلام على من ابتع الهدى /١٢ فتح..
﴿ ألَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ﴾ أي : المقصود ألا تتكبروا علي، أو عليكم أن لا تتكبروا علي، ف( أن ) مصدرية، ﴿ وَأْتُونِي١ مُسْلِمِينَ ﴾ : مؤمنين أو منقادين لما أظهر عندهم المعجزة، وهي إلقاء الكتاب على تلك الحالة أمرهم بالإسلام والانقياد، ونقل بعض المفسرين أن عبارة الكتاب ﴿ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ الآية، فعلى هذا لما قالت :﴿ ألقى إلى كتاب كريم ﴾ كأن سائلا قال : بين لي مضمونه ومكتوبه ؟ فأجابت وقرأت، وعن بعضهم٢ إن عبارته : من عبد الله سليمان ابن داود إلى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمان الرحيم السلام على من ابتع الهدى، أما بعد : فلا تعلوا على وأتوني مسلمين، فحينئذ كأن سائلا يقول : بعدما قالت : ألقي إلي، ما فيه ؟ فقالت : إن مضمونه، وما فيه من سليمان، وإن فيه بسم الله الرحمان الرحيم إلخ، وترك الواو في ﴿ ألا تعلوا ﴾ ليدل على أنه المقصود من الكتاب.
١ وهذا أي: إنه سليمان من إلى مسلمين عبارة الكتاب، ولما قرأت على الملأ استشارتهم استعطافا، وتطييبا لقلوبهم ليقوموا معها، قالت: ﴿يا أيها الملأ﴾ إلخ /١٢ وجيز..
٢ نقله الزمخشري غفر الله زلاته /١٢ منه..
﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ﴾ : أجيبوا لي في أمري الحادث، ﴿ مَا كُنتُ قَاطِعَةً ﴾ : فاصلة، ﴿ أَمْرًا ﴾ : ما أبته، ﴿ حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ : إلا بمحضركم١،
١ وإذا كان هذا عادتي في الأمور فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة الكبرى /١٢ وجيز..
﴿ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا١ قُوَّةٍ ﴾ : عدد كثير، ﴿ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ : بلاء ونجدة في الحرب كان الملأ ثلاثمائة واثنا عشر أميرا مع كل منهم عشرة آلاف، ﴿ وَالْأَمْرُ ﴾ موكول، ﴿ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ : من المقاتلة والصلح نطعك،
١ حاصل الجواب أنهم ذكروا أمرين إظهار القوة الذاتية والعرضية إن أرادت الحرب والدفع، وإظهار الطاعة لها إن أرادت السلم، ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا /١٢ كبير..
﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً ﴾ عنوة وقهرا، ﴿ أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً١، ذكرت لهم عاقبة الحرب، وسوء مغبتها، وأنها سجال لا يدري عاقبتها، ﴿ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ هو من كلام الله تصديقا لها، وقيل : من تتمة كلامها تقريرا، وتأكيدا لما وصفت،
١ مالت إلى المهادنة والصلح لما رأت من الملوك، وكتب الله سعادتها /١٢..
﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ ﴾ : بأيادي رسل، ﴿ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ : بأي شيء يرجعون من حالة حتى أعمل بحسب ذلك، عن ابن١ عباس وغيره قالت : إن قبل الهدية فهو ملك نحاربه، وإن لم يقبل فهو نبي نتبعه،
١ نقله محيي السنة /١٢..
﴿ فَلَمَّا جَاء ﴾ ما أهدى إليه أو الرسول، ﴿ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ ﴾ خطاب للرسل، أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب، ﴿ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ ﴾ : من النبوة والملك والمال، ﴿ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم ﴾ فلا وقع لهديتكم عندي ﴿ بَلْ١ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ ﴾ التي يرسل بها بعضكم إلى بعض، ﴿ تَفْرَحُونَ ﴾ أو بل أنتم بهذه الهدية التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، بأنكم قدرتم على إهداء مثلها، وأما أنا فغني عنها، وقيل معناه : بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم، وتفرحوا بها، فيكون عبارة عن الرد، والهدية الذهب والجواهر مع الجواري والغلمان
١ لما أنكر عليهم الإمداد، وعلل ذلك أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم على الإمداد، وهو قياس حاله على حالهم في قصور الهمة بالدنيا /١٢ منه، قال الرازي: أما الكلام في صفة الهدية فالناس أكثروا فيها لكن لا ذكر لها في الكتاب، وقولها: ﴿فناظرة بما يرجع المرسلون﴾ فيه دلالة على أنها لم تثق بالقبول وجوزت الرد، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان /١٢، وفي الوجيز: وذكروا في الهدية أقوالا مختلفة، ومن حال سليمان مع الرجل حين وصلت الهدية ما الله أعلم بصحته، ولا مدخل له في تفسير كلام الله، فأضربنا عنه /١٢..
﴿ ارْجِعْ ﴾ أيها الرسول، ﴿ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ ﴾ : لا طاقة١، ﴿ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا ﴾، من بلدتهم، ﴿ أَذِلَّةً ﴾، ذليلين بذهاب أسباب عزهم، ﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ : أسراء٢،
١ وحقيقة القبل: المقاومة والمقابلة/١٢ وجيز..
٢ أسراء جملة حالية، وقيل: في ذلك دليل على جواز الحالين الذي حال واحد، وهي مسألة خلافية، فقيل: يمكن أن يكون الثانية تأكيد الأولى فإنهما حال واحدة /١٢ وجيز..
﴿ قَالَ١ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ لما وصف الهدهد عرشها أعجبه فأراد أن يأخذه قبل إسلامها، لأنه يحرم عليه أموالهم بعد الإسلام، أو طلب عرشها ليريها معجزة أخرى، أو أراد اختبار عقلها بأن تعرف عرشها،
١ سليمان حين رأى جماعة من بعيد فسأل عنهم قالوا: فوج بلقيس ﴿يا أيها الملأ أيكم﴾ إلخ /١٢ وجيز..
﴿ قَالَ عِفْريتٌ ﴾ : خبيث قوي، ﴿ مِّنَ الْجِنِّ ﴾ بيان له، ﴿ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ﴾ : من مجلسك للحكومة، وكان يجلس إلى نصف النهار، ﴿ وَإِنِّي عَلَيْهِ ﴾ : على حمله، ﴿ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ١ على ما فيه الجواهر، فقال سليمان : أريد أسرع٢من هذا،
١ لا أختلس منه شيئا /١٢..
٢ لأنه أراد أن يكون عرشها حين قدومها قائما عنده /١٢ وجيز..
﴿ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ ﴾ جنس الكتب السماوية، وهو آصف١ كاتبه صديق يعلم اسم الله الأعظم، وعن بعض هو خضر، وكان عرشها في اليمن وسليمان في بيت المقدس، ﴿ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ أي : قبل أن ترد طرفك التي أرسلت نحو شيء، وهذا مثل في الإسراع، وآتيك في الموضعين يحتمل الفعل واسم الفاعل، ﴿ فَلَمَّا رَآهُ ﴾ : العرش، ﴿ مُسْتَقِرًّا ﴾ : حاصلا، ﴿ عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ﴾ اعتراف بأنه فضل، وهو غير مستحق به، ﴿ لِيَبْلُوَنِي ﴾ : يعامل معي معاملة من يختبر بعده، ﴿ أَأَشْكُرُ٢ نعمه فأرى ذلك من فضله بلا حول ولا قوة مني، ﴿ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ بأن أرى نفسي مستحقا له أقصر في أداء مواجبه، والفعلان بدلان من مفعول يبلو، ﴿ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِه ﴾ ترجع فوائده إليه، ﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ ﴾ عن شكره، ﴿ كَرِيمٌ ﴾ بالإفضال على من يكفر،
١ يعلم اسم الله الأعظم ودعاؤه: يا ذا الجلال والإكرام، أو يا حي يا قيوم، أو يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله أنت ائتني بعرشها /١٢ وجيز..
٢ والشكر كما قيل قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة /١٢ وجيز..
﴿ قَالَ نَكِّرُوا ﴾ : غيروا، ﴿ لَهَا عَرْشَهَا ﴾ بتقديم شيء، وتأخير شيء من أجزائه، وتبديل جواهره عن مكانها، ﴿ نَنظُرْ ﴾ جواب الأمر، ﴿ أَتَهْتَدِي ﴾ : إلى أنه عرشها، ﴿ أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ : بلهاء١ لا تعرف شيئا إذا ذكرت عندها بسخافة العقل،
١ قال وهب ومحمد بن كعب: خاف الجن أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن، فإن أمها جنية فقالوا: إن في عقلها شيئا وإن رجلها كحافر حمار، وإنها شعراء الساقين، قيل: معناه لتهتدي للإيمان بأن رأت تلك المعجزة الأخرى، أم هي من المتأصلين في الكفر، ومن حيث هذا لم يقل من اللاتي مثل قوله – في شأن مريم: ﴿وكانت من القانتين﴾ [التحريم: ١٢]/١٢ وجيز..
﴿ فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ رعت الحزم فما جزمت لقيام احتمال عقلي، وهذا من ذكائها، ﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ﴾ بصحة نبوته، ﴿ مِن قَبْلِهَا ﴾ : قبل تلك المعجزة التي رأيناها اليوم، ﴿ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ : منقادين له قبل مجيئنا،
﴿ وَصَدَّهَا ﴾ : منعها، ﴿ مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ : عبادتها الشمس عن التقدم إلى الإسلام، ﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾، مستأنفة بمنزلة العلة، وقوله :﴿ وصدها ﴾ إلى هنا إما من كلام الله، أو من كلام سليمان، أو قوله :﴿ وأوتينا العلم ﴾ إلخ من كلام سليمان وقومه عطفوه على جوابها ؛ لأنه لاح من جوابها إيمانها بالله ورسوله، حيث جوزت خرق العادة الذي هو من معجزات الأنبياء أي : وأوتينا العلم بالله قلبها، وكنا منقادين لم نزل على دين الله، وغرضهم من هذا الحديث التحدث بنعم الله شكرا له، وقيل معناه : وصد سليمان بلقيس عن عبادة الشمس، أو صدها عن التوحيد عبادتها للشمس وكونها نشأت بين أظهر المشركين لا سخافة عقلها كما قيل،
﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي١ الصَّرْحَ ﴾ القصر أمر قبل قدومها فبُنيَ صحنه من زجاج أبيض وتحته الماء، وألقي فيه حيوانات البحر، ووضع سريره في صدره، ﴿ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ﴾ ماءا راكدا، ﴿ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ﴾ وإنما فعل ذلك ليريها عظمته ومعجزته، أو لأنه أراد أن يتزوجها، وقد قيل له : إن قديمها كحافر حمار، فأراد أن يبصرها فرأى أحسن الناس٢ ساقا، ﴿ قَالَ ﴾ لها :﴿ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ ﴾، مملس، ﴿ مِّن قَوَارِيرَ ﴾ : زجاج فلا تخافي ولا تكشفي عن ساقيك، ﴿ قَالَتْ ﴾ لما رأت معجزته ودعاها إلى الإسلام، ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ بالشرك، ﴿ وَأَسْلَمْتُ٣ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فيما أمر به عباده.
١ أخرج ابن المنذر وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عباس في أثر طويل: إن سليمان تزوجها بعد ذلك، قال أبو بكر بن أبي: شيبة ما أحسنه من حديث، قال ابن كثير في تفسره بعد حكاية هذا القول: بل هو منكر جدا، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس والله أعلم، والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متقاة من أهل الكتاب مما يوجد في صحفهم لروايات كعب ووهب سامحهما الله فيما نقلا إلى هذه الأمة من بني إسرائيل من الأقاويل والغرائب، والعجائب مما كان ومما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ انتهى، وكلامه هذا هو شعبة مما قد كررناه في هذا التفسير، ونبهنا عليه في عدة مواضع، وكنت أظن أنه لم ينبه على ذلك غيري، فالحمد لله على هذه الموافقة لمثل هذا الحافظ المنصف، وقيل: انتهى أمرها إلى قولها: (أسلمت)، ولا علم لأحد وراء ذلك، لأنه لم يذكر في الكتاب ولا في خبر صحيح /١٢ فتح..
٢ وعند بعض: إن المقصود من الصرح إرادة عظمته، وحصول كشف الساق تبع، وإما أنها كانت شعراء، فأمر الجن فاحتالوا النورة فمذكور في القصص /١٢ وجيز..
٣ مع اسم يدل على الصحبة واستحداثها، كما صرح به الزمخشري في سورة (يوسف) عند قوله: ﴿ودخل معه السجن فتيان﴾ [يوسف: ٣٦]، وفي سورة (الصافات) في قوله: ﴿فلما بلغ معه السعي﴾ [الصافات: ١٠٢] فعلى هذا فالمراد أسلمت بالموافقة، أو بأن لقنها /١٢ وجيز..
﴿ وَلَقَدْ١ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ ﴾ أي : بأن، ﴿ اعْبُدُوا٢ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ ﴾ : فريق مؤمن وفريق كافر، ﴿ يَخْتَصِمُونَ٣، واختصامهم ما مر في سورة الأعراف ﴿ قل الذين استكبروا ﴾ [ الأعراف : ٧٥ ] الآية،
١ ولما ذكر قصة داود وسليمان وهما من بني إسرائيل، ذكر قصة من هو من العرب يذكر بهم العرب، وينبئهم على أن العرب والعجم من الأنبياء يدعون إلى منع الشرك ليعلموا أنهم في ضلال من عبادة الأصنام فقال: ﴿ولقد أرسلنا﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ قد مر مرارا (أن) في مثله جاز أن تكون تفسيرية، ومصدرية بتقدير حرف الجر/ ١٢ وجيز..
٣ وعطف بالفاء؛ لأنهم بادروا بالاختصام متعقبا دعاء صالح إياهم إلى عبادة الله وحده، ﴿ويختصمون﴾ بصيغة الجمع على المعنى /١٢ وجيز..
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ ﴾ : بالعقوبة فتقولون : ائتنا بما تعدنا، ﴿ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ﴾ : التوبة، فتؤخرونها إلى نزول العذاب، كانوا يقولون إن صدق إيعاده : تبنا حينئذ، زاعمين أنها مقبولة حينئذ، فخاطبهم على حسب اعتقادهم، ﴿ لَوْلَا ﴾ : هلا، ﴿ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ ﴾ قبل العذاب، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ فإنها لا تقبل حينئذ،
﴿ قَالُوا اطَّيَّرْنَا ﴾ : تشاءمنا، ﴿ بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ﴾ فإنهم قحطوا وتفرقت كلمتهم منذ كذبوه، ﴿ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ﴾ أي : شؤمكم عنده أتاكم منه بكفركم، ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾ : تختبرون بالخير والشر، أضرب عن بيان الطائر إلى ذكر ما هو الداعي إلى الضراء،
﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ : في مدينة ثمود، ﴿ تِسْعَةُ رَهْطٍ ﴾ أي : أنفس، وقع تميزا للتسعة، لأنه بمعنى الجماعة، وهو من الثلاثة أو من السبعة إلى العشرة، وهم الذين عقروا الناقة أبناء أشرافهم، ﴿ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾ يعني : أعمالهم محض فساد،
﴿ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ ﴾ أي : قال بعضهم لبعض احلفوا، ﴿ لَنُبَيِّتَنَّهُ ﴾ أي : لنقتلنه ليلا، ﴿ وَأَهْلَهُ ﴾، والبينات : مباغتة العدو ليلا، ﴿ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ﴾ لولي دمه، ﴿ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ ﴾ : ما حضرنا إهلاكهم، ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ أي : ونحلف إنا لصادقون، أو نقول له ذلك، والحال إنا عند الناس عظماء صادقون قيل : إنا صادقون في ذلك القول لأنا ما حضرنا مهلكهم وحده، بل مهلكه ومهلكهم كأن الكذب عندهم أقبح من قتل نبي الله والمؤمنين،
﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا ﴾ بتلك المواضعة، ﴿ وَمَكَرْنَا مَكْرًا ﴾ : جازيناهم على ذلك، ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ بمكرنا،
﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ ﴾ فإنهم لما خرجوا لإهلاكهم بعد عقر الناقة دمغتهم الملائكة بالحجارة، أو جثم عليهم جبل فماتوا، ﴿ وَقَوْمَهُمْ١ أَجْمَعِينَ ﴾ : وإهلاكهم بالصيحة، وقراءة ( إنا ) بكسر الهمزة بالاستئناف، وخبر كان ( كيف )، وإن جعلتها تامة ف ( كيف ) حال، أو بدل،
١ روي أن صالحا أخبرهم بعدما عقروا الناقة بمجيء العذاب فاتقوا على قتل صالح، فاختفوا في غار شاهرين أسيافهم بالليل، فأهلكهم الله ولم يشعر كل واحد بهلاك الآخر /١٢ وجيز..
﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ﴾ : خالية أو ساقطة، حال عاملها معنى الإشارة، ﴿ بِمَا ظَلَمُوا ﴾ : بسبب ظلمهم، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ فإن الجهل لا يتأملون حتى يتعظوا،
﴿ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ : صالحا ومن معه،
﴿ وَلُوطًا ﴾ أي : اذكره، ﴿ إِذْ قَالَ ﴾ بدل، ﴿ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ﴾ كأنها لقبحها ليست الفاحشة إلا إياها، ﴿ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ : يبصر بعضكم بعضا لا تستترون، وتأتون في ناديكم المنكر، أو تعلمون أنها فاحشة١،
١ فإنها مع العلم أقبح/ ١٢..
﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً ﴾ : تتركون المانع الشرعي والزاجر العقلي بمجرد شهوة، ﴿ مِّن دُونِ النِّسَاء ﴾ التي لا مانع لها لا شرعيا ولا طبعيا، ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ : سفهاء١، ولما كان القوم في معنى المخاطب ذكر الفعل بصيغة الخطاب،
١ لا عقل ولا طبع /١٢..
﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ : يتنزهون عن أفعالنا ويعدونها أقذارا، وعن ابن عباس : هذا استهزاء،
﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ أي : قدرنا كونها من الباقين في العذاب،
﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ﴾ : هو الحجارة، ﴿ فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾ قد مر إعرابه في آخر سورة الشعراء فتذكر،
﴿ قُلِ ﴾ يا محمد :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ١ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ﴾ أمره أن يحمد على نصرة أوليائه وإهلاك أعدائه وأن السلام على عباد الله المصطفين الأخيار، وهم الأنبياء، وهن ابن عباس هم الصحابة اصطفاهم لنبيه رضي الله عنهم، ﴿ آللَّهُ ﴾ الذي نجّي من وحّده من الهلاك، ﴿ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ الأصنام التي لم تغن شيئا عن عابديها، وهو إلزام لهم وتسفيه لرأيهم، فمن المعلوم ألا خير٢ فيما أشركوه أصلا.
١ لما فرغ من تلك القصص أمر نبيه بحمده، وبالسلام على المصطفين على نصره أوليائه وإهلاك أعداءه، ثم أخذ في مباينة واجب الوجود للأصنام التي أشركوها مع الله تعالى، فقال: ﴿الله خير أما يشركون﴾ الآية/ ١٢ وجيز..
٢ وهم اعتقدوا فيه نفعا بالجهل، ولهذا عبر عنه بما لا بمن، هذا ما في الوجيز، وفي الفتح: وهذه الخبرية ليست بمعناها الأصلي، بل هي كقول الشاعر:
أتهجوه ولست له بكفء فشر كما لخير كما الفداء
فيكون ما في الآية من باب التهكم بهم، إذ لا خير فيهم أصلا /١٢ فتح..

﴿ أَمَّنْ ﴾ بل أمّن، ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ قيل : تقديره أما يشركون خير أمّن خلق السماوات والأرض، ﴿ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ ﴾ عدل إلى التكلم، للتنبيه على أن الإنبات الذي هو عندكم من أنفع الأشياء مختص لا يقدر عليه غيره، ﴿ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾ : بساتين ذات حسن، ﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ ﴾ ليس في قدرتكم، ﴿ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ : أغيره يقرن به، ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ عن الحق،
﴿ أَمَّن١ جَعَلَ ﴾ بدل من ( أمّن خلق )، ﴿ الْأَرْضَ قَرَارًا ﴾ : دحاها وسواها للاستقرار، ﴿ وَجَعَلَ خِلَالَهَا ﴾ : وسطها، ﴿ أَنْهَارًا ﴾ جارية، ﴿ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ﴾ : جبالا ثوابت، ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ ﴾ : العذب والمالح، ﴿ حَاجِزًا ﴾ : مانعا من قدرته لا يختلطان كما مر في سورة الفرقان، ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ : جهلاء،
١ ولما ذكر شيئا مشتركا بين السماء والأرض من إنزال الماء وإنبات الحدائق ذكر ما هو مختص بالأرض، فقال: ﴿أمن جعل الأرض﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾ الكفرة يعترفون بذلك لا يلجئون في حال الاضطراب إلا إليه، ﴿ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ ﴾ : سكانها يهلك قرنا وينشئ آخر، ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ ( ما ) صلة، أي : تذكرون ذكرا قليلا لا يترتب عليه نفع، أو المراد من القلة العدم،
﴿ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ بما خلق من الدلائل السماوية كالنجوم، والأرضية كالجبال، ﴿ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا ﴾ : مبشرات، ﴿ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ : قدام المطر، ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ يقدر على مثله، ﴿ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
﴿ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ الكفرة وإن أنكروا الإعادة، لكن كانت مبينة بالحجج الواضحة فهي ثابتة، ﴿ وَمَن١ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ ﴾ بأسباب سماوية وأرضية، ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ يفعل ذلك، ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ٢ على أن مع الله إلها آخر، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾، في دعواكم،
١ ولما كان إنعام الإيجاد لا يتم إلا بالرزق قال: ﴿ومن يرزقكم من السماء والأرض﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ هذا يدل على أنه لا بد في الدعوى من البرهان، وعلى فساد التقليد، ولما بين أنه المختص بالقدرة، أخد يبين أنه مختص بعلم الغيب، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه هو الإله المعبود، لأن الإله هو الذي يصح منه مجازاة من يستحق الثواب على وجه لا يلتبس بأهل العقاب، فقال: ﴿قل لا يعلم﴾ الآية /١٢ كبير..
﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ١ إِلَّا اللَّهُ ﴾، لما بين اختصاصه بكمال القدرة أتبعه ما هو كاللازم له، وهو التفرد بعلم الغيب، وقد ذكر أنها نزلت حين سأل المشركون متى البعث والإعادة، والاستثناء منقطع، ورفعه على لغة بني تميم، واختيار تلك اللغة لنكتة، وهي المبالغة في نفي علم الغيب عن غيره كما قالوا في :
وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس٢
والمراد بمن فيهما الموجودون، فإن العوام يحسبون أن كل موجود فيهما البتة، فعلى هذا الاستثناء متصل، ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ٣ : متى ينشرون،
١ ولا يخفى على من له أدنى فهم، أن من أخبره الله بشيء من المغيبات لم يصدق عليه بحال أنه عالم الغيب، كيف وهو جاهل إلا بما لقنه ؟! /١٢ وجيز..
٢ رجز لجران العود في ديوانه ص ٩٧..
٣ نقل محيي السنة إن هذه الآية نزلت، حين سأل المشركون تهكما متى البعث والإعادة ؟/ ١٢ وجيز..
﴿ بَلِ ادَّارَكَ١ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾ انتهى واضمحل، في شأن الآخرة لا يقرون بوجوده سيما بوقته، وقراءة ( ادّراك ). بمعناه، أي : تتابع حتى انقطع قيل : بمعنى تلاحق، وتساوى أي : هم في الجهل في أمر الآخرة سواء، أو بمعنى أدرك وانتهى وتكامل وإدراك : تتابع، واستحكم علمهم في يوم القيامة حين عاينوها، ولا ينفعهم العلم كما قال تعالى :﴿ أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ﴾ [ مريم : ٣٨ ]، الآية، ﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ﴾ أي : لا يقرون بوجودها، بل هم الشك فيها فإن عدم الإقرار بشيء قد يكون لعدم التوجه إليه، وقد يكون بعده، والثاني أقبح، ويحسن الإضراب، ﴿ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ٢ : عيون قلوبهم عمي، ومنشؤ عماهم الآخرة، فلذلك عداه بمن دون عن، فإن الكفر بها صيرهم أضل من البهائم، وهذا وإن كان خاصا بالمشركين ممن في السماوات والأرض، نسب إلى الجميع كما يسند فعل البعض إلى الكل.
١ كذا أوردها المنصف على وجه للقراءة..
٢ ولما ذكر أنهم غير مقرين، بل شاكون عمي القلوب، أثبت بالدليل فقال: ﴿وقال الذين كفروا﴾ الآية/ ١٢وجيز..
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ﴾ من القبور أحياء، والعامل في ( إذا ) فعل يدل عليه ﴿ أئنا لمخرجون ﴾، وهو يخرج ؛ لأن ما بعد كل من الهمزة وإن واللام لا يعمل فيها قلبه، وتكرير الهمزة لتأكيد الإنكار،
﴿ لَقَدْ وعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ﴾ : من قبل بعث محمد، ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ : سمرهم وأكاذيبهم،
﴿ قُلْ ﴾ لهم :﴿ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ حتى تعلموا أن هذا ليس بكذب وإسمار،
﴿ وَلَا تَحْزَنْ ﴾ يا محمد، ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ : على تكذيبهم وإعراضهم عنك، ﴿ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ ﴾ : حرج صدر، ﴿ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ : من مكرهم فإن الله يعصمك،
﴿ وَيَقُولُونَ١مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ﴾ : القيامة، وقيل : وعد العذاب، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾
١ ولما ذكر أنهم في شك من القيامة، وأورد من كلماتهم ما دل ظاهره على شكهم، ثم أوعدهم بالهلاك، وسلّى فؤاد نبيه ذكر منهم ما دل على عنادهم وتماديهم في جهلهم مما يدل ظاهره أيضا على شكهم، فقال: ﴿ويقولون متى هذا الوعد﴾ إلخ /١٢ وجيز..
﴿ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم ﴾، دنا لكم وتبعكم، ﴿ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ كيوم بدر، فإنه قامت فيه قيامتهم، وحكم لعل وعسى في مواعيد الملوك حكم الجزم، وإنما يطلقونه إظهارا لوقارهم، وأن الرمزة منهم كافية في الأغراض،
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ بتأخير عذابهم مع استحقاقهم، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴾
﴿ وَإِنَّ١رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ ﴾ : ما تخفي، ﴿ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾
١ ولما كان الإمهال ربما يكون الجهل بذنوب المذنب نفاه بقوله: ﴿وإن ربك ليعلم﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ١ : خافية، ﴿ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ٢ : اللوح المحفوظ،
١ ما من شيء في غاية الغيوبة والخفاء، والتاء للمبالغة كراوية وعلامة /١٢..
٢ فصحّ أن الله محيط علمه، إذ لا خصوصية لهذا دون غيره بالنسبة إلى علمه /١٢ وجيز..
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ : كأمر عيسى وعزيز، وأحوال الجنة والنار،
﴿ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ : فإنهم أهل الانتفاع به،
﴿ إِنَّ١رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم ﴾ : بين المختلفين في الدين، ﴿ بِحُكْمِهِ ﴾ : بما يحكم به، ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ : فلا يرد حكمه، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بأحوال من يحكم عليه وله،
١ ولما ذكر الاختلاف، قل: ﴿إن ربك يقضي﴾ الآية /١٢..
﴿ فَتَوَكَّلْ١عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ : والحق يعلو ولا يعلى،
١ ولما ثبت حكمه وعلمه، أمر نبيه بأن يعتمد كل الاعتماد عليه فقال: ﴿فتوكل على الله﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ إِنَّكَ١لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ : الكفار، فإنهم كالموتى في عدم الانتفاع بما يستمعون، ﴿ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾ والكفار كالصم في تلك الحال، التي هي أبعد من الاستماع، فإن الأصم إذا كان قد يسمع،
١ ولما قال: ﴿إنك على الحق المبين﴾ كأن سائلا سأل فما بالهم لا يذعنون ؟ فقال: ﴿إنك لا تسمع الموتى﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ﴾ : وهم عمي، ﴿ إِن تُسْمِعُ ﴾ سماع انتفاع، ﴿ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ﴾ : من هو في علم الله مصدقا بآياتنا، ﴿ فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ : مخلصون منقادون، فبلغ أنت رسالتك، ولا تضيق صدرك،
﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ ﴾ : وجب العذاب والسخط، ﴿ عَلَيْهِمْ١ حين لا يقبل من كافر الإيمان، ﴿ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً٢ مِّنَ الْأَرْضِ ﴾ : من نفس مكة، أو من بواديها، وفي الحديث٣ ( ٤( * )أول الآيات خروجا طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتها كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريب )، ﴿ تُكَلِّمُهُمْ ﴾ من الكلام، أو من الكَلْم، أي : الجرح، فقد ورد٥ إن عصا موسى تكون بيدها فتنكت في وجه المؤمنين نكتة بيضاء فتبيض منها وجوههم، وبيدها خاتم سليمان، وتنكت الكافر بها في وجهه فتسود منها وجوههم٦( ** )، وفي الشواذ ( تكَلْمهم ) بفتح التاء وجزم الكاف، ﴿ أَنَّ النَّاسَ ﴾ قرئ بفتح الهمزة وكسرها، ومن قال : إن هذا كلامها، فيكون تقديره : بأن الناس، والكسر لتضمين الكلام معنى القول، وعند من يقول : إنه من الكلم، أو كلامها إبطال كل دين سوى الإسلام، أو لعنة الله على الكافرين، فتقديره : لأن الناس علة لتكلمهم، أو لأخرجنا، وعلى كسرها مستأنفة، ﴿ كَانُوا بِآيَاتِنَا ﴾ يعني بخروجها، وسائر أحوالها، فإنهما من آيات الله، أو بالقرآن، فإن أكثر الناس حينئذ كفار، ﴿ لَا يُوقِنُونَ ﴾ وكلامها على بعض التوجيهات حكاية لقول الله.
١ وعن أبي العالية، إنه فسر وقع القول بما أوحي إلى نوح ﴿إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن﴾ [هود: ٣٦] نقله صاحب الفتح، وفي الوجيز وقع القول: أنجز وعد عذابهم الذي يضمنه القول الأزلي الأول من الله، ولا يقبل من كافر إيمانه /١٢..
٢ والظاهر أنها واحدة، وروي أنها تخرج في كل بلدة، فعلى هذا دابة اسم جنس، واختلف في كيفيتها اختلافا لا ينضبط /١٢ وجيز..
٣ رواه مسلم /١٢ وجيز..
٤ أخرجه مسلم في (أشراط الساعة) / باب: ذكر الدجال (٥/٧٩٨) ط الشعب..
٥ رواه ابن ماجه وأبوا داود، وابن جريج /١٢ وجيز..
٦ أخرجه ابن ماجة (٤٠٦٦) وضعفه الشيخ الألباني في (الضعيفة) (١٦٠٨)..
﴿ وَيَوْمَ١ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ ( من ) للتبعيض، ﴿ فَوْجًا ﴾ : جماعة، ﴿ مِّمَّن ﴾ ( من ) للبيان، ﴿ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ يحبس أولهم على آخرهم ليجتمعوا، وهو عبارة عن كثرتهم،
١ ولما كان من فعل الدابة التمييز بين المؤمن والكافر دفعة، تلاه بتمييز كل فريق منهما عن صاحبه بنوع آخر، فقال: ﴿ويوم نحشر﴾ الآية / وجيز..
﴿ حَتَّى إِذَا جَاؤُوا ﴾ إلى المحشر، ﴿ قَالَ ﴾ الله لهم :﴿ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا ﴾ الواو للحال أي : أكذبتموها بادئ الرأي من غير إحاطة علم بكنهها أو للعطف، أي : أجمعتم بين التكذيب، وعدم التأمل لتحققها ﴿ أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أم أي شيء كنتم تعملون بها بعد ذلك ؟ ! وهذا توبيخ وتبكيت كما تقول لعبدك الذي أكل مالك، وأنت تعلمه : أكلته أم بعته أم ضل عنك أم ماذا عملت به ؟ !
﴿ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم ﴾ حل عليهم العذاب الموعود، ﴿ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا١ يَنطِقُونَ ﴾ بحجة وعذر في جواب هذا السؤال عنهم،
١ لأنه لا عذر لهم، وقيل: يختم على أفواههم، فيكون ذلك في مواطن من القيامة ولما ذكر الحشر استدل عليهم بحشرهم كل ليلة إلى المبيت، والختم على مشاعرهم وبعثهم من المنام فقال: ﴿ألم يروا أنا جعلنا﴾ إلخ / ١٢ وجيز..
﴿ أَلَمْ يَرَوْا ﴾ ألم ينظروا ويتفكروا ؟ ﴿ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ ﴾ بالقرار والنوم، ﴿ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ في نصب مبصرا بالحال مبالغة، فإن ما هو حال لأهلك جعله من أحواله يعني : لو تأملوا لعلموا كمال قدرته ولطفه على خلقه، فما أنكروا الحشر وشكروا نعمه فما أشركوا به، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ١ فإنهم المتأملون في مثل تلك الآيات،
١ فإنهم لو تأملوا لعلموا كمال قدرته ولطفه على خلقه وأن النوم كالموت، والنهار كالبعث، فما أمكروا البعث وما أشركوا، ولما ذكر هذا الحشر الخاص هو كالدليل علي الحشر العام أعقبه بالحشر العام، فقال: ﴿ويوم ينفخ في الصور﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَيَوْمَ ﴾ أي : اذكر يوم، ﴿ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ : قرن ينفخ فيه إسرافيل في آخر عمر الدنيا، والمراد الزمان الممتد الشامل لزمان النفختين، ﴿ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ١ من الهول، وعن بعضهم معناه يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا، ﴿ إِلَّا مَن شَاء٢ اللَّهُ ﴾، عن كثير من السلف : هم الشهداء٣ لا يصل إليهم الفزع أحياء عند ربهم، أو جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، لا يصل إليهم الفزع ثم يقبض أرواحهم، أو موسى بدل صعقته في الدنيا، أو الحور والرضوان ومالك والزبانية، وقيل غير ذلك، ﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ ﴾ المراد حضورهم الموقف، ﴿ دَاخِرِينَ ﴾ : صاغرين،
١ عن أبي هريرة إن النفخ ثلاث نفخة فزع في حياة الدنيا، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور /١٢ وجيز..
٢ فلا ينالهم الفزع، ونعم ما قيل: الله أعلم بثناياه / ١٢ وجيز..
٣ مقلدون السيوف حول العرش /١٢ وجيز..
﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ﴾ : ثابتة في مكانها، ﴿ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ في السرعة والأجرام العظام إذا تحركت لا يكاد تتبين حركتها١ كالسحاب، ﴿ صُنْعَ اللَّهِ ﴾ مصدر مؤكد لنفسه من مضمون ( يوم ينفخ ) الآية، ﴿ الَّذِي أَتْقَنَ ﴾ : أحكم ﴿ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ وأودع فيه من الحكم ما أودع، ﴿ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ فيجازيهم عليه،
١ وذلك أحوال الجبال تسير ثم ينسفها الله فتصير كالعهن، ثم تكون هباء منثورا /١٢ وجيز..
﴿ مَن جَاء ﴾ في ذلك اليوم، ﴿ بِالْحَسَنَةِ١ : كلمة التوحيد، والإخلاص، ﴿ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ : رضوان الله، أو تضعيف حسنته، ﴿ وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾ نوع فزع، وهو فزع دخول النار، أو الفزع مطلقه،
١ وبالحسنة الإيمان أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه عن أبي هريرة (عن النبي صلى الله عليه وسلم "من جاء بالحسنة فله خير منها" قال: هي لا إله إلا الله" ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار" قال: هي الشرك)، وإذا صح هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمصير إليه في التفسير متعين / ١٢ فتح..
﴿ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ ﴾ أجمع السلف على أن المراد من السيئة هنا الشرك، ﴿ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ﴾، المراد من الوجوه : الأنفس، أو ذكر الوجوه للإيذان بأنهم يكبون فيها منكوسين، ﴿ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ١ تَعْمَلُونَ ﴾ أي : قيل لهم ذلك،
١ فما ذلك إلا عدل، ولما رغب ورهب بقوله: ﴿هل تجزون﴾ أمر الله نبيه بأن يبين شغله وحال أمته معه ليتميز القسمان، فقال: ﴿إنما أمرت﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا ﴾ أمر رسوله أن يقول لهم ذلك، والبلدة مكة حرم الله صيدها ونباتها وأشجارها١ ولقطتها، ﴿ وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ﴾ : ملكا، ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ لله،
١ ولما في الحديث (إن إبراهيم حرم مكة) فالمراد أنه أخبر بذلك، ومنه ظهر حرمتها، وله كل شيء خلقا وملكا، فله التحريم والتحليل /١٢ وجيز..
﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ﴾ على الناس، ﴿ فَمَنِ اهْتَدَى ﴾ : بالقبول والاتباع، ﴿ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ﴾ لا ينفع إلا نفسه، ﴿ وَمَن ضَلّ ﴾ : بعدم القبول والاتباع، ﴿ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ فلا علي من ضلالكم شيء،
﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ على ما أنعم علي من النبوة والعلم، ﴿ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ في الدنيا كوقعة بدر، ﴿ فَتَعْرِفُونَهَا ﴾ حين لا ينفعكم، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ فتأخير العذاب ليس لغفلة، بل لرحمة.
والحمد لله رب العالمين.
Icon