تفسير سورة النّمل

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة النمل من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في أوّل سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً ﴾.
إلى آخر القصة، تقدّم إيضاحه في «مريم » و «طه »، و «الأعراف ».
قوله تعالى :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾.
قد قدّمنا أنها وراثة علم ودين، لا وراثة مال في سورة «مريم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَهَبْ لي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ [ مريم : ٥-٦ ] الآية، وبيّنا هناك الأدلّة على أن الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال.
﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾.
تقدّم إيضاحه بالآيات القرآنية في أوّل سورة «هود »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [ هود : ٥ ]، وقوله :﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ﴾ الآية، كقوله تعالى :﴿ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٧ ]، وقوله تعالى :﴿ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ ﴾ [ النجم : ٦٢ ]، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْء ﴾، قال بعض أهل العلم :﴿ الْخَبْء في السَّمَاوَاتِ ﴾ : المطر، والخبئ في الأرض : النبات، والمعادن، والكنوز، وهذا المعنى ملائم لقوله :﴿ يُخْرِجُ الْخَبْء ﴾، وقال بعض أهل العلم : الْخَبْءَ : السرّ والغيب، أي : يعلم ما غاب في السماوات والأرض ؛ كما يدلّ عليه قوله بعده :﴿ وَيَعْلَمُ مَا يَخَافُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾، وكقوله في هذه السورة الكريمة :﴿ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ في السَّمَاء وَالأرْضِ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ النمل : ٧٥ ]، وقوله :﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ في السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ في كتاب مبين ﴾ [ يونس : ٦١ ]، كما أوضحناه في سورة «هود »، وقرأ هذا الحرف عامّة القرّاء السبعة غير الكسائي :﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ﴾ بتشديد اللام في لفظة ﴿ إِلا ﴾، ولا خلاف على هذه القراءة أن يسجدوا فعل مضارع منصوب بأن المدغمة في لفظة لا، فالفعل المضارع على هذه القراءة، وأن المصدرية المدغمة في لا ينسبك منهما مصدر في محل نصب على الأظهر، وقيل في محل جرّ وفي إعرابه أوجه :
الأوّل : أنه منصوب على أنه مفعول من أجله، أي :﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾، من أجل ﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ﴾، أي : من أجل عدم سجودهم للَّه، أو ﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾، لأجل ﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ﴾، وبالأوّل قال الأخفش. وبالثاني قال الكسائي، وقال اليزيدي وغيره : هو منصوب على أنه بدل من ﴿ أَعْمَالَهُمْ ﴾، أي :﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ ﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ ﴾، أي : عدم سجودهم، وعلى هذا فأعمالهم هي عدم سجودهم للَّه، وهذا الإعراب يدلّ على أن الترك عمل ؛ كما أوضحناه في سورة «الفرقان »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبّ رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا القرآن مَهْجُوراً ﴾ [ الفرقان : ٣٠ ]، وقال بعضهم : إن المصدر المذكور في محل خفض على أنه بدل من ﴿ السَّبِيلِ ﴾، أو على أن العامل فيه ﴿ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ﴾، وعلى هذين الوجهين فلفظة لا صلة، فعلى الأول منهما. فالمعنى :﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ سجودهم للَّه، وعلى هذا فسبيل الحقّ الذي صدّوا عنه هو السجود للَّه، ولا زائدة للتوكيد. وعلى الثاني، فالمعنى :﴿ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ﴾ لأن يسجدوا للَّه، أي : للسجود له، ولا زائدة أيضًا للتوكيد، ومعلوم في علم العربية أن المصدر المنسبك من فعل، وموصول حرفي إن كان الفعل منفيًّا ذكرت لفظة عدم قبل المصدر، ليؤدى بها معنى النفي الداخل على الفعل، فقولك مثلاً : عجبت من أن لا تقوم، إذا سبكت مصدره لزم أن تقول : عجبت من عدم قيامك، وإذا كان الفعل مثبتًا لم تذكر مع المصدر لفظة عدم، فلو قلت : عجبت من أن تقوم، فإنك تقول في سبك مصدره : عجبت من قيامك ؛ كما لا يخفى. وعليه : فالمصدر المنسبك من قوله :﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ ﴾ يلزم أن يقال فيه عدم السجود إلا إذا اعتبرت لفطة لا زائدة، وقد أشرنا في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [ الأعراف : ١٢ ]، إلى أنّا أوضحنا الكلام على زيادة لا لتوكيد الكلام في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب »، في أوّل سورة «البلد »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ [ البلد : ١ ]، وسنذكر طرفًا من كلامنا فيه هنا.
فقد قلنا فيه : الأول وعليه الجمهور : أن لا هنا صلة على عادة العرب، فإنها ربما لفظت بلفظة لا من غير قصد معناها الأصلي بل لمجرّد تقوية الكلام وتوكيده ؛ كقوله تعالى :﴿ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ ﴾ [ طه : ٩٢ ]، يعني أن تتبّعني، وقوله تعالى :﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ﴾ [ ص : ٧٥ ]، أي : أن تسجد على أحد القولين. ويدلّ له قوله تعالى في سورة «ص » :﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ﴾ [ ص : ٧٥ ]، وقوله تعالى :﴿ لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ﴾ [ الحديد : ٢٩ ]، وقوله تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ النساء : ٦٥ ] الآية، أي : فوربّك، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيّئَةُ ﴾ [ فصلت : ٣٤ ]، أي : والسيّئة، وقوله تعالى :﴿ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٥ ]، على أحد القولين. وقوله تعالى :﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾[ الأنعام : ١٠٩ ]، على أحد القولين. وقوله تعالى :﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] الآية، على أحد الأقوال الماضية ؛ وكقول أبي النجم :
فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا
يعني : أن تسخر، وقول الآخر :
وتلحينني في اللهو ألا أحبه وللهو داع دائب غير غافل
يعني : أن أحبه، ولا زائدة. وقول الآخر :
أبي جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمفع الجود قاتله
يعني : أبا جوده البخل، ولا زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير، ولا سيّما على رواية البخل بالجرّ ؛ لأن لا عليها مضاف بمعنى لفظة لا، فليست زائدة على رواية الجرّ، وقول امرئ القيس :
فلا وأبيك أنبت العامري لا يدعي القوم أني أفر
يعني : وأبيك، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، قول الشاعر :
ما كان يرضى رسول اللَّه دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر
يعني : عمر ولا صلة، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج :
في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح جشر
والحور : الهلكة، يعني : في بئر هلكة ولا صلة، قاله أبو عبيدة وغيره. وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي :
أفعنك لا برق كان وميضه غاب تسنمه ضرام مثقب
ويروى : أفمنك، وتشيمه بدل أفعنك وتسنمه، يعني : أفعنك برق، ولا صلة، ومن شواهد زيادتها قول الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع
يعني : كاد يتقطع، وأمّا استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ :
أعائش ما لقومك لا أراهم يضيعون الهجان مع المضيع
فغلط منه، لأن لا في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة، ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله، مع أن أهلها يحفظون مالهم، أي : لا أرى قومك يضيعون مالهم وأنت تعاتبينني في حفظ مالي، وما ذكره الفراء من أن لفظة لا، لا تكون صلة إلاّ في الكلام الذي فيه معنى الجحد، فهو لا يصح على الإطلاق، بدليل بعض الأمثلة المتقدّمة التي لا جحد فيها كهذه الآية، على القول بأنّ لا فيها صلة، وكبيت ساعدة الهذلي، وما ذكره الزمخشري من زيادة لا في أوّل الكلام دون غيره، فلا دليل عليه، انتهى محل الغرض من كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ».
وقرأ هذا الحرف الكسائي وحده من السبعة :﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ ﴾ بتخفيف اللام من قوله :﴿ ألا ﴾، وعلى قراءة الكسائي هذه، فلفظة ﴿ ألا ﴾ حرف استفتاح، وتنبيه ويا حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره : ألا يا هؤلاء اسجدوا، واسجدوا فعل أمر ومعلوم في علم القراءات، أنك إذا قيل لك : قف على كل كلمة بانفرادها في قراءة الكسائي، أنك تقف في قوله :﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ ﴾، ثلاث وقفات، الأولى : أن تقف على ألا. والثانية : أن تقف على يا. والثالثة : أن تقف على اسجدوا، وهذا الوقف وقف اختبار لا وقف اختيار، وأمّا على قراءة الجمهور، فإنك تقف وقفتين فقط : الأولى : على ﴿ ألا ﴾، ولا تقف على أن لأنها مدغمة في لا، والثانية : أنك تقف على ﴿ يَسْجُدُواْ ﴾.
واعلم أنه على قراءة الكسائي قد حذف في الخط ألفان، الأولى : الألف المتّصلة بياء النداء، والثانية : ألف الوصل في قوله :﴿ اسْجُدُواْ ﴾، ووجه بعض أهل العلم إسقاطهما في الخط، بأنهما لما سقطتا في اللفظ، سقطتا في الكتابة، قالوا : ومثل ذلك في القرآن كثير.
واعلم أن جمهور أهل العلم على ما ذكرنا في قراءة الكسائي من أن لفظة ﴿ ألا ﴾ للاستفتاح والتنبيه، وأن يا حرف نداء حذف منه الألف في الخط، واسجدوا فعل أمر، قالوا : وحذف المنادى مع ذكر أداة النداء أسلوب عربي معروف، ومنه قول الأخطل :
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر وإن كان حيّانا عدى آخر الدهر
وقول ذي الرمّة :
ألا يا سلمى يا دارمي على البلا ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
فقوله في البيتين : ألا يا اسلمي، أي : يا هذه اسلمي، وقول الآخر :
*لا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد*
وقول الشمّاخ :
ألا يا اصبحاني قبل غارة سنجالي وقبل منايا قد حضرن وآجالي
يعني : ألا يا صحبي اصبحاني، ونظيره قول الآخر :
*ألا يا اسقياني قبل خيل أبي بكر*
ومنه قول الآخر :
فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي
يعني : ألا يا هذا اسمع، وأنشد سيبويه لحذف المنادى مع ذكر أداته، قول الشاعر :
يا لعنة اللَّه والأقوام كلّهم والصالحين على سمعان من جار
بضمّ التاء من قوله : لعنة اللَّه، ثم قال : فيالغير اللعنة، يعني أن المراد : يا قوم لعنة اللَّه، إلى آخره. وأنشد صاحب اللسان لحذف المنادى، مع ذكر أداته مستشهدًا لقراءة الكسائي المذكورة، قول الشاعر :
يا قاتل اللَّه صبيانًا تجيء بهم أم الهنينين من زندلها واري
ثم قال : كأنه أراد : يا قوم قاتل اللَّه صبيانًا، وقول الآخر :
يا من رأى بارقًا أكفكفه بين ذراعي وجبهة الأسد
ثم قال : كأنه دعا يا قوم يا إخوتي، فلمّا أقبلوا عليه قال : من رأى. وأنشد بعضهم لحذف المنادى مع ذكر أداته، قول عنترة في معلّقته :
يا شاة ما قنص لمن حلّت له حرمت على وليتها لم تحرم
قالوا : التقدير : يا قوم انظروا شاة ما قنص.
واعلم أن جماعة من أهل العلم، قالوا : إن يا على قراءة الكسائي، وفي جميع الشواهد التي ذكرنا ليست للنداء، وإنما هي للتنبيه فكل من ألا ويا : حرف تنبيه كرّر للتوكيد، وممّن روي عنه هذا القول : أبو الحسن بن عصفور، وهذا القول اختاره أبو حيّان في «البحر المحيط »، قال فيه : والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ل
قوله تعالى :﴿ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾.
جاء معناه موضحًا في آيات متعدّدة ؛ كقوله تعالى :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ﴾ [ فصلت : ٤٦ ]، وقوله :﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾ [ الروم : ٤٤ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ ﴾ [ الإسراء : ٧ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ ﴾[ ٤٠ ].
جاء معناه موضحًا أيضًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن في الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ ﴾ [ إبراهيم : ٨ ]، وقوله تعالى :﴿ فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ ﴾ [ التغابن : ٦ ]، وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ﴾ [ فاطر : ١٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم ﴾ [ محمد : ٣٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أرسل نبيّه صالحًا إلى ثمود، ﴿ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴾، ولم يبيّن هنا خصومة الفريقين، ولكنّه بيّن ذلك في سورة «الأعراف »، في قوله تعالى :﴿ قَالَ الْمَلاَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ قَالُواْ إِنَّا بالذي آمنتم به كافرون ﴾ [ الأعراف : ٧٥-٧٦ ]، فهذه خصومتهم وأعظم أنواع الخصومة، الخصومة في الكفر والإيمان.
قوله تعالى :﴿ قَالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الرعد »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ﴾ [ الرعد : ٦ ].
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾.
قوله :﴿ اطَّيَّرْنَا بِكَ ﴾، أي : تشاءمنا بك، وكان قوم صالح إذا نزل بهم قحط أو بلاء أو مصائب، قالوا : ما جاءنا هذا إلا من شؤم صالح، ومن آمن به. والتطيّر : التشاؤم، وأصل اشتقاقه من التشاؤم بزجر الطير.
وقد بيَّنا كيفية التشاؤم والتيامن بالطير في سورة «الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ]، وقوله تعالى :﴿ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ﴾، قال بعض أهل العلم : أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشرّكم عند اللَّه، فالشر الذي أصابكم بذنوبكم لا بشؤم صالح، ومن آمن به من قومه.
وقد قدّمنا معنى طائر الإنسان في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ في عُنُقِهِ ﴾ [ الإسراء : ١٣ ]، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من تشاؤم الكفار بصالح ومن معه من المؤمنين، جاء مثله موضحًا في آيات أُخر من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى في تشاؤم فرعون وقومه بموسى :﴿ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ الأعراف : ١٣١ ]، وقوله تعالى في تطيّر كفار قريش بنبيّنا صلى الله عليه وسلم :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله فمالُ هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ﴾ [ النساء : ٧٨ ]، والحسنة في الآيتين : النعمة كالرزق والخصب والعافية، والسيّئة : المصيبة بالجدب والقحط، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات ؛ وكقوله تعالى :﴿ قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ﴾ [ يس : ١٨-١٩ ] أي : بليتكم جاءتكم من ذنوبكم وكفركم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾، قال بعض العلماء : تختبرون. وقال بعضهم : تعذبون ؛ كقوله :﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ [ الذاريات : ١٣ ]، وقد قدّمنا أن أصل الفتنة في اللغة وضع الذهب في النار ليختبر بالسبك أزائف هو أم خالص ؟ وأنها أطلقت في القرآن على أربعة معان :
الأول : إطلاقها على الإحراق بالنار ؛ كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ [ الذاريات : ١٣ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [ البروج : ١٠ ]، أي : حرّقوهم بنار الأخدود على أحد التفسيرين، وقد اختاره بعض المحقّقين.
المعنى الثاني : إطلاق الفتنة على الاختبار، وهذا هو أكثرها استعمالاً ؛ كقوله تعالى :﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ بالجن : ١٦-١٧ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
الثالث : إطلاق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيّئة خاصة، ومن هنا أطلقت الفتنة على الكفر والضلال ؛ كقوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [ الأنفال : ٣٩ ]، أي : لا يبقى شرك، وهذا التفسير الصحيح، دلَّ عليه الكتاب والسنّة.
أمّا الكتاب، فقد دلَّ عليه قوله بعده في «البقرة » :﴿ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ]، وفي «الأنفال » :﴿ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ ﴾ [ الأنفال : ٣٩ ]، فإنه يوضح أن معنى :﴿ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾، أي : لا يبقى شرك ؛ لأن الدين لا يكون كلّه للَّه، ما دام في الأرض شرك، كما ترى.
وأمّا السنة : ففي قوله صلى الله عليه وسلم :«أمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلاّ اللَّه »، الحديث. فقد جعل صلى الله عليه وسلم الغاية التي ينتهي إليها قتاله للناس، هي شهادة ألا إله إلاّ اللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو واضح في أن معنى :﴿ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ : لا يبقى شرك، فالآية والحديث كلاهما دالّ على أن الغاية التي ينتهي إليها قتال الكفار هي ألا يبقى في الأرض شرك، إلاّ أنّه تعالى في الآية عبّر عن هذا المعنى بقوله :﴿ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةً ﴾، وقد عبّر صلى الله عليه وسلم عنه بقوله :«حتى يشهدوا ألا إله إلاّ اللَّه »، فالغاية في الآية والحديث واحدة في المعنى، كما ترى.
الرابع : هو إطلاق الفتنة على الحجّة، في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]، أي : لم تكن حجتهم، كما قاله غير واحد، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾.
قد دلَّت هذه الآية الكريمة على أن نبيّ اللَّه صالحًا عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام نفعه اللَّه بنصرة وليّه، أي : أوليائه ؛ لأنه مضاف إلى معرفة، ووجه نصرتهم له : أن التسعة المذكورين في قوله تعالى :﴿ وَكَانَ في الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُواْ تَقَاسَمُواْ ﴾ [ النمل : ٤٨-٤٩ ]، أي : تحالفوا باللَّه، ﴿ لَنُبَيّتَنَّهُ ﴾، أي : لنباغتنه بياتًا، أي : ليلاً فنقتله ونقتل أهله معه، ﴿ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ ﴾، أي : أوليائه وعصبته، ﴿ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ ﴾، أي : ولا مهلكه هو، وهذا يدلّ على أنهم لا يقدرون أن يقتلوه علنًا، لنصرة أوليائه له، وإنكارهم شهود مهلك أهله دليل على خوفهم من أوليائه، والظاهر أن هذه النصرة عصبية نسبية لا تمتّ إلى الدين بصلة، وأن أولياءه ليسوا مسلمين.
وقد قدّمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة «هود »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالُواْ يا أَبَانَا شُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ﴾ [ هود : ٩١ ] الآية، وفي سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا القرآن يِهْدِى لِلَّتِي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ]. وقوله تعالى في هذه الآية :﴿ تَقَاسَمُواْ ﴾، التحقيق أنه فعل أمر محكي بالقول. وأجاز الزمخشري، وابن عطية أن يكون ماضيًا في موضع الحال، والأوّل هو الصواب إن شاء اللَّه، ونسبه أبو حيان للجمهور، وقوله في هذه الآية :﴿ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾، التحقيق فيه أنهم كاذبون في قولهم :﴿ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾، كما لا يخفى، وبه تعلم أن ما تكلفه الزمخشري في «الكشاف »، من كونهم صادقين لا وجه له، كما نبّه عليه أبو حيان وأوضحه، وقرأ عامة السبعة غير حمزة والكسائي ﴿ لَنُبَيّتَنَّهُ ﴾ بالنون المضمومة بعد اللام، وفتح الفوقية المثناة التي بعد التحتية المثناة، وقرأ حمزة والكسائي :﴿ لَنُبَيّتَنَّهُ ﴾ بالتاء الفوقية المضمومة بعد اللام، وضمّ التاء الفوقية التي بعد الياء التحتية، وقرأ عامة السبعة أيضاً غير حمزة والكسائي :﴿ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ ﴾، بالنون المفتوحة موضع التاء، وفتح اللام الثانية، وقرأ حمزة والكسائي :﴿ ثُمَّ ﴾، بفتح التاء الفوقية بعد اللام الأولى، وضمّ اللام الثانية، وقرأ عاصم :﴿ شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ ﴾ بفتح الميم، والباقون بضمّها، وقرأ حفص عن عاصم :﴿ مُهْلِكَ ﴾ بكسر اللام، والباقون بفتحها.
فتحصل أن حفصًا عن عاصم قرأ ﴿ مُهْلِكَ ﴾ بفتح الميم وكسر اللام، وأن أبا بكر أعني شعبة قرأ عن عاصم :﴿ مُهْلِكَ ﴾ بفتح الميم واللام، وأن غير عاصم قرأ :﴿ مَهْلِكَ أَهْلِهِ ﴾، بضم الميم وفتح اللام، فعلى قراءة من قرأ ﴿ مُهْلِكَ ﴾ بفتح الميم، فهو مصدر ميمي من هلك الثلاثي، ويحتمل أن يكون اسم زمان أو مكان، وعلى قراءة من قرأ ﴿ مُهْلِكَ ﴾ بضم الميم، فهو مصدر ميمي من أهلك الرباعي، ويحتمل أن يكون أيضًا اسم مكان أو زمان.
قوله تعالى :﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ في ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآيات الكريمة، ثلاث أمور :
الأول : أنه دمّر جميع قوم صالح، ومن جملتهم تسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وذلك في قوله :﴿ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، أي : وهم قوم صالح ثمود، ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ﴾، أي : خالية من السكان لهلاك جميع أهلها، ﴿ بِمَا ظَلَمُواْ ﴾، أي : بسبب ظلمهم الذي هو كفرهم وتمرّدهم وقتلهم ناقة اللَّه التي جعلها آية لهم، وقال بعضهم :﴿ خَاوِيَةٍ ﴾، أي : ساقطًا أعلاها على أسفلها.
الثاني : أنه جلَّ وعلا جعل إهلاكه قوم صالح آية، أي : عبرة يتّعظ بها من بعدهم، فيحذر من الكفر، وتكذيب الرسل، لئلا ينزل به ما نزل بهم من التدمير، وذلك في قوله :﴿ إِنَّ في ذالِكَ لآية لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾.
الثالث : أنه تعالى أنجى الذين آمنوا وكانوا يتّقون من الهلاك والعذاب، وهو نبيّ اللَّه صالح ومن آمن به من قومه، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾، وهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها جلَّ وعلا هنا، جاءت موضحة في آيات أُخر.
أما إنجاؤه نبيّه صالحًا، ومن آمن به وإهلاكه ثمود، فقد أوضحه جلَّ وعلا في مواضع من كتابه ؛ كقوله في سورة «هود » :﴿ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَمِنْ خزي يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ﴾ [ هود : ٦٦-٦٨ ]. وآية «هود » هذه، قد بيَّنت أيضًا التدمير المجمل في آية «النمل » هذه، فالتدمير المذكور في قوله تعالى :﴿ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، بيّنت آية «هود » أنه الإهلاك بالصيحة، في قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [ هود : ٦٨ ]، أي : وهم موتى. وأمّا كونه جعل إهلاكه إياهم آية، فقد أوضحه أيضًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى فيهم :﴿ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ في ذَلِكَ لآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [ الشعراء : ١٥٧-١٥٩ ]، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ النمل : ٥١ ]، قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر :﴿ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ ﴾ بكسرة همزة ﴿ أَنّا ﴾ على الاستئناف، وقرأه الكوفيون وهم : عاصم وحمزة والكسائي :﴿ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ ﴾، بفتح همزة ﴿ أَنّا ﴾. وفي إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها على قراءة الكوفيين أوجه، منها : أنه بدل من عاقبة مكرهم، ومنها : أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هي، أي : عاقبة مكرهم تدميرنا إياهم.
وهذان الوجهان هما أقرب الأوجه عندي للصواب، ولذا تركنا غيرهما من الأوجه، والضمير في قوله :﴿ مَكْرِهِمْ ﴾، وفي قوله :﴿ دَمَّرْنَاهُمْ ﴾، راجع إلى التسعة المذكورين في قوله :﴿ وَكَانَ في الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ ﴾ [ النمل : ٤٨ ] الآية، وقوله :﴿ خَاوِيَةٍ ﴾ حال في بيوتهم، والعامل فيه الإشارة الكامنة في معنى تلك.
قوله تعالى :﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾[ ٥٤-٥٨ ].
قد قدّمنا الآيات التي فيها إيضاح قصة لوط وقومه في سورة «هود »، في الكلام على قصة لوط وقومه، وبيّنا هناك كلام أهل العلم ومناقشة أدلّتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط، وذكرنا الآيات المبيّنة لها أيضًا في سورة «الحجر »، في الكلام على قصة لوط وقومه، وذكرنا بعض ذلك في سورة «الفرقان ».
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:قوله تعالى :﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾[ ٥٤-٥٨ ].
قد قدّمنا الآيات التي فيها إيضاح قصة لوط وقومه في سورة «هود »، في الكلام على قصة لوط وقومه، وبيّنا هناك كلام أهل العلم ومناقشة أدلّتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط، وذكرنا الآيات المبيّنة لها أيضًا في سورة «الحجر »، في الكلام على قصة لوط وقومه، وذكرنا بعض ذلك في سورة «الفرقان ».

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:قوله تعالى :﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾[ ٥٤-٥٨ ].
قد قدّمنا الآيات التي فيها إيضاح قصة لوط وقومه في سورة «هود »، في الكلام على قصة لوط وقومه، وبيّنا هناك كلام أهل العلم ومناقشة أدلّتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط، وذكرنا الآيات المبيّنة لها أيضًا في سورة «الحجر »، في الكلام على قصة لوط وقومه، وذكرنا بعض ذلك في سورة «الفرقان ».

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:قوله تعالى :﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾[ ٥٤-٥٨ ].
قد قدّمنا الآيات التي فيها إيضاح قصة لوط وقومه في سورة «هود »، في الكلام على قصة لوط وقومه، وبيّنا هناك كلام أهل العلم ومناقشة أدلّتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط، وذكرنا الآيات المبيّنة لها أيضًا في سورة «الحجر »، في الكلام على قصة لوط وقومه، وذكرنا بعض ذلك في سورة «الفرقان ».

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:قوله تعالى :﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾[ ٥٤-٥٨ ].
قد قدّمنا الآيات التي فيها إيضاح قصة لوط وقومه في سورة «هود »، في الكلام على قصة لوط وقومه، وبيّنا هناك كلام أهل العلم ومناقشة أدلّتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط، وذكرنا الآيات المبيّنة لها أيضًا في سورة «الحجر »، في الكلام على قصة لوط وقومه، وذكرنا بعض ذلك في سورة «الفرقان ».

وقوله تعالى :﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا ﴾.
وقوله تعالى :﴿ أَمَّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً ﴾.
قد أوضحنا ما تضمُّنته من البراهين على البعث في أوّل سورة «البقرة »، وأوّل سورة «النحل ».
قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السَّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ] الآية، وفي مواضع أُخر.
قوله تعالى :﴿ بَلِ ادَارَكَ عِلْمُهُمْ في الآخِرَةِ بَلْ هُمْ في شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ﴾.
أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه الآية الكريمة أن المعنى :﴿ بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ ﴾، أي : تكامل علمهم في الآخرة حين يعاينونها، أي : يعلمون في الآخرة علمًا كاملاً، ما كانوا يجهلونه في الدنيا، وقوله :﴿ بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ في الآخِرَةِ بَلْ هُمْ في شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ ﴾، أي : في دار الدنيا، فهذا الذي كانوا يشكّون فيه في دار الدنيا، ويعمون عنه مما جاءتهم به الرسل، يعلمونه في الآخرة علمًا كاملاً لا يخالجه شكّ، عند معاينتهم لما كانوا ينكرونه منه البعث والجزاء.
وإنما اخترنا هذا القول دون غيره من أقوال المفسّرين في الآية، لأن القرآن دلَّ عليه دلالة واضحة في آيات متعدّدة كقوله تعالى :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ في ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ مريم : ٣٨ ]، فقوله :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾، بمعنى : ما أسمعهم وما أبصرهم للحق الذي كانوا ينكرونه يوم يأتوننا، أي : يوم القيامة، وهذا يوضح معنى قوله :﴿ بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ في الآخِرَةِ ﴾، أي : تكامل علمهم فيها لمبالغتهم في سمع الحق وإبصاره في ذلك الوقت، وقوله :﴿ لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ في ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ مريم : ٣٨ ]، يوضح معنى قوله :﴿ بَلْ هُمْ في شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ ﴾، لأن ضلالهم المبيّن اليوم، أي : في دار الدنيا، هو شكّهم في الآخرة، وعماهم عنها ؛ وكقوله تعالى :﴿ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ ق : ٢٢ ]، أي : علمك اليوم بما كنت تنكره في الدنيا مما جاءتك به الرسل حديد، أي : قوي كامل.
وقد بيَّنا في كتابنا «دفع إبهام الاضطراب عن آيات الكتاب »، في سورة «الشورى »، في الجواب عمّا يتوهم من التعارض بين قوله تعالى :﴿ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ ﴾ [ الشورى : ٤٥ ]، وقوله تعالى :﴿ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ ق : ٢٢ ]، أن المراد بحدّة البصر في ذلك اليوم : كما العلم وقوّة المعرفة. وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ١٢ ]، فقوله :﴿ إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ أي : يوم القيامة، يوضح معنى قوله هنا :﴿ بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ في الآخرة ﴾، وكقوله تعالى :﴿ وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا ﴾ [ الكهف : ٤٨ ]، فعرضهم على ربهم صفًّا يتدارك به علمهم، لما كانوا ينكرونه، وقوله :﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا ﴾ [ الكهف : ٤٨ ]، صريح في أنهم في الدنيا كانوا في شكّ وعمى عن البعث والجزاء كما ترى، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن قوله :﴿ بَلِ ادّارَكَ ﴾، فيه اثنتا عشرة قراءة اثنتان منها فقط سبعيّتان، فقد قرأه عامّة السبعة، غير ابن كثير وأبي عمرو :﴿ بَلِ ادّارَكَ ﴾ بكسر اللام من ﴿ بَلِ ﴾ وتشديد الدال بعدها ألف والألف التي قبل الدال همزة وصل، وأصله : تدارك بوزن : تفاعل، وقد قدّمنا وجه الإدغام، واستجلاب همزة الوصل في تفاعل وتفعل وأمثلة ذلك في القرآن، وبعض شواهده العربية في سورة «طه »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَإِذَا هي تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ [ الأعراف : ١١٧ ]، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : بل أدرك بسكون اللام من ﴿ بَلِ ﴾، وهمزة قطع مفتوحة، مع سكون الدال على وزن : أفعل.
والمعنى على قراءة الجمهور :﴿ بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ ﴾، أي : تدارك بمعنى تكامل ؛ كقوله :﴿ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو : بل أدرك.
قال البغوي : أي بلغ ولحق، كما يقال : أدرك علمي إذا لحقه وبلغه، والإضراب في قوله تعالى :﴿ بَلِ ادارَكَ ﴾، ﴿ بْل هُمْ في شَكّ ﴾، ﴿ بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ ﴾، إضراب انتقالي، والظاهر أن من في قوله تعالى :﴿ بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ ﴾، بمعنى : عن، و﴿ عَمُونَ ﴾ جمع عم، وهو الوصف من عمى يعمي فهو أعمى وعم، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٦٤ ]، وقول زهير في معلّقته :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا القرآن يَقُصُّ عَلَى بني إسرائيل أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾.
ومن ذلك اختلافهم في عيسى، فقد قدَّمنا في سورة «مريم »، ادّعاءهم على أُمّه الفاحشة، مع أن طائفة منهم آمنت به ؛ كما يشير إليه قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أنصارُ الله فآمنتْ طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ﴾ [ الصف : ١٤ ]، والطائفة التي آمنت قالت الحق في عيسى، والتي كفرت افترت عليه وعلى أُمّه، كما تقدّم إيضاحه في سورة «مريم ».
وقد قصّ اللَّه عليهم في سورة «مريم » و سورة «النساء » وغيرهما، حقيقة عيسى ابن مريم، وهي أنه ﴿ عَبْدُ اللَّهِ ﴾ ورسوله ﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ ﴾، ولمّا بيَّن لهم حقيقة أمره مفصّلة في سورة «مريم »، قال :﴿ ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ ﴾ [ مريم : ٣٤ ]، وذلك يبيّن بعض ما دلّ عليه قوله تعالى هنا :﴿ إِنَّ هَذَا القرآن يَقُصُّ عَلَى بني إسرائيل أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في أوّل سورة «الكهف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ [ الكهف : ١ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ ﴾. اعلم أن التحقيق الذي دلّت عليه القرائن القرآنية واستقراء القرآن، أن معنى قوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾، لا يصح فيه من أقوال العلماء، إلا تفسيران :
الأول : أن المعنى :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾، أي : لا تسمع الكفار الذين أمات اللَّه قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع ؛ لأن اللَّه كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحقّ سماع اهتداء وانتفاع. ومن القرائن القرآنية الدالَّة على ما ذكرنا، أنّه جلَّ وعلا قال بعده :﴿ إن تُسمع إلاّ من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ﴾ [ النمل : ٨١ ].
فاتّضح بهذه القرينة أن المعنى :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾، أي : الكفار الذين هم أشقياء في علم اللَّه إسماع هدى وقبول للحق، ما تسمع ذلك الإسماع ﴿ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْىِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ﴾، فمقابلته جلَّ وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها، لمن يؤمن بآياته، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية : موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن، ولو كان المراد بالموت في قوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾، مفارقة الروح للبدن لما قابل قوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾، بقوله :{ إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا، بل لقابله بما يناسبه كأن يقال : إن تسمع إلاّ من لم يمت، أي : يفارق روحه بدنه، كما هو واضح.
وإذا علمت أن هذه القرينة القرآنية دلّت على أن المراد بالموتى هنا الأشقياء، الذين لا يسمعون الحقّ سماع هدى وقبول.
فاعلم أن استقراء القرآن العظيم يدلّ على هذا المعنى ؛ كقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٦ ]، وقد أجمع من يعتدّ به من أهل العلم أن المراد بالموتى في قوله :﴿ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ﴾ : الكفّار، ويدلّ له مقابلة الموتى في قوله :﴿ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ﴾ بالذين يسمعون، في قوله :﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ﴾، ويوضح ذلك قوله تعالى قبله :﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً في الأرض أَوْ سُلَّماً في السَّمَاء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ﴾ [ الأنعام : ٣٥ ]، أي : فافعل، ثم قال :﴿ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٥-٣٦ ] الآية، وهذا واضح فيما ذكرنا. ولو كان يراد بالموتى من فارقت أرواحهم أبدانهم لقابل الموتى بما يناسبهم ؛ كأن يقال : إنما يستجيب الأحياء، أي : الذين لم تفارق أرواحهم أبدانهم، وكقوله تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كذلك زُيّن للكافرين ما كانوا يعملون ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ].
فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا ﴾، أي : كافرًا فأحييناه، أي : بالإيمان والهدى، وهذا لا نزاع فيه، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر بلا خلاف ؛ وكقوله :﴿ لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [ يس : ٧٠ ]، وكقوله تعالى :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاء وَلاَ الأمْوَاتُ ﴾ [ فاطر : ٢٢ ]، أي : لا يستوي المؤمنون والكافرون.
ومن أوضح الأدلّة على هذا المعنى، أن قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ الآية، وما في معناها من الآيات كلّها، تسلية له صلى الله عليه وسلم، لأنه يحزنه عدم إيمانهم، كما بيّنه تعالى في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٧ ] الآية، وقوله :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾، [ الحجر : ٨٨ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [ المائدة : ٦٨ ]، وكقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ﴾ [ فاطر : ٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ﴾ [ الكهف : ٦ ]، وقوله تعالى :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٣ ]، إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدّم إيضاحه. ولما كان يحزنه كفرهم وعدم إيمانهم، أنزل اللَّه آيات كثيرة تسلية له صلى الله عليه وسلم بيّن له فيها أنه لا قدرة له صلى الله عليه وسلم على هدي من أضلّه اللَّه، فإن الهدى والإضلال بيده جلَّ وعلا وحده، وأوضح له أنه نذير، وقد أتى بما عليه فأنذرهم على أَكمل الوجوه وأبلغها، وأن هداهم وإضلالهم بيد من خلقهم.
ومن الآيات النازلة تسلية له صلى الله عليه وسلم، قوله هنا :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾، أي : لا تسمع من أضلّه اللَّه إسماع هدى وقبول، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا : يعني ما تسمع إسماع هدى وقبول، إلاّ من هديناهم للإيمان بآياتنا ﴿ فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾.
والآيات الدالَّة على هذا المعنى كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ ﴾ [ النحل : ٣٧ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ [ المائدة : ٤١ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [ يونس : ٩٩-١٠٠ ]، إلى غير ذلك من الآيات. ولو كان معنى الآية وما شابهها :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾، أي : الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم، كما ترى.
واعلم : أن آية «النمل » هذه، جاءت آيتان أُخريان بمعناها :
الأولى منهما : قوله تعالى في سورة «الروم » :﴿ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [ الروم : ٥٢-٥٣ ]، ولفظ آية «الروم » هذه، كلفظ آية «النمل » التي نحن بصددها، فيكفي في بيان آية «الروم »، ما ذكرنا في آية «النمل ».
والثانية منهما : قوله تعالى في سورة «فاطر » :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في الْقُبُورِ ﴾ [ فاطر : ٢٢ ]، وآية «فاطر » هذه كآية «النمل » و «الروم » المتقدمتين، لأن المراد بقوله فيها :﴿ مَن في الْقُبُورِ ﴾ الموتى، فلا فرق بين قوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ [ النمل : ٨٠ ]، وبين قوله :﴿ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في الْقُبُورِ ﴾ ؛ لأن المراد بالموتى ومن في القبور واحد ؛ كقوله تعالى :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن في الْقُبُورِ ﴾ [ الحج : ٧ ]، أي : يبعث جميع الموتى من قُبِر منهم ومن لم يقبر، وقد دلَّت قرائن قرآنيّة أيضًا على أن معنى آية «فاطر » هذه كمعنى آية «الروم »، منها قوله تعالى قبلها :﴿ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ﴾ [ فاطر : ١٨ ] الآية، لأن معناها : لا ينفع إنذارك إلا من هداه اللَّه ووفّقه فصار ممن يخشى ربّه بالغيب ويقيم الصلاة، ﴿ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في الْقُبُورِ ﴾، أي : الموتى، أي : الكفار الذين سبق لهم الشقاء، كما تقدّم. ومنها قوله تعالى أيضًا :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ [ فاطر : ١٩ ]، أي : المؤمن والكافر. وقوله تعالى ( بعدها ) :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاء وَلاَ الأمْوَاتُ ﴾ [ فاطر : ٢٢ ]، أي : المؤمنون والكفار. ومنها قوله تعالى بعده :﴿ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٢٣ ] أي : ليس الإضلال والهدى بيدك ما أنت إلا نذير، أي : وقد بلّغت.
التفسير الثاني : هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مثل ضرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتّباع ؛ كما قال تعالى :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء ﴾ [ البقرة : ١٧١ ]، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع، كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذين ينتفعون به، وأمّا سماع آخر فلا، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه أبو العباس ابن تيمية، كما سيأتي إيضاحه إن شاء اللَّه في هذا المبحث.
وهذا التفسير الأخير دلَّت عليه أيضًا آيات من كتاب اللَّه، جاء فيها التصريح بالبكم والصمم والعمى مسندًا إلى قوم يتكلّمون ويسمعون ويبصرون، والمراد بصممهم، صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام، وذلك كقوله تعالى في المنافقين :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾[ البقرة : ١٨ ]، فقد قال فيهم :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ ﴾ مع شدّة فصاحتهم وحلاوة ألسنتهم، كما صرّح به في قوله تعالى فيهم :﴿ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ [ المنافقون : ٤ ]، أي : لفصاحتهم، وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ [ الأحزاب : ١٩ ]، فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسنة حداد، هم الذين قال اللَّه فيهم :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ ﴾ [ البقرة : ١٨ ]، وما ذلك إلاَّ أن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص، وهو ما ينتفع به من الحقّ، فهذا وحده هو الذي صمّوا عنه فلم يسمعوه، وبكموا عنه فلم ينطقوا به، وعموا عنه فلم يروه مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه، وينطقون به ؛ كما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شيء ﴾ [ الأحقاف : ٢٦ ] الآية، وهذا واضح كما ترى.
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح مع شواهده العربية في كتابنا «دفع إيهام ا
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾.
ظاهر هذه الآية الكريمة خصوص الحشر بهذه الأفواج المكذبة بآيات اللَّه، ولكنه قد دلَّت آيات كثيرة على عموم الحشر لجميع الخلائق ؛ كقوله تعالى بعد هذا بقليل :﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ﴾ [ النمل : ٨٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ في الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شيء ثُمَّ إِلَى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب »، في آية «النمل » هذه، في الكلام على وجه الجمع بين قوله تعالى فيها :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً ﴾ الآية، وبين قوله تعالى :﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ﴾ [ النمل : ٨٧ ]، ونحوها من الآيات، وذكرنا قول الألوسي في تفسيره أن قوله :﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ﴾ في الحشر العام لجميع الناس للحساب والجزاء. وقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً ﴾ الآية، في الحشر الخاص بهذه الأفواج المكذبة ؛ لأجل التوبيخ المنصوص عليه في قوله هنا :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً ﴾ [ النمل : ٨٤ ] الآية، وهذا يدلّ عليه القرآن، كما ترى.
وقال بعضهم : هذه الأفواج التي تحشر حشرًا خاصًّا هي رؤساء أهل الضلال وقادتهم، وعليه فالآية كقوله تعالى :﴿ فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٨-٦٩ ]، والفوج : الجماعة من الناس. ومنه قوله تعالى :﴿ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ﴾ [ النصر : ٢ ]، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [ النمل : ٨٣ ]، أي : يردّ أوّلهم على آخرهم حتى يجتمعوا، ثم يدفعون جميعًا، كما قاله غير واحد.
﴿ حَتَّى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : أي يسألون عن اعتقادهم وأعمالهم، ومقصوده بسؤالهم عن اعتقادهم قوله تعالى :﴿ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي ﴾، لأن التصديق بآيات اللَّه التي هي هذا القرآن من عقائد الإيمان التي لا بدّ منها، كما هو معلوم في حديث جبريل وغيره، ومقصوده بسؤالهم عن أعمالهم قوله تعالى :﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، والسؤال المذكور سؤال توبيخ وتقريع، فقد وبّخهم تعالى فيه على فساد الاعتقاد، وفساد الأعمال، والتوبيخ عليهما معًا المذكور هنا جاء مثله في قوله تعالى :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [ القيامة : ٣١-٣٢ ]، كما أشار له ابن كثير رحمه اللَّه، فقوله تعالى :﴿ فَلاَ صَدَّقَ ﴾، وقوله :﴿ وَلَكِن كَذَّبَ ﴾، توبيخ على فساد الاعتقاد. وقوله :﴿ وَلاَ صَلَّى ﴾ : توبيخ على إضاعة العمل.
قوله تعالى :﴿ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ ﴾.
الظاهر أن القول الذي وقع عليهم هو كلمة العذاب، كما يوضحه قوله تعالى :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِني لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾، ونحو ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ ﴾، ظاهره أن الكفار لا ينطقون يوم القيامة ؛ كما يفهم ذلك من قوله تعالى :﴿ هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥-٣٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ] الآية، مع أنه بيّنت آيات أُخر من كتاب اللَّه أنهم ينطقون يوم القيامة ويعتذرون ؛ كقوله تعالى عنهم :﴿ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]، وقوله تعالى عنهم :﴿ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء ﴾ [ النحل : ٢٨ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ﴾ [ السجدة : ١٢ ] الآية، وقوله تعالى عنهم :﴿ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٦-١٠٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَنَادَوْاْ يا مَالِكُ ﴾ [ الزخرف : ٧٧ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على كلامهم يوم القيامة.
وقد بيَّنا الجواب عن هذا في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب »، في سورة «المرسلات »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥ ]، وما ذكرنا من الآيات. فذكرنا أن من أوجه الجواب عن ذلك أن القيامة مواطن، ففي بعضها ينطقون، وفي بعضها لا ينطقون، فإثبات النطق لهم ونفيه عنهم كلاهما منزل على حال ووقت غير حال الآخر ووقته. ومنها أن نطقهم المثبت لهم خاص بما لا فائدة لهم فيه، والنطق المنفى عنهم خاص بما لهم فيه فائدة ومنها غير ذلك، وقد ذكرنا شيئًا من أجوبة ذلك في «الفرقان » و «طه »، و«الإسراء ».
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
قد قدَّمنا الآيات الموضحة له في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الَّيْلِ ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شيء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾.
قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمّنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في الآية قرينة تدلّ على بطلان ذلك القول، وذكرنا في ترجمته أيضًا أن من أنواع البيان التي تضمّنها الاستدلال على المعنى، بكونه هو الغالب في القرآن ؛ لأن غلبته فيه، تدلّ على عدم خروجه من معنى الآية، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعدّدة في هذا الكتاب المبارك، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معًا آية «النمل » هذه.
وإيضاح ذلك : أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ [ النمل : ٨٦ ]، يدلّ على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة، أي : واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمرّ مر السحاب، ونحوه قول النابغة يصف جيشًا :
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج
والنوعان المذكوران من أنواع البيان، يبينان عدم صحة هذا القول.
أمّا الأول منهما : وهو وجود القرينة الدالَّة على عدم صحته، فهو أن قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ ﴾ معطوف على قوله :﴿ فَفَزِعَ ﴾، وذلك المعطوف عليه مرتّب بالفاء على قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُنفَخُ في الصُّورِ فَفَزِعَ مَن في السَّمَاوَاتِ ﴾ [ النمل : ٨٧ ] الآية، أي : ويوم ينفخ في الصور، فيفزع من في السماوات وترى الجبال، فدلّت هذه القرينة القرآنية الواضحة على أن مرّ الجبال مرّ السحاب كائن يوم ينفخ في الصور، لا الآن.
وأمّا الثاني : وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرآن فواضح ؛ لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلّها في يوم القيامة ؛ كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ﴾ [ الطور : ٩-١٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً ﴾[ الكهف : ٤٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً ﴾ [ النبأ : ٢٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ ﴾ [ التكوير : ٣ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شيء ﴾ [ النمل : ٨٨ ]، جاء نحوه في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ]، وقوله تعالى :﴿ مَّا تَرَى في خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِن تَفَاوُتٍ ﴾ [ الملك : ٣ ]، وتسيير الجبال وإيجادها ونصبها قبل تسييرها، كل ذلك صنع متقن.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾[ ٨٨ ]، قد قدّمنا الآيات التي بمعناه في أوّل سورة «هود »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ ﴾، إلى قوله :﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [ هود : ٥ ].
قوله تعالى :﴿ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾.
اعلم : أن الحسنة في هذه الآية الكريمة، تشمل نوعين من الحسنات :
الأول : حسنة هي فعل خير من أفعال العبد، كالإنفاق في سبيل اللَّه، وبذل النفس والمال في إعلاء كلمة اللَّه، ونحو ذلك، ومعنى قوله تعالى :﴿ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا ﴾، بالنسبة إلى هذا النوع من الحسنات، أن الثواب مضاعف، فهو خير من نفس العمل ؛ لأن من أنفق درهمًا واحدًا في سبيل اللَّه فأعطاه اللَّه ثواب هو سبعمائة درهم فله عند اللَّه ثواب هو سبعمائة درهم مثلاً، خير من الحسنة التي قدمها التي هي إنفاق درهم واحد، وهذا لا إشكال فيه كما ترى.
وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى :﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ]، ومعلوم أن عشر أمثال الحسنة خير منها هي وحدها ؛ وكقوله تعالى :﴿ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ﴾ [ النساء : ٤٠ ]، وقوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يشاء ﴾ [ البقرة : ٢٦١ ] الآية.
وأمّا النوع الثاني من الحسنة : فكقول من قال من أهل العلم : إن المراد بالحسنة في هذه الآية : لا إله إلاّ اللَّه، ولا يوجد شيء خير من لا إله إلا اللَّه، بل هي أساس الخير كلّه، والذي يظهر على هذا المعنى أن لفظة ﴿ خَيْرٌ ﴾ ليست صيغة تفضيل.
وأن المعنى :﴿ فَلَهُ خَيْرٌ ﴾ عظيم عند اللَّه حاصل له منها، أي : من قبلها ومن أجلها، وعليه فلفظة ﴿ مِنْ ﴾ في الآية ؛ كقوله تعالى :﴿ مّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ﴾ [ نوح : ٢٥ ]، أي : من أجل خطيآتهم أغرقوا، فأدخلوا نارًا. وأمّا على الأول فخير صيغة تفضيل، ويحتمل عندي أن لفظة ﴿ خَيْرٌ ﴾ على الوجه الثاني صيغة تفضيل أيضًا، ولا يراد بها تفضيل شيء على لا إله إلاّ اللَّه، بل المراد أن كلمة لا إله إلاّ اللَّه تعبَّد بها العبد في دار الدنيا، وتعبُّده بها فعله المحض، وقد أثابه اللَّه في الآخرة على تعبُّدِهِ بها، وإثابة اللَّه فعله جلَّ وعلا، ولا شكّ أن فعل اللَّه خير من فعل عبده، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾ [ ٨٩ ].
دلَّت على معناه آيات من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى في أمنهم من الفزع :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٣ ] الآية، وقوله تعالى في أمنهم :﴿ فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون ﴾ [ سبأ : ٣٧ ]، وقوله تعالى :﴿ أَفَمَن يُلْقَى في النَّارِ خَيْرٌ * أم من يأتي آمنا يوم القيامة ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ﴾، قرأه عاصم، وحمزة، والكسائي بتنوين ﴿ فزع ﴾، وفتح ميم ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾، وقرأه الباقون بغير تنوين، بل بالإضافة إلى ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾، إلاّ أن نافعًا قرأ بفتح ميم ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ مع إضافة ﴿ فُزّعَ ﴾ إليه، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بإضافة ﴿ فُزّعَ ﴾ إلى ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ مع كسر ميم ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾، وفتح الميم وكسرها من نحو ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾، قد أوضحناه بلغاته وشواهده العربية مع بيان المختار من اللغات في سورة «مريم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ ﴾ [ مريم : ١٥ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ في النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
قال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية : وقال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك رضي اللَّه عنهم، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبو وائل، وأبو صالح، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، والزهري، والسدي، والضحاك، والحسن، وقتادة، وابن زيد، في قوله تعالى :﴿ وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ ﴾، يعني : الشرك.
وهذه الآية الكريمة تضمّنت أمرين :
الأول : أن من جاء ربّه يوم القيامة بالسيئة كالشرك يكبّ وجهه في النار.
والثاني : أن السيّئة إنما تجزى بمثلها من غير زيادة، وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى في الأوّل منهما :﴿ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى ﴾ [ طه : ٧٤ ]، وكقوله تعالى في الثاني منهما :﴿ وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾[ الأنعام : ١٦٠ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾[ القصص : ٨٤ ]، وقوله تعالى :﴿ جَزَاء وِفَاقاً ﴾ [ النبأ : ٢٦ ].
وإذا علمت أن السيئات لا تضاعف، فاعلم أن السيئة قد تعظم فيعظم جزاؤها بسبب حرمة المكان ؛ كقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الحج : ٢٥ ]، أو حرمة الزمان ؛ كقوله تعالى في الأشهر الحرام :﴿ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾ [ التوبة : ٣٦ ].
وقد دلَّت آيات من كتاب اللَّه أن العذاب يعظم بسبب عظم الإنسان المخالف ؛ كقوله تعالى في نبيّنا صلى الله عليه وسلم :﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ﴾ [ الإسراء : ٧٤-٧٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ [ الحاقة : ٤٤-٤٦ ]، وكقوله تعالى في أزواجه صلى الله عليه وسلم :﴿ عَظِيماً يا نِسَاء النَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ [ الأحزاب : ٣٠ ]الآية، وقد قدّمنا طرفًا من الكلام على هذا، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ﴾ [ الإسراء : ٧٥ ]، مع تفسير الآية، ومضاعفة السيّئة المشار إليها في هاتين الآيتين، إن كانت بسبب عظم الذنب، حتى صار في عظمه كذنبين، فلا إشكال، وإن كانت مضاعفة جزاء السيّئة كانت هاتان الآيتان مخصّصتين للآيات المصرّحة، بأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها، والجميع محتمل، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ﴾.
جاء معناه موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في شَكّ مّن ديني فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ﴾ [ يونس : ١٠٤ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ ﴾ [ قريش : ٣-٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن ﴾ [ ٩١-٩٢ ].
قد قدّمنا الآيات التي فيها زيادة إيضاح لقوله :﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾، في سورة «الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ [ الأنعام : ١٤ ].
وقد قدّمنا الآيات الموضحة لقوله تعالى هنا :﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن ﴾، في سورة «الكهف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَاتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ ﴾ [ الكهف : ٢٧ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ ومن ضلّ فقل إنما أنا من المنذرين ﴾
جاء معناه مبيّنًا في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [ الرعد : ٤٠ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شيء وَكِيلٌ ﴾ [ هود : ١٢ ]، وقوله تعالى :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ﴾ [ الذاريات : ٥٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ﴾.
جاء معناه في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [ فصلت : ٥٣ ].
قوله تعالى :﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾[ ٩٣ ].
جاء معناه موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ﴾ [ إبراهيم : ٤٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم :﴿ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ بتاء الخطاب، وقرأ الباقون ﴿ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ بياء الغيبة.
تم بحمد الله تفسير سورة النمل
Icon