تفسير سورة النّمل

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة النمل من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
أهداف سورة النمل
سورة النمل مكية، وآياتها ٩٣ آية، نزلت بعد سورة الشعراء.
وسميت بسورة النمل لاشتمالها على مناظرة النمل مع سليمان في قوله تعالى :﴿ حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ﴾ [ النمل : ١٨ }.
نظام السورة
هذه السورة مجاورة لسورة الشعراء وهي تمضي على نسقها في الأداء : مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه، وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع، ويؤكده. ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتى الأمم، للعبرة والتدبر في سنن الله وسنن الدعوات.
موضوع السورة
موضوع سورة النمل الرئيسي-كسائر السور المكية- هو العقيدة : الإيمان بالله، وعبادته وحده، والإيمان بالآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب، والإيمان بالوحي، وأن الغيب كله لله لا يعلمه سواه والإيمان بأن الله هو الخالق الرازق واهب النعم، وتوجيه القلب إلى شكر أنعم الله على البشر، والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله.
القصص في سورة النمل
يأتي القصص في سورة النمل لتثبيت أهداف السورة وتصوير عاقبة المكذبين، وعاقبة المؤمنين.
تأتي حلقة من قصة موسى –عليه السلام- تلى مقدمة السورة، حلقة رؤيته للنار، وذهابه إليها، وندائه من الملأ الأعلى، وتكليفه بالرسالة إلى فرعون وملئه، ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات الله وهم على يقين من صدقها، وعاقبة التكذيب مع اليقين :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ [ النمل : ١٤ ].
واستغرقت هذه الحلقة من قصة موسى الآيات من ٧- ١٤.
قصة سليمان وبلقيس
استغرقت الآيات من ١٥-٤٤ في الحديث عن داود وسليمان وبلقيس وبدأته بالإشارة إلى نعمة الله على داود وسليمان، ثم ذكرت قصة سليمان مع النملة، ومع الهدهد، ومع ملكة سبأ وقومها وفيها تظهر نعمة الله على داود وسليمان وقيامهما بشكر هذه النعمة، وهي نعمة العلم والملك والنبوة مع تسخير الجن والطير لسليمان، وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول.
قصة بلقيس
تبدأ قصة بلقيس بتفقد سليمان للطير وبحثه عن الهدهد فلم يجده، ثم جاء الهدهد بعد ذلك، وكان هدهدا عجيبا صاحب إدراك وإيمان، وبراعة في عرض الأخبار، فقد أخبر سليمان أنه رأى ملكة ولها رعية كبيرة في بلاد سبأ ورآهم في نعمة وغنى ولكنهم يسجدون للشمس من دون الله، فكتب له سليمان رسالة ليلقيها إليهم وفيها :﴿ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم*ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين ﴾ [ النمل : ٣٠، ٣١ ].
فلما ألقاها على الملكة جمعت قومها لتستشيرهم فيها، فذكروا لها أنهم أولو قوة وبأس شديد وفوضوا أمر ذلك إليها، فذكرت لهم أن عاقبة الحرب إفساد الديار، وأنها ترى مسالمة سليمان بإرسال هدية إليه، فلما جاءته الهدية لم يقبلها، وهددهم بأن يرسل إليهم جنودا لا قبل لهم بها فلم تجد الملكة مفرا من أن تذعن له وتسافر إلى مقر ملكه، فجمع قومه وأخبرهم بأنه يريد أن يحصل على عرشها قبل حضورها، فأخبره عفريت من الجن أنه يمكنه أن يأتيه به قبل أن يقوم من مجلسه، وأخبره عالم من علماء قومه أنه يمكنه أن يأتيه به قبل مرور طرفة عين، فشكر سليمان ربه أن جعل في ملكه مثل هذا الرجل المؤمن المتصل بالله سبحانه.
وأمر سليمان قومه أن يغيروا شيئا من شكل العرش ليختبر ذكاءها، فانتهت الملكة إلى جواب ذكي أريب :﴿ قالت كأنه هو.. ﴾ [ النمل : ٤٢ ].
فهي لا تنفى ولا تثبت ودلت على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة، ثم تعرضت بلقيس لمفاجأة أخرى، في قصر من البلور أقيمت أرضيته فوق الماء، وظهر كأنه لجة فلما قيل لها : ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض في لجة الماء وكشفت عن ساقيها، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها وقال : إنه صرح مملس من زجاج.
ووقفت الملكة متعجبة مندهشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر، وتدل على أن سليمان مسخرة له قوى أكبر من طاقة البشر، فرجعت إلى الله وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره، معلنة إسلامها مع سليمان –لا لسليمان- ولكن لله رب العالمين. ﴿ قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾ [ النمل : ٤٤ ].
قصة صالح ولوط
وفي أعقاب قصة بلقيس نجد الآيات [ ٤٥-٥٣ ] تتحدث عن نبي الله صالح ومكر قومه في حقه، ونجد الآيات [ ٥٤-٥٩ ] تتحدث عن نبي الله لوط وارتكاب قومه لفاحشة اللواط بالرجال. ومحاولة لوط تقديم النصيحة لهم دون جدوى، بل هددوه بالطرد والنفي فأنجاه الله وأمطر على قومه حجارة من السماء. فأهلكتهم فبئس مطر الهالكين الخاطئين.
أدلة القرآن على وجود الله.
في ختام سورة النمل نجد آيات قوية تتحدث عن قدرة الله ومظاهر العظمة والقدرة في هذا الوجود.
لقد استعرضت السورة في بدايتها حلقات من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط استغرقت الآيات [ ٧-٥٩ ].
أما الآيات الأخيرة في السورة من [ ٦٠ -٩٣ ] فإنها تجول جولة هادفة في تثبيت العقيدة، جولة في مشاهد الكون وأغوار النفس وأطواء الغيب، وفي أشراط الساعة، ومشاهد القيامة، وأهوال الحشر، التي يفزع لها من في السماوات والأرض إلا من شاء الله.
في هذه الجولة الأخيرة يستعرض القرآن أمام الناس مشاهدات في صفحة الكون وفي أطواء النفس لا يملكون تعليلها بغير التسليم بوجود الخالق الواحد المدبر القدير.
ويتوالى عرض هذه المشاهدات في إيقاعات مؤثرة، تأخذ عليهم أقطار النفس وأقطار المشاعر، وهو يسألهم أسئلة متلاحقة : من خلق السماوات والأرض ؟ من أنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ؟ من جعل الأرض قرارا، وجعل خلالها أنهارا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزا ؟ من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ؟ من يجعلكم خلفاء الأرض ؟ من يهديكم في ظلمات البر والبحر ؟ من يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ؟ من يبدأ الخلق ثم يعيده ؟ من يرزقكم من السماء والأرض ؟ وفي كل مرة يقرعهم : أإله مع الله ؟ وهم لا يملكون أن يدّعوا هذه الدعوى، لا يملكون أن يقولوا : أن إلها مع الله يفعل من هذا كله شيئا، وهم مع هذا يعبدون أربابا من دون الله !
وعقب هذه الإيقاعات القوية التي تقتحم القلوب-لأنها إيقاعات كونية تملأ صفحة الوجود من حولهم، أو إيقاعات وجدانية يحسونها في قلوبهم- يستعرض تكذيبهم بالآخرة وتخبطهم في أمرها، ويعقب عليه بتوجيه قلوبهم إلى مصارع الغابرين الذين كانوا مثلهم يكذبون ويتخبطون.
ويخلص من هذا إلى عرض مشهد الحشر وما فيه من هول ومن فزع، ويرجع بهم في ومضة خاطفة إلى الأرض، ثم يردهم إلى مشهد الحشر وكأنما يهز قلوبهم هزا ويرجها رجا.
وتختم السورة بحمد الله الذي يستحق الحمد وحده، وتكلهم إلى الله يريهم آياته، ويطلع على أعمالهم ما ظهر منها وما بطن :﴿ وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ﴾ [ النمل : ٩٣ ]

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين( ١ ) هدى وبشرى للمؤمنين( ٢ ) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون( ٣ ) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون( ٤ ) أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون( ٥ ) وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم( ٦ ) ﴾.
المفردات :
طس : حروف مقطعة للتنبيه، مثل : ألا، ويا التي للنداء وينطق بأسمائها فيقال :[ طا-سين ].
تلك : إشارة إلى السورة.
مبين : موضح للأحكام والأخلاق والعظات.
التفسير :
١-﴿ طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين ﴾
طس..
اسمان لحرفين من حروف المعجم، هما الطاء والسين، وقد مضى الكلام بشأن مثلهما، في أول سور البقرة، وآل عمران، ويونس، وهود، وغيرها. ومن كلام العلماء أنهما حرفان للتنبيه، كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ لدخول المدرسة، وهذه الأحرف فاجأت العرب بأمر لهم يألفوه فتنبهوا، فلما تنبهوا قال القرآن الكريم.
﴿ تلك آيات القرآن وكتاب مبين ﴾
أي : هذه الآيات المنزلة عليك يا محمد هي آيات القرآن المعجز في بيانه الساطع في برهانه.
﴿ وكتاب مبين ﴾
وآيات كتاب واضح مبين لمن تفكر فيه وتدبر، أبان الله فيه الأحكام، وهدى به الأنام.
وقد لاحظ العلماء المهتمون بالإحصاء، أن كل سورة بدئت بمثل هذه الفواتح، تغلب فيها الحروف التي بدئت بها، على سائر الحروف التي تكونت منها كلمات السورة، وبما أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، فذلك شاهد على أن القرآن ليس من تأليفه، كما زعم أعداء الحق، بل هو من عند الله العزيز الحكيم.
٢-﴿ هدى وبشرى للمؤمنين ﴾
القرآن إنما تحصل هدايته وبشارته لمن حلّ في قلبه الإيمان، فهو يروح وهداية وبشارة بعز الدنيا وسعادة الآخرة، لمن آمن بالله والتزم بطاعته.
٣-﴿ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ﴾.
وصف الله المؤمنين بهذه الصفات :
١-إقامة الصلاة : أي المحافظة عليها في أوقاتها، كاملة الأركان، في خشوع وخضوع، وتدبر وتفكر، واستغراق في عظمة العلي القدير.
٢-ويؤتون الزكاة. يؤدونها كاملة، متى بلغت النصاب، وحال عليها الحول، يرجون بها وجه الله، وينفقونها في مصارف الزكاة، ويؤدونها مستوفاة شروطها، كاملة متجردة من الرياء والتظاهر.
٣-﴿ وهم بالآخرة هم يوقنون ﴾
إنهم آمنوا بالآخرة وتيقنوا بها، وهذا يزيدهم خشوعا في صلاتهم، وإخلاصا في زكاتهم، ويقينا بربهم، وبالجزاء العادل يوم القيامة، وقد أكد إيمانهم بالآخرة، لأن هذا الإيمان وذلك اليقين هو مبعث كل نشاط حسن.
من التراث
دخل جمع من الناس على عمر بن عبد العزيز، فوجد بينهم شابا نحيلا، فسأله الخليفة : ما الذي أحالك إلى هذا الذبول، قال : يا أمير المؤمنين، أسقام وأمراض، فقال الخليفة : بالله عليك إلا ما أصدقتني.
فقال الغلام : يا أمير المؤمنين، ذقت حلاوة الدنيا فوجدتها مريرة، وهان عليّ أمرها، واستوى عندي ذهبها وحجرها، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، والناس يساقون إلى الجنة أو إلى النار، فأظمأت لذلك نهاري، وأسهرت ليلي، وقليل حقير ما أنا فيه، بجنب ثواب الله وعقابه.
المفردات :
يعمهون : يتحيرون ويترددون في أودية الضلال.
التفسير :
٤-﴿ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون ﴾
إن هؤلاء الكفار الذين رفضوا الإيمان بالآخرة، وقالوا : إن هي إلا أرحام تدفع، وقبور تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر، هؤلاء الكفار سلبهم الله معونته وعونه وتوفيقه فصار الكفر والضلال حبيبا إليهم، وضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فحبب إليهم اتباع الهوى، وزين لهم الضلال، فتراهم حيارى في غيّهم يترددون، ونلاحظ أن العمى صفة البصر، والعمه صفة البصيرة، فبصيرتهم في ظلام الضلال، لا تدرك ما ينفعها ولا ما يضرها.
قال الرازي في التفسير الكبير :
والمراد من التزيين : هو أن يخلق في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات، ولا يخلق في قلبه العلم بما فيها من المضار والآفات.
المفردات :
الأخسرون : أشد الناس خسرانا، لحرمانهم الثواب، واستمرارهم في العذاب.
التفسير
٥-﴿ أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون ﴾
هؤلاء الكفار لهم سوء العذاب، بالقتل والأسر في الدنيا، وهم في الآخرة يدخلون جهنم ويعذبون فيها عذابا أبديا سرمديا خالدا مخلدا، فهم في أكبر خسارة حيث خسروا دنياهم وآخرتهم.
المفردات :
لتلقى : لتلقن وتعطي. من لدن : من عند.
حكيم : عظيم الحكمة، والحكمة : إتقان الأمور.
التفسير :
٦-﴿ وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ﴾
تأتي هذه الآية ختاما لمقدمة السورة، وتمهيدا لما سيأتي بعدها من قصص، فتخبر أن القرآن من عند الله، تلقاه محمد صلى الله عليه وسلم عن جبريل، وتلقاه جبريل عن الله، وقد أكدت الآية أن القرآن من عند الله، ردعا لمن افترى بأن القرآن شعر أو كهانة أو أساطير الأولين، وقد صرحت آية أخرى بهذا التلقي حيث قال سبحانه :﴿ نزل به الروح الأمين*على قلبك لتكون من المنذرين ﴾ [ الشعراء : ١٩٣، ١٩٤ ]. وفي الآية إشعار بفضل الله على نبيه، فهو يتلقى هذا الوحي بواسطة جبريل من الحكيم العليم، فالله حكيم أنزل القرآن منجما ومجزأ حسب الوقائع والحوادث، وقد اشتمل القرآن على حكمة التشريع، وآداب الحياة، ونظام العبادات والمعاملات، وبيان الفرائض والأحكام، لذلك نسب إلى الحكيم واسع الحكمة، الذي لا يعمل عملا إلا لحكمة إلهية عليا، وهو سبحانه :﴿ عليم ﴾ واسع العلم أحاط بكل شيء علما، وهو سبحانه :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء... ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ].
وقال تعالى :﴿ وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ﴾ [ النساء : ١١٣ ] وقال سبحانه :﴿ وقل رب زدني علما ﴾ [ طه : ١١٤ ].
وخبر القرآن هو الصدق والعدل، وشريعته هي الشريعة الوسط المعتدلة بلا تفريط ولا إفراط، قال تعالى :﴿ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا.. ﴾ [ الأنعام : ١١٥ ].
قصة موسى عليه السلام
﴿ إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون( ٧ ) فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين( ٨ ) يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم( ٩ ) وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون( ١٠ ) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم( ١١ ) وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين( ١٢ ) فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين( ١٣ ) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين( ١٤ ) ﴾
المفردات :
آنست : أبصرت إبصارا حصل لي به أنس.
بخبر : عن الطريق وحاله.
بشهاب : بشعلة نار.
قبس : قطعة من النار مقبوسة، ومأخوذة من أصلها.
تصطلون : تستدفئون بها، قال الشاعر :
النار فاكهة الشتاء فمن يرد أكل الفواكه شاتيا فليصطل
التفسير :
﴿ إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون ﴾.
كان موسى عليه السلام قد خرج من مصر حين علم أن الملأ من قومها يأتمرون به ليقتلوه، فخرج إلى سيناء وانتهى في رحلته إلى مدين، حيث عمل أجيرا عند شعيب في مقابل تزويجه إحدى ابنتيه، فلما قضى عشر سنين في أرض مدين، حنّ للرجوع إلى مصر، وسار بأهله، فأدركها المخاض عند الطور فوضعت في ليلة شاتية باردة، وكان قد حاد عن الطريق لأمر شاءه الله تعالى.
وقد أصبح بحاجة إلى أمرين :
أحدهما : أن يجد من يرشده إلى الطريق الموصل إلى مصر.
ثانيهما : أن يوقد نارا ليستدفئ هو وأهله.
قال تعالى :﴿ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ﴾ [ القصص : ٢٩ ].
﴿ إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا.. ﴾
تأتي هذه الآية عقب قوله تعالى :﴿ وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ﴾ [ النمل : ٦ ]
أي : لست بدعا من الرسل، ولست وحدك الذي تلقيت وحي السماء إلى الأرض، فاذكر فضلا مشابها حين سار موسى من مدين إلى مصر ليلا، في طريق مظلم قرب الطور، فآنس نارا في ظلام الليل، وكانت النار توقد ليلا لأمرين :
١-إكرام الضيف.
٢-هداية الساري بالليل.
ومن ذلك قول حاتم الطائي لغلامه :
-إن الليل ليل قرّ، والريح يا غلام ريح صر، فإن جلبت ضيفا فأنت حرّ.
أدرك موسى النار وقد فرح برؤيتها، وقال لزوجته : إني آنست نارا قد سررت لرؤيتها، فامكثوا في مكانكم، وسأذهب إلى هذه النار :﴿ سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون ﴾
لقد سررت برؤية النار وتوقعت عندها الخير فامكثوا في مكانكم، لأذهب إليها، حتى أسأل عن الطريق الموصل إلى مصر، وأحضر منها قبسا١ نستدفئ به في قرّ الصحراء، ومضى موسى إلى النار، التي آنسها ينشد خبرا، فإذا هو يتلقى النداء الأسمى.
المفردات :
بورك من في النار : جعلت البركة لمن في البقعة التي فيها النار.
ومن حولها : ولمن في الأماكن التي حولها.
التفسير :
٨-﴿ فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ﴾
تقدم موسى إلى النار فرأى عجبا، شجرة خضراء تتوقد منها النار، لا تزداد الشجرة إلا اخضرارا، ولا تزداد النار إلا نورانية وارتفاعا إلى السماء، وتعجب موسى مما رأى، وسمع نداء الحق سبحانه وتعالى :﴿ أن بورك من في النار ومن حولها.. ﴾
ومن في النار : الملائكة مستجيبة لأمر الله تعالى بإيقاد النار.
ومن حولها : كل من حولها من الأرض والناس، ومنهم موسى عليه السلام.
والآية تسجل بركات الله وعنايته ورحمته وهدايته، ينزلها على ملائكته ورسوله، موسى عليه السلام، والله منزه عن الكم والكيف، والطول والعرض، لا يحده مكان ولا يحويه زمان، فهو سبحانه خالق الكون، وخالق الزمان والمكان.
﴿ وسبحان الله رب العالمين ﴾
تنزه الله الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، وهو العلي العظيم، الواحد الأحد الفرد الصمد، المنزه عن مماثلة المحدثات.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وابن ماجه في سننه، والبيهقي، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات [ أنوار ] وجهه كل شيء أدركه بصره )٢. ثم قرأ أبو عبيدة :﴿ أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ﴾.
٩-﴿ يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ﴾.
نادى الله موسى نداء الإله الخالق المهيمن، فموسى رسول سيكلف بالرسالة، وتسمو البشرية في شخصه، لتتلقى خبر السماء من الله العزيز، الغالب، القوي القادر، المهيمن المقتدر، ذي الجلال والإكرام، الحكيم. فهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أحكم الحاكمين في تصرفاته وأفعاله، جل جلاله، ومن هذه الحكمة اختيار موسى ليكون رسولا إلى أكبر الطغاة في الأرض، في ذلك الحين، ومن ثم جعل ربه يعده ويجهزه ويقويه.
المفردات :
جان : حية صغيرة سريعة الحركة.
ولى مدبرا : التفت هاربا.
ولم يعقب : لم يرجع على عقبه، ولم يلتفت إلى ما وراءه، من قولهم : عقب المقاتل، إذا كرّ بعد الفرّ.
التفسير :
١٠-﴿ وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب.. ﴾
أمر الله موسى أن يلقي عصاه، فإذا هي تتحول إلى حية شديدة الحركة، في سرعة وخفة مذهلة، فلما رآها موسى في شكل مخيف مرعب رهيب، جرى سريعا بعيدا عنها، ولم يرجع إلى المكان الذي كان فيه، حين ألقى عصاه، فناداه الله مطمئنا له بقوله :
﴿ يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدى المرسلون ﴾
يا موسى لا تخف من العصا ولا من الحية الكبيرة، العظيمة الحركة، فأنت رسول رب العالمين، الرسل لا يخافون في حضرة ربهم، وهم يتلقون التكليف.
الثعبان، والجان
في الآية ١٠٧ من سورة الأعراف قال تعالى :﴿ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ﴾.
والثعبان حية كبيرة.
وهنا قال تعالى :﴿ وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب.. ﴾
والجان ضرب من الحيات أكثرها حركة، وأسرعها اضطرابا، مع صغر في الحجم.
ويجمع بين الآيتين : بأن العصا تحولت إلى حية كبيرة من ناحية الحجم، وتحولت إلى صورة الجان من ناحية الحركة والاضطراب السريع، ولهذا جاز التعبير عنها بالكلمتين في موضعين مختلفين : فهي ثعبان كبير، في سرعة جان، خفة واضطرابا.
١١-﴿ إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ﴾
لكن من ظلم نفسه بارتكاب المعاصي، ثم تاب إلى الله وعدّل سلوكه، وأقبل على الطاعات وبدل حسنا بعد سوء، وعمل صالحا بعد عمل المعصية.
﴿ فإني غفور رحيم ﴾
يغفر ذنبه ويرحم ضعفه، ويقبل توبته، فهو سبحانه خالق الخلق وهو أعلم بضعفهم، ولهذا تكررت الدعوة إلى التوبة، وفتح الله أبوابه لقبولها ترفقا بعباده، وترحما بضعفهم.
قال تعالى :﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ].
وقال سبحانه وتعالى :{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ( الزمر : ٥٣ ].
المفردات :
من غير سوء : من غير برص ولا نحوه من الآفات.
آيات : معجزات دالة على صدقك.
١٢-﴿ وأدخل يديك في جيبك٣ تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾.
هذه هي المعجزة الثانية في هذا المقام :
الأولى : إلقاء العصا تنقلب حية كبيرة.
الثانية : أن يدخل موسى يده في فتحة القميص التي يدخل الرأس منها، فتخرج بيضاء بياضا ناصعا، كفلقة القمر في غير برص ولا مرض.
﴿ في تسع آيات إلى فرعون وقومه.. ﴾
هاتان الآيتان [ العصا واليد ] ضمن تسع آيات أيدتك بها وهي : سنوات الجدب، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
﴿ إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾
خارجين عن سنن الفطرة، حيث كذبوا موسى، وعتوا عن أمر ربهم.
المفردات :
مبصرة : بينة واضحة.
التفسير :
١٣-﴿ فلما جاءتهم آيتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين ﴾
فلما تقدم موسى إلى فرعون وقومه، ومعه معجزات ملموسة تبصرها العين، وتتيقن بها النفس، رفضوا الإيمان بها، وقالوا : هذا سحر ظاهر وليس معجزة.
المفردات :
جحدوا بها : كذبوا.
استيقنتها : علمت علما يقينا أنها من عند الله.
علوا : ترفعا واستكبارا.
التفسير :
١٤-﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾
كذب فرعون وقومه بالآيات مع وضوحها وظهورها، ولم يكن تكذيبهم بسبب نقص الدليل، فإنهم تيقنوا من صدق موسى وصدق رسالته، ولكن الجحود والكنود والظلم والبغي والاستعلاء في الأرض بغير الحق، حملهم على التكذيب، ظلما وترفعا عن الحق وعدم خضوع له، فاستحقوا الهلاك والغرق.
﴿ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
فتأمل يا كلّ من عنده عقل أو فكر، كيف كانت نهاية المفسدين إلى الغرق والهلاك، وكأن هذه الخاتمة موجهة إلى مكة، وكأنها تقول : لقد هلك من كذبوا موسى، وأغرقوا في اليم، وحرموا من نعيم الدنيا وسعادة الآخرة، وقد جاءكم محمد ومعه شريعة خاتمة الشرائع، وكتاب مبين، فإذا جحدتم وجب عليكم الهلاك والدمار، فتأملوا كيف انتهى حال المكذبين لرسلهم، قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم.
وهكذا تنتهي قصة موسى في لمحات ركّزت، على لقاء موسى الكليم والفضل الإلهي عليه والمعجزات التي أيده الله بها، وفي إيجاز تكلمت عن سوء استقبال فرعون وقومه، وعن نهاية المفسدين وهلاكهم.
قصة داود وسليمان عليهما السلام
﴿ ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ( ١٥ ) وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين( ١٦ ) وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون( ١٧ ) حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون( ١٨ ) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين( ١٩ ) ﴾.
تمهيد :
تأتي قصة داود وسليمان بعد قصة موسى، وقد امتن الله على داود بأن نصره على طالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلّمه صنعة الدروع ولبوس الحرب، وامتن الله على سليمان بأن علمه منطق الطير، وسخّر له الإنس والجن والطير والريح والشياطين المتمردين فأمكنه منهم، وقد طلب سليمان من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يمكنه من العمل الصالح، وأن يدخله جنات النعيم.
التفسير :
١٥-﴿ ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ﴾
تأتي هذه القصة بعد ذكر فضل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وفضله على رسوله موسى عليه السلام، وذكر جانب من قصته، ثم ذكر جانب يسير عن داود عليه السلام، وقد آتاه الله الرسالة والنبوة، والملك والعلم والقضاء، وألان له الحديد، كما منحه الصوت الحسن. وتلاوة الزبور، حيث كانت الجبال والطير والكون تردد الزبور خلفه، فقد آتاه الله علما نافعا، وألهمه الشكر والاعتراف بالفضل لله العلي الكبير، كما منّ الله على سليمان بعلوم متعددة، منها معرفة لغة الطير، وفهم أحكام القضاء، وتسخير الرياح والجن والشياطين لخدمته، كما وفقه الله للشكر، وفي الآية فضل العلم، وإعلاء درجته على درجات الملك، وقد أشاد القرآن الكريم بالعلم والعلماء.
قال تعالى :﴿ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.. ﴾[ المجادلة : ١١ ]
وقال سبحانه :﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون... ﴾ [ الزمر : ٩ ].
وقال تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء.. ﴾ [ فاطر : ٢٨ ].
وقد سعى موسى لتعلم العلم من الخضر وقال له :﴿ هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ﴾ [ الكهف : ٦٦ ].
﴿ وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ﴾
أي : قال الأب والابن : الشكر لله تعالى الذي منحنا الملك والنبوة والعلوم المتعددة، وفضلنا بهذه المنح والعطايا، على كثير من عباده المؤمنين، الذين لم يؤتهم مثل ما آتانا.
تمهيد :
تأتي قصة داود وسليمان بعد قصة موسى، وقد امتن الله على داود بأن نصره على طالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلّمه صنعة الدروع ولبوس الحرب، وامتن الله على سليمان بأن علمه منطق الطير، وسخّر له الإنس والجن والطير والريح والشياطين المتمردين فأمكنه منهم، وقد طلب سليمان من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يمكنه من العمل الصالح، وأن يدخله جنات النعيم.
المفردات :
ورث سليمان : قام مقام داود في النبوة والملك.
منطق الطير : فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت.
التفسير :
١٦-﴿ وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ﴾.
ورث سليمان والده في ملكه وفي فضله، وفي عطاء الله تعالى له، وليس المراد ميراث المال، لأن الأنبياء لا تورث مالا، قال صلى الله عليه وسلم :( نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة )٤ وقد رواه أبو بكر وعمر أمام جمع من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد.
وأخرج أبو داود، والترمذي، عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر )٥.
وقد صرح القرآن بأن الله أعطى داود الفضل، أي : التفضل عليه بالنعمة والهداية والرسالة، وحسن الصوت وترديد الجبال والطيور لعبادته وأناشيده، وقد ورث سليمان جانبا من هذا الفضل، واعترف بهذه النعمة، فقال لأهل مملكته، يا أيها الناس قد تفضل الله علينا بأن علمنا منطق الطير ولغته، فإذا صوت أدركنا ماذا يريد أن يقول.
وقال سليمان : لقد أعطانا الله من كل شيء يحتاج إليه أمثالي، فأتاح لي النبوة والملك، ومعرفة لغة الطير، وغير ذلك من النّعم.
﴿ إن هذا لهو الفضل المبين ﴾.
إن هذا تفضل ونعمة بينة ظاهرة واضحة، قال ذلك اعترافا بأنعم الله عليه، ولم يقله على سبيل الفخر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود، ومسلم، عن أبي هريرة :( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر ) أي : أقول هذا القول شكرا، ولا أقوله فخرا.
تمهيد :
تأتي قصة داود وسليمان بعد قصة موسى، وقد امتن الله على داود بأن نصره على طالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلّمه صنعة الدروع ولبوس الحرب، وامتن الله على سليمان بأن علمه منطق الطير، وسخّر له الإنس والجن والطير والريح والشياطين المتمردين فأمكنه منهم، وقد طلب سليمان من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يمكنه من العمل الصالح، وأن يدخله جنات النعيم.
المفردات :
حشر : جمع.
يوزعون : يحبس أولهم ليلحق آخرهم، فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد.
التفسير :
١٧-﴿ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ﴾
كان لسليمان جيش كبير، في غاية النظام والترتيب، يصطف الإنس ثم الجن، وتصطف الطير فوق رءوسهم لحمايتهم من وهج الشمس، ولكل فئة من الثلاث قائد أو وازع ينظمهم، ويحبس أوّلهم حتى يحضر آخرهم.
ومعنى : يُوزعُون. أي : يحبسون ويمنعون من المضي حتى يتلاحقوا ويجتمعوا.
والإيزاع : الحث على الوزع، وهو الكفّ والمنع.
ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن.
وقول الشاعر :
ومن لم يزعه لبّه وحياؤه فليس له من شيب فوديه وازع
لقد أعطى الله سليمان ملكا لم يعطه لأحد من بعده، مثل ملك الجن والريح والطير، استجابة لدعائه، ﴿ قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب*فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص*وآخرين مقرنين في الأصفاد ﴾ [ ص : ٣٥-٣٨ ].
وقال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير*يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.. ﴾ [ سبأ ١٢، ١٣ ]
كل هذا الملك، والجيوش المتعددة الأنواع، ومعرفة لغة الطير، وتسخير الجن، والتفوق في القضاء، قابله داود بالشكر والعرفان.
قال تعالى :﴿ اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ﴾ [ سبأ : ١٣ ]
وعندما رأى سليمان عرش بلقيس مستقرا عنده، قال :﴿ هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ﴾ [ النمل : ٤٠ ]
عبرة بالآية
جاء في أحكام القرآن لابن العربي –تعليقا على قول عثمان : ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن- قد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن، وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته، فإن الله تعالى ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق، ولكن الظلمة خاسوا بها، وقصروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية منها، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها، فلم يرتدع الخلق بها، ولو حكموا العدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور.
لغة الطير
يتسابق العلماء الآن في معرفة لغة الطير والحيوانات، وقد علمها الله تعالى لسليمان، وأشار القرآن إلى تنظيم أمة النحل وأمة النمل، وأمثالها من الأمم، حيث قال تعالى :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء.. ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ].
وقد سبق القرآن الكشوف العلمية، وأيدته المشاهدة، فالنحل له ملكة تدبر أمره، وتسوسه، وبلغ من دقة إدراكه أنه يصنع بيوتا مسدسة الأضلاع لتجميع عسله فيها، بمقاييس غاية في الدقة، وبالجملة فدراسة مملكة النحل وأمته تحير الأفكار، ومثلها النمل وجميع الكائنات الحية، ومن أغرب المشاهدات تلك الطيور، التي تقطع آلاف الأميال في موسم الشتاء طلبا للدفء والرزق، ثم تعود أدراجها في مواسم معينة، إلى نفس العش الذي تركته، فوق مبنى أو فوق شجرة، ولا تخطئ طريقها، وكل طائفة تسير خلف نذيرها ومرشدها، وهي تطير على هدى إدراك داخلي أقوى من [ الرادار ]، لقد ألهمها الخالق سبحانه البحث عن رزقها، والسير في الفضاء والهواء، بإلهام من الله العلي القدير، وتجد أنواعا من السمك، تهاجر آلاف الأميال، لتضع البيض، ثم يفقس البيض، ويتحول إلى سمك، ويبدأ السمك رحلة العودة من حيث جاءت أصوله، فسبحان الذي ألهم هذه الكائنات، أسرار وجودها، وطريقة حياتها، ونظام معيشتها، بما يفيد أن وراء هذا الكون البديع، يدا حانية تحفظ وجوده، وتدعّم تماسكه وتقدر أقواته، وانظر إلى قوله تعالى :﴿ قال فمن ربكما يا موسى*قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾ [ طه : ٤٩، ٥٠ ].
وقال تعالى :﴿ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ﴾ [ فصلت : ١٠ ].
قصة النملة
تمهيد :
تأتي قصة داود وسليمان بعد قصة موسى، وقد امتن الله على داود بأن نصره على طالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلّمه صنعة الدروع ولبوس الحرب، وامتن الله على سليمان بأن علمه منطق الطير، وسخّر له الإنس والجن والطير والريح والشياطين المتمردين فأمكنه منهم، وقد طلب سليمان من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يمكنه من العمل الصالح، وأن يدخله جنات النعيم.
المفردات :
واد النمل : واد بأرض الشام.
لا يحطمنكم : لا يكسرنكم ويهشمنكم.
التفسير :
١٨-﴿ حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ﴾
سار سليمان في موكبه وجيوشه، حتى اقترب من منطقة بها نمل كثير، تسمى وادي النمل، يقول بعض المفسرين : إنها قرية في بلاد الشام، ولهذه الأمة من النمل ملكة ترعى شؤون النمل، فأمرت النمل أن يدخلوا مساكنهم، حتى لا يتعرضوا للهلاك، والدّهس والتحطيم والموت، إذا مرّ عليهم سليمان وجنوده، فتقتل النمل، دون أن يشعر سليمان وجنوده بذلك، وقد أدرك سليمان هذا الأمر، حيث شاهد أمة من النمل، تعرف بحسها أن موكب سليمان قد اقترب، فتأمر النمل أمرا، ثم تحذرهم من الهلاك إذا تأخروا، والآية فيها أمر، وتحذير أو نهي، واحتراس.
فالأمر :﴿ ادخلوا مساكنكم ﴾.
والتحذير أو النهي :﴿ لا يحطمنكم سليمان وجنوده ﴾.
والاحتراس :﴿ وهم لا يشعرون ﴾.
ثم كيف عرفت النملة أن هذا جيش سليمان، وكيف كانت حازمة واضحة محذرة، ذلك فضل الله، ﴿ الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ]
تمهيد :
تأتي قصة داود وسليمان بعد قصة موسى، وقد امتن الله على داود بأن نصره على طالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلّمه صنعة الدروع ولبوس الحرب، وامتن الله على سليمان بأن علمه منطق الطير، وسخّر له الإنس والجن والطير والريح والشياطين المتمردين فأمكنه منهم، وقد طلب سليمان من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يمكنه من العمل الصالح، وأن يدخله جنات النعيم.
المفردات :
أوزعني : ألهمني ويسر لي.
التفسير :
١٩-﴿ فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾.
التبسم : مبدأ الضحك من غير صوت، والضحك : انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفي، فإن كان فيه صوت يسمع من بعيد فهو القهقهة.
ومعنى الآية :
فتبسم سليمان مسرورا ضاحكا راضيا من كلام النملة، ومن نعمة الله عليه في فهم كلامها، ومن شدة حسمها، وقيامها بواجبها، وتوضيح مقاصدها لطائفة النمل، واحتراسها.
حين قالت :﴿ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ﴾
ولما رأى سليمان ذلك رضي وشمله السرور والرضا، وأخذ في دعاء الله قائلا :
﴿ رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمتك عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾.
أي : قال : يا رب تفضلت عليّ بنعم كثيرة، فألهمني وسخّرني ووفقني أن أقوم بشكر نعمك، والثناء عليك، والاعتراف لك بالفضل والمنة، جزاء ما أنعمت به عليّ وعلى والديّ، وزدني توفيقا، حتى أعمل العمل الصالح الذي ترضاه وتقبله، واجعلني ممن تشمله رحمتك وفضلك، حتى أكون في جملة عبادك الصالحين، الذين رضيت عنهم ورضوا عنك.
ومن هذه الآية، نُدرك قيمة الصلاح وأنه غاية سامية يتطلع إليها الأنبياء والمرسلون، حتى قال تعالى :﴿ ونبيا من الصالحين ﴾ [ آل عمران : ٣٩ ]. فالعبد الصالح قدر الله في الأرض، تدعو له الملائكة، ويتجاوب معه الكون، ويصله السلام من ملايين المسلمين في كل صلاة، ففي قراءة التشهد :[ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ].
وقد كان هذا الدعاء من سليمان من تواضع الكاملين، فأبوه رسول أعطاه الله الفضل، وأمّه زوجة نبي وأم نبي، وهو رسول أكرمه الله، لكن الهدف الأصيل عنده هو الوصول إلى رضا الله، والقيام بشكره، والتوفيق لأن يعمل عملا صالحا مخلصا يرضاه الله، وأن ينتظم في سلك العباد الصالحين، فما أجلها من نعم، وما أفضلها من أدعية.
﴿ رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمتك عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾.
قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام
﴿ وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين( ٢٠ ) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين( ٢١ ) فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ( ٢٢ ) إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم( ٢٣ ) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون( ٢٤ ) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ( ٢٥ ) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم( ٢٦ )* ﴾
المفردات :
تفقد الطير : تعرف موجوده من مفقوده.
الهدهد : طائر معروف، ويكنى بأبي الأخبار.
التفسير :
٢٠-﴿ وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ﴾.
ملّك الله سليمان الريح والطير والجن، أي : سخر له هذه المخلوقات، ومن شأن الملك الحاذق أن يتفقد رعيته، ويتعرف على أحوالها، ويقال : إن سليمان عليه السلام سار في جيشه، وأثناء الرحلة احتاج إلى الماء، وكان الهدهد يرشده إلى الأرض التي بها ماء قريب، والتي بها ماء بعيد، فإذا أرشده الهدهد إلى أرض قريبة الماء، أمر الجن أن تعمل فيها لتستخرج الماء فيشرب الجيش والدواب، ويستفيد سائر الناس، ولما احتاج سليمان إلى الهدهد لم يجده، فقال :
﴿ مالي لا أرى الهدهد.. ﴾
هل هو موجود ولكن ستره ساتر فلا أراه، ثم عرف أنه غير موجود ؛ فقال :﴿ أم كان من الغائبين ﴾. وأم للإضراب، والمعنى : بل هو من الغائبين.
قال مجاهد : قيل لابن عباس : كيف تفقد الهدهد من الطير ؟ قال : نزل سليمان منزلا ولم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد مهتديا إليه، فأراد أن يسأله، قال مجاهد : فقلت : كيف يهتدي الهدهد إلى الماء، والصبي يضع له الحبالة فيصيده ؟ فقال ابن عباس : إذا جاء القدر عمى البصر.
ونحن نقول : إدراك الهدهد لمكان الماء، هذه فراسة بحسب تكوين الله للهدهد، أما وقوعه حبيسا في الفخ فلأنه لا يعلم الغيب، كالكلاب تدرك الزلازل بأسباب تحسّها داخليا، ولكنها لا تدري أن الطعام الذي قدّمه الصياد مسموم ليقتلها به، وبالجملة فمناهج التكوين الإلهي لخليقته عجيبة، فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى٦.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق
في قصة سليمان مع الهدهد دليل على مسؤولية الحاكم عن تفقد الرعية، والمحافظة عليها، ومحاولة الرقي بها، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظائم الأمور،
وقد ذكر القرطبي هذا المعنى ثم قال : ويرحم الله عمر بن الخطاب، فإنه كان على سيرته، قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب، ليسأل عنها عمر.
والخلاصة : استنبط العلماء من الآيات السابقة، استحباب تفقد الحاكم أحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء والأقارب.

المفردات :
بسلطان مبين : بحجة واضحة تبيّن عذره.
التفسير :
٢١-﴿ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ﴾
كان هدهدا ذكيا بارعا متفوقا، سخره الله لسليمان مع مجموعة خاصة من الطير، وكان الهدهد صاحب النوبة، فلما تخلف عن الحضور، وتأكد الملك من غيابه، أقسم ليعذبنه عذابا شديدا، مثل نتف ريشه، أو ليقتلنه، إلا إذا جاء بحجة واضحة تدل على أنه كان معذورا في غيابه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق
في قصة سليمان مع الهدهد دليل على مسؤولية الحاكم عن تفقد الرعية، والمحافظة عليها، ومحاولة الرقي بها، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظائم الأمور،
وقد ذكر القرطبي هذا المعنى ثم قال : ويرحم الله عمر بن الخطاب، فإنه كان على سيرته، قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب، ليسأل عنها عمر.
والخلاصة : استنبط العلماء من الآيات السابقة، استحباب تفقد الحاكم أحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء والأقارب.

المفردات :
غير بعيد : زمانا غير مديد.
سبأ : هو سبأ بن يعرب بن قحطان أو قبيلة باليمن.
نبأ : خبر عظيم.
التفسير :
٢٢-﴿ فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ﴾.
مكث الهدهد وقتا قصيرا ليس بالطويل، وجل متواضعا أمام سليمان، وقال :
﴿ أحطت بما لم تحط به.. ﴾
لقد اكتشف مملكة وملكة وقوما يعبدون الشمس، وذكر ذلك في إجمال، ليفتح شهية الملك في الإحاطة بهذا الكشف الجديد، الذي اهتدى إليه الهدهد.
﴿ وجئتك من سبإ بنبإ يقين ﴾
أتيتك من مدينة سبأ بخبر حقيقي مؤكد لا ريب فيه، وسبأ في الأصل اسم لسبأ بن يشجب ين يعرب ابن قحطان، ثم أطلق على حيّ من الناس سموا باسم أبيهم سبأ، وأطلق على المدينة التي يقيم فيها هؤلاء الناس، فقيل : مدينة سبأ.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
ألهم الله الهدهد، فأخبر سليمان بهذا الكلام، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمّة، والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة. اه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق
في قصة سليمان مع الهدهد دليل على مسؤولية الحاكم عن تفقد الرعية، والمحافظة عليها، ومحاولة الرقي بها، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظائم الأمور،
وقد ذكر القرطبي هذا المعنى ثم قال : ويرحم الله عمر بن الخطاب، فإنه كان على سيرته، قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب، ليسأل عنها عمر.
والخلاصة : استنبط العلماء من الآيات السابقة، استحباب تفقد الحاكم أحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء والأقارب.

المفردات :
العرش : سرير الملك.
التفسير :
٢٣-﴿ إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ﴾
اشتمل كلام الهدهد على صفات القوم وحالتهم الدنيوية، وذكر منها ثلاثة أمور :
١-أن ملكتهم امرأة، هي بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها من قبلها ملكا جليل القدر واسع الملك، ولما مات لم يترك عقبا من الذكور فتولت الملك ابنته.
٢-إن المرأة قد أوتيت من كل شيء يفيد أمثالها، من عظمة الملك واتساعه، وعظمة الجيش ونظامه، واتساع الثراء، وكثرة الأسلحة وأدوات الحرب، مما لا يوجد مثله إلا في الدول العظمى.
٣-إن لها سريرا عظيما تجلس عليه عند اجتماعها مع القادة والوزراء، مرصعا بالذهب والياقوت واللؤلؤ، ومن أفخم العروش في زمانها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق
في قصة سليمان مع الهدهد دليل على مسؤولية الحاكم عن تفقد الرعية، والمحافظة عليها، ومحاولة الرقي بها، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظائم الأمور،
وقد ذكر القرطبي هذا المعنى ثم قال : ويرحم الله عمر بن الخطاب، فإنه كان على سيرته، قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب، ليسأل عنها عمر.
والخلاصة : استنبط العلماء من الآيات السابقة، استحباب تفقد الحاكم أحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء والأقارب.

المفردات :
عن السبيل : عن سبيل الحق والصواب.
التفسير :
٢٤-﴿ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ﴾
وجدت هذه الملكة وقومها يعبدون الشمس من دون الله، ويسجدون لها سجود عبادة وتعظيم، وقد زين لهم الشيطان قبيح أعمالهم، فرأوه حسنا، وصدهم الشيطان عن الطريق الحق، والسبيل الواضح، وهو عبادة الله تعالى، فهم لا يهتدون إلى الهدى، ولا يرغبون في الإيمان بالله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق
في قصة سليمان مع الهدهد دليل على مسؤولية الحاكم عن تفقد الرعية، والمحافظة عليها، ومحاولة الرقي بها، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظائم الأمور،
وقد ذكر القرطبي هذا المعنى ثم قال : ويرحم الله عمر بن الخطاب، فإنه كان على سيرته، قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب، ليسأل عنها عمر.
والخلاصة : استنبط العلماء من الآيات السابقة، استحباب تفقد الحاكم أحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء والأقارب.

المفردات :
الخبء : المخبوء من كل شيء كالمطر وغيره من شؤون الغيب.
التفسير :
٢٥-﴿ ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ﴾.
هلا سجدوا لله، الإله الحق، الذي سخر الشمس والقمر، والليل والنهار، ورفع السماء وبسط الأرض، وأرسى الجبال، وهو سبحانه يحفظ هذا الكون، ويخرج المخبوء مثل المطر من السماء، والشمس تختفي ليلا وتظهر نهارا، والنجوم تختفي نهارا وتظهر ليلا، وكذلك القمر، وقل مثل ذلك في خلق الإنسان وولادة الجنين، وإنبات النبات، وظهور المختبئ من المعادن والبترول، والكنوز التي لا تحصى أنواعها، وهو سبحانه يعلم ما يخفيه هؤلاء الذين يعبدون الشمس وما يظهرونه، وليس للشمس شيء من ذلك، فهي مسخرة لله تعالى، فكيف ينصرفون عن عبادة الله إلى عبادة الشمس.
قال تعالى :﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ﴾ [ فصلت : ٣٧ ]
وقال عز شأنه :﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ﴾ [ الرعد : ١٠ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق
في قصة سليمان مع الهدهد دليل على مسؤولية الحاكم عن تفقد الرعية، والمحافظة عليها، ومحاولة الرقي بها، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظائم الأمور،
وقد ذكر القرطبي هذا المعنى ثم قال : ويرحم الله عمر بن الخطاب، فإنه كان على سيرته، قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب، ليسأل عنها عمر.
والخلاصة : استنبط العلماء من الآيات السابقة، استحباب تفقد الحاكم أحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء والأقارب.

٢٦-﴿ الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ﴾.
الله جل جلاله لا معبود بحث إلا هو، صاحب الملك العظيم في السماء والأرض، والفضاء والهواء، والليل والنهار، فهو المستحق للعبادة فعلا، وهو أهل لأن يعبد لأنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل، وهو المالك للكون، وقد وسع كرسيه السماوات والأرض، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة كما ورد في السنة.
ويقف الإنسان مبهورا أمام هذا الهدهد الذكي الأريب، الذي اهتدى إلى اكتشاف أمة من البشر، والتعريف بملكتها وشؤونها الدنيوية والدينية، لعله رئيس مجموعة الهداهد، وقد ذكر الهدهد أن الملكة قد أوتيت من كل شيء يحتاج إليه ملكها، ويجعله ملكا متفوقا، ووصف عرشها بأنه عظيم، بالنسبة إلى عروش ملوك الدنيا.
ثم نلاحظ رقيّ الحاسة الدينية عند الهدهد، واعتراضه على عبادة سبأ للشمس، ورغبته في أن يعبدوا الله الخالق الرازق، صاحب العرش العظيم، الذي ليس في المخلوقات أعظم منه، فكل عرش مهما عظم فهو دونه، فكان الواجب إفراده سبحانه وتعالى بالعبادة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق
في قصة سليمان مع الهدهد دليل على مسؤولية الحاكم عن تفقد الرعية، والمحافظة عليها، ومحاولة الرقي بها، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظائم الأمور،
وقد ذكر القرطبي هذا المعنى ثم قال : ويرحم الله عمر بن الخطاب، فإنه كان على سيرته، قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب، ليسأل عنها عمر.
والخلاصة : استنبط العلماء من الآيات السابقة، استحباب تفقد الحاكم أحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء والأقارب.

﴿ قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين( ٢٧ ) اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون( ٢٨ ) قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم( ٢٩ ) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم( ٣٠ ) ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين( ٣١ ) ﴾
تمهيد :
تصف الآيات موقف سليمان من كلام الهدهد، وتكليف الهدهد برسالة إلى بلقيس ملكة سبأ، وترصد أخبارها، ونقل هذه الأخبار إلى سليمان عليه السلام.
التفسير :
٢٧-﴿ قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ﴾
أي : قال سليمان للهدهد : سننظر وسنختبر مقالك، ونتعرف حقيقته بالامتحان، أصادق أنت فيما تقول أم كاذب فيه، لتتخلص من الوعيد.
ونلحظ أن سليمان لم يقل : أصدقت أم كذبت، بل قال : أم كنت من الكاذبين ؛ لأن تلفيق الأخبار المنمقة، واختيار الأسلوب الذي يستهوي السامع- من غير أن يكون للأخبار حقيقة تعبر عنها- لا يصدر إلا ممن مرن على الكذب، وصار سجية له، حتى لا يجد وسيلة للبعد عنه، وهذا يفيد أنه كاذب على أتم وجه ومن كان كذلك لا يوثق به.
والخلاصة : سأرى هل أنت صادق، أم سجيتك الكذب.
تمهيد :
تصف الآيات موقف سليمان من كلام الهدهد، وتكليف الهدهد برسالة إلى بلقيس ملكة سبأ، وترصد أخبارها، ونقل هذه الأخبار إلى سليمان عليه السلام.
المفردات :
تولّ عنهم : تنحّ عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه، ليكون ما يقولونه بمسمع منك.
فانظر : تأمل وفكر.
يرجعون : يرجع بعضهم إلى بعض من القول، ويدور بينهم بشأنه.
التفسير :
٢٨-﴿ اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ﴾
كان سليمان قد أعدّ كتابا لهذه الملكة، ثم أمر الهدهد أن يحمله إليها فحمله الهدهد، وألقاه من كوة في قصرها تدخل منها الشمس، فوقع على حجرها، ثم اختفى الهدهد في مكان لا يشاهدونه فيه، وانشغل بمراقبة أحوالهم ومناقشاتهم ومراجعاتهم.
تمهيد :
تصف الآيات موقف سليمان من كلام الهدهد، وتكليف الهدهد برسالة إلى بلقيس ملكة سبأ، وترصد أخبارها، ونقل هذه الأخبار إلى سليمان عليه السلام.
المفردات :
الملأ : أشراف القوم، خاصة الملك.
التفسير :
٢٩-﴿ قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليّ كتاب كريم ﴾
يترك القرآن الكريم مساحة من القول، يدركها السامع ويستنبطها.
أي : ذهب الهدهد فألقى الخطاب إلى الملكة في نظام عجيب لم تشاهد أمثاله الملوك، فالرسول حامل الخطاب هدهد يتطامن ويتسلل إلى مخدع الملكة، ويلقي إليها الخطاب، ثم ينصرف في أدب، ليترك لها فرصة المحاورة مع أهل الحل والعقد من حاشيتها.
ومعنى الآية :
جمعت المرأة حاشيتها، وأخبرتهم بأن كتابا كريما قد ألقى إليها، وطلبت المشورة في هذا الخطب الذي نزل بها.
وفي الآية إيماء إلى الأمور الآتية :
١-سرعة الهدهد في إيصال الكتاب إليهم.
٢-أنه أوتى قوة المعرفة فاستطاع أن يفهم بالسمع كلامهم.
٣-أنها ترجمت ذلك الكتاب فورا بواسطة مترجميها، أو تعرفت على محتواه إن كان باللغة التي تنطق بها.
٤-أن من آداب رسل الملوك أن يتنحوا قليلا عن المرسل إليهم بعد أداء الرسالة، ليتشاور المرسل إليهم فيها.
تمهيد :
تصف الآيات موقف سليمان من كلام الهدهد، وتكليف الهدهد برسالة إلى بلقيس ملكة سبأ، وترصد أخبارها، ونقل هذه الأخبار إلى سليمان عليه السلام.
٣٠، ٣١ –﴿ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم*ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين ﴾
إن هذا الخطاب من سليمان رسول الله، وبدايته :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ بأمر الله الخالق الإله الواحد الرحمان، كثير الرحمة، الرحيم، الذي يتفضل برحمته على عباده، أدعوكم ألا تتكبروا على دعوتي وأن تدخلوا في ديني وهو الإسلام، والخطاب على إيجازه خطاب بارع، مشتمل على الأمور الآتية :
١-إثبات الألوهية والوحدانية لله، وكونه رحمانا رحيما.
٢-نهيهم عن اتباع أهوائهم، ووجوب اتباعهم للحق.
٣-أمرهم بالمجيء إليه منقادين خاضعين، وبهذا يكون الخطاب قد جمع كل ما لا بد منه في الدين والدنيا.
المفردات :
ألا تعلو عليّ : لا تتكبروا، ولا تنقادوا للنفس والهوى.
مسلمين : منقادين خاضعين.
التفسير :
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:تمهيد :
تصف الآيات موقف سليمان من كلام الهدهد، وتكليف الهدهد برسالة إلى بلقيس ملكة سبأ، وترصد أخبارها، ونقل هذه الأخبار إلى سليمان عليه السلام.
٣٠، ٣١ –﴿ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم*ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين ﴾
إن هذا الخطاب من سليمان رسول الله، وبدايته :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ بأمر الله الخالق الإله الواحد الرحمان، كثير الرحمة، الرحيم، الذي يتفضل برحمته على عباده، أدعوكم ألا تتكبروا على دعوتي وأن تدخلوا في ديني وهو الإسلام، والخطاب على إيجازه خطاب بارع، مشتمل على الأمور الآتية :

١-
إثبات الألوهية والوحدانية لله، وكونه رحمانا رحيما.

٢-
نهيهم عن اتباع أهوائهم، ووجوب اتباعهم للحق.

٣-
أمرهم بالمجيء إليه منقادين خاضعين، وبهذا يكون الخطاب قد جمع كل ما لا بد منه في الدين والدنيا.

﴿ قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون( ٣٢ ) قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين( ٣٣ ) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون( ٣٤ ) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون( ٣٥ ) ﴾
المفردات :
أفتوني : أشيروا عليّ بما عندكم من الرأي والتدبير فيما حدث.
قاطعة أمرا : قاضية وفاصلة فيه.
تشهدون : تحضروني.
التفسير :
٣٢-﴿ قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ﴾
تشهد الآية بأن الملكة جمعت حاشيتها، وقادة جيوشها، وكررت طلب المشورة منهم، وقالت : أشيروا عليّ، وشاركوني في الرأي فيما نزل، فليس من شأني أن أحسم الأمور وأبدي الرأي فيها قبل مشورتكم.
ومثل هذا السير : واستشارة الحاكم لأهل الحل والعقد في أمور مملكته، أمر حكيم، حث عليه الإسلام وأمر به القرآن المكي والمدني قال تعالى :﴿ وأمرهم شورى بينهم.. ﴾ [ الشورى : ٣٨ ].
وقال سبحانه :﴿ وشاورهم في الأمر.. ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشورة لأصحابه مع أن الوحي ينزل عليه، وكذلك كان الخلفاء الراشدون، ومن سار على نهجهم.
المفردات :
أولو قوة : وفرة في العدد والآلات.
البأس : النجدة المفرطة، والبلاء في الحرب.
الأمر إليك : البتّ في الأمور موكول إليك.
التفسير :
٣٣-﴿ قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ﴾.
قال أهل مشورتها، وقادة جيوشها، وقد أحسوا رغبة الملكة في التعرف على رأيهم، ومدى مناصرتهم لها في مقاومة سليمان :
﴿ نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد.. ﴾
أصحاب خبرة في الحرب، والكر والفر، مع وفرة في العدد والآلات، والاستعداد للحروب، والمقاومة للغزاة، لا ترهبنا قوة، ولا ينهنهنا وعيد، وهذا دورنا وهذه مهمتنا، وأما البتّ في الأمور فهو موكول إليك، تقضين فيه بما تشائين، سلما وحربا.
قال القرطبي : أخذت في حسن الأدب مع قومها، ومشاورتهم في أمرهم في كل ما يعرض لها، فراجعها الملأ بما يقر عينها، من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلموا الأمر إلى نظرها، وهذه محاورة حسنة من الجميع.
ونقل ابن كثير عن الحسن البصري أنه قال : فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها، فلما قالوا لها ما قالوا، كانت هي أحزم رأيا منهم، وأعلم بأمر سليمان، وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه، وما سخر له من الجن والإنس والطير، وقد شاهدت من قضية الكتاب مع الهدهد أمرا عجيبا بديعا فخافت أن ينتصر سليمان عليها وعلى قومها.
المفردات :
دخلوا قرية : محاربين منتصرين.
أفسدوها : خرّبوها وقلبوا أوضاعها، وأتلفوا عمرانها.
أذلة : مهانين بالقتل والأسر، جمع ذليل.
التفسير :
٣٤-﴿ قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ﴾
قالت بلقيس للملأ من قومها، وقد أحسّت منهم الرغبة في الحرب : لا طاقة لنا بحرب سليمان الملك، فالملوك عادة إذا دخلوا بلدا فاتحين منتصرين، أو غزاة قاهرين، فإنهم يفسدون هذا البلد، بقتل الملوك والقادة وأسرهم، أو نفيهم وإخراجهم من البلد.
﴿ وجعلوا أعزة أهلها أذلة.. ﴾ أنزلوا الملوك والقادة والوزراء والأمراء من منازلهم، وحوّلوهم إلى مشردين مأسورين مطرودين، فإهانة الأشراف وتبديل القيادات، أمر مستمر لهم ليضمنوا استمرار سيطرتهم على البلد، ﴿ وكذلك يفعلون ﴾ وهذا شأنهم وديدنهم، في كل وقت وحين.
المفردات :
هدية : عطية عظيمة.
التفسير :
٣٥-﴿ وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ﴾
كانت ملكة أريبة عاقلة، داهية ذكية، فإذا كانت لا تطيق حرب سليمان، فلتشتر مودته، فقررت أن ترسل إليه هدية عظيمة، تليق بأمثاله، من الذهب واللؤلؤ والدر، والغلمان والوصيفات.
قال قتادة : ما كان أعقلها في إسلامها وشركها ! ! علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس.
وقال ابن عباس : قالت لقومها : إن قبل الهدية فهو ملك يريد الدنيا فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي صادق فاتبعوه٧.
﴿ فناظرة بم يرجع المرسلون ﴾
سأرى وأشاهد ما تشاهده الرسل، الذين أرسلهم بالهدية لمشاهدته ومقابلته، وتعرف أحواله، ثم أقرر ما يقتضيه المقام.
﴿ فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتان الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون( ٣٦ ) ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون( ٣٧ ) ﴾.
المفردات :
أتمدونن : تساعدونني.
التفسير :
٣٦-﴿ فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتان الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ﴾.
ذكر غير واحد من المفسرين : أنها بعثت إليه بهدية عظيمة، من ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك.
قال ابن كثير : والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب، فلم ينظر سليمان إلى ما جاءوا به بالكلية، ولا اعتنى به، بل أعرض عنه، وقال منكرا عليهم : أتمدونن بمال ؟.
أي : أتصانعونني لأترككم على شرككم وملككم ؟
﴿ فما آتان الله خير مما آتاكم ﴾.
أي : ما أعطاني الله من الملك والنبوة والرسالة، ومحبة الآخرة، وإيثار ما يرضي الله. خير مما أنتم فيه.
﴿ بل أنتم بهديتكم تفرحون ﴾.
أي : أنتم تفرحون بالهدايا لأنكم أهل مفاخرة ومكاثرة في الدنيا.
المفردات :
لا قبل لهم بها : لا طاقة لهم بلقائها، وأصل القبل : المقابلة، ثم جعل في الطاقة.
صاغرون : مهانون أذلة.
التفسير :
٣٧-﴿ ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ﴾
أي : قال لرئيس الوفد : ارجع إليهم بالهدية، فلن أقبلها، ولا أقبل إلا الإسلام أو السيف، ولديّ جنود لا طاقة لهم بقتالهم، وسنخرجهم من بلدهم أذلاء حقراء إن لم تأتوني مسلمين.
جاء في حاشية زاده على البيضاوي : قال ابن عباس : لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان، وأخبروها الخبر، قالت : قد عرفت ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليه بملوك قومي، حتى أنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك، ثم ارتحلت إليه في اثنى عشر ألف قائد.
وقال ابن كثير : فلما رجعت رسلها بهديتها، وبما قال سليمان، سمعت وأطاعت هي وقومها، وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة، معظمة لسليمان، ناوية متابعته في الإسلام، ولما تحقق سليمان عليه السلام من قدومها عليه، فرح بذلك وسرّه.
﴿ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين( ٣٨ ) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين( ٣٩ ) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم( ٤٠ ) قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون( ٤١ ) فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين( ٤٢ ) وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين( ٤٣ ) قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين( ٤٤ ) ﴾.
المفردات :
العرش : سرير الملك.
مسلمين : خاضعين منقادين.
تمهيد :
رفض سليمان هدية بلقيس، حيث إنه دعاها إلى الإسلام هي وقومها، فرغبت في مهادنته، بإرسال هدية أشبه برشوة، للمهادنة والسكوت عنهم، فرفض سليمان الهدية، وأنذرهم بالحرب، وكان لهذا الإنذار أثره، وقد تأكد لدى الملكة أن سليمان صادق في دعوته، ولديه من وسائل القوة ما يكفي للنصر، وقتل أعدائه وأسرهم، فأرسلت إليه تخبره بقدومها، مع أشراف قومها ورؤسائهم، وكانت الجن تخدم سليمان، وتخبره بتحرك بلقيس مع رؤساء قومها، فرغب سليمان أن يحضر عرش بلقيس، قبل أن تأتي وتظهر إسلامها.
التفسير :
٣٨-﴿ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ﴾
قال سليمان : أيها السادة الأعوان، أريد إحضار عرش الملكة من اليمن إلى الشام، في وقت وجيز قبل قدومها مسلمة، ليتأكد لديهم ما منحني الله من العناية والتأييد، وتسخير القوى الخارقة لخدمتي وتأييدي بالمعجزات، فيكون لذلك أثره في تعميق الإيمان في قلوبهم.
وذكر بعض المفسرين أنه أراد إحضار العرش قبل أن يأتوه مسلمين، لأنه بعد إسلامهم لا يحل له الاستيلاء على العرش، والظاهر : أن نبي الله سليمان كان زاهدا في الهدايا، راغبا في ثواب الله، وقيل : أراد أن يختبر ذكاء الملكة، عند تنكير العرش وتبديل بعض صفاته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خاتمة :
تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة، وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان، وخضوعها لله رب العالمين.
هل تزوج سليمان بلقيس ؟
يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه السلام من بلقيس قال الرازي : والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته.
وذكر الرازي في تفسيره عن ابن عباس : أنها لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري من قومك من أزوجك منه، فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال : النكاح من الإسلام، فقالت : إن كان كذلك فزوجني ذا تبع، ملك همدان، فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكا، والله أعلم.
خلاصة نعم الله على سليمان عليه السلام
ذكر سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة في سور : البقرة، والنساء، والأنعام، والأنبياء، والنمل، وسبأ، وقد بين القرآن نعم الله الكثيرة عليه ومن بينها ما يأتي :

١-
ذكاؤه وفراسته في القضاء، فقد منح الله سليمان ذكاء نادرا، وإصابة في القضاء والحكم، وكان حكمه أصوب من حكم أبيه داود عليه السلام.
قال تعالى :﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين* ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ﴾ [ الأنبياء : ٧٨-٧٩ ].
وقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سارت امرأتان ومع كل واحد ولدها، واستراحتا في الطريق فالتقم الذئب ابن إحداهما، فجاءتا إلى نبي الله داود، الكبرى معها الولد وتقول : هو ولدى، والصغرى تقول : بل هو ولدي، فقضى داود بالولد للكبرى، وسارتا عائدتين فوجدتا نبي الله سليمان، فقال لهما : بم قضى الملك ؟ قالتا : قضى بالولد للكبرى. فقال سليمان عدل الملك، وغير ذلك كان أوفق، فبلغ ذلك داود، فأرسل إليه وسأله عن رأيه فقال : أرى أن نقسم الولد نصفين، ونعطي لكل واحدة نصفا، فليست إحداهما أحق به من الأخرى، فأحضر الملك سيافا ماهرا وأحضر الصبي، ووضع السياف السيف على رأس الصبي، ليقسمه نصفين، فصرخت الصغرى وقالت : هو ولدها فلتأخذه كله، فقضى سليمان بالولد للصغرى " ٨.

٢-
تعليم الله له منطق الطير، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها، قال تعالى :﴿ وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ﴾ [ النمل : ١٦ ].

٣-
تسخير الرياح له تنقله من مكان إلى آخر بعيد، ويوجه الرياح حيث يشاء، قال تعالى :﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها... ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ].
وقال تعالى :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ﴾ [ ص : ٣٦ ]
وقال تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٤-
تربية الخيول : وهي الصافنات الجياد للجهاد، وكان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه السلام، كما هو مندوب في شرعنا.
روى البخاري، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم )٩.
وكان سليمان يستعرضها مسرورا بها ويمسح بناصيتها وسوقها وأعناقها، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها، قال تعالى :﴿ ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب* إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد* فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب*ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ﴾ [ ص : ٣٠-٣٣ ].
وأما تفسير الآيات بما يفيد أن سليمان انشغل بالخيل عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فطلب إعادة الخيل عليه فقطع أعناقها وسوقها فمما يتنافى مع منصب النبوة، كما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير.

٥-
فتنة سليمان : وإلقاء الجسد على كرسيه، وقد اختار العلامة أبو السعود والآلوسي في هذا الموضوع ما ورد في الصحيحين مرفوعا :( أن سليمان قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة من زوجاتي، تأتي كل واحد بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل : إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون )١٠.
قال تعالى :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب*قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب*فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص ﴾ [ ص : ٣٤-٣٧ ].
وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية، فلم تصحّ ولا يعوّل عليها.

٦-
إسالة عين القطر [ النحاس المذاب ] له : أنعم الله على سليمان عليه السلام بتطويع النحاس المذاب له، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة، ذات الحجارة الكبيرة، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان، كما ذكر تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٧-
تسخير الجن لسليمان، تبني له المحاريب والقصاع الكبيرة، والقدور الراسيات والتماثيل، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم، قال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير*يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.. ﴾ [ سبأ : ١٢، ١٣ ].
وقال سبحانه :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص*وآخرين مقرنين في الأصفاد*هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ﴾ [ ص : ٣٦-٣٩ ].
ومن هذه الآيات يتبين أن العصاة والمردة من الجن، يسر الله له عقوبتهم، وتقييدهم في السلاسل والأغلال، وظل الجن يخدمون سليمان، ويلبون أوامره ومن تمرد على طاعته عاقبه وسجنه وقيده بالسلاسل.

٨-
إسلام ملكة سبأ على يديه، فقد علم من الهدهد قصتها فأرسل لها رسالة يدعوها للإسلام، ورغبت الملكة في مجاملته ومصانعته، فأرسلت له هدية فرفضها، وهددها بالحرب، فخشيت الملكة عاقبة الحرب ليقينها بأن الله سخر له الجن والطير والإنس وقوى عظيمة تساعده، فجاءت بلقيس مع قومها، وأعلنت إسلامها، وعرض عليها سليمان مقدرته وتفوقه، فنقل عرشها في طرفة عين، وبنى لها قصرا عظيما، ومرد أرضه بالزجاج، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به، ثم لما دخلته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها لتخوضه، فقال لها سليمان : إنه صرح أملس من الزجاج، مموه بألوان المياه يهيأ لمن شاهده أنه لجة الماء ولكنه زجاج فوق الماء، عندئذ أحست الملكة أنها أمام مشاهد عجيبة، تعجز عن تفسيرها، وكلها تدل على أن سليمان رسول مؤيد بالمعجزات، ومعونة الله رب العالمين، فأعلنت إسلامها وقالت :﴿ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾.

٩-
قصة النملة التي أحست بقدوم سليمان وجنوده، فأمرت قومها بدخول مساكنهم، وفهم سليمان لغتها، وشكر الله على نعمه، قال تعالى :﴿ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون* حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون* فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ [ النمل : ١٧-١٩ ].

١٠-
موت سليمان : عندما مات سليمان أخفى الله موته على الجن مدة طويلة، قيل : إنها قرابة عام، فظلت الجن مسخرة في البناء والأعمال الصعبة، حتى لا تدعى الجن أنها تعرف الغيب، قال تعالى :﴿ فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ﴾ [ سبأ : ١٤ ].
إن هذا الملك والتسخير والمقدرة، وتذليل الرياح والطير والجن، وعين القطر والتشييد والإعمار، لا بد له من نهاية محتومة هي الموت، ﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].

تمهيد :
رفض سليمان هدية بلقيس، حيث إنه دعاها إلى الإسلام هي وقومها، فرغبت في مهادنته، بإرسال هدية أشبه برشوة، للمهادنة والسكوت عنهم، فرفض سليمان الهدية، وأنذرهم بالحرب، وكان لهذا الإنذار أثره، وقد تأكد لدى الملكة أن سليمان صادق في دعوته، ولديه من وسائل القوة ما يكفي للنصر، وقتل أعدائه وأسرهم، فأرسلت إليه تخبره بقدومها، مع أشراف قومها ورؤسائهم، وكانت الجن تخدم سليمان، وتخبره بتحرك بلقيس مع رؤساء قومها، فرغب سليمان أن يحضر عرش بلقيس، قبل أن تأتي وتظهر إسلامها.
المفردات :
عفريت : مارد خبيث.
لقوي : لقادر عليه لا يثقلني حمله.
أمين : لا أختلس منه ولا أغير فيه.
من مقامك : من مجلسك الذي تجلس فيه للقضاء، أو من جلستك.
التفسير :
٣٩-﴿ قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ﴾
أي : قال شيطان مارد من الجن : أنا أستطيع إحضاره في فترة مجلسك للقضاء، وكان يمتد قرابة نصف نهار، من الضحى إلى الظهيرة، وإني على هذا العمل قوي متمكن منه، أمين على ما به من الجواهر الثمينة، فقال سليمان : أريد من ينقله في فترة أقلّ من هذه الفترة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خاتمة :
تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة، وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان، وخضوعها لله رب العالمين.
هل تزوج سليمان بلقيس ؟
يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه السلام من بلقيس قال الرازي : والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته.
وذكر الرازي في تفسيره عن ابن عباس : أنها لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري من قومك من أزوجك منه، فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال : النكاح من الإسلام، فقالت : إن كان كذلك فزوجني ذا تبع، ملك همدان، فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكا، والله أعلم.
خلاصة نعم الله على سليمان عليه السلام
ذكر سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة في سور : البقرة، والنساء، والأنعام، والأنبياء، والنمل، وسبأ، وقد بين القرآن نعم الله الكثيرة عليه ومن بينها ما يأتي :

١-
ذكاؤه وفراسته في القضاء، فقد منح الله سليمان ذكاء نادرا، وإصابة في القضاء والحكم، وكان حكمه أصوب من حكم أبيه داود عليه السلام.
قال تعالى :﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين* ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ﴾ [ الأنبياء : ٧٨-٧٩ ].
وقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سارت امرأتان ومع كل واحد ولدها، واستراحتا في الطريق فالتقم الذئب ابن إحداهما، فجاءتا إلى نبي الله داود، الكبرى معها الولد وتقول : هو ولدى، والصغرى تقول : بل هو ولدي، فقضى داود بالولد للكبرى، وسارتا عائدتين فوجدتا نبي الله سليمان، فقال لهما : بم قضى الملك ؟ قالتا : قضى بالولد للكبرى. فقال سليمان عدل الملك، وغير ذلك كان أوفق، فبلغ ذلك داود، فأرسل إليه وسأله عن رأيه فقال : أرى أن نقسم الولد نصفين، ونعطي لكل واحدة نصفا، فليست إحداهما أحق به من الأخرى، فأحضر الملك سيافا ماهرا وأحضر الصبي، ووضع السياف السيف على رأس الصبي، ليقسمه نصفين، فصرخت الصغرى وقالت : هو ولدها فلتأخذه كله، فقضى سليمان بالولد للصغرى " ٨.

٢-
تعليم الله له منطق الطير، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها، قال تعالى :﴿ وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ﴾ [ النمل : ١٦ ].

٣-
تسخير الرياح له تنقله من مكان إلى آخر بعيد، ويوجه الرياح حيث يشاء، قال تعالى :﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها... ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ].
وقال تعالى :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ﴾ [ ص : ٣٦ ]
وقال تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٤-
تربية الخيول : وهي الصافنات الجياد للجهاد، وكان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه السلام، كما هو مندوب في شرعنا.
روى البخاري، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم )٩.
وكان سليمان يستعرضها مسرورا بها ويمسح بناصيتها وسوقها وأعناقها، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها، قال تعالى :﴿ ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب* إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد* فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب*ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ﴾ [ ص : ٣٠-٣٣ ].
وأما تفسير الآيات بما يفيد أن سليمان انشغل بالخيل عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فطلب إعادة الخيل عليه فقطع أعناقها وسوقها فمما يتنافى مع منصب النبوة، كما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير.

٥-
فتنة سليمان : وإلقاء الجسد على كرسيه، وقد اختار العلامة أبو السعود والآلوسي في هذا الموضوع ما ورد في الصحيحين مرفوعا :( أن سليمان قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة من زوجاتي، تأتي كل واحد بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل : إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون )١٠.
قال تعالى :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب*قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب*فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص ﴾ [ ص : ٣٤-٣٧ ].
وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية، فلم تصحّ ولا يعوّل عليها.

٦-
إسالة عين القطر [ النحاس المذاب ] له : أنعم الله على سليمان عليه السلام بتطويع النحاس المذاب له، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة، ذات الحجارة الكبيرة، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان، كما ذكر تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٧-
تسخير الجن لسليمان، تبني له المحاريب والقصاع الكبيرة، والقدور الراسيات والتماثيل، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم، قال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير*يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.. ﴾ [ سبأ : ١٢، ١٣ ].
وقال سبحانه :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص*وآخرين مقرنين في الأصفاد*هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ﴾ [ ص : ٣٦-٣٩ ].
ومن هذه الآيات يتبين أن العصاة والمردة من الجن، يسر الله له عقوبتهم، وتقييدهم في السلاسل والأغلال، وظل الجن يخدمون سليمان، ويلبون أوامره ومن تمرد على طاعته عاقبه وسجنه وقيده بالسلاسل.

٨-
إسلام ملكة سبأ على يديه، فقد علم من الهدهد قصتها فأرسل لها رسالة يدعوها للإسلام، ورغبت الملكة في مجاملته ومصانعته، فأرسلت له هدية فرفضها، وهددها بالحرب، فخشيت الملكة عاقبة الحرب ليقينها بأن الله سخر له الجن والطير والإنس وقوى عظيمة تساعده، فجاءت بلقيس مع قومها، وأعلنت إسلامها، وعرض عليها سليمان مقدرته وتفوقه، فنقل عرشها في طرفة عين، وبنى لها قصرا عظيما، ومرد أرضه بالزجاج، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به، ثم لما دخلته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها لتخوضه، فقال لها سليمان : إنه صرح أملس من الزجاج، مموه بألوان المياه يهيأ لمن شاهده أنه لجة الماء ولكنه زجاج فوق الماء، عندئذ أحست الملكة أنها أمام مشاهد عجيبة، تعجز عن تفسيرها، وكلها تدل على أن سليمان رسول مؤيد بالمعجزات، ومعونة الله رب العالمين، فأعلنت إسلامها وقالت :﴿ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾.

٩-
قصة النملة التي أحست بقدوم سليمان وجنوده، فأمرت قومها بدخول مساكنهم، وفهم سليمان لغتها، وشكر الله على نعمه، قال تعالى :﴿ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون* حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون* فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ [ النمل : ١٧-١٩ ].

١٠-
موت سليمان : عندما مات سليمان أخفى الله موته على الجن مدة طويلة، قيل : إنها قرابة عام، فظلت الجن مسخرة في البناء والأعمال الصعبة، حتى لا تدعى الجن أنها تعرف الغيب، قال تعالى :﴿ فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ﴾ [ سبأ : ١٤ ].
إن هذا الملك والتسخير والمقدرة، وتذليل الرياح والطير والجن، وعين القطر والتشييد والإعمار، لا بد له من نهاية محتومة هي الموت، ﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].

تمهيد :
رفض سليمان هدية بلقيس، حيث إنه دعاها إلى الإسلام هي وقومها، فرغبت في مهادنته، بإرسال هدية أشبه برشوة، للمهادنة والسكوت عنهم، فرفض سليمان الهدية، وأنذرهم بالحرب، وكان لهذا الإنذار أثره، وقد تأكد لدى الملكة أن سليمان صادق في دعوته، ولديه من وسائل القوة ما يكفي للنصر، وقتل أعدائه وأسرهم، فأرسلت إليه تخبره بقدومها، مع أشراف قومها ورؤسائهم، وكانت الجن تخدم سليمان، وتخبره بتحرك بلقيس مع رؤساء قومها، فرغب سليمان أن يحضر عرش بلقيس، قبل أن تأتي وتظهر إسلامها.
المفردات :
الذي عنده علم : سليمان، أو آصف بن برخيا وزير سليمان، وقيل : الخضر، وقيل : ملك أيده الله به.
يرتد : يرجع.
الطرف : تحريك الأجفان، والمراد بذلك : السرعة العظيمة.
مستقرا : ساكنا قارا على حاله التي كان عليها.
الفضل : التفضل والإحسان.
ليبلوني : ليختبرني.
أم أكفر : أقصر في أداء واجب الشكر.
التفسير :
٤٠-﴿ قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.. ﴾ الآية.
أي : قال شخص عنده علم بأسرار الكتاب الإلهي، والتشريع وألوان الهدايات : أنا أحضره لك في لمح البصر، قبل أن تغمض عينيك، وقبل أن يرجع إليك نظرك، وهذا العالم، قيل : كان من الملائكة، إما جبريل وإما غيره من الملائكة، أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، وقيل : كان من الإنس، وهو آصف بن برخيا وزير سليمان، وهو المشهور من قول ابن عباس، وكان يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجيب، وقيل : يا حيّ يا قيوم، هو الاسم الأعظم، وقيل : الذي عنده علم من الكتاب هو الخضر عليه السلام.
والراجح في رأي الرازي أنه سليمان عليه السلام : لأنه أعرف بالكتاب من غيره، لأنه هو النبي.
وقال أبو حيان : ومن أغرب الأقوال : أنه سليمان عليه السلام، كأنه يقول لنفسه : أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك، والمهم أنه حدث ما وعد به هذا العالم، والله أعلم به، والأوفق أن يقال : عبد صالح عالم بكتاب الله وشرائعه، أو أسرار أسمائه الحسنى، أحضر العرش في طرفة عين، وكان ما عنده من علم بالكتاب باعثا له على الترقي الروحي والسمو النفسي، واستخدام ما وهبه الله من قوى وأسرار.
﴿ فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر.. ﴾
لمست هذه النعمة قلب سليمان، حين رأى العرش مستقرا وموجودا في مكان يجاوره، في سرعة لمح البصر، فأرجع النعمة إلى المنعم، وقال : هذا من فضل الله ومعونته، ليختبرني هل أشكر النعمة فأنسبها إلى صاحبها وهو الله، أم أجحد وأقول إن ذلك بحسن تقديري وقدرتي.
﴿ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ﴾.
من شكر الله تعالى فإن الله يزيده من نعمائه، ويعطيه المعونة والتوفيق والبركة، ومن كفر فإن الله غني عنه، كريم متفضل يعطي العباد ولا ينتظر الجزاء.
قال تعالى :﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ﴾ [ فاطر : ١٥ ].
وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل : " يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها ؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خاتمة :
تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة، وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان، وخضوعها لله رب العالمين.
هل تزوج سليمان بلقيس ؟
يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه السلام من بلقيس قال الرازي : والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته.
وذكر الرازي في تفسيره عن ابن عباس : أنها لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري من قومك من أزوجك منه، فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال : النكاح من الإسلام، فقالت : إن كان كذلك فزوجني ذا تبع، ملك همدان، فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكا، والله أعلم.
خلاصة نعم الله على سليمان عليه السلام
ذكر سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة في سور : البقرة، والنساء، والأنعام، والأنبياء، والنمل، وسبأ، وقد بين القرآن نعم الله الكثيرة عليه ومن بينها ما يأتي :

١-
ذكاؤه وفراسته في القضاء، فقد منح الله سليمان ذكاء نادرا، وإصابة في القضاء والحكم، وكان حكمه أصوب من حكم أبيه داود عليه السلام.
قال تعالى :﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين* ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ﴾ [ الأنبياء : ٧٨-٧٩ ].
وقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سارت امرأتان ومع كل واحد ولدها، واستراحتا في الطريق فالتقم الذئب ابن إحداهما، فجاءتا إلى نبي الله داود، الكبرى معها الولد وتقول : هو ولدى، والصغرى تقول : بل هو ولدي، فقضى داود بالولد للكبرى، وسارتا عائدتين فوجدتا نبي الله سليمان، فقال لهما : بم قضى الملك ؟ قالتا : قضى بالولد للكبرى. فقال سليمان عدل الملك، وغير ذلك كان أوفق، فبلغ ذلك داود، فأرسل إليه وسأله عن رأيه فقال : أرى أن نقسم الولد نصفين، ونعطي لكل واحدة نصفا، فليست إحداهما أحق به من الأخرى، فأحضر الملك سيافا ماهرا وأحضر الصبي، ووضع السياف السيف على رأس الصبي، ليقسمه نصفين، فصرخت الصغرى وقالت : هو ولدها فلتأخذه كله، فقضى سليمان بالولد للصغرى " ٨.

٢-
تعليم الله له منطق الطير، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها، قال تعالى :﴿ وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ﴾ [ النمل : ١٦ ].

٣-
تسخير الرياح له تنقله من مكان إلى آخر بعيد، ويوجه الرياح حيث يشاء، قال تعالى :﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها... ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ].
وقال تعالى :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ﴾ [ ص : ٣٦ ]
وقال تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٤-
تربية الخيول : وهي الصافنات الجياد للجهاد، وكان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه السلام، كما هو مندوب في شرعنا.
روى البخاري، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم )٩.
وكان سليمان يستعرضها مسرورا بها ويمسح بناصيتها وسوقها وأعناقها، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها، قال تعالى :﴿ ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب* إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد* فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب*ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ﴾ [ ص : ٣٠-٣٣ ].
وأما تفسير الآيات بما يفيد أن سليمان انشغل بالخيل عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فطلب إعادة الخيل عليه فقطع أعناقها وسوقها فمما يتنافى مع منصب النبوة، كما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير.

٥-
فتنة سليمان : وإلقاء الجسد على كرسيه، وقد اختار العلامة أبو السعود والآلوسي في هذا الموضوع ما ورد في الصحيحين مرفوعا :( أن سليمان قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة من زوجاتي، تأتي كل واحد بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل : إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون )١٠.
قال تعالى :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب*قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب*فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص ﴾ [ ص : ٣٤-٣٧ ].
وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية، فلم تصحّ ولا يعوّل عليها.

٦-
إسالة عين القطر [ النحاس المذاب ] له : أنعم الله على سليمان عليه السلام بتطويع النحاس المذاب له، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة، ذات الحجارة الكبيرة، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان، كما ذكر تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٧-
تسخير الجن لسليمان، تبني له المحاريب والقصاع الكبيرة، والقدور الراسيات والتماثيل، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم، قال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير*يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.. ﴾ [ سبأ : ١٢، ١٣ ].
وقال سبحانه :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص*وآخرين مقرنين في الأصفاد*هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ﴾ [ ص : ٣٦-٣٩ ].
ومن هذه الآيات يتبين أن العصاة والمردة من الجن، يسر الله له عقوبتهم، وتقييدهم في السلاسل والأغلال، وظل الجن يخدمون سليمان، ويلبون أوامره ومن تمرد على طاعته عاقبه وسجنه وقيده بالسلاسل.

٨-
إسلام ملكة سبأ على يديه، فقد علم من الهدهد قصتها فأرسل لها رسالة يدعوها للإسلام، ورغبت الملكة في مجاملته ومصانعته، فأرسلت له هدية فرفضها، وهددها بالحرب، فخشيت الملكة عاقبة الحرب ليقينها بأن الله سخر له الجن والطير والإنس وقوى عظيمة تساعده، فجاءت بلقيس مع قومها، وأعلنت إسلامها، وعرض عليها سليمان مقدرته وتفوقه، فنقل عرشها في طرفة عين، وبنى لها قصرا عظيما، ومرد أرضه بالزجاج، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به، ثم لما دخلته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها لتخوضه، فقال لها سليمان : إنه صرح أملس من الزجاج، مموه بألوان المياه يهيأ لمن شاهده أنه لجة الماء ولكنه زجاج فوق الماء، عندئذ أحست الملكة أنها أمام مشاهد عجيبة، تعجز عن تفسيرها، وكلها تدل على أن سليمان رسول مؤيد بالمعجزات، ومعونة الله رب العالمين، فأعلنت إسلامها وقالت :﴿ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾.

٩-
قصة النملة التي أحست بقدوم سليمان وجنوده، فأمرت قومها بدخول مساكنهم، وفهم سليمان لغتها، وشكر الله على نعمه، قال تعالى :﴿ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون* حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون* فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ [ النمل : ١٧-١٩ ].

١٠-
موت سليمان : عندما مات سليمان أخفى الله موته على الجن مدة طويلة، قيل : إنها قرابة عام، فظلت الجن مسخرة في البناء والأعمال الصعبة، حتى لا تدعى الجن أنها تعرف الغيب، قال تعالى :﴿ فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ﴾ [ سبأ : ١٤ ].
إن هذا الملك والتسخير والمقدرة، وتذليل الرياح والطير والجن، وعين القطر والتشييد والإعمار، لا بد له من نهاية محتومة هي الموت، ﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].

تمهيد :
رفض سليمان هدية بلقيس، حيث إنه دعاها إلى الإسلام هي وقومها، فرغبت في مهادنته، بإرسال هدية أشبه برشوة، للمهادنة والسكوت عنهم، فرفض سليمان الهدية، وأنذرهم بالحرب، وكان لهذا الإنذار أثره، وقد تأكد لدى الملكة أن سليمان صادق في دعوته، ولديه من وسائل القوة ما يكفي للنصر، وقتل أعدائه وأسرهم، فأرسلت إليه تخبره بقدومها، مع أشراف قومها ورؤسائهم، وكانت الجن تخدم سليمان، وتخبره بتحرك بلقيس مع رؤساء قومها، فرغب سليمان أن يحضر عرش بلقيس، قبل أن تأتي وتظهر إسلامها.
ثم أراد سليمان أن يختبر بلقيس، كما حكى تعالى :
٤١-﴿ قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ﴾.
قال سليمان : غيّروا في صفات العرش بالزيادة والنقصان مثلا، أو جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه ؛ لنختبر ذكاءها وقدرتها على الإجابة في أحداث غريبة.
فقد تركت عرشها في اليمن وحوله أبنية ضخمة وحراس أقوياء، وهي تراه مستقرا في بيت المقدس على مسافة بعيدة، لكنها كانت في غاية الذكاء، واهتدت إلى إجابة مناسبة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خاتمة :
تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة، وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان، وخضوعها لله رب العالمين.
هل تزوج سليمان بلقيس ؟
يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه السلام من بلقيس قال الرازي : والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته.
وذكر الرازي في تفسيره عن ابن عباس : أنها لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري من قومك من أزوجك منه، فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال : النكاح من الإسلام، فقالت : إن كان كذلك فزوجني ذا تبع، ملك همدان، فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكا، والله أعلم.
خلاصة نعم الله على سليمان عليه السلام
ذكر سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة في سور : البقرة، والنساء، والأنعام، والأنبياء، والنمل، وسبأ، وقد بين القرآن نعم الله الكثيرة عليه ومن بينها ما يأتي :

١-
ذكاؤه وفراسته في القضاء، فقد منح الله سليمان ذكاء نادرا، وإصابة في القضاء والحكم، وكان حكمه أصوب من حكم أبيه داود عليه السلام.
قال تعالى :﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين* ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ﴾ [ الأنبياء : ٧٨-٧٩ ].
وقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سارت امرأتان ومع كل واحد ولدها، واستراحتا في الطريق فالتقم الذئب ابن إحداهما، فجاءتا إلى نبي الله داود، الكبرى معها الولد وتقول : هو ولدى، والصغرى تقول : بل هو ولدي، فقضى داود بالولد للكبرى، وسارتا عائدتين فوجدتا نبي الله سليمان، فقال لهما : بم قضى الملك ؟ قالتا : قضى بالولد للكبرى. فقال سليمان عدل الملك، وغير ذلك كان أوفق، فبلغ ذلك داود، فأرسل إليه وسأله عن رأيه فقال : أرى أن نقسم الولد نصفين، ونعطي لكل واحدة نصفا، فليست إحداهما أحق به من الأخرى، فأحضر الملك سيافا ماهرا وأحضر الصبي، ووضع السياف السيف على رأس الصبي، ليقسمه نصفين، فصرخت الصغرى وقالت : هو ولدها فلتأخذه كله، فقضى سليمان بالولد للصغرى " ٨.

٢-
تعليم الله له منطق الطير، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها، قال تعالى :﴿ وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ﴾ [ النمل : ١٦ ].

٣-
تسخير الرياح له تنقله من مكان إلى آخر بعيد، ويوجه الرياح حيث يشاء، قال تعالى :﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها... ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ].
وقال تعالى :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ﴾ [ ص : ٣٦ ]
وقال تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٤-
تربية الخيول : وهي الصافنات الجياد للجهاد، وكان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه السلام، كما هو مندوب في شرعنا.
روى البخاري، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم )٩.
وكان سليمان يستعرضها مسرورا بها ويمسح بناصيتها وسوقها وأعناقها، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها، قال تعالى :﴿ ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب* إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد* فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب*ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ﴾ [ ص : ٣٠-٣٣ ].
وأما تفسير الآيات بما يفيد أن سليمان انشغل بالخيل عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فطلب إعادة الخيل عليه فقطع أعناقها وسوقها فمما يتنافى مع منصب النبوة، كما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير.

٥-
فتنة سليمان : وإلقاء الجسد على كرسيه، وقد اختار العلامة أبو السعود والآلوسي في هذا الموضوع ما ورد في الصحيحين مرفوعا :( أن سليمان قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة من زوجاتي، تأتي كل واحد بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل : إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون )١٠.
قال تعالى :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب*قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب*فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص ﴾ [ ص : ٣٤-٣٧ ].
وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية، فلم تصحّ ولا يعوّل عليها.

٦-
إسالة عين القطر [ النحاس المذاب ] له : أنعم الله على سليمان عليه السلام بتطويع النحاس المذاب له، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة، ذات الحجارة الكبيرة، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان، كما ذكر تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٧-
تسخير الجن لسليمان، تبني له المحاريب والقصاع الكبيرة، والقدور الراسيات والتماثيل، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم، قال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير*يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.. ﴾ [ سبأ : ١٢، ١٣ ].
وقال سبحانه :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص*وآخرين مقرنين في الأصفاد*هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ﴾ [ ص : ٣٦-٣٩ ].
ومن هذه الآيات يتبين أن العصاة والمردة من الجن، يسر الله له عقوبتهم، وتقييدهم في السلاسل والأغلال، وظل الجن يخدمون سليمان، ويلبون أوامره ومن تمرد على طاعته عاقبه وسجنه وقيده بالسلاسل.

٨-
إسلام ملكة سبأ على يديه، فقد علم من الهدهد قصتها فأرسل لها رسالة يدعوها للإسلام، ورغبت الملكة في مجاملته ومصانعته، فأرسلت له هدية فرفضها، وهددها بالحرب، فخشيت الملكة عاقبة الحرب ليقينها بأن الله سخر له الجن والطير والإنس وقوى عظيمة تساعده، فجاءت بلقيس مع قومها، وأعلنت إسلامها، وعرض عليها سليمان مقدرته وتفوقه، فنقل عرشها في طرفة عين، وبنى لها قصرا عظيما، ومرد أرضه بالزجاج، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به، ثم لما دخلته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها لتخوضه، فقال لها سليمان : إنه صرح أملس من الزجاج، مموه بألوان المياه يهيأ لمن شاهده أنه لجة الماء ولكنه زجاج فوق الماء، عندئذ أحست الملكة أنها أمام مشاهد عجيبة، تعجز عن تفسيرها، وكلها تدل على أن سليمان رسول مؤيد بالمعجزات، ومعونة الله رب العالمين، فأعلنت إسلامها وقالت :﴿ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾.

٩-
قصة النملة التي أحست بقدوم سليمان وجنوده، فأمرت قومها بدخول مساكنهم، وفهم سليمان لغتها، وشكر الله على نعمه، قال تعالى :﴿ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون* حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون* فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ [ النمل : ١٧-١٩ ].

١٠-
موت سليمان : عندما مات سليمان أخفى الله موته على الجن مدة طويلة، قيل : إنها قرابة عام، فظلت الجن مسخرة في البناء والأعمال الصعبة، حتى لا تدعى الجن أنها تعرف الغيب، قال تعالى :﴿ فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ﴾ [ سبأ : ١٤ ].
إن هذا الملك والتسخير والمقدرة، وتذليل الرياح والطير والجن، وعين القطر والتشييد والإعمار، لا بد له من نهاية محتومة هي الموت، ﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].

تمهيد :
رفض سليمان هدية بلقيس، حيث إنه دعاها إلى الإسلام هي وقومها، فرغبت في مهادنته، بإرسال هدية أشبه برشوة، للمهادنة والسكوت عنهم، فرفض سليمان الهدية، وأنذرهم بالحرب، وكان لهذا الإنذار أثره، وقد تأكد لدى الملكة أن سليمان صادق في دعوته، ولديه من وسائل القوة ما يكفي للنصر، وقتل أعدائه وأسرهم، فأرسلت إليه تخبره بقدومها، مع أشراف قومها ورؤسائهم، وكانت الجن تخدم سليمان، وتخبره بتحرك بلقيس مع رؤساء قومها، فرغب سليمان أن يحضر عرش بلقيس، قبل أن تأتي وتظهر إسلامها.
٤٢-﴿ فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو.. ﴾
أقبلت بلقيس من اليمن، وشاهدت عرشها وفيه بعض التغيير، وأما هذه الدهشة المحيرة أجابت إجابة مناسبة.
﴿ قالت كأنه هو.. ﴾
هو يشبهه إلى درجة بعيدة، فلم تثبت ولم تنف.
واستطردت بلقيس فقالت :
﴿ وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ﴾.
أي : أدركنا عظمة الله وفضله، وعلمنا قدرته وسلطانه العظيم، وعلمنا أن فضل الله على سليمان كان عظيما، حيث سخر له الطير والجن وقوى كونية : فأسلمنا وآمنا بالله تعالى ربا، وبسليمان رسولا.
والخلاصة : علمنا بالله ربا، وبسليمان رسولا، من قبل مشاهدة نقل هذا العرش أو تغيير أوصافه، وهذا رأي جمهور المفسرين، وبعضهم رأى أن الجملة من كلام سليمان، وتفيد أن الله أعطاه العلم والإسلام والنبوة، والفضل العظيم في تسخير قوى الكون، والرأي الأول أرجح.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خاتمة :
تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة، وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان، وخضوعها لله رب العالمين.
هل تزوج سليمان بلقيس ؟
يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه السلام من بلقيس قال الرازي : والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته.
وذكر الرازي في تفسيره عن ابن عباس : أنها لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري من قومك من أزوجك منه، فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال : النكاح من الإسلام، فقالت : إن كان كذلك فزوجني ذا تبع، ملك همدان، فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكا، والله أعلم.
خلاصة نعم الله على سليمان عليه السلام
ذكر سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة في سور : البقرة، والنساء، والأنعام، والأنبياء، والنمل، وسبأ، وقد بين القرآن نعم الله الكثيرة عليه ومن بينها ما يأتي :

١-
ذكاؤه وفراسته في القضاء، فقد منح الله سليمان ذكاء نادرا، وإصابة في القضاء والحكم، وكان حكمه أصوب من حكم أبيه داود عليه السلام.
قال تعالى :﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين* ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ﴾ [ الأنبياء : ٧٨-٧٩ ].
وقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سارت امرأتان ومع كل واحد ولدها، واستراحتا في الطريق فالتقم الذئب ابن إحداهما، فجاءتا إلى نبي الله داود، الكبرى معها الولد وتقول : هو ولدى، والصغرى تقول : بل هو ولدي، فقضى داود بالولد للكبرى، وسارتا عائدتين فوجدتا نبي الله سليمان، فقال لهما : بم قضى الملك ؟ قالتا : قضى بالولد للكبرى. فقال سليمان عدل الملك، وغير ذلك كان أوفق، فبلغ ذلك داود، فأرسل إليه وسأله عن رأيه فقال : أرى أن نقسم الولد نصفين، ونعطي لكل واحدة نصفا، فليست إحداهما أحق به من الأخرى، فأحضر الملك سيافا ماهرا وأحضر الصبي، ووضع السياف السيف على رأس الصبي، ليقسمه نصفين، فصرخت الصغرى وقالت : هو ولدها فلتأخذه كله، فقضى سليمان بالولد للصغرى " ٨.

٢-
تعليم الله له منطق الطير، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها، قال تعالى :﴿ وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ﴾ [ النمل : ١٦ ].

٣-
تسخير الرياح له تنقله من مكان إلى آخر بعيد، ويوجه الرياح حيث يشاء، قال تعالى :﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها... ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ].
وقال تعالى :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ﴾ [ ص : ٣٦ ]
وقال تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٤-
تربية الخيول : وهي الصافنات الجياد للجهاد، وكان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه السلام، كما هو مندوب في شرعنا.
روى البخاري، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم )٩.
وكان سليمان يستعرضها مسرورا بها ويمسح بناصيتها وسوقها وأعناقها، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها، قال تعالى :﴿ ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب* إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد* فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب*ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ﴾ [ ص : ٣٠-٣٣ ].
وأما تفسير الآيات بما يفيد أن سليمان انشغل بالخيل عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فطلب إعادة الخيل عليه فقطع أعناقها وسوقها فمما يتنافى مع منصب النبوة، كما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير.

٥-
فتنة سليمان : وإلقاء الجسد على كرسيه، وقد اختار العلامة أبو السعود والآلوسي في هذا الموضوع ما ورد في الصحيحين مرفوعا :( أن سليمان قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة من زوجاتي، تأتي كل واحد بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل : إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون )١٠.
قال تعالى :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب*قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب*فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص ﴾ [ ص : ٣٤-٣٧ ].
وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية، فلم تصحّ ولا يعوّل عليها.

٦-
إسالة عين القطر [ النحاس المذاب ] له : أنعم الله على سليمان عليه السلام بتطويع النحاس المذاب له، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة، ذات الحجارة الكبيرة، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان، كما ذكر تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٧-
تسخير الجن لسليمان، تبني له المحاريب والقصاع الكبيرة، والقدور الراسيات والتماثيل، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم، قال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير*يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.. ﴾ [ سبأ : ١٢، ١٣ ].
وقال سبحانه :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص*وآخرين مقرنين في الأصفاد*هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ﴾ [ ص : ٣٦-٣٩ ].
ومن هذه الآيات يتبين أن العصاة والمردة من الجن، يسر الله له عقوبتهم، وتقييدهم في السلاسل والأغلال، وظل الجن يخدمون سليمان، ويلبون أوامره ومن تمرد على طاعته عاقبه وسجنه وقيده بالسلاسل.

٨-
إسلام ملكة سبأ على يديه، فقد علم من الهدهد قصتها فأرسل لها رسالة يدعوها للإسلام، ورغبت الملكة في مجاملته ومصانعته، فأرسلت له هدية فرفضها، وهددها بالحرب، فخشيت الملكة عاقبة الحرب ليقينها بأن الله سخر له الجن والطير والإنس وقوى عظيمة تساعده، فجاءت بلقيس مع قومها، وأعلنت إسلامها، وعرض عليها سليمان مقدرته وتفوقه، فنقل عرشها في طرفة عين، وبنى لها قصرا عظيما، ومرد أرضه بالزجاج، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به، ثم لما دخلته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها لتخوضه، فقال لها سليمان : إنه صرح أملس من الزجاج، مموه بألوان المياه يهيأ لمن شاهده أنه لجة الماء ولكنه زجاج فوق الماء، عندئذ أحست الملكة أنها أمام مشاهد عجيبة، تعجز عن تفسيرها، وكلها تدل على أن سليمان رسول مؤيد بالمعجزات، ومعونة الله رب العالمين، فأعلنت إسلامها وقالت :﴿ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾.

٩-
قصة النملة التي أحست بقدوم سليمان وجنوده، فأمرت قومها بدخول مساكنهم، وفهم سليمان لغتها، وشكر الله على نعمه، قال تعالى :﴿ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون* حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون* فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ [ النمل : ١٧-١٩ ].

١٠-
موت سليمان : عندما مات سليمان أخفى الله موته على الجن مدة طويلة، قيل : إنها قرابة عام، فظلت الجن مسخرة في البناء والأعمال الصعبة، حتى لا تدعى الجن أنها تعرف الغيب، قال تعالى :﴿ فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ﴾ [ سبأ : ١٤ ].
إن هذا الملك والتسخير والمقدرة، وتذليل الرياح والطير والجن، وعين القطر والتشييد والإعمار، لا بد له من نهاية محتومة هي الموت، ﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].

تمهيد :
رفض سليمان هدية بلقيس، حيث إنه دعاها إلى الإسلام هي وقومها، فرغبت في مهادنته، بإرسال هدية أشبه برشوة، للمهادنة والسكوت عنهم، فرفض سليمان الهدية، وأنذرهم بالحرب، وكان لهذا الإنذار أثره، وقد تأكد لدى الملكة أن سليمان صادق في دعوته، ولديه من وسائل القوة ما يكفي للنصر، وقتل أعدائه وأسرهم، فأرسلت إليه تخبره بقدومها، مع أشراف قومها ورؤسائهم، وكانت الجن تخدم سليمان، وتخبره بتحرك بلقيس مع رؤساء قومها، فرغب سليمان أن يحضر عرش بلقيس، قبل أن تأتي وتظهر إسلامها.
٤٣-﴿ وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ﴾
أي : منعها عن الإيمان بالله عبادتها القديمة للشمس والقمر.
﴿ إنها كانت من قوم كافرين ﴾ أي : بسبب كفرها ونشوئها بين قوم مشركين.
وقال ابن كثير :
﴿ وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ﴾ هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام في قول مجاهد، أي : قال سليمان :﴿ وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ﴾.
وهي كانت قد صدها، أي منعها من عبادة الله وحده، ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين }.
وهذا الذي قاله مجاهد، هو قول سعيد بن جبير، وقد اختاره ابن جرير، وابن كثير.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خاتمة :
تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة، وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان، وخضوعها لله رب العالمين.
هل تزوج سليمان بلقيس ؟
يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه السلام من بلقيس قال الرازي : والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته.
وذكر الرازي في تفسيره عن ابن عباس : أنها لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري من قومك من أزوجك منه، فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال : النكاح من الإسلام، فقالت : إن كان كذلك فزوجني ذا تبع، ملك همدان، فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكا، والله أعلم.
خلاصة نعم الله على سليمان عليه السلام
ذكر سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة في سور : البقرة، والنساء، والأنعام، والأنبياء، والنمل، وسبأ، وقد بين القرآن نعم الله الكثيرة عليه ومن بينها ما يأتي :

١-
ذكاؤه وفراسته في القضاء، فقد منح الله سليمان ذكاء نادرا، وإصابة في القضاء والحكم، وكان حكمه أصوب من حكم أبيه داود عليه السلام.
قال تعالى :﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين* ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ﴾ [ الأنبياء : ٧٨-٧٩ ].
وقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سارت امرأتان ومع كل واحد ولدها، واستراحتا في الطريق فالتقم الذئب ابن إحداهما، فجاءتا إلى نبي الله داود، الكبرى معها الولد وتقول : هو ولدى، والصغرى تقول : بل هو ولدي، فقضى داود بالولد للكبرى، وسارتا عائدتين فوجدتا نبي الله سليمان، فقال لهما : بم قضى الملك ؟ قالتا : قضى بالولد للكبرى. فقال سليمان عدل الملك، وغير ذلك كان أوفق، فبلغ ذلك داود، فأرسل إليه وسأله عن رأيه فقال : أرى أن نقسم الولد نصفين، ونعطي لكل واحدة نصفا، فليست إحداهما أحق به من الأخرى، فأحضر الملك سيافا ماهرا وأحضر الصبي، ووضع السياف السيف على رأس الصبي، ليقسمه نصفين، فصرخت الصغرى وقالت : هو ولدها فلتأخذه كله، فقضى سليمان بالولد للصغرى " ٨.

٢-
تعليم الله له منطق الطير، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها، قال تعالى :﴿ وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ﴾ [ النمل : ١٦ ].

٣-
تسخير الرياح له تنقله من مكان إلى آخر بعيد، ويوجه الرياح حيث يشاء، قال تعالى :﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها... ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ].
وقال تعالى :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ﴾ [ ص : ٣٦ ]
وقال تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٤-
تربية الخيول : وهي الصافنات الجياد للجهاد، وكان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه السلام، كما هو مندوب في شرعنا.
روى البخاري، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم )٩.
وكان سليمان يستعرضها مسرورا بها ويمسح بناصيتها وسوقها وأعناقها، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها، قال تعالى :﴿ ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب* إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد* فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب*ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ﴾ [ ص : ٣٠-٣٣ ].
وأما تفسير الآيات بما يفيد أن سليمان انشغل بالخيل عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فطلب إعادة الخيل عليه فقطع أعناقها وسوقها فمما يتنافى مع منصب النبوة، كما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير.

٥-
فتنة سليمان : وإلقاء الجسد على كرسيه، وقد اختار العلامة أبو السعود والآلوسي في هذا الموضوع ما ورد في الصحيحين مرفوعا :( أن سليمان قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة من زوجاتي، تأتي كل واحد بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل : إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون )١٠.
قال تعالى :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب*قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب*فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص ﴾ [ ص : ٣٤-٣٧ ].
وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية، فلم تصحّ ولا يعوّل عليها.

٦-
إسالة عين القطر [ النحاس المذاب ] له : أنعم الله على سليمان عليه السلام بتطويع النحاس المذاب له، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة، ذات الحجارة الكبيرة، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان، كما ذكر تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٧-
تسخير الجن لسليمان، تبني له المحاريب والقصاع الكبيرة، والقدور الراسيات والتماثيل، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم، قال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير*يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.. ﴾ [ سبأ : ١٢، ١٣ ].
وقال سبحانه :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص*وآخرين مقرنين في الأصفاد*هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ﴾ [ ص : ٣٦-٣٩ ].
ومن هذه الآيات يتبين أن العصاة والمردة من الجن، يسر الله له عقوبتهم، وتقييدهم في السلاسل والأغلال، وظل الجن يخدمون سليمان، ويلبون أوامره ومن تمرد على طاعته عاقبه وسجنه وقيده بالسلاسل.

٨-
إسلام ملكة سبأ على يديه، فقد علم من الهدهد قصتها فأرسل لها رسالة يدعوها للإسلام، ورغبت الملكة في مجاملته ومصانعته، فأرسلت له هدية فرفضها، وهددها بالحرب، فخشيت الملكة عاقبة الحرب ليقينها بأن الله سخر له الجن والطير والإنس وقوى عظيمة تساعده، فجاءت بلقيس مع قومها، وأعلنت إسلامها، وعرض عليها سليمان مقدرته وتفوقه، فنقل عرشها في طرفة عين، وبنى لها قصرا عظيما، ومرد أرضه بالزجاج، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به، ثم لما دخلته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها لتخوضه، فقال لها سليمان : إنه صرح أملس من الزجاج، مموه بألوان المياه يهيأ لمن شاهده أنه لجة الماء ولكنه زجاج فوق الماء، عندئذ أحست الملكة أنها أمام مشاهد عجيبة، تعجز عن تفسيرها، وكلها تدل على أن سليمان رسول مؤيد بالمعجزات، ومعونة الله رب العالمين، فأعلنت إسلامها وقالت :﴿ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾.

٩-
قصة النملة التي أحست بقدوم سليمان وجنوده، فأمرت قومها بدخول مساكنهم، وفهم سليمان لغتها، وشكر الله على نعمه، قال تعالى :﴿ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون* حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون* فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ [ النمل : ١٧-١٩ ].

١٠-
موت سليمان : عندما مات سليمان أخفى الله موته على الجن مدة طويلة، قيل : إنها قرابة عام، فظلت الجن مسخرة في البناء والأعمال الصعبة، حتى لا تدعى الجن أنها تعرف الغيب، قال تعالى :﴿ فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ﴾ [ سبأ : ١٤ ].
إن هذا الملك والتسخير والمقدرة، وتذليل الرياح والطير والجن، وعين القطر والتشييد والإعمار، لا بد له من نهاية محتومة هي الموت، ﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].

تمهيد :
رفض سليمان هدية بلقيس، حيث إنه دعاها إلى الإسلام هي وقومها، فرغبت في مهادنته، بإرسال هدية أشبه برشوة، للمهادنة والسكوت عنهم، فرفض سليمان الهدية، وأنذرهم بالحرب، وكان لهذا الإنذار أثره، وقد تأكد لدى الملكة أن سليمان صادق في دعوته، ولديه من وسائل القوة ما يكفي للنصر، وقتل أعدائه وأسرهم، فأرسلت إليه تخبره بقدومها، مع أشراف قومها ورؤسائهم، وكانت الجن تخدم سليمان، وتخبره بتحرك بلقيس مع رؤساء قومها، فرغب سليمان أن يحضر عرش بلقيس، قبل أن تأتي وتظهر إسلامها.
٤٤-﴿ قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت : رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾.
كان سليمان عليه السلام قد بنى قصرا من البلور، أقيمت أرضيته فوق الماء، وظهر كأنه لجة.
فلما قيل : ادخلي قصر سليمان عليه السلام، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة من الماء ؛ فكشفت عن ساقيها، لتمنع ثيابها من البلل، فقال سليمان عليه السلام : إنه قصر مملس من الزجاج الصافي.
وهنا نجد الملكة تتابع أمامها مشاهد المفاجآت، واحدة وراء الأخرى، وتشاهد هنا عظمة بالغة في بناء القصر، والصرح العظيم، والمياه المتدفقة، والزجاج المموج، وألوان التقدم العلمي والتقني والفني، مع العظمة الباهرة في الجنود والأتباع، والقصور والقوى العجيبة المسخرة، فأعلنت ندمها على عبادة الشمس من دون الله، وتأخير إسلامها وإيمانها بالله رب العالمين، ﴿ قالت رب إني ظلمت نفسي.. ﴾ بالشرك وعبادة الشمس.
﴿ وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾
وتابعت سليمان في دينه، والإيمان والانقياد لله رب العالمين وخالق الأكوان من الأزل إلى الأبد.
قال ابن كثير : والغرض أن سليمان عليه السلام، اتخذ قصرا عظيما، منيفا من زجاج لهذه الملكة، ليريها عظمة سلطانه وتمكنه، فلما رأت ما آتاه الله، وعظمة ما هو فيه، وتبصرت في أمره، انقادت لأمر الله تعالى، وعرفت أنه نبي كريم، ومليك عظيم، وأسلمت لله عز وجل.
لطيفة : أخذ بعض العلماء من قوله تعالى :﴿ وتفقد الطير.. ﴾ استحباب تفقد الملك لأحوال الرعية وكذلك تفقد الأصدقاء، والإخوان، والخلان، وأنشد بعضهم. تفقد الطير على ملكه *** فقال : ماليَ لا أرى الهدهدا
سنّ سليمان لنا سُنّةً وكان فيما سنّة مُقتدى
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خاتمة :
تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة، وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان، وخضوعها لله رب العالمين.
هل تزوج سليمان بلقيس ؟
يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه السلام من بلقيس قال الرازي : والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته.
وذكر الرازي في تفسيره عن ابن عباس : أنها لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري من قومك من أزوجك منه، فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال : النكاح من الإسلام، فقالت : إن كان كذلك فزوجني ذا تبع، ملك همدان، فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكا، والله أعلم.
خلاصة نعم الله على سليمان عليه السلام
ذكر سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة في سور : البقرة، والنساء، والأنعام، والأنبياء، والنمل، وسبأ، وقد بين القرآن نعم الله الكثيرة عليه ومن بينها ما يأتي :

١-
ذكاؤه وفراسته في القضاء، فقد منح الله سليمان ذكاء نادرا، وإصابة في القضاء والحكم، وكان حكمه أصوب من حكم أبيه داود عليه السلام.
قال تعالى :﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين* ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ﴾ [ الأنبياء : ٧٨-٧٩ ].
وقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سارت امرأتان ومع كل واحد ولدها، واستراحتا في الطريق فالتقم الذئب ابن إحداهما، فجاءتا إلى نبي الله داود، الكبرى معها الولد وتقول : هو ولدى، والصغرى تقول : بل هو ولدي، فقضى داود بالولد للكبرى، وسارتا عائدتين فوجدتا نبي الله سليمان، فقال لهما : بم قضى الملك ؟ قالتا : قضى بالولد للكبرى. فقال سليمان عدل الملك، وغير ذلك كان أوفق، فبلغ ذلك داود، فأرسل إليه وسأله عن رأيه فقال : أرى أن نقسم الولد نصفين، ونعطي لكل واحدة نصفا، فليست إحداهما أحق به من الأخرى، فأحضر الملك سيافا ماهرا وأحضر الصبي، ووضع السياف السيف على رأس الصبي، ليقسمه نصفين، فصرخت الصغرى وقالت : هو ولدها فلتأخذه كله، فقضى سليمان بالولد للصغرى " ٨.

٢-
تعليم الله له منطق الطير، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها، قال تعالى :﴿ وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ﴾ [ النمل : ١٦ ].

٣-
تسخير الرياح له تنقله من مكان إلى آخر بعيد، ويوجه الرياح حيث يشاء، قال تعالى :﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها... ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ].
وقال تعالى :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ﴾ [ ص : ٣٦ ]
وقال تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٤-
تربية الخيول : وهي الصافنات الجياد للجهاد، وكان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه السلام، كما هو مندوب في شرعنا.
روى البخاري، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم )٩.
وكان سليمان يستعرضها مسرورا بها ويمسح بناصيتها وسوقها وأعناقها، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها، قال تعالى :﴿ ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب* إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد* فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب*ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ﴾ [ ص : ٣٠-٣٣ ].
وأما تفسير الآيات بما يفيد أن سليمان انشغل بالخيل عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فطلب إعادة الخيل عليه فقطع أعناقها وسوقها فمما يتنافى مع منصب النبوة، كما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير.

٥-
فتنة سليمان : وإلقاء الجسد على كرسيه، وقد اختار العلامة أبو السعود والآلوسي في هذا الموضوع ما ورد في الصحيحين مرفوعا :( أن سليمان قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة من زوجاتي، تأتي كل واحد بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل : إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون )١٠.
قال تعالى :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب*قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب*فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص ﴾ [ ص : ٣٤-٣٧ ].
وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية، فلم تصحّ ولا يعوّل عليها.

٦-
إسالة عين القطر [ النحاس المذاب ] له : أنعم الله على سليمان عليه السلام بتطويع النحاس المذاب له، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة، ذات الحجارة الكبيرة، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان، كما ذكر تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر.. ﴾ [ سبأ : ١٢ ].

٧-
تسخير الجن لسليمان، تبني له المحاريب والقصاع الكبيرة، والقدور الراسيات والتماثيل، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم، قال تعالى :﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير*يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.. ﴾ [ سبأ : ١٢، ١٣ ].
وقال سبحانه :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص*وآخرين مقرنين في الأصفاد*هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ﴾ [ ص : ٣٦-٣٩ ].
ومن هذه الآيات يتبين أن العصاة والمردة من الجن، يسر الله له عقوبتهم، وتقييدهم في السلاسل والأغلال، وظل الجن يخدمون سليمان، ويلبون أوامره ومن تمرد على طاعته عاقبه وسجنه وقيده بالسلاسل.

٨-
إسلام ملكة سبأ على يديه، فقد علم من الهدهد قصتها فأرسل لها رسالة يدعوها للإسلام، ورغبت الملكة في مجاملته ومصانعته، فأرسلت له هدية فرفضها، وهددها بالحرب، فخشيت الملكة عاقبة الحرب ليقينها بأن الله سخر له الجن والطير والإنس وقوى عظيمة تساعده، فجاءت بلقيس مع قومها، وأعلنت إسلامها، وعرض عليها سليمان مقدرته وتفوقه، فنقل عرشها في طرفة عين، وبنى لها قصرا عظيما، ومرد أرضه بالزجاج، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به، ثم لما دخلته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها لتخوضه، فقال لها سليمان : إنه صرح أملس من الزجاج، مموه بألوان المياه يهيأ لمن شاهده أنه لجة الماء ولكنه زجاج فوق الماء، عندئذ أحست الملكة أنها أمام مشاهد عجيبة، تعجز عن تفسيرها، وكلها تدل على أن سليمان رسول مؤيد بالمعجزات، ومعونة الله رب العالمين، فأعلنت إسلامها وقالت :﴿ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾.

٩-
قصة النملة التي أحست بقدوم سليمان وجنوده، فأمرت قومها بدخول مساكنهم، وفهم سليمان لغتها، وشكر الله على نعمه، قال تعالى :﴿ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون* حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون* فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ [ النمل : ١٧-١٩ ].

١٠-
موت سليمان : عندما مات سليمان أخفى الله موته على الجن مدة طويلة، قيل : إنها قرابة عام، فظلت الجن مسخرة في البناء والأعمال الصعبة، حتى لا تدعى الجن أنها تعرف الغيب، قال تعالى :﴿ فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ﴾ [ سبأ : ١٤ ].
إن هذا الملك والتسخير والمقدرة، وتذليل الرياح والطير والجن، وعين القطر والتشييد والإعمار، لا بد له من نهاية محتومة هي الموت، ﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].

قصة صالح مع قومه ثمود
﴿ ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون ( ٤٥ ) قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون( ٤٦ ) قالوا طيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون( ٤٧ ) وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون( ٤٨ ) قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون( ٤٩ ) ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون( ٥٠ ) فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا دمّرناهم وقومهم أجمعين ( ٥١ ) فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون( ٥٢ ) وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون( ٥٣ ) ﴾.
المفردات :
فريقان : طائفتان : طائفة مؤمنة، وأخرى كافرة.
يختصمون : يتنازعون.
تمهيد :
في سورة النمل نجد طرفا من قصة موسى تحكي أفضال الله عليه، ثم جانبا محدودا من قصة داود عليه السلام، ثم حديثا موسعا عن قصة سليمان مع النملة ومع الهدهد، ومع بلقيس التي أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، ونجد طرفا من قصة نبي الله صالح مع قومه ثمود، وكثيرا ما كانت تذكر مع قصة عاد ونبيهم هود، في سياق قصص عام، مع نوح ولوط وشعيب، وأحيانا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء.
أما في هذه السورة –سورة النمل- فقد كان التركيز فيها على قصص بني إسرائيل، فقد جاءت قصة موسى، وقصة داود وسليمان، ثم جاءت قصة صالح مع ثمود، ولم تذكر قصة الناقة، إنما يذكر فيها تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله، ومكرهم به وهو لا يشعر، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، ودمّرهم وقومهم أجمعين، وترك بيوتهم خاوية، وجعلها لمن بعدهم آية، والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمّرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.
التفسير :
٤٥-﴿ ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون ﴾.
في أعقاب قصة سليمان وإيمان بلقيس ملكة سبأ، يذكر الله تعالى جانبا من قصة صالح مع قومه ثمود.
والمعنى :
والله لقد أرسلنا رسولنا صالحا إلى قومه ثمود، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فآمن به فريق من المؤمنين، وكفر به فريق من الكافرين، وكان الفريق الجاحد الكافر أكثر عددا، وأكثر قوة، وقد أشارت إلى هذا المعنى سورة الأعراف في قوله تعالى :﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون*قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ﴾ [ الأعراف : ٧٥، ٧٦ ].
تمهيد :
في سورة النمل نجد طرفا من قصة موسى تحكي أفضال الله عليه، ثم جانبا محدودا من قصة داود عليه السلام، ثم حديثا موسعا عن قصة سليمان مع النملة ومع الهدهد، ومع بلقيس التي أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، ونجد طرفا من قصة نبي الله صالح مع قومه ثمود، وكثيرا ما كانت تذكر مع قصة عاد ونبيهم هود، في سياق قصص عام، مع نوح ولوط وشعيب، وأحيانا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء.
أما في هذه السورة –سورة النمل- فقد كان التركيز فيها على قصص بني إسرائيل، فقد جاءت قصة موسى، وقصة داود وسليمان، ثم جاءت قصة صالح مع ثمود، ولم تذكر قصة الناقة، إنما يذكر فيها تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله، ومكرهم به وهو لا يشعر، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، ودمّرهم وقومهم أجمعين، وترك بيوتهم خاوية، وجعلها لمن بعدهم آية، والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمّرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.
٤٦-﴿ قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون ﴾
أي : قال صالح لقومه مستميلا لهم : لم تعاجلون بالتكذيب والجحود والنكران قبل الإيمان والتوبة والإنابة.
﴿ لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون ﴾
هلا تبتم إلى الله، وآمنتم به رجاء أن ينزل بكم رحمته وفضله ومعونته.
تمهيد :
في سورة النمل نجد طرفا من قصة موسى تحكي أفضال الله عليه، ثم جانبا محدودا من قصة داود عليه السلام، ثم حديثا موسعا عن قصة سليمان مع النملة ومع الهدهد، ومع بلقيس التي أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، ونجد طرفا من قصة نبي الله صالح مع قومه ثمود، وكثيرا ما كانت تذكر مع قصة عاد ونبيهم هود، في سياق قصص عام، مع نوح ولوط وشعيب، وأحيانا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء.
أما في هذه السورة –سورة النمل- فقد كان التركيز فيها على قصص بني إسرائيل، فقد جاءت قصة موسى، وقصة داود وسليمان، ثم جاءت قصة صالح مع ثمود، ولم تذكر قصة الناقة، إنما يذكر فيها تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله، ومكرهم به وهو لا يشعر، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، ودمّرهم وقومهم أجمعين، وترك بيوتهم خاوية، وجعلها لمن بعدهم آية، والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمّرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.
المفردات :
اطيرنا : تشاءمنا بك.
طائركم : ما يصيبكم من الخير والشر، والطيرة : تعليق الخير أو الشر على طيران الطائر يمينا أو شمالا.
تفتنون : تختبرون بتعاقب السراء والضراء.
التفسير :
٤٧-﴿ قالوا طيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون ﴾.
أي : قالوا : تشاءمنا بك وبمن معك من المؤمنين، فمنذ قدمت بدعوتك أصابنا القحط، وشاعت فينا الفرقة واشتد الخلاف، وهكذا نجد من دسّى نفسه وغلب عليه الكفر والضلال، ينسب الشر إلى رسول الله والمؤمنين به، والحقيقة أن الله تعالى قد قسم لكل إنسان رزقه وعمره وأجله، وشقاءه أو سعادته حسب اختياره، بعد أن أعطاه العقل والفكر ومنحه الرأي والاختيار.
قال صاحب الظلال ما ملخصه :
﴿ قال طائركم عند الله.. ﴾
حظكم ومستقبلكم ومصيركم عند الله، والله قد سنّ سننا، وأمر الناس بأمور، وبين لهم الطريق المستنير، فمن اتبع سنة الله وسار على هداه فهناك الخير، ومن انحرف عن سنة الله فهناك الشر. اه.
وسمى التشاؤم تطيرا من عادة العرب بزجر الطير، أي : رميه بحجر ونحوه، فإن تحوّل يمينا تفاءلوا، وسمّوه السامح، وإن اتجه يسارا تشاءموا وسمّوه البارح.
﴿ بل أنتم قوم تفتنون ﴾
يختبركم الله بإرسال الرسول وإنزال هداية السماء، ليرى من المؤمن المستحق للنجاة، ومن الكافر الجاحد المستحق للعقوبة.
والبشرية دعيت إلى الإيمان بالله تعالى ربا، والإيمان برسالة الرسل، ولكن التكذيب لازم المكذبين، والتطير لازم أعداء الدين سابقا ولا حقا، فنرى بعض الناس يعلقون أهمية ضخمة على رقم ١٣، وعلى مرور قد أسود يقطع الطريق أمامهم، وعلى إشعال أكثر من لفافتين بعود ثقاب واحد، إلى آخر هذه الخرافات الساذجة، ذلك أنهم يعاندون حقيقة الفطرة، وهي جوعتها إلى الإيمان وعدم استغنائها عنه، وبهذا الإيمان توجد العقيدة السليمة والسلوك السوي والتوفيق الإلهي، قال تعالى :﴿ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ﴾ [ هود : ٨٨ ]
تمهيد :
في سورة النمل نجد طرفا من قصة موسى تحكي أفضال الله عليه، ثم جانبا محدودا من قصة داود عليه السلام، ثم حديثا موسعا عن قصة سليمان مع النملة ومع الهدهد، ومع بلقيس التي أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، ونجد طرفا من قصة نبي الله صالح مع قومه ثمود، وكثيرا ما كانت تذكر مع قصة عاد ونبيهم هود، في سياق قصص عام، مع نوح ولوط وشعيب، وأحيانا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء.
أما في هذه السورة –سورة النمل- فقد كان التركيز فيها على قصص بني إسرائيل، فقد جاءت قصة موسى، وقصة داود وسليمان، ثم جاءت قصة صالح مع ثمود، ولم تذكر قصة الناقة، إنما يذكر فيها تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله، ومكرهم به وهو لا يشعر، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، ودمّرهم وقومهم أجمعين، وترك بيوتهم خاوية، وجعلها لمن بعدهم آية، والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمّرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.
المفردات :
المدينة : المراد بها : الحجر.
الرهط : النفر من الثلاثة إلى التسعة.
التفسير :
٤٨-﴿ وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ﴾
وكان في مدينة ثمود-وهي الحجر- تسعة رجال من أشراف قومها وسادتها، وقيل : كانوا رؤساء، وراء كل واحد منهم جنوده وأتباعه، منهم قدار بن سالف عاقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح، وقادة الشر فيهم، يفسدون في الأرض، ويتتبعون عورات الناس ومعايبهم، يظلمون الناس ولا يمنعون الظالم عن ظلمه، ولا يعلمون صالحا، ولا يدعون إليه ولا يعرفون طريقه، فعادتهم الدائمة المستمرة الإفساد البحت الذي لا يخالطه الصلاح في عمل أو قول، وهم الذين تواطأوا على عقر الناقة، وعلى قتل صالح ومن آمن به.
تمهيد :
في سورة النمل نجد طرفا من قصة موسى تحكي أفضال الله عليه، ثم جانبا محدودا من قصة داود عليه السلام، ثم حديثا موسعا عن قصة سليمان مع النملة ومع الهدهد، ومع بلقيس التي أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، ونجد طرفا من قصة نبي الله صالح مع قومه ثمود، وكثيرا ما كانت تذكر مع قصة عاد ونبيهم هود، في سياق قصص عام، مع نوح ولوط وشعيب، وأحيانا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء.
أما في هذه السورة –سورة النمل- فقد كان التركيز فيها على قصص بني إسرائيل، فقد جاءت قصة موسى، وقصة داود وسليمان، ثم جاءت قصة صالح مع ثمود، ولم تذكر قصة الناقة، إنما يذكر فيها تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله، ومكرهم به وهو لا يشعر، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، ودمّرهم وقومهم أجمعين، وترك بيوتهم خاوية، وجعلها لمن بعدهم آية، والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمّرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.
المفردات :
تقاسموا : احلفوا.
البيات : مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا.
وليّه : من له حق القصاص من ذوي قرابته إذا قتل.
المهلك : الهلاك.
التفسير :
٤٩-﴿ قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ﴾
أي : قال بعضهم لبعض أثناء المشاورة في قتل صالح ومن آمن به : احلفوا لنباغتنّه وأهله بالهلاك ليلا، ثم لنقولن لأولياء الدم ما حضرنا هلاكهم، ولا ندري من قتل صالحا ولا من قتل أهله، ونحلف إنا لصادقون في قولنا.
قال الزجاج : كان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيّتوا صالحا وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه، وكان هذا مكرا منهم.
تمهيد :
في سورة النمل نجد طرفا من قصة موسى تحكي أفضال الله عليه، ثم جانبا محدودا من قصة داود عليه السلام، ثم حديثا موسعا عن قصة سليمان مع النملة ومع الهدهد، ومع بلقيس التي أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، ونجد طرفا من قصة نبي الله صالح مع قومه ثمود، وكثيرا ما كانت تذكر مع قصة عاد ونبيهم هود، في سياق قصص عام، مع نوح ولوط وشعيب، وأحيانا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء.
أما في هذه السورة –سورة النمل- فقد كان التركيز فيها على قصص بني إسرائيل، فقد جاءت قصة موسى، وقصة داود وسليمان، ثم جاءت قصة صالح مع ثمود، ولم تذكر قصة الناقة، إنما يذكر فيها تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله، ومكرهم به وهو لا يشعر، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، ودمّرهم وقومهم أجمعين، وترك بيوتهم خاوية، وجعلها لمن بعدهم آية، والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمّرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.
المفردات :
المكر : التدبير الخفي لعمل الشر.
التفسير :
٥٠-﴿ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ﴾.
دبّروا أمرا خفيا في قتل صالح ومن آمن به ليلا، ثم الحلف بعد ذلك أنهم ما فعلوا هذا ولا شهدوه، والحلف أنهم صادقون. دبّروا ذلك، فدبّر الله إهلاكهم في الشعب، من حيث لا يشعرون أن الله يستدرجهم إلى الإهلاك.
تمهيد :
في سورة النمل نجد طرفا من قصة موسى تحكي أفضال الله عليه، ثم جانبا محدودا من قصة داود عليه السلام، ثم حديثا موسعا عن قصة سليمان مع النملة ومع الهدهد، ومع بلقيس التي أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، ونجد طرفا من قصة نبي الله صالح مع قومه ثمود، وكثيرا ما كانت تذكر مع قصة عاد ونبيهم هود، في سياق قصص عام، مع نوح ولوط وشعيب، وأحيانا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء.
أما في هذه السورة –سورة النمل- فقد كان التركيز فيها على قصص بني إسرائيل، فقد جاءت قصة موسى، وقصة داود وسليمان، ثم جاءت قصة صالح مع ثمود، ولم تذكر قصة الناقة، إنما يذكر فيها تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله، ومكرهم به وهو لا يشعر، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، ودمّرهم وقومهم أجمعين، وترك بيوتهم خاوية، وجعلها لمن بعدهم آية، والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمّرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.
المفردات :
دمرناهم : أهلكناهم.
التفسير :
٥١-﴿ فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ﴾
فتأمل يا محمد، وتأمل يا كلّ من يتأتى منه النظر والتفكر، كيف كان مصير تآمرهم، أنا أهلكناهم وقومهم جميعا، ولم نبق أحدا منهم، إلا الذين آمنوا بصالح عليه السلام.
ملاحظة : المكر هنا تدبير الفتك بصالح وأهله، ومكر الله مجازاتهم وإهلاكهم، وسميت المجازاة مكرا للمشاكلة، كما في قوله تعالى :﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم.. ﴾ [ النساء : ١٤٢ ] وكما في قوله تعالى :﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ].
وكان صالح –عليه السلام- قد توعدهم بالهلاك خلال ثلاث ليال، فقالوا : تعالوا نهلكه قبل أن يهلكنا، فأرسل الله صخرة أهلكت هؤلاء التسعة، ثم صاح بهم جبريل صيحة مدمرة، وأمطرت السماء حجارة قاتلة، قتلت جميع الكافرين.
قال القرطبي : والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد، ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة.
تمهيد :
في سورة النمل نجد طرفا من قصة موسى تحكي أفضال الله عليه، ثم جانبا محدودا من قصة داود عليه السلام، ثم حديثا موسعا عن قصة سليمان مع النملة ومع الهدهد، ومع بلقيس التي أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، ونجد طرفا من قصة نبي الله صالح مع قومه ثمود، وكثيرا ما كانت تذكر مع قصة عاد ونبيهم هود، في سياق قصص عام، مع نوح ولوط وشعيب، وأحيانا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء.
أما في هذه السورة –سورة النمل- فقد كان التركيز فيها على قصص بني إسرائيل، فقد جاءت قصة موسى، وقصة داود وسليمان، ثم جاءت قصة صالح مع ثمود، ولم تذكر قصة الناقة، إنما يذكر فيها تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله، ومكرهم به وهو لا يشعر، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، ودمّرهم وقومهم أجمعين، وترك بيوتهم خاوية، وجعلها لمن بعدهم آية، والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمّرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.
المفردات :
خاوية : خالية.
لآية : لعبرة وعظة
التفسير :
٥٢-﴿ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون ﴾
هذه مساكنهم خاوية خربة مظلمة، بسبب ظلمهم وكفرهم وعنادهم، إن في ذلك لبينة ودليلا وموعظة لأناس أهل معرفة وعلم، يعلمون سنّة الله في خلقه، وأن النتائج مرتبطة بالأسباب، وأن الظلم مؤذن بالخراب والهلاك، وأن الله تعالى بالمرصاد لكل ظالم، قال تعالى :﴿ كذبت ثمود بطغواها* إذ انبعث أشقاها* فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها* فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها* ولا يخاف عقباها ﴾ [ الشمس : ١١-١٥ ].
٥٣-﴿ وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾
أنجينا المؤمنين الذين آمنوا بصالح، وكانوا يتقون الله ويبتعدون عن المعاصي، قيل : آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل، حيث خرج بهم إلى أطراف الشام، ونزل رملة وفلسطين١١ والله أعلم بصحة ذلك.
اللهم ثبتنا على الإيمان، اللهم لا تهلكنا بعذابك ونجنا قبل ذلك، اللهم وفقنا للصالحات، وأمدنا بمعونتك، وعنايتك وفضلك وهدايتك ورحمتك، يا أرحم الراحمين.
قصة لوط مع قومه
﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون( ٥٤ ) أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون( ٥٥ ) ﴾
المفردات :
الفاحشة : الفعلة الشنيعة المتناهية في القبح.
تبصرون : تعلمون عاقبة فعلها ببصيرتكم، أو يبصر بعضكم بعضا علانية أثناء الفاحشة.
تمهيد :
هذه هي القصة الرابعة في هذا الجزء التاسع عشر، وتتمتها في الجزء العشرين، فقد قسم العلماء القرآن إلى ٣٠ جزءا، والجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أرباع، وكان القصد من ذلك تيسير الحفظ والقراءة، وتمّ هذا التقسيم من ناحية الكم، ولو روعي فيه ناحية الكيف لتمت القصة في الجزء التاسع عشر، أو ابتدأ بها الجزء العشرون، لكنهم التزموا بعدد الآيات وكميتها، ونلتمس لهم العذر في ذلك.
التفسير :
٥٤-﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون ﴾
أي : واذكر لوطا حين حذّر قومه من المثلية الجنسية، وعاقبة اللواط، واستغناء الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، فقال لوط لقومه : أترتكبون المنكر الغليظ، وتفعلون فاحشة لم يسبقكم إليها أحد من العالمين، وأنتم تعلمون مبلغ قبحها وشناعة جرمها، ففيها ضرر شديد للمفعول به، وضرر شديد للفاعل، وقيل : كانوا يأتون المنكر في مجتمع ويشاهد بعضهم بعضا، فأنكر لوط عليهم هذه الأفعال، والاستفهام هنا استفهام إنكاري.
تمهيد :
هذه هي القصة الرابعة في هذا الجزء التاسع عشر، وتتمتها في الجزء العشرين، فقد قسم العلماء القرآن إلى ٣٠ جزءا، والجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أرباع، وكان القصد من ذلك تيسير الحفظ والقراءة، وتمّ هذا التقسيم من ناحية الكم، ولو روعي فيه ناحية الكيف لتمت القصة في الجزء التاسع عشر، أو ابتدأ بها الجزء العشرون، لكنهم التزموا بعدد الآيات وكميتها، ونلتمس لهم العذر في ذلك.
٥٥-﴿ أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون ﴾.
صرح هنا بعملهم منكرا عليهم، حيث قال لهم : والله إنكم لتجامعون الرجال في أدبارهم، وتقودكم الشهوة إلى هذه الفعلة الشنعاء، وتذرون النساء التي خلقت لهذه الشهوة حيث فيهن الجمال والمتعة واستكمال الاستمتاع بين الذكر والأنثى، حيث خلق الله الرجل مجهزا لاستقبال الأنثى، وألهم كل طرف كيف يأتي الطرف الآخر، حتى الحيوان الأعجم لا يفعل مثل أفعالكم، كما قال سبحانه وتعالى في موضع آخر ﴿ أتأتون الذكران من العالمين*وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ﴾ [ الشعراء : ١٦٥، ١٦٦ ].
فهم قوم خارجون على الفطرة، وقد وضح لهم لوط سوء عملهم في ثلاثة أمور هي :
١-إتيان الرجال في مكان الغائط.
٢-ترك النساء، ولهن حق الاستمتاع والإمتاع من زوج كريم مستقيم.
٣-أن هذا عمل الجهلاء الذين لا عقول لهم : ولا يدركون قبح ما يفعلون، فقال :
﴿ بل أنتم قوم تجهلون ﴾
تفعلون فعل السفهاء الممعنين في الفحش، وعدم تقدير العاقبة، وما يترتب على ذلك من أمراض حسية وسلوكية، فعملكم هذا عمل الجهلاء الذين لا يميّزون ولا يعقلون الفرق بين الحسن والقبيح، وإزاء كل ذلك أجابوه بما لا يصلح أن يكون جوابا مقبولا ولا معقولا في ميزان العقلاء، وهو ما سيأتي في مطلع الجزء التالي إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.
تفسير القرآن الكريم
الجزء العشرون من القرآن الكريم
﴿ * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون( ٥٦ ) فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين( ٥٧ ) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين( ٥٨ ) ﴾
المفردات :
أخرجوا آل لوط : المراد بهم : لوط وأهله، كما يراد من بني آدم، آدم وبنوه.
من قريتكم : من مدينتكم سدوم.
يتطهرون : ينزهون أنفسهم عن الأقذار والأوساخ، ويتباعدون عما نفعله، ويزعمون أنه من القاذورات.
تمهيد :
لقد ذكر القرآن الكريم قصة لوط في عدد من السور، وشنّع على هذه الفاحشة وحذّر من إتيانها، وقد عاقب أصحابها بالهلاك.
ونرى المدنية الحديثة التي أباحت المثلية الجنسية، والزواج الشاذ، وأباحت إنشاء نواد للعراة، ونواد للشواذ، قد فوجئت بانتشار مرض الإيدز أو نقص المناعة، وهو مرض خطير يؤدي بالكثير من المرضى، وقد أصيب القوم بالرعب من الإيدز ؛ فمريض الإيدز قد يهرب منه الطبيب والممرضة التي تعالجه، وربما أسرته.
والنوادي الليلية التي كانت ترعى الشواذ أصيبت بالإفلاس، وأدرك الناس خطر الإيدز وخطر الشذوذ والبغاء، بعد أن شاهدوا بأعينهم هلاك أكثر من نصف المرضى بنقص المناعة ؛ وكل ذلك يوضح للمتأمل أن سبب هذه الأمراض نقص الإيمان والخروج على منهج الله، ولعل في هذا دعوة لنا جميعا إلى احترام الزواج الشرعي، باعتباره الوسيلة الممتازة لإشباع العاطفة، ورعاية الذرية وإمتاع النفس، والالتزام بمنهج الله تعالى القائل في كتابه الكريم :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ [ الروم : ٢١ ].
التفسير :
لما أنذر لوط عليه السلام قومه، وخوفهم نقمة ربهم ؛ هددوه بالطرد من سدوم هو ومن آمن به، قال تعالى :
٥٦-﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ﴾
كان سائلا سأل سؤالا هو : ماذا كان جواب قوم لوط ؟ والجواب هو : فما كان جواب قومه على دعوته لهم إلى الإيمان بالله تعالى، وهجر الشذوذ الجنسي، والامتناع عن إتيان الرجال في أدبارهم ؛ إلا أن رفضوا دعوة لوط، وأعلنوا هذا الرفض، حيث بيتوا أمرهم على إخراج لوط وأهله من المؤمنين من قرية سدوم ؛ بحجة أنهم يبالغون في التطهر، ولا يشاركونهم في عمل هذه الفاحشة، وهذا إغراق في الشذوذ والخروج على الفطرة، حيث يُعاقب المستقيم الطاهر بالطرد من البلد عقوبة له على استقامته.
تمهيد :
لقد ذكر القرآن الكريم قصة لوط في عدد من السور، وشنّع على هذه الفاحشة وحذّر من إتيانها، وقد عاقب أصحابها بالهلاك.
ونرى المدنية الحديثة التي أباحت المثلية الجنسية، والزواج الشاذ، وأباحت إنشاء نواد للعراة، ونواد للشواذ، قد فوجئت بانتشار مرض الإيدز أو نقص المناعة، وهو مرض خطير يؤدي بالكثير من المرضى، وقد أصيب القوم بالرعب من الإيدز ؛ فمريض الإيدز قد يهرب منه الطبيب والممرضة التي تعالجه، وربما أسرته.
والنوادي الليلية التي كانت ترعى الشواذ أصيبت بالإفلاس، وأدرك الناس خطر الإيدز وخطر الشذوذ والبغاء، بعد أن شاهدوا بأعينهم هلاك أكثر من نصف المرضى بنقص المناعة ؛ وكل ذلك يوضح للمتأمل أن سبب هذه الأمراض نقص الإيمان والخروج على منهج الله، ولعل في هذا دعوة لنا جميعا إلى احترام الزواج الشرعي، باعتباره الوسيلة الممتازة لإشباع العاطفة، ورعاية الذرية وإمتاع النفس، والالتزام بمنهج الله تعالى القائل في كتابه الكريم :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ [ الروم : ٢١ ].
المفردات :
قدّرنا : قضينا وحكمنا.
الغابرين : الباقين في العذاب.
التفسير :
٥٧- ﴿ فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين ﴾١٢
أنجينا لوطا ومن آمن به، وأهلكنا المكذبين، ومعهم عجوز هي زوجة لوط، كانت تتعاطف مع الشواذ، وترشدهم إلى أضياف لوط ليفعلوا بهم الفاحشة ؛ فأهلكها الله معهم، كما قال تعالى :﴿ فنجيناه وأهله أجمعين* إلا عجوزا في الغابرين ﴾ [ الشعراء : ١٧٠، ١٧١ ].
تمهيد :
لقد ذكر القرآن الكريم قصة لوط في عدد من السور، وشنّع على هذه الفاحشة وحذّر من إتيانها، وقد عاقب أصحابها بالهلاك.
ونرى المدنية الحديثة التي أباحت المثلية الجنسية، والزواج الشاذ، وأباحت إنشاء نواد للعراة، ونواد للشواذ، قد فوجئت بانتشار مرض الإيدز أو نقص المناعة، وهو مرض خطير يؤدي بالكثير من المرضى، وقد أصيب القوم بالرعب من الإيدز ؛ فمريض الإيدز قد يهرب منه الطبيب والممرضة التي تعالجه، وربما أسرته.
والنوادي الليلية التي كانت ترعى الشواذ أصيبت بالإفلاس، وأدرك الناس خطر الإيدز وخطر الشذوذ والبغاء، بعد أن شاهدوا بأعينهم هلاك أكثر من نصف المرضى بنقص المناعة ؛ وكل ذلك يوضح للمتأمل أن سبب هذه الأمراض نقص الإيمان والخروج على منهج الله، ولعل في هذا دعوة لنا جميعا إلى احترام الزواج الشرعي، باعتباره الوسيلة الممتازة لإشباع العاطفة، ورعاية الذرية وإمتاع النفس، والالتزام بمنهج الله تعالى القائل في كتابه الكريم :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ [ الروم : ٢١ ].
المفردات :
ساء : قبح.
مطر المنذرين : من أهل الجرائم، وهو حجارة من سجيل.
التفسير :
٥٨- ﴿ وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ﴾
أمطر الله عليهم مطرا لم يعهدوا له مثيلا، حيث كان مطر عذاب ونقمة، فأرسل عليهم حجارة قوية صلبة متتابعة النزول، معلّمة بسيما تتميز بها عن حجارة الأرض، كان فيها الهلاك لهم، عقوبة رادعة لهم على شذوذهم، كما قال تعالى : و﴿ وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود*مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ﴾ [ هود : ٨٢، ٨٣ ].
﴿ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما يشركون( ٥٩ ) أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون( ٦٠ ) أمّن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون( ٦١ ) أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون( ٦٢ ) أمّن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون( ٦٣ ) أمّن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين( ٦٤ ) ﴾.
المفردات :
اصطفى : اختار لرسالته، وهم الأنبياء عليهم السلام.
تمهيد :
هذه الآيات تحكي دلائل القدرة الإلهية، وتسير على طريقة الاستفهام الذي يأخذ على النفس أقطارها، فلا تجد مناصا من التسليم، فهي تبدأ بمقدمة للخطبة تذكر الحمد لله على نعمائه، والسلام على رسله وأصفيائه، ثم تستفهم وتواجه الكافرين فتقول :

١-
من خلق السماوات والأرض وأنزل المطر المفيد النافع ؟

٢-
من جعل الأرض قرارا مستقرة، وبارك فيها بالبحار والأنهار، ومنع البحرين من الالتقاء ؟

٣-
من يجيب المضطر اللاجئ، ويكشف عنه السوء، وينظم حياة الناس على الأرض بالموت والحياة ؟

٤-
من يهديكم في ظلام الليل والبحر، بالنجوم وغيرها من وسائل الهداية، ومن الذي يرسل الرياح مبشرات بنزول المطر ؟

٥-
من خلق الكون والإنسان، ثم يعيد خلق ذلك ؟ ومن يرزقكم من السماء بالمطر والهواء والفضاء، ومن الأرض بالنبات والمعادن والبترول وغير ذلك ؟
ولا يملك أي إنسان أن يقول إن أحدا غير الله يفعل ذلك، فإن ادعى فليأت بالدليل والبرهان، وأنى له بذلك ؟
لقد سبق هذه الأدلة على وجود الله ذكر قصص موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط ؛ وكلها تبين عظيم قدرة الله وجليل نعمائه، وتأخذ بيد الراغب في الهداية إلى الإيمان بالله تعالى، ثم ساق القرآن الكريم هذه الأدلة المتتابعة، وبدأ كل دليل بهذا الاستفهام الإنكاري، وكأنه يقول لأهل مكة : تدبّروا في الكون حولكم، وتأملوا في أنفسكم، وستجدون أدلة وجود الله ظاهرة أمامكم.
التفسير :
٥٩- ﴿ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما يشركون ﴾
قل يا محمد أنت وكل من يتأتى منه القول : الحمد لله، فله الحمد حمدا كثيرا طيبا طاهرا مباركا فيه كما يرضى ويحب، ﴿ وسلام على عباده الذين اصطفى ﴾ أي : السلام على الأنبياء والرسل وكل من اصطفاهم الله من خلقه، كما قال تعالى :﴿ وسلام على المرسلين* والحمد لله رب العالمين ﴾ [ الصافات : ١٨١، ١٨٢ ].
﴿ الله خير أما يشركون ﴾
أيهما خير، آلله الذي خلق ورزق وقدّر الأقوات وبيده الخلق والأمر، أم الأصنام التي يعبدونها ويشركونها بالله في العبادة ؟ إن الله أوجد الموجودات، وأمسك بنظام الكون، وبدأ الخلق ثم يعيده، وكان العقل أن يعبدوه وحده لا شريك له، فهل هذه الأصنام مصدر خير ومنفعة لهم حتى يتركوا عبادة الله، ويعبدوها من دون الله تعالى.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول : " اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ضياء السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، لا إله إلا أنت وعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق١٣
تمهيد :
هذه الآيات تحكي دلائل القدرة الإلهية، وتسير على طريقة الاستفهام الذي يأخذ على النفس أقطارها، فلا تجد مناصا من التسليم، فهي تبدأ بمقدمة للخطبة تذكر الحمد لله على نعمائه، والسلام على رسله وأصفيائه، ثم تستفهم وتواجه الكافرين فتقول :

١-
من خلق السماوات والأرض وأنزل المطر المفيد النافع ؟

٢-
من جعل الأرض قرارا مستقرة، وبارك فيها بالبحار والأنهار، ومنع البحرين من الالتقاء ؟

٣-
من يجيب المضطر اللاجئ، ويكشف عنه السوء، وينظم حياة الناس على الأرض بالموت والحياة ؟

٤-
من يهديكم في ظلام الليل والبحر، بالنجوم وغيرها من وسائل الهداية، ومن الذي يرسل الرياح مبشرات بنزول المطر ؟

٥-
من خلق الكون والإنسان، ثم يعيد خلق ذلك ؟ ومن يرزقكم من السماء بالمطر والهواء والفضاء، ومن الأرض بالنبات والمعادن والبترول وغير ذلك ؟
ولا يملك أي إنسان أن يقول إن أحدا غير الله يفعل ذلك، فإن ادعى فليأت بالدليل والبرهان، وأنى له بذلك ؟
لقد سبق هذه الأدلة على وجود الله ذكر قصص موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط ؛ وكلها تبين عظيم قدرة الله وجليل نعمائه، وتأخذ بيد الراغب في الهداية إلى الإيمان بالله تعالى، ثم ساق القرآن الكريم هذه الأدلة المتتابعة، وبدأ كل دليل بهذا الاستفهام الإنكاري، وكأنه يقول لأهل مكة : تدبّروا في الكون حولكم، وتأملوا في أنفسكم، وستجدون أدلة وجود الله ظاهرة أمامكم.
المفردات :
حدائق : جمع حديقة، وهي البستان عليه سور أو حائط، من أحدق بالشيء : إذا أحاط به، ثم توسع فيها فاستعملت في كل بستان وإن لم يكن محوطا بحائط.
ذات بهجة : البهجة : حسن المنظر.
يعدلون : يميلون، يقال : عدل عنه، أي : مال عنه.
التفسير :
٦٠- ﴿ أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون ﴾.
من الذي بدأ الخلق ورفع السماء وبسط الأرض، وجعل الفضاء والهواء بين السماء والأرض، وأنزل المطر من السماء لمصلحة الإنسان، فأنبت بالماء الحدائق والبساتين التي تبهج الإنسان وتسعده، وإن نظرة إلى ما حولنا، من ارتفاع السماء، واتساع الفضاء، والأرض المبسوطة، والفضاء والهواء والماء، ونزول المطر وإنبات النبات وكل زهرة فيها لمسة الإبداع، التي تعجز ريشة الفنان عن إبداعها، فضلا عن سريان الماء في أوراق الأشجار وأغصانها، وما كان للإنسان أن يسخر المطر أو ينبت النبات، أو يبدع جريان الماء في داخل الشجر.
﴿ أإله مع الله... ﴾
أي : أكل هذه النعم الجليلة، والخلق البديع، يخلقه خالق آخر مع الله ؟ أو يمكن أن يبدعه صنم أو وثن أو جن أو ملائكة، حتى تعبدوا الصنم وغيره، وتتركوا عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
﴿ بل هم قوم يعدلون ﴾
انتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى تبكيتهم بطريق الغيبة، أي : لا هم قوم يعدلون، ينصرفون عن الحق وهو التوحيد إلى الباطل وهو عبادة الأصنام.
تمهيد :
هذه الآيات تحكي دلائل القدرة الإلهية، وتسير على طريقة الاستفهام الذي يأخذ على النفس أقطارها، فلا تجد مناصا من التسليم، فهي تبدأ بمقدمة للخطبة تذكر الحمد لله على نعمائه، والسلام على رسله وأصفيائه، ثم تستفهم وتواجه الكافرين فتقول :

١-
من خلق السماوات والأرض وأنزل المطر المفيد النافع ؟

٢-
من جعل الأرض قرارا مستقرة، وبارك فيها بالبحار والأنهار، ومنع البحرين من الالتقاء ؟

٣-
من يجيب المضطر اللاجئ، ويكشف عنه السوء، وينظم حياة الناس على الأرض بالموت والحياة ؟

٤-
من يهديكم في ظلام الليل والبحر، بالنجوم وغيرها من وسائل الهداية، ومن الذي يرسل الرياح مبشرات بنزول المطر ؟

٥-
من خلق الكون والإنسان، ثم يعيد خلق ذلك ؟ ومن يرزقكم من السماء بالمطر والهواء والفضاء، ومن الأرض بالنبات والمعادن والبترول وغير ذلك ؟
ولا يملك أي إنسان أن يقول إن أحدا غير الله يفعل ذلك، فإن ادعى فليأت بالدليل والبرهان، وأنى له بذلك ؟
لقد سبق هذه الأدلة على وجود الله ذكر قصص موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط ؛ وكلها تبين عظيم قدرة الله وجليل نعمائه، وتأخذ بيد الراغب في الهداية إلى الإيمان بالله تعالى، ثم ساق القرآن الكريم هذه الأدلة المتتابعة، وبدأ كل دليل بهذا الاستفهام الإنكاري، وكأنه يقول لأهل مكة : تدبّروا في الكون حولكم، وتأملوا في أنفسكم، وستجدون أدلة وجود الله ظاهرة أمامكم.
المفردات :
قرارا : مكانا يقر عليه الإنسان وغيره، بمعنى يستقرّ.
خلالها : بين جهاتها المختلفة.
حاجزا : مانعا بين العذب والملح حتى لا يبغي أحدهما على الآخر.
التفسير :
٦١- ﴿ أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ﴾
من الذي جعل الأرض مستقرة ليتمكن الإنسان من الحياة عليها، والاستفادة بخيراتها، إن موقع الأرض ودورانها حول نفسها، ودورانها حول الشمس، وموقعها من القمر، وحركة الشمس التي ترسل أشعتها على المحيطات فيتصاعد البخر ويتشكل السحاب والرياح، والأمطار التي تصبّ بقدرة الله في مكان، وتصرف عن مكان : كل هذا الإعمار والتقدير والتكامل في الكون لابد أن يلفت أنظاركم وعقولكم وتأملكم لتسألوا أنفسكم : من الذي بسط الأرض وجعلها قرارا ؟ من الذي سخر خلالها أنهارا ليشرب منها الإنسان والحيوان والنبات ؟ من الذي خلق الجبال الرواسي بحكمة عالية، ونشرها على سطح الأرض لحفظ توازنها، واحتباس الأمطار في رءوس الجبال في الشتاء، ليستفيد منها الإنسان في الصيف، وللجبال منافع عدة، ففوق رءوسها هبطت الرسالات، وفيها ملجأ للهارب، وأمطارها وسيلة للسقي والريّ لوديان لا تصعد إليها المياه، وغير ذلك من المنافع.
﴿ وجعل بين البحرين حاجزا.. ﴾
أي : خلق المحيطات وفيها مياه مالحة لحياة السمك والمعادن واللآلئ والحيتان، وسفر البواخر والبوارج، ولو كانت مياهها عذبة لأنتنت وتلوث الهواء، وجعل أنهار النيل ودجلة والفرات وغيرها من الأنهار للسقيا ونفع البلاد والعباد.
وهناك حاجز من قدرة الله بين العذب والملح، فلا يطغى أحدهما على الآخر، بل بينهما تكامل نظمته يد القدرة الإلهية، قال تعالى :﴿ مرج البحرين يلتقيان*بينهما برزخ لا يبغيان ﴾ [ الرحمان : ١٩، ٢٠ ] أي خلق البحرين العذب والملح، وجعل بينهما حاجزا من القدرة الإلهية، فلا يطغى أحدهما على الآخر.
﴿ أإله مع الله... ﴾
أي : أبعد كل هذه الأعمال الجليلة التي أبدعها الله وحده، تعتقدون أن معه آلهة أخرى كالأصنام والأوثان ؟ والاستفهام هنا إنكاري لعبادتهم غير الله.
﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾
أي : أكثر هؤلاء الكافرين لا يعلمون ما يتحتم عليهم معرفته من العلم الحق، الذي يوجب عليهم إخلاص عبوديتهم لله سبحانه وتعالى.
تمهيد :
هذه الآيات تحكي دلائل القدرة الإلهية، وتسير على طريقة الاستفهام الذي يأخذ على النفس أقطارها، فلا تجد مناصا من التسليم، فهي تبدأ بمقدمة للخطبة تذكر الحمد لله على نعمائه، والسلام على رسله وأصفيائه، ثم تستفهم وتواجه الكافرين فتقول :

١-
من خلق السماوات والأرض وأنزل المطر المفيد النافع ؟

٢-
من جعل الأرض قرارا مستقرة، وبارك فيها بالبحار والأنهار، ومنع البحرين من الالتقاء ؟

٣-
من يجيب المضطر اللاجئ، ويكشف عنه السوء، وينظم حياة الناس على الأرض بالموت والحياة ؟

٤-
من يهديكم في ظلام الليل والبحر، بالنجوم وغيرها من وسائل الهداية، ومن الذي يرسل الرياح مبشرات بنزول المطر ؟

٥-
من خلق الكون والإنسان، ثم يعيد خلق ذلك ؟ ومن يرزقكم من السماء بالمطر والهواء والفضاء، ومن الأرض بالنبات والمعادن والبترول وغير ذلك ؟
ولا يملك أي إنسان أن يقول إن أحدا غير الله يفعل ذلك، فإن ادعى فليأت بالدليل والبرهان، وأنى له بذلك ؟
لقد سبق هذه الأدلة على وجود الله ذكر قصص موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط ؛ وكلها تبين عظيم قدرة الله وجليل نعمائه، وتأخذ بيد الراغب في الهداية إلى الإيمان بالله تعالى، ثم ساق القرآن الكريم هذه الأدلة المتتابعة، وبدأ كل دليل بهذا الاستفهام الإنكاري، وكأنه يقول لأهل مكة : تدبّروا في الكون حولكم، وتأملوا في أنفسكم، وستجدون أدلة وجود الله ظاهرة أمامكم.
المفردات :
المضطر : ذو الحاجة المجهود، أو الذي أصابه الضرّ.
يكشف السوء : يرفع عنه الظلم والضرّ.
خلفاء الأرض : الذين يرثون سكناها والتصرف فيها.
٦٢- ﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون ﴾
من الذي يجيب المضطر الذي أحزبه أمر أو أحزنه مكروه، أو اشتدت به الكرب، أو كثرت به الظلم، أو اعتدى عليه معتد، أو ظلمه ظالم، أو كثرت به الكوارث، واكفهرت في وجهه الحياة، من يجيب هذا البائس المشفق المكروه، سوى الله الذي تكفل بإجابة دعوة المضطر سواء أكان مسلما أم كافرا، مؤمنا أم مشركا، حتى إذا عاد المشرك إلى شركه أمهله ولم يعاجله بالعقوبة، قال تعالى :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين*فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ﴾ [ يونس : ٢٢، ٢٣ ].
وقد فتح الله بابه للقاصدين وقال سبحانه :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ﴾[ البقرة : ١٨٦ ] وقال سبحانه :﴿ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم.. ﴾ [ غافر : ٦٠ } والالتجاء إلى الله فطرة في النفس خصوصا في الشدائد والمحن، قال تعالى :{ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض. { فصلت : ٥١ ].
وذكر ابن كثير في تفسيره : أن بعض الصالحين وقع في محنة، وتعرض للقتل ظلما، فاستأذن في صلاة ركعتين، وقرأ الفاتحة وارتج عليه فلم يجد ما يقرؤه من القرآن، فقال له الظالم : عجّل بالصلاة، فألهمه الله :﴿ أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون ﴾ وما إن أتم الصلاة حتى أقبل فارس بحربة توجه بها إلى فؤاد الظالم ؛ فأصابته وأردته قتيلا ؛ فوقف الرجل الصالح، وقال للفارس : أسألك بالله، من أنت ؟ فقال الفارس : أنا رسول من يجيب المضطر إذا دعاه، وكان الظالم قد استولى على فرس الرجل الصالح وأمتعته ؛ فأخذ الرجل الصالح فرسه ومتاعه وعاد إلى أهله سليما معافى.
﴿ ويكشف السوء... ﴾
أي : ويكشف الفقر أو المرض أو المحنة التي أحوجت المضطر إلى التضرع إلى الله تعالى، فإن الله يرفع عنه ما نزل به من فقر أو مرض أو خوف أو غيره.
﴿ ويجعلكم خلفاء الأرض.. ﴾
ورثة من قبلكم من الأمم في سكنى الأرض والديار، ومن حكمة الله أن خلق الموت والحياة فإذا مات جيل حلّ مكانه جيل آخر، ولو استمر توالد الناس بدون موت كبار السنّ، أو موت أصحاب الحوادث والزلازل والبراكين وغير ذلك ؛ لضاقت الأرض بالناس، واشتد الصراع ؛ لذلك دبر الله الحياة قرنا بعد قرن، بالتوارث والخلافة، حتى يخلف اللاحق السابق، قال تعالى :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات.. ﴾ [ الأنعام : ١٦٥ ].
﴿ أإله مع الله قليل ما تذكرون ﴾ أيقدر على كل ما سبق إله غير الله المتفرد بهذه الأفعال، لكنكم تذكرون الله كثيرا في الشدائد والمحن، ولا تذكرونه إلا قليلا في الرخاء والنعم، فما أقل تذكركم نعم الله عليكم.
تمهيد :
هذه الآيات تحكي دلائل القدرة الإلهية، وتسير على طريقة الاستفهام الذي يأخذ على النفس أقطارها، فلا تجد مناصا من التسليم، فهي تبدأ بمقدمة للخطبة تذكر الحمد لله على نعمائه، والسلام على رسله وأصفيائه، ثم تستفهم وتواجه الكافرين فتقول :

١-
من خلق السماوات والأرض وأنزل المطر المفيد النافع ؟

٢-
من جعل الأرض قرارا مستقرة، وبارك فيها بالبحار والأنهار، ومنع البحرين من الالتقاء ؟

٣-
من يجيب المضطر اللاجئ، ويكشف عنه السوء، وينظم حياة الناس على الأرض بالموت والحياة ؟

٤-
من يهديكم في ظلام الليل والبحر، بالنجوم وغيرها من وسائل الهداية، ومن الذي يرسل الرياح مبشرات بنزول المطر ؟

٥-
من خلق الكون والإنسان، ثم يعيد خلق ذلك ؟ ومن يرزقكم من السماء بالمطر والهواء والفضاء، ومن الأرض بالنبات والمعادن والبترول وغير ذلك ؟
ولا يملك أي إنسان أن يقول إن أحدا غير الله يفعل ذلك، فإن ادعى فليأت بالدليل والبرهان، وأنى له بذلك ؟
لقد سبق هذه الأدلة على وجود الله ذكر قصص موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط ؛ وكلها تبين عظيم قدرة الله وجليل نعمائه، وتأخذ بيد الراغب في الهداية إلى الإيمان بالله تعالى، ثم ساق القرآن الكريم هذه الأدلة المتتابعة، وبدأ كل دليل بهذا الاستفهام الإنكاري، وكأنه يقول لأهل مكة : تدبّروا في الكون حولكم، وتأملوا في أنفسكم، وستجدون أدلة وجود الله ظاهرة أمامكم.
المفردات :
يهديكم : يرشدكم بالنجوم وغيرها.
بشرا : جمع بشير، والمراد : مبشرات بقدوم المطر.
التفسير :
٦٣- ﴿ أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون ﴾
من الذي يرشد الضال في المفازة المهلكة، بأن سخر لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، ويغيث المستغيث إذا لجأ إليه ؟
ومن مأثور الدعاء ما يأتي : " اللهم إني أسألك بحق أني أشهد أنك أنت الله، الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد }١٤ " يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك " ١٥. " يا ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام، أسألك بجلالك ونور وجهك أن تنور بالقرآن وجهي، وأن تطلق به لساني، وأن تشرح به صدري، وأن ترزقني تلاوته على النحو الذي يرضيك عني فإنه لا يعينني على الحق غيرك، ولا يهديني إليه إلا أنت، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم " ١٦.
ثم تدعو بعد ذلك بما تشاء.
﴿ ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته.. ﴾
من الذي أبدع تصميم هذا الكون، بحيث تسير الرياح قبيل نزول المطر، تبشر به عبادا قاحلين في أمسّ الحاجة إلى المطر ؟ لا أحد غير الله يملك التصرف في هذا الكون.
﴿ أإله مع الله تعالى عما يشركون ﴾.
أهناك إله آخر يدّعي أنه يفعل مثل هذه الأفعال ؟ هل الأصنام العاجزة تستطيع أن تفعل شيئا من ذلك.
﴿ تعالى الله عما يشركون ﴾
تنزه الإله عن أن يكون له شريك في ملكه أو في تصرفاته، وهو الإله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد.
تمهيد :
هذه الآيات تحكي دلائل القدرة الإلهية، وتسير على طريقة الاستفهام الذي يأخذ على النفس أقطارها، فلا تجد مناصا من التسليم، فهي تبدأ بمقدمة للخطبة تذكر الحمد لله على نعمائه، والسلام على رسله وأصفيائه، ثم تستفهم وتواجه الكافرين فتقول :

١-
من خلق السماوات والأرض وأنزل المطر المفيد النافع ؟

٢-
من جعل الأرض قرارا مستقرة، وبارك فيها بالبحار والأنهار، ومنع البحرين من الالتقاء ؟

٣-
من يجيب المضطر اللاجئ، ويكشف عنه السوء، وينظم حياة الناس على الأرض بالموت والحياة ؟

٤-
من يهديكم في ظلام الليل والبحر، بالنجوم وغيرها من وسائل الهداية، ومن الذي يرسل الرياح مبشرات بنزول المطر ؟

٥-
من خلق الكون والإنسان، ثم يعيد خلق ذلك ؟ ومن يرزقكم من السماء بالمطر والهواء والفضاء، ومن الأرض بالنبات والمعادن والبترول وغير ذلك ؟
ولا يملك أي إنسان أن يقول إن أحدا غير الله يفعل ذلك، فإن ادعى فليأت بالدليل والبرهان، وأنى له بذلك ؟
لقد سبق هذه الأدلة على وجود الله ذكر قصص موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط ؛ وكلها تبين عظيم قدرة الله وجليل نعمائه، وتأخذ بيد الراغب في الهداية إلى الإيمان بالله تعالى، ثم ساق القرآن الكريم هذه الأدلة المتتابعة، وبدأ كل دليل بهذا الاستفهام الإنكاري، وكأنه يقول لأهل مكة : تدبّروا في الكون حولكم، وتأملوا في أنفسكم، وستجدون أدلة وجود الله ظاهرة أمامكم.
٦٤- ﴿ أمّن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾.
من الذي خلق هذا الكون فرفع السماء وبسط الأرض، وأرسى الجبال وسير الهواء، وأجرى الرياح وسخر الشمس والقمر والنجوم، والبحار والأنهار، وأنبت النبات، لا أحد غير الله يقدر على خلق هذا الكون، وقد عجز الناس عن إثبات أن هذا الكون وجد بالصدفة، أو أن الكون خلق نفسه، أو أنه يقود نفسه بنفسه، فكل هذه دعاوى لا تثبت أمام الدليل والبرهان، أو استخدام العقل والفكر والمنطق السليم، وكان كفار مكة يقرّون بأن الله خالق الكون، وينكرون البعث والحشر والجزاء، أو يترددون ويظنون ظنا غير مستيقن، فبين الحق أنه هو الذي يعيد خلق الكون، قال تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ﴾ [ الروم : ٢٧ ].
فالله تعالى خلق هذا الكون وأبدع خلقه على غير مثال سابق، وهو يعيده كما قال تعالى :﴿ كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ]
﴿ ومن يرزقكم من السماء والأرض.. ﴾
ورزق السماء يتمثل في المطر والهواء، والجاذبية والمغناطيسية، وتسخير الشمس والقمر والقوى المتعددة، ومن رزق السماء إرسال وإنزال الوحي والهداية للناس، وأما رزق الأرض فيتمثل في الزرع والنبات، والبترول والمعادن والفلزات، وكنوز البحر من طعام وزينة، ومنها القوى العجيبة من مغناطيسية وكهرباء، وقوى أخرى لا يعلمها بعد إلا الله، ويكشف عن شيء منها لعباده آنا بعد آن.
﴿ أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾
أهناك إله مع الله يصنع هذا ؟ إذا زعمتم ذلك فقدموا الدليل عليه إن كنتم صادقين في هذه الدعوى ؟
وإنهم ليعجزون عن تقديم هذا البرهان، كما يعجز عنه من يحاوله حتى الآن، وهذه هي طريقة القرآن الكريم في إثبات العقيدة الإلهية، يستخدم مشاهد الكون بكل ما فيه، وأغوار النفس بكل خلجاتها، ويستدل بهذا ويستخدمه لتحريك الفطرة الغافلة وإيقاظ الضمير ؛ وبذلك الضمير ؛ وبذلك نرى أن لله كتابين :
-كتاب مقروء، وهو القرآن الكريم.
-وكتاب مفتوح، وهو كتاب الكون الذي خلقه الله وحث الإنسان على التأمل فيه، وعلى ترديد البصر إلى السماء والجبال والأرض والبحار، والليل والنهار، والشمس والقمر، والإنسان والحيوان، والطيور وسائر المخلوقات، لينتقل من إبداع الصنعة إلى قدرة الصانع سبحانه وتعالى.
قال تعالى :﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب*الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ﴾ [ آل عمران : ١٩٠، ١٩١ ].
ويقول عز شأنه :﴿ ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ﴾ [ المؤمنون : ١١٧ ].
﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ( ٦٥ ) بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون( ٦٦ ) ﴾.
المفردات :
الغيب : كل ما غاب عنك، وجمعه : غيوب.
وما يشعرون : وما يعلمون به، ولا يفطنون له.
أيان : متى.
يُبعثون : يقومون من القبور للحساب والجزاء.
تمهيد :
بعد أن قدم الأدلة على الألوهية والوحدانية، اتبع ذلك بتفرده بعلم الغيب والساعة، وبأن الكفار في شك من القيامة، وقد عميت بصيرتهم عن رؤية الأدلة على مجيئها.
التفسير :
٦٥- ﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ﴾
قيل : إن هذه الآية نزلت لما سأل الكفار الرسول صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة.
﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله... ﴾
اختص الله تعالى بعلم الغيب لحكمة إلهية عليا، ولا يعلم الغيب من في السماوات من الملائكة الكرام، وكذلك من في الأرض ومن الرسل، ومن الجن، ومن الخلق أجمعين.
روى الشيخان، والترمذي، وأحمد، والنسائي، وجماعة من المحدثين، من حديث مسروق، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول :﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله.. ﴾١٧.
وقد يطلع الله بعض خلقه على الغيب ويظهرهم عليه، قال تعالى :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا*إلا من ارتضى من رسول.. ﴾ [ الجن : ٢٦، ٢٧ ].
والتنبؤ بالمطر أو درجات الحرارة أو أشباه ذلك ليس من الغيب، بل هو علم ودراسة لأسباب وأمارات، كما يحصل من علماء الفلك من الراصدين لحركات الرياح والشمس والقمر والكواكب، حين يخبرون بهبوب الرياح شديدة أو معتدلة، وبكسوف الشمس، وخسوف القمر " ١٨.
فهذه دراسة وعلم له أسباب تؤدي دراستها إلى المعرفة أو غلبة الظن، وقد تقع هذه الأمور غالبا وقد تتخلف.
أما العرّاف الذي يتحدث عن المستقبل، ادعاء بأنه على علم بالغيب، كقوله لمن يستخبره عن مستقبله : ستكسب مبلغ كذا، أو ستتزوج فلانة، أو تفقد كذا في سفرك أو نحو ذلك، فهو كافر –كما قال القرطبي- والمؤمنون منهيون عن إتيان العرافين، فقد جاء في صحيح مسلم :( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " ١٩.
إن الله تعالى استخلف الإنسان في هذه الأرض : ليبحث ويعمل ويتنافس ويكشف المخبوء، ويحاول الوصول إلى معرفة أسرار هذا الكون، وعن طريق ذلك يخترع ويبتكر ويجوّد عمله، ويفيد نفسه والآخرين، وقد أخفى الله علم الغيب عن الإنسان، وعن سكان السماوات وسكان الأرض، فقد اختص الله نفسه بعلم الغيب، ومعرفة الساعة وهي القيامة، ونزول المطر، ونوع الجنين ومستقبل أمره وسعادته أو شقاوته، ومعرفة الأرض التي يموت فيها الإنسان، قال تعالى :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ﴾ [ لقمان : ٣٤ ].
وامتدادا لاختصاص الله تعالى نفسه بعلم الغيب قال سبحانه :
﴿ وما يشعرون أيان يبعثون ﴾
أي : هؤلاء الكفار لا يدرون متى يكون البعث، والحشر والجزاء، فلا داعي لأن يكثروا من السؤال عن الساعة، ولا داعي لأن يسألوا نبيهم من حين لآخر عن وقت نزول العذاب، فكل ذلك مما استأثر الله تعالى بمعرفته، قال تعالى :﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾ [ يونس : ٤٨ ]
تمهيد :
بعد أن قدم الأدلة على الألوهية والوحدانية، اتبع ذلك بتفرده بعلم الغيب والساعة، وبأن الكفار في شك من القيامة، وقد عميت بصيرتهم عن رؤية الأدلة على مجيئها.
المفردات :
ادارك : تتابع علمهم بها عن طريق الأدلة، وقيل : معناه : اضمحل علمهم بالآخرة، من التدارك : وهو التتابع في الفناء والاضمحلال.
في شك : في تردد من تحقق الآخرة نفسها.
عَمون : لا يدركون دلائلها مع وضوحها، كأنهم فقدوا أبصارهم، واحدهم : عمٍ، وهو أعمى القلب والبصيرة.
التفسير :
٦٦- ﴿ بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ﴾
﴿ بل ادارك علمهم في الآخرة.. ﴾
تحتمل هذه الفقرة معنيين :
الأول : ضعف علمهم بالآخرة وذبل، فأصبح باهتا ضعيفا لا أثر له في تحسين العمل والسعي الجميل في الدنيا، من قولهم :[ تدارك بنو فلان ] إذا تتابعوا في الهلاك.
قال صاحب القاموس :﴿ بل ادارك علمهم في الآخرة ﴾ جهلوا علمها، ولا علم لهم بشيء من أمرها.
وقال ابن عباس :﴿ بل ادارك علمهم في الآخرة ﴾ أي : غاب.
وقال قتادة :﴿ بل ادارك علمهم في الآخرة ﴾ يعني : بجهلهم بربهم، يقول : لم ينفذ لهم علم في الآخرة.
المعنى الثاني : أن التدارك هنا بمعنى التكامل واليقين، أي : تكامل علمهم بشؤون الآخرة، حين يعاينون ما أعد لهم فيها من العذاب، قال تعالى :﴿ ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ﴾ [ الكهف : ٥٣ ]
لقد تيقنوا بحقيقة الآخرة، وتكامل علمهم بها حين شاهدوها ورأوها رأى العين، قال تعالى :﴿ أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ﴾ [ مريم : ٣٨ ]
﴿ بل هم في شك منها بل هم منها عمون ﴾
وبل هنا للإضراب : أي : إنهم في الدنيا على علم باهت، يقولون : إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين، فهم في الدنيا في شك من مجيء الآخرة والحساب والجزاء.
﴿ بل هم منها عمون ﴾
أي : عميت بصائرهم وأبصارهم عن توضيح حقائقها ووصف أحوالها،
وقد حفل القرآن بذلك، وعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوضيح أمر البعث والجزاء، لكن بصيرتهم عمياء لا تهتدي إلى هذه الحقائق.
﴿ وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون( ٦٧ ) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين( ٦٨ ) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين( ٦٩ ) ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون( ٧٠ ) ﴾
المفردات :
أئنا لمخرجون : إنكار لإخراجهم من قبورهم أحياء.
التفسير :
٦٧- ﴿ وقال الذي كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون ﴾.
تردد إنكار الكافرين للبعث والقيامة والحساب والجزاء، وادعوا أن الحياة الدنيا هي الحياة الأخيرة، وقالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ولما أنكروا البعث والجزاء أخذوا في التدليل على دعواهم فقالوا :﴿ أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون ﴾ أي : إذا متنا، وتحولت أجسامنا إلى تراب ورماد بال بعيد عن الحياة، كما لقي مثل ذلك آباؤنا السابقون ؛ أنبعث ونخرج من قبورنا بعد ذلك ؟ وهذا الاستفهام للاستبعاد وإنكار البعث واستبعاده.
المفردات :
أساطير الأولين : أباطيل الذين سبقوهم، جمع إسطار بكسر الهمزة، وأسطورة بضمها.
التفسير :
٦٨- ﴿ لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾
استئناف مسوق لتقرير الإنكار، وصدّر بالقسم، أي : والله لقد وعدنا بهذا البعث، كما وعد به آباؤنا وأجدادنا من قبل أن يأتي به محمد، ولكنا لم نجد له أثرا ولا واقعا، فلم نسمع أن رجلا بعث من بعد أن مات.
﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾
أي : ما هذا البعث إلا أباطيل الأولين، وأكاذيبهم، وما سطروه من الخرافات في كتبهم من غير أن يكون لهم بينة على إمكان تحققه ووجوده.
٦٩- ﴿ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ﴾
أي : قل لهم يا محمد : سيروا في أرض الحجاز والشام واليمن ومصر وغيرها، وانظروا مصير من سبقكم من المكذبين، مثل : عاد، وثمود، وقوم فرعون، وأمثالهم من الطغاة العتاة المجرمين، الذين كذبوا رسلهم، واغتروا بما هم فيه من تقدم ومتاع وزينة، ومصانع ومساكن، وكانت عاقبتهم الهلاك المروّع بالصيحة أو الصاعقة، أو الغرق أو النهاية المؤلمة، التي تركتهم أثرا بعد عين، ونجّى الله المرسلين، وأهلك المجرمين، الذين كذبوا الرسل ولم يصدقوهم.
المفردات :
ضيق : ضيق صدر.
مما يمكرون من مكرهم، أي : فإن الله يعصمك من الناس، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي : لا تهتم بمكرهم وتآمرهم عليك، فإنا ناصروك عليهم.
التفسير :
٧٠- ﴿ ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون ﴾
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية قومه، حزينا لاستمرارهم في الكفر والتكذيب، وكان القرآن يواسيه ويشد أزره، ويقول له هنا : لا تكثر أسفك وحزنك على إعراضهم، ولا تكن ضيق الصدر حزينا من مكرهم وتدبير السوء للدعوة الإسلامية، والمراد : طب نفسا يا محمد فقد تكفلنا بإهلاك عدوّك، ونصرك عليهم، كما قال تعالى :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا*ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما*وينصرك الله نصرا عزيزا ﴾ [ الفتح : ١-٣ ].
﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين( ٧١ ) قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون ( ٧٢ ) وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون( ٧٣ ) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون( ٧٤ ) وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين( ٧٥ ) ﴾.
التفسير :
٧١- ﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾
كان القرآن الكريم يهددهم بأن يصيبهم عذاب كما أصاب من سبقهم من الأمم، مثل : عاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وما أصاب سبأ من الهلاك والبوار، وما أصاب قوم نوح من الطوفان، وما أصاب فرعون وقومه من الغرق، وهم عصاة مكذبون فليحذروا أن يصيبهم العذاب الذي أصاب المكذبين، قال تعالى :﴿ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ﴾ [ الإسراء : ١٧ ].
وقال عز شأنه :﴿ وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين*فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ العنكبوت : ٣٩، ٤٠ ].
ومعنى الآية :
ويقول كفار مكة : متى هذا الوعد الذي تخوفوننا به ؟ إن كان ما تقولونه صحيحا فهيا عجلوا لنا هذا العذاب، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية والاستهانة.
المفردات :
ردف لكم : تبعكم ولحقكم.
بعض الذي تستعجلون : القتل يوم بدر، وباقي العذاب يأتيهم بعد الموت.
التفسير :
٧٢-﴿ قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون ﴾
أي : عسى أن يكون عجّل لكم وقرب لكم جانب من العذاب الذي تستعجلون وقوعه، فقد أصابهم القحط في مكة، والقتل في غزوة بدر، وسيصيبهم العذاب يوم القيامة.
والخلاصة :
عسى أن يكون العذاب قريبا منكم، قرب راكب الدابة من الرديف الذي أردفه خلفه، قال تعالى :﴿ ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ﴾ [ الإسراء : ٥١ ].
وقال تعالى :﴿ يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾ [ العنكبوت : ٥٤ ].
والقرآن بذلك يثير الخوف في قلوبهم، والقلق من شبح العذاب، فقد يكون وراءهم رديفا لهم، كما يكون الرديف وراء الراكب فوق الدابة.
قال صاحب المصباح المنير :
والرديف : الذي تحمله خلفك على ظهر الدابة... ومنه : ردف المرأة وهو عجزها، والجمع أرداف، وترادف القوم إذا تتابعوا، وكل شيء تبع شيئا ردفه.
والمقصود :
لا تتعجلوا نزول العذاب بكم، فقد يكون بعض هذا العذاب قد عجل لكم في الدنيا، وبعضه في طريقه إليكم وأنتم لا تشعرون بذلك لشدة غفلتكم، وحتى إذا أفلتم من عذاب الدنيا، فإن عذاب الآخرة ينتظركم، وكل آت قريب.
٧٣- ﴿ وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾
إن الله تعالى متفضل على الناس في خلقهم ومنحهم العقل والإرادة والاختيار، والتفضل عليهم بالرزق المادي والمعنوي، قال تعالى :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ].
لكن أكثر الناس لا يشكرون أنعم الله عليه، ولا يولونها ما تستحقه من شكر الله وطاعته.
قال تعالى :﴿ الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار*وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار* وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ﴾ [ إبراهيم : ٣٢-٣٤ ].
وهناك القليل الذي يشكر ولا يكفر، قال تعالى :﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ [ سبأ : ١٣ ] وقال سبحانه :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم.. ﴾ [ ص : ٢٤ ].
المفردات :
ما تكن صدورهم : ما تخفيه من الأسرار.
التفسير :
٧٤- ﴿ وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ﴾
إن الله تعالى مطلع على السرائر والضمائر، وهو رقيب على كل نفس بما كسبت، وأحرى بهم أن يلزمهم الحياء والخوف من مشاهدة الله تعالى ومعرفته بما يسرون وما يعلنون.
قال تعالى :﴿ فإنه يعلم السر وأخفى ﴾ [ طه : ٧ ]
وقال تعالى :﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ﴾ [ الرعد : ١٠ ]
المفردات :
غائبة : أي شيء في غاية الخفاء على الناس.
إلا في كتاب مبين : اللوح المحفوظ، فكل شيء يعلمه الله قديما، ومنه تعذيب للكفار.
التفسير :
٧٥- ﴿ وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ﴾
إن علم الله مطلق شامل لكل ما في السماوات من أسرار وأفلاك، وقوى وأملاك، وخفايا وخبايا، وعلم الله شامل لكل ما في الأرض من نبات وأوراق، وظاهر وخفي، وقد سجل كل ذلك في اللوح المحفوظ، وشمله علم الله وسطر في كتب الغيب والقدر، قال تعالى :﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير*لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ﴾ [ الحديد : ٢٢، ٢٣ ].
وقال تعالى :
﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ].
وقال تعالى :﴿ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ﴾ [ الحج : ٧٠ ].
والمقصود : إن علم الله شامل لكل ما في الكون فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، أي : ما غاب عن العباد وما شاهدوه، وهو مطلع على ما في ضمائرهم، ومحيط بكل تحركاتهم المشبوهة، وأنشطتهم المريبة، فيستحيل وقوع ما يريدونه من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، أو النيل من رسالته، أو تحقيق الظفر على المسلمين.
﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون( ٧٦ ) وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين( ٧٧ ) إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم( ٧٨ ) فتوكل على الله إنك على الحق المبين( ٧٩ ) إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين( ٨٠ ) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون( ٨١ )* ﴾.
المفردات :
بني إسرائيل : المراد بهم اليهود والنصارى، وإسرائيل : يعقوب عليه السلام.
التفسير
٧٦- ﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ﴾
ذكر تعالى أدلة واضحة على الألوهية، وهنا يذكر أدلة على إعجاز القرآن، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا النبي الأمي أنزل عليه وحي مهيمن على الكتب السابقة، فهو يقص على اليهود والنصارى القول الفصل في أمور كثيرة يختلفون بشأنها.
فقد اتهم اليهود مريم، وقالوا عنها بهتانا عظيما، واختلف النصارى بشأن المسيح، منهم من قال : إنه ابن الله، ومنهم من قال : إنه أحد الأقانيم الثلاث الأب والابن وروح القدس.
وتعددت المجامع المسيحية، واختلفت الكنيسة الغربية عن الكنيسة الشرقية فيما يتعلق بطبيعة المسيح، وكان المذهب الملكاني، مذهب روما، ومذهب الحكام في مصر يرى أن الابن متصل بالأب قبل كلّ الأزمنة والدهور ؛ وهو جوهره ونوره اتحد بالإنسان المأخوذ من مريم.
والمذهب اليعقوبي مذهب الشعب القبطي في مصر يرى أن اللاهوت حلّ في الناسوت، أي : أن الله حل في الإنسان، فالمسيح مكون من جانب إلهي وجانب إنساني، وكان المذهب اليعقوبي أقرب إلى روح الإسلام من المذهب الملكاني.
وكان زعماء اليعاقبة زعماء شعبيين، هم رجال دين وهم قادة لمصر في وجه روما، فلما جاء الإسلام إلى مصر ساعد الأقباط الفاتحين، وقدموا للجيش الإسلامي العلوفة والمؤونة عند قدومهم، كما أن المسلمين الفاتحين أحسنوا معاملة الأقباط، وخلصوهم من ظلم الرومان، وقد وردت أحاديث متعددة تحث على إكرام أهل مصر لأنهم أهل كتاب، ولأن هاجر أم إسماعيل جدّ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وكذلك مارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
روى مسلم في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه قال :( ستفتح عليكم بعدي مصر، وهي بلد يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما )٢٠. فالأقباط أهل كتاب، ولهم قرابة بالأنبياء.
﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ﴾
لقد اختلف اليهود والنصارى بشأن الخنزير، فاليهود تحرمه والنصارى تبيح أكله، وقد بين القرآن أنه حرام، كذلك موت عيسى، منهم من قال : إنه قتل، ومنهم من قال : دفن ثلاثة أيام ثم رفع إلى السماء.
وقد ذكر القرآن القول الفصل عن المسيح ؛ فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وقد نطق المسيح بأنه عبد الله، فكان أول كلام له :﴿ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ﴾. [ النساء : ١٥٧ ].
والخلاصة :
إن هذا الكتاب الذي أنزله الله على رسوله، أخبر أخبارا صادقة، وكان حكما عادلا بين المختلفين من أهل الكتاب، وصوّب كثيرا من الأخطاء، فقد اتهم اليهود الأنبياء بالزنا، مثل نبي الله لوط، الذي اتهموه مع ابنتيه أنه زنى بهما، وأنجب منهما، واتهموا حواء بأنها المسؤولة عن الأكل من الشجرة، فصوب القرآن أفكارهم الخاطئة، وحكى قصة آدم وبين أن المسؤولية مشتركة بين آدم وحواء، وتحدث القرآن عن كثير من الأنبياء والرسل، وصوب ما ورد في التوراة والإنجيل، وكان القرآن هو الفيصل وهو القول الحق ؛ فصوب تشريعات القصاص التي حرفت في التوراة، قال تعالى :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص.. ﴾ [ المائدة : ٤٥ ].
وقد ذكرت التوراة عن آدم وحواء ما يأتي :
[ بينما الربّ يتمشى في الجنة نادى : يا آدم، فقال آدم : يا رب إني عريان، فقال الله : ما أعلمك أنك عريان، لا بد أنك أكلت من الشجرة، ما حملك على ذلك ؟ قال آدم : وسوست لي حواء، قال الله : يا حوّاء ما حملك على ذلك ؟ قالت : وسوس لي الشيطان قال الله : يا شيطان، كيف دخلت إلى الجنة ؟ قال الشيطان : دخلت في جوف الحية، فقال الله للحية : أما إذ فعلت هذا فعمياء تعيشين، وعلى بطنك تزحفين وترابا تأكلين، وأجعل عداوة بينك وبين بني آدم فهو يرصد عقبك وأنت ترصدين عقبه، وقال الله : يا حواء أما إذ فعلت هذا، فإني أكثر عليك مشقات الحمل والولادة، وأجعل الرجل سيدا عليك إلى يوم القيامة، وقال الله : يا آدم أما إذ فعلت هذا فإنك لا تأكل رزقك إلا بعرق جبينك، وكدّ يمينك }ا. ه.
ونلاحظ على هذا النص المنقول عن التوراة قوله : بينما الربّ يتمشى في الجنة، والله في الإسلام علة العلل لا يحدّه مكان، ولا يحويه زمان، فهو أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء، وليس جسما ولا حالا في جسم، وليس جوهرا ولا عرضا، ولا كما ولا كيفا، قال تعالى :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ [ الشورى : ١١ ].
فالمشي خاص بالحوادث والإله منزه عن الطول والعرض، والكم والكيف، والمشي وسائر صفات الحوادث وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله :( أنت الأول فليس قبلك شيء. وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء )٢١.
فالله في الإسلام هو القوة العظمى التي أوجدت هذا الكون، وجعلته متكاملا، وهو يمسك بزمام هذا الكون، وهو الخالق للكون وللإنسان، وللسماء والأرض، وللشمس والقمر، والبحار والأشجار، والليل والنهار، وقد كان الله ولا شيء معه، والله ليس جسما ولا حالا في جسم، وليس له طول ولا عرض، ولا يحويه مكان، لأن ذلك من صفات الحوادث، والله قديم أبدي أزلي، يَخلق ولا يُخلق ؛ ويجير ولا يجار عليه، وليس له مثيل أو نظير أو مكافئ أو مساو أو معادل له، قال تعالى :
﴿ قل هو الله أحد* الله الصمد*لم يلد ولم يولد*ولم يكن له كفؤا أحد ﴾ [ الإخلاص : ١-٤ ] وكفوا أصلها كفؤا، أي : مكافئ ومماثل، فحذفت الهمزة فصارت كفوا.
كما أن القرآن الكريم أنصف حواء، وبين أن المسؤولية مشتركة بين آدم وحواء، وأشار إلى أن المرأة تابعة للرجل في سكنه، قال تعالى :﴿ ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة.. ﴾ [ الأعراف : ١٩ ].
وقال سبحانه :
﴿ فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما روي عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين*وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين*فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين*قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين* قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين*قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ﴾ [ الأعراف : ٢٠-٢٥ ].
ومن هذه الآيات نرى أن الإسلام أنصف المرأة، حيث تفيد التوراة أنها سبب خطيئة آدم، بينما يفيد القرآن أنهما [ آدم وحواء ] يتحملان مسؤولية الخطأ، وقد اعترفا بذلك وتابا إلى الله تعالى.
وصوب القرآن فكرة أن المسيح صلب لتخليص البشرية من خطيئة آدم، حيث ذكر القرآن أن باب التوبة مفتوح لجميع الناس، ولا تتحمل نفس وزر نفس أخرى، وأن العبد قريب من ربه، فالله تعالى يقول :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ].
٧٧- ﴿ وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين ﴾
وإن هذا القرآن هداية لقلوب العباد، حيث اشتمل على العقائد وأخبار الرسل، ووصف قدرة الله في خلق الكون وما فيه، وتحدث عن رحمة الله الواسعة، فالقرآن وسيلة من وسائل رحمة الله للعباد، وفيه وسائل شفاء القلوب من الأمراض الظاهرة والباطنة، قال تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.. ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ].
٧٨- ﴿ إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم ﴾
أي : إن ربك يقضي يوم القيامة بين اليهود والنصارى، والمشركين والمؤمنين، وجميع الخلائق، فينصف المؤمنين، ويعاقب الكافرين المبطلين، وقيل : يقضي بينهم في الدنيا بإظهار ما حرّفوه، وبيان الحق فيما اختلفوا فيه.
وقيل : المراد بالآية : المشركون من أهل مكة المكذبون للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أي : لا تحزن عليهم، فليس عليك إلا البلاغ، واليوم عمل ولا حساب، وغدا في الآخرة سيحاكمهم الله تعالى، ويجازيهم على كفرهم وشركهم، وهو : العزيز، الغالب المقتدر، العليم. بكل شيء من الأشياء فلا تخفى عليه خافية ؛ فهو مطلع على ما تكنّه الصدور، ومحاسب على الفتيل والقطمير.
المفردات :
على الحق المبين : الواضح البيّن، أو الفاضل بين الحق والباطل.
التفسير :
٧٩- ﴿ فتوكل على الله إنك على الحق المبين ﴾
اعتمد على الله سبحانه وتعالى، فأنت على الحق الواضح المبين الظاهر، وقد جعل الله انتصار الحق سنة كونية ؛ فالمؤمن بالله في سلام نفسي، لأنه متناسق مع الكون، مؤمن بوجود الله، مطيع لأمره، وقد وعد الله أن ينصر رسله والمؤمنين ؛ قال تعالى :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ].
المفردات :
ولا تسمع الصم : لا تسمع من ذهب سمعه لسبب من الأسباب ؛ وفعله من باب علم، فللذكر أصمّ، وللأنثى صماء، والجمع صمّ، مثل أحمر وحمراء وحُمْر، ويتعدى بالهمزة، فيقال : أصمّه الله.
التفسير :
٨٠- ﴿ إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ﴾
الرسول صلى الله عليه وسلم مبشر ونذير، وداع إلى الله تعالى، وهؤلاء الكفار أعرضوا عن هداية القرآن، وأغلقوا قلوبهم وآذانهم وعقولهم، وأصروا على الكفر والعناد، فصاروا أمام الدعوة كالموتى الذين فقدوا الحسّ والشعور، أو الصمّ الذين فقدوا حاسة السمع، وحتى إذا سمعوا أدبروا وأعرضوا ولم يصيخوا السمع، فالمقبل أو المريض. بالصمم ربما سمع بعض الكلام إذا أنصت، لكنهم يعرضون ويدبرون إدبارا الحمر الوحشية إذا هجم عليها الأسد ؛ فتفر فرارا سريعا، قال تعالى :﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون*ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ﴾ [ البقرة : ٦-٧ ].
المفردات :
ضلالتهم : كفرهم، يقال : ضلّ، يضلّ ضلالا وضلالة : مال عن الطريق فلم يهتد.
التفسير :
٨١- ﴿ وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ﴾.
القرآن الكريم يرسم لوحة هادفة تصوّر هؤلاء الكفار وقد تبلّد إحساسهم، وانصرفوا عن الحق، فأصبحوا كالموتى أو الصمّ المعرضين المدبرين، وفي هذه الآية يصورهم بصورة الأعمى الذي لا يبصر نور الإسلام، وقد أصيب بعمى البصيرة ؛ فلم يبصر هداية القرآن، ونور الإيمان، ونضارة الوحي وشرف الرسالة، بل ارتكس في الضلالة والطغيان، قال تعالى :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ].
ويقول الشاعر :
وإذا كان القلب أعمى عن الرش د فماذا تفيده العينان
﴿ إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ﴾
إن رسالتك الواضحة، وصوت الوحي وشرف الرسالة، إنما يصل إلى من أنار الله قلبه بالإيمان، وهداه إلى الإسلام ؛ فهو الذي يسمع القرآن سماع متدبر مهتد، فيدخل في الإسلام دخول واثق مؤمن، مخلص وجهه لله تعالى.
قال تعالى :﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ [ البقرة : ١١٢ ].
﴿ وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون( ٨٢ ) ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون( ٨٣ ) حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون( ٨٤ ) ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون( ٨٥ ) ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون( ٨٦ ) ﴾.
المفردات :
وقع القول : قرب وقوع ما وعدوا به من العذاب بعد البعث.
دابة : هي دابة كبيرة يخرجها الله قرب قيام الساعة.
تكلمهم : تكلم الناس، وتنطق بكلام الناس، من الكلام.
تكلمهم : قراءة بفتح التاء وسكون الكاف وكسر اللام، من الكلْم وهو الجرح.
تمهيد :
تختم السورة بالحديث عن الآخرة، وموقف الحساب والجزاء، ومكافأة المحسنين، ومعاقبة المسيئين، ومن علامات الساعة خروج الدابة من مكان في مكة، تنطق بكلام مثل كلام الناس.
التفسير :
٨٢- ﴿ وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ﴾.
﴿ وإذا وقع القول عليهم.. ﴾
أي : إذا اقترب قيام الساعة، وتحقيق كلمة الله في عذاب الكافرين، والإحسان إلى المحسنين ؛ أخرجنا لهم دابة عظيمة في هيكلها تخرج من أرض مكة، وتكلّم الناس بكلام فصيح واضح مبين ؛ تقول للكافرين : لقد كنتم لا تؤمنون بالقرآن، ولا بدلائل قدرة الله في الأنفس والآفاق، وها أنتم تشاهدون القيامة وأهوالها وعلاماتها، ومن هذه العلامات ما يأتي :
١- طلوع الشمس من مغربها.
٢- خروج دابة من الأرض تكلم الناس بكلام واضح مفهوم، تقول :﴿ أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ﴾.
٣-ظهور المسيح الدجال، كما ورد في الأحاديث الصحيحة، روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا : طلوع الشمس من مغربها، والدجّال، ودابة الأرض٢٢.
ما يلحق بتفسير الآية :
١- الدابة معجزة أو آية جعلها الله من علامات قيام الساعة، وهي من العلامات الكبرى التي جعلها الله من علامات القيامة.
٢- من عادة الناس أن الدواب لا تنطق، ولا تتكلم، فجعل الله نطقها بكلام واضح بين دليلا على نهاية الدنيا وقرب قيام الساعة.
٣- القول في قوله تعالى :﴿ وإذا وقع القول عليهم.. ﴾ يراد به تحقيق ما وعد به الله، مثل :﴿ ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ [ السجدة : ١٣ ].
٤- ورد في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة، ما يفيد أن خروج الدابة من علامات الساعة، وفي هذا ما يكفي المسلم للاعتقاد به، ولا يحتاج بعد ذلك إلى السؤال عن أوصاف هذه الدابة، فقد وردت آثار غير صحيحة في وصفها لا يعوّل عليها، وحسبنا أن نعرف أنها حيوان أعجم ضخم الجثة يتكلم قائلا :﴿ أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ﴾. أي : لا يصدقون بعظيم آيات الله، وعظيم قدرته.
٥- ورد في صحيح مسلم بسنده، عن عبد الله بن عمر، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال :( إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريبا " ٢٣.
٦- وروى الإمام مسلم، وأهل السنن، والإمام أحمد، عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة، فقال :( لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاثة خسوف : خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق-أو تحشر- الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا )٢٤ قال الترمذي : حسن صحيح.
٧- روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة )٢٥.
٨- خلاصة معنى الآية، إذا قرب وقوع ما قلناه على الكافرين من قيام الساعة وعقابهم على كفرهم، أخرجنا لهم من الأرض دابة عظيمة، تكلمهم بما يفهمونه عنها فتوبخهم على كفرهم، وتنعى عليهم أنهم كانوا لا يؤمنون بالله وآياته وبراهينه، ولا يصدقون بالبعث ولا يستيقنون به، وقد حان وقت الجزاء العادل في القيامة، على الإحسان إحسانا وعلى السوء سوءا.
٩- قرأ بعض القراء :﴿ وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم.. ﴾ بسكون الكاف وكسر اللام من الكلم وهو الجرح، أي : أن الدابة تجرحهم بكلام جارح ؛ عتابا ولوما على عدم الإيمان، أو تجرحهم جرحا حسيا، وهذا أمر محتمل، لكن الآراء السابقة هي المفهوم لأول وهلة من كلام القرآن الكريم والسنة الصحيحة.
تمهيد :
تختم السورة بالحديث عن الآخرة، وموقف الحساب والجزاء، ومكافأة المحسنين، ومعاقبة المسيئين، ومن علامات الساعة خروج الدابة من مكان في مكة، تنطق بكلام مثل كلام الناس.
المفردات :
فوجا : جماعة من الرؤساء.
بآياتي : القرآن، أو سائر الآيات في الآفاق والأنفس.
يوزعون : يُحبس أولهم على أخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة.
٨٣، ٨٤- ﴿ ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون*حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون ﴾.
تتحدث الآيتان عن موقف من مواقف القيامة، حيث يجمع الله جماعة من رؤساء كل أمة من الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله، ويحبس أولهم على آخرهم، ليجتمعوا في موقف الحشر والحساب، للمساءلة والعتاب، لقد أراد الله بذلك الحشر تحديد مسؤولية الرؤساء والكبراء عن إضلال من خلفهم، فجمع هؤلاء الكبراء والرؤساء الجاحدين المكذبين، وحبسهم جميعا ليشاهد بعضهم بعضا، ثم وجه إليهم اللوم والعتاب والنكير، فقال :﴿ حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون ﴾ حتى إذا اجتمعوا جميعا، وجه اللوم لكل هذه المجموعة المكذبة، وقال لهم : أكذبتم بآياتي في كتبي المنزلة، وفي رسالة الأنبياء والرسل، وفي الكون والآفاق وفي النفس، ولم تكلفوا أنفسكم عناء النظر المتأمل، ولم تحاولوا معرفة حقائق هذه الآيات، والتأمل في الكون وفي النفس وفي الوحي، ولم تنظروا إلى هذه الآيات نظرا يجعلكم تحيطون بها علما ويدفعكم إلى الإيمان بربوبيتي ووحدانيتي.
﴿ أماذا كنتم تعملون ﴾
وهو استفهام للتوبيخ، يقال لمن رسب في الامتحان : ماذا كنت تعمل طول العام ؟ ويقال لهؤلاء الكفار : كذبتم بآيات ربكم، ولم تبذلوا جهدا في العلم بها، فلم يكن لكم عمل سوى الفساد والتكذيب، والإصرار على الكفر، ولم تبذلوا جهدا للعلم بآيات الله.
﴿ أماذا كنتم تعملون ﴾
أي عمل عملتموه في الدنيا، يمكن أن ينفعكم في هذا اليوم، ما هو كشف حساب أعمالكم ؟ ولما كان كشف حساب أعمالهم كله خسائر ؛ فقد سكتوا سكوت العاجز المعترف بالتقصير.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:تمهيد :
تختم السورة بالحديث عن الآخرة، وموقف الحساب والجزاء، ومكافأة المحسنين، ومعاقبة المسيئين، ومن علامات الساعة خروج الدابة من مكان في مكة، تنطق بكلام مثل كلام الناس.

المفردات :

فوجا : جماعة من الرؤساء.
بآياتي : القرآن، أو سائر الآيات في الآفاق والأنفس.
يوزعون : يُحبس أولهم على أخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة.
٨٣، ٨٤- ﴿ ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون*حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون ﴾.
تتحدث الآيتان عن موقف من مواقف القيامة، حيث يجمع الله جماعة من رؤساء كل أمة من الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله، ويحبس أولهم على آخرهم، ليجتمعوا في موقف الحشر والحساب، للمساءلة والعتاب، لقد أراد الله بذلك الحشر تحديد مسؤولية الرؤساء والكبراء عن إضلال من خلفهم، فجمع هؤلاء الكبراء والرؤساء الجاحدين المكذبين، وحبسهم جميعا ليشاهد بعضهم بعضا، ثم وجه إليهم اللوم والعتاب والنكير، فقال :﴿ حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون ﴾ حتى إذا اجتمعوا جميعا، وجه اللوم لكل هذه المجموعة المكذبة، وقال لهم : أكذبتم بآياتي في كتبي المنزلة، وفي رسالة الأنبياء والرسل، وفي الكون والآفاق وفي النفس، ولم تكلفوا أنفسكم عناء النظر المتأمل، ولم تحاولوا معرفة حقائق هذه الآيات، والتأمل في الكون وفي النفس وفي الوحي، ولم تنظروا إلى هذه الآيات نظرا يجعلكم تحيطون بها علما ويدفعكم إلى الإيمان بربوبيتي ووحدانيتي.
﴿ أماذا كنتم تعملون ﴾
وهو استفهام للتوبيخ، يقال لمن رسب في الامتحان : ماذا كنت تعمل طول العام ؟ ويقال لهؤلاء الكفار : كذبتم بآيات ربكم، ولم تبذلوا جهدا في العلم بها، فلم يكن لكم عمل سوى الفساد والتكذيب، والإصرار على الكفر، ولم تبذلوا جهدا للعلم بآيات الله.
﴿ أماذا كنتم تعملون ﴾
أي عمل عملتموه في الدنيا، يمكن أن ينفعكم في هذا اليوم، ما هو كشف حساب أعمالكم ؟ ولما كان كشف حساب أعمالهم كله خسائر ؛ فقد سكتوا سكوت العاجز المعترف بالتقصير.

أهداف سورة النمل
سورة النمل مكية، وآياتها ٩٣ آية، نزلت بعد سورة الشعراء.
وسميت بسورة النمل لاشتمالها على مناظرة النمل مع سليمان في قوله تعالى :﴿ حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ﴾ [ النمل : ١٨ }.
نظام السورة
هذه السورة مجاورة لسورة الشعراء وهي تمضي على نسقها في الأداء : مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه، وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع، ويؤكده. ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتى الأمم، للعبرة والتدبر في سنن الله وسنن الدعوات.
موضوع السورة
موضوع سورة النمل الرئيسي-كسائر السور المكية- هو العقيدة : الإيمان بالله، وعبادته وحده، والإيمان بالآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب، والإيمان بالوحي، وأن الغيب كله لله لا يعلمه سواه والإيمان بأن الله هو الخالق الرازق واهب النعم، وتوجيه القلب إلى شكر أنعم الله على البشر، والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله.
القصص في سورة النمل
يأتي القصص في سورة النمل لتثبيت أهداف السورة وتصوير عاقبة المكذبين، وعاقبة المؤمنين.
تأتي حلقة من قصة موسى –عليه السلام- تلى مقدمة السورة، حلقة رؤيته للنار، وذهابه إليها، وندائه من الملأ الأعلى، وتكليفه بالرسالة إلى فرعون وملئه، ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات الله وهم على يقين من صدقها، وعاقبة التكذيب مع اليقين :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ [ النمل : ١٤ ].
واستغرقت هذه الحلقة من قصة موسى الآيات من ٧- ١٤.
قصة سليمان وبلقيس
استغرقت الآيات من ١٥-٤٤ في الحديث عن داود وسليمان وبلقيس وبدأته بالإشارة إلى نعمة الله على داود وسليمان، ثم ذكرت قصة سليمان مع النملة، ومع الهدهد، ومع ملكة سبأ وقومها وفيها تظهر نعمة الله على داود وسليمان وقيامهما بشكر هذه النعمة، وهي نعمة العلم والملك والنبوة مع تسخير الجن والطير لسليمان، وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول.
قصة بلقيس
تبدأ قصة بلقيس بتفقد سليمان للطير وبحثه عن الهدهد فلم يجده، ثم جاء الهدهد بعد ذلك، وكان هدهدا عجيبا صاحب إدراك وإيمان، وبراعة في عرض الأخبار، فقد أخبر سليمان أنه رأى ملكة ولها رعية كبيرة في بلاد سبأ ورآهم في نعمة وغنى ولكنهم يسجدون للشمس من دون الله، فكتب له سليمان رسالة ليلقيها إليهم وفيها :﴿ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم*ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين ﴾ [ النمل : ٣٠، ٣١ ].
فلما ألقاها على الملكة جمعت قومها لتستشيرهم فيها، فذكروا لها أنهم أولو قوة وبأس شديد وفوضوا أمر ذلك إليها، فذكرت لهم أن عاقبة الحرب إفساد الديار، وأنها ترى مسالمة سليمان بإرسال هدية إليه، فلما جاءته الهدية لم يقبلها، وهددهم بأن يرسل إليهم جنودا لا قبل لهم بها فلم تجد الملكة مفرا من أن تذعن له وتسافر إلى مقر ملكه، فجمع قومه وأخبرهم بأنه يريد أن يحصل على عرشها قبل حضورها، فأخبره عفريت من الجن أنه يمكنه أن يأتيه به قبل أن يقوم من مجلسه، وأخبره عالم من علماء قومه أنه يمكنه أن يأتيه به قبل مرور طرفة عين، فشكر سليمان ربه أن جعل في ملكه مثل هذا الرجل المؤمن المتصل بالله سبحانه.
وأمر سليمان قومه أن يغيروا شيئا من شكل العرش ليختبر ذكاءها، فانتهت الملكة إلى جواب ذكي أريب :﴿ قالت كأنه هو.. ﴾ [ النمل : ٤٢ ].
فهي لا تنفى ولا تثبت ودلت على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة، ثم تعرضت بلقيس لمفاجأة أخرى، في قصر من البلور أقيمت أرضيته فوق الماء، وظهر كأنه لجة فلما قيل لها : ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض في لجة الماء وكشفت عن ساقيها، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها وقال : إنه صرح مملس من زجاج.
ووقفت الملكة متعجبة مندهشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر، وتدل على أن سليمان مسخرة له قوى أكبر من طاقة البشر، فرجعت إلى الله وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره، معلنة إسلامها مع سليمان –لا لسليمان- ولكن لله رب العالمين. ﴿ قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾ [ النمل : ٤٤ ].
قصة صالح ولوط
وفي أعقاب قصة بلقيس نجد الآيات [ ٤٥-٥٣ ] تتحدث عن نبي الله صالح ومكر قومه في حقه، ونجد الآيات [ ٥٤-٥٩ ] تتحدث عن نبي الله لوط وارتكاب قومه لفاحشة اللواط بالرجال. ومحاولة لوط تقديم النصيحة لهم دون جدوى، بل هددوه بالطرد والنفي فأنجاه الله وأمطر على قومه حجارة من السماء. فأهلكتهم فبئس مطر الهالكين الخاطئين.
أدلة القرآن على وجود الله.
في ختام سورة النمل نجد آيات قوية تتحدث عن قدرة الله ومظاهر العظمة والقدرة في هذا الوجود.
لقد استعرضت السورة في بدايتها حلقات من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط استغرقت الآيات [ ٧-٥٩ ].
أما الآيات الأخيرة في السورة من [ ٦٠ -٩٣ ] فإنها تجول جولة هادفة في تثبيت العقيدة، جولة في مشاهد الكون وأغوار النفس وأطواء الغيب، وفي أشراط الساعة، ومشاهد القيامة، وأهوال الحشر، التي يفزع لها من في السماوات والأرض إلا من شاء الله.
في هذه الجولة الأخيرة يستعرض القرآن أمام الناس مشاهدات في صفحة الكون وفي أطواء النفس لا يملكون تعليلها بغير التسليم بوجود الخالق الواحد المدبر القدير.
ويتوالى عرض هذه المشاهدات في إيقاعات مؤثرة، تأخذ عليهم أقطار النفس وأقطار المشاعر، وهو يسألهم أسئلة متلاحقة : من خلق السماوات والأرض ؟ من أنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ؟ من جعل الأرض قرارا، وجعل خلالها أنهارا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزا ؟ من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ؟ من يجعلكم خلفاء الأرض ؟ من يهديكم في ظلمات البر والبحر ؟ من يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ؟ من يبدأ الخلق ثم يعيده ؟ من يرزقكم من السماء والأرض ؟ وفي كل مرة يقرعهم : أإله مع الله ؟ وهم لا يملكون أن يدّعوا هذه الدعوى، لا يملكون أن يقولوا : أن إلها مع الله يفعل من هذا كله شيئا، وهم مع هذا يعبدون أربابا من دون الله !
وعقب هذه الإيقاعات القوية التي تقتحم القلوب-لأنها إيقاعات كونية تملأ صفحة الوجود من حولهم، أو إيقاعات وجدانية يحسونها في قلوبهم- يستعرض تكذيبهم بالآخرة وتخبطهم في أمرها، ويعقب عليه بتوجيه قلوبهم إلى مصارع الغابرين الذين كانوا مثلهم يكذبون ويتخبطون.
ويخلص من هذا إلى عرض مشهد الحشر وما فيه من هول ومن فزع، ويرجع بهم في ومضة خاطفة إلى الأرض، ثم يردهم إلى مشهد الحشر وكأنما يهز قلوبهم هزا ويرجها رجا.
وتختم السورة بحمد الله الذي يستحق الحمد وحده، وتكلهم إلى الله يريهم آياته، ويطلع على أعمالهم ما ظهر منها وما بطن :﴿ وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ﴾ [ النمل : ٩٣ ]
المفردات :
بما ظلموا : حلّ بهم العذاب الموعود بسبب ظلمهم.
التفسير :
٨٥- ﴿ ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ﴾
ووجب عليهم العذاب الذي قلناه على ألسنة رسلنا، حيث قال تعالى :﴿ ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ [ السجدة : ١٣ ]
أي : لزمتهم مقولة العذاب، بسبب ظلمهم وتكذيبهم، ولم يجدوا حجة ولا وسيلة للاعتذار، فصاروا كالمجرم الذي تقدم للمحكمة، والأدلة كلها تؤكد ارتكابه للجريمة، فعجز عن الدفاع لوضوح الأدلة، وسكت عن النطق بما ينفي عنه التهمة.
وذكر المفسرون هنا أن القيامة فيها مواقف متعددة، في بعض المواقف تكون المساءلة والاستجواب وسماع أقوال الناس، قال تعالى :﴿ وقفوهم إنهم مسؤولون ﴾ [ الصافات : ٢٤ ].
وفي بعض المواقف تنتهي الاستجوابات، ويوقف سماع أي كلام، وهذا يشبه على نحو ما عمل المحكمة في استجواب الخصوم، وسماع أدلة الاتهام والدفاع، وإفساح صدرها لكل رأي أو شهادة أو دفاع أو كتابة مذكرات : ثم تحجز القضية للنطق بالحكم، فلا يقبل حينئذ سماع كلام.
قال تعالى :﴿ هذا يوم لا ينطقون*ولا يؤذن لهم فيعتذرون ﴾ [ المرسلات : ٣٥، ٣٦ ].
وقال سبحانه :﴿ ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ﴾
ومن مأثور السابقين : الامتناع عن الكلام مع القدرة عليه كلام.
فالصمت لغة لها دلالتها ومضمونها، وعدم نطق الكفار يوم القيامة، معناه ما يأتي :
١- هم لا يملكون كلاما مفيدا ينقذهم من العذاب.
٢- أو هم في مرحلة لا يسمح لهم فيها بالنطق، تبكيتا وزجرا.
وقال ابن كثير في التفسير :
﴿ ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ﴾ أي : بهتوا فلم يكن لهم جواب، لأنهم كانوا في الدار الدنيا ظلمة لأنفسهم، وقد ردوا إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية.
أهداف سورة النمل
سورة النمل مكية، وآياتها ٩٣ آية، نزلت بعد سورة الشعراء.
وسميت بسورة النمل لاشتمالها على مناظرة النمل مع سليمان في قوله تعالى :﴿ حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ﴾ [ النمل : ١٨ }.
نظام السورة
هذه السورة مجاورة لسورة الشعراء وهي تمضي على نسقها في الأداء : مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه، وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع، ويؤكده. ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتى الأمم، للعبرة والتدبر في سنن الله وسنن الدعوات.
موضوع السورة
موضوع سورة النمل الرئيسي-كسائر السور المكية- هو العقيدة : الإيمان بالله، وعبادته وحده، والإيمان بالآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب، والإيمان بالوحي، وأن الغيب كله لله لا يعلمه سواه والإيمان بأن الله هو الخالق الرازق واهب النعم، وتوجيه القلب إلى شكر أنعم الله على البشر، والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله.
القصص في سورة النمل
يأتي القصص في سورة النمل لتثبيت أهداف السورة وتصوير عاقبة المكذبين، وعاقبة المؤمنين.
تأتي حلقة من قصة موسى –عليه السلام- تلى مقدمة السورة، حلقة رؤيته للنار، وذهابه إليها، وندائه من الملأ الأعلى، وتكليفه بالرسالة إلى فرعون وملئه، ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات الله وهم على يقين من صدقها، وعاقبة التكذيب مع اليقين :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ [ النمل : ١٤ ].
واستغرقت هذه الحلقة من قصة موسى الآيات من ٧- ١٤.
قصة سليمان وبلقيس
استغرقت الآيات من ١٥-٤٤ في الحديث عن داود وسليمان وبلقيس وبدأته بالإشارة إلى نعمة الله على داود وسليمان، ثم ذكرت قصة سليمان مع النملة، ومع الهدهد، ومع ملكة سبأ وقومها وفيها تظهر نعمة الله على داود وسليمان وقيامهما بشكر هذه النعمة، وهي نعمة العلم والملك والنبوة مع تسخير الجن والطير لسليمان، وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول.
قصة بلقيس
تبدأ قصة بلقيس بتفقد سليمان للطير وبحثه عن الهدهد فلم يجده، ثم جاء الهدهد بعد ذلك، وكان هدهدا عجيبا صاحب إدراك وإيمان، وبراعة في عرض الأخبار، فقد أخبر سليمان أنه رأى ملكة ولها رعية كبيرة في بلاد سبأ ورآهم في نعمة وغنى ولكنهم يسجدون للشمس من دون الله، فكتب له سليمان رسالة ليلقيها إليهم وفيها :﴿ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم*ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين ﴾ [ النمل : ٣٠، ٣١ ].
فلما ألقاها على الملكة جمعت قومها لتستشيرهم فيها، فذكروا لها أنهم أولو قوة وبأس شديد وفوضوا أمر ذلك إليها، فذكرت لهم أن عاقبة الحرب إفساد الديار، وأنها ترى مسالمة سليمان بإرسال هدية إليه، فلما جاءته الهدية لم يقبلها، وهددهم بأن يرسل إليهم جنودا لا قبل لهم بها فلم تجد الملكة مفرا من أن تذعن له وتسافر إلى مقر ملكه، فجمع قومه وأخبرهم بأنه يريد أن يحصل على عرشها قبل حضورها، فأخبره عفريت من الجن أنه يمكنه أن يأتيه به قبل أن يقوم من مجلسه، وأخبره عالم من علماء قومه أنه يمكنه أن يأتيه به قبل مرور طرفة عين، فشكر سليمان ربه أن جعل في ملكه مثل هذا الرجل المؤمن المتصل بالله سبحانه.
وأمر سليمان قومه أن يغيروا شيئا من شكل العرش ليختبر ذكاءها، فانتهت الملكة إلى جواب ذكي أريب :﴿ قالت كأنه هو.. ﴾ [ النمل : ٤٢ ].
فهي لا تنفى ولا تثبت ودلت على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة، ثم تعرضت بلقيس لمفاجأة أخرى، في قصر من البلور أقيمت أرضيته فوق الماء، وظهر كأنه لجة فلما قيل لها : ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض في لجة الماء وكشفت عن ساقيها، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها وقال : إنه صرح مملس من زجاج.
ووقفت الملكة متعجبة مندهشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر، وتدل على أن سليمان مسخرة له قوى أكبر من طاقة البشر، فرجعت إلى الله وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره، معلنة إسلامها مع سليمان –لا لسليمان- ولكن لله رب العالمين. ﴿ قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾ [ النمل : ٤٤ ].
قصة صالح ولوط
وفي أعقاب قصة بلقيس نجد الآيات [ ٤٥-٥٣ ] تتحدث عن نبي الله صالح ومكر قومه في حقه، ونجد الآيات [ ٥٤-٥٩ ] تتحدث عن نبي الله لوط وارتكاب قومه لفاحشة اللواط بالرجال. ومحاولة لوط تقديم النصيحة لهم دون جدوى، بل هددوه بالطرد والنفي فأنجاه الله وأمطر على قومه حجارة من السماء. فأهلكتهم فبئس مطر الهالكين الخاطئين.
أدلة القرآن على وجود الله.
في ختام سورة النمل نجد آيات قوية تتحدث عن قدرة الله ومظاهر العظمة والقدرة في هذا الوجود.
لقد استعرضت السورة في بدايتها حلقات من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط استغرقت الآيات [ ٧-٥٩ ].
أما الآيات الأخيرة في السورة من [ ٦٠ -٩٣ ] فإنها تجول جولة هادفة في تثبيت العقيدة، جولة في مشاهد الكون وأغوار النفس وأطواء الغيب، وفي أشراط الساعة، ومشاهد القيامة، وأهوال الحشر، التي يفزع لها من في السماوات والأرض إلا من شاء الله.
في هذه الجولة الأخيرة يستعرض القرآن أمام الناس مشاهدات في صفحة الكون وفي أطواء النفس لا يملكون تعليلها بغير التسليم بوجود الخالق الواحد المدبر القدير.
ويتوالى عرض هذه المشاهدات في إيقاعات مؤثرة، تأخذ عليهم أقطار النفس وأقطار المشاعر، وهو يسألهم أسئلة متلاحقة : من خلق السماوات والأرض ؟ من أنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ؟ من جعل الأرض قرارا، وجعل خلالها أنهارا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزا ؟ من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ؟ من يجعلكم خلفاء الأرض ؟ من يهديكم في ظلمات البر والبحر ؟ من يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ؟ من يبدأ الخلق ثم يعيده ؟ من يرزقكم من السماء والأرض ؟ وفي كل مرة يقرعهم : أإله مع الله ؟ وهم لا يملكون أن يدّعوا هذه الدعوى، لا يملكون أن يقولوا : أن إلها مع الله يفعل من هذا كله شيئا، وهم مع هذا يعبدون أربابا من دون الله !
وعقب هذه الإيقاعات القوية التي تقتحم القلوب-لأنها إيقاعات كونية تملأ صفحة الوجود من حولهم، أو إيقاعات وجدانية يحسونها في قلوبهم- يستعرض تكذيبهم بالآخرة وتخبطهم في أمرها، ويعقب عليه بتوجيه قلوبهم إلى مصارع الغابرين الذين كانوا مثلهم يكذبون ويتخبطون.
ويخلص من هذا إلى عرض مشهد الحشر وما فيه من هول ومن فزع، ويرجع بهم في ومضة خاطفة إلى الأرض، ثم يردهم إلى مشهد الحشر وكأنما يهز قلوبهم هزا ويرجها رجا.
وتختم السورة بحمد الله الذي يستحق الحمد وحده، وتكلهم إلى الله يريهم آياته، ويطلع على أعمالهم ما ظهر منها وما بطن :﴿ وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ﴾ [ النمل : ٩٣ ]
٨٦- ﴿ ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾
للقرآن الكريم طريقته الفذّة في عرض مشاهد القيامة، ثم الانتقال بالناس إلى الدنيا، والانتقال بالقلوب إلى التأمل، كأنما يقول : كان الأولى بهؤلاء الكافرين أن ينظروا إلى آيات الله في الآفاق، ألم يتأملوا في آثار قدرة الله : حيث جعل الليل مظلما هادئا ساكنا، ليسكنوا فيه نائمين هادئين، تهدأ أعصابهم، وتنام أجسامهم، وتستريح أبدانهم.
﴿ والنهار مبصرا.. ﴾ أي : النهار مضيء، فيه الشمس والنور والحياة والحركة والسعي والعمل.
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾
أي : في تكامل هذا الكون بكل ما فيه، حيث جعل الليل والنهار، وجعل الليل ساعات محددة، والنهار كذلك ؛ ليعمل الناس بالنهار، وليستريح الناس بالليل، ولو امتد النهار نصف عام، لأحرقت الشمس الزروع وفسدت الحياة، ولو استمر الليل نصف عام، لتجمدت الأشياء وتعطنت الأجسام، وتعطلت المصالح، وفي تتابع الليل والنهار بهذه الحكمة وتلك القدرة آيات بينات لمن أراد الإيمان بالله رب العالمين.
قال تعالى :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون*قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون*ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ﴾ [ القصص : ٧١-٧٢ ].
﴿ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين ( ٨٧ ) وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون( ٨٨ ) ﴾.
المفردات :
الصور : البوق
فزع : خاف
أتوه : جاءوه
داخرين : صاغرين.
التفسير :
٨٧- ﴿ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين ﴾.
واذكر يوم ينفخ إسرافيل في البوق أو القرن : فيقوم الناس من قبورهم فزعين خائفين، قال تعالى :﴿ قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون ﴾ [ يس : ٥٢ ].
وقد استثنى الله بعض مخلوقاته من هذا الفزع، قيل : الرسل والشهداء، وقيل أيضا : رؤساء الملائكة، مثل : جبريل، وإسرافيل، وميكائيل، وجميع الناس جاءت للبعث والحساب صاغرين أذلاء من هول الموقف وشدة الكرب، قال تعالى :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم*يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ﴾ [ الحج : ١، ٢ ].
النفخ في الصور
ذكر القرآن الكريم النفخ في الصور على أنه من مشاهد القيامة، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح، وقد أورد ابن كثير عددا من الأحاديث، منها حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم، عند عبد الله بن عمرو، وتكلم عن ذلك أبو السعود، والقرطبي وغيرهما.
وقد ذكر ابن كثير أن النفخ في الصور ثلاث مرات :
الأولى : نفخة الفزع.
الثانية : نفخة الصعق وهو الموت.
الثالثة : نفخة البعث وقيام الناس لرب العالمين.
ورجح غيره من المفسرين أن النفخ في الصور سوف يكون مرتين :
الأولى : تموت عندها الخلائق، ويمكن أن تشتمل على الفزع والصعق والموت.
الثانية : نفخة البعث التي يقوم الناس عندها لرب العالمين.
قال تعالى :﴿ ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ﴾ [ يس : ٥١ ].
وقال تعالى :﴿ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ﴾ [ الروم : ٢٥ ].
وقد اختلف العلماء فيما جاء بهذه الآية رقم ٨٧ من سورة النمل، أهي النفخة الأولى أم النفخة الثانية ؟ فمنهم من رجح أنها النفخة الثانية، التي يكون بعدها الجزاء والحساب، واستشهد بآخر الآية حيث يقول الله تعالى :﴿ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين ﴾.
ورجح العلامة الطيبي وغيره من المفسرين أن الآية تشير إلى النفخة الأولى، والمراد بالفزع : الخوف الذي ينتهي إلى الموت لغاية شدة الهول.
قال تعالى في الآية ٦٨ من سورة الزمر، ﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ﴾
قال العلامة الطيبي ؛ فالآية ٨٧ من سورة النمل تشير إلى النفخة الأولى، وقوله تعالى :﴿ وكل أتوه داخرين ﴾ إشارة إلى النفخة الثانية.
من تفسير القرطبي
قال القرطبي في تفسيره :
والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل، والصحيح -أيضا- في النفخ في الصور أنهما نفختان وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق، لأن الأمرين لا زمان لهما.. والمراد هنا-النفخة الثانية- أي : يحيون فزعين يقولون : من بعثنا من مرقدنا ؟ ويعاينون من الأمر ما يهولهم ويفزعهم. أ. ه.
وأرجع أن المراد في الآية النفخة الأولى.
وخلاصة المعنى :
واذكر أيها المشاهد يوم ينفخ إسرافيل في الصور، فيفزع سكان السماوات وسكان الأرض، إلا من حفظه الله من الفزع، ويعقب ذلك موت الناس وصعقهم أربعين سنة، ثم ينفخ إسرافيل مرة أخرى فيقوم الناس لرب العالمين ويحشرون جميعا أذلاء صاغرين، ﴿ وكل أتوه داخرين ﴾.
المفردات :
مر السحاب : سرعة السحاب.
التفسير :
٨٨- ﴿ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون ﴾.
جمهور المفسرين على أن هذه الآية تشير إلى أهوال القيامة، ومن أهوال القيامة النفخ في الصور مرتين :
الأولى : للصعق والفزع ويعقب ذلك الموت.
الثانية : للبعث ثم الحساب والجزاء.
أما الجبال فلها حالتان :
الحالة الأولى : أنها تنسف نسفا، وتندك دكا عند النفخة الأولى. قال تعالى :﴿ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا* فيذرها قاعا صفصفا*لا ترى فيها عوجا ولا أمتا*يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له.. ﴾ [ طه : ١٠٥-١٠٨ ].
الحالة الثانية للجبال : أنها تعود من ناحية الهيئة والشكل، لكنها تحوّل إلى عهن منفوش، أي : صوف منشور ثم تسير تسيير السحاب في طريقه إلى الزوال.
والمعنى الإجمالي للآية :
وترى أيها الإنسان الجبال يوم القيامة وأنت واقف بعيد عنها، تحسبها جامدة ثابتة في مكانها، ولكنها قد سحقت وأصبحت كالعهن المنفوش، وقد سيّرها الله سبحانه وتعالى فوق سطح الأرض، وجعلها تمرّ فوقها في طريقها إلى الزوال.
﴿ صنع الله الذي أتقن كل شيء.. ْ ﴾
أي : هذا الصنع العجيب من حركة الجبال وتلاشيها دليل على إتقان الصنعة، وذلك صنع الله الذي أحكم الخلق في البدء، وأحكم أمر البعث والنهاية، حتى يكون الجزاء والثواب والعقاب.
﴿ إنه خبير بما تفعلون ﴾
إنه عليم بأعمالكم فيجازيكم عليها جزاء عادلا، قال تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره*ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ [ الزلزلة : ٧، ٨ ].
قال تعالى :{ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار*وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد* سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار* ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب. [ إبراهيم : ٤٨-٥١ ].
ويرى بعض المفسرين أن هذه الآية من إبداع القرآن الكريم ؛ فهو يتحدث عن الآخرة وأهوالها، ثم يعود إلى تذكير القلوب بفضل الله، بأن جعل الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا، ثم يتحدث عن النفخ في الصور وأهوال البعث والحشر والجزاء.
ثم يتحدث عن عظمة الصانع في الدنيا، حيث إن الأرض تتحرك حول نفسها، ولها حركة أخرى حول الشمس، وهذه الحركة يترتب عليها مجيء الليل والنهار بشكل متوازن يترتب عليه سعادة الناس، وانتفاعهم بالليل والنهار، ومن جملة ما يتحرك بحركة الأرض الجبال أيضا، تظنها جامدة ثابتة، لكنها تتحرك حركة يسيرة كحركة السحاب، وهي الحركة التي تتحركها مع حركة الأرض، هذه الحركة تؤدي إلى التكامل والتناغم والنظام، وعموم الفائدة في هذا الكون، وهو سبحانه مطلع على أعمالكم في الدنيا وسيجازيكم عليها في الآخرة.
جاء في التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي بجامعة دمشق :
وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على دوران الأرض حول الشمس بسرعة فائقة، لكن الظاهر أن ذلك في الآخرة، لأن الكلام عن يوم القيامة.
وأنا لا أستبعد أن تكون هذه الآية تلفت النظر إلى بديع صنع الله في الدنيا، بدليل قوله سبحانه، ﴿ صنع الله الذي أتقن كل شيء... ﴾ فالله خلق السماء والأرض، والبحار والأنهار، والشمس والقمر، والليل والنهار، وخلق الجبال، وتحدث القرآن عن الجبال حديثا متعددا، فهي دليل قدرة القدير، وإبداع الصانع، ولا يكاد القرآن يتحدث عن الأمطار والزراعة إلا ويتحدث عن الجبال، فالماء يتجمع في رءوس الجبال في الشتاء، ثم ينزل في الصيف، والجبال لها جذور ممتدة في أصول الأرض تمسك بها، وتحفظ توازنها، والجبال وسيلة من وسائل الاستقرار ومنع الزلازل والبراكين.
قال تعالى :﴿ أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ النمل : ٦١ ]
وقال تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت*وإلى السماء كيف رفعت*وإلى الجبال كيف نصبت*وإلى الأرض كيف سطحت ﴾ [ الغاشية : ١٧-٢٠ ].
فالقرآن الكريم تحدث عن الجبال كدليل من دلائل القدرة والعظمة والإبداع، والخلق والتكوين والتكامل والحفظ لهذا الكون في الدنيا، وتحدث أيضا عن الجبال وتسييرها في الآخرة.
قال تعالى :﴿ يوم تمور السماء مورا*وتسير الجبال سيرا ﴾ [ الطور : ٩، ١٠ ].
وقال تعالى :﴿ ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ﴾ [ الكهف : ٤٧ ].
وقال تعالى :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار ﴾ [ إبراهيم : ٤٨ ].
وقال تعالى :﴿ وسيرت الجبال فكانت سرابا ﴾ [ النبأ : ٢٠ ].
فالكون كله بيد الله، وهو سبحانه قادر على حفظ هذا الكون في الدنيا، وعلى نسف الجبال وتسييرها في الآخرة.
من المنتخب في تفسير القرآن الكريم
" لوزارة الأوقاف المصرية "
﴿ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون ﴾.
المعنى :
وترى – أيها الرسول- الجبال تظنها ثابتة لا تتحرك، ولكنها في واقع الأمر تتحرك بسرعة كالسحاب، وهذا من صنع الله الذي خلق كل شيء وأبدعه، إنه سبحانه كامل العلم بما يفعل الناس من طاعة ومعصية ومجازيهم عليه.
تعليق بالهامش مختصرا :
﴿ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب.. ﴾ تقرر هذه الآية الكريمة أن جميع الأجسام التي تخضع لجاذبية الأرض، مثل الجبال والبحار والغلاف الجوي... إلخ، تشترك مع الأرض في دورتها اليومية حول محورها، ودورتها السنوية حول الشمس، لكن هذه الدورة لا تدرك، فهي مثل حركة السحاب في الجو، يراها الناظرون بعيونهم، ولكن لا يسمعون صوتها أو يلمسونها، وتبين هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل ؛ خلق الكون والقوانين التي تنظمه، وهو قادر على أن يجعل الأرض ساكنة لا تدور حول محورها، أو يجعل فترة دورانها حول محورها تساوي فترة دورانهما حول الشمس، وبذلك يصبح نصف وجه الأرض في ظلام دامس لمدة ستة أشهر، والنصف الآخر في نهار ساطع الضوء لمدة ستة أشهر، مما يؤدي إلى اختلال التوازن الحراري على الأرض كلها، وفي هذا فناء الأحياء التي عليها، والله سبحانه وتعالى هو الذي وضع هذا النظام المحكم رحمة ورأفة بعباده.
وبالرغم من أن [ أريستاخورس ] الفلكي السكندري ٣١٠-٢٣٠ ق. م كتب في موضوع دوران الأرض حول نفسها، فإن هذه الكتابات العلمية القديمة لم تصل إلى العرب وقت محمد صلى الله عليه وسلم أو قبله ؛ بل إن أول من أشار إلى هذه المعلومات هو البيروني عام ألف للميلاد بعد حركة الترجمة في الدولة العباسية، فإن إيراد هذه الحقائق العلمية على لسان النبي صلى الله عليه وسلم-التي لم تكن قد وصلت إلى علمه- دليل على أنها موحى بها من عند الله٢٦.
من تفسير القرطبي :
يقال : إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة، ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها، وإبراز ما كانت تواريه، فأولى الصفات : الاندكاك، وذلك قبل الزلزلة، ثم تصير كالعهن المنفوش، وذلك إذا صارت السماء كالمهل [ أي : الزيت المذاب ]، وقد جمع الله بينهما، فقال تعالى :﴿ يوم تكون السماء كالمهل*وتكون الجبال كالعهن ﴾ [ المعارج : ٨، ٩ ].
والحالة الثالثة : أن تصير كالهباء، وذلك أن تنقطع بعد أن كانت كالعهن.
والحالة الرابعة : أن تنسف.
والحالة الخامسة : أن الرياح ترفعها على وجه الأرض، فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار.
والحالة السادسة : أن تكون سرابا.
﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون( ٨٩ ) ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ( ٩٠ ) ﴾
المفردات :
من جاء بالحسنة : الإيمان والعمل الصالح.
الفزع : الخوف من العذاب.
التفسير :
٨٩- ﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ﴾
من جاء بالصلاة والصيام والإيمان، وما يتصل بذلك من الحسنات كذكر الله وطاعته، فله جزاء أفضل وثواب أعظم مما عمل، إلى جوار الأمن النفسي وعدم الخوف، قال تعالى :﴿ لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ﴾ [ الأنبياء : ١٠٣ ].
وفسر ابن عباس، وابن مسعود وغيرهما من السلف الحسنة في الآية بشهادة التوحيد، وهذا لا ينافي أن كل حسنة لها جزاء خير منها، أو يقال : إن الحسنة تشمل كلمة التوحيد، وتشمل كل حسنة يعملها الإنسان، قال تعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:والخلاصة :
إن روح القرآن والسنة تؤيد أن الآيتين ٨٩، ٩٠ من سورة النمل بشأن ثواب الحسنة وعقاب السيئة، وأن ذلك عام وليس خاصا، فمن أشرك فقد جاء بالسيئة، وعقوبته الخلود في النار، ومن عصى الله وأسرف على نفسه بفعل المحرمات فسيدخل النار، وسيمكث فيها بمقدار العقوبة التي يستحقها، ثم يزحزح عن النار إلى الجنة، حيث يأتي وقت لا يبقى في النار من قال :[ لا إله إلا الله ].
وإذا أمعنا النظر في الآية وجدناها تفيد أن الجزاء من جنس العمل وعلى قدره، قال تعالى :﴿ ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾.
فللشرك عقوبة تناسبه، وللمؤمن العاصي عقوبة تناسب المعصية، قال تعالى :﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].

المفردات :
بالسيئة : الإشراك بالله، أو المعاصي.
كُبت : ألقيت وجوههم في النار منكوسة، أو هي كناية عن الأنفس، وكبّها : إلقاؤها.
التفسير :
٩٠- ﴿ ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾
المراد بالسيئة هنا : الشرك أو الكفر، ويمكن أن يراد بها : المعاصي والسيئات والذنوب.
والمعنى :
ومن جاء بالكفر أو الشرك ؛ فإنه يلقى في النار على وجهه منكوسا، لأن الوجه أغلى شيء في الإنسان. فإذا ألقى الوجه في النار، كان دليلا على إصابة العذاب للجسم كله.
قال تعالى :﴿ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة.. ﴾ [ الزمر : ٢٤ ].
كما تشمل الآيات مرتكب السيئات من الفسوق والعصيان والذنوب، كالزنا والسرقة والقتل، وترك الفرائض وإهمال الواجبات، هؤلاء جميعا يلقون في النار ويعذبون فيها، ويقال لهم على سبيل التبكيت والإهانة :﴿ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾، أي : إن الجزاء هنا من جنس أعمالكم في الدنيا : فأنتم تعذبون عقوبة على أعمالكم السيئة، والمكث في النار يختلف من شخص لآخر، فالكفار والمشركون يخلدون في النار، لأنهم كانوا عازمين على الكفر بالله أبدا، فكان عذابهم الخلود في النار خلودا أبديا.
أما المؤمنون بالله مع العصيان وارتكاب السيئات، فإنهم يلقون جزاءهم في جهنم، ثم يخرجون منها إلى الجنة، فلا يخلد في جهنم من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، كما جاء في صحاح السنة، وفي حديث البطاقة ما يفيد : " أن الله تعالى يحاسب عبدا على أعماله فيجد سجلات كثيرة فيها السيئات، فيسأله الله تعالى : هل ظلمك الكرام الكاتبون ؟ فيقول : لا يا رب، حتى إذا يئس العبد، قال الله له : إن لك عندنا بطاقة فيها، شهادة لا إله إلا الله : فيقول العبد : يا رب، وما تصنع هذه البطاقة أمام هذه السجلات الكثيرة، فتوضع البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فرجحت البطاقة وطاشت السجلات، قال صلى الله عليه وسلم :( ولا يرجح مع اسم الله شيء ).
وقال ابن مسعود، وابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة، في قوله :﴿ ومن جاء بالسيئة ﴾ يعني :: الشرك. اه.
ونقول : إن مكافأة المحسن ومعاقبة المسيء واردة في روح القرآن الكريم وآياته :
قال تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره*ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ [ الزلزلة : ٧، ٨ ].
وقال سبحانه :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾ [ النساء : ٤٠ ]
كما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، أن الله يضاعف ثواب الحسنة عشر أمثالها أو أكثر، والسيئة تكتب سيئة واحدة.
روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات إلى أضعاف مضاعفة، ومن هم بها فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن هم بها فعملها كتبت له سيئة واحدة )٢٧.
وقال تعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:والخلاصة :
إن روح القرآن والسنة تؤيد أن الآيتين ٨٩، ٩٠ من سورة النمل بشأن ثواب الحسنة وعقاب السيئة، وأن ذلك عام وليس خاصا، فمن أشرك فقد جاء بالسيئة، وعقوبته الخلود في النار، ومن عصى الله وأسرف على نفسه بفعل المحرمات فسيدخل النار، وسيمكث فيها بمقدار العقوبة التي يستحقها، ثم يزحزح عن النار إلى الجنة، حيث يأتي وقت لا يبقى في النار من قال :[ لا إله إلا الله ].
وإذا أمعنا النظر في الآية وجدناها تفيد أن الجزاء من جنس العمل وعلى قدره، قال تعالى :﴿ ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾.
فللشرك عقوبة تناسبه، وللمؤمن العاصي عقوبة تناسب المعصية، قال تعالى :﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].

ختام سورة النمل
﴿ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين( ٩١ ) وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين( ٩٢ ) وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون( ٩٣ ) ﴾
المفردات :
هذه البلدة : المراد بها مكة.
من المسلمين : من المنقادين لملة التوحيد.
التفسير :
٩١-﴿ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة التي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾
تأتي هذه الآيات في ختام السورة فتلخص الفكرة الإسلامية، والدعوة المحمدية، في الدعوة إلى إخلاص الوجه لله تعالى وحده لا شريك له، مع العناية بإخلاص العبادة لله، والبعد عن الشرك وعبادة الأوثان، وكان العرب يقيمون في مكة، ويشاهدون حرمتها وأهميتها، والله تعالى يذكرهم بفضله عليهم، في تيسير الأمن والأمان لهم، فلماذا لا يعبدونه سبحانه وتعالى ؟
ومعنى الآية :
لقد أمرني الله تعالى أن أعبده وحده لا شريك له، فهو ربنا ورب كل شيء ومليكه، وهو رب مكة البلد الحرام الذي حرّم مكة، وحرم العدوان فيها، وجعلها حرما آمنا، والله تعالى له كل شيء في الكون، خلقا وإيجادا ورعاية وحفظا، فبيده سبحانه ملكوت السماوات والأرض، وفي آية الكرسي :﴿ وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ].
﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾.
الذين أسلموا وجوههم لله، وانقادوا لشريعة الإسلام مخلصين لله، راغبين في ثوابه، راهبين من عقابه.
قال تعالى :﴿ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين*وأمرت لأن أكون أول المسلمين ﴾ [ الزمر : ١١، ١٢ ].
وقال تعالى :﴿ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين* قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين*لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين*قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ [ الأنعام : ١٦١-١٦٤ ].
ومن مأثور الدعاء : " اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا ".
في معنى الآية :
قال تعالى :﴿ أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ القصص : ٧٥ ].
وقال سبحانه وتعالى :﴿ لإيلاف قريش*إيلافهم رحلة الشتاء والصيف*فليعبدوا رب هذا البيت* الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ﴾ [ قريش : ١-٤ ].
وجاء في الصحيحين، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة :( إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها )٢٨.
وقال تعالى :﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حراما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ]
٩٢- ﴿ وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين ﴾
تلك هي دعوة الإسلام :﴿ لا إكراه في الدين.. ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ }، إنما هي دعوة إلى الله تعالى، وإخلاص الوجه لله، وعلى الرسول الأمين أن يتلو القرآن، فهو كتاب الدعوة الإسلامية وأصل أصولها، وهو الذي أنزله الله هدى ونورا، وهو الذي حرك في النفس نشاطها وإيمانها، ولفت الأنظار إلى الخلق والإبداع، وإلى كتاب الكون المفتوح، وإلى النفس البشرية، وبيّن كرامة الإنسان وسلامة فطرته، وبين أن الله منح الإنسان العقل والإرادة والاختيار، وترك له تحديد مسار نفسه بالاهتداء أو بالكفر.
﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه... ﴾ فمن اختار الهدى والإيمان، فقد اختار الفلاح لنفسه.
قال تعالى :﴿ ونفس وما سواها*فألهمها فجورها وتقواها*قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها ﴾ [ الشمس : ٧-١٠ ]
﴿ ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين ﴾
ومن أعرض عن سماع القرآن، واختار الضلالة على الهدى، فليس عليّ إلا البلاغ، وما أنا إلا نذير، أحذر من الكفر والضلال، وأبشر بالجنة لمن أطاع، والإنسان حرّ في اختيار ما يناسبه، قال تعالى :﴿ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا*إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ﴾ [ الإنسان : ٢، ٣ ].
وقال تعالى :﴿ فذكر إنما أنت مذكر*لست عليهم بمسيطر ﴾ [ الغاشية : ٢١، ٢٢ ].
وقال تعالى :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء.. ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ].
وقال سبحانه :﴿ إن أنت إلا نذير ﴾ [ فاطر : ٢٣ ].
المفردات :
سيريكم آياته : دلائل قدرته، وأمارات سلطانه في الدنيا والآخرة.
التفسير :
٩٣-﴿ وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ﴾
وقل يا محمد : الشكر لله فهو أهل للثناء والحمد، له الشكر على ما أنعم، وله الحمد في الأولى والآخرة ؛ فهو سبحانه الخالق الرازق المنعم المتفضل، له الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يرضى ويحب، وله الحمد بعد الرضا، وله الحمد في الأولى والآخرة.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :
( يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، رضينا بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا )٢٩.
( اللهم ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا طاهرا مباركا فيه كما ترضي ربنا وتحب، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ).
﴿ سيريكم آياته فتعرفونها.. ﴾
سيطلعكم الله على دلائل قدرته، وعظيم نعمائه في الكون والآفاق، وفي آفاق النفس وأقطار العلم : فتعرفون وحدانيته وعظمته، قال تعالى :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ﴾ [ فصلت : ٥٣ ]
أو سيريكم آياته يا أهل مكة في بلاغة القرآن وإعجازه وصدقه، حيث هزمتم يوم بدر، وانتصر المسلمون بعد ذلك حتى فتحوا مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
﴿ وما ربك بغافل عما تعملون ﴾.
فهو مطلع وشاهد، وسيحاسب الناس ويجازيهم على أعمالهم، وهكذا تختم السورة بهذا التعبير الملفوف، اللطيف المخيف، ثم يدعهم يعملون ما يعملون، وفي أنفسهم أثر الإيقاع العميق : وما ربك بغافل عما تعملون.
روى أن عمر بن عبد العزيز، قال : فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفى الرياح من أثر قدمي ابن آدم. وكان الإمام أحمد بن حنبل كثيرا ما ينشد هذين البيتين :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب.
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على النبي الأمي، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
Icon