بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الرابع عشرويشتمل على تفسير سورة سبأ إلى سورة الجاثية
٣٤- سورة سبأ
سميت بها لتضمن قصتها أية تدل على نعيم الجنة في السعة وعدم الكلفة والخلو عن الآفة، وتبدلها بالنقم، لمن كفر بالمنعم.. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايميّ. وهي مكية. واستثنى منها١ ﴿ ويرى الذين أوتوا العلم ﴾ الآية. وروى الترمذي٢ عن فروة بن مسيك المراديّ قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت :( يا رسول الله ! ألا أقاتل من أدبر من قومي ؟ ) الحديث. وفيه : وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل :( يا رسول الله ! وما سبأ ؟ ) الحديث.
قال ابن الحصار : هذا يدل على أن هذه القصة مدنية. لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع.
قال : ويحتمل أن يكون قوله ( وأنزل ) حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرته. أفاده في ( الإتقان ) وآيها أر بع وخمسون.
٢ أخرجه في: ٤٤-كتاب التفسير، ٣٤سورة سبأ، ١-حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد..
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١)الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ خلقا وملكا، وتصرفا بما شاء وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ أي في النشأة الآخرة. قال الشهاب: السموات والأرض عبارة عن هذا العالم بأسره. وهو يشتمل على النعم الدنيوية. فعلم من التوصيف بقوله الَّذِي إلخ، أنه محمود على نعم الدنيا، ولما قيّد الثاني بكونه في الآخرة، علم أن الأول محله الدنيا فصار المعنى: أنه المحمود على نعم الدنيا فيها، وعلى نعم الآخرة فيها. أو هو من باب الاحتباك. وأصله: الحمد لله إلخ في الدنيا، وله ما في الآخرة والحمد فيها. فأثبت في كل منها ما حذف من الآخرة. وقوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ معطوف على الصلة، أو اعتراض، إن كانت جملة (يعلم) حالية وَهُوَ الْحَكِيمُ أي الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته الْخَبِيرُ أي بخلقه وأعمالهم وسرائرهم، ثم ذكر مما يحيط به علما قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٢]
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي من الأمطار والمياه والكنوز والدفائن والأموات وَما يَخْرُجُ مِنْها أي من الشجر والنبات وماء العيون والغلة والدواب وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ أي من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة والمقادير وَما يَعْرُجُ فِيها أي من الملائكة وأعمال العباد وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أي لمن تاب من المؤمنين وقام بواجب شكره.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي مكة لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أي ساعة الجزاء، إنكارا لها قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ أي الساعة. رد لكلامهم وتأكيد لما نفوه، باليمين بالله عزّ وجلّ عالِمِ الْغَيْبِ بالجرّ صفة، والرفع خبر محذوف. وقرئ (علّام). بالجرّ. وفي هذا التوصيف تقوية للتأكيد. لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به، يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة إثباته وصحته. لما أن في حكم.
الاستشهاد على الأمر. لا سيما إذا خص من الأوصاف ما له اختصاص بهذا المعنى.
فإن قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية، وأولها مسارعة إلى القلب، إذا قيل عالم الغيب لا يَعْزُبُ أي لا يغيب بضم الزاي وكسرها عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي فالجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء وإن تناهى في الصغر. فالعظام وأجزاء البدن، وإن تلاشت وتفرّقت وتمزّقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرّقت. ثم يعيدها كما بدأها أول مرة، لسعة علمه وعظم قدرته، جلّ شأنه.
لطائف:
الأولى- عامة القرّاء على رفع أَصْغَرُ وأَكْبَرُ وفيه وجهان:
أحدهما: الابتداء والخبر إِلَّا فِي كِتابٍ والثاني النسق على مِثْقالُ. وعلى هذا فيكون قوله إِلَّا فِي كِتابٍ تأكيدا للنفي في لا يَعْزُبُ كأنه قال: لكنه في كتاب مبين. ويكون في محل الحال. وقرأ بعض السلف بفتح الراءين. وفيه وجهان:
أحدهما- أن (لا) هي لا التبرئة. بني اسمها معها. والخبر قوله إِلَّا فِي كِتابٍ.
والثاني- النسق على ذَرَّةٍ لامتناعه من الصرف.
الثانية- يشير قوله تعالى وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ إلى أن مِثْقالُ لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضا.
الثالثة- قال الكرخيّ: فإن قيل فأيّ حاجة إلى ذكر (الأكبر) فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر؟ فالجواب: لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٤]
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ علة لقوله تعالى لَتَأْتِيَنَّكُمْ وبيان لما يقتضي إتيانها من جزاء المحسن والمسيء أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي عيش هنيء في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٥]
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك. مُعاجِزِينَ أي مقدرين الغلبة والعجز في زعمهم الفاسد وظنهم الباطل أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ وهو أسوأ العذاب ومِنْ للبيان أَلِيمٌ بالرفع صفة (عذاب)، وبالجرّ صفة ل (رجز) قراءتان. وقد جوّز في قوله وَالَّذِينَ سَعَوْا أن يكون مبتدأ، وجملة أُولئِكَ.. إلخ خبره وأن يعطف على الَّذِينَ قبله. أي ويجزي الذين سعوا. ويكون جملة أُولئِكَ التي بعده مستأنفة، والتي قبله معترضة. وفي التعبير عن طعنهم وصدّهم بالسعي، تمثيل لحالهم. فإن المكذب آت بإخفاء آيات بينات، فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ، ليروّج كذبه لعله يعجز المتمسك به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٦ الى ٨]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨)
وَيَرَى أي يعلم الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي
أي دينه وشرعه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من قريش هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرقتم كل تفريق، بحيث صرتم ترابا ورفاتا إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي فيما قاله أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون تخيل به ذلك. فرد تعالى عليهم ما نعى به سوء حالهم بقوله: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أي المتناهي أمره.
فإن من يدعى إلى الصلاح والرشاد، ونبذ الهوى والفساد، فيرمي الداعي بالفرية والجنون، لمغرق في الجهالة. ومبعد أيّ بعد في الضلالة. ثم أشار إلى تهويل تلك العظيمة التي تفوهوا بها، وإنها موجبة لنزول أشد العذاب، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٩]
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي: أعموا فلم ينظروا إلى السماء. والأرض، وإنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم، محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجل، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات، وكفرهم بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة، أفاده الزمخشريّ. و (الكسف) بسكون السين، بمعنى القطع، إما جمع كسفة، أو فعل بمعنى مفعول، أو مخفف من المصدر. وقرأ حفص (كسفا) بالفتح إِنَّ فِي ذلِكَ أي النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله لَآيَةً أي دلالة واضحة لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي راجع إلى ربه مطيع له. فإن شأنه لا يخلو من الاعتبار في آياته تعالى، على أنه قادر على كل شيء من البعث ونشر الرميم كما قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى [يس: ٨١]. وقال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر: ٥٧]. ثم أخبر تعالى عما آتى داود وسليمان من الفضل والملك وسعة السلطان ووفرة الجند وكثرة العدد والعدد، ببركة إنابتهما وقيامهما بشكر الرب تعالى، عدة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه المنيبين الشاكرين بنيل مثل ذلك، وتذكيرا بقدرته على كل شيء، فقال تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أي رجّعي معه التسبيح ويا جِبالُ بدل من فَضْلًا أو من آتَيْنا بتقدير قولنا، أو قلنا يا جبال أوّبي معه وَالطَّيْرَ بالرفع والنصب، عطفا على لفظ الجبال ومحلها. وجوز انتصابه مفعولا معه وأن يعطف على فَضْلًا بمعنى وسخرنا له الطير. قال الزمخشري: فإن قلت أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال وآتينا داود منا فضلا، تأويب الجبال معه والطير؟ قلت: كم بينهما! ألا ترى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الإلهية، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته. انتهى. وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي دروعا واسعات وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي اقتصد في نسج الدروع لتتناسب حلقها وَاعْمَلُوا صالِحاً أي وقلنا له ولأهله ذلك إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فأجازيكم به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ١٢]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢)
وَلِسُلَيْمانَ أي وسخرنا له الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشيّ كذلك والريح الهواء المسخر بين السماء والأرض. ويطلق بمعنى النصرة والدلالة والغلبة والقوة، كما في القاموس وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي النحاس المذاب، أي أجرينا له ينبوعه لكثرة ما توفر لديه منه من سعة ملكه وَمِنَ الْجِنِّ أي الشياطين الأقوياء مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ أي من رفيع المباني وإشادة القصور وغيرها بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بأمره تعالى: وَمَنْ يَزِغْ أي يعدل مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي النار. ثم فصل ما ذكر من عملهم بقوله تعالى:
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ أي مساكن ومجالس شريفة أو مساجد وَتَماثِيلَ أي صور ونقوش منوعة على الجدر والسقوف والأعمدة، جمع (تمثال) وهو كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان، ولم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما.
قال السيوطي في (الإكليل) : قال ابن الفرس: احتجت به فرقة في جواز التصوير، وهو ممنوع فإنه منسوخ في شرعنا وَجِفانٍ كَالْجَوابِ أي وصحاف كالجوابي وهي الحياض الكبار. و (الجفان) جمع جفنة وهي كالصحفة والقصعة، ما يوضع فيه الطعام مطلقا. وقيل الجفنة أعظم القصاع. ثم يليها القصعة وهي ما تشبع عشرة. ثم الصحفة وهي ما تشبع خمسة. ثم الميكلة وهي ما تشبع ثلاثة أو اثنين.
ثم الصحيفة وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي ثابتات على الأثافي، لا تنزل عنها لعظمها اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أي قيل لهم: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه.
وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف. كما أن فيه وجوب الشكر. وأنه يكون بالعمل ولا يختص باللسان. لأن حقيقته صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله. وداود عليه السلام قد يدخل هنا في (آله) فإن آل الرجل قد يعمه وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ أي المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه، أكثر أوقاته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ١٤]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ أي على سليمان الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ وهي الأرضة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أي عصاه التي ينسأ بها، أي يطرد ويؤخر فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أي الشديد من الجري على رسمه لهم، والدأب عليه، لظنهم إياه حيّا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ١٥]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ اسم لأبي قبيلة. وقد قرئ بمنع الصرف على أنه اسم لها فِي مَسْكَنِهِمْ أي في مواضع سكناهم، وهي باليمن يقال لها (مأرب) كمنزل من بلاد الأزد، في آخر جبال حضرموت. وكانت في الزمن الأول قاعدة التبابعة، فإنها مدينة بلقيس، بينها وبين صنعاء نحو أربع مراحل. وقرئ مساكنهم آيَةٌ على قدرته تعالى ومجازاته المسيء جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ أي جماعتان من البساتين عن يمين بلدهم وشمالها. أو لكل واحد جنتان عن يمين مسكنه وشماله: قيل لهم كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ أي بصرف ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله.
ثم بين ما يوجب الشكر المأمور به، بقوله سبحانه: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي لطيفة جميلة مباركة لا عاهة فيها وَرَبٌّ غَفُورٌ أي لمن شكره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ١٦]
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦)
فَأَعْرَضُوا أي عن الشكر فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي سيل الأمر العرم، أي الصعب والمطر الشديد- أو الوادي- أو السّكر الذي يحبس الماء- أو هو البناء الرصين المبنيّ بين الجبلين لحفظ ماء الأمطار وخزنها. وقد ترك فيه أثقاب على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا أهلكهم الله بخراب هذا البناء، فانهال عليهم تيار مائه، فأغرق بلادهم وأفسد عمرانهم وأرضهم. واضطر من نجا منهم للنزوح عنها. كما قال تعالى: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ أي ثمر مرّ، أو بشع لا يؤكل وَأَثْلٍ شجر يشبه الطرفاء من شجر البادية لا ثمر له وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ وهو شجر النبق. أي قلة لا تسمن ولا تغني من جوع. فهذا تبديل النعم بالنقم. لمن لم يشكر النعم، كما قال تعالى:
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧)
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي بشكر النعم، أو باتباع الرسل وتكذيب الحق والعدول إلى الباطل، ثم بين تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهنيّ والبلاد الآمنة والقرى المتواصلة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ١٨]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨)
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالزروع والثمار وحسن العمران وهي قرى بصنعاء كما قاله مجاهد وسعيد بن جبير ومالك وغيرهم قُرىً ظاهِرَةً أي متواصلة، يرى بعضها من بعض لتقاربها. فهي ظاهرة لأعين الناظرين. أو ظاهرة للمسافرين لا تبعد عن مسالكهم وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلنا بين قراها مقادير متساوية. فمن سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة. ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب، فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية، ولا يخاف من عدوّ ونحوه سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ أي لا تخافون في الليل أو النهار، أو وإن تطاول أمد سفركم فيها وامتد، فلا ترون إلا الأمن. والأمر على تقدير القول بلسان المقال بواسطة نبيّ ونحوه. أو بلسان الحال. كأنهم لما تمكنوا منه جعلوا مأمورين به. فالأمر للإباحة. وفي (في) إشعار بشدة القرب، حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ١٩]
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
فَقالُوا أي بلسان الحال والميل إلى المهالك الشيطانية رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أي فاستعدوا لضلالهم وكفرهم لأن تجعل أمكنتهم تعمل فيها المطيّ والرواحل، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه. وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي حتى حل بهم ما حل فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي
قال الأزهري: العرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع. لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز. وإن كان أصله مهموزا. والذهاب معلوم. والأيادي جمع أيد. والأيدي جمع يد. وهي بمعنى الجارحة، وبمعنى النعمة، وبمعنى الطريق، وهو المراد. قال في التهذيب: قولهم ذهبوا أيدي سبا، أي متفرقين. شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق. فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة. و (اليد) الطريق. يقال:
أخذ القوم يد بحر.. فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة (ذهبوا أيدي سبا) أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى.
قال ابن مالك: إنه مركب تركيب خمسة عشر، مبنيّا على السكون. وفي (زهر الأكم، في الأمثال والحكم) أن سبا كانت أخصب بلاد الله. كما قال تعالى:
جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ قيل كانت مسافة شهر للراكب المجدّ. يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء. فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه. وكانت في بدء الأمر تركبها السيول. فجمع لذلك حمير أهل مملكته وشاورهم. فاتخذوا سدّا في بدء جريان الماء ورصفوه بالحجارة والحديد، وجعلوا فيه مخارق للماء. فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات. فلما كفروا نعم الله تعالى، ورأوا أن ملكهم لا يبيده شيء، وعبدوا الشمس، سلط الله على سدّهم فأرة فخرقته. وأرسل عليهم السيل فمزقهم الله كل ممزق. وأباد خضراءهم. وتبددوا في البلاد. فلحق الأزد بعمان. وخزاعة ببطن مرّ. والأوس والخزرج بيثرب. وآل جفنة بأرض الشام. وآل جذيمة الأبرش بالعراق.
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس، أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سبأ ما هو؟ أرجل أم امرأة؟ أم أرض؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: بل هو رجل ولد له عشرة. فسكن اليمن منهم ستة. وبالشام منهم أربعة. فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير. وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان.
قال ابن كثير: وإسناده حسن إلا ابن لهيعة.
روى الإمام أحمد أيضا عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله
فقاتل بمقبل قومك مدبرهم. فلما وليت دعاني فقال: لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام. فقلت: يا رسول الله! أرأيت سبأ؟ أواد هو أو جبل أو ما هو؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: لا، بل هو رجل من العرب ولد له عشرة. فتيامن ستة، وتشاءم أربعة. تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار- الذين يقال لهم بجيلة- وخثعم.
وتشاءم لخم وحذام وعاملة وغسان.
قال ابن كثير: حديث حسن. وإن كان فيه أبو حباب الكلبي، وقد تكلموا فيه.
ورواه الحافظ ابن عبد البرّ في كتاب (القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم) عن تميم الداري أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سبأ؟ فذكر مثله.
وقال ابن كثير: فقوي هذا الحديث وحسن.
وذكر علماء النسب، منهم محمد بن إسحاق اسم سبأ، عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب وكان يقال له الرائش. لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه. فسمي الرائش. والعرب تسمي المال ريشا ورياشا. وذكروا أنه بشّر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زمانه المتقدّم. وقال في ذلك شعرا.
سيملك بعدنا ملك عظيم... نبيّ لا يرخّص في الحرام
ويملك بعده منهم ملوك... يدينوه القياد بكل رامي
ويملك بعدهم منا ملوك... يصير الملك فينا بانقسام
ويملك بعد قحطان نبيّ... تقي متحنّث خير الأنام
يسمّى أحمدا. يا ليت أني... أعمّر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصري... بكل مدجّج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريه... ومن يلقه يبلّغه سلامي
ذكر ذلك الهمداني في كتاب (الإكليل). واختلفوا في قحطان. فقيل: إنه من سلالة إرم بن سام بن نوح. وقيل: من سلالة عابر وهو هود عليه السلام. وقيل: إنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ النمري في كتاب (الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة).
قوله صلى الله عليه وسلّم في سبأ: كان رجلا من العرب،
يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح. وعلى القول الثالث. كان من سلالة الخليل عليه السلام، وليس هذا بالمشهور عندهم.
والله أعلم.
ولكن
في صحيح البخاري «١»
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ بنفر من أسلم ينتضلون فقال: ارموا، بني إسماعيل! فإن أباكم كان راميا
. وأسلم قبيلة من الأنصار. والأنصار أوسها وخزرجها من عرب اليمن. من سبأ، نزلت يثرب، لما تفرقت، كما مر.
(ثم قال) : ومعنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم: ولد له عشرة
أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن. لا أنهم ولدوا من صلبه. بل منهم من بينه وبينه، الأبوان والثلاثة، والأقل والأكثر. كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من قصتهم، وما حل بهم من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة وتحويل العافية على ما ارتكبوه من الكفر والآثام لَآياتٍ أي لعبرا عظيمة لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي شأنه الصبر عن الشهوات والهوى والآثام، والشكر على النعم. قال الأعشى من قصيدة:
ففي ذاك للمؤتسي أسوة... ومأرب عفّى عليها العرم
رخام بنته لهم حمير... إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها... على سعة ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرو... ن منه على شرب طفل فطم
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قال الزمخشري: قرئ (صدق) بالتشديد والتخفيف. ورفع لفظ (إبليس) ونصب (الظن) فمن شدد، فعلى: (حقق عليهم ظنه، ووجده ظنه صادقا) أي صدّق بمعنى حقق مجازا. لأنه ظن شيئا فوقع فحققه.
ومن خفف فعلى (صدق في ظنه، أو صدق يظن ظنا) نحو فعلته جهدك. أي ف (ظنه) منصوب على الظرفية بنزع الخافض. وأصله (في ظنه) أي وجد ظنه مصيبا في الواقع، ف (صدق) حينئذ بمعنى أصاب، مجازا. أو منصوب على أنه مصدر لفعل مقدّر. كفعلته جهدك، أي وأنت تجهد جهدك. فالمصدر وعامله في موقع الحال. شهاب.
وبنصب (إبليس) ورفع (الظن) فمن شدد فعلى (وجد ظنه صادقا). ومن خفف، فعلى (قال له ظنه الصدق حين خيله إغواؤهم) برفع (إغواؤهم) على الفاعلية. أو نصبه على الحذف والإيصال، وفاعليه وضمير الظن. أي خيل له إغواءهم. شهاب. يقولون صدقك ظنك.
وبالتخفيف ورفعهما، أي على إبدال الظن من إبليس، بدل اشتمال. شهاب.
على (صدق عليهم ظن إبليس). انتهى.
وذلك إما ظنه بسبإ حين رأى انهماكهم في الشهوات، أو ببني آدم حينما رأى ما ركب فيهم من الشهوة والغضب.
فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ أي ما كان له عليهم من تسليط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء، إلا لغرض صحيح وحكمة بينة. وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاكّ فيها. وعلل التسليط بالعلم. والمراد ما تعلق به العلم. قاله الزمخشري. يعني أن العلم المستقبل المعلل به هنا، ليس هو العلم الأزلي القائم بالذات المقدس. بل تعلقه بالمعلوم في عالم الشهادة الذي يترتب عليه الجزاء بالثواب والعقاب. فالمعنى ما سلطناه عليهم إلا ليبرز من كمون الغيب ما علمناه، فتظهر الحكمة فيه يتحقق ما أردناه من الجزاء أو لازمه، وهو ظهور المعلوم.
ويجوز أن يكون المعنى: لنجزي على الإيمان وضده. كذا في (العناية) وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي رقيب قائم على أحواله وأموره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٢]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٣]
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي من المستأهلين لمقام الشفاعة.
كالنبيين والملائكة. وهذا تكذيب لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي كشف الفزغ عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم، بكلمة يتكلم بها رب العزة، في إطلاق الإذن، تباشروا بذلك قالُوا أي سائلا بعضهم بعضا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ أي قال القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي ذو العلوّ والكبرياء. ليس لملك ولا نبيّ أن يتكلم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى.
قال ابن كثير: هذا أيضا مقام رفيع في العظمة. وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي. فسمع أهل السموات كلامه، أرعدوا من الهيبة، حتى يلحقهم مثل الغشي.
قاله ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما.
قال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ولأي شيء وقعت (حتى) غاية؟ قلت: بما فهم من هذا الكلام، من أن ثم انتظارا للإذن وتوقعا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد مليّ من الزمان وطول من التربص. ومثل هذه الحال دل عليه قوله عزّ وجلّ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ: ٣٧- ٣٨]. أي: وإذا كانت الشفاعة لمن أذن له بهذا الحال، عظمة وسموّا من ذي الجلال، فإنّى ينالها جماد لا يعقل، لا سيما وهو عدوّ للكبير المتعال، فتبين
وفي الآية تأويل آخر، وهو أن معنى قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي عن قلوب المشركين عند الاحتضار، ويوم القيامة إذا تنبهوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة، قالوا ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا. قال مجاهد: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن: أي كشف عما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا عند الموت، أقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار. واختار ابن جرير القول الأول، وهو أن الضمير عائد إلى الملائكة.
قال ابن كثير: وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه. لصحة الأحاديث فيه والآثار، أي ولورود ما يؤيده في آية أخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضا وذلك في قوله تعالى:
وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: ٢٨]، نعم، النظم الكريم لا يأبى ما ذكروه، إلا أن مراعاة الأشباه والنظائر هو العمدة في باب فهم التأويل، ما وجد إليها سبيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٤]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أمر بتبكيت المشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة فيهما. وقوله: قُلِ اللَّهُ أي الذي تعترفون بأنه هو الخالق. كما قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس: ٣١]. أي فحينئذ قامت الحجة عليهم منهم.
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي وإن أحد الفريقين من الموحدين، الرازق من السموات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال.
قال الزمخشري: وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك. وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من
ومنه بيت حسان:
اتهجوه ولست له بكفء... فشرّكما لخيركما الفداء
انتهى.
قال الناصر: وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب، رددته على سمعي فزاد رونقا بالترديد. واستعاده الخاطر، كأني بطيء الفهم حين يفيد، ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخرو الفقهاء في مجادلاتهم ومحاوراتهم.
وذلك قولهم: أحد الأمرين لازم على الإبهام. فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد، فتأمله، والله الموفق. انتهي.
قال الشهاب: وهذا فن من فنون البلاغة يسمى (الكلام المنصف). وقيل إن الآية على اللف والنشر المرتب. ونظر فيه بأنه لو قصد اللف بأن يكون على هدى راجعا لقوله: وَإِنَّا وأَوْ فِي ضَلالٍ راجعا ل إِيَّاكُمْ كان العطف بالواو لا بأو.
وكونها بمعنى الواو كما في قوله:
سيّان كسر رغيفه... أو كسر عظم من عظامه
بعيد جدا. إلّا أنه قيل: لو جعل فيه إيماء لذلك لم يبعد. وإيثار (على) في الهدى و (في) في مقابله، للدلالة على استعلاء صاحب الهدى وتمكنه واطلاعه على ما يريد، كالواقف على مكان عال، أو الراكب على جواد. وانغماس الضال في ضلاله حتى كأنه في مهواة مظلمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٥]
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥)
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي قل لهؤلاء المشركين:
لا تسألون عما أجرمنا من جرم وركبنا من إثم، ولا نسأل نحن عما تعملون من عمل.
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون:
١- ٣]. انتهى.
وما ذكره معنى دقيق، قلّ من يتفطن له، أسميه التفسير بالأشباه والنظائر. وهو حمل آية موجزة أو مجملة على آية تشبهها مطولة أو مبينة، ولا يدرك هذا إلا الراسخ في فن التأويل، الولع بتدبر التنزيل، ومن لطائف الآية ما ذكره الزمخشري والمنتصف، من أن هذا القول أدخل في الإنصاف من الأول. حيث أسند الإجرام إلى النفس، وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلوا عنها مؤمن، وأسند العمل إلى المخاطبين، وأراد به الكفر والمعاصي والكبائر. فعبر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم. وعن العظائم بما يعبر به عن الهفوات، التزاما للإنصاف. وزيادة على ذلك، أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي، الذي يعطي تحقيق المعنى.
وعن العمل المنسوب إلى الخصم بما لا يعطي ذلك. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٦]
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا أي يوم القيامة في صعيد واحد. ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي يقضي بالعدل. لأن أحد فريقينا على هدى والآخر على ضلال. فيتبين يومئذ المهتدي منا من الضالّ، ويجزى كلا بعمله، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الروم: ١٤- ١٦].
ولهذا قال سبحانه: وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ أي الحاكم العادل العليم بالقضاء بين خلقه، لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يحتاج إلى شهود تعرّفه المحق من المبطل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٧]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أي جعلتموها لله أندادا، وصيرتموها له
كَلَّا ردع لهم عن المشاركة، بعد إبطال المقايسة بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي الموصوف بالغلبة القاهرة والحكمة الباهرة. فأين شركاؤكم التي هي أخسّ الأشياء وأذلها، من هذه الرتبة العالية. والضمير إما لله عزّ وعلا، أو للشأن. قاله أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٨]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨)
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي وما أرسلناك إلا إرسالة عامة لجميع الخلائق من المكلفين. تبشر من أطاعك بالجنة، وتنذر من عصاك بالنار، كقوله تبارك وتعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: ١٥٨]. تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: ١].
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي فيحملهم جهلهم على ما هم فيه من الغيّ والضلال كقوله عز وجلّ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: ١٠٣]، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: ١١٦]. قال ابن عباس- فيما رواه ابن أبي حاتم- إن الله تعالى فضل محمدا صلّى الله عليه وسلّم على أهل السماء وعلى الأنبياء. قالوا: يا ابن عباس! فبم فضله الله على الأنبياء؟ قال رضي الله عنه:
إن الله تعالى قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:
٤]، وقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ. فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس.
رفعه عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «١» : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ. وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبيّ يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة
وفي الصحيح أيضا «٢» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: بعثت إلى الأسود والأحمر
، قال مجاهد: يعني الجن والإنس. وقال غيره: يعني العرب والعجم.
والتحقيق في معنى عموم إرساله وشمول بعثته، هو مجيئه بشرع ينطبق على مصالح الناس وحاجاتهم أينما كانوا. وأي زمان وجدوا، مما لم يتفق في شرع قبله قط.
ولهذا ختمت النبوّات بنبوّته صلّى الله عليه وسلّم، كما تقرر في موضعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ يعنون بالوعد المنذر به استهزاء، كقوله تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [الشورى:
١٨] وقوله وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: ١٠٤- ١٠٥].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٣١]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وهو ما نزل قبل
(٢) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ٣ عن جابر بن عبد الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٢]
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختيارتكم لذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٣]
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي مكركم فيهما وإغراؤكم وتمنيتكم لنا إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أي نظراء وآلهة معه. وَأَسَرُّوا أي الجميع من السادة والأتباع النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بأعمالهم كلّ بحسبه. للقادة عذاب بحسبهم.
وللأتباع بحسبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي زعما أنه أكرمهم الله بذلك في الدنيا، فلا
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٦]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يضيق عليه حسب ما اقتضته حكمته ومشيئته في عباده، من يحب ومن لا يحب، وهو أعلم بمقتضياته وشؤونه.
فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعذاب، اللذين مناطهما الطاعة وعدمها. ولذا قال وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك. فيزعمون أن مدار البسط الكرامة، والتضييق الهوان. ويجهلون أن مناط الفوز والقرب منه تعالى، إنما هو الكمالات النفسية، وذلك بصدق الإيمان وحسن الاتباع. كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٧]
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧)
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أي بالمزية التي تقربكم قربة. ف زُلْفى محلها النصب إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أي الثواب المضاعف بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ أي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومن نظائر الآية قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: ٥٥- ٥٦]، وقوله سبحانه: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة: ٥٥].
وروى الإمام أحمد «١» ومسلم «٢» عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
(٢) أخرجه في: البر والصلة والآداب، حديث رقم ٣٤.
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي بالصدّ عنها والطعن فيها مُعاجِزِينَ أي قاصدين المعاجزة والمغالبة والقهر أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي في عذاب جهنم محضرون يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٩]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعوضه، فإن ينابيع خزائنه لا تنضب. وسحائب أرزاقه سحّاء الليل والنهار وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
أي أعلاهم. لأنه خالق الرزق وخالق الأسباب التي ينتفع بها المرزوق بالرزق.
روى أبو يعلى عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض. يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق.
ثم تلا هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وقال مجاهد: لا يتأولنّ أحدكم هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه، فإن الرزق مقسوم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ قال الزمخشري: هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار، وارد على المثل السائر (إياك أعني واسمعي يا جارة) ونحوه قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: ١١٦]، وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزّهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير. والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل
ويكون اقتصاص ذلك لطفا لمن سمعه، وزاجرا لمن اقتص عليه. انتهى.
وتخصيص الملائكة، لأنهم أشرف الأنداد عند مشركي العرب، ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله، لزعمهم أن الأوثان على صور الهياكل العلوية المقربة. فتكون شفعاء لهم. وقوله تعالى: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ أي: أبإذنكم كان ذلك. كما قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الفرقان: ١٧].
وكما يقول تعالى لعيسى عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ [المائدة: ١١٦]، وهكذا تقول الملائكة سُبْحانَكَ أي تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي أنت الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم. فنبرأ إليك منهم. بينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار، براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم. وقولهم بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي الشياطين، لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم. والضمير الأول في قولهم أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ للإنس أو للمشركين. والأكثر بمعنى الكل. والثاني للجن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٢]
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لأن الأمر كله فيه لله. لأن الدار دار جزاء وهو المجازي وحده. قال أبو السعود: وهذا من جملة ما يقال للملائكة عند جوابهم بالتنزّه والتبرؤ عما نسب إليهم الكفرة. يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد، إظهارا لعجزهم وقصورهم عند عبدتهم، وتنصيصا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا وهم المشركون ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ثم بين جملة أخرى من كفرانهم بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٣]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٤]
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤)
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن، وما أرسل إليهم نبيا قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد كانوا يودون ذلك ويقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا. فلما منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه. ثم هددهم سبحانه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٥]
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم المتقدمة والقرون الخالية كما كذبوا وَما بَلَغُوا أي هؤلاء مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ يعني أولئك، من المال وبسطة الملك والعمران والمدينة فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي عقابي ونكالي وانتقامي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٦]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦)
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ أي بخصلة واحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وقد فسرها بقوله أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى أي قياما خالصا لله بلا محاباة.
ولا مراءاة، اثنين اثنين وواحدا واحدا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا أي في أمره صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من الهدى والإصلاح وتهذيب الأخلاق. ورفع النفس عن عبادة ما هو أحط منها من الأوثان، إلى عبادة فاطر الأرض والسموات، واتباع الأحسن، ونبذ التقاليد، وإنزال الرؤساء إلى مصاف المرؤوسين رغبة في الإخاء والمساواة، إلى غير ذلك من محاسن الإسلام وخصائصه المعروفة في الكتب المؤلفة في ذلك. وقوله تعالى: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أي جنون. مستأنف منبّه لهم على أن ما عرفوه من رجاحة عقله كاف في
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ أي أيّ شيء سألتكم من أجر على الرسالة فهو لكم. والمراد نفي السؤال رأسا. وإمحاض النصح كناية، لأن ما يسأله السائل، يكون له. فجعله للمسئول عنه،. كناية عن أنه لا يسأل أصلا. و (ما) على هذا شرطية. وجوز كونها موصولة مراد بها ما سألهم ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان: ٥٧]. وقوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]. واتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى، وقرباه عليه السلام قرباهم. وجوّز أيضا كونها نافية. وقوله فَهُوَ لَكُمْ جواب شرط مقدر. أي فإذا لم أسألكم فهو لكم إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه. أو يرمي به في أقطار الآفاق، فيكون وعدا بإظهار الإسلام وإعلاء كلمة الحق عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي ظهر، وهو الإسلام ومحاسنه وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره. مأخوذ من هلاك الحيّ. فإنه مادام موجودا، إما أن يبدئ فعلا أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة. ثم شاع في كل ما ذهب، وإن لم يبق له أثر، وإن يكن ذا روح. وجوز كون (ما) استفهامية منتصبة بما بعده. أي: أي شيء يقدر عليه.
تنبيه:
في (الإكليل) : في الآية استحباب هذا القول عند إزالة المنكر.
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ أي عن الطريق الحق فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي لأن وبال ذلك عائد عليها، أو على ذاتي، لا على غيري وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي من الرشاد والحق المبين إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ فإن قيل: مقتضى المقابلة مع الجملة قبلها، أن يقال (وإن اهتديت فإنما أهتدي لها) فلم عدل عنها إلى ما ذكر؟ قيل: إن المقابلة تكون باللفظ وتكون بالمعنى. وما هنا من الثاني. بيانه أن النفس كل ما عليها فهو بها، أي: كل ما هو وبال عليها، وضارّ لها، فهو بسببها، ومنها، لأنها الأمارة بالسوء. وكل ما هو لها مما ينفعها، فبهداية ربها وتوفيقه إياها.
وهذا حكم عام لكل مكلف. وإنما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسند ذلك إلى نفسه. لأن (الرسول) إذا دخل في عمومه، مع علوّ محله وسداد طريقته، كان غيره أولى به. أشار لهذا، الفاضل ابن الأثير في (المثل السائر).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٥١]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١)
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا أي هؤلاء المكذبون عند الموت أو البعث أو ظهور الحق وسلطانه، ودخولهم تحت أسرة فَلا فَوْتَ أي لهم، بهرب أو التجاء. إذ لا وزر لهم ولا ملجأ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا. أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا. أو ظفر بهم بسهولة بعد تعذره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٥٢]
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢)
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، أو القرآن وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي: ومن أين لهم تناول الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم، لأنهم صاروا إلى الدار الآخرة، وهي دار الجزاء، لا دار الابتلاء، أو: لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يدخل الإيمان قلوبهم، أي (على تفسير إِذْ فَزِعُوا بظهور الحق عليهم في حياتهم. منه) قال الزمخشريّ: التناوش والتناول، أخوان. إلا أن التناوش، تناول سهل لشيء قريب،
وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون. وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا. مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة، كما يتناوله الآخر من قيس ذراع، تناولا سهلا لا تعب فيه. انتهى. أي ففيه استعارة تمثيلية. شبه إيمانهم حيث لا يقبل، يمن كان عنده شيء يمكن أخذه، فلما بعد عنه فرسخا، مد يده لتناوله. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٥٣]
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ حال أو معطوف أو مستأنف. والأول أقرب. وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي يرجمون بالظن فيتكلمون بما لم ينشأ عن تحقيق من أقوالهم الباطلة. كقولهم: ساحر وشاعر ومجنون وما نحن بمبعوثين. ونحو ذلك.
فكله مقذوف من جهة بعيدة، لا قرب لمصداقها بوجه ما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (٣٤) : آية ٥٤]
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ أي من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النار. أو من أن يدال لهم الأمر. لأنه جاء نصر الله والفتح كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي بأشباههم من كفرة الأمم إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ من (أرابه) أوقعه في ريبة وتهمة. فالهمزة للتعدية. أو من (أراب الرجل) أي صار ذا ريبة. وهو مجاز، إما بتشبيه الشك بإنسان، على أنه استعارة مكنية وتخييلية. أو على أنه إسناد مجازيّ، أسند فيه ما لصاحب الشك، للشك، للمبالغة. أفاده الشهاب.
تنبيه:
في الإكليل قال ابن الفرس: احتج بهذه الآية بعض المفسرين، على أن الشاك كافر. وردّ بها على من زعم أنه ليس بكافر، وأن الله لا يعذب على الشك. انتهى.
وعن قتادة: إياكم والشك والريبة. فإن من مات على شك بعث عليه. ومن مات على يقين بعث عليه.
أحيانا الله وبعثنا على اليقين. إنه أرحم الراحمين. ووليّ المؤمنين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة فاطرسميت بذلك لما جاء فيها من خلق الملائكة، وجعلهم ذوي أجنحة متنوعة في العدد، الدالّ على عجيب صنعه تعالى وباهر قدرته.
وقال المهايميّ: سميت بها لاشتمالها على بيان تفصيل رسالتهم، من جهة أخذهم الفيض عن الله، وإيصاله إلى خلقه، من جهة أو جهتين أو ثلاث أو أكثر.
ليشعر أن الرسالة العامة لهم، إذا كانت كذلك، فكيف الرسالة الخاصة؟ مثل إنزال القرآن. فيجوز أن يكون له جهات كثيرة.
وقد روي أنه كان لجبريل ستمائة جناح. انتهى.
وتسمى هذه السورة سورة (فاطر) لذكر هذا الاسم الجليل والنعت الجميل في طليعتها. وهذه السورة ختام السور المفتتحة بالحمد، التي فصلت فيها النعم الأربع، التي هي مجامع النعم. لأن نعم الله تعالى قسمان: عاجلة وآجلة. والعاجلة وجود وبقاء، والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء أخرى. كما بينه الرّازي.