ﰡ
قيل في سبب نزولها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها فنزلت، وقيل غير ذلك، وعلى كل، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معلوم.
ومما يشهد لهذه القاعدة ما لو أخذنا بعين الاعتبار النسق الكريم بين السورتين، حيث كان آخر ما قبلها موضوع الأولاد والزوجات من فتنة وعداء.
والإشارة إلى علاج ما بين الزوجين من إنفاق وتسامح على ما أشرنا إليه سابقاً هناك، فإن صلح ما بينهم بذاك فبها ونعمت، وإن تعذر ما بينهما وكانت الفرقة متحتمة فجاءت هذه السورة على إثرها تبين طريقة الفرقة السليمة في الطلاق وتشريعه وما يتبعه من عدد وإنفاق ونحو ذلك.
وقوله تعالى :﴿ يا أيُّهَا النَّبِيُّ ﴾ بالنداء للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله، ﴿ إِذَا طَلَّقْتُمُ ﴾ بخطاب لعموم الأمة. قالوا : كان النداء للنبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب للأمة تكريماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكليفاً للأمة. وقيل : خوطبت الأمة في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كخطاب الجماعة في شخصية رئيسها.
وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : ولهذه الآية استدل من يقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون داخلاً في عموم خطاب الأمة ا ه.
والواقع أن الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام :
الأول : قد يتوجه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم ولا يكون داخلاً فيه قطعاً، وإنما يراد به الأمة بلا خلاف من ذلك قوله تعالى في بر الوالدين :﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة ِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٢٣ -٢٤ ].
فكل صيغ الخطاب هنا موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قطعاً ليس مراد بذلك لعدم وجود والدين، ولا أحدهما عند نزولها كما هو معلوم.
الثاني : أن يكون خاصاً به لا يدخل معه غيره قطعاً، نحو قوله تعالى :﴿ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ].
والثالث : هو الشامل له صلى الله عليه وسلم ولغيره بدليل هذه الآية، وأول السورة التي بعدها في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ﴾ [ التحريم : ١ ]، فهذا كله خطاب موجه له صلى الله عليه وسلم.
وجاء بعدها مباشرة ﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ بخطاب الجميع ﴿ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ [ التحريم : ٢ ] فدل أن الآية داخلة في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾، وهذا باتفاق.
وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، هذه المسألة بأقوى دليل فيها عند قوله تعالى :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ﴾ إلى قوله :﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٣٠ -٣١ ].
وقوله تعالى :﴿ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ ﴾ الآية. يشعر بأن كل المطلقات من النساء يطلقن لعدتهن وتحصى عدتهن.
والإحصاء العدد مأخوذ من الحصا، وهو الحصا الصغير كانت العرب تستعمله في العدد لأميتهم، ثم ذكر بعض عدد لبعض المطلقات ولم يذكر جميعهن مع أنه من المطلقات من لا عدة لهن وهن غير المدخول بهن. ومن المطلقات من لم يذكر عدتهن هنا.
قال الزمخشري : إنه لا عموم ولا تخصيص، لأن لفظ النساء اسم جنس يطلق على الكل وعلى البعض، وقد أطلق هنا على البعض وهو المبين حكمهن بذكر عدتهن، وهن اللاتي يئسن والصغيرات وذوات الحمل، وحاصل عدد النساء تتلخص في الآتي، وهي أن الفرقة إما بحياة أو بموت، والمفارقة إما حامل أو غير حامل، فالحامل عدتها بوضع حملها اتفاقاً، ولا عبرة بالخلاف في ذلك لصحة النصوص، وغير الحامل بأربعة أشهر وعشر مدخول بها وغير مدخول. والمفارقة بالحياة إما مدخول بها أو غير مدخول بها، فغير المدخول بها لا عدة عليها إجماعاً. والمدخول بها إما من ذوات الإقراء فعدتها ثلاثة قروء على خلاف في المراد بالقرء.
وأما من ليست من ذوات الإقراء. كاليائسة والصغيرة، فعدتها بالأشهر ثلاثة أشهر.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، في الجزء الأول عند قوله تعالى :﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ]، وفصّل أنواع المطلقات المدخول بهن وغير المدخول بهن وأنواع العدد بالإقراء أو الأشهر أو الحمل وبين الجمع بين العمومات الواردة في ذلك كله مما يغني عن الإعادة هنا.
تنبيه
كل ما تقدم في شأن العدة، إنما هو في خصوص الحرائر، وبقي مبحث الإماء.
أما الإماء : فالحوامل منهن كالحرائر سواء بسواء، وغير الحوامل فالجمهور على أنها على النصف من الحرة إلا أن الحيضة لما لم تكن تتجزأ فجعلت عدتها فيها حيضتين. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة.
أما ذات الأشهر، فالجمهور على أنها تعتد شهراً ونصفاً، وخالف مالك فجعل لها ثلاثة أشهر، فيكون مالك رحمه الله وافق الجمهور في ذوات الحيض، وخالف الجمهور في ذوات الأشهر، وقد أخطأ ابن رشد مع مالك في نقاشه معه هذه المسألة، فقال في بداية المجتهد :
وقد اضطرب قول مالك في هذه المسألة، فلا بالنص أخذ ولا بالقياس عمل، يعني أنه لم يأخذ بالنص في ذوات الحيض فيجعل لهن ثلاثة قروء، كما أخذ به في ذوات الأشهر، حيث جعل لهن ثلاثة أشهر بالنص ولا بالقياس عمل، أي فلم ينصف الأشهر قياساً على الحيض، فكان مذهبه ملفقاً بين القياس في ذوات الحيض، والنص في ذوات الأشهر، فخالف في ذلك الأئمة الثلاثة.
واضطرب قوله في نظر ابن رشد، لأنه لم يطرد القياس فيهما، ولا أعمل النص فيهما، ولكن الحق في المسائل الخلافية لا يمكن أن يعرف إلا بعد معرفة وجهة النظر عن المخالف، فقد يكون محقاً، وقد يكون فعلاً الحق مع غيره.
وفي هذه المسألة بالذات أشار العدوي في حاشيته : بأن وجهة نظر مالك هي الرجوع إلى أصل الغرض من العدة وهو براءة الرحم. والشهر والنصف لا يكفي للمرأة نفسها أن تخبر عن نفسها عما إذا كانت حاملاً أم لا، فأكمل لها المدة المنصوص عليها.
أما الحيضتان : ففيهما بيان لبراءة الرحم ا ه. ملخصاً.
وهذا الذي قاله العدوي له أصل من الشرع، لأن ذات الإقراء وجدناها في بعض الصور تعتد بحيضة، كما جاء النص في عدة المختلعة، وإن كان فيها خلاف. ووجدنا الأمة تثبت براءة رحمها في غير هذا بحيضتين قطعاً، وهي فيما إذا كانت سرية لمالكها فأراد بيعها فإنه يستبرئها بحيضة، والذي يشتريها يستبرئها بحيضة قبل أن يمسها. ثم هو يفترشها ويأمن من أن يسقي ماءه زرع غيره، فعلمنا أن في الحيضتين براءة للرحم. فاكتفى بهما مالك ووافق الجمهور.
وأما الشهر والنصف فإنهما لا يمكن أن تتبين المرأة فيهما حملاً، لأنها مدة الأربعين الأولى وهي مرحلة النطفة. فظهر بهذا أن الحق مع مالك، وأن ابن رشد هو الذي اضطربت مقالته على مالك، وقد سقنا هذا التنبيه لبيان واجب طالب العلم أمام المسائل الخلافية من ضرورة البحث عن السبب ووجهة نظر المخالف وعدم المبادرة للإنكار، لأن يكون هو أحق بأن ينكر عليه ولا يسارع لرد قول قد يكون قوله هو أولى بأن يرد عليه. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾، اتفق المفسرون أن المراد لاستقبال عدتهن وفيه مبحث الطلاق السني والبدعي. واعلم أن الحامل وغير المدخول بها لا بدعة في طلاقهما عند الجمهور، وألحقت بهما الصغيرة والطلاق البدعي هو جمع الثلاث في مرة أو الطلاق في الحيضة أو في طهر مسها فيه. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله : يفرق الطلقات على الصغيرة كل طلقة في شهر ولا يجمعها، وقد طال البحث في حكم الطلاق البدعي، هل يقع ويحتسب على المطلق أم لا.
والأصل فيه حديث عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فبلغ ذلك عمر فأخبر النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له صلى الله عليه وسلم " مره فليراجعها ".
والذي عليه الجمهور أنه يعتد بتلك الطلقة، ومن خالف فيها السنة، وعليه أن يراجعها وليعمل كما أمر به النَّبي صلى الله عليه وسلم فليمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها في طهر لم يمسها فيه. أي لتستقبل عدتها ما لم تكن الطلقة الثالثة أو بالثلاث على ما عليه الجمهور.
وقد سئل أحمد رحمه الله عن الاعتداد بهذه الطلقة في الحيضة فقال : إن قوله صلى الله عليه وسلم : فليراجعها. يدل على الاعتداد بها لأنه لا رجعة إلا من طلاق.
وقد أطال ابن دقيق العيد الكلام عليها في أحكام الإحكام وغيره مما لا داعي إلى سرده، وحاصله ما قدمنا، ولم يقل بعدم الاعتداد بها إلا سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين.
وقال أبو حيان إن قوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ على إطلاقه يشعر بالاعتداد بالطلاق سنياً كان أو بدعياً.
ظاهره أن الإمساك بمعروف إذا بلغن أجلهن، مع أنهنَّ إذا بلغنَ إلى ذلك الحد خرجن من العدة وانتهى وجه المراجعة. ولكن المراد هنا إذا قاربن أجلهن ولم يتجاوزنه أو يصلن إليه بالفعل، والقاعدة أن ما قارب الشيء يعطي حكمه كما في قوله تعالى :﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [ النحل : ٩٨ ].
ومثل الآية الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتى أحدكم الخلاء فليقل : اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " مع أنه عند الإتيان أو أثناءه لا يحق له أن يقول ذلك، وإنما يقوله إذا قارب دخوله، فكذلك هنا.
أما المطلقة ثلاثاً فقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحثاً وافياً عند قوله تعالى :﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] مما لا مزيد عليه.
بعد الأمر بإحصاء العدة، وكون العدد مختلفة الأنواع من إقراء إلى أشهر إلى وضع الحمل، والمعتدات متفاوتات الإقراء وأمد الحمل، فقد تكون في أوله أو وسطه أو آخره، وكل ذلك لا بد من إحصائه لما يترتب عليه من حرمة وحلية، فتخرج من عدة هذا وتحل لذاك.
كما قال تعالى ﴿ وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٥ ] وهذا كله لا يتأتى إلا بالإحصاء.
والإحصاء لا يكون إلا لمقدر معلوم، وعليه فقوله تعالى :﴿ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾ مؤكد لهذا كله، وكذلك فيه نص صريح أنه تعالى قد جعل لكل شيء من الأشياء أياً كان هو قدراً لا يتعداه لا بزيادة ولا بنقص، ولفظ شيء أعم العمومات.
وقد جاءت آيات كثيرة دالة على هذا العموم عامة وخاصة، فمن الآيات العامة قوله تعالى :﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [ القمر : ٤٩ ].
وقوله :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢ ].
وقوله :﴿ وَكُلُّ شيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [ الرعد : ٨ ].
وقد جمع العام والخاص قوله :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الحجر : ٢١ ].
ومن التقدير الخاص في مخصوص قوله :﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الليل سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِيفَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ يس : ٣٨ -٤٠ ].
إنها قدرة باهرة وحكمة بالغة، وإرادة قاهرة، وسلطة غالبة، قدرة من أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وقد قال علماء الهيئة : أن حساب مسير هذه الأفلاك في منازلها أدق ما يكون من مآت أجزاء الثانية، ولو اختلف جزء من الثانية لاختل نظام العالم ولما صلحت على وجه الأرض حياة، ونحن نشاهد حركة الليل والنهار ونقصانهما وزيادتهما وفصول السنة كما قال تعالى :﴿ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الليل وَالنَّهَارَ عَلِمَ أنَ لَّن تُحْصُوهُ ﴾ [ المزمل : ٢٠ ].
وهو سبحانه وتعالى يحصيه، وكذلك التقدير لوجود الإنسان قبل وبعد وجوده، قال تعالى :﴿ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴾ [ عبس : ١٨ -١٩ ] أي قدر خلقه وصورته ونوعه كما بين ذلك بقوله :﴿ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ﴾ الآية.
إلى قوله :﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [ الشورى : ٤٩ -٥٠ ].
وهذا أيضاً من آيات قدرته يرد بها سبحانه على من جحد وجود الله وكفر بالبعث كما في مستهلها قوله تعالى :﴿ قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾ [ عبس : ١٧ -١٨ ].
ثم بين تعالى أنه خلقه من نطفة ماء مهين، ولكن قدر الله تعالى قدرتها وصورتها حتى صارت خلقاً سوياً، وجعل له وهو في بطن أمه عينين ولساناً وشفتين أي وأنفاً وأذنين ويدين ورجلين وكل جهاز فيه حير الحكماء في صنعه ونظامه.
ثم قدر تعالى أرزاقه على الأرض قبل وجوده يوم خلق الأرض، وجعله آية على قدرته وعاتب الإنسان على كفره ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ﴾ [ فصلت : ٩ -١٠ ].
وبعد وجود الكون وخلق الإنسان قدر في الإيجاد بإنزال المطر، ﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً ﴾ [ عبس : ٢٤ -٢٨ ].
ثم إن صب هذا الماء كان بقدر، كما في قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ ﴾ [ المؤمنون : ١٨ ].
وقوله :﴿ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ ﴾ [ الشورى : ٢٧ ] أي بقدر ما يصلحهم ولو زاده لفسد حالهم، كما في قوله قبلها ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ ﴾ [ الشورى : ٢٧ ] وبقدر مصلحتهم ينزل لهم أرزاقهم.
كما نبه على ذلك بقوله :﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [ العلق : ٦ -٧ ].
هذه لمحة عن حكمة تقدير العزيز الحكيم الذي أحسن كل شيء خلقه، والذي قدر الأشياء قبل وجودها كما في قوله :﴿ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [ الأعلى : ٣ ].
وكما في حديث القلم وكتابة كل شيء قبل وجوده بزمانه ومكانه ومقداره، إن آية القدرة وبيان العجز قدرة الخالق وعجز المخلوق كما في قوله تعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [ النحل : ٢١ ].
وكقوله :﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ [ فاطر : ١١ ] أي لا يتعداه ولا يتخطاه، وقد تحداهم الله في ذلك بقوله :﴿ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ الواقعة : ٨٣ -٨٧ ] كلا إنهم مدينون ولن يستطيعوا إرجاعها.
وهنا يقال للدهريين والشيوعيين الذين لا يعترفون بوجود فاعل مختار وعزيز قهار، إن هذا الكون بتقديراته ونظمه لآية شاهدة وبينة عادلة على وجود الله سبحانه وتعالى } فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : ٨٣ ].
كما يقال للمؤمنين أيضاً إن ما قدره الله نافذ، وما قدر للعبد آتيه، وما لم يقدر له لن يصل إليه، طويت الصحف وجفت الأقلام ﴿ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ ﴾ [ الحديد : ٢٣ ].
ويقال مرة أخرى : اعملوا كل ميسر لما خلق له، وبالله تعالى التوفيق.
فيه إطلاق لوضع الحمل على أي صفة كان هو، وأجمع العلماء على أن يصدق بوضعه حياً أو ميتاً، ولكن اشترط فيه أن يكون قد ظهرت فيه خلقة الإنسان لا مضغة ولا علقة، كما أن فيه إطلاق الأجل سواء للمطلقة أو المتوفى عنها من أنه ينقضي أجل الحوامل بوضع الحمل. وتقدم بيان ذلك مفصلاً للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، وهنا مبحث أقل الحمل وأكثره، وتقدم تفصيله للشيخ أيضاً عند قوله تعالى :﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ﴾ [ الرعد : ٨ ].
بين تعالى مدة الرضاع في قوله تعالى :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ].
وجعل أبو حنيفة رحمه الله ثلاثة أشهر زيادة على الحولين لتمرين الطفل على الفطام، وذلك كما قال تعالى :﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ].
فإذا أمكن فطام الطفل قبلها بدون مضرة عليه فلا مانع، وعلى الوالد إيتاء الأجرة على مدة الرضاع إلى الفطام سواء كانت المدة الشرعية كما هنا أو الفعلية قبلها. وليس ملتزماً بما زاد على الحولين في نص الآية.
والائتمار بمعروف يشعر بأن للعرف دخلاً في ذلك كما هو تنبيه صريح بأن لا يضار أحد الوالدين بولده وأن تكون المفاهمة بين الزوجين بعد الفرقة في جميع الأمور سواء في خصوص الرضاع أو غيره مبناها على المعروف والتسامح والإحسان وفاء لحق العشرة السابقة، ولا تنسوا الفضل بينكم.
ذكر الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء أن كأين بمعنى كم فهي إخبار بعدد كثير، وذكر إعرابها، والمعنى كثير من قرية عتت عن أمر ربها أي تكبرت وطغت وتقدم تفصيله للمعنى بالأمثلة والشواهد عند قوله تعالى :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ [ الحج : ٤٥ ] في سورة الحج.
ومما قدمه رحمة الله تعالى علينا وعليه، ومن قوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ ﴾ [ الكهف : ٥٩ ] بيان لأصحاب الرئاسة ورجال السياسة أن هلاك الدنيا بفساد الدين، وأن أمن القرى وطمأنينة العالم بالحفاظ على الدين.
ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عامة الناس للحفاظ على دينهم وسلامة دنياهم، فحمل الشارع مهمته للأمة كلها كل بحسبه باليد أو باللسان أو القلب، وهذا الأخير أضعف الإيمان، ومع ضعفه ففيه الإبقاء على دوام الإحساس بوجود المنكر إلى أن يقدر هو أو غيره على تغييره.
قد بين الله تعالى هذا المفهوم ببيان حال الذين مكنهم في الأرض بنصره في قوله تعالى } الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور } [ الحج : ٤١ ].
ثم ذكر تعالى الأمم التي كذبت وعتت من قوم نوح وعاد وثمود ولوط وأصحاب مدين.
ثم قال :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِي خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ [ الحج : ٤٥ ].
جاء في بيان السماوات أنها سبع طباق، كما في قوله تعالى :﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ﴾ [ الملك : ٣ ].
وبين الحديث في الإسراء أن ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وجاء لفظ السماء مفرداً وجمعاً، فالمفرد كما في قوله } وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } [ البقرة : ٢٢ ].
وقوله :﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً ﴾ [ البقرة : ٢٢ ].
أما الأرض فلم يأت لفظها إلا مفرداً، ولم يأت تفصيلها كتفصيل السماء سبعاً طباقاً، فاختلف في المثلية فجاء عن ابن عباس أنها مثلية تامة عدداً وطباقاً وخلقاً. وقيل : عدداً وأقاليم يفصلها البحار، وقيل عدداً طباقاً متراكمة كطبقات البصلة مثلاً، ولقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في المقدمة أن من أوجه البيان إذا لم يوجد في الكتاب ووجد في السنة فإنه يبين بها لأنها وحي، وقد جاء في السنة أن الأرض سبع أرضين كما في حديث : " من اغتصب أرضاً أو من أخذ شبراً من الأرض طوقه من سبع أرضين " متفق عليه.
وفي حديث موسى لما قال " يا رب علمني شيئاً أدعوك به فقال : قل لا إله إلا الله. فقال : يا رب كل الناس يقولون ذلك. قال : يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله ". رواه النسائي.
فهذه أحاديث صحيحة أثبتت أن الأرضين سبع، ولم يأت تفصيل للكيفية ولا للهيئة فثبت عندنا العدد ولم يثبت غيره، فنثبته ونكل غيره لعلم الله تعالى.
ومما يؤيد ثبوت العدد على سبيل الإجمال أن مثلية الأرض للسماء لم تذكر إلا عند ذكر السماء مجملة مع ذكر العدد ولم يذكر عند تفصيلها بطباق مما يشعر أن المراد من المثلية العدد، وقيل إن هذا لا يتنافى مع أفراد اللفظ لأن جمعه شاذ.
كما قال ابن مالك :
* وأرضون شذو السنون *
وقد أشار تعالى إلى أن هناك من حالات الأرض والسماء ما لم يعلمه الخلق في قوله تعالى :﴿ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ﴾ [ الكهف : ٥١ ]، وهم لا يزالون عاجزين عن كيفية خلق أنفسهم إلا تفصيلات جزئية، والمهم من السياق والغرض الأساسي، تنبيه الخلق على عظم قدرة الله تعالى في قوله تعالى :﴿ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شيء عِلْمًا ﴾ [ الطلاق : ١٢ ].