هي مكية، نزلت بعد سورة البروج.
ومناسبتها لما قبلها : أنه ذكر في السورة السابقة حال أكمل خلق الله صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا حال النوع الإنساني وما ينتهي إليه أمره، وما أعد سبحانه لمن آمن برسوله.
بسم الله الرحمن الرحيم
ﰡ
الإيضاح :﴿ والتين ﴾ أي قسما بعصر آدم أبي البشر الأول، وهو العهد الذي طفق فيه آدم وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة.
﴿ والزيتون ﴾ أي وقسما بعصر الزيتون عصر نوح عليه السلام وذريته حينما أهلك الله من أهلك بالطوفان، ونجى نوحا في سفينته، وبعد لأي ما جاءته بعض الطيور حاملة ورقة من هذا الشجر فاستبشر، وعلم أن غضب الله قد سكن وأذن للأرض أن تبتلع ماءها لتعمر ويسكنها الناس، ثم أرسى السفينة ونزل هو وأولاده وعمّروا الأرض.
وقصارى ذلك : إن التين والزيتون يذكّران بهذين العصرين عصر آدم أبي البشر الأول، وعصر نوح أبي البشر الثاني.
﴿ وطور سينين ﴾ وهو تذكير بما كان عند ذلك الجبل من الآيات الباهرات التي ظهرت لموسى وقومه، وما كان بعد ذلك من إنزال التوراة عليه، وظهور نور التوحيد بعد أن تدنست جوانب الأرض بالوثنية، وما زال الأنبياء بعده يدعون أقوامهم إلى التمسك بهذه الشريعة، ثم عرضت لها البدع، فجاء عيسى مخلّصا لها مما أصابها، ثم أصاب قومه ما أصاب الأمم قبلهم من الاختلاف في الدين، حتى منّ الله على الناس بعهد النور المحمدي، وإليه الإشارة بقوله :﴿ وهذا البلد الأمين ﴾
﴿ وهذا البلد الأمين ﴾ الذي شرفه الله بميلاد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكرّمه بالبيت الحرام.
وخلاصة ما سلف : إن الله أقسم بهذه العهود الأربعة التي كان لها أثر بارز في تاريخ البشر، وفيها أنقذ الناس من الظلمات إلى النور.
ثم ذكر المحلوف عليه فقال :
﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ أي لقد خلقنا الإنسان في أحسن صورة، فجعلناه مديد القامة، حسن البزّة، يتناول ما يريد بيده لا كسائر الحيوان يتناول ما يريد بفيه ؛ إلى أنه خصه بالعقل والتمييز والاستعداد لقبول العلوم والمعارف، واستنباط الحيل التي بها يستطيع أن يكون له السلطان على جميع الكائنات، وله من الحول والطّول ما يمتد إلى كل شيء.
لكن قد غفل عما ميّز به، وظنّ نفسه كسائر المخلوقات، وراح يعمل ما لا يبيحه له العقل، ولا ترضى عنه الفطرة، وانطلق يتزوّد من متاع الدنيا والاستمتاع بشهواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأعرض عن النظر فيما ينفعه في معاده، وما يرضى به ربه وما يوصله إلى النعيم المقيم، ﴿ يوم لا ينفع مال ولا بنون ( ٨٨ ) إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾ [ الشعراء : ٨٨-٨٩ ].
وهذا ما أشار إليه بقوله :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾
﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ﴾ أي إلا الذين أشربت قلوبهم عقيدة الإيمان، وعرفوا أن لهذا الكون موجدا دبّر أمره، ووضع لخلقه شرائع يسيرون على نهجها، وأيقنوا أن للشر جزاء وللخير مثله.
وهؤلاء سيعطون أجر صالح أعمالهم إذا انتقلوا إلى الحياة الثانية، وهم أتباع الأنبياء ومن هداهم الله إلى الحق من كل أمة.
ثم وبخ المشركين على التكذيب بالجزاء بعد ظهور الدليل عليه فقال :
﴿ فما يكذبك بعد بالدين ؟ ﴾ أي فأيّ سبب يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالجزاء على أعمالك بعد أن تظاهرت لديك الأدلة على ذلك، فإن الذي خلقك من نطفة ثم صيّرك بشرا سويّا قادر على أن يبعثك ويحاسبك في نشأة أخرى، ومن شاهد ذلك وتدبره وأعمل فيه فكره ثم بقي على عناده، فقد طمس على بصيرته وضل سواء السبيل.
﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ﴾ صنعا وتدبيرا، ومن ثم وضع الجزاء لهذا النوع الإنساني، ليحفظ له منزلته من الكرامة التي أعدها له بأصل فطرته، ثم انحدر منها إلى المنازل السفلى بجهله وسوء تدبيره، ولهذا أرسل له الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الشرائع ليبينوها له ويدعوه إليها رحمة به.
سبحانك، ما أعدلك وأحكمك، وأنت اللطيف الخبير، وإليك المرجع والمصير.