تفسير سورة النّمل

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة النمل من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ تِلْكَ ﴾ مبتدأ، و ﴿ آيَاتُ ٱلْقُرْآنِ ﴾ خبره، واسم الإشارة عائد على ما في هذه السورة. قوله: (آيات منه) أشار بذلك إلى أن الإضافة على معنى من كما تقول: جلست مع زيد ساعة الليل، تريد ساعة منه. قوله: (مظهر الحق من الباطل) أي فالحق صار بالقرآن ظاهراً واضحاً، والباطل كذلك. قوله:(عطف بزيادة صفة) جواب عما يقال: لم عطف الكتاب على القرآن مع أنهما متحدان معنى؟ فأجاب: بأنه سوغ ذلك وصف الكتاب بصفة لم تكن في القرآن.
قوله: ﴿ هُدًى ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله: (هو) فالجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره: ما فائدة الإتيان به؟ وما الثمرة المترتبة عليه؟ فأجاب بأنه ﴿ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ قوله: (أي هاد من الضلالة) هذا أحد احتمالات في تفسير الهدى، ويحتمل أن المراد ذو هدى، أو بولغ فيه، حتى جعل نفس الهدى على حد ما قيل في زيد عدل. قوله: ﴿ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، فالقرآن هدى للمؤمنين وبشرى لهم لا للكافرين بدليل قوله تعالى:﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾[فصلت: ٤٤] وخص المؤمنين بالذكر لأنهم المعتنى بهم، المشرفون بخدمته تعالى. قوله: (يأتون بها على وجهها) أي بشروطها وأركانها على الوجه الأكمل. قوله: ﴿ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ ﴾ أي الواجبة للأصناف الثمانية. قوله: ﴿ وَهُم ﴾ مبتدأ، و ﴿ يُوقِنُونَ ﴾ خبره، و ﴿ بِٱلآخِرَةِ ﴾ متعلق بيوقنون. قوله: (يعلمونها بالاستدلال) أي من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فمن شك في ذلك فقد كفر. قوله: (لما فصل بينه وبين الخبر) أي بمتعلق الخبر وهو قوله: ﴿ بِٱلآخِرَةِ ﴾.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾ مقابل قوله: ﴿ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ الخ، على عادته سبحانه وتعالى، متى ذكر وصف المؤمنين، يعقبه بذكر ضدهم قوله: ﴿ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي حسناها لهم بأن جعلناها محبوبة لأنفسهم، وهي في الواقع ليست حسنة، وإنما ذلك ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، قال الشاعر: يقضى على المرء في أيام محنته   حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنقوله: (يتحيرون فيها) أي لتعارض الشيطان وإخبار الرحمن، ولم تكن لهم بصيرة يميزون بها الحسن، من القبح، فأهل الكفر متحيرون في كفرهم لكونهم في ظلمات، ومن المعلوم أن السائر في الظلمات، متحير بخلاف السائر في النور، فأهل الإيمان مصدقون مصممون على اعتقادهم، وأهل الكفر متشككون متحيرون. قوله: ﴿ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ ﴾ أي إن خسرانهم في الآخرة أشد من خسرانهم في الدنيا، لدوام العذاب في الآخر.
قوله: (بشدة) أخذ ذلك من تشديد الفعل. قوله: ﴿ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ أي من عند من يضع الشيء في محله، العالم بالكليات والجزئيات، فذكر وصف العلم بعد الحكمة، من ذكر العام بعد الخاص. قوله: (اذكر) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ إِذْ قَالَ ﴾ ظرف لمحذوف، والمعنى اذكر يا محمد لقومك قصة موسى وما وقع له. قول: (زوجته) أي ينت شعيب، أي وولده وخادمه. قوله: (عند مسيره من مدين) أي ليجتمع بأمه وأخيه بمصر، وكان في ليلة مظلمة باردة مثلجة، وقد ضل عن الطريق، وأخذ زوجته الطلق. قوله: (وكان قد ضلها) أي تاه عنها. قوله: ﴿ أَوْ آتِيكُمْ ﴾ أو مانعة خلو تجوز الجمع. قوله: (أي شعلة نار) أي شعلة مقتبسة من النار، فالإضافة لبيان الجنس كما قال المفسر، لأن الشهاب يكون من النار وغيرها كالكواكب. قوله: (بدل من تاء الافتعال) أي لأنها وقعت بعد الصاد، وهي من حروف الأطباق، فقلبت طاء على القاعدة المعلومة. قوله: (بكسر اللام) أي من باب تعب، وقوله: (وفتحها) أي من باب رمى. قوله: ﴿ نُودِيَ ﴾ أي ناداه الله. قوله: (أي بأن) أشار بذلك إلى أن أن مصدرية، وما بعدها في تأويل مصدر، وحرف الجر مقدر قبلها، أي نودي ببركة ﴿ مَن فِي ٱلنَّارِ ﴾ الخ، أي بتقديسه وتطهيره مما يشغل قلبه عن غير الله وتخليصه للنبوة والرسالة، أي ناداه الله، بأننا قدسناك وطهرناك واخترناك للرسالة، كما تقدم في طه حيث قال:﴿ وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ ﴾[طه: ١٣] الخ. قوله: ﴿ مَن فِي ٱلنَّارِ ﴾ هو نائب فاعل ﴿ بُورِكَ ﴾، وهذه تحية لموسى وتكرمة له. قوله: (أو العكس) أي فتفسر من الأول بالملائكة، والثانية بموسى، وعلى هذا التفسير فلا يحتاج لتقدير مضاف. قوله: (يتعدى بنفسه) أي فيقال باركك الله. قوله: (وبالحرف) أي اللام وفي وعلى. قوله: (ويقدر بعد في مكان) أي على التفسير الأول، فيقال أن بورك من في مكان النار، وإنما احتيج لهذا التقدير، لأن موسى إذ ذاك لم يكن في النار حقيقة، بل كان في المكان القريب منها. قوله: (من جملة ما نودي) أي أتى به، وإنما أتى بالتنزيه هنا، لدفع ما يتوهم أن الكلام الذي سمعه في ذلك المكان، بحرف وصوت، أو كون الله في مكان أو جهة.
قوله: ﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ ﴾ لم يقل هنا وأن كما في القصص، لأنه هنا ذكر بعد أن فعل، فحسن عطف ألق عليه، وما يأتي لم يذكر، فقد عطف وأن ألق، على قوله أن يا موسى إني أنا الله. قوله: ﴿ تَهْتَزُّ ﴾ حال من ضمير ﴿ رَآهَا ﴾.
قوله: (حية خفيفة) أي في سرعة الحركة، فلا ينافي عظم جثتها. قوله: (يرجع) أي لم يرجع على عقبه. قوله: ﴿ لاَ تَخَفْ ﴾ (منها) أي لأنك في حضرتي، ومن كان فيها فهو آمن، لا يخطر بباله خوف من شيء. قوله: (لكن) ﴿ مَن ظَلَمَ ﴾ الخ، أشار إلى أن الاستثناء منقطع، و ﴿ مَن ظَلَمَ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ فَإِنِّي غَفُورٌ ﴾ خبره. قوله: (أتاه) أي عمله. قوله: (طوق القميص) إنما لم يأمره بإدخالها في كمه، لأنه كان عليه مدرعة قصيرة من صوف لا كم لها، وقيل: لها كم قصيرة. قوله: ﴿ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ ﴾ جواب لقوله: ﴿ أَدْخِلْ ﴾ قوله: (لها شعاع) أي لمعان وإشراق. قوله: (آية) أشار بذلك إلى أن ﴿ فِي تِسْعِ آيَاتٍ ﴾ في محل نصب متعلق بمحذوف حال أخرى من ضمير ﴿ تَخْرُجْ ﴾، وقد صرح بهذا المحذوف في سورة طه حيث قال هناك:﴿ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ آيَةً أُخْرَىٰ ﴾[طه: ٢٢]، فالمعنى هنا حال كونها آية مندرجة في جملة الآيات التسع. قوله: ﴿ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ ﴾ متعلق بما قدره المفسر، وقوله: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ ﴾ الخ، تعليل لذلك المقدر. قوله: ﴿ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا ﴾ أي جاءهم موسى بها، وقوله: ﴿ مُبْصِرَةً ﴾ اسم فاعل والمراد به المفعول، أطلق اسم الفاعل على المفعول، إشعاراً بأنها لفرط وضوحها وإنارتها كأنها تبصر نفسها. قوله: (أي مضيئة) أي إضاءة معنوية في جميعها، وحسية في بعضها وهو اليد. قوله: ﴿ قَالُواْ هَـٰذَا ﴾ أي ما نشاهده من الخوارق التي أتى بها موسى. قوله: ﴿ وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ﴾ حال من الواو في ﴿ جَحَدُواْ ﴾ ولذا قدر فيه (قد). قوله: (أي تيقنوا) الخ، أشار به إلى أن السين زائدة. قوله: (راجع إلى الجحد) أي على أنه علة له. قوله: ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾ ﴿ كَيْفَ ﴾ خبر مقدم لكان، و ﴿ عَاقِبَةُ ﴾ اسمها مؤخر، والجملة في محل نصب على إسقاط الخافض. قوله: (من إهلاكهم) أي بالإغراق على الوجه الهائل الذي هو عبرة للعالمين.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ هو بالمد بمعنى أعطينا، وهو شروع في ذكر القصة الثانية، وكان لداود تسعة عشر ولداً أجلهم سليمان، وعاش داود مائة سنة، وسليمان ابنه نيفاً وخمسين سنة، وبين داود وموسى خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، وبين سليمان ومحمد صلى الله عليه وسلم ألف وسبعمائة سنة. قوله: (بالقضاء بين الناس) أي وهو علم الشرائع. قوله: (ومنطق الطير) أي تصويته. قوله: (وغير ذلك) أي كتسبيح الجبال. قوله: ﴿ وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ أي شكر كل منهما ربه على ما أنعم عليه به. قوله: ﴿ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا ﴾ أي أعطانا هذا الفضل العظيم. قوله: (وتسخير الجن والإنس) الخ، ظاهره أن هذا كان لكل من داود وسليمان وهو كذلك، إلا أن سليمان فاق أباه، وكانت له السلطنة الظاهرة. قوله: ﴿ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي الذين لم يؤتوا مثلنا، وهذه مزية، وهي لا تقتضي الأفضلية، فداود وسليمان وإن أعطيا تلك المزايا، فأولوا العزم أفضل منهما، لأن التفضيل من الله لا بالمزايا. قوله: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ أي قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه التسعة عشرة، مع كون النبوة والعطايا التي مع داود مستمرة معه، وليس المراد أن نبوة داود وعطاياه انتقلت منه لسليمان وصار داود بلا شيء. قوله: ﴿ وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ أي قال سليمان لبني إسرائيل: شكراً لله على نعمه. قوله: ﴿ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ ﴾ أي فهمنا الله أصوات الطير، ولا مفهوم للطير، بل كان الزرع والنبات يكلمه ويفهم كلامه، ورد أن سليمان كان جالساً، إذ مر به طائر يطوف، فقال لجلسائه: أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ إنه قال لي: السلام عليك أيها المسلك المسلط، والنبي لبني إسرائيل، أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى أفراخي، ثم أمر بك الثانية، وإنه سيرجع إلينا الثانية، ثم رجع فقال لهم: يقول السلام عليك أيها الملك المسلط، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يثبوا ثم آتيك، فافعل بي ما شئت، فأخبرهم سليمان بما قال، وأذن له فانطلق. ومر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا لا يا نبي الله، قال إنه يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخاً، فخاف، فقال له سليمان احذر، فقال الهدهد: يا نبي الله هذا صبي ولا عقل له فأنا أسخر به، ثم رجع سليمان فوجوده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده فقال له: ما هذا؟ قال ما رأيتها حتى وقعت بها يا نبي الله، قال: وحيك فأنت ترى الماء تحت الأرض، أما ترى الفخ؟ فقال يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر. وصاح ورشان عند سليمان بن داود فقال سليمان: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال إنها تقول: ليست الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذ خلقوا علموا ما خلقوا له. وصاح عنده طاووس فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: كما تدين تدان. وصاح عنده هدهد فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: إن من لا يرحم لا يرحم. وصاح عنده صرد فقا: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: استغفروا الله يا مذنبون. فمن. ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله. وقيل: إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت، ولذلك يقال له الصرد الصرام، وصاحت عنده طيطرجى فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: إنها تقول: كل حي ميت، وكل جديد بال. وصاحت عنده خطافة فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: إنها تقول: قدموا خيراً تجدوه. فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقيل: إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله تعالى الوحشة، فآنسه الله بالخطاف وألزمها البيوت، فهي لا تفارق بني آدم أنساً لهم، قال: ومعها أربع آيات من كتاب الله﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ ﴾[الحشر: ٢١] إلى آخرها، وتمد صوتها بقوله:﴿ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾[الحشر: ٢٤].
وهدرت حمامة عند سليمان فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: إنها تقول: سبحان ربي الأعلى، عدد ما في السماوات والأرض. وصاح قمري عند سليمان فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال إنه يقول: سبحان ربي العظيم المهيمن. قال كعب: وحدثهم سليمان فقال: الغراب يقول: اللهم العن العشار، والحدأ يقول،: كل شيء هالك إلا وجهه، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه، والضفدع تقول: سبحان ربي القدوس، والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده، والسرطان يقول: سبحان المذكور بكل مكان، وصاح دراج عند سليمان فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال إنه يقول: الرحمن على العرش استوى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" الديك إذا صاح قال: اذكروا الله يا غافلون ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" النسر إذا صاح قال: يا ابن آدم عش ما شئت فآخرك الموت، وإذا صاح العقاب قال: من البعد من الناس راحة. وإذا صاح القنبر قال: إلهي العن مبغض آل محمد. وإذا صاح الخطاف قال: ﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ إلى آخرها فيقول ﴿ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ فيمد بها صوته كما يمد القارئ ". قوله: ﴿ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ ﴾ قال ذلك تحدثاً بنعمة الله، وشكراً على ما أعطاه.
قوله: ﴿ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس ﴾ أي من الأماكن البعيدة، وكان له نقباء ترد أول العسكر على آخره، لئلا يتقدموا في السير، قال محمد بن كعب القرظي: كان عسكر سليمان عليه السلام، مائة فرسخ في مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وقيل نسجت له الجن بساطاً من ذهب وحرير فرسخاً في فرسخ، وكان يوضع فيه كرسيه في وسطه فيقعد، وحوله كراسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، والناس حوله، والجن والشياطين حول الناس، والوحش حولهم، وتظلله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه شمس، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة يعني حرة، وسبعمائة سرية، فيأمر الريح العاصف فترفعه، ثم يأمر الرخاء فتسير به. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان سليمان إذا ركب، حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد والقدور العظام، تسع كل قدر عشرة من الإبل، فيطبخ الطباخون، ويخبر الخبازون، وهو بين السماء والأرض، واتخذ ميادين للدواب، فتجري بين يديه، والريح تهوي، فسار في إصطخر يريد اليمن، فسلك على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إليها قال سليمان: هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان، طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه، ولما وصل مكة، رأى حول البيت أصناماً تعبد فجاوزه سليمان، فلما جاوزه بكى البيت، فأوحى الله اليه ما يبكيك؟ قال: يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك، ومعه قوم من أوليائك، مروا علي ولم يصلوا عندي، والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله اليه لا تبك، فإني سوف أملؤك وجوهاً سجداً، وأنزل فيك قرآناً جديداً، وأبعث منك نبياً في آخر الزمان، أحب أنبيائي إلي، وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني، أفرض عليهم فريضة، يحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها، والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان والأصنام وعبدة الشيطان، ثم مضى سليمان حتى مروا بوادي النمل. قوله: (يجمعون ثم يساقون) أي يمنعون من التقدم حتى يجتمعوا ثم يؤمرون.
قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا ﴾ غاية لمحذوف، أي فساروا مشاة على الأرض وركباناً حتى إذا أتوا، الخ. قوله: (نملة صغار) أي وهو المعروف، وقوله: (أو كباراً): أي كالبخاتي أو الذئاب. قوله: (قالت نملة) قيل اسمها طاخية وقيل جرمى، وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة رضي الله عنه ألف وقف على قتادة وهو يقول: سلوني، فأمر أبو حنيفة شخصاً سأل قتادة عن نملة سليمان، هل كانت ذكراً أو أنثى؟ فلم يجب، فقيل لأبي حنيفة في ذلك فقال: كانت أنثى واستدل بلحاق العلامة، قال بعضهم: وفيه نظر لأن لحاق التاء في قالت، لا يدل على أنها مؤنثة، لأن تاءه الواحدة لا للتأنيث، وحينئذ فيصح أن يقال: نملة، قالت نملة، وما استدل به أبو حنيفة يفيد الظن لا التحقيق. قوله: (وقد رأت جند سليمان) أي من ثلاثة أميال بدليل قوله الآتي، وقد سمعه من ثلاثة أميال. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ﴾ الخ، اشتمل هذا القول على أحد عشر نوعاً من البلاغة، أولها النداء بيا، ثانيها لفظ أي، ثالثها التنبيه، رابعها التسمية بقولها: ﴿ ٱلنَّمْلُ ﴾، خامسها الأمر بقولها: ﴿ ٱدْخُلُواْ ﴾ سادسها التنصيص بقولها: ﴿ مَسَاكِنَكُمْ ﴾، سابعها التحذير بقولها: ﴿ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ ثامنها التخصيص بقوله: ﴿ سُلَيْمَانُ ﴾، تاسعها التعميم بقوله: ﴿ وَجُنُودُهُ ﴾ عاشرها الإشارة بقوله: ﴿ وَهُمْ ﴾، حادي عشرها العذر بقولها: ﴿ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾.
وكانت تلك النملة عرجاء ذات جناحين، وهي من جملة الحيوانات العشرة التي تدخل الجنة وهي: براق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدهد بلقيس، ونملة سليمان، وعجل إبراهيم، وكبش ولده، وبقرة بني إسرائيل، وكلب أهل الكهف، وحمار العزير، وناقة صالح، وحوت يونس، وروي أن سليمان قال لها: لم حذرت النمل، أخفت من ظلمي؟ أما علمت أني نبي عدل، فلم قلت: ﴿ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ﴾، فقالت النملة: أما سمعت قولي: ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ مع أني لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب، خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت، ويفتنن في الدنيا، ويشتغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر، فلما تكلمت مع سليمان، مضت مسرعة إلى قومها فقالت: هل عندكم من شيء نهديه إلى نبي الله؟ قالوا: وما قدر ما نهدي له؟ والله ما عندنا إلا نبقية واحدة، فقالت: حسنة ائتوني بها، فأتوها بها فحملتها بفيها وانطلقت تجرها، وأمر الله الريح فحملتها وأقبلت تشق الجن والإنس والعلماء والأنبياء على البساط، حتى وقفت بين يديه، ووضعت تلك النبقة من فيها في فيه، وأنشأت تقول: ألم تر أنا نهدي إلى الله ماله   وإن كان عنه ذا غنى فهو قابلهولو كان يهدى للجليل بقدره   لأقصر البحر عنه يوماً وساحلهولكننا نهدي إلى من نحبه   فيرضى بها عنا ويشكر فاعلهوما ذاك إلا من كريم فعاله   وإلا فما في ملكنا من يشاكلهفقال لها: بارك الله فيكم، فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله، وأكثر خلق الله، النمل حيوان معروف شديد الإحساس والشم، حتى إنه يشم الشيء من بعيد ويدخر قوته، ومن شدة إدراكه أنه يفلق الحبة فلقتين خوفاً من الإنبات ويفلق حبة الكزبرة أربع فلق، لأنها إذا فقلت فلقتين نبتت، ويأكل في عامه نصف ما جمع، ويستبقي باقيه عدة. قوله: ﴿ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ فيه وجهان، أحدهما أنه نهي، والثاني أنه جواب الأمر. قوله: ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ جملة حالية.
قوله: ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً ﴾ مفرع على محذوف تقديره فسمع قولها المذكر فتبسم، وكان سبب ضحكه شيئين: أحدهما ما دل على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم من قولها وهم لا يشعرون. الثاني سروره بما آتاه الله ما لم يؤت أحداً، من ادراك سمعه ما قالته النملة. قوله: (ابتداء) الخ، فالتبسم انفتاح الفم من غير صوت، والضحك انفتاحه مع صوت خفيف، والقهقهة انفتاحه مع صوت قوي، وهي لا تكون من الأنبياء. قوله: (في هذا السير) أي في خصوص سيره على وادي النمل، وكان هو وجنوده في غير هذا الكان راكبين على البساط وتسير بهم الريح. قوله: ﴿ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ ﴾ إنما ذكر نعمة والديه تكثيراً للنعمة، ليزداد في الشكر عليها. قوله: ﴿ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ على حذف مضاف أي في جملة ﴿ عِبَادِكَ ﴾ وفي بمعنى مع، والمراد الكاملون في الصلاح، لأن الصلاح مقول بالتشكيك، فما من مقام إلا وفوقه أعلى منه، والكامل يقبل الكمال.
قوله: ﴿ وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ ﴾ شروع في القصة الثالثة، والمعنى نظر في الطير فلم ير الهدهد، وكان سبب سؤاله عن الهدهد، أنه كان دليل سليمان على الماء، وكان يعرف موضع الماء، ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة، ويعرف قربه وبعده، فينقر في الأرض، ثم تجيء الشياطين فيحفرونه وستيخرجون الماء في ساعة يسيرة، قيل لما ذكر ذلك ابن عباس قيل له: إن الصبي له فخاً ويحثوا عليه التراب، فيجيء الهدهد وهو لا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه، فقال ابن عباس: إذا نزل القضاء والقدر، ذهب اللب وعمي البصر، قيل ولم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد. قوله: (فتستخرجه الشياطين) أي بأن تسلخ وجه الأرض عن الماء، كما تسلخ الشاة؟قوله: ﴿ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ ﴾ استفهام استخبار. قوله: ﴿ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ ﴾ ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة تفسر ببل والهمزة، كأنه لم يره ظن أنه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره، فقال: ﴿ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ ﴾ ثم احتاط فظهر له أنه غائب فأضرب عن ذلك، وهو إضراب انتقالي. قوله: ﴿ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ الحلف على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث، فأو بين الكلمتين للتخيير، وفي الثالث للترديد بينه وبينهما، فهي في الأخير بمعنى إلا. قوله: (بنتف ريشه) هذ أحد أقوال في معنى التعذيب، وقيل هو أن يحشره مع غير أبناء جنسه، وقيل هو أن يطلى بالقطران ويوضع في الشمس. قوله: (بنون مشددة) الخ، أي والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ أي حجة ظاهرة على غيبته، والسبب غيبة الهدهد، أن سليمان عليه السلام، لما فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز للمسير واستصحب جنوده من الجن والإنس والطير والوحش فحملتهم الريح، فلما وافى الحرم، أقام ما شاء الله أن يقيم، أي من غير صلاة بالكعبة كراهة في الأصنام، ولم يكن مأموراً بتكسيرها، فاندفع التعارض بين ما هنا وما تقدم، وكان ينحر في كل يوم طول مقامه خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة، وقال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا المكان يخرج منه نبي عربي، صفته كذا وكذا، ويعطى النصر على جميع من عاداه، وتبلغ هيبته مسافة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم، قالوا: فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال بدين الله الحنيفية، فطوبى لمن أدركه وآمن به، قالوا: كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟ قال مقدار ألف سنة، فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل، قال: فأقام بمكة حتى قضى نسكه، ثم خرج من مكة صباحاً وسار نحو اليمن، فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها، فأحب النزول بها ليصلي ويتغدى، فلما نزل قال الهدهد: قد اشتغل سليمان بالنزول، فارتفع نحو السماء ينظر إلى طول الدنيا وعرضها ففعل ذلك، فبينما هو ينظر يميناً وشمالاً، رأى بستاناً لبلقيس، فنزل اليه فإذا هو بهدهد آخر، وكان اسم هدهد سليمان يعفور، وهدهد اليمن عفير، فقال عفير ليعفور: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود، قال ومن سليمان؟ قال: ملك الإنس والجن والشياطين والطير والوحش والرياح، فمن أين أنت؟ قال عفير: أنا من هذه البلاد، قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها بلقيس، وإن لصاحبك ملكاً عظيماً، ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها تملك اليمن، وتحت يدها أربعمائة ملك، كل ملك على كورة، مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل، ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها، ولها اثنا عشر قائداً، مع كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ قال: أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج الماء، قال الهدهد اليماني: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، وأما سليمان فإنه نزل على غير ماء، فسأل عن الماء الجن والإنس فلم يعلموا، فتفقد الهدهد فلم يره، فدعا بعريف الطير وهو النسر، فسأله عن الهدهد فقال: أصلح الله الملك، ما أدري أين هو، وما أرسلته إلى مكان، فغضب سليمان وقال: ﴿ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ الآية، ثم دعا بالعقاب وهو أشد الطير طيراناً، فقال له: علي بالهدهد الساعة، فارتفع العقاب في الهواء حتى نظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدين أحدكم، ثم التفلت يمنياً وشمالاً، فرأى الهدهد مقبلاً من نحو اليمن، فانقض العقاب يريده، وعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء، فقال: بحق الذي قواك وأقدرك علي، إلا ما رحمتني ولم تتعرض لي بسوء، فتركه العقاب وقال: ويلك ثكلتك أمك، إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك، فصارا متوجهين نحو سليمان عليه السلام، فلما انتهيا إلى العسكر تلقاه النسر والطير وقالا له: ويلك أين غبت في يومك هذا؟ فلقد توعدك نبي الله، وأخبراه بما قال سليمان، فقال الهدهد: أو ما استثنى نبي الله؟ فقالوا: بلى إنه قال: ﴿ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ فقال نجوت إذاً، وكانت غيبته من الزوال، ولم يرجع إلى بعد العصر، فانطلق به العقاب حتى أتيا سليمان، وكان قاعداً على كرسيه، فقال العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله، فلما قرب من الهدهد، رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض، تواضعاً لسليمان عليه الصلاة والسلام، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده اليه وقال له: أين كنت؟ لأعذبنك عذاباً شديداً، فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل، فلما سمع سليمان عليه الصلاة والسلام ذلك، ارتعد وعفا عنه ثم سأله: ما الذي أبطأك عني؟ فقال الهدهد: ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ إلى آخره. قوله: ﴿ فَمَكَثَ ﴾ أي الهدهد. قوله: (بضم الكاف وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان والأول من باب قرب والثاني من باب نصر. قوله: (أي يسيراً من الزمان) أي وهو من الزوال إلى العصر. قوله: (فعفا عنه) أي من أول الأمر قبل أن يذكر العذر. قوله: (وسأله عما لقي في غيبته) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ فَقَالَ أَحَطتُ ﴾ الخ، مفرع على محذوف. قوله: ﴿ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ أي علمت ما لم تعلمه أنت ولا جنودك وفي هذا تنبيه على أن الله تعالى أرى سليمان عجزه لكونه لم يعلم ذلك مع كون المسافة قريبة وهي ثلاث مراحل. قوله: (بالصرف وتركه) أن فيما قراءتان سبعيتان فالصرف نظراً إلى أنه اسم رجل وتركه نظراً إلى أنه اسم القبيلة للعلمية والتأنيث. قوله: (اسمها بلقيس) بالكسر بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن. قد ولد له أربعون ملكاً هي آخرهم، وكان الملك يملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤاً لي، وأبى أن يتزوج منهم، فخطب إلى الجن فزوجوه امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن، قيل في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب اليهم، أنه كان كثير الصيد، فربما اصطاد من الجن وهم على صورة الضباء فيخلي عنهم، فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقاً، فخطب ابنته فزوجه إياها. قوله: ﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ عطف على قوله: ﴿ تَمْلِكُهُمْ ﴾ لأنه بمعنى ملكتهم، قال ابن عباس: كان يخدمها ستمائة امرأة. قوله: (يحتاج اليه الملوك) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ عام أريد به الخصوص. قوله: ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ أي تجلس عليه، أو وصفه بالعظم بالنسبة إلى ملوك الدنيا، وأما وصف عرش الله بالعظم، فهو بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السماوات والأرض وما بينهما فحصل الفرق، قوله: (طوله ثمانون ذراعاً) الخ، وقيل طوله ثمانون وعرضه كذلك، وارتفاعه في الهواء كذلك. قوله: (عليه سبعة أبواب) صوابه أبيات بدليل قوله: (على كل بيت باب مغلق). قوله: ﴿ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ ﴾ أي فهم مجوس. قوله: ﴿ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ﴾ الخ، ذكر ذلك رداً على من يعبد الشمس وغيرها من دون الله، لأنه لا يستحق العبادة إلا من هو قادر على من في السماوات والأرض، عالم بجميع المعلومات. قوله: (أي أن يسجدوا له) أشار بذلك إلى أنه على هذه القراءة تكون ﴿ أَنْ ﴾ ناصبة، و ﴿ لاَّ ﴾ زائدة، و ﴿ يَسْجُدُواْ ﴾ فعل مضارع منصوب بأن، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، وعليها فلا يجوز الوقف على ﴿ يَهْتَدُونَ ﴾ لأنه من تتمته، كأنه قال: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا الخ، وقرأ الكسائي بتخفيف ألا، وتوجيهها أن يقال إن لا للافتتاح، ويا حرف تنبيه، واسجدوا فعل أمر، لكن سقطت ألف يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطأ، ووصلت الياء بسين اسجدوا، فاتحدت القراءتان لفظاً وخطاً، وهناك وجه آخر في هذه القراءة، وهو أن يا حرف نداء والمنادى محذوف، والتقدير ألا يا هؤلاء وهو ضعيف، لئلا يؤدي إلى حذف كثير من غير ما يدل على المحذوف. قوله: (من المطر والنبات) لف ونشر مرتب، فالمطر هو المخبوء في السماوات، والنبات هو المخبوء في الأرض.
قوله: ﴿ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ ﴾ اعلم أن ما ذكره الهدهد من قوله:﴿ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ ﴾[النمل: ٢٥] إلى هنا، إنما هو بيان لحقيقة عقيدته وعلومه التي اقتبسها من سليمان، وليس داخلاً تحت قوله:﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾[النمل: ٢٢] وإنما ذكر الهدهد ذلك، ليغري سليمان على قتالهم، وليبين أنه لم يكن عنده ميل لهم، بل إنما غرضه وصف ملكها. قوله: (وبينهما بون) أي فضل ومزية. قوله: ﴿ قَالَ سَنَنظُرُ ﴾ هذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره: فماذا قال سليمان للهدهد حين أخبره بالخبر؟ قوله: (فهو أبلغ من أم كذبت) أي لأنه يفيد أنه إن كان كاذباً في هذه الحادثة، كان معدوداً من الكاذبين ومحسوباً منهم، والكذب له عادة وليست فلتة يعفى عنه فيها، لأن الكذب على الأنبياء أمره عظيم. قوله: (من عبد الله) خص هذا الوصف لأنه أشرف الأوصاف، وقدم اسمه على البسملة، لأنها كانت في ذلك الوقت كافرة، فخاف أن تستخف باسم الله، فجعل اسمه وقاية لاسم الله تعالى. قوله: (السلام على من اتبع الهدى) أي أمان الله على من اتبع طريق الحق وترك الضلال. قوله: (فلا تعلوا علي) أي لا تتكبروا. قوله: (مسلمين) أي منقادين لدين الله، وفي هذا الخطاب، إشعار بأنه رسول من عند الله، يدعوهم إلى دين الله وليس مطلق سلطان، وإلا لقال وائتوني طائعين. قوله: (ثم طبعه بالمسك) أي جعل عليه قطعة مسك كالشمع. قوله: ﴿ فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ﴾ إما بسكون الهاء أو كسرها من غير إشباع أو بإشباع، ثلاث قراءات سبعيات. قوله: ﴿ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ إن جعل انظر بمعنى انتظر فماذا بمعنى الذي، و ﴿ يَرْجِعُونَ ﴾ صلته، والعائد محذوف، ويكون ما مفعول يرجعون والمعنى انتظر الذي يرجعونه، وإن جعل بمعنى تأمل وتفكر، كانت ما استفهامية، وذا بمعنى الذي، ويرجعون صلتها، والعائد محذوف، والتقدير أي شيء الذي يرجعونه، والموصول هو خبر ما استفهامية، أو ماذا كلها اسم واحد مفعول ليرجعون، تقديره أي شيء يرجعون. قوله: (من الجواب) بيان لما. قوله: (وأتاها وحولها جندها) الخ، وقيل أتاها فوجدها نائمة، وقد غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها، وكذلك كانت تفعل إذا رقدت، فألقى الكتاب على نحرها، وقيل كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع، فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد فسد الكوة بجناحيه، فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها. قوله: (فلما رأته ارتعدت) أي حين وجدت الكتاب مختوماً ارتعدت، لأن ملك سليمان كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها، فقرأت الكتاب، وتأخر الهدهد غير بعيد، وجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت أشراف قومها. قوله: (بقلبها واواً مكسورة) المناسب أن يقول وتسهيل الثانية بين الهمزة والياء وقلبها واواً الخ، فالقراءات ثلاث سبعيات. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ ﴾ الخ، لم تذكر صورة الكتاب، بل اقتصرت على ما فيه الفائدة، لشدة معرفتها وبلاغة لفظها. قوله: ﴿ كَرِيمٌ ﴾ مكرم معظم. قوله: (مختوم) أي لأن الكتاب المختوم، شعر بالاعتناء بالمرسل إليه، لما ورد: من كتب إلى أخي كتاباً ولم يختمه فقد استخف به. قوله: ﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ ﴾ جملة مستأنفة وقعت جواباً لسؤال مقدر تقديره: ماذا مضمونه.
قوله: ﴿ قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ ﴾ أي الأشراف، سموا بذلك لأنهم يملؤون العين بمهابتهم، وكانوا ثلاثمائة واثني عشر، لكل واحد منهم عشرة آلاف من الأتباع. قوله: ﴿ مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً ﴾ إي إن عادتي معكم لا أفعل أمراً حتى أشاوركم. قوله: ﴿ أُوْلُو قُوَّةٍ ﴾ الخ، استفيد من ذلك أنهم أشاروا عليها بالقتال أولاً، ثم ردوا الأمر إليها. قوله: (نطعك) مجزوم في جواب الأمر. قوله: ﴿ قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ ﴾ الخ، أي فلم ترض بالحرب الذي أشاروا عليها به، بل اختارت الصلح وبينت سببه. قوله: ﴿ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً ﴾ أي عنوة. قوله: ﴿ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ ﴾ أي منتظرة رجوع الرسل وعودهم إلي. قوله: (إن كان ملكاً قبلها) أي وقاتلناه. قوله: (أو نبياً لم يقبلها) أي واتبعناه، لأنها كانت لبيبة عاقلة تعرف سياسة الأمور. قوله: (ألفاً بالسوية) أي خمسمائة ذكر، وخمسمائة أنثى. قوله: (فأمر أن تضرب لبنات الذهب والفضة) أي كما يضرب الطين. قوله: (وأن تبسط من موضعه) أي توضع في الأرض كالبلاط. قوله: (إلى تسعة فراسخ) أي وهو مسيرة يوم وثمن يوم. قوله: (وأن يبنوا) أي الجن: قوله: (عن يمين الميدان وشماله) أي وقصد بذلك إظهار البأس والشدة. وحاصل تفصيل تلك القصة: أن بلقيس عمدت إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، فألبست الجواري لباس الغلمان الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان لباس الجواري، وجعلت في أيديهم أساور الذهب، وفي أعناقهم أطواق الذهب، وفي آذانهم أقرطة وشنوفاً، مرصعات بأنواع الجواهر، وحملت الجواري على خمسمائة فرس، والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس سرج من ذهب مرصع بالجواهر وأغشية الديباج، بعثت إليه لبنات من فضة، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت، وأرسلت بالمسك والعنبر والعود، وعمدت إلى حقة، جعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وخرزة جزع معوجة الثقب، ودعت رجلاً من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو، وضمت إليه رجلاً من قومها أصحاب عقل ورأي، وكتبت مع المنذر كتاباً تذكر فيه الهدية وقالت: إن كنت نبياً فميز الوصفاء والوصائف، وأخبرنا بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقباً مستوياً، وأدخل في الخرزة خيطاً من غير علاج أنس أو جن، وأمرت بلقيس الغلمان فقالت، إذا كلمكم سليمان، فكلموه بكلام فيه تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمر الجواري أن يكلموه بكلام في غلظة شبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول: انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه، فإن نظر إليك نظراً فيه غضب، فاعلم أنه ملك لا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشاشاً لطيفاً فاعلم أنه نبي، فتفهم قوله ورد الجواب، فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان فأخبره الخبر، فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبناً من الذهب والفضة ففعلوا، وأمره بعمل ميدان مقدار تسع فراسخ، وأن يفرش فيه لبن الذهب والفضة، وأن يخلوا قدر تك اللبنات التي معهم، وأن يعملوا حول الميدان حائطاً مشرفاً من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال سليمان: أي دواب البر والبحر أحسن؟ فقالو: يا نبي الله رأينا في بحر كذا دواب مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواص، قال: عليّ بها، فأتوه بها، قال: شدوها عن يمين الميدان وشماله، وقال للجن: عليّ بأولادكم، فاجتمع منهم خلق كثير، فأقامهم على يمين الميدان وشماله، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره، ووضع أربعة آلاف كرسي على يمينه وعلى شماله، وأمر الجن والإنس والشياطين والوحوش والسباع الطير، فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا ملك سليمان، رأوا الدواب التي لم يروا مثلها تورث على لبن الذهب والفضة تقاصرت إليهم أنفسهم، وضعوا مامعهم من الهدايا، وقيل إن سليمان لما فرش الميدان بلبنات الذهب والفضة، ترك من طريقهم موضعاً على قدر ما معهم من اللبنات، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً، خافوا أن يتهموا بذلك، فوضعوا ما معهم من اللبن في ذلك الموضع، ولما نظروا إلى الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا، فقالت لهم الشياطين: جوزوا لا بأس عليكم، وكانوا يمرون على كراديس الإن والجن الوحش والطير، حتى وقفوا بين يدي سليمان، فأقبل عليهم بوجه طلق، وتلقاهم ملقى حسناً وسألهم عن حالهم، فأخبره رئيس القوم بما جاءوا به وأعطاه كتاب الملكة، فنظر فيه وقال: أين الحقة؟ فأتى بها وحركها، فجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما فيها، فقال لهم: إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة، فقال الرسول، صدقت، فأثقب الدرة وادخل الخيط في الجزعة، فقال سليمان: من لي بثقبها؟ وسأل الإنس والجن فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين فقالوا: ترسل إلى الأرضة، فلما جاءت الأرضة أخذت شعرة في فمها ودخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت: تصيّر رزقي في الشجر، فقال لها: ذلك لك، ثم قال: من لهذه الخرزة؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا نبي الله، فأخذت الدودة خيطاً في فمها ودخلت حتى الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت: يكون رزقي في الفواكه، فقال: لك ذلك. ثم ميز بين الغلمان والجواري بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب بها الأخرى وتغسل وجهها، والغلام يأخذ الماء بيديه ويضر به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها، والغلام يصبه على ظاهره، فميّز بين الغلمان والجواري، ثم رد سليمان الهدية كما أخبر الله عنه بقوله: ﴿ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ ﴾ الخ. قوله: ﴿ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ ﴾ الخ، استفهام إنكاري وتوبيخ، أي لا ينبغي لكم ذلك. قوله: ﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ حال ثانية مؤكدة للأولى. قوله: (أي إن لم يأتوني مسلمين) أفاد بذلك أن يمين سليمان معلق على عدم إتيانهم مسلمين. قوله: (داخل سبعة أبواب) صوابه أبيات، وقد تقدم أنه داخل سبعة أبيات، فيكون حينئذ في داخل أربعة عشر نبياً. قوله: (حرساً) بفتحتين جمع حارس. قوله: (قيل) بفتح القاف أي ملك، سمي بذلك لأنه ينفذ ما يقول. قوله: (إلى أن قربت منه) أي من سليمان. قوله: (شعر بها) أي علم، وذلك أنه خرج يوماً فجلس على سريره فسمع وهجا قريباً منه فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس قد نزلت هنا بهذا المكان، وكانت على مسيرة فرسخ من سليمان.
قوله: ﴿ قَالَ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ ﴾ الخطاب لكل من عنده من الجن والإنس وغيرهما. قوله: (ما تقدم) أي من التحقيق أو قلب الثانية واواً. قوله: ﴿ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ﴾ أي وكان سليمان إذ ذاك في بيت المقدس، وعرشها في سبإ، وبينها وبين بيت المقدس مسيرة شهرين. قوله: (فلي أخذه قبل ذلك) أي قبل إتيانهم مسلمين، لأنهم حربيون حينئذ. قوله: (لا بعده) أي لأن إسلامهم يعصم ما لهم، وهذا بحسب الظاهر، وأما باطن الأمر فقصده أن يبهر عقلها بالأمور المستغربة لتزيد إيماناً. قوله: ﴿ عِفْرِيتٌ ﴾ بكسر العين وقرئ شذوذاً بفتحها. قوله: (وهو القوي) أي وكان مثل الجبل، يضع قدمه عند منتهى طرفه، وكان اسمه ذكوان وقيل صخر. قوله: ﴿ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ ﴾ يحتمل أنه فعل مضارع، أصله أأتى بهمزتين أبدلت الثانية ألفاً، ويحتمل أنه إسم فاعل كضارب وقائم. قوله: ﴿ مِن مَّقَامِكَ ﴾ أي مجلسك. قوله: (أسرع من ذلك) أي لأن المقصود الإتيان به قبل أن تقدم هي، والحال أن بين قدومها مسيرة ساعة ونصف، ومجلسه من الغداة إلى نصف النهار. قوله: ﴿ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي وهو التوراة. قوله: (وهو آصف بن برخيا) بالمد والقصر، وكان وزير سليمان وقيل كاتبه، وكان من أولياء الله تعالى، وقيل الذي عنده علم من الكتاب هو جبريل، وقيل الخضر، وقيل ملك آخر، وقيل سليمان نفسه، وعلى هذا فالخطاب في قوله أنا آتيك للعفريت، وما مشى عليه المفسر هو المشهور. قوله: (كان صديقاً) أي مبالغاً في الصدق مع الله ومع عباده. قوله: ﴿ طَرْفُكَ ﴾ هو بالسكون البصر. قوله: (قال) أي آصف، وقوله أي لسليمان. قوله: (دعا بالاسم الأعظم) قيل كان الدعاء الذي دعا به: يا ذا الجلال والإكرام، وقيل يا حي يا قيوم، وقيل يا إلهنا وإله كل شيء، إلهاً واحداً، لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. قوله: (بأن جرى تحت الأرض) أي بحمل الملائكة له لأمر الله لهم بذلك. قوله: (أي ساكناً) أي غير متحرك، كأنه وضع من قبل بزمن متسع، وليس المراد مطلق الاستقرار والحصول، وإلا كان واجب الحذف، لأن الظرف يكون مستقراً، وعلى ما ذكره المفسر فالظرف لغو عامله خاص مذكور فتدبر. قوله: ﴿ مِن فَضْلِ رَبِّي ﴾ أي إحسانه إليّ. قوله: (وإدخال ألف) الخ، أي فالقراءات أربع سبيعات، وبقيت خامسة وهي إدخال ألف بين المحققين. قوله: (لأن ثواب شكره له) أي لأن الشكر سبب في زيادة النعم، قال تعالى:﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾[إبراهيم: ٧].
قوله: (بالإفضال على من يكفرها) أي فلا يقطع نعمه بسبب إعراضه عن الشكر وكفران النعمة. قوله: ﴿ قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا ﴾ معطوف في المعنى على قوله: ﴿ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ﴾ وكلاهما مرتب على قوله: ﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ ﴾.
قوله: (إلى حالة تنكره إذا رأته) أي فالتنكير إبهام الشيء، بحيث لا يعرف ضد التعريف، ومنه النكرة والمعرفة في اصطلاح النحويين. قوله: ﴿ نَنظُرْ ﴾ هو بجواب الأمر. قوله: (قصد بذلك) الخ، أشار بذلك إلى حكمة التغيير. قوله: (لما قيل إن فيه شيئاً) أي نقصاً، والقائل له: ما ذكر الجن، وقالوا له: إن رجليها كرجلي حمار، وقالوا له أيضاً: إن في ساقيها شعراً لأنهم ظنوا أنه يتزوجها، فكرهوا ذلك لئلا تفشي له أسرار الجن، ولئلا يأتي منها أولاً فيخلفوه في استخدام الجن فيدوم عليهم الذل. قوله: ﴿ قِيلَ ﴾ (لها) القائل سليمان أو مأموره. قوله: ﴿ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾ الهمزة للاستفهام، والهاء للتنبيه، والكاف حرف جر، وذا اسم إشارة مجرور بها والجار والمجرور خبر مقدم، و ﴿ عَرْشُكِ ﴾ مبتدأ مؤخر، وفصل بين ها للتنبيه واسم الإشارة بحرف الجر وهو الكاف اعتناء بالتنبيه، وكان مقتضاه أن يقال: أكهذا عرشك. قوله: (أي أمثل هذا) أشار بذلك إلى أن الكاف اسم بمعنى مثل، وقولهم لا يفصل بين ها للتنبيه واسم الإشارة بشيء من حروف الجر إلا بالكاف معناه ولو صورة، وإن كانت في المعنى اسماً بمعنى مثل. قوله: (وشبهت عليهم) الخ، أي فأتت بهذه العبارة مشاكلة لكلام سليمان، والمشاكلة الإتيان بمثل الكلام السابق وإن لم يتحد الكلامان كقوله تعالى:﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ ﴾[آل عمران: ٥٤].
قوله: (قال سليمان) أي تحدثاً بنعمة الله. قوله: ﴿ وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا ﴾ أي العلم بالله وصفاته من قبل أن تؤتى هي العلم بما ذكر، وكنا مسلمين من قبل أن تسلم، فنحن أسبق منها علماً وإسلاماً. قوله: ﴿ وَصَدَّهَا ﴾ أي منعها، وقوله: ﴿ مَا كَانَت ﴾ فاعل صد، والمعنى منعها عن عبادة الله الذي كانت تعبد من دون الله وهو الشمس. قوله: ﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ بكسر إن في قراءة العامة استئناف، وقرئ شذوذاً بفتحها على إسقاط حرف التعليل. قوله: ﴿ قِيلَ لَهَا ﴾ (أيضاً) أي كما قيل نكروا لها عرشها. قوله: (هو سطح) وقيل الصرح القصر أو صحن الدار. قوله: (من زجاج أبيض) أي وهو المسمى بالبلور. قوله: (اصطنعه سليمان) أي أمر الشياطين به، فحفروا حفيرة كالصهريج، وأجروا فيها الماء، ووضعوا فيها سمكاً وضفدعاً وغيرهما من حيوانات البحر، وجعلوا سقفها زجاجاً شفافاً، فصار الماء و ما فيه يرى من هذا الزجاج، فمن لم يكن عالماً به، يظن أنه ماء مكشوف يخاض فيه مع أنه ليس كذلك. قوله: (لما قيل له) القائل ذلك الجن. قوله: ﴿ فَلَمَّا رَأَتْهُ ﴾ أي أبصرته. قوله: ﴿ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ﴾ أي على عادة من أراد خوض الماء، قيل لما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق، فلما لم يكن لها بد من امتثال الأمر، سلمت وكشفت عن ساقيها. قوله: (لتخوضه) أي لأجل أن تصل إلى سليمان. قوله: (فرأى ساقيها) إلخ، أي فلما علم ذلك صرف بصره عنها. قوله: ﴿ مُّمَرَّدٌ ﴾ صفة أولى لصرح، وقوله: ﴿ مِّن قَوارِيرَ ﴾ صفة ثانية جمع قارورة. قوله: (مملس) ومنه الأمرد لملاسة وجهه أي نعومته الشعر به. قوله: (بعبادة غيرك) أي وهو الشمس. قوله: ﴿ مَعَ سُلَيْمَانَ ﴾ حال من التاء في ﴿ أَسْلَمْتُ ﴾ كما أشار لذلك بقوله: (كائنة) والمعنى أسلمت حالة كوني مصاحبة له في الدين، ولا يصح أن يكون متعلقاً بأسلمت، لأنه يوهم أنها متحدة معه في الإسلام في زمن واحد. قوله: (فعملت له الشياطين النورة) أي بعد أن سأل الإنس عما يزيل الشعر، فقالوا له: يحلق بالموسى، فقالت: لم يمس الحديد جسمي، فكره سليمان الموسى وقال إنها تقطع ساقيها، فسأل الجن فقالوا لا ندري، فسأل الشياطين فقالوا: نحتال لك حتى يكون جسدها كالفضة البيضاء، فاتخذوا النورة والحمام، فكانت النورة والحمام من يومئذ. قوله: (فتزوجها) أي وولدت منه ولداً وسمته داود، ومات في حياة أبيه، وبقيت معه إلى أن مات وهذا أحد قولين، وقيل إنها لما أسلمت قال لها سليمان: اختاري رجلاً من قومك حتى أزوجك إياه، فقالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال، وقد كان لي من قومي الملك والسلطان؟ قال: نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله، قالت: إن كان ولا بد، فزوجني ذا تبع ملك همدان، فزوجها إياه وذهب بها إلى اليمن، وملك زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا سليمان زوبعة ملك الجن وقال له: اعمل لذي تبع ما استعملك فيه، فلم يزل يعمل له ما أراد، إلى أن مات سليمان، وحال الحول ولم يعلم الجن موته، فأقبل رجل منهم حتى بلغ جوف اليمن وقال بأعلى صوته: يا معشر الجن، إن سليمان قد مات فارفعوا أيديكم، فرفعوا أيديهم وتفرقوا. قوله: (وأقرها على ملكها) أي وأمر الجن فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم يرَ الناس مثلها في الارتفاع والحسن. قوله: (ويقيم عندها ثلاثة أيام) أي وكان يبكر من الشام إلى اليمن، ومن اليمن إلى الشام. قوله: (روي أنه ملك) أي أعطي الملك. قوله: (فسبحان من لا انقضاء لدوام ملكه) أي فما سواه يفنى، وهو الباقي بلا زوال، قال العارف: ما آدم في الكون وما إبليس   ما مالك سليمان وما بلقيسالكل إشارة وأنت المعنى   يا من هو للقلوب مغناطيسفالأكوان جميعها إشارات دالة على المقصود بالذات وهو الواحد القهار.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ ﴾ شروع في القصة الرابعة من هذه السورة، وثمود اسم لقبيلة صالح سميت باسم أبي القبيلة، فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، وتسمى عاد الثانية، وأما عاد الأولى فهم قوم هود. قوله: ﴿ أَخَاهُمْ صَالِحاً ﴾ أي في النسب لأنه من أولاد ثمود الذي هو أبو القبيلة، وعاش صالح مائتين وثمانين سنة. قوله: (أي بأن) ﴿ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾ أشار بذلك إلى أن أن مصدرية، وحرف الجر محذوف، ويصح أن تكون مفسرة لوجود ضابطها، وهو تقدم جملة فيها القول دون حروفه. قوله: (وحدوه) أي اعتقدوا أنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، لا شريك له في شيء منها. قوله: ﴿ فَإِذَا هُمْ ﴾ إذا فجائية، والمعنى فتفاجأ إرساله تفرقهم واختصامهم، فآمن فريق وكفر فريق، وتقدم حكاية اختصام الفريقين في سورة الأعراف في قوله تعالى:﴿ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ﴾[الأعراف: ٧٥] الخ. قوله: (فريق مؤمنون) جمع وصف الفريق مراعاة لمعناه. قوله: (من حين إرساله) أي وبعد ظهور المعجزات. قوله: ﴿ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ ﴾ أي لأي شيء تستعجلون بالعذاب وتطلبونه لأنفسكم ولا تطلبون الرحمة؟ ويصح أن يراد بالسيئة والحسنة أسباب العذاب وأسباب الرحمة، والمعنى لم تؤخرون الإيمان الذي هو سبب في الرحمة، وتقدمون الكفر الذي هو سبب العذاب؟ قوله: (هلا) أشار بذلك إلى أن لولا تحضيضية. قوله: (من الشرك) أي بأن تتركوا الشرك وتؤمنوا. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ الترجي في كلام الله بمنزلة التحقيق، لأنه صادر من قادر عالم بالعواقب لا يخلف وعده. قوله: (أدغمت التاء في الطاء) أي بعد قلبها طاء. قوله: (واجتلبت همزة الوصل)، أي للتوصل للنطق بالساكن. قوله: (أي تشاءمنا) أي أصابنا الشؤم وهو الضيق والشدة. قوله: (حيث قحطوا المطر) أي حبس عنهم. قوله: ﴿ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ أي جزاء عملكم من عند الله عاملكم به، فالشؤم وصفكم لا وصفي، وسمي طائراً لأنه يأتي الظالم بغتة وسرعة كنزول الطائر. قوله: ﴿ تُفْتَنُونَ ﴾ أتى بالخطاب مراعاة لتقدم الضمير وهو الراجح، ويجوز مراعاة الاسم الظاهر فيؤتى بالغيبة فيقال مثلاً: نحن قوم نقرأ ويقرأون. قوله: (تختبرون بالخير والشر) أي لتعلموا أن ما أصابكم من خير فمن الله، وما أصابكم من شر فبما كسبت أيديكم. قوله: (مدينة ثمود) أي وهو الحجر، وتقدم أنه واد بين الشام والمدينة. قوله: ﴿ تِسْعَةُ رَهْطٍ ﴾ الرهط ما دون العشرة من الرجال، والنفر ما دون السبعة إلى الثلاثة. قوله: (أي رجال) دفع بذلك ما يقال: إن تمييز التسعة جمع مجرور، فكيف يؤتى به مفرداً؟ فأجاب بأنه وإن كان مفرداً في اللفظ فهو جمع في المعنى، وهؤلاء التسعة هم الذين قتلوا أولادهم حين أخبرهم صالح أن مولوداً يولد في شهرهم هذا، يكون عقر الناقة على يديه، فقتل التسعة أولادهم وأبى العاشر أن يقتل ابنه، فعاش ذلك الولد ونبت نباتاً سريعاً، فكان إذا مر بالتسعة حزنوا على قتل أولادهم، فسول لهم الشيطان أن يجتمعوا في غار، فإذا جاء الليل خرجوا إلى صالح وقتلوه، وتقدم أنهم اجتمعوا في الغار، فأرادوا أن يخرجوا منه، فسقط عليم الغار فقتلهم، وعقر الناقة ولد العاشر وهو قدار بن سالف، وقيل إنهم جاءوا ليلاً لقتله شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالأحجار كما أفاده المفسر. قوله: (أي احلفوا) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ تَقَاسَمُواْ ﴾ فعل أمر، أي قال بعضهم لبعض: احلفوا على كذا. قوله: (بالنون) أي مع فتح التاء وقوله: (والتاء) كان المناسب أن يقول بالتاء، لأن ضم التاء لا يكون إلا على قراءة التاء، فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أي من آمن به) أي وسيأتي أنهم أربعة آلاف. قوله: (بالنون) أي مع فتح اللام، وقوله: (والتاء) أي فقراءة النون هنا، مع قراءة النون في الذي قبله، وقراءة التاء مع التاء، فهما قراءتان فقط. قوله: (أي ولي دمه) أي دم من قتل صالح ومن معه. قوله: ﴿ مَهْلِكَ أَهْلِهِ ﴾ أي أهل ولي الدم الذي يقوم عند موت صالح وأقاربه المؤمنين به. قوله: (بضم الميم) أي مع فتح اللام، وقوله: (وفتحها) أي مع فتح اللام وكسرها، فالقراءات ثلاث سبعيات. قوله: (أي هلاكهم) راجع للضم لأنه من الرباعي. قوله: (وهلاكهم) راجع للفتح بوجهيه لأنه من الثلاثي. قوله: ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ أي ونحلف إنا لصادقون، أو المعنى والحال وإنا لصادقون فيما قلنا. قوله: ﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً ﴾ أي أرادوا إخفاء ما بيتوا عليه من قبل صالح وأهله. قوله: ﴿ وَمَكَرْنَا مَكْراً ﴾ أي أهلكناهم من حيث لا يشعرون، وهو من باب المشاكلة، نظير قوله الشاعر: قالوا اقترحوا شيئاً نجد لك طبخه   قلت اطبخوا في جبة وقميصاوإلا فحقيقة المكر مستحيلة على الله تعالى، لأنه التحيل على الغدر، وهو من صفات العاجز، والعجز على الله محال. قوله: ﴿ فَٱنظُرْ ﴾ أي تأمل وتفكر. قوله: ﴿ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ ﴾ بكسر إن على الاستئناف، وفتحها على أنه خبر لمحذوف، أي وهي تدميرنا إياهم، والقراءتان سبعيتان. قوله: (أو برمي الملائكة) أو للتنويع، أي أن عذابه نوعان موزعان عليهم، رمي الحجارة على التسعة بسبب تبييتهم على قتل صالح وأهله، والصيحة على غيرهم بسبب عقر الناقة، ولو قال المفسر: أهلكناهم برمي الملائكة الحجارة وقومهم أجمعين بصيحة جبريل لكان أوضح.
قوله: ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ ﴾ مبتدأ وخبر أي ديارهم. قوله: (بظلمهم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية والباء سببية. قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ ﴾ أي المذكور من إهلاكهم. قوله: ﴿ وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي من الهلاك، فخرج صالح بهم إلى حضرموت، فلما دخلها مات صالح، فسميت تلك البلدة بذلك، ثم بنى الأربعة الآلاف مدينة يقال لها حاضوراء. قوله: ﴿ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ أي يدومون على اتقاء الشرك بأن لم يرتدوا. قوله: (ويبدل منه) أي بدل اشتمال، والمراد ذكر القول لا ذكر وقته. قوله: ﴿ لِقَوْمِهِ ﴾ أي من حيث إرساله إليهم وإقامته عندهم وإلا فهو في الأصل أرض بابل، فلما قدم مع عمه إبراهيم إلى الشام، نزل إبراهيم بفلسطين، ونزل لوط بسذوم. قوله: (يبصر بعضكم بعضاً) أشار بذلك إلى أن المراد الإبصار بالعين، وقيل المراد إبصار القلب، ويكون المعنى وتعلمون أنها قبيحة. قوله: (وإدخال ألف بينهما) أي وتركه فالقراءات أربع سبعيات. قوله: ﴿ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ ﴾ أشار بذلك إلى أنهم أساءوا من الطرفين في الفعل والترك، وقوله: ﴿ شَهْوَةً ﴾ مفعول لأجله. قوله: (عاقبة فعلكم) أي وهي العذاب الذي نزل بهم. قوله: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾ خبر ﴿ كَانَ ﴾ مقدم، وقوله: ﴿ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ ﴾ اسمها مؤخر. قوله: ﴿ آلَ لُوطٍ ﴾ المراد هو وأهله وهم بنتاه وزوجته المؤمنة. قوله: ﴿ مِّن قَرْيَتِكُمْ ﴾ الإضافة للجنس، لأنه تقدم أن قراهم كانت خمسة وأعظمها سذوم. قوله: ﴿ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ أي يتنزهون وقالوا ذلك على سبيل الاستهزاء. قوله: ﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ﴾ أي فخرج لوط بأهله من أرضهم، وطوى الله له الأرض حتى نجا، ووصل إلى إبراهيم. قوله: (الباقين في العذاب) أي الذي حل بهم، وهو أن جبريل اقتلع مدائنهم ثم قلبها فهلك جميع من فيها، قيل كان فيها أربعة آلاف ألف. قوله: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم ﴾ أي على من كان في ذلك الوقت خارجاً عن المدائن لسفر أو غيره. قوله: (هو حجارة السجيل) أي الطين المحروق. قوله: (مطرهم) هو المخصوص بالذم.
قوله: ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ القراءة السبعية بإدغام إحدى الميمين في الأخرى، وأم منقطعة، ومن خلق مبتدأ خبره محذوف تقديره﴿ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾[النمل: ٥٩] وقرئ شذوذاً بتخفيف، فتكون من موصولة دخلت عليها همزة الاستفهام. قوله: (فيه الالتفات) أي وحكمته اختصاصه سبحانه وتعالى هو المنبت للأشجار والزرع لا غيره، وخلقها مختلفة الألوان والطعوم، مع كونها تسقى بماء واحد. قوله: (وهو البستان المحوط) أي المجعول عليه حائط لعزته. قوله: ﴿ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾ صفة لحدائق، وأفرد لكونه جمع كثرة لما لا يعقل. قوله: ﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ ﴾ أي لا ينبغي لأنكم عاجزون عن إخراج النبات، وإن كنتم قادرين على السقي والغرس ظاهراً. قوله: ﴿ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ﴾ أي فضلاً عن ثمارها وأشكالها. قوله: (وإدخال ألف بينهما) أي وتركه، فالقراءات أربع سبعيات. قوله: (في مواضعة السبعة) أي مواضع اجتماع الهمزتين المفتوحة ثم المكسورة، وهي لفظ إله خمس مرات، وأئذا، وأثنا. قوله: (أي ليس معه إله) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري، وكذا يقال فيما بعده. قوله: ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ إضراب انتقالي من تبكيتهم إلى بيان سوء حالهم. قوله: ﴿ أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً ﴾ أي مستقراً للإنسان والدواب، لا تتحرك بما على ظهرها. قوله: (فيما بينها) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ خِلاَلَهَآ ﴾ ظرف لجعل وتكون بمعنى خلق، ويصح أن تكون بمعنى صير، و(خِلاَلاً) مفعول ثان. قوله: ﴿ حَاجِزاً ﴾ أي معنوياً غير مشاهد. قوله: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي وكفرهم تقليد، والأقل يعلم الأدلة، وكفرهم عناد. قوله: ﴿ ٱلْمُضْطَرَّ ﴾ هو اسم مفعول، وهذه الطاء أصلها تاء الافتعال، قلبت طاء لوقوعها إثر حرف الإطباق وهو الضاد. قوله: ﴿ إِذَا دَعَاهُ ﴾ أشار بذلك إلى أن إجابة المضطر متوقفة على دعائه، فلا ينبغي لمن كان مضطراً ترك الدعاء، بل يدعو، والله يجيبه على حسب ما أراد سبحانه وتعالى، لأن الله أرأف على العبد من نفسه، فالعاقل إذا دعا الله يسلم في الإجابة لمراد الله. قوله: (الإضافة بمعنى في) أي فالمعنى يجعلكم خلفاء في الأرض. قوله: (وفيه إدغام التاء في الذال) أي بعد قلبها دالاً فذالاً، وهذا على كل من القراءتين. قوله: (وما زائدة لتقليل القليل) أي فالمراد تأكيد القلة. قوله: (وبعلامات الأرض) أي كالجبال. قوله: (أي قدام المطر) أي أمامه. قوله: (وإن لم يعترفوا بالإعادة) أشار بذلك إلى سؤال وارد حاصله. كيف يقال لهم ﴿ أَمَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ ﴾ مع أنهم منكرون للإعادة؟ وأشار إلى جوابه بقوله: لقيام البراهين عليها وإيضاحه، أن يقال إنهم معترفون بالابتداء، ودلالة الابتداء على الإعادة ظاهره قوية، وحينئذ فصاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في إنكار الإعادة، بل ذلك محض جحود. قوله: ﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ أمره الله صلى الله عليه وسلم بتبكيتهم، إثر قيام الأدلة على أنه لا يستحق العبادة غيره. قوله: (أن معي إلهاً) الأوضح أن يقول: أن مع الله إلهاً لأن النبي مأمور بهذا القول، وهو لا يقول لهم: إن كنتم صادقين أن معي إلهاً. قوله: (وسألوه) أي المشركون. قوله: ﴿ مَن فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ﴾ ﴿ مَن ﴾ فاعل ﴿ يَعْلَمُ ﴾ والجار والمجرور صلتها، و ﴿ ٱلْغَيْبَ ﴾ مفعول به، و ﴿ إِلاَّ ﴾ أداة استثناء، ولفظ الجلالة مبتدأ خبره محذوف قدره المفسر بقوله: (يعلمه) والتقدير لا يعلم الذي ثبت في السماوات كالملائكة، والأرض كالإنس، الغيب لكن الله هو الذي يعلمه. قوله: (من الملائكة والناس) بيان لمن في السماوات والأرض على سبيل اللف والنشر المرتب. قوله: (لكن) ﴿ ٱللَّهُ ﴾ الخ، أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع، ولا يصح جعله متصلاً لإيهامه أن الله من جملة من في السماوات والأرض وهو محال. قوله: (وقت) ﴿ يُبْعَثُونَ ﴾ تفسير لأيان، والمناسب تفسيرها بمتى، لأن ﴿ أَيَّانَ ﴾ ظرف متضمن معنى همزة الاستفهام ومتى كذلك بخلاف لفظ وقت. قوله: (بمعنى هل) أي التي للأستفهام الإنكاري. قوله: (أي بلغ ولحق) راجع للقراءة الأولى، وقوله: (أو تتابع) راجع للثانية، والمعنى هل بلغ علمهم في الآخرة، أو تتابع علمهم الآخرة، حتى سألوا عن وقت مجيء الساعة؟ ليس عندهم علم بذلك، بل ولا إثبات، حتى يسألوا عن وقت الساعة، فسؤالهم محض تعنت وعناد. قوله: ﴿ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ﴾ أي الآخرة. قوله: ﴿ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ﴾ أي عندهم جزم بعدمها لعدم إدراكهم دلالتها. قوله: (بعد حذف كسرتها) أي وسقطت الياء لوقوعها ساكنة إثر ضمة.
قوله: (أيضاً) أي كما قالوا ما تقدم. قوله: ﴿ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً ﴾ كان فعل ماض ناقص وأنا اسمها، و ﴿ تُرَاباً ﴾ خبرها، و ﴿ وَآبَآؤُنَآ ﴾ معطوف على اسم كان، وسوغه الفصل بخبرها، قوله: ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا هَـٰذَا ﴾ وعد فعل ماض، ونا نائب الفاعل مفعول أول، و ﴿ هَـٰذَا ﴾ مفعول ثان، و ﴿ نَحْنُ ﴾ تأكيد لنا، و ﴿ وَآبَآؤُنَا ﴾ عطف على المفعول الأول، وسوغه الفصل بالمفعول الثاني والضمير المنفصل، والمعنى لقد وعدنا محمد بالبعث، كما وعد من قبله آباءنا به، فلو كان حقاً لحصل. قوله: ﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أمر تهديد لهم، إشارة إلى أنهم إن لم يرجعوا، نزل بهم ما نزل بمن قبلهم. قوله: ﴿ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ أي لتعتبروا بهم فتنزجروا عن قبائحكم. قوله: (بإنكارهم) أي المجرمين. قوله: (بالعذاب) أي الدنيوي، لأنه هو المشاهد آثاره. قوله: ﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي لا تغتم على عدم إيمانهم فيما مضى، ولا تخف من مكرهم في المستقبل، فالحزن غم لما مضى، والخوف غم لما يستقبل. قوله: ﴿ وَلاَ تَكُن ﴾ بثبوت النون هنا وهو الأصل، وقد حذفت من هذا المضارع في القرآن في عشرين موضعاً، تسعة مبدوءة بالتاء، وثمانية بالياء، واثنان بالنون، وواحد بالهمزة وهو حذف غير لازم، قال ابن مالك: ومن مضارع لكان منجزم   تحذف نون وهو حذف ما التزمقوله: ﴿ فِي ضَيْقٍ ﴾ بفتح الصاد وكسرها، قراءتان سبعيتان أي حرج. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ خطاب للنبي ومن معه من المؤمنين. قوله: ﴿ قُلْ عَسَىٰ ﴾ الخ، الترجي في القرآن بمنزلة التحقيق. قوله: (القتل ببدر) أي وغيره، وهذا هو العذاب المعجل. قوله: (وباقي العذاب) الخ، أي هو العذاب المؤجل. قوله: (ومنه) أي الفضل. قوله: ﴿ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ﴾ أي فالتأخير ليس لخفاء حالهم عليهم. قوله: (الهاء للمبالغة) أي كرواية وعلامة، وسماها هاء باعتبار الوقف، ولو قال التاء لكان أسهل، وقيل إنها كالتاء الداخلة على المصادر، ونحو العاقبة والعافية، ونظيرها الذبيحة في أنها أسماء غير صفات. قوله: (ومكنون علمه) الواو بمعنى أو، لأنه تفسير ثاني، فتسميته كتاباً على سبيل الاستعارة التصريحية، حيث شبه بالكتاب كالسجل الذي يضبط الحوادث ويحصيها ولا يشذ عنه شيء منها.
قوله: ﴿ أَكْثَرَ ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي فقد نص بالتصريح على الأكثر، فلا ينافي قوله: ما فرطنا في الكتاب من شيء، ومن جملته اختلافهم في شأن المسيح، وتفرقهم فيه فرقاً كثيرة، فوقع بينهم التباغض، حتى لعن بعضهم بعضاً. قوله: (أي عدله) دفع بذلك ما يقال إن القضاء مرادف للحكم فينحل، المعنى يقضي بقضائه أو يحكم بحكمه فأجاب بأن المراد بالحكم العدل. قوله: (فلا يمكن أحداً مخالفته) الخ، تفريع على العزيز، فكان المناسب تقديمه بلصقه. قوله: ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ﴾ الخ، تفريع على كونه عزيزاً عليماً، أي فإذا ثبتت له هذه الأوصاف فالواجب على كل شخص تفويض الأمور إليه والثقة به. قوله: ﴿ إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقِّ ٱلْمُبِينِ ﴾ علة للتوكل وكذا قوله: ﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾.
قوله: (بينها وبين الياء) أي فتقرأ متوسطة بين الهمزة والياء والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ مُدْبِرِينَ ﴾ أي معرضين. قوله: ﴿ بِهَادِي ٱلْعُمْيِ ﴾ ضمنه معنى الصرف فعداه بعن. قوله: ﴿ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ﴾ أي من سبق في علم الله أنه يكون مؤمناً ومن هنا قولهم لولا السابقة ما كانت اللاحقة.
قوله: ﴿ وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ ﴾ أي قرب وقوعه، وإنما عبر بالماضي لحصوله في علم الله، لأن الماضي والحال والاستقبال في علم الله واحد لإحاطته بها، والمراد بالقول: مواعيد القرآن بالفضائح والخزي والعذاب الدائم وغير ذلك للكفار. قوله: (حق العذاب) تفسير لوقع والمعنى قرب نزوله بهم. قوله: ﴿ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ ٱلأَرْضِ ﴾ أي وهي الجساسة، ورد في الحديث:" أن طولها ستون ذراعاً بذراع آدم عليه السلام، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب "وروي أن لها أربع قوائم، ولها زغب وريش وجناحان، وعن ابن جريج في وصفها: رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن إيل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هرة، وذنب كبش، وخف بعير، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً بذراع آدم عليه السلام. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: فيها كل لون ما بين قرنيها فرسخ للراكب وعن علي رضي الله عنه: أنها تخرج بعد ثلاثة أيام والناس ينظرون، فلا يخرج كل يوم إلا ثلثها." وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل من أين تخرج الدابة، فقال: من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى، يعني المسجد الحرام ". وروي أنها تخرج ثلاث خرجات، تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية ثم تكمن دهراً طويلاً، فبينما الناس في أعظم المساجد حرمة على الله تعالى وأكرمها، فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن، حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد. وقيل تخرج من الصفا لما روي: بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت معه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم، أي تتحرك تحرك القنديل، وتنشق الصفا مما يلي المسعى، فتخرج الدابة من الصفا، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما الصلاة والسلام، فتضرب المؤمن في مسجده بالعصا، فتنكت نكتة بيضاء، فتفشو حتى يضيء بها وجهه، وتكتب بين عينيه مؤمن، وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه، فتفشو النكتة حتى يسود بها وجهه، وتكتب بين عينيه كافر، ثم تقول لهم: أنت يا فلان من أهل الجنة وأنت يا فلان من أهل النار، وروي أن أول الآيات خروجاً، طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثرها، واختلف أيضاً في تعيين هذه الدابة فقيل: هي فصيل ناقة صالح، وهو أصح الأقوال، فإنه لما عقرت أمه هرب، فانفتح له حجر فدخل في جوفه، ثم انطبق عليه الحجر، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عز وجل، وقيل غير ذلك. قوله: (تقول لهم) تفسير لتكلمهم. قوله: (عتا) متعلق بمحذوف، أي حال كونها حاكية وناقلة لما تقول: (عنا) بأن تقول: قال الله: ﴿ أَنَّ ٱلنَّاسَ ﴾ الخ. قوله: (أي كفار مكة) المناسب حمل الناس على الموجودين وقت خروجها من الكفار. قوله: (وعلى قراءة فتح همزة أن تقدر الباء) أي للتعدية أو للسببية، وأما على قراءة الكسر، فهو مستأنف من كلامه تعالى تقوله الدابة على سبيل الحكاية والنقل، والقراءتان سبعيتان: قوله: (ينقطع الأمر بالمعروف الخ) أي لعدم إفادة ذلك، لأنه في ذات الوقت يظهر المؤمن والكافر عياناً بوسم الدابة، فمن وسمته بالكفر لا يمكن تغييره، فحينئذٍ لا ينفع أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ووجد في بعض النسخ، ولا يبقى منيب ولا تائب ولا يؤمن كافر، أي لا يوجد في هذا الوقت من يتوب إلى الله أي يرجع إليه، ولا تقبل توبة تائب من العصاة ولا إيمان كافر. قوله: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ ﴾ أي الحشر الخاص بهم للعذاب، بعد انفضاض الحشر العام لجميع الخلق. قوله: ﴿ مِن كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ ﴿ مِن ﴾ تبعيضية، وقوله: ﴿ مِّمَّن يُكَذِّبُ ﴾ بيانية للفوج. قوله: ﴿ فَوْجاً ﴾ الفوج في الأصل الجماعة المارة المسرعة، ثم أطلق على الجماعة مطلقاً. قوله: (رؤساؤهم) أي كأبي جهل وأبيّ بن خلف وفرعون وقارون والنمروذ وغيرهم من رؤساء الضلال، فكل رؤساء زمن نحشرهم على حدة. قوله: (يرد آخرهم إلى أولهم) المناسب أن يقول: يرد أولهم على آخرهم، أي يحبس أولهم ويوقف حتى يأتي آخرهم، ويجتمعون حتى يساقون.
قوله: ﴿ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع، والمعنى أنكرتموها وجحدتموها. قوله: ﴿ وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً ﴾ الجملة حالية مؤكدة للإنكار والتوبيخ، والمعنى أنكرتموها من غير فهمها وتأملها، فهم مؤاخذون بالجهل والكفر. قوله: ﴿ أَمَّا ذَا ﴾ أم منقطعة بمعنى بل، وما اسم استفهام أدغمت ميم أم في ما، فقوله: (فيه إدغام ما الاستفهامية) أي الإدغام فيها. قوله: (حق العذاب) أي نزل بهم وهو كنهم في النار. قوله: ﴿ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ ﴾ أي بحجة واعتذار. قوله: ﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ أي يعلموا. قوله: ﴿ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ ﴾ أي مظلماً بدلالة قوله: ﴿ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً ﴾ عليه كما حذف ليتصرفوا فيه من قوله: ﴿ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً ﴾ بدلالة قوله: ﴿ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ عليه، ففي الآية احتباك. قوله: (بمعنى يبصر فيه) أي فالإسناد مجازي من الإسناد إلى الزمان. قوله: (ليتصرفوا فيه) أي بالسعي في مصالحهم. قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ أي الجعل المذكور. قوله: (دلالات على قدرته تعالى) أي من حيث اختلاف الليل والنهار والظلمة.
قوله: ﴿ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ ﴾ معطوف على قوله:﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ﴾[النمل: ٨٣].
قوله: (النفخة الأولى) أي وتسمى نفخة الصعق، ونفخة الفزع فعبر عنها بالفزع، وفي سورة الزمر بالصعق، قال تعالى:﴿ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ ﴾[الزمر: ٦٨] الخ، فعند حصولها يموت كل حي ما عدا ما استثنى، وأما النفخة الثانية فعندها يحيا كل من كان ميتا، فالنفخة اثنتان وبينهما أربعون سنة، وقيل إنها ثلاث: نفخة الزلزلة وذلك حين تسير الجبال وترتج الأرض بأهلها، ونفخة الموت، ونفخة الإحياء، والقول الأولى هو المشهور، والصحيح في الصور أنه قرن من نور خلقه الله وأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخص ببصره إلى العرش، ينتظر متى يؤمر بالنفخة، وعظم كل دائرة فيه كعرض السماء والأرض، ويسمى بالبوق في لغة اليمن. قوله: (من إسرافيل) أي وهو أحد الرؤساء الأربعة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. قوله: ﴿ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي من كل من كان حياً في ذلك الوقت. قوله: (أي خافوا الخوف المفضي إلى الموت) أي استمر بهم الخوف إلى أن ماتوا به. قوله: (والتعبير بالماضي) الخ، جواب عما يقال: إن الفزع مستقبل فلم عبر بالماضي؟ فأجاب بأنه لتحققه نزل منزلة الواقع، لأن الماضي والحال والاستقبال بالنسبة لعلمه تعالى واحد، لتعلق العلم به. قوله: (أي جبريل) الخ، أي فهؤلاء الأربعة لا يموتون عند النفخة الأولى، بخلاف باقي الملائكة، وإنما يموتون بين النفختين، ويحيون قبل الثانية. قوله: (وعن ابن عباس هم الشهداء) وقيل أهل الجنة من الحور العين والولدان وخزنة الجنة والنار، وقيل: موسى، وقيل جميع الأنبياء. قوله: (إذ هم أحياء) أي حياة برزخية لا تزول ولا تحول، ولكن ليست كحياة الدنيا. قوله: (أي كلهم) أي المخلوقات من صعق ومن لم يصعق. قوله: (بصيغة الفعل) أي الماضي، فيقرأ بفتح الهمزة مقصورة وتاء مفتوحة وواو ساكنة. قوله: (واسم الفاعل) أي فيقرأ بعد الهمزة وضم التاء وسكون الواو، وأصله آتون له، حذفت باللام للتخفيف والنون للإضافة، والقراءتان سبعيتان. قوله: (صاغرين) أي أذلاء لهيبة الله تعالى، فيشمل الطائع والعاصي، وليس المراد ذل المعاصي، والمعنى أن إسرافيل حين ينفخ في الصور النفخة الثانية التي بها يكون إحياء الخلق، يأتي كل إنسان ذليلاً لهيبة الله تعالى. قوله: ﴿ وَتَرَى ٱلْجِبَالَ ﴾ عطف على قوله: ﴿ يُنفَخُ ﴾.
قوله: (وقت النفخة) أي الثانية، لأن تبديل الأرض وتسيير الجبال وتسوية الأرض، إنما يكون بعد النفخة الثانية، كما يشهد به قوله تعالى:﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ﴾[طه: ١٠٥] الآية، وقوله تعالى:﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ ﴾[ابراهيم: ٤٨] الآية. قوله: (لعظمها) أي وذلك لأن الأجرام الكبار، إذا تحركت مرة واحدة، لا تكاد تبصر حركتها. قوله: (المطر) الصواب إبقاء اللفظ على ظاهره، لأن تفسير السحاب بالمطر لم يقله أحد، ولعل الباء سقطت من قلم المصنف، والأصل من السحاب بالمطر. قوله: (حتى تقع) أي الجبال على الأرض. قوله: (مبسوسة) أي مفتتة كالرمل السائل. قوله: (كالعهن) أي الصوف المنفوش. قوله: (مؤكد لمضمون الجملة قبله) أي لأن ما تقدم من نفخ الصور وتسيير الجبال وغير ذلك، إنما هو من صنع الله لا غيره. قوله: ﴿ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ أي وضعه في محله على أكمل حالاته. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أي لا إله إلا الله) إنما حمله على هذا التفسير ذكر المقابل، لأن الكب في النار ليس بمطلق سيئة، بل إنما يكون بالكفر وهو يقابل الإيمان، وحينئذٍ فأل في الحسنة للعهد، أي الحسنة المعهودة وهي كلمة التوحيد، وقيل الحسنة كل عمل خير من صلاة وزكاة وصدقة وغير ذلك من وجوه البر.
قوله: ﴿ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ أي وهو الخلود في الجنة. قوله: (أي بسببها) أشار بذلك إلى أن ﴿ مِّن ﴾ للسببية، ويصح أن تكون للتعليل، أي من أجل مجيئه بها. قوله: (وليس للتفضيل) أي ليس خيراً فعل تفضيل، لأنه ليس عبادة أفضل من لا إله إلا الله، ويؤيد ما قاله المفسر، ما روي عن ابن عباس أنه قال له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والأمن من العذاب، أما من يكون له شيء من خير من الإيمان فلا، لأنه لا شيء خير من لا إله إلا الله. قوله: (بالإضافة) أي إضافة فزع لليوم. قوله: (وكسر الميم) أي للإعراب، وقوله: (وفتحها) أي فتحة بناء وهي قراءة ثانية في الإضافة، وقوله: (فزع منوناً) معطوف على قوله: (بالإضافة) فتكون القراءات ثلاثاً سبعيات، فكان الأوضح أن يعبر بأو بدل الواو في الأخير. قوله: ﴿ آمِنُونَ ﴾ أي لا يصيبهم منه شيء، والمراد بالفزع هنا الخوف من العذاب والفزع المتقدم الهيبة والانزعاج من الشدة الحاصلة في ذلك اليوم، فلا تنافي بين أثباته فيما تقدم ونفيه هنا. قوله: ﴿ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ أي ألقوا عليها في النار. قوله: (ويقال هلم) أي وقت كبهم على وجوههم في النار، والقائل لهم خزنتها. قوله: (أي ما) ﴿ تُجْزَوْنَ ﴾ الخ، أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: (قل لهم) ﴿ إِنَّمَآ أُمِرْتُ ﴾ الخ، أمر صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما ذكر، بعد بيان ما يحصل في المعاد، إشارة إلى أن عبادة الله هي المقصودة بالذات له، آمنوا أو كفروا، فيتسبب عن ذلك اهتمامهم بأمر أنفسهم، ورجوعهم عما يوجب نقصانهم. قوله: ﴿ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا ﴾ صفة للرب ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم:" إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة "لأن إسناد التحريم لله، باعتبار حكمه وقضائه، وإسناد التحريم لإبراهيم، باعتبار إخباره بذلك وإظهاره. قوله: (ولا يختلى خلاها) أي لا يقطع حشيشها الرطب. قوله: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾ أي أثبت على ما كنت عليه.
قوله: ﴿ وَأَنْ أَتْلُوَاْ ٱلْقُرْآنَ ﴾ أي أواظب عليه لتكشف لي حقائقه ودقائقه، لأن علوم القرآن كثيرة، فبتكرار التلاوة ازداد علوماً ومعارف، وفي هذه الآية إشعار أن تلاوة القرآن أعظم العبادات قدراً عند الله. قوله: ﴿ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ ﴾ (له) أي للإيمان. قوله: ﴿ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ ﴾ هو جواب الشرط، والرابط محذوف قدره المفسر بقوله له. قوله: (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي فهو منسوخ. قوله: ﴿ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ﴾ أي على ما أعطاني من النعم العظيمة التي أجلها النبوة التي بها إرشاد الخلق لصلاحهم. قوله: ﴿ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ أي في الدنيا. قوله: (وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم) أي وجوه الذين قتلوا وأدبارهم. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى الأولى هو وعيد محض، وعلى الثانية فيه وعد للطائعين ووعيد للعاصين.
Icon