تفسير سورة النّمل

التفسير القيم
تفسير سورة سورة النمل من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

هؤلاء هم أعلى الطبقات وأكرمها على الإطلاق. وهم المرسلون. فأكرم الخلق على الله، وأخصهم بالزلفى لديه : هم رسله. وهم المصطفون من عباده الذين سلم عليهم في العالمين، كما قال تعالى :﴿ وسلام على المرسلين ﴾ [ الصافات : ١٨١ ] وقال تعالى :﴿ سلام على نوح في العاليين ﴾ [ الصافات : ٧٩ ] وقال تعالى :﴿ سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين ﴾ [ الصافات : ١٠٩. ١١٠ ] وقال تعال :﴿ سلام على إل ياسين ﴾ [ الصافات : ١٣٠ ].
وقال في «بدائع الفوائد » :
هل السلام من الله ؟ فيكون المأمور به : الحمد والوقف التام عليه، أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا ؟
فالجواب عنه : أن الكلام يحتمل الأمرين. ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح. فيرجح كونه داخلا في جملة القول بأمور :
منها : اتصاله به، وعطفه عليه من غير فاصل. وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعا على كل واحد منهما. هذا هو الأصل، ما لم يمنع منه مانع.
ولهذا إذا قلت : قل : الحمد لله، وسبحان الله فإن التسبيح هنا داخل في المقول.
ومنها : أنه إذا كان معطوفا على المقول. كان عطف خبر على خبر، وهو الأصل. ولو كان منقطعا عنه. كان عطف جملة خبرية على جملة الطلب، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب.
ومنها : أن قوله ﴿ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ﴾ ظاهر في أن المسلم هو القائل : الحمد لله. ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة، ولم يقل : سلام على عبادي.
ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور :
أحدها : مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى، كقوله :﴿ سلام على نوح في العالمين ﴾ [ الصافات : ٧٩ ] وقوله :﴿ سلام على إبراهيم ﴾ [ الصافات : ١٠٩ ] وقوله :﴿ سلام على موسى وهارون ﴾ [ الصافات : ١٢٠ ] وقوله :﴿ سلام على إل ياسين ﴾[ الصافات : ١٣٠ ].
والثاني : أن عباده الذين اصطفى : هم المرسلون. والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه وسلامه عليهم. وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم.
أما الأول : فقال تعالى :﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين ﴾ [ الصافات : ١٨١. ١٨٢ ] وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله، ثم سلام على رسله، وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع، فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا، كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه، ثم سلم على المرسلين. وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم، المخالفون لهم. وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد.
وأعظم ما جاءوا به : التوحيد ومعرفة الله، ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم. وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد : فهو الحق المحض. وما خالفه : هو الباطل، والكذب المحال.
وهذا المعنى بعينه في قوله، ﴿ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ﴾ فإنه يتضمن حمده بما له من نعوت الكمال وأوصاف الجلال، والأفعال الحميدة، والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب. وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل.
فقابل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه. فهذا يشهد بكون السلام هنا من الله تعالى، كما هو في آخر الصافات.
وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره. فمنه قوله تعالى :﴿ قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان ﴾ [ الأنبياء : ١١٢ ] وقوله :﴿ وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ﴾ [ المؤمنون : ١١٨ ] وقوله :﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ] ونظائره كثيرة جدا.
وفصل الخطاب في ذلك : أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعا، وتنتظمهما انتظاما واحدا. فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه، وليس فيه إلا البلاغ، والكلام كلام الرب تبارك وتعالى، فهو الذي حمد نفسه، وسلم على صفوة عباده، وأمر رسوله بتبليغ ذلك.
فإذا قال الرسول : الحمد لله، وسلام على عباده الذي اصطفى كأن قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد به نفسه وسلم به هو على عباده. فهو سلام من الله ابتداء، ومن المبلغ بلاغا ومن العباد : اقتداء وطاعة.
فنحن نقول كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى :﴿ الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ﴾.
وكلمة «السلام » هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول. فتكون معطوفة على الجملة الخبرية، وهي «الحمد لله » ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا.
وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة. ويكون محلها النصب، محكيه بالقول.
ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة مستقلة، معطوفة على جملة الطلب وعلى هذا : فلا محل لها من الإعراب. وهذا التقدير أرجح.
وعليه يكون السلام من الله عليهم، وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه وتعالى على رسله عليهم السلام.
وعلى التقدير الأول : يكون أمر بالسلام عليهم، ولكن يقال على هذا : كيف يعطف الخبر على الطلب، مع تنافر ما بينهما ؟ فلا يحسن أن يقال : قم وذَهَب زيد، ولا أخرج وقَعَد عمرو.
ويجاب على هذا : بأن جملة الطلب قد حكيت بجملة خبرية، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية. لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه وهذا نظير قوله تعالى :﴿ قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ﴾ [ يونس : ١٠١ ].
فقوله تعالى :﴿ وما تغني الآيات ﴾ ليس معطوفا على القول وهو ﴿ نظروا ﴾ بل معطوف على الجملة الكبرى، على أن عطف الخبر على الطلب كثير، كقوله تعالى :﴿ قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ﴾ [ الأنبياء : ١١٢ ] وقوله تعالى :﴿ وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ﴾ [ المؤمنون : ١١٨ ]
والمقصود : أنه على هذا القول : يكون الله سبحانه وتعالى قد سلم على المصطفين من عباده، والرسل أفضلهم. وقد أخبر سبحانه وتعالى : أنه أخلصهم كما قال :﴿ إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ﴾ [ ص : ٤٦. ٤٧ ] ويكفي في شرفهم وفضلهم : أن الله سبحانه وتعالى اختصهم بوحيه. وجعلهم أمناء على رسالته، وواسطة بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته، فمنهم من اتخذه خليلا. ومنهم من كلمه تكليما، ومنهم من رفعه مكانا عليا على سائرهم درجات ولم يجعل لعباده طريقا للوصول إليه إلا من طريقهم، ولا دخولا إلى جنته إلا خلفهم.
Icon