تفسير سورة النّمل

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة النمل من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة النمل
آياتها ثلاث وتسعون وهي مكية

﴿ طس تلك ﴾ إشارة إلى آيات السورة ﴿ آيات القرآن وكتاب مبين ﴾ أي اللوح المحفوظ وإبانته انه خط فيه ما هو كائن فهو تنبيه للناظرين فيه وتأخيره هاهنا باعتبار تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر باعتبار سبقه على القرآن في الكتابة أو المراد به القرآن المبين للأحكام من الحلال والحرام وغير ذلك ومبين لصحته بإعجازه وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى وتنكيره للتعظيم. نكر الكتاب هاهنا وعرفه في الحجر ونكر القرآن هناك وعرف هاهنا لأن القرآن والكتاب اسمان علمان لما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ووصفان له لأنه يقرأ ويكتب فحيث جاء بلفظ التعريف أريد به العلم وحيث جاء بالتنكير أريد به الوصف
﴿ هدى وبشرى ﴾ منصوبان حالان من القرآن والعامل فيهما معنى الإشارة أو مجرور بدلان منه أو مرفوعان خبران آخران لتلك أو خبران لمحذوف أي هي هدى وبشرى ﴿ للمؤمنين ﴾ متعلق بهدى وبشرى على سبيل التنازع أو ببشرى فقط يعني هدى لجميع الخلق فمن لم يهتد فبسوء اختياره وبشرى للمؤمنين خاصة
﴿ الذين يقيمون الصلاة ﴾ أي يحافظون على فرائضها وسننها وآدابها ﴿ ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ﴾ من تتمة الصلة والواو للحال أو للعطف وتغير النظم بتقديم المسند إليه على الفعل للدلالة على قوة يقينهم وثباته وقصد الحصر يعني ما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة، فإن الجد في الأعمال دليل على إيقانهم، وجاز أن يكون خارجا عن الصلة استئنافا كما يدل عليه تغير النظم يعني الذين كذلك هم الموقنون لا غير.
﴿ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم ﴾ القبيحة بتسليط النفس وجعلها مشتهاة لها ﴿ فهم يعمهون ﴾ لا يدركون عواقب أمرها جملة زينا خبر لإن وقوله فهم يعمهون معطوف عليها أو هذا خبر لإن والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط وزينا حال من فاعل لا يؤمنون بتقدير قد وجملة إن الذين لا يؤمنون معترضة لبيان حال من يخالف المذكورين
﴿ أولئك الذين لهم سوء العذاب ﴾ في الدنيا إخبار بما يلحقهم يوم بدر من قتل وأسر وذل ﴿ وهم في الآخرة هم الأخسرون ﴾ من غيرهم حيث أكرمهم الله من بين الناس حيث بعث فيهم رسولا من أنفسهم يريد أن يطهرهم ويزكيهم ويوصلهم على أكرم الكرامات في الدنيا والآخرة فاختاروا على هذا في الدنيا القتل والأسر وفي الآخرة النار المؤبدة المؤصدة، جملة أولئك إلى آخرها وما عطف عليها استئناف لبيان عاقبة أمرهم
﴿ وإنك ﴾ يا محمد ﴿ لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ﴾ عطف على آيات القرآن وتنكير الحكيم والعليم للتعظيم يعني من عند أي حكيم وأي عليم لا يذكرك كنه علمه ولا حكمته أحد والجمع بين الوصفين مع أن العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل والإشعار بأن علوما منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار بالمغيبات وهذا تمهيد لما يذكر فيه من القصص منها ما قال { إذ قال موسى لأهله
﴿ إذ قال موسى لأهله ﴾ في مسيره من مدين إلى مصر الظرف متعلق ب " اذكر " وجاز أن يكون متعلقا بعليم ﴿ إني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ آنست ﴾ أي أبصرت ﴿ نارا سآتيكم ﴾ أي امكثوا مكانكم سآتيكم، ذكر هاهنا سآتيكم على التيقن وفي القصص ﴿ لعلي آتيكم ﴾ على الترجي لأن الراجي على تقدير حصول رجائه يعد بالإتيان قطعا إشعارا على عزمه وجزمه بما يعد به وفيه دليل على جواز نقل الحديث بالمعنى وجواز النكاح بغير لفظ النكاح والتزويج مما يؤدي معناه ﴿ منها بخبر ﴾ عن الطريق لأنه قد ضل الطريق والسين للدلالة على بعد المسافة والوعد بالإتيان وإن أبطأ ﴿ أو آتيكم بشهاب ﴾ قرأ الكوفيون با لتنوين على أن ﴿ قبس ﴾ بدل منه أو وصف له فإن الشهاب شعلة من نار ساطعة والقبس شعلة يقتبس من معظم النار كذا في القاموس والباقون بلا تنوين بإضافة الشهاب إلى القبس والإضافة بيانية لجواز إطلاق القبس على الشهاب وقال البغوي الشهاب والقبس متقاربان في المعنى فإن القبس هو العود الذي أحد طرفيه نار وليس في طرفه الآخر نار ﴿ لعلكم تصطلون ﴾ افتعال من الصلي وهو الإيقاد بالنار أي راجيا أن تستدفئوا بها من البرد وكان في شدة الشتاء
﴿ فلما جآءها ﴾ يعني لما قرب موسى من النار التي رآها يقال بلغ فلان المنزل إذا قرب منه وإن لم يبلغه بعد ﴿ نودي أن بورك ﴾ أن مفسرة لما في النداء معنى القول أو التقدير بان بورك على أنها مصدرية أو مخففة من الثقيلة والتخفيف وإن إقتضى التعويض بلا أوقد أو السين أو سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره في أحكام كثيرة ﴿ من في النار ومن حولها ﴾ روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن معناه قدس من في النار وهو الله سبحانه على معنى أنه تعالى نادى موسى وأسمعه قيل كان ذلك نوره عز وجل حسبه موسى نارا فلذلك ذكر موسى بلفظ النار روى مسلم عن أبي موسى " قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال " إن الله لا ينام ولا ينبغي له ان ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " ١ وقال سعيد بن جبير كانت النار بعينها وهي إحدى حجب الله تعالى كما ورد في بعض الروايات حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وعلى هذا التأويل هذه الآية من المتشابهات كقوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام ﴾ ٢ ولما كان في هذا الكلام إيهام التحيز والتشبيه نزه الله سبحانه نفسه وهو المنزه من كل سوء وعيب فقال :﴿ وسبحان الله رب العالمين ﴾ وروى مجاهد عن ابن عباس انه قال بوركت النار وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس انه قال سمعت أبيا يقول أن بوركت النار ومن حولها وكلمة من على هذا زائدة وبورك النار وبورك في النار معناهما واحد فان العرب يقول بارك الله وبارك فيه وبارك عليه بمعنى واحد والمعنى بوركت في النار وفيمن حولها وهم الملائكة وموسى عليه السلام ويسمى النار مباركة كما يسمى البقعة مباركة قال الله تعالى :﴿ في البقعة المباركة ﴾ ٣ وقيل معناه بورك من في طلب النار أو من في مكان النار بحذف المضاف وهو موسى عليه السلام ومن حولها وهم الملائكة الذين حول النار حاضرين هناك فهذه تحية من الله لموسى بالبركة كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا على إبراهيم فقالوا ﴿ رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت ﴾ ٤ وقيل من في النار هم الملائكة وذلك أن النور الذي رآه موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس ومن حولها موسى لأنه كان بالقرب منها وقيل من حولها عام شامل لكل من في ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وتصدير الخطاب بذلك بشارة بأنه قد قضى له أمر عظيم ينتشر بركته في أقطار الشام وعلى هذه التأويلات قوله تعالى :﴿ وسبحان الله رب العالمين ﴾ لدفع توهم التشبيه الناشئ من سماع كلامه وللتعجيب من عظم ذلك الأمر
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: في قوله عليه السلام: "إن الله لا ينام" (١٧٩)..
٢ سورة البقرة الآية: ٢١٠..
٣ سورة القصص الآية: ٣٠..
٤ سورة هود الآية: ٧٣..
يا موسى ﴿ إنه أنا الله العزيز الحكيم ﴾ الضمير الشأن اسم إن وأنا الله خبرها أو الضمير للمنادى اسمها وأنا خبرها والله عطف بيان له والعزيز الحكيم صفتان له ممهدتان لما أراد أن يظهره يعني أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كتقليب العصا حية، الفاعل لكل ما يفعله بحكمة وتدبير
﴿ وألق عصا ك ﴾ عطف على بورك داخل في حيز أن المفسرة يدل عليه قوله تعالى في غير هذه السورة ( وأن ألق عصاك ) بعد قوله ﴿ أن يا موسى إني أنا الله ﴾ ١ بتكرير أن والتقدير فنودي هذا المقول وهذا القول فهو من قبيل عطف للمفرد على المفرد وليس من عطف الإنشاء على الخبر ﴿ فلما رآها ﴾ أي رأى موسى عصاه ﴿ تهتز ﴾ تتحرك بالاضطراب ﴿ كأنها جان ﴾ أي حية خفيفة في سرعة سيره وكثرة اضطرابه ﴿ ولى ﴾ أي هرب موسى من الخوف ﴿ مدبرا ولم يعقب ﴾ أي لم يرجع من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار ﴿ يا موسى لا تخف ﴾جملة النداء وما بعده في محل النصب على تقدير القول يعني قلنا يا موسى لا تخف من هذه الحية ﴿ إني لا يخاف لدي ﴾ يعني لأجل قربهم بي واستقرارهم بحضرتي ﴿ المرسلون ﴾ الجملة في مقام التعليل لعدم الخوف يعني الذين يبلغون رسالاتي فإنهم يخشونني وحدي ولا يخشون أحدا غيري فلا منافاة بين هذه الآية وبين قوله عليه السلام " أنا أخشاكم بالله " أو المعنى لا يخافون مطلقا عند نزول الوحي لفرط الاستغراق أو المعنى أنهم لا يكون لهم سوء عاقبة فيخافون
١ سورة القصص الآية: ٣١..
﴿ إلا من ظلم ﴾ قيل هذا استثناء متصل وفيه إشارة إلى موسى حيث قتل القبطي والمعنى لا يخيف الله أنبياءه من أحد غيره إلا بذنب أصابه أحدهم والمراد بالظلم الذنب الصغيرة أو ترك الأفضل وعلى هذا قوله ﴿ ثم بدل حسنا بعد سوء ﴾ يعني توبة بعد ذنب عطف على ظلم داخل في الصلة وإنما قيد بهذا إيذانا بأنه لا يجوز صدور ذنب من الأنبياء وإن كانت صغيرة أو قبل النبوة إلا مستعقبا للتوبة ﴿ فإني غفور رحيم ﴾ معطوف على بدل تقديره فإني أغفر له وأرحمه وقيل قوله ثم بدل إلى آخره كلام مبتدأ معطوف على محذوف بيان لحال من ظلم من الناس كافة، تقديره فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وقيل الاستثناء منقطع لان المرسلين لا يجوز منهم الظلم وعلى انقطاعه تقديره لكن من ظلم من الناس وهم غير المرسلين فإنهم يخافون غير الله تعالى وقيل هو استدراك لما يختلج في الصدور من نفي الخوف عن كلهم مع أن فيهم من فرطت منه صغيرة فالتقدير لكن من صدر منه صغيرة منهم فإنه وإن فعلها فقد اتبعها ما يبطلها واستحق به من الله مغفرة ورحمة فهو أيضا لا يخاف غير الله لكن هذين التأويلين يقتضيان أن موسى لم يخف من الحية وذلك غير واقع لقوله :( فلما رآها ولى مدبرا ولم يعقب ) وقوله تعالى :﴿ فأوجس في نفسه خيفة موسى٦٧ ﴾ ١ إلا أن يراد بنفي الخوف من الأنبياء ففي مطلق الخوف منهم لانتفاء سوء العاقبة نظيره قوله تعالى :﴿ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ ٢ لكن سوق الكلام يأبى عنه الموجود المنهي عنه إنما هو الخوف من الحية وقال بعض العلماء إلا هاهنا بمعنى ولا يعني لا يخاف لدي المرسلون ولا المذنبون التائبون أي هم صلحاء المؤمنين فإن غير المعصوم لا يخلو عن ذنب لكن من استدرك ذنبه بالتوبة صار كمن لا ذنب له وهذا التأويل أيضا يناسب نفي مطلق الخوف لا خوف غير الله فقط كالتأويلين السابقين
١ سورة طه الآية: ٦٧..
٢ سورة يونس الآية: ٦٢..
﴿ وأدخل يدك ﴾ عطف على ألق عصاك ﴿ في جيبك ﴾ أي جيب قميصك وهو طرفه كذا في القاموس وقيل الجيب هو القميص لأنه يجاب أي قطع قال البغوي قال أهل التفسير كان عليه مدرعة من صوف لاكم لها ولا أزر ﴿ تخرج ﴾ أي يدك مجزوم في جواب الأمر بتقدير أن تدخل يدك تخرج ﴿ بيضاء ﴾ نيرة تغلب نور الشمس حال من الضمير المستتر في تخرج ﴿ من غير سوء ﴾ أي كائنا من غير برص صفة لبيضاء أو حال مرادف له أو حال من الضمير في بيضاء ﴿ في تسع آيات ﴾ يعني هاتان آيتان لك في تسع آيات أي في جملتها أو معها على التسع هي فلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ومن عد العصا واليد مع التسع عد الأخيرين واحدا ولم يعد الفلق لأنه لم يبعث به إلى فرعون أو التقدير إذهب في تسع آيات على أنه استئناف بالإرسال فيتعلق به قوله ﴿ إلى فرعون وقومه ﴾ وعلى الأولين تقدير هاهنا مبعوثا أو مرسلا على انه حال من فاعل ألق فأدخل على سبيل التنازع ﴿ إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾ تعليل للإرسال.
﴿ فلما جاءتهم آياتنا ﴾ يعني جاءهم موسى بها ﴿ مبصرة ﴾ أي بينة واضحة اسم فاعل بمعنى اسم المفعول إشعارا بأنها لفرط وضوحها للأبصار صارت بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر أو ذات بصر يبصر بها قالوا يعني فرعون وقومه ﴿ هذا سحر مبين ﴾ واضح سحريته وجملة ﴿ لما جاءتهم ﴾ معطوفة على جملة محذوفة على نودي تقديره نودي أن ألق عصاك وأدخل يدك في جيبك اذهب في تسع آيات إلى فرعون وقومه أو مبعوثا إليهم إذهب إليهم فألقى موسى عصاه وأدخل يده في جيبه ثم ذهب إلى فرعون وقومه، عطف فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين
﴿ وجحدوا بها ﴾ أي أنكروا بآياتنا أنها من عند الله عطف على قالوا ﴿ واستيقنتها أنفسهم ﴾ أي وقد استيقنتها لأن الواو للحال، والإستيقان أبلغ من الإيقان ﴿ ظلما وعلوا ﴾ منصوبان على العلة أو حالان من فاعل جحدوا يعني لأجل الظلم والتكبر أو ظالمين أنفسهم باستيجارهم النار المؤبدة متكبرين عن الإيمان بما جاء به موسى ﴿ فأنظر ﴾ أيها المخاطب نظر استبصار ﴿ كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ كيف خبر لكان قدم عليه لاقتضائه الصدارة والجملة مفعول ل " ا نظر " يعني انظر كيفية عاقبتهم حيث أغرقوا في الدنيا فأدخلوا نارا بعد الموت.
﴿ ولقد آتينا داوود وسليمان علما ﴾ بذات الله سبحانه على حسب الطاقة البشرية وبصفاته وأحكامه وبأحوال المبدأ والمعاد ومنطق الطير والدواب وتسبيح الجبال وإلان الحديد ﴿ وقالا ﴾ شكرا للنعمة ﴿ الحمد لله الذي فضلنا ﴾ بالنبوة والكتاب وغير ذلك ﴿ على كثير من عباده المؤمنين ﴾ عطفه بالواو إشعارا بأن ما قالا بعض ما أتيا به في مقابلة النعمة فهو معطوف على محذوف تقديره فعلا على حسب ما علما وعرفا حق النعمة وقالا هذا القول ولولا تقدير المحذوف لكان المناسب الفاء موضع الواو كما في قولك أعطيته فشكر وفي الآية دليل على شرف العلم وكونه موجبا للفضل وتقد م العلماء على من سواهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " ١ رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث كثيربن قيس وسماه الترمذي قيس بن كثير وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " الحديث رواه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي وفيها تحريض على الشكر على نعمة العلم وعلى أن يتواضع ويعتقد بأنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير ﴿ وفوق كل ذي علم عليم ﴾ ٢
١ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٨٢) وأخرجه أبو داود في كتاب: العلم باب: في فضل العلم (٣٦٣٧) وأخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم (٢٢٣)..
٢ سورة يوسف الآية: ٧٦..
﴿ وورث سليمان داوود ﴾ نبوته وملكه وعلمه كذا أخرج عبد بن حميد وابن منذر وابن أبي حاتم عن قتادة واحتجت الروافض بهذه الآية على أن الأنبياء يورثون كغيرهم وهي حجة عليهم لا لهم لدلالتها على انه ورث سليمان دون سائر الأولاد وقد كان لداوود تسعة عشر إبنا. والإرث عبارة عن أن ينقل شيء إلى أحد بعدما كان لغيره من غير عقد جرى بينهم ولا يجري مجرى العقد سواء كان بينهما قرابة أو لا قال الله تعالى :﴿ وأورثناها بني إسرائيل ﴾ ١ ﴿ وأورثكم أرضكم وديارهم ﴾ ٢ ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم " لا نورث " أنه لا يملك أحد من الناس مال نبي بعد موته بل يكون ما له موقوفا محبوسا على ملك الله تعالى قال البغوي أعطى سليمان ما أعطى داود وزيد له تسخير الريح والشياطين وقال وقال مقاتل كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه وكان داود أشد تعبدا من سليمان وكان سليمان شاكرا لنعم الله قلت وكذا داود ﴿ وقال ﴾ سليمان ﴿ يأيها الناس علمنا منطق الطير ﴾ فيه شكر لنعمة الله عليه ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة والنطق والمنطق عبارة عما يعبر به عما في الضمير مفردا كان أو مركبا في القاموس نطق ينطق نطقا ومنطقا ونطوقا تكلم بصوت وحروف يعرف بها المعاني ولما كان فهم المعاني للناس منحصرا فيما يتلفظ به الإنسان زعموه من خواص الإنسان ولما كان سليمان عليه السلام بفهم من صوت الطير ما في ضميرها كما كان يفهم من كلام الإنسان سماه منطقا قال البغوي روى عن كعب قال صاح ورشان عند سليمان فقال أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا قال إنه يقول : لدوا للموت وابنوا للخراب وصاحت فاختة فقال أتدرون ما تقول : قالوا لا قال إنها تقول ليت هذا الخلق لم يخلق وصاح طاووس فقال أتدرون ما يقول : قالوا لا قال أنه يقول كما تدين تدان وصاح هدهد فقال أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا قال إنه يقول من لا يرحم لا يرحم وصاح صرد فقال أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا قال إنه يقول استغفروا الله يا مذنبون قال وصاحت طيطوى فقال أتدرون ما تقول ؟قالوا لا قال فإنها تقول كل حي ميت وكل جديد بال وصاح خطاف فقال أتدرون ما تقول ؟ قالوا لا قال إنه يقول قدموا خيرا تجدوه وهدرت حمامة فقال أتدرون ما تقول ؟ قالوا لا قال تقول سبحانه ربي الأعلى ملأ سماواته وأرضه وصاح قمري فقال أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا قال فإنه يقول سبحان ربي الأعلى قال والغراب يدعوا على العشاء والحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله والقسطاة تقول من سكت سلم والببغاء يقول ويل لمن الدنيا همه والضفدع يقول سبحان ربي القدوس والبازي يقول سبحان ربي وبحمده والضفدعة سبحان المذكور بكل لسان وعن مكحول قال صاح دراج عند سليمان فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال فإنه يقول الرحمن على العرش استوى وعن فرقد السبحي قال مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا الله ونبيه أعلم قال إنه يقول أكلت ونصف تمرة فعلى الدنيا العفا.
وروي أن جماعة من اليهود قالوا لابن عباس إنا سائلون عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمنا وصدقنا قال سلوا تفقها ولا تسألوا تعنتا قالوا اخبرنا ما يقول القنبري في صفيره والديك في صقيعة والضفدع في نقيقه والحمار في نهيقه والفرس في صهيله وماذا يقول الزرزور والدراج قال : نعم أما القنبر فيقول اللهم العن مبغضي محمد ومبغضي آل محمد والديك يقول اذكروا الله يا غافلون والضفدع يقول سبحان المعبود في لجج البحار وأما الحمار فيقول اللهم العن الغشار وأما الفرس يقول إذا ألتقى الصفان سبوح قدوس رب الملائكة والروح وأما الزرزور يقول اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم وأما الدراج يقول الرحمن على العرش استوى فأسلم اليهود وحسن إسلامهم وروي عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي عليهم السلام قال إذا صاح النسر قال ابن آدم عشت ما شئت آخره الموت وإذا صاح العقاب قال السلامة في البعد من الناس وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد وإذا صاح الخطاف قرأ ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ ويمد الضالين كما يمد القارئ قلت ما روي عن كعب شرح أصوات الطيور عن سليمان عليه السلام وكذا ما روي عن مكحول وعن فرقد عنه عليه السلام يحتمل حمله على أن كل واحد منها واقعة ولا يدل على انحصار نطقهم في الكلمات المذكورة وما قص الله تعالى في هذه السورة قصة النمل والهدهد صريح في أنها تتكلم بكل ما سنح لها لكن ما روي من سؤال اليهود وعن ابن عباس رضي الله عنه وجوابه إياهم يدل على انحصار مقالتهم فيما ذكر فإن صح هذه الرواية لزم تأويلها والله أعلم ﴿ وأوتينا من كل شيء ﴾ ٣ المراد به كثرة ما أوتي كما يقال فلان يقصد كل أحد ويعلم كل شيء ومثله ﴿ وأوتيت من كل شيء ﴾ والضمير في علمنا وأوتينا له ولأبيه عليهما السلام أوله ولأتباعه فإن أتباعه يأ خذون منه ما علمه الله وأعطاه أوله وحده تعظيما على عادة المدلول لمراعاة قواعد السياسة وقال ابن عبا س المراد كل شيء من أمر الدنيا والآخرة وقال مقاتل يعني النبوة والملك وتسخير الشياطين والرياح ﴿ إن هذا ﴾ العطاء ﴿ لهو الفضل المبين ﴾ يعني ليس هذا باستحقاق منا أو جزاء لأعمالنا بل تفضل من الله تعالى أو المعنى زيادة ظاهرة على من عدانا. وهذا القول وارد على الشكر كقوله صلى الله عليه وسلم :" أنا سيد ولد آدم ولا أفخر آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة " ٤ امتثالا لقوله تعالى :﴿ وأما بنعمة ربك فحدث١١ ﴾ ٥ قال البغوي روي أن سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك سبع مائة سنة وستة أشهر جميع أهل الدنيا الجن والإنس والطير والدواب والسباع وأعطى مع ذلك العلم بمنطق كل شيء وفي زمنه صنعت الصنائع العجيبة
١ سورة الشعراء الآية: ٥٩..
٢ سورة الأحزاب الآية: ٢٧..
٣ سورة النمل الآية: ٢٣..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب باب: في فضل النبي صلى الله عليه وسلم (٣٦٢٤)..
٥ سورة الضحى الآية: ١١.
﴿ وحشر ﴾ أي جمع ﴿ لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ﴾ في مسير له ﴿ فهم يوزعون ﴾ أي يكفون ويحبسون أي حبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا فيه إشارة إلى أنهم مع كثرتهم لم يكونوا مبعدين في القاموس وزعته أي كففته ومنه الوزعة جمع وازع وهم المانعون من المحارم والكلب والزاجر والتوزيع القسمة والتفريق كالإيزاع والتوزع وقال مقاتل يوزعون أي يساقون وقال السدي يوقضون قال محمد بن كعب كان معسكر سليمان عليه السلام مائة فرسخ خمسة وعشرون منها للجن وخمسة وعشرون منها للإنس وخمسة وعشرون منها للطير وخمسة وعشرون منها للوحش وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاث مائة منكوحة وسبع مائة سرية يأمر الريح العاصف فترفعه ويأمر الرخاء فتسيره فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق إلا جاءت به الريح وأخبرتك
﴿ حتى إذا أتوا على واد ﴾ وقف الكسائي بالياء فقال وادي والباقون بغير ياء ﴿ النمل ﴾ تعدية الإتيان بعلى إما لأن إتيانهم كان من عال وإما لأن المراد قطعة من قولهم أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره روي عن وهب بن منبه عن كعب كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه وقد أخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع في قدر منها عشر جزائر وقد اتخذ ميادين الدواب له أمامه فيطبخ الطباخون ويخبز الخبازون ويجري الدواب من بين يديه بين السماء والأرض والريح تهوي فسار من اصطخر إلى اليمن فسلك مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذه دار هجرة نبي آخر الزمان طوبي لمن آمن به وطوبي لمن اتبعه ورأى حول البيت أصناما تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله إلى البيت ما يبكيك ؟ فقال يا رب أبكاني إن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا بي ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله إليه أن لا تبك فإني سوف أملؤك وجوها سجدا وأنزل فيك قرآنا جديدا أبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يدفون إليك دفيف النسور إلى وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين ثم مضى حتى مر بواد السدير واد من الطائف فأتى على واد النمل هكذا قال كعب أنه واد بالطائف وقال مقاتل وقتادة هو أرض بالشام وقيل هو واد كان يسكنه الجن وأولئك النمل مراكبهم قال فرق الحميري كان نمل ذلك الوادي أمثال الذباب وقيل كالبخاتي والمشهور أنه النمل الصغير ﴿ قالت نملة ﴾ قال الشعبي كانت تلك النملة ذات جناحين وقيل كانت نملة عرجاء وقال الضحاك كان اسمها طاحية وقال مقاتل كان اسمها حذمى ﴿ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ﴾ لم يقل أدخلن لأن الإنسان إذا تكلم وهو يرى غيره من الحيوانات غير عاقلة فيجعل لها ضمائر الجمادات كما يجعل للنساء ضمائرها إلحاقا إياهن بغير ذوي العقول لضعف عقولهن وأما الحيوانات إذا تكلم بعضها بعضا ترى أنفسها من ذوي العقول فتخاطب العقلاء فحكى الله سبحانه قول النملة كما قالت ﴿ لا يحطمنكم سليمان وجنوده ﴾ نهى لهم عن الحطم والمراد نهيهن عن التوقف والبروز كيلا يؤدي إلى حطمهم إياهن كقولهم لا أرينك هاهنا أي لا تقف هاهنا فهو استئناف أو بدل عن الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أنهم يحطمونكم ولو شعروا لم يفعلوا كأنها شعرت عصمة سليمان وأصحابه من الإيذاء عمدا فويل للروافض لم يشعروا شعور النملة حتى نسبوا الظلم إلى أصحاب سيد الأنبياء فإن قيل كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض ؟ قيل كان بعض جنوده ركبانا ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم وقيل يحتمل أن يكون هذا قبل تسخير الريح لسليمان وقال بعض أهل العرفان معناه لا يحطمنكم اشتغالكم برؤية جنود سليمان وملكه وما أعطاه الله من زهرة الحياة الدنيا فيشغلكم عن ذكر الله ويهلككم فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال كذا قال مقاتل وذلك لما انه كلما كان يتكلم خلق إلا حملت الريح فألقته في مسامع سليمان
﴿ فتبسم ﴾ سليمان عطف على محذوف تقديره فسمع سليمان مقالها وأدرك معناها ففرح مما سمع وأدرك ما لا يسمع ولا يدرك غيره وبوصفها إياه وجنوده بالعدل أو تعجب من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى مصالحها فتبسم سرورا أو تعجبا ﴿ ضاحكا ﴾ حال من فاعل تبسم يعني تبسم مبالغا في التبسم واصلا إلى الضحك وجاز أن يكون مصدرا أي تبسم تبسما شديدا أنه ضحك على طريقة قمت قائما قال الزجاج أكثر ضحك الأنبياء التبسم وقيل كان أوله التبسم وآخره الضحك عن عائشة قالت :" ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ضاحكا مستجمعا حتى أرى لهواته إنما كان يتبسم " ١ رواه البخاري وعن عبد الله بن الحارث بن جزء " ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ٢ رواه الترمذي ﴿ من قولها ﴾ أي لأجل قول النملة فحبس جنوده حتى دخل النمل مساكنهم ﴿ وقال ﴾ شكرا لله وهضما لنفسه من أداء الشكر واستعانة من الله على شكره ﴿ رب أوزعني ﴾ قرأ ورش والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها والمعنى ألهمني قيل هذا أيضا بمعناه الحقيقي كما أن معناه الحبس والمنع كذا في القاموس وقال البيضاوي معناه أجعلني أزع شكر نعمتك عندي أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني بحيث لا أنفك عنه وقال بعض المحققين معناه إجعلني بحيث أزع أي أحبس نفسي عن الكفر وقيل معناه أحبس نفسي عن كل شيء غيرك ﴿ أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و وعلى والدي ﴾ فإن الإنعام على الوالدين وجعل أحب ولدا ولد الخيار الناس نعمة عليه قال الله تعالى :﴿ ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ﴾ ٣ ﴿ وان أعمل صالحا ترضاه ﴾ في بقية عمري ﴿ وأدخلني برحمتك في ﴾ زمرة ﴿ عبادك الصالحين ﴾ قال ابن عباس يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من الأنبياء.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب باب: التبسم والضحك (٦٠٩٢)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب باب: في بشاشة النبي صلى الله عليه وسلم (٣٦٥٠)..
٣ ؟؟؟؟؟.
﴿ وتفقد الطير ﴾ أي طلبها وبحث عنها والتفقد طلب ما فقد فلم يجد فيها الهدهد وكان سبب تفقده أن سليمان كان إذا نزل منزلا تظله جنده الطير من الشمس فأصابته من موضع الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة ويعرف قربه وبعده فينقر الأرض فتجئ الشياطين فيسلخونه ويستخرجون الماء كذا أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه قال سعيد بن جبير لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن أزرق يا وصاف انظر ما تقول إن الصبي يضع الفخ ويحثو عليه التراب فيجئ الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه فقال له ابن عباس ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر وفي رواية إذا جاء القضاء والقدر ذهب وعمي البصر فنزل سليمان منزلا فاحتاج إلى الماء فطلبوا فلم يجدوا فتفقد الهدهد ليدل على الماء فلم ير الهدهد وظن أنه حاضر ولم يره لساتر أو غير ذلك ﴿ فقال ﴾ هذه الجملة معطوفة على﴿ تفقد الطير ﴾ وهي معطوفة على محذوف معطوف على ﴿ وحشر لسليمان جنوده ﴾ تقديره وأمر الطيور بالإضلال فوقع الشمس على سريره فنظر وتفقد الطير ويقال حشر لسليمان جنوده فنزل منزلا فلم يجد الماء فطلب الهدهد وتفقد الطير فقال ﴿ ما لي ﴾ قرأ عاصم وابن كثير والكسائي وهشام بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ لا أرى الهدهد ﴾ الإستفهام للتعجب وجملة لا أرى حال من الضمير للمتكلم والعامل فيه معنى التعجب فلما لم يره بعد التفقد ولاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وسأل عن صحة ما لاح له فقال ﴿ أم كان ﴾ أم منقطعة بمعنى بل والهمزة يعني بل أكان الهدهد ﴿ من الغائبين ﴾
ولما ثبت أنه غائب قال﴿ لأعذبنه عذابا شديدا ﴾ ليعتبر به أبناء جنسه قيل العذاب الشديد أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطا لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض وقال مقاتل لأطلينه بالقطران ولأشمسنه وقيل لأود عنه القفص وقيل لأفرقن بينه وبين إلفه وقيل لأحبسنه مع ضده وقيل أو لألزمته خدمة أقرانه وكان التعذيب جائزا له عليه السلام ﴿ أو لأذبحنه أو ليأتيني ﴾ قرأ ابن كثير بنونين الأولى مشددة مفتوحة والثانية نون الوقاية والباقون بنون واحدة مشددة ومكسورة ﴿ بسلطان مبين ﴾ أي بحجة بينة في غيبته وعذر ظاهر والحلف في الحقيقية على أحد الأمرين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الثلاثة ثلث المحلوف عليه بعطفه عليهما وجاز أن يكون أوفي أو ليأتيني معنى إلا أن كما في قولك لألزمنك أو تعطيني حقي يعني إلا أن تعطيني حقي
﴿ فمكث ﴾ الهدهد قرأ عاصم ويعقوب بفتح الكاف والباقون بضمها وهما لغتان ﴿ غير بعيد ﴾ أي مكثا غير طويل أو زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا من سليمان على نفسه وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء أن سليمان لما فرغ من بناء البيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم وأقام هناك ما شاء الله أن يقيم وكان ينحر كل يوم طول مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف كبش وقال لمن حضره من أشراف قومه إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا يعطى النصر على جميع من عاداه ويبلغ هيبته مسيرة شهر القريب والبعيد عنده سواء لا تأخذه في الله لومة لائم قالوا بأي دين يدين يا نبي الله ؟ قال بدين الحنيفة فطوبي لمن أدركه وآمن به فقالوا كم بيننا وبين خروجه ؟ قال مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل قال فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة وسار نحو ألفين ووافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا حسنا تزهر خضرتها فأحب النزول بها ويصلى ويتغذى فلما نزل قال الهدهد إن سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها ففعل ذلك فنظر يمينا وشمالا فرأى بستانا لبلقيس فسال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط إليه وكان اسم هدهد سليمان يعفور وإسم هدهد اليمن عنفير فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان من أين أقبلت وأين تريد ؟ قال أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود فقال من سليمان ؟ قال ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح فمن أين أنت ؟ قال من هذه البلاد قال ومن ملكها ؟ قال امرأة يقال لها بلقيس وإن لصاحبكم ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه ملكة اليمن كلها وتحت يدها اثني عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل فهل منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها قال أخاف إن تفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة فانطلق ونظر إلى بلقيس وملكها وما رجع إلى سليمان إلا وقت العصر قال فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة وكان نزل على غير الماء فسأل الجن والإنس والشياطين عن الماء فلم يعلموا فتفقد الطير ففقد الهدهد فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال أصلح الله الملك أنا لا أدري أين هو وما أرسلته فغضب عند ذلك ثم قال :﴿ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين٢١ ﴾ ثم دعا العقاب سيد الطير فقال علي بالهدهد الساعة فرفع العقاب دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده الله الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء قال فولى عنه العقاب فقال له ويلك ثكلتك أمك إن نبي الله قد خلف أن يعذبك أو يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهيا إلى المعسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له ويلك أين غبت في يومك هذا لقد توعدك نبي الله وأخبره بما قال فقال الهدهد ما استثنى رسول الله قالوا بلى قال أو ليأتيني بسلطان مبين قال فنجوت إذا ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله فلما رآه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان فلما دنى منه أخذ برأسه فمده إليه فقال له أين كنت لأعذبنك عذابا شديدا فقال الهدهد اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ثم سأله فقال ما الذي أبطأك عني ﴿ فقال ﴾ الهدهد عطف على محذوف تقديره فإني فقال ﴿ أحطت بما لم تحط به ﴾ الإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته واستعماله في غير علم الله سبحانه إما بطريق المجاز أو المبالغة والمعنى علمت مستيقنا ما لم تعلم وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما ما لم يحط به سليمان ليتحاقر إليه نفسه ويتصاغر لديه علمه وفيه دليل على بطلان قول الروافض أن الإمام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أعلم منه ﴿ وجئتك من سبإ ﴾ اسم بلد باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام قرأ أبو عمرو البزي من سبأ وبسبأ في سورة سبأ مفتوحة الهمزة بلا تنوين غير منصرف على تأويل البلدة أو المدينة وقرأ قنبل ساكن الهمزة على نية الوقف والباقون بكسر الهمزة والتنوين منصرفا لما كان في الأصل إسم رجل. قال البغوي جاء في الحديث أن الهمزة والتنوين منصرفا لما كان في الأصل إسم رجل قال البغوس جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال :" كان رجلا له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشام أربعة " ١ يعني ستة منهم أخذوا اليمن وطنا والباقون أخذوا الشام وطنا ﴿ بنبإ يقين ﴾ أي بخبر متيقن
١ رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه ضعف انظر مجمع الزوائد في كتاب: العلم باب: في علم النسب (٩٣٦)..
قال سليمان وما ذاك قال ﴿ إني وجدت ﴾ أي أصبت ﴿ امرأة تملكهم ﴾ صفة لامرأة كان إسمها بلقيس بنت شرحبيل من نسل يعرب بن قحطان وكان أبوها ملك عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكا وهو في آخرهم وكان يملك أرض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفوا لي وأبي أن يتزوج فيهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها. وورد في الحديث أن إحدى أبوي بلقيس كان جنيا فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون فملكوا عليهم رجلا وافترقوا فرقتين كل فرقة استولت على طرف من اليمن ثم إن الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويعجز بهن فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه وأجابها الملك وقال ما منعني أن أبتدأك بالخطبة إلا الإياس منك فقالت لا أرغب عنك كفو كريم فاجمع رجال قومي فاخطبني إليهم فجمعهم وخطبها إليهم فقالوا لا نراها تفعل ذلك فقال لهم إنما ابتدأت وأنا أحب أن تسمعوا قولها فجاءوها فذكر لها فقالت نعم أحببت الولد فزوجوها فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من جيشها فلما رأته سقته الخمر حتى سكر ثم حزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوب على باب داره فعلموا أن تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها فاجتمعوا إليها وقالوا أنت بهذا الملك أحق من غيرك.
حديث :
روى أحمد والبخاري في الصحيح والترمذي والنسائي عن أبي بكرة رضي الله عنه قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس تملكوا عليهم بنت كسرى قال :" لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " ١ قوله تعالى ﴿ وأوتيت ﴾ حال بتقدير قد من فاعل
تملكهم ﴿ من كل شيء ﴾ يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدة أو المراد به الكثرة كما سبق ﴿ ولها عرش عظيم ﴾ حال بعد حال أي سرير ضخم كان مضروبا من الذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد عليه سبعة أبيات على كل بيت باب يغلق روى ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد قال سرير من ذهب وصفحتاه موصول بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا في عرض أربعين ذراعا وقال ابن عباس كان عرش بلقيس ثلاثون ذراعا في ثلاثين ذراعا وطوله في السماء ثلاثون ذراعا وقال مقاتل كان طوله ثمانين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعا
١ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي باب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر (٤٤٢٥) وأخرجه النسائي في كتاب: آداب القضاة باب: النهي عن استعمال النساء في الحكم (٥٣٨٦) وأخرجه الترمذي في كتاب: الفتن (٢٢٦٢).
﴿ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ﴾ ظرف متعلق بيسجدون ﴿ وزين لهم الشيطان أعمالهم ﴾ القبيحة من عبادة الشمس وغيرها جملة وزين مع ما عطف عليه حال من فاعل يسجدون بتقدير قد ﴿ فصدهم عن سبيل ﴾ المستقيم ﴿ فهم لا يهتدون ﴾ إليه عطف على يسجدون
﴿ ألا يسجدوا ﴾ قرأ أبو جعفر والكسائي ألا بالتخفيف على انه حرف تنبيه ويا للنداء ومناداه محذوف تقديره ألا يا لهؤلاء اسجدوا قال أبو عبيدة أمر مستأنف من الله تعالى وجاز كونه أمرا من سليمان لمن حضره وعلى هذا حذفت همزة الوصل في الدرج والألف من حرف النداء لالتقاء الساكنين في اللفظ وفي خط مثبتان وإذا وقف على إلا أو على يا وابتدأ بقوله اسجدوا وقرأ الباقون ألا يسجدوا بالتشديد لأجل إدغام نون أن المصدرية في اللام من حرف النفي الداخلة على المضارع وإن مع صلته بتقدير حرف الجر متعلق بزين لهم أو يصدهم والمعنى ﴿ زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم لئلا يسجدوا لله ﴾ ويقال أن لا يسجدوا بدل من أعمالهم يعني زين لهم الشيطان أن لا يسجدوا وجاز أن يكون لا زائدة وأن مع صلتها متعلق بلا يهتدون تقديره فهم لا يهتدون أن يسجدوا ﴿ لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ﴾ الخبء بمعنى المخبوء وهو ما خفي غيره وإخراجه إظهاره قال أكثر المفسرين خبء السماوات المطر وخبء الأرض النبات وقيل يريد علم غيب السماوات والأرض واللفظ يعم إشراق الكواكب وإنزال المطر وإنبات النبات وإخراج ما في الشيء من القوة إلى الفعل إخراج ما في الإمكان والعدم على الوجوب والوجود ومعلوم أنه يختص بالواجب لذاته فهو يستحق بالاستحقاق للسجود دون غيره ﴿ ويعلم ما تخفون ﴾ في سرائركم ﴿ وما تعلنون ﴾ فيجب الحذر من إشراكه غيره في العبادة سرا وعلانية قرأ الكسائي وحفض بالتاء فيهما على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة
﴿ الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم٢٦ ﴾ بدل من الضمير أو خبر ثان الله والجملة تعليل لاسجدوا يعني فهو المستحق للسجود لا غير.
﴿ قال ﴾ سليمان للهدهد ﴿ سننظر ﴾ أي سنتعرف مشتق من النظر بمعنى التأمل ﴿ أصدقت أم كنت من الكاذبين ﴾ غير النظر ولم يقل أم كذبت للمبالغة ( حيث جعلها منسلكا في الكاذبين معدودا فيهم ويلزمه كونها كاذبا البتة ) ورعاية الفواصل فدلهم الهدهد على الماء فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب
ثم كتب كتابا من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين قال ابن جريج لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه وقال قتادة كذلك الأنبياء يكتب جملا لا يطيلون ولا يكثرون فلما كتب الكتاب وطبقه بالمسك وختمه بخاتمه قال للهدهد ﴿ إذهب بكتابي هذا فألقه ﴾ قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بإسكان الهاء وأبو جعفر ويعقوب باختلاسها كسرا والباقون بإشباع الكسرة ﴿ إليهم ثم تول ﴾ أي تنح ﴿ عنهم ﴾ مكان قريب ﴿ فانظر ماذا يرجعون ﴾ أي ما ذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول
وأخذ الهدهد الكتاب وأتى به بلقيس وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء إلى ثلاثة أيام فوافاه في قصرها وقد غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية قفاها فألقى الكتاب على نحرها كذا أخرج عبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة وقال مقاتل حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها وقال ابن منبه وابن زيد كانت كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد الكوة فسدها بجناحيه فارتفعت الشمس فلم تعلمها فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرما الصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكا منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد فجاءت فقعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف مقاتل وقال ابن عباس كان مع بلقيس مائة ألف قيل مع كل قيل مائة ألف والقيل الملك دون الملك الأعظم وقال قتادة ومقاتل كان أهل مشورتها ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا وكل رجل منهم على عشرة آلاف قال فجاءوا فأخذوا مجالسهم ﴿ قالت ﴾ لهم بلقيس ﴿ يا أيها الملؤا ﴾ وهم أشراف الناس وكبراؤهم ﴿ إني ألقي ﴾ قرأ نافع وأبو جعفر وأبو محمد بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ إلي كتاب كريم ﴾ قال عطاء والضحاك سمته كريما لأنه كان مختوما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كرامة الكتاب ختمه " رواه الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس وأخرج ابن مردويه في ﴿ ألقي إلي كتاب كريم ﴾ قال مختوم وروي عن ابن جريج : كريم أي حسن وهو اختيار الزجاج وروي عن ابن عباس كريم أي شريف لشرف صاحبه قيل سمته كريما لغرابة شأنه إذا كانت مستلقية في بيت مغلقة الأبواب فدخل الهدهد من كوة وألقاه على نحرها بحيث لم تشعر به وقيل سمته كريما لكونه مصدرا ببسم الله الرحمن الرحيم
ثم بينت عمن الكتاب فقالت إنه أي الكتاب أو العنوان من سليمان ثم بينت ما فيها فقالت وإنه أي المكتوب أو المضمون ببسم الله الرحمن الرحيم ثم بينت عمن الكتاب فقالت إنه أي الكتاب أو العنوان من سليمان
ثم بينت ما فيها فقالت وإنه أي المكتوب أو المضمون ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا على ﴾ أن مفسرة أو مصدرية وهو لصلته خبر محذوف أي هو أو المقصود أن لا تعلوا أو بدل من كتاب والمعنى لا تتكبروا ولا تمتنعوا من الإجابة فإن ترك الإجابة من العلو والتكبر ﴿ وأتوني مسلمين ﴾ مؤمنين أو منقادين وهذا كلام في غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدلالة على ذات الصانع وصفاته صريحا والتزاما والنهي عن الترفع الذي هي أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل وليس فيه الأمر بالانقياد قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقيد فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلائل.
﴿ قالت يا أيها الملؤا أفتوني في أمري ﴾ أي أشيروا إلي فيما عرض لي وأجيبوني فيما أشاوركم فيه والفتيا والفتوى الجواب عما يشمل من الأحكام ﴿ ما كنت قاطعة أمر ﴾ أي حاكمة بأمر حكما قطعيا يقطع اختيار المحكوم عليه ﴿ حتى تشهدون ﴾ أي حتى تحضروني وتشيروني أو تشهدوا على كونه صوابا جملة قالت مع ما في حيزها بدل اشتمال من قالت السابقة
﴿ قالوا ﴾ مجيبين لها ﴿ نحن أولوا قوة ﴾في القتال ﴿ وأولوا بأس شديد ﴾ عند الحرب قال مقاتل أرادوا بالقوة كثرة العدد وبالبأس شدة الشجاعة لما أن الاستشار منها دائرا بين الصلح والقتال وكان القتال أصعب الأمرين أجابوا بامتثال أمرها في القتال على خلاف ما قالت اليهود :﴿ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ﴾١ وهذا يدل على إجابة أمرها في الصلح بالطريق الأولى ولذلك خيروها في الأمرين حيث قالوا ﴿ والأمر ﴾ في الصلح والقتال وفي كل شيء موكل ﴿ إليك فانظري ماذا تأمرين ﴾ من المقاتلة والصلح ما استفهامية والجملة بتأويل المفرد مفعول لأنظري يعني فانظري وتأملي حتى يتعين لك أمرك الذي ينفعك نطيعك ونتبع رأيك
١ سورة المائدة الآية: ٢٤..
﴿ قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية ﴾ قهرا وعنوة ﴿ أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ﴾ بنهب أموالهم وتخريب ديارهم حتى يستقيم لهم أمرهما حذرتهم من دخول سليمان عليهم قهرا ثم صرحت التحذير وقالت ﴿ وكذلك يفعلون ﴾ يعني سليمان وجنوده وقيل هذا تأكيد لما وصف من حال الملوك وتقرير بان ذلك من عادتهم الثابتة المستمرة وتصديق من الله لقولها وفي هذا الكلام إشعار بأنها ترى الصلح أصلح
﴿ وإني مرسلة إليهم بهدية ﴾ بيان لما يرى تقديمه في المصالحة والمعنى إني مرسل إليهم رسلا بهدية أدفعه بها عن ملكي والهدية اسم لما يهدي به كالعطية اسم لما يعطي قال البغوي أرادت بلقيس بإرسال الهدية اختبار سليمان أملك هو أم نبي تعني إن كان ملكا قبل الهدية وانصرف وإن كان نبيا لم يرض إلا بإتباعه على دينه ﴿ فناظرة بم يرجع المرسلون ﴾ فأهدت إليه وصفا ووصائف قال ابن عباس ألبستهم لباسا واحدا لئلا يعرف ذكر من أنثى وقال مجاهد ومقاتل ألبس الغلمان لباس الجواري ألبس الجواري لباس الغلمان واختلفوا في عددهم قال ابن عباس مائة وصف ومائة وصفية وقال مجاهد مائتي غلام ومائتي جارية وقال سعيد بن جبير أرسلت إليه بلبنة في حرير وديباج وقال ثابت البناني أهدت له صعاع الذهب في أوعية الديباج وقيل كانت أربعة لبنات من ذهب وقال وهب وغيره عمدت بلقيس إلى خمس مائة غلام وخمسة مائة جارية فألبست الجواري لباس الغلمان الأوقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب وفي أعناقهم أطواقا من ذهب وفي آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بأنواع الجمال وحملت الجواري على خمس مائة رمكة والغلمان على خمس مائة برذون على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملونة وبعثت إليه خمس مائة لبنة من فضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود الإلنجوج وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخوزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب ودعت رجلا من أشراف وقومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت معه كتابا بنسخة الهدية وقالت إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها واثقب الدرة ثقبا مستويا وأدخل خيط الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جن وأمرت بلقيس الغلمان إذا تكلم لكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء وأمرت الجواري أن تكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال ثم قالت للرسول أنظر إلى الرجل فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك ولا يهولنك منظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فأعلم أنه نبي مرسل فتفهم قوله ورد الجواب فأنطلق الرسل بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره كله فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنات الذهب والفضة ففعلوا ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسع فراسخ ميدانا واحدا لبنات الذهب والفضة وأن يجعلوا حول الميدان حائطا مشرفها من الذهب والفضة ففعلوا ثم قال أي الدواب أحسن مما رأيتم في البحر والبر ؟ قالوا يا نبي الله إنا رأينا دوابا في بحر كذا منقطعة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص قال علي بها الساعة فأتوا بها قال شددوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة وألقوا علوفها ثم قال للجن علي بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقام على يمين الميدان ويساره ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثله عن يساره فأمر الشياطين أن يصفوا صفوفا فراسخ عن يمينه ويساره فلما دنا القوم ونظروا إلى ملك سليمان ورأو الدواب التي لم تر أعينهم مثلها قط تروث على لبن الذهب والفضة تقاصرت أنفسهم ورموا ما معهم من الهدايا وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش لبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدير اللبنات التي معهم فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليا وكل الأرض معروضة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ففزعوا فقال لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والطير السباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان فنظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق قال ما وراءكم فأخبره رئيس القوم بما جاءوا به وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه فقال أين الحقة ؟ فأتى بها فحركها وجاءه جبرئيل فأخبره بما في الحقة فقال إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة مثقوبة معوجة الثقب فقال الرسول صدقت فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الخوزة فقال سليمان من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجن فلم يكن عندهم علم بذلك ثم سأل الشياطين فقالوا ترسل إلى الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلته فيها حتى خرجت من الجانب الأخر فقال لها ما حاجتك ؟ فقال تصير رزقي في الشجرة فقال لك ذلك وروي أنها جاءت دودة في الصفصاف فقالت أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف فجعل لها ذلك فأخذت الخيط في فيها ودخلت في الثقب وخرجت من الجانب الآخر فقال سليمان ما حاجتك قالت أن يجعل رزقي في الفواكه قال لك ذلك ثم ميزه بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيدهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعل على اليد الأخرى ثم تضرب بها الوجه والغلام كما يأخذ من الآنية يضرب به وجهه وكانت الجارية تصب على باطن ساعدها والغلام على ظهر الساعد وكانت الجارية تصب صبا وكان الغلام يحدر الماء على يده حدرا فميز بينهن ثم رد سليمان الهدية كما قال الله عز وجل هذا ما ذكره البغوي وهو مأخوذ من روايات مختلفة اخرج بعضها ابن أبي حاتم عن السدي وبعضها ابن المنذر وابن أبي حاتم عن يزيد بن رومان.
﴿ فلما جاء سليمان ﴾ الرسول أو ما أهدت إليه ﴿ قال أتمدونن ﴾ قرأ حمزة ويعقوب ﴿ تمدوني ﴾ بنون واحدة مشددة وإثبات ياء المتكلم في الحالين والباقون بنونين خفيفتين وأثبت ابن كثير الياء في الحالين وأثبتها في الوصل فقط نافع وأبو عمرو والباقون يحذفونها في الحالين ﴿ بمال ﴾ تنوين مال للتحقير والخطاب للرسول ومن معه أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب والاستفهام للإنكار يعني لا حاجة لي وإلى إمدادكم إياي بالهدية ولا وقع لها عندي ﴿ فما آتان الله ﴾ من الدين والنبوة والحكمة والملك لا مزيد عليه قرأ قالون وحفص وأبو عمرو بخلاف عنهم بإثبات الباء مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف وورش بالياء المفتوحة وصلا وحذفها وقفا والباقون بحذف الياء في الحالين خير أي أفضل ﴿ مما آتاكم ﴾ تطيل الإنكار المذكور ﴿ بل أنتم بهديتكم تفرحون ﴾ لأنكم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فتفرحون بما أهديتم حبا لزيادة أموالكم أو بما تهدونه إلى غيركم افتخارا على أمثالكم إضراب عن مفهوم ما سبق من الإنكار يعني لا أفرح بل أنتم تفرحون وبيان لما حملهم عليه وهو قياس حاله على حالهم في قصور الهمة بالدنيا والزيادة فيها
ثم قال للمنذر بن عمرو ﴿ ارجع إليهم ﴾ ويعني إلى بلقيس وقومها ﴿ فلنأتينهم ﴾ جواب قسم محذوف والفاء للسببية ﴿ بجنود لا قبل ﴾ لا طاقة ﴿ لهم بها ﴾ أي مقاومتها الجملة صفة لجنود﴿ ولنخرجنهم منها ﴾ أي من أرضهم ﴿ أذلة وهم صاغرون ﴾ أي ذ ليلون تأكيد لقوله ﴿ أذلة ﴾ وقيل أذلة ضد أعزة وذلك بذهاب عزهم وملكهم والصغار وقوعهم في الأسر يعني لنخرجنهم منها إن لم يأتوني مسلمين.
قال وهب وغيره أنه لما رجع رسل بلقيس من عند سليمان قالت قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به من طاقة فبعثت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر إليك وما تدعوننا إليه من دينك ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعضها أو في قصر من سبع قصور لها ثم أغلفت دونه الأبواب ووكلت به حرسا يحفظونه ثم قالت لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما في قلبك وسرير ملكي لا يخلص إليه أحد ولا يرينه حتى آتيك ثم أمرت مناديا ينادي في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من مملوك اليمن تحت يدي كل قيل ألوف كثيرة قال ابن عباس كان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدئ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فخرج يومه فجلس على سرير مملكته فرأى رهجا قريبا منه فقال ما هذا ؟ قالوا بلقيس قد نزلت منها بهذا المكان وكان على مسيرة فرسخ من سليمان قال ابن عباس وكان بين الحيرة والكوفة قدر فرسخ فأقبل سليمان حينئذ على جنوده ﴿ وقال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها ﴾ أراد ذلك أن يريها قدرة الله وعظم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها ويختبر عقلها بأن ينكر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره ﴿ قبل أن يأتوني مسلمين ﴾ فإنها إذا أتت مسلمة لم يحل أخذه إلا برضاها.
﴿ قال عفريت ﴾ قال الضحاك هو الخبيث وقال الفراء هو القوي الشديد قال ابن قتيبة العفريت الموثق الخلق وأصله من العفر أي التراب يقال عافره إذا صارعه فألقاه على العافر أي التراب ﴿ من الجن ﴾ قال وهب إسمه لؤذي وقيل ذكمان وقيل صخر الجني وكان بمنزلة الجبل يضع قدمه عند منتهى طرف ﴿ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ﴾ أي مجلسك الذي تقضي فيه قال ابن عباس له كل غداة مجلس يقضي فيه إلى نصف النهار ﴿ وإني عليه ﴾ على حمله ﴿ لقوي أمين ﴾ على ما فيه من الجواهر هذه الجملة حال من فاعل آتيك
قال سليمان أنا أريد أسرع من هذا ﴿ قال الذي عنده علم من الكتاب ﴾ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن لهيعة أنه خضر وقال بعضهم هو جبرئيل عليه السلام وقيل هو ملك من الملائكة أيد الله به نبيه سليمان عليه السلام وقال أكثر المفسرين هو أصف بن برخيا وكان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي روى جرير ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس أن آصف قال لسليمان حين صلى مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد سليمان عينيه فنظر نحو اليمن ودعا آصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير تحت الأرض تخد خدا حتى تخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان وقال الكلبي خر آصف ساجدا فدعا باسم الله الأعظم فمال عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان قيل كانت مقدار شهرين واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف فقال مجاهد ومقاتل يا ذا الجلال والإكرام وقال الكلبي يا حي يا قيوم وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها وروي عن الزهري قال دعاء الذي عنده علم الكتاب يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها وقد بحثنا عن اسم الله الأعظم في صدر سورة آل عمران وقول الزهري يوافق ما اخترت وقال محمد بن المنكدر الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان عليه السلام نفسه آتاه الله علما وفهما فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وإن هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب في ﴿ أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ﴾ للعفريت كأنه أراد إظهار معجزة فتحداهم أولا فلما قال عفريت ما قال استبطأه فقال له ذلك وأراد به أنه يتأتى له ما لا يتهيأ لعفاريت من الجن فضلا عن غيرهم والمراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة أو اللوح وآتيك في الموضعين صالح للفعلية والاسمية والطرف تحريك الأجفان للنظر ولما كان الناظر يوصف بإرسال الطرف وصف برد الطرف والطرف بالإرتداد والمعنى أنك ترسل طرفك نحو شيء فقبل أن ترده أحضر عرشها وهذا غاية الإسراع ومثل فيه.
﴿ فلما رآه ﴾ سليمان معطوف على محذوف تقديره فأمره سليمان بالإتيان بالسرير فدعا باسم الله الأعظم فمال عرشها تحت الأرض فنبع عند سرير سليمان فلما رآه ﴿ مستقرا عنده قال ﴾ شكرا للنعمة كما هو دأب المخلصين من عباد الله ﴿ هذا ﴾أي التمكن من إحضار العرش في مدة ارتداد الطرف من مسيرة شهرين بنفسه أو غيره ﴿ من فضل ربي ﴾ أي بعض أفضاله على ﴿ ليبلوني ﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها أي فضل على لأجل ابتلائي ﴿ أشكر ﴾ نعمة فأراه فضلا من الله من غير حول ولا قوة وأقوم بحقه ﴿ أم أكفر ﴾ بأن أجد نفسي أهلا لها أو أقصر في أداء موجبه ومحلهما النصب على البدل من الضمير المنصوب في ليبلوني ﴿ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ﴾ لأنه به يستحب دوام النعمة ومزيدها فإن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة وبه يفرغ ذمته عن الواجب ويرتفع درجته عند الله تعالى ويستحق أجرا في دار الجزاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر " ١ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة ورواه أحمد وابن ماجه بسند صحيح عن سنان بن سنة بلفظ " الطاعن الشاكر له مثل أجر الصائم الصابر ".
﴿ ومن كفر فإن ربي غني ﴾ عن شكره ﴿ كريم ﴾ ينعم على الشاكر والكافر جواب الشرط محذوف أقيم دليله مقامه تقديره ومن كفر فلا يضر ربي لأنه غني كريم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٤٨٦) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الصيام باب: فيمن قال الطاعم الشاكر كالصائم الصابر (١٧٦٤)..
﴿ قال ﴾ سليمان ﴿ نكروا ﴾ أي لبلقيس ﴿ عرشها ﴾ يعني اجعلوه بحيث لا تعرفها إذا رأت روى أنه جعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله وجعل مكان الجوهر الأحمر الأخضر ومكان الأخضر الأحمر ﴿ تنظر ﴾ مجذوم على جواب الأمر ﴿ أتهتدي ﴾ إلى معرفته او للجواب الصواب ﴿ أم تكون من الذين لا يهتدون ﴾ وإنما حمل سليمان على ذلك ( على ما ذ كره كعب ووهب وغيرهما ) أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن لان أمها كانت جنية وإذا ولدت ولدا لا ينفكون من تسخير ولده وذريته من بعده فأساءوا الثناء عليها ليزهدوه فيها وقالوا إن في عقلها شيئا وإن رجليها كحافر الحمار وإنها شعراء الساقين فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدمها ببناء الصرح.
﴿ فلما جاءت ﴾ عطف على قوله ﴿ فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال ﴾ ١ وما بينهما معترضات ﴿ قيل ﴾ لها ﴿ أهكذا عرشك ﴾ شبه الأمر عليها زيادة في امتحان عقلها ﴿ قالت كأنه هو ﴾ قال مقاتل عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها وقيل اشتبه الأمر عليها فلم تقل نعم ولا لا خوفا من الكذب فعرف سليمان عقلها حيث لم تقر ولم تنكر وقيل لها فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب والحرس فقالت ﴿ وأوتينا العلم ﴾ بكمال قدرة الملك وصحة نبوة سليمان ﴿ من قبلها ﴾ أي قبل آية العرش بآيات أخر من إلقاء هدهد الكتاب وأمر الهدية والرسل وقيل إنه من كلام سليمان عليه السلام وقومه عطفه على جوابها لما فيه من الدلالة على إيمانها بالله تعالى ورسله جوزت أن يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا وإحضاره ثمة من المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله ولا يظهر إلا على أيدي الأنبياء عليهم السلام والمعنى وأوتينا العلم بالله تعالى وقدرته وصحة ما جاء من عنده قبلها ﴿ وكنا مسلمين ﴾ منقاد ين لحكمه لم نزل على دينه ويكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم الله عليهم من التقدم في ذلك شكرا له وقيل معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله عز وجل
١ سورة النمل الآية: ٣٦..
﴿ وصدها ﴾ أي منعها سليمان عليه السلام ﴿ ما كانت تعبد من دون الله ﴾ يعني عن عبادة الشمس فما في محل النصب بحذف حرف الجر وإيصال الفعل إليه وقيل ما في محل الرفع والمعنى وصدها عن التوحيد ﴿ ما كانت تعبد من دون الله ﴾ لا نقصان عقلها كما قالت الجن أن في عقلها شيئا ﴿ إنها كانت من قوم كافرين ﴾ إستئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم تعبد الشمس فنشأت فيهم ولم تعرف إلا عبادة الشمس.
ثم أراد سليمان أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفها لما قالت الشياطين أن رجليها كحافر الحمار وهي شعراء الساقين فأمر الشياطين أن يبنوا له صرحا أي قصرا من زجاج وقيل بيتا من زجاج كأنه الماء بياضا وقيل الصرح صحن الدار والحضري تحته الماء وألقي فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما ثم وضع سريره على صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والإنس والجن وقيل اتخذ صحنا من قوارير وجعل تحتها تماثيل الحيطان والضفادع فكان إذا رآه أحد ظنه الماء فلما جلس على السرير دعا بلقيس فلما جاءت ﴿ قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته ﴾ عطف على محذوف تقديره فد خلته يعني من الباب ورأته أي الصرح بلا حجاب قبل ورودها فلما رأته ﴿ حسبته لجة ﴾ من ماء ﴿ وكشفت عن ساقيها ﴾ لتخوضه قرأ قنبل عن ساقيها هاهنا وفي ص بالسؤق وفي الفتح على سؤقه بالهمزة في الثلاثة. والباقون بغير همزة أخرج ابن أبي شبية وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم في حديث طويل عن ابن عباس أن سليمان أمر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صد ره فجلس عليه فلما أبصرته ظنته ماء راكدا فكشفت عن ساقيها لتخوضه وتخلص إلى سليمان فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما إلا أنها شعراء الساقين فلما رأى سليمان ذلك صر بصره عنها ومن هاهنا يظهر أن النظر إلى الأجنبية على إرادة خطبة النكاح جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل " ١ رواه أبو داود عن جابر وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي عن مغيرة بن شعبة قال خطبت امرأة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نظرت إليها ؟ قلت لا قال :" فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " ٢ ﴿ قال إنه صرح ممرد ﴾ أي مملس ومنه الأمرد ﴿ من قوارير ﴾ من زجاج ﴿ قالت ﴾ حين رأت المعجزة من سليمان ﴿ رب إني ظلمت نفسي ﴾ بالكفر وعبادة الشمس فتبت عنه الآن ﴿ وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾ أي أخلصت له التوحيد وقيل أنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت في نفسها أن سليمان يريد أن يغرقها وكان القتل أهون من هذا فقالت إني ظلمت نفسي بذلك الظن لسليمان عليه السلام فتبت عنه وأسلمت.
واختلفوا في أمرها بعد إسلامها ؟ فقال عون بن عبد الله سأل رجل عبد الله بن عيينة هل تزوجها سليمان قال إنتهى أمرها على قولها :" وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " يعني لا علم لنا وراء ذلك وقال بعضهم تزوجها أخرجه ابن عساكر عن عكرمة، ولما أراد أن يتزوجها كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها فسأل الإنس ما يذهب هذا ؟ قالوا الموسى فقالت المرأة لم تمسني حديدة قط فكره سليمان الموسى وقال إنه يقطع فسأل الجن فقالوا لا ندري ثم سأل الشياطين فقالوا إنا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ فلما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا فأقرها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا وهي سلحون وسنون وعمدان ثم كان سليمان يزورها كل شهر مرة بعد أن ردها إلى ملكها يقيم عندها ثلاثة أيام يبتكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام وولد له منها ذكر وروى عن وهب قال زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلا من قومك أزوجكه قالت ومثلي يا نبي الله تنكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان قال نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك فقالت زوجني إن كان لا بد ذلك من ذي تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ودعا رديعه أمير جن اليمن فقال إعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم تزل ملكا يعمل له فيه ما أراد حتى مات سليمان فلما أن حال الحول وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجن إن ملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان قلت : نظر سليمان إلى ساق بلقيس يؤيد قول من قال أنه نكحها ويأبى قول من قال أنه أنكحها ذا تبع والله أعلم قيل إن الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاث عشر سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة سبحان الله من لا زوال لملكه شعر :
لا ملك سليمان ولا بلقيس*** لا آدم في الكون ولا إبليس
والكل فصورة وأنت المعنى*** يا من هو للقلوب مغناطيس
والله أعلم.
١ أخرجه أبو داود في كتاب: باب: في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها (٢٠٨٣)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: النكاح باب: ما جاء في النظر إلى المحطوبة (١٠٨١) وأخرجه النسائي في كتاب: النكاح باب: إباحة النظر قبل التزويج (٣٢٢٦) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: النكاح باب: النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها (١٨٦٥)..
﴿ ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا ﴾ جواب قسم محذوف وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا داود وسليمان ﴾ ١ وقوله صالحا بدل من أخاهم ﴿ أن ﴾ مفسرة لأرسلنا أو مصدرية بتقدير الباء أي بأن ﴿ أعبدوا الله ﴾ وحده ﴿ فإذا هم ﴾ مبتدأ خبره ﴿ فريقان يختصمون ﴾ صفة لفريقين أي ففاجرا التفرق والإختصام فآمن فريق وكفر فريق والواو في يختصمون لمجموع الفريقين قال اختصامهم ما ذكر في سورة الأعراف ﴿ قال الذين استكبروا من قومه للذين استضغفوا ﴾ إلى قوله ﴿ إن كنت من المرسلين ﴾٢
١ سورة النمل الآية: ١٥..
٢ سورة الأعراف الآية: ٧٥-٧٧..
﴿ قال ﴾ لهم صالح ﴿ يا قوم لم تستعجلون بالسيئة ﴾ أي بالعقوبة حيث تقولون ﴿ يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ﴾ ١ ﴿ قبل الحسنة ﴾ أي قبل التوبة حيث تؤخرونها إلى نزول العذاب الإستفهام للإنكار والتوبيخ ﴿ لولا تستغفرون الله ﴾ بالتوبة من كفركم قبل نزول العذاب ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ أي لكي ترحموا بقبولها فإنها لا تقبل بعدما ترون العذاب
١ سورة الأعراف الآية: ٧٧.
﴿ قالوا اطيرنا بك وبمن معك ﴾ أي تشاءمنا بكم إذ وقع بيننا الافتراق حين إخترعتم دينا أو تتابع علينا الشدائد وأمسك عنا المطر قالوا هذه الضراء والشدة من شؤمك وشؤم أصحابك ﴿ قال طائركم ﴾ أي شؤمكم يعني سبب شؤمكم الذي جاء منه شر ﴿ عند الله ﴾ وهو قضاؤه أو عملكم المكتوب عنده سمى القضاء طائرا لسرعة نزوله بالإنسان فإنه لاشيء أسرع من قضاء مختوم وسمى العمل طائرا لسرعة صعوده إلى السماء وقال ابن عباس طائركم عبد الله يعني شؤمكم أتاكم من عند الله لكفركم وقيل سمي الشؤم طائرا لان أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون بصوت الطائر ومروره على نهج معين معروف عندهم إذا سافروا المستعير لفظ الطائر للشؤم لذلك العرف ﴿ بل أنتم قوم تفتنون ﴾ إضراب عن مفهوم الكلام السابق يعني ليس طائركم مني ومن أصحابي ﴿ بل انتم تفتنون ﴾ أي تعذبون بكفركم كذا قال محمد بن كعب وقال ابن عباس تختبرون بالخير والشر نظيره قوله تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾١.
١ سورة الأنبياء الآية الآية: ٣٥..
﴿ وكان في المدينة ﴾ أي مدينة ثمود وهي الحجر ﴿ تسعة رهط ﴾ أي تسعة أنفس وقع الرهط تمييزا للتسعة باعتبار المعنى فإن معناه الجماعة من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة كما أن النفر من الثلاثة على التسعة يفسدون في الأرض خبر لكان واسمه ﴿ تسعة رهط وفي المدينة ﴾ حال منه أو ظرف ﴿ ولا يصلحون ﴾ يعني كان شأنهم الإفساد الخالص عن شوب الصلاح وهم أبناء أشرافهم الذين اتفقوا على عقر الناقة وهم غواة قوم صالح وأشقياؤهم وأشقاهم قدار بن سالف وهو الذي تولى عقرها
﴿ قالوا ﴾ استئناف أو حال بتقدير قد يعني قال بعضهم لبعض ﴿ تقاسموا ﴾ يعني تحالفوا ﴿ بالله ﴾ هو أمر مقولة قالوا أو فعل ماضي وقع بدلا من قالوا أو حال بإضمار قدمن فاعل قالوا ﴿ لنبيتنه ﴾ أي لنقتلن صالحا بياتا أي ليلا ﴿ وأهله ﴾ أي قومه الذين أسلموا به ﴿ ثم لنقولن ﴾ قرأ الأعمش وحمزة والكسائي ﴿ لتبيته ولتقولن ﴾ بالتاء للخطاب فيما بينهم فيهما وضم التاء الثانية في الأولى وضم اللام في الثانية لدلالتها على الواو المحذوفة للجمع والباقون بالنون للتكلم وفتح التاء واللام ﴿ لوليه ﴾ لولي دمه ﴿ ما شهدنا ﴾ أي ما حضرنا ﴿ مهلك أهله ﴾ قرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام من الإهلاك يحتمل المصدر والزمان والمكان وكذا على قراءة حفص بفتح الميم وكسر اللام من الهلاك فإن مفعلا قد جاء مصدرا كمرجع وقرأ أبو بكر بالفتح فيكون مصدرا ﴿ وإنا لصادقون ﴾ يعني ونحلف أو والحال إنا لصادقون فيما ذ كر لان الشاهد للشيء غير المباشر له عرفا أو لأنا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم كقولك ما رأيت ثم رجلا بل رجلين.
﴿ ومكروا مكرا ﴾ أي غدروا غدرا حيث قصدوا تبييت صالح ﴿ ومكرنا مكرا ﴾ بأن جعلناها سببا لإهلاكهم ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ حال من فاعل مكرنا
﴿ فانظر كيف كان عاقبة مكرهم ﴾ عاقبة اسم كان وكيف خبره مقدم عليه لصدارته والإستفهام للتعجب والجملة الاستفهامية بتأويل المفرد مفعول لأنظر ﴿ أنا دمرناهم ﴾ قرأ الكوفيون ويعقوب أنا بفتح الهمزة على انه خبر بمتدأ محذوف أو بدل من اسم كان خبر له وكيف حال أو التقدير لانا دمرناهم والباقون بكسر الهمزة على الاستئناف وعلى هذا إن كان ناقصة فخبرها كيف وإن كان تامة فكيف حال ولا يجوز أن يكون أنا دمرناهم خبر كان لعدم العائد. اختلفوا في كيفية إهلاكهم ؟ قال ابن عباس أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلهم وقال مقاتل حبسوا في سفح الجبل ينتظرون بعضهم ليأتوا دار صالح فجثم عليهم الجبل فأهلكهم الله تعالى أخرج عبد الرزاق وعيد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال مكر الله بهم رماهم بصخرة فأخذتهم ﴿ وقومهم أجمعين ﴾ أهلكهم الله بالصيحة
﴿ فتلك بيوتهم خاوية ﴾ أي خالية من خوى البطن إذا خلا أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط منصوب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة ﴿ بما ظلموا ﴾ أي خاوية بسبب كفرهم وظلمهم ﴿ إن في ذلك ﴾ أي فيما فعل بثمود ﴿ لآية ﴾ على كمال قدرتنا وصدق الأنبياء ﴿ لقوم يعلمون ﴾ فيتعطون به.
﴿ وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون٥٣ ﴾ الكفر والمعاصي وهم صالح ومن معه وكانوا أربعة آلاف
﴿ ولوطا ﴾ منصوب بفعل مضمر يدل عليه قوله ﴿ لقد أرسلنا إلى ثمود ﴾ تقديره وأرسلنا لوطا وجاز أن يكون منصوبا باذكر ﴿ إذ قال لقومه ﴾ ظرف لفعل مقدر وهو أذكر أو متعلق بأرسلنا على تقدير كونه عاملا في لوطا أو بدل من لوط على تقدير كونه منصوبا باذكر ﴿ أتأتون الفاحشة ﴾ أي الفعلة البالغة في القبح الاستفهام للإنكار والتوبيخ وكذا الاستفهام الثاني ﴿ وانتم تبصرون ﴾ أي تعلمون فحشها من بصر القبائح مع أن اقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح وقيل معناه ويبصر بعضكم بعضا فإنهم كانوا يعلنون بها ويفعلونها بمشهد القوم فيكون أفحش أو المعنى وانتم تبصرون آثار من قبلكم يعلنون بها ويفعلونها بمشهد القوم فيكون أفحش أو المعنى أنتم تبصرون آثار من قبلكم من العصاة وما نزل بهم
﴿ أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء ﴾ اللائي خلقن لذلك بيان لإتيانهم الفاحشة وشهوة منصوب على العلية للدلالة على قبحه والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل لاقتضاء الشهوة ﴿ بل أنتم قوم تجهلون ﴾ أي تفعلون فعل من يجهل بقبحها أو يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبح أو تجهلون العاقبة والتاء في تجهلون كلون الموصوف به في معنى الخطاب قيل اجتمع هاهنا الخطاب بقوله أنتم والغيبة بقوله قوم فغلب الخطاب على الغيبة وهذه الآيات تدل على أن حسن الأفعال وقبحها ثابتة لها في أنفسها قبل ورود الشرع وإن كانت معرفة بعضها متوقفة على الشرع
﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ﴾ أي يتنزهون عن أفعالنا أو عن الأقذار وجملة إنهم أناس في مقام التعليل للإخراج
﴿ فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها ﴾ أي قدرنا كونها ﴿ من الغابرين ﴾ أي الباقين في العذاب ﴿ وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ﴾.
﴿ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ﴾ أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بعدما قص عليه القصص الدالة على كمال قدرته وعظمة شأنه وما خص به رسله من الآيات والتشريفات أن يحمد الله على إهلاك الكفار من الأمم الخالية وعلى جميع نعمه وعلى إعلامه ما جهل من أحوالهم وان يسلم على من اصطفاه من عباده عرفانا بفضلهم وحق تقدمهم واجتهادهم في الدين وقوله ﴿ الذين اصطفى ﴾ قال مقاتل هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى :﴿ وسلام على المرسلين١٨١ ﴾ ١ وقال ابن عباس في رواية مالك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن سفيان الثوري أنها نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال الكلبي هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ﴾٢ الآية وقيل هم المؤمنون كلهم السابقون واللاحقون وقيل هذا من تمام قصة لوط عليه السلام وخطاب للوط عليه السلام بتقدير القول يعني وقلنا له قل الحمد لله الخ أمره بأنه يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة من الهلاك أو على محمد وأمته فإن ما وصل بالأنبياء والأمم من الكرامات ودفع البليات كان ببركة نوره صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كنت أول الناس في الخلق وآخرهم في البعث " رواه أبو سعد عن قتادة مرسلا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد " رواه ابن سعد بسند صحيح عن ميسرة بن سعد عن أبي الجدعاء والطبراني عن ابن عباس ﴿ آلله خير أما يشركون ﴾ متصل بما سبق في صدر السورة ﴿ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ على قوله ﴿ هم الأخسرون ﴾ وهذا إلزام وتهكم بهم وتسفيه لرأيهم بعدما ذكر من القصص الدالة على قدرته تعالى على إكرام عباده الصالحين وكبت أعدائه يعني من هذا شأنه هو مستحق للعبادة والخوف والرجاء خير من غيره أما يشركون من الأصنام وغيرها مما لا يضر ولا ينفع ضره أقرب من نفعه خير من الله القادر القاهر لمن يعبد. قرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب يشركون بالياء التحتانية على الغيبة والباقون بالتاء الفوقانية خطابا بالأهل مكة.
١ سورة الصافات الآية: ١٨١..
٢ سورة فاطر الآية: ٣٢..
﴿ أمن خلق السموات والأرض ﴾ أم متصلة وما عطف عليه بأم محذوف تقديره آلهتكم التي لم يخلقوا شيئا وهم يخلقون خير أم من خلق وقيل منقطعة بمعنى بل والهمزة قيل للإضراب عن الاستفهام السابق لبداهة كون الله تعالى مبدأ لكل خير وعدم الخيرية رأسا فيما أشركوه فكيف يكمن الموازنة والاستفهام عنه والهمزة للتقرير أي حمل المخاطب على الإقرار بخيرية من خلق السماوات والأرض ﴿ وأنزل لكم ﴾ أي لأجل انتفاعكم ﴿ من السماء ماء فانبتنا به حدائق ﴾ أي بساتين جمع حديقة قال الفراء الحديقة البستان المحاط عليها فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة قال البيضاوي من الإحداق وهو الإحاطة ﴿ ذات بهجة ﴾ أي حسن المنظر يبتهج به صفة لحدائق وإفراد بهجة لتأويل حدائق بجماعة حدائق وفي الكلام التفات من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته تعالى والتنبيه على أن إثبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطبائع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما صرح بقوله ﴿ ما كان ﴾ أي ما يمكن ﴿ لكم أن تنبتوا شجرها ﴾ أي شجرة من أشجا رها والإضافة للجنس والجملة ما كان لكم الخ صفة لحدائق ﴿ أإله مع الله ﴾ أعانه على ذلك الاستفهام للإنكار يعني ليس أحد أعانه على ذلك فلا مستحق للعبادة غيره معه لانفراده بالخلق ﴿ بل هم ﴾ يعني كفار مكة ﴿ قوم يعدلون ﴾ من لا يخلق بمن يخلق فيشركون به أو المعنى بل هم قوم يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة.
﴿ أمن جعل الأرض قرارا ﴾ بدل من ﴿ أمن خلق السماوات ﴾ الخ والكلام في أم في هذا وفي ما بعدها مثل ما سبق وجعلها قرارا إبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يمكن الاستقرار عليها ﴿ وجعل خلالها ﴾ وسطها ظرف مستقر وقع ثاني مفعول جعل وكذا في الجملة التاليتين ﴿ أنهارا ﴾ جارية ﴿ وجعل لها ﴾ أي للأرض ﴿ رواسي ﴾ جبالا ثابتة منعها من الحركة وأنبع منها الأنهار ﴿ وجعل بين البحرين ﴾ العذب والملح ﴿ حاجزا ﴾ مانعا من الاختلاط ﴿ ء إله مع الله ﴾ ليس كذلك ﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ أنه لا إله إلا هو لإهمالهم النظر الصحيح مع الأدلة القاطعة فيشركون به جهلا وبعضهم يعلمون ذلك ولكن يمكرونه تعنتا وعنادا.
﴿ أمن يجيب المضطر ﴾ اسم فاعل من الاضطرار وهو افتعال من الضر يعني من إبتلى بضر أحوجه شدته إلى إلجاء إلى الله تعالى يجيبه ﴿ إذا دعاه ﴾ بفضله إن شاء فإن اللام في المضطر للجنس دون الاستغراق فلا يلزم منه إجابة كل مضطر ﴿ ويكشف ﴾ أي يدفع ﴿ السوء ﴾ الذي ألجأه إلى الدعاء ﴿ ويجعلكم ﴾ عطف على يجيب ﴿ خلفاء الأرض ﴾ أي خلفاء من قبلكم في الأرض بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها أو سلطانها وقيل يعني جعلكم خلفاء الجن في الأرض قلت ويمكن أن يقال معناه جعل منكم خلفاء الله تعالى في أرضه بدليل قوله تعالى :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾١ ﴿ ءإله مع الله ﴾ الذي خلقكم بهذه النعم العامة والخاصة يعني ليس كذلك ﴿ قليلا ما تذكرون ﴾ إلا الله ما مزيدة وقليلا منصوب بتذكرون على المصدرية أو على الظرفية والمراد بالقلة العدم أو الحقارة المريحة للفائدة قرأ أبو عمرو وهشام يذكرون بالياء للغيبة والباقون بالتاء للخطاب وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال والباقون بتشديدها.
١ سورة البقرة الآية: ٣٠..
﴿ أمن يهديكم ﴾ بالنجوم وعلامات الأرض ﴿ في ظلمات البر والبحر ﴾ إذا سافرتم في الليالي أضاف الظلمات إلى البحر والبر للملابسة ﴿ ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ﴾ يعني المطر ﴿ أإله مع الله ﴾ يقدر مثل ذلك ﴿ تعالى الله ﴾ القادر الخالق ﴿ عما يشركون ﴾ عن إشراك العاجز المخلوق.
﴿ أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾ بعد الإماتة والكفار وإن أنكروا الإعادة فهم محجوبون بالحجج الدالة عليها من النقل المشهود عليه بالمعجزات مع إمكانها عقلا ﴿ ومن يرزقكم من السماء والأرض ﴾ أي من أسباب سماوية أرضية ﴿ أإله مع الله ﴾ يقدر على ذلك ﴿ قل هاتوا برهانكم ﴾ على أن مع الله إلها آخر يقدر على شيء من ذلك ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في الإشراك فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية.
قال البغوي ولما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة نزلت ﴿ قل ﴾ يا محمد في جوابهم ﴿ لا يعلم من في السموات والأرض ﴾ من الملائكة ﴿ ومن في الأرض ﴾ من الجن والإنس ومنهم الأنبياء عليهم السلام من موصول أو موصوف ﴿ الغيب ﴾ يعني ما غاب عن مشاعرهم ولم يقم عليه دليل عقلي ﴿ إلا الله ﴾ لكن الله يعلم ما غاب عنهم وغيره تعالى لا يعلم إلا بإعلامه فالاستثناء منقطع لأنه تعالى منزه عن الاستقرار في السماوات والأرض ورفعه على لغة بني تميم فإنهم يجيزون النصب والمبدل في المنقطه كما في المتصل وعليه قول الشاعر شعر :
وبلدة ليس بها أنيس*** إلا اليعافير وإلا العيس
وقيل الاستثناء متصل ودخول المستثنى في المستثنى منه على سبيل فرض المحال وفرض المحال ليس بمحال وقال في البحر المواج المستثنى منه محذوف وفي الكلام حذف تقديره لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب لا يعلمه أحد إلا الله فهذه الجملة تعليل لنفي العلم قلت ويمكن أن يكون التقدير لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب بشيء إلا بالله أي بتعليمه ﴿ وما يشعرون أيان يبعثون ﴾ أي متى يحشرون يعني وقت حشرهم مما لا يدرك بالمشاعر فهو من الغيب الذي لا يمكن العلم به والاطلاع عليه إلا بتعليم من الله تعالى وأنه تعالى لم يطلع على ذلك أحدا بل استأثر علمه لنفسه فلا يتصور لهم العلم به وهذا تخصيص بعد تعميم وفائدته التأكيد ومطابقة الجواب السؤال وحتم احتمال التخصيص فإن قوله تعالى لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب يفيد نفي علمهم بالغيب وذلك مخصوص بما حصل لهم بتعليم من الله تعالى بتوسط الرسل.
﴿ بل أدرك ﴾ كذا قرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو بهمزة القطع على وزن أكرم من الأفعال أي بلغ ولحق ﴿ علمهم ﴾ فاعل لإدراك ﴿ في الآخرة ﴾ ظرف لإدراك والمفعول محذوف دل عليه ما سبق والمعنى أنهم لا يدركون وقت قيام الساعة في الدنيا قط بل يدرك علمهم ذلك في الآخرة إذا عاينوه أو المعنى بل أدرك علمهم اليوم بتعليم الرسل صلى الله عليه وسلم إياهم في شأن الآخرة ﴿ أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ﴾١ لكنهم لا يعلمون وقت مجيئها وقرأ الباقون بل أدرك أصله تدارك يعني تدارك وتكامل علمهم وحصل لهم اليوم بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الآخرة أو يحصل لهم العل بذلك إذا عاينوه يقال تدارك الفاكهة إذا تكاملت نضجا وحصول العلم القطعي للمؤمنين في الدنيا ظاهر وللكافرين باعتبار قيام الأدلة الموجبة للقطع مقامه ﴿ بل هم ﴾ يعني كفار مكة ﴿ في شك منها ﴾ أي من قيام الساعة بعد وجود ما يوجب القطع من إخبار الرسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات وقيل قوله بل أدارك على طريقة الاستفهام معناه هل تدارك وتتابع علمهم في الآخرة يعني لم يتتابع وضل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه لأن في الاستفهام ضربا من الجحد يدل هذا التأويل قراءة ابن عباس بلى بإثبات الألف المكتوب بصورة الياء أدارك بفتح الهمزة للاستفهام وسقوط همزة الوصل أي لم يدرك وفي قراءة أبي أم تدارك علمهم والعرب يضع بل موضع أم وأم موضع بل وذكر علي بن عيسى وإسحاق أن بل في بل أدارك بمعنى لو والمعنى لو أدركوا في الدنيا ما أدركوه في الآخرة لم يشكوا بل هم اليوم في شك من الساعة ﴿ بل هم منها ﴾ أي من الساعة ﴿ عمون ﴾ جمع عمى وهو عمى القلب نفى الله عنهم علم الغيب أولا ثم أكد ذلك بنفي شعورهم بما هو مالهم لا محالة ثم بالغ فيه بأن أضرب عنه وبين أن منتهى علمهم وما تكامل فيه أسباب العلم من الحجج والآيات مقصور على أن القيامة كائنة لا محالة وهم لا يعلمونها كما ينبغي ثم أضرب عنه وقال ﴿ بل هم في شك منها ﴾ بعد تكامل الأدلة كمن يتحير في أمر لا يجد عليه دليلا فهم لا يستطيعون إزالة الشك ثم أضرب عنه وقال بل هم في أمره حال منه فإنهم عمون لا يدركون د ليلهم لاختلال بصيرتهم وهذا إن اختص بالمشركين فمن في السماوات والأرض نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل وقيل الإضراب الأول عن نفي الشعوب بوقت القيامة عنهم بوضعهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكما وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم أدرك الثمرة لأنها تلك غايتها التي عندها يعدم وما بعدها إضراب عن علمهم بأمر الآخرة مبالغة في نفيه ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها ثم أضرب عنه وقال ﴿ هم منها عمون ﴾ ليس لهم صلاحية العلم أصلا.
١ سورة الحج الآية: ٧..
﴿ وقال الذين كفروا ﴾ عطف على مضمون قوله تعالى بل هم منها عمون وكالبيان له وضع المظهر هاهنا موضع الضمير ولم يقل وقالوا لكون ذكر الكافرين مجملا فيما سبق إذا قرأ نافع إذا بغير همزة الاستفهام على صيغة الخبر وهمزة الاستفهام على هذا مقدرة والباقون بهمزتين على الاستفهام ﴿ كنا ترابا وآباؤنا أئنا ﴾ قرأ ابن عامر والكسائي بنونين أحدهما للوقاية وبهمزة واحدة على صيغة الخبر وتقدير همزة الاستفهام والباقون بنون واحدة وهمزتين على الاستفهام وضمير ائنا راجع إليهم وإلى آبائهم غلبت الحكاية على الغائب ﴿ لمخرجون ﴾ من القبور أحياءا ومن حال الموت إلى الحياة وهذا كالبيان لعمههم والعامل في إذا محذوف دل عليه مخرجون تقديره أنخرج إذا كنا ترابا أنحن مخرجون حينئذ والاستفهام الإنكار والجملة الاستفهامية الثانية تأكيد للأولى تكرير للإنكار مبالغة له ولا يجوز أن يكون مخرجون عاملا في إذا لأن كلام من الهمزة وأن واللام مانعة من علمه فيما قبله
﴿ لقد وعدنا هذا ﴾ أي البعث جواب قسم محذوف ﴿ نحن ﴾ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وآباؤنا ﴾ على لسان غيره من الأنبياء ﴿ من قبل ﴾ وعد محمد صلى الله عليه وسلم وتقديم هذا على نحن هاهنا لان المقصود بالذكر هاهنا هو البعث وحيث أخر فالمقصود هو المبعوث ﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ يعني أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها كالأسمار
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ﴾ تهديد لهم على التكذيب وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم والتعبير عنهم بالمجرمين ليكون لطفا بالمؤمنين في ترك الجرائم
﴿ ولا تحزن ﴾ يا محمد ﴿ عليهم ﴾ أي على تكذيبهم وإعراضهم ﴿ ولا تك في ضيق ﴾ قرأ ابن كثير بكسر الضاد والباقون بالفتح وهما لغتان يعني لا تكن في ضيق صدر وغم ﴿ مما يمكرون ﴾ من للسببية وما مصدرية أي بسبب مكرهم قال البغوي نزلت في المستهزئين الذين عقاب مكة يعني أن الله بالغ أمرك إلى الكمال.
﴿ ويقولون ﴾ عطف على قال الذين كفروا وما بينهما معترضات ﴿ متى هذا الوعد ﴾ أي الموعود من العذاب ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أن العذاب نازل
﴿ قل عسى أن يكون ردف لكم ﴾ أي ردفكم واللام مزيدة للتأكيد يعني عسى أن يتبعكم ويلحقكم بلا مهلة بعض تنازع فيه الفعلان يكون وترون أعمل أحدهما وأضمر في الآخر ﴿ الذي تستعجلون ﴾ حلوله وهو عذاب يوم بدر قال البيضاوي عسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها وإنما يطلقونه إظهارا لوقا رهم وإشعارا بأن الرمزة منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيده وهذا المعنى قول من قال أن عسى ولعل في كلام الله واجبة الوقوع يعني وأما في الوعيد فيجوز العفو بشرط الإيمان وأما الكافر فلا يستحق العفو وقوله تعالى :﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى٤٤ ﴾١ ليس من هذا الباب ومن ثم لم يوجد من فرعون تذكر ولا خشية.
١ سورة طه الآية: ٤٤..
﴿ وإن ربك لذو فضل على الناس ﴾ فيغفر للمؤمن إن شاءوا لا يستعجل الكافر بالعذاب وكذلك لم يعجل على أهل مكة بالعذاب كذا قال مقاتل هذه الجملة إما حال أو معترضة ﴿ ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾ ولا يعرفون حق النعمة فيستعجلون العذاب مجملهم
﴿ وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم ﴾ أي ما تخفي صدور الناس ﴿ وما يعلنون ﴾ أي الناس من عداوتك فيجازيهم عليه وليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم وهذه الجملة معطوفة على عسى فإن عسى في كلام الله كالتحقق
﴿ وما من غائبة ﴾ اسم ما ومن زائدة أي ما من شيء غائب عن أبصار الناس وهي من الصفات الغالبة كالخافية والتاء فيهما للمبالغة كما في الرواية أو إسمان لما يغيب ويختفي فالتاء فيه كالتاء في عافية وعاقبة وقال البغوي هي صفة لمحذوف أي جملة غائبة من مكتوم سر وخفي أمر وشيء غائب كائنة ﴿ في السماء والأرض ﴾ ظرف لغو متعلق بغائبة ﴿ إلا في كتاب مبين ﴾ مستثنى مفرغ خبر ما أي بين أو مبين ما فيه لمن يطالعه وهو اللوح المحفوظ.
﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل ﴾ أي يبين لهم ﴿ أكثر الذي هم فيه يختلفون ﴾ من أمر الدين قال الكلبي إن أهل الكتاب اختلفوا بينهم وصاروا أحزابا يطعن بعضهم فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه هذه الجملة مع ما عطف عليه متصل بقوله تعالى :﴿ وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم٦ ﴾ ١ واقعة عنها مقام التعليل وما بينهما معترضات
١ سورة النمل الآية: ٦..
﴿ وإنه ﴾ أي القرآن ﴿ لهدى ورحمة للمؤمنين ﴾ فإنهم هم المنتفعون به دون الكفار من أهل الكتاب وغيرهم
﴿ إن ربك يقضي ﴾ أي يحكم ﴿ بينهم ﴾ أي بين المختلفين في أمر الدين يوم القيامة ﴿ بحكمه ﴾ متعلق بيقضي. فإن قيل قوله يقضي معناه يحكم فيكيف يتعلق به بحكمه فإنه نظير ينصره بنصره وذا ولا يجوز ؟ قلنا المراد الحكم هذا بمعنى المحكوم والمعنى يحكم بما حكم به في القرآن أو المراد بحكمته ﴿ وهو العزيز ﴾ الغالب الذي لا راد لقضائه ﴿ العليم ﴾ بحقيقة ما يقضى فيه وحكمته
﴿ فتوكل على الله ﴾ ولا تبال بمن عاداك متصل بقوله ﴿ إن ربك يقضي بينهم ﴾ ﴿ إنك على الحق المبين ﴾البين حقيقة علل التوكل بأنه على الحق الظاهر الذي لا مساغ فيه إشارة إلى أن صاحب الحق حقيق بالوثوق على الله ونصره
﴿ إنك لا تسمع الموتى ﴾ أي الكفار شبههم بالموتى لعدم الانتفاع لهم بتسامع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالأصم في قوله تعالى ﴿ ولا تسمع الصم الدعاء ﴾ والدعاء مفعول للفعلين على التنازع قرأ ابن كثير ﴿ لا يسمع ﴾ بالياء وفتحها وفتح الميم على صيغة الغائب من المجرد والصم بالرفع على الفاعلية وكذلك في سورة الروم والباقون بالتاء وضمها وكسر الميم على صيغة المخاطب من الاستماع ونصب الصم على المفعولية ﴿ إذا لوا مد برين ﴾ فإن قيل ما معنى لهذا القيد فإن الأصم الذي لا يسمع سواء عليه أن يولي أولا قيل ذكره على التأكيد والمبالغة وقيل الأصم إذا كان حاضرا قد يسمع برفع الصوت أو يفهم بالإشارة أو الكتابة فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم رأسا يعني أن الكفار لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت الذي لا سبيل إلى استماعه وكالأصم المدبر الذي لا سبيل إلى إفهامه قيل الظرف متعلق بالفعلين على سبيل التنازع ويرد عليه أن نسبة التولي إلى الأصم جائز وإلى الموتى لا يجوز فكيف يتصدى التنازع والجواب أن الموتى والأصم كلا منهما مستعار للكافر وهو من أهل التولي ويسمى هذا الاستعارة استعارة مجرورة وهي أن يوصف المستعار بوصف ملائم للمستعار له والله أعلم.
﴿ وما أنت بهادي العمى ﴾ قرأ الأعمش وحمزة هاهنا وفي الروم تهدي بالتاء المفتوحة وإسكان الهاء بغير ألف على صيغة المضارع والعمى بالنصب وإذا وقف أثبت ياء تهدي في السورتين والباقون بالياء المكسورة وصيغة اسم الفاعل مضافا والعمى بالياء وقفوا هاهنا بالياء وفي الروم بغير ياء إتباعا للمصحف ﴿ عن ضلالتهم ﴾ يعني ما أنت بمرشد من أعمى الله قلبه عن الإيمان ﴿ إن تسمع ﴾ يعني لا تسمع ولا ينفع إسماعك القرآن أحدا ﴿ إلا من يؤمن بآياتنا ﴾ يعني من قدرنا إيمانه ﴿ فهم مسلمون ﴾ مخلصون من أسلم وجهه لله.
﴿ وإذا وقع القول عليهم ﴾ يعني إذا دنا وقوع معنى ما قيل عليهم أي ما وعدوا به من البعث والعذاب ﴿ أخرجنا لهم دابة ﴾ قال البغوي روي عن علي رضي الله عنه ليس بدابة لها ذنب ولكن لها لحية كأنه يشير إلى أنه رجل والأكثر على أنها دابة ذات أربع قوائم أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال الدابة ذات وبر وريش مؤلفة فيها من كل لون لها أربع قوائم ثم يخرج بعقب من الحاج وروى عن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال رأسها رأس الثور وعينها عين الخنزير وأذنها أذن الفيل قرنها قرن إبل وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هرة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين إثني عشر ذراعا معها عصا موسى وخاتم سلميان فلا يبقى مؤمن إلا نكتت في مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء يضيء بها وجهه ولا يبقى كافر إلا نكتت وجهه بخاتم سليمان نكتة سوداء فيسود بها وجهه حتى أن الناس يتابعون في الأسواق بكم يا مؤمن بكم يا كافر ثم تقول لهم الدابة يا فلان أنت من أهل الجنة يا فلان أنت من أهل النار وذلك قول عز وجل ﴿ وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة ﴾ ﴿ من الأرض ﴾ متعلق بأخرجنا روى البغوي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال تخرج من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام ثلاثا وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال إن الدابة تسمع قرع عصاي وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض ما خرجتا فتمر بالإنسان يصلي فتقول ما الصلاة من حاجتك فتخطمه.
وذكر البغوي حديث أبي شريحة الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" تكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا باليمن فيفشو ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم بينا الناس يوما في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله عز وجل يعني المسجد كالحرام لم تر عنهم إلا هو في ناحية المسجد يدنو ويدنو كذا قال عمرو ما بين الركن الأسود على باب بني مخزوم في وسط من ذلك- فارفض الناس عنها وثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ثم دكت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى أن الرجل ليقوم فيعود منها بالصلاة فيأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فتقبل بوجهه وتسمه في وجهه فتجاوز الناس في ديارهم وتصطحبون في أسفارهم وتشتركون في الأموال ويعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر " عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة قلت يا رسول الله من أين تخرج ؟ قال :" من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى بينا عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وتنشق الصفا مما يلي المشرق وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدوا منها رأسها بلمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب وتسم الناس مؤمنا وكافرا أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري ونكتت بين عينيه مؤمن وأما الكافر فنكتت بين عينيه نكتة سوداء ونكتت بين عينيه كافر " رواه البغوي وكذا أخرج ابن جرير وروى البغوي عن سهل بن صالح عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" بئس الشعب شعب حناد مرتين أو ثلاثا قيل ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال : تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها بين الخافقين قال وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون ".
﴿ تكلمهم ﴾ صفة لدابة يعني تكلم الدابة الناس قال السدي تكلم ببطلان سائر الأديان سوى دين الإسلام وقال بعضهم كلامها أن تقول لواحد هذا مؤمن ولآخر هذا كافر كما مر في الأحاديث وقيل كلامها ما قال الله تعالى ﴿ إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ﴾ قال مقاتل تكلمهم بالعربية فتقول عن الله تعالى :﴿ إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ﴾ تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث. قرأ الكوفيون أن بالفتح وهو حكاية عن قول الدابة أو على تقدير الجار تقديره بأن أو حكاية قول الله الذي قيل عليه ودنا وقوعه أو علة خروجها على حذف اللام على قول غيره وقرأ الآخرون إن بالكسر على الإستئناف أي إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون قبل خروجها قيل أراد بآياتنا خروجها أي خروج دابة الأرض وسائر أشراط الساعة وأحوالها فإنها من آيات الله تعالى قال البغوي قرأ ابن جبير وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي تكلم بفتح التاء تخفيف اللام من الكلم بمعنى الجرح وقال ابن الحوراء سألت ابن عباس عن هذه الآية تكلمهم أو تكلمهم فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر قال ابن عمر رضي الله عنهما وذلك يعني خروج الدابة حين لا يؤمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يؤمن كافر بعد ذلك كما أوحى الله إلى نوح ﴿ إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ﴾ ١ قلت وهذا يستنبط من الأحاديث والآثار.

فصل :


عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" بادروا بالأعمال ستا الدخان والدجال ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة وخويصة أحدكم " ٢ رواه مسلم وعن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا " ٣ رواه مسلم وعن حذيفة بن أسد الغفار قال :" إطلع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون ؟ قالوا نذكر الساعة قال : إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم وفي رواية نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى الحشر وفي رواية " في العاشرة وريح يلقى الناس في البحر " رواه مسلم وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلوا وجه المؤمن بالعصا وتختم أنف الكافر بالخاتم حتى ان أهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا. . يا كافر " ٤ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل الدابة فيقال ممن اشتريت فيقول من الرجل المختم " رواه أحمد وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال تخرج الدابة ليلة جمع والناس يشيرون إلى منى وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يريه الدابة فخرجت ثلاث أيام ولياليهن يذهب في السماء لا يرى واحد من طرفيها قال فرأى منظرا فظيعا فقال رب ردها فردها قلت : والأحاديث المذكورة تدل على أن الدابة بين المؤمنين الصادقين في إيمانهم وبين المنافقين الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر والمراد بالكفر إما ضد الإسلام المجازي الذي قلوب أهاليهم غير مصدقة بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإما ضد الإسلام الحقيقي الذي قلوب أهاليهم وافقت ألسنتهم في التصديق لكن لم تؤمن نفوسهم ولم تطمئن فإن كان المراد بالكافر هذا المعنى فقول الدابة يا فلان أنت من أهل النار يراد به دخولها لا خلودها ولا يجوز أن يكون المراد بالكفر المجاهر بالكفر لان المجاهر بالكفر لم يبق بمكة بعد الفتح وأيضا المجاهر بالكفر ممتاز عن المسلمين قبل خروج الدابة لا حاجة في امتيازهم إلى الدابة والله أعلم.
١ سورة هود الآية: ٣٦..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة باب: في بقية من أحاديث الدجال (٢٩٤٧)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة باب: في خروج الدجال ومكثه في الأرض (٢٩٤١)..
٤ خرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة النمل (٣١٨٧).
﴿ ويوم نحشر ﴾ يعني يوم القيامة ﴿ من كل أمة فوجا ﴾ أي من كل قرن جماعة كلمة من هاهنا للتبعيض وفوجا مفعول لنحشر ومن كل أمة حال منه قلت وذلك حين يقول الله تعالى : لآدم أبعث بعث النار من ذريتك وقد مر الحديث في صدر سورة الحج ﴿ ممن يكذب بآياتنا ﴾ صفة الفوج ومن هاهنا للبيان أي فوجا مكذبين ﴿ فهم يوزعون ﴾ أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا قال البيضاوي هو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد أطرافهم
﴿ حتى ﴾ إبتدائية داخلة على الشرطية ﴿ إذا جاؤوا ﴾ إلى المحشر ﴿ قال ﴾ الله تعالى لهم :﴿ أكذبتم بآياتي ﴾ والاستفهام للتوبيخ ﴿ ولم تحيطوا بها علما ﴾ الواو للحال يعني أكذبتم بها بادئ الرأي غير ناظرين فيها نظرا يحيط علمكم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب أو للعطف يعني أجمعتم بين التكذيب بها وعدم النظر والتأمل في حقيقتها ﴿ أماذا كنتم تعملون ﴾ تقديره أم لم تكذبوا فإن لم تكذبوا فماذا كنتم يعني أي شيء كنتم تعملون غير التكذيب وهذا أيضا توبيخ وتبكيت إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون أن يقولوا فعلنا ذلك
﴿ ووقع القول عليهم ﴾ عطف على قال في حيز جزاء الشرط أي وجب عليهم العذاب الموعود لهم ﴿ بما ظلموا ﴾ أي بسبب ظلمهم أي تكذيبهم بآيات الله ﴿ فهم لا ينطقون ﴾ باعتذار إذ ليس لهم عذر في نفس الأمر أو لما لا يؤذن لهم فيعتذرون وقيل لا ينطقون لأن أفوالهم مختومة.
وقيل لا ينطقون لشغلهم بالعذاب والظاهر هو الأول يدل عليه قوله :﴿ ألم يروا ﴾ يعني كيف يعتذرون على الكفر بعد رؤية الأدلة الموجبة للإيمان والاستفهام للإنكار وإنكار النفي إثبات يعني قد رأوا ﴿ إنا جعلنا ﴾ أي خلقنا ﴿ الليل ليسكنوا فيه ﴾ بالنوم والقرار ﴿ والنهار مبصرا ﴾ كان أصله ليبصروا فيه فبولغ فيه بجعل الإبصار حالا من أحواله المجعول عليه بحيث لا ينفك عنه وجملة ﴿ إنا جعلنا ﴾ قائم مقام المفعولين لقوله :﴿ ألم يروا ﴾ فإن الرؤية بمعنى العلم يعني ألم يعلموا بتعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص نافع مناط لمصالح معاشهم ومعادهم إن لها خالقا حليما قادرا قاهرا.
وإن من كان قادرا على ذلك قادر على بعثة الرسل ليدعوا الخلق إلى عبادته وقادر على الإنعام والانتقام على إطاعته وعصيانه وقادر على إبدال الموت بالحياة كما هو قادر على إبدال الظلمة بالنور واليقظة بالنوم وقد دلت المعجزات على صدق الرسل وما جاءوا به ﴿ إن في ذلك ﴾ الأمور ﴿ لآيات ﴾ دالة على التوحيد وصدق الرسول فأي عذر للمكذب بعده وقيد ثبوت الآيات بقوله :﴿ لقوم يؤمنون ﴾ لأنهم هم المنتفعون بها قيل جملة ألم يروا إلى آخرها دليل للحشر فإن تعاقب اليقظة النوم يدل على جواز تعاقب الحياة الموت.
﴿ ويوم ينفخ في الصور ﴾ معطوف على قوله ﴿ ويوم نحشر ﴾ وعن ابن عمر أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور قال :" قرن ينفخ فيه " ١ رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم وعن ابن مسعود نحوه رواه مسدد بسند صحيح وعن زيد بن أرقم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وأحنى جبهته وأصغى بالسمع متى يؤمر فسمع بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل " ٢
وروى أحمد والحاكم والبيهقي والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه نحوه والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد نحوه وأبو نعيم عن جابر نحوه وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي سعيد الخذري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وهو صاحب الصور يعني إسرافيل " قال القرطبي علماء الأمة مجمعون على أن ينفخ في الصور إسرافيل ﴿ ففرع من في السماوات ﴾ من الملائكة وأرواح المؤمنين ﴿ ومن في الأرض ﴾ من الإنس اختلف العلماء في هذه النفخة هل هي الصعق أو غير ذلك فقيل النفخات ثلاث أولها نفخة الفزع تفزع منها الخلائق ثانيها نفخة الصعق تصعق أي تموت بها الخلائق ثالثتها نفخة البعث فهذه الآية تدل على نفخة الفزع.
وقوله تعالى :﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون٦٨ ﴾٣ تدل على نفخة الصعق ونفخة البعث وهذا اختيار ابن العربي وقد صرح بالنفخات الثلاث في حديث طويل لأبي هريرة وسنذكره من قريب وقيل هما نفختان فقط ونفخة الفزع هي نفخة الصعق قالوا الأمران متلازمان أي فزعوا فزعا ماتوا منه وهذا ما صححه القرطبي وأستدل بأنه استثنى من نفخة الفزع كما استثنى من نفخة الصعق حيث قال الله تعالى فيهما :﴿ إلا من يشاء الله ﴾فدل على أنهما واحد وهذا الاستدلال غير صحيح لأن الاستثناء منهما بقوله إلا ما شاء الله لا يدل على اتحاد النفختين ولا على إتحاد المستثنى فيهما وإن كان المستثنى منه في الكلامين واحد.
قال البغوي واختلفوا في هذا الاستثناء روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " سئل عن قوله تعالى :﴿ إلا ما شاء الله ﴾ قال :" هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم ".
ثم ذكر البغوي قول الكلبي ومقاتل وذكر الحديث كما سنذكر من بعد لكن قول البغوي بالاختلاف في هذه الآية مبني على اتحاد نفخة الفزع ونفخة الصعق والظاهر أنهما متغايران فلنذكر الأحاديث والآثار الواردة في الاستثناء.
روى أبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" سألت جبرئيل عن هذه الآية ﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ﴾ من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم ؟ قال : هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه " قالوا وإنما صح استثناء الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم قال البغوي : وفي بعض الآثار الشهداء ثنية الله عز وجل أي الذين استثناهم الله تعالى كذا روى هناد بن السري والبيهقي والنحاس في معاني القرآن عن سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ إلا من شاء الله ﴾ قال هم الشهداء مقلدون السيوف حول العرش وقال الكلبي ومقاتل يعني جبرئيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام وذلك لما أخرج الفريابي في تفسيره عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله " قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين استثنى الله ؟ قال جبرئيل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل وحملة العرش فإذا قبض الله أرواح الخلائق قال لملك الموت من بقي ؟ قال سبحانك ربي تبارك تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت فيقول خذ نفس إسرافيل فيأخذ نفس إسرافيل فيقول يا ملك الموت من بقي ؟ فيقول سبحانك تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول خذ نفس ميكائيل فيأخذ نفس ميكائيل فيقع كالطود العظيم فيقول يا ملك الموت من بقي ؟ فيقول بقي جبرئيل وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول يا جبرئيل من بقي فيقول وجهك الكريم الباقي الدائم وجبرائيل الميت الفاني قال فلا بد من موتة فيقع ساجدا يخفق جناحيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على ظرب من الظراب " وأخرج البيهقي عن أنس رفعه في قوله :" فنفخ في الصور " الآية قال فكان ممن استثنى الله ثلاثة جبرائيل وميكائيل وملك الموت فيقول الله وهو أعلم يا ملك الموت من بقي ؟ فيقول وجهك الباقي الكريم وعبدك جبرائيل وميكائيل وملك الموت فيقول : توف نفس ميكائيل فيقول وهو أعلم من بقي ؟ فيقول بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك جبرائيل وملك الموت فيقول توف نفس جبرائيل ثم يقول : وهو أعلم يا ملك الموت من بقي ؟ فيقول بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك ملك الموت وهو ميت فيقول : مت ثم يقول أنا بدأت والخلق ثم أعيده فأين الجبارون المتكبرون فلا يجيبه أحد ثم ينادي لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول هو الله الواحد القهار ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام تنظرون.
وأخرج البيهقي عن زيد بن أسلم قال الذي استثنى اثنا عشر جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وحملة العرش ثمانية وقال البغوي يروى أنه يقبض روح جبرائيل وميكائيل ثم روح حملة العرش ثم روح إسرافيل ثم روح ملك الموت وأخرج البيهقي عن مقاتل بن سليمان يقبض روح ميكائيل ثم روح جبرائيل ثم روح إسرافيل ثم يأمر ملك الموت فيموت.
وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن وهب قال هؤلاء الأربعة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت أول من خلقهم الله وآخر من يميتهم وأول من يحييهم هم المدبرات أمرا والمقسمات أمرا قال السيوطي لا تنافي بين هذه الروايات يعني روايات الاستثناء لإمكان الجمع بأن الجميع من المستثنى.
قلت : الأحاديث والآثار المذكورة كلها واردة في بيان الاستثناء الواقع في نفخة الصعق لا ما وقع في نفخة الفزع وعندي المستثنى في نفخة الفزع ما دل عليه قوله تعالى فيما بعد :﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون٨٩ ﴾ وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ١٠١ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ١٠٢ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ﴾٤ فإنه نص في أن المؤمنين الذين لا يدخلون النار ويدخلون الجنة لا يلحقهم الفزع لكن عند نفخة الفزع لا يكون من الناس إلا الكفار لقوله صلى الله عليه وسلم :" لا تقوم الساعة إلا على الأشرار " رواه أحمد ومسلم عن ابن مسعود وقوله صلى الله عليه وسلم :" لا تقوم الساعة حتى يرفع الركن والقرآن " رواه السنجري عن ابن عمرو يدل على ذلك غيرها من الأحاديث ولهذا حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم المستثنى على أرواح الشهداء فإنهم أحياء عند ربهم وأما الملائكة وأرواح الأنبياء عليهم السلام فهم أيضا داخلون في المستثنى ولا يفزعون البتة والله أعلم.
روى ابن جرير في تفسيره والطبراني في المطولات وأبو يعلى في مسنده والبيهقي في البعث وأبو موسى المديني في المطولات وعلي بن معبد في كتاب الطاعة والعصيان وعبد بن حميد وأبو الشيخ في كتاب العظمة حديثا طويلا عن أبي هريرة ذكر فيه :" فينفخ ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين فيأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول الله انفخ نفخة الفزع فينفخ فيفزع أهل السماء والأرض إلا من شاء الله إلى أن قال فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتي أقطار الأرض فتتلقاهم الملائكة فتضرب وجوهها فترجع وتولى الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا والذي يقول الله يوم التناد إلى أن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك قلت يا رسول الله فمن استثنى الله في قوله :﴿ إلا من شاء الله ﴾ قال : أولئك الشهداء وإنما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أحباء عند ربهم يرزقون وقاهم الله من فزع ذلك اليوم وأمنهم منه وهو عذاب يبعثه على أشرار خلقه يقول الله يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم الآية فيمكثون في ذلك ما شاء الله فيقول ملك الموت قد مات أهل السماوات والأرض إلا من شئت فيقول وهو أعلم فمن بقي ثم ذكر موت جبرائيل وميكائيل وحملة العرش وموت ملك الموت نحو ما تقدم من حديث أنس ثم ذكر الحديث بطوله إلى دخول أهل الجنة وبقاء أهل الخلود في النار.
فإن قيل هذا الفزع لا يكون إلا على شرار خلق الله من شيا طين الإنس والجن وليس أحد منهم في السماء فما معنى قوله تعالى :﴿ ففزع من في السماوات ﴾ ؟ قلت : لعل ذلك على سبيل الفرض أو يقال إن الشياطين قد يذهبون على السماء لاستراق السمع أو يقال المراد بالسماء السحاب ونحو ذلك فإنه قد يطلق السماء على ما بفوقك قال الله تعالى :﴿ فليمدد بسبب إلى السماء ﴾ ٥ يعني سقف بيتك أو يقال المراد بمن يفزع من أهل السماء أرواح بعض المؤمنين ويكون المراد بمن سبقت لهم الحسنى الأنبياء والمقربون الصديقون.
وأما المستثنى من نفخة الصعق فالقول فيه ما قال صاحب المفهم التحقيق أن المراد الضعف ما هو أعم من الموت فلمن لم يمت الموت ولمن مات الغشية وهذا من قبيل عموم المجاز وهذه الغشية يعم الأنبياء عليهم السلام إلا موسى عليه السلام فإنه حصل فيه تردد. روى الشيخان في الصحيحين والترمذي وابن ماجه واللفظة عن أبي هريرة قال : قال رجل من اليهود بسوق المدينة والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه وقال أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قال الله تعالى :﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون٦٨ ﴾ " فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائم من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله " ٦ ولما كان الصعق بمعنى الموت أو الغشية يعم الأنبياء فيعم الشهداء بالطريق الأولى والملائكة أيضا والمستثنى منهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وحملة العرش فإنهم لا يموتون بالنفخة ويموتون بعد ذلك " كما مر في الأحاديث والله أعلم.
﴿ وكل ﴾ أي كل واحد من أهل السماوات والأرض ﴿ أتوه ﴾ أي حاضرون الموقف بعد نفخة البعث أو راجعون إلى أمره وكذا قرأ الجمهور بالمد وضم التاء على صيغة إسم الفاعل وقرأ حفص وحمزة مقصورا وفتح التاء على صيغة الماضي ومعناه الاستقبال لتحقيق وقوعه عطف على فزع ﴿ داخرين ﴾ صاغرين
١ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع باب: ما جاء في شأن الصور (٢٤٣٠) وأخرجه أبو داود في كتاب: السنة باب: ذكر البعث والصور (٤٧٢٦)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع باب: ما جاء في شأن الصور (٢٤٣١)..
٣ سورة الزمر الآية: ٦٨..
٤ سورة الأنبياء الآية: ١٠١- ١٠٣..
٥ سورة الحج الآية: ١٥..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء باب: وفاة موسى وذكره بعد (٣٤٠٨) وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل باب: من فضائل موسى عليه السلام (٣٢٢٧)..
﴿ وترى الجبال ﴾ أي تبصرها أيها الناظر وقت نفخة الفزع عطف على يوم ينفخ أو على يوم نحشر أن يقدر هنا ترى ما ترى ﴿ تحسبها جامدة ﴾ أي واقفة مكانها الجملة حال من فاعل ترى مفعوله أي تظنها قائمة غير متحركة ﴿ وهي تمر مر السحاب ﴾ حال من الضمير المنصوب في تحسبها يعني تسير الجبال كسير السحاب في السرعة حتى تقع على الأرض فتستوي بها وذلك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد لا تكاد يتبين حركتها ﴿ صنع الله ﴾ مصدر مؤكد لمضمون جملة متقدمة لا محتمل لها غيره ويسمى تأكيدا لنفسه معنى صنع الله صنعا ﴿ الذي أتقن كل شيء ﴾ أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي ﴿ إنه خبير بما تفعلون ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب أي يجازي كلا من العاصي والمطيع على حسب فعله ثم بينه فقال :﴿ من جاء بالحسنة ﴾
﴿ من جاء بالحسنة ﴾ قال : أبو معشر كان إبراهيم يحلف ولا يستثنى أن الحسنة لا إله إلا الله وقال قتادة بالإخلاص وقيل : هي كل طاعة ﴿ فله خير منها ﴾ قيل من للسببية وليس للتفضيل إذ لا شيء خير من قول لا إله إلا الله فالمعنى يحصل له خير وهو الثواب وإلا من العذاب من جهة تلك الحسنة وبسببها وقال محمد بن كعب وعبد الرحمان ابن زيد من تفضيلية والمعنى فله عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله نظيره قوله تعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾ ﴿ وهم من فزع يومئذ ﴾ أي يوم ينفخ في الصور ﴿ آمنون ﴾ قرأ الكوفيون فزع بالتنوين للتنكير ويومئذ بالنصب على الظرفية والتنكير يفيد الاستغراق لأن الجملة في قوة النفي لأن قوله آمنون بمعنى لا يخافون ولا يفزعون والنكرة في حيز النفي يفيد الاستغراق وقرأ الآخرون بلا تنوين بإضافة فزع إلى يومئذ والإضافة أول على الاستغراق أو هي للعهد لتقدم ذكر الفزع فقرأ أكثرهم يومئذ بالجر للإضافة ونافع بفتح الميم على انه مبني اكتسب البناء مما أضيف إليه
﴿ ومن جاء بالسيئة ﴾ أي الشركة ﴿ فكبت وجوههم ﴾ الفاء للعطف على محذوف لا للجزاء لا تدخل على الماضي بغير قد تقديره من جاء بالسيئة فله جزاء السيئة أو استحق العذاب ﴿ فكبت وجوههم ﴾ أي فكبوا على وجوههم ﴿ في النار ﴾ أو المراد بالوجوه أنفسهم ﴿ هل تجزون ﴾ يعني ما تجزون ﴿ إلا ما كنتم تعملون ﴾ أي إلا جزاؤه وفاقا لما عملوا فإن الشرك أعظم الجرائم لا شيء فوقه في السوء وجهنم أشد الأجزية فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب والتقدير ويقول لهم خزنة جهنم ﴿ هل تجزون إلا ما كنتم تعلمون ﴾.
﴿ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة ﴾ يعني مكة أضاف الرب إلى البلدة تشريفا لها وإشعارا بما في الكعبة الحسناء من التجليات المختصة ﴿ الذي حرمها ﴾ صفة للرب أي جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا ينفر صيدها ولا يختلا خلاها ذكر هذا الوصف منه على قريش حيث جعل مسكنهم آمنا من الفتن الشائعة في العرب ﴿ وله كل شيء ﴾ خلقا وملكا مع تلك البلدة عطف على حرمها أو حال من الضمير المرفوع المستكن فيها ﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾ بتقدير الباء أي أمرت بأن أكون من المنقادين لله تعالى أو ثابتين على ملة الإسلام عطف على ﴿ أمرت أن أعبد ﴾.
﴿ وأن أتلوا ﴾ تلاوة الدعوة إلى الإيمان أو هو من التلو بمعنى الإتباع والمعنى أن أتبع ﴿ القرآن ﴾ عطف على أن أكون وجملة إنما أمرت متصلة بقوله تعالى :﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل ﴾ ﴿ وإنه لهدي ورحمة للمؤمنين ﴾ وقال البيضاوي أمر الله سبحانه لرسوله أن يقول لهم ذلك بعد ما بين لهم المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة إشعارا بأنه قد أتم الدعوة وأدى ما كان عليه فلم يبق عليه إلا الاشتغال بشأنه والاستغراق في عبادة ربه والتقدير قل إنما أمرت بكذا ﴿ فمن اهتدى ﴾ بدعوتك وعبد ربه وحده كما أمرت ﴿ فإنما يهتدي لنفسه ﴾ فإن منافعه تعود إليه فليس له أن يمن عليك ﴿ ومن ضل ﴾ أي أخطأ طريق الحق يتبعك بعد تمام الدعوة منك ﴿ فقل ﴾ له ﴿ إنما أنا من المنذرين ﴾ يعني لست عليكم بوكيل ولا علي من وبال ضلالك أصلا إذ ليس علي إلا البلاغ.
﴿ وقل الحمد لله ﴾ على نعمة النبوة وعلى ما وفقك من تمام التبليغ والدعوة الواجبة عليك ﴿ سيريكم ﴾ الله أيها الضالون ﴿ آياته ﴾ القاهرة على حقيقة ما دعوتكم إليه في الدنيا كما وقع يوم بدر من قتل وسبي وضرب الملائكة وجوههم فإدبارهم وكما رأوا من إنشقاق القمر وتسبيح الحصا ونحو ذلك وكما يجيء من خروج الدابة وغير ذلك نظيره قوله تعالى :﴿ سأوريكم آياتي فلا تستعجلون ﴾ ١ أو المعنى سيريكم آياته في الآخرة وقال ﴿ سيريكم آياته ﴾ في السماء وفي الأرض وفي أنفسكم كما ﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ﴾ ٢ ﴿ فتعرفونها ﴾ أي فتعرفون أنها آيات الله ولكن لا ينفعكم حينئذ المعرفة ﴿ وما ربك ﴾ يا محمد ﴿ بغافل عما تعملون ﴾ فيجازي كلا على حسب عمله بوقتهم.
١ سورة الأنبياء الآية: ٣٧..
٢ سورة فصلت الآية: ٥٣..
Icon