تفسير سورة النّمل

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة النمل من كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير .
لمؤلفه ابن باديس . المتوفي سنة 1359 هـ

ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة
الفصل الأول :
" ولقد آتينا داوود وسليمان علما، وقالا : الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ". ( ١٥ ) وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ( ١٦ ) وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ( ١٧ ) حتى إذا أتو على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهو لا يشعرون ( ١٨ فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ( ١٩ ) وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ( ٢٠ ) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ( ٢١ ) فمكت غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين ( ٢٢ ) إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء وله عرش عظيم ( ٢٣ ) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطكان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ( ٢٤ ) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ( ٢٥ ).
تمهيد :
النبوة والملك :
( النبوة ) منزلة من الكمال التام البشري، يهيء الله لها من يشاء من عباده، فيكون بذلك مستعدا لتلقي الوحي والاتصال بعالم الملائكة، ولتحمل أعباء ما يلقى إليه وتكاليف تبليغه بالقول والعمل، وتحمل كل بلاء يلقاه في سبيل ذلك التبليغ.
( والملك ) : ولاية على المجتمع لحفظ نظامه، تقتضي عموم النظر، وشمول التصرف في روابط الناس، معاملاتهم وتصرفاتهم، وتسييرهم في ذلك كله على أصول عادلة توصل كل أحد إلى حقه، وتكفه عن حق غيره، ليعشوا في رخاء وسلام، ويبلغوا غاية ما يستطيعون من متع الحياة.
وقد يتصف الشخص بالنبوة دوم الملك ؛ فيكون مبلغا عن الله، ولا يكون له التنفيذ والإدارة والتنظيم.
وقد يتصف الشخص بالملك دون النبوة.
وقد وجد الشخصان في ( شمويل ) و ( طالوت )، فكان الأول نبيا، وكان الثاني ملكا كما قال تعالى :" وقال لهم نبيئهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ".
و قد يجمع بينهما مثل داوود وسليمان عليهما السلام.
ثم إن ( الملك ) قد تكون الأصول التي يستند إليها مستمدة من أوضاع البشر، لحفظ مصالحهم في الحياة الدنيا ؛ فيكون ملكا بشريا، وقد تكون تلك الأصول مستمدة من وحي الله ؛ بما فيه حفظ مصالح العباد في الدنيا، وتحصيل سعادتهم فيها وفي الأخرى، فيكون ملك نبوة.
من طبيعة ملك النبوة :
النبوة نصرة للحق :
١. التزام الحق ونصرته حيثما كان. بإقامة ميزان العدل في القول والحكم والشهادة بين الناس أجمعين، المعادين والموالين، كما قال الله تعالى :
" وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ".
" وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ".
" ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن ى تعدلوا، اعدلوا هو أقرب لتقوى ".
" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تولوا تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ".
والوفاء :
٢. وبالوفاء بالعقود والعهود بين الأفراد والجماعات، كما قال تعالى :
" أوفوا بالعقود "، " وبعهد الله أوفوا "، " وأوفوا بعهد اله إذا عاهدتهم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها "، " ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ".
وبغير هذا من وجوه التزام الحق ونصرته...
وبث الخير :
٣. وبث الخير بين الناس بنشر الهداية والإحسان دون تمييز بين الأجناس والألوان، كما قال الله تعالى :
" وافعلوا الخير لعلكم تفلحون "، " وأحسنوا إن الله يحب المحسنين "، " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين ".
وإعداد القوة
٤. ومن طبيعته الدعوة إلى القوة والتنويه بها وبناء الحياة عليها، لكن في نطاق العدل والرحمة ولدفاع المعتدين، كما قال تعالى :
" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة "، " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس "، وقبلها " وأنزلنا الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " فقوة الحديد لحفظ الكتاب والميزان وحمل الناس عليهما. " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله، واعلموا أن الله مع المتقين ".
" والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين "...
حب الجمال :
٥. ومن طبيعة الدعوة إلى الجمال والتحبيب فيه في جميع مظاهر الحياة، لكن في نطاق الفضيلة والعفاف، كما قال تعالى :
" ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم "، " وصوركم فأحسن صوركم ".
" أحسن كل شيء خلقه ثم هدى "، " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب "
" حتى إذا أخذت الأرض زخرفتها وازينت "، " فأنبتنا به حدائق ذات بهجة " " من كل زوج بهيج "، " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق "، " اليوم أحل لكم الطيبات "، " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما تصنعون "
ومن طبيعة الملك البشري :
الملك البشري، وإن روعيت في أوضاعه هذه الأصول الأربعة، إلا أنه :
١- لا يقيم ميزان العدل بين أبناء المملكة وغيرهم : فنراه يكيل لهؤلاء بمكيال ولهؤلاء بمكيال.
و لا يرعى من العهود – في الغالب – إلا ما يعارض مصلحته أو تلزمه بمراعاته قوة خصمه.
٢- كما أنه يكاد يقصر بره وإحسانه على أبناء جلدته، ومن كانوا من جنسه ولونه.
٣- كما أنه يبني أمره على القوة المطلقة فتندفع من رغباته إلى ما يمكنها أن تصل إليه ؛ فيكون البغي والتساقط والعدوان.
٤- كما أنه تستهويه زينة الحياة الدنيا وزخارفها، فتمتد يده إليها حيثما وجدها، فتتنازعها الأيدي بالقوة والحيلة، وتذهب في أقانيها الشهوات بالناس إلى النقص والرذيلة.
مظاهر عامة للملك :
ثم إن من طبيعة الملك من حيث أنه ملك – سواء أكان بشريا أم نبويا – مظاهر الأبهة والجمال والقوة والفخامة ؛ لما جبل عليه الخلق من اعتبار المظاهر والتأثر بها، وهذا إذا كان في الحق فهو محمود مطلوب. وإذا كان للباطل والبغي والتعظيم النفسي فمذموم متروك.
مظاهر محمودة :
ومن الأول أمر النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وعمه العباس – رضي اله عنه – أن يحبس أبا سفيان عند خطم الجبل، حتى تمر عليه كتائب المسلمين ؛ وذلك لإدخال الرعب على قلبه بما يرى من النظام والقوة.
فحبسه العباس، فجعلت الكتائب تمر به، فيسأل العباس عن كل كتيبة فإذا أخبره، قال : مالي ولبني فلان ؟
حتى مر رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد ؛ فقال : من هؤلاء ؟ فقال العباس : هذا رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في المهاجرين والأنصار. قال أبو سفيان : ما لأحد بهؤلاء قبل و لا طاقة، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما.
قال العباس : فقلت له : إنها النبوة، فقال : فنعم إذن.
قصد أبو سفيان عظمة الملك القاهر التي كان يعرفها من الأكاسرة وأمثالهم، فنفى ذلك العباس ورده إلى النبوة، التي هي أصل تلك القوة، وذلك الملك النبوي المستند إلى الوحي الإلهي، ولم يرد نفي الملك جملة.
ومنه١ ما كان من معاوية بالشام :
لما قدم عليه عمر وجده في أبهة من الجند والعدة، فاستنكر ذلك ؟
وقال له : أكسروية يا معاوية ؟ !فاعتذر معاوية بأنهم في ثغر تجاه العدو، وأنهم في حاجة إلى مباهاة العدو بزينة الحرب والجهاد، فسكت عمر وأقره.
فذلك المظهر من مظاهر طبيعة الملك من حيث هو ملك، وإنما أنكره عمر لما خاف فيه من تعظم واستعلاء وإعجاب ؛ فلما كان للحق والمصلحة أقره.
ومن أقوى الأدلة على أن تلك المظاهر إذا كانت للحق والمصلحة فهي محمودة مطلوبة، ما قصه الله علينا في هذه الآيات عن ملك سليمان نبي الله عليه الصلاة والسلام.
اختيار نبينا :
نعم في مسند أحمد أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – خير بين أن يكون نبيا ملكا أو يكون نبيا عبدا ؟ فاختار أن يكون نبيا عبدا. وكان ذلك تواضعا منه.
ولا ينفي هذا أنه – صلى الله عليه وآله وسلم – كما كان مبلغا عن الله تبارك وتعالى، كان قائما على الحكم والتنفيذ وإدارة الشؤون العامة، وتنظيم المجتمع، مما يسمى ملكا نبويا مستندا إلى الوحي الإلهي ؛ لأن التحيز راجع إلى حالته الشخصية الكريمة، فخير بين أن يكون لشخصه من مظاهر الملك مثل ما كان لسليمان، أو لا تكون له تلك المظاهر، فاختار ألا تكون، وأن يكون مظهره مظهرا عاديا مثل مظهر العبد العادي.
كما أن سليمان -– صلى الله عليه وآله وسلم – الذي كان ملكا نبيا لم ينف عنه العبودية، وإنما ينفي عنه مظهرها العادي.
فهما حالتان للقائمين على الملك جائزتان، كان على إحداهما سليمان، وعلى الأخرى محمد عليهما الصلاة والسلام. وحالة أفضل النبيين أفضل الحالتين. وقد اختار عمر رضي الله عنه الفضلى، وأقر معاوية على الفاضلة الأخرى.
ولما كان محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – جاء بملك النبوة، كان القرآن العظيم جامعا للأصول التي ينبني عليها ذلك الملك، وجاء فيه مثل هذه الآيات التي نكتب عليها، ليبين صورة ملك النبوة ومظهرا صادقا من مظاهره فيما قصت علينا من ملك سليمان عليه السلام. وهي ثلاثون آية، من الآية الخامسة عشرة من سورة النمل، إلى الآية الرابعة والأربعون منها :
الآية الأولى :
" ولقد آتينا داوود وسليمان علما، وقالا : الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ".
الألفاظ والتراكيب :
( علما ) : نوعا عظيما ممتازا من العلم جمعا به بين الملك والنبوة ؛ وقاما بأمر الحكم والهداية.
( وقالا ) : قولها متسبب وناشئ عن العلم، لكنه لو قيل : فقالا بالفاء، لما أفاد أن غير القول تسبب منهما عن العلم. ولما عطف بالواو دل على أن هنالك أعمالا كثيرة عظيمة كانت منهما في طاعة الله وشكره، نشأت عن العلم وعليها عطف قولهما هذا.
( فضلنا ) : أعطانا ما فقنا به غيرنا.
( على كثير ) : فهنالك كثير لم يفضلا عليه ممن ساواهما أو فاقهما.
( من عباده المؤمنين ) ففضلا بين أهل الفضل، فكانا من أفضل الفاضلين، وذلك بما أعطيا من النبوة وملكها.
المعنى :
يخبرنا الله – تعالى – عما أعطى لهذين النبيين الكريمين من هذا الخير العظيم، عما كان منهما من الشكر له، والمعرفة بعظيم قدر عطائه، وإظهار السرور به، مع الاعتراف لغيرهما بما كان من مثله أو نحوه، ومن إعلانهما ما كان لله عليهما، من نعمة التفضيل العظيمة بحمده والثناء عليه.
تنويه وتأصيل :
قد ابتدأ الحديث عن الملك العظيم بذكر ( العلم )، وقدمت النعمة به على سائر النعم.
تنويها بشأن العلم، وتنبيها على أنه هو الأصل الذي تبنى عليه سعادة الدنيا والأخرى.
وأنه هو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا.
وأن الممالك إنما تنبني عليه وتشاد، وأن الملك إنما ينظم به ويساس.
وان كل ما لم يبن عليه فهو على شفا جرف هار.
١ من مظاهر الأبهة والقوة والفخامة..
الفصل الثاني :
الآية الثانية :
وورث سليمان داود وقال : يا أيها الناس علمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شيء، إن هذا لهو الفضل المبين ".
الألفاظ والتراكيب :
( الإرث ) : انتقال ما كان للميت إلى الحي، فيقوم فيه الوارث مقام الموروث، سواء أكان مالا أو ملكا أو علما أو مجدا١. والمراد هنا الملك والنبوة.
( علمنا ) أعطينا العلم، ولم يذكر المعلم – وهو الله – للعلم به فإن هذا التعليم ليس من معتاد البشر، ولا من طرقهم.
( منطق الطير ) : نطقها وهو تصويتها، وقد يطلق النطق على كل ما يصوت به الحيوان، فالحيوان ناطق، والجماد صامت.
( وأوتينا ) : أعطينا، والنون في الفعلين للعظمة إذ هي حالته التي هو عليها.
( من كل شيء ) : هو على معنى التكثير، أو على معنى العموم الحقيقي، فيما تقتضيه تلك العظمة، مما يؤتاه الأنبياء والملوك.
( الفضل ) : الزيادة. ( المبين ) : الظاهر الذي لا خفاء به.
المعنى :
قام سليمان مقام أبيه داود عليهما الصلاة والسلام، فكان في بني إسرائيل من بعد نبيا ملكا. وأراد سليمان أن يشهر نعمة اله عليه وينوه بها ويدعو قومه إلى الإيمان به، وطاعته ؛ فدعا الناس وذكر لهم ما خصه الله به من علم منطق الطير، وعظائم الأمور، مما هو خارق للعادة، معجز للبشر آية على نبوته. وتحداهم بذلك الفضل الذي امتاز به عن جميع الناس، وهو مشاهد لهم لا يمكنهم إنكاره كما لا تمكنهم معارضته.
فقه وتحقيق :
من ميزة الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – أنهم يخرجون من الدنيا دون أن يعلقوا بشيء منها، فلا يورثون دينارا ولا درهما وإنما يورثون العلم.
وفي الصحيح " إنا معاشر الأنبياء لا نورث، وما تركناه صدقة " ٢.
فلم يرث سليمان من داود مالا، وإنما ورث ما نوه به من العلم والملك، وما دل عليه ذلك من النبوة، وقد خصصه الله بذلك دون بقية إخوته.
تفرقة :
موروث وموروث :
الشيء الموروث.
إن كان من أمور الدنيا وأعراضها ومتناولات الأبدان ومتصرفاتها، فإنه ينتقل بذاته من الميت إلى الحي، وينقطع عنه ملك الميت.
وما كان من صفات الروح فإنه لا يفارق الميت – لبقاء الروح – وإنما يقوم الحي مقام الميت في أداء ما كان يؤديه من أعمال متصفا بمثل ما كان متصفا به الميت، متحليا بمثل حليته.
فإرث سليمان للملك هو من المعنى الأول فداود بعد موته لم يبق ملكا، وإرثه للعلم والنبوة هو من المعنى الثاني فداود بعد موته على علمه ونبوته.
تفرقة أخرى :
إذا كان الموروث مالا فإنه يستحق بالقرابة شرعا.
وإذا كان علما أو نبوة أو ملكا فإنها لا تستحق بها.
فلم يرث سليمان من داود ما ورثه منه لأنه ابنه، وإنما كان ذلك تفضلا من الله ونعمة، ولهذا لما دعا سليمان الناس لم يذكر لهم أبوة داود، وإنما ذكر لهم ما كان به أهلا لمقامه، مما خصه الله به من علم وقوة، ومظاهر الملك ومعجزة النبوة.
عجائب الخلقة وحكمة العربية :
للحيوانات كلهم فهم وإدراك وأصوات تدل بها على ما في نفسها، وتتفاهم بها أجناسها بعضها عن بعض. ومن تلك الأصوات ما يكون أخفى من أن يصل إليه سمعنا ؛ ومنها ما نسمعه ومما نسمعه ما نفهم مرادها به، ومنه ما نفهمه فلا نسمع صوت النملة ولكننا نسمع صوت الهرة – مثلا – و نميز بين صوتها الذي تدل به على غضبها، وصوتها الذي تدل به على طلبها.
و في مملكة النمل ومملكة النحل – مثلا – من النظام والترتيب والتقدير والتدبير، ما لا يبقى معه شك فيما لهذه الحيوانات من إدراك وتمييز، وما بينها من تفاهم، بل كثير من الحيوانات تصير بالترويض تفهم عنا كثيرا من العبارات والإشارات، وتأتي بالأعمال العجيبة طبق ما يراد منها وتدل عليه فهذا أصل ما بلغت إليه من إدراكها ونطقها اللذين أخبر بهما القرآن. وتلك الغاية من الإدراك والنطق، لا سبيل لنا إليها لاختلاف الخلقة وجهل مدلولات الأصوات.
و قد أدركها سليمان – عليه السلام – بتعليم من الله كرامة له، وآية على نبوته، ومعجزة للناس.
فمن حكمة اللغة العربية الشريفة، أن سمت أصوات الحيوانات نطقا، كما سمت – في المتعارف – اللفظ الذي يعبر به عما في الضمير نطقا، لأن الأصوات لغير الإنسان تقوم مقام الألفاظ للإنسان، فهي طريق تفاهمها وطريق فهم ما يمكن لإنسان فهمه عنها.
فلله هذه اللغة ما أعمق غمورها !وما أدق تعبيرها ! !٣.
نظر وإيمان :
قد شوهد بالعيان في أنواع الحيوانات : حسن تدبيرها لأمر معاشها، ودقة سعيها في جلب منافعها، ودفع مضارها، فمن الجائز أن يصل إدراكها بالفطرة إلى ما وراء ذلك من وجود خالقها ورازقها :
و هذا هو الذي أخبرنا به القرآن في هذه الآيات من أمر النملة وأمر الهدهد الآيتين من بعد.
فنحن مؤمنون لجوازه عقلا، وثبوته سمعا، مثل سائر السمعيات٤.
تمييز :
ميزة الإنسان :
قد شارك الحيوان الإنسان في الإدراك والتمييز، وبلغ إدراكه إلى معرفة وجود خالقه ورازقه، ولكن الإنسان يمتاز عنه بقوة التحليل والتركيب لكل ما يصل إليه حسه وإدراكه، وتطبيق ذلك على كل ما تمتد إليه قدرته ويكون في متناول يده، فمن ذلك التركيب والتحليل والتطبيق تغلب على عناصر الطبيعة، وتمكن من ناصيتها، واستعمال حيوانها وجمادها في مصلحته، و رقي أطوار التقدم في حياته، ولفقدان الحيوان – غير الإنسان – هذه القوة بقي في طور واحد من حياته ومعيشته.
فرق :
فإدراك الحيوان فطري إلهامي يعطاه من أول الخلقة، والإنسان يعطي أصل الإدراك الإجمالي، ثم بتلك القوة يتسع أفق إدراكه، ويستمر في درجات التقدم.
وهذه القوة التي يمتاز بها الإنسان هي العقل، وهي التي ساد بها هذا العالم الفاني.
توجيه :
سر ذكر الطير :
ذكر سليمان عليه السلام منطق الطير، وهو قد علم منطق غير الطير أيضا فقد فهم نطق النملة، ذلك لأن الحيوانات – غير الإنسان – مراتب : الزاحفة، والماشية، والطائرة، وأشرفها الطائرة، فاقتصر على الطير تنبيه بالأعلى على الأدنى.
تنزيه وتبيين :
سر نون العظمة :
عبر سليمان عليه السلام عن نفسه بنون العظمة، ونوه بذلك الفضل المبين، وما كان عليه السلام – ليتعظم بسلطان، ولا ليتطاول بفضل ؛ فالأنبياء – عليهم الصلاة والسلام- أشد الخلق تواضعا لله وأرحمهم بعباده.
وإنما أراد تعظيم نعمة الله في عيون الناس، وتفخم ملك النبوة في قلوب الرعية ؛ ليملأ نفوسهم بالجلال والهيبة، فيدعوهم ذلك إلى الإيمان والطاعة، فينتظم الملك، ويهنأ العيش، وتمتد بهم أسباب السعادة إلى خير الدنيا والآخرة، وهذا هو الذي توخاه سليمان عليه السلام من المصلحة بإظهار العظمة.
ولذا لم يقل : علمت. ولا : لي : وعندي كل شيء. ولم يقل فضلي، فهو فضل من علمه وآتاه فضله به عمن سواه.
ترغيب واقتداء :
يذكر الله - تعالى – لنا في شأن هذا النبي الكريم ما أعطاه من علم، وما مكنه منه من عظيم أشياء.
ترغيبا لنا في طلب العلم، والسعي في تحصيل كل ما بنا حاجة إليه من أمور الدنيا.
وتشويقا لنا إلى ما في هذا الكون من عوالم الجماد، وعوالم الأحياء.
وبعثا لهممنا على التحلي بأسباب العظمة من العلم والقوة.
وحثا لنا على تشييد الملك العظيم الفخم على سنن ملك النبوة.
فقد كان سليمان عليه السلام نبيا، وما كان ملكه ذلك إلا بإذن اله ورضاه، فهو فيما ذكره الله من أمر قدوة وأي قدوة مثل سائر الأنبياء والمرسلين. عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
١ كقوله تعالى :" إنا أنزلناه في ليلة القدر " أي القرآن الكريم..
٢ والرسول صلى الله عليه وآله وسلن حين أفاء الله عليه وكثر عنده المال ما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما، بل صرفه في مصارفه وأغنى به غيره، وقوى به المسلمين. وقال :" ما يسرني أن لي أحدا ( أي مثل جبل أحد ) ذهبا يبيت عندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين ". واقتصر من نفقته وملبسه ومسكنه ما تدعو إليه الضرورة، ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله!؟.
٣ ولله در الشاعر النيل إذ يقول على لسانها:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي ؟
وسعت كتاب الله لفظا وغاية وما ضقت عن آي به وعظات؟
فكيف أضيق اليوم عن وصفه آلة وتنسيق أسماء لمخترعات؟.

٤ " وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم "..
الفصل الثالث
الآية الثالثة :
" وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ".
الألفاظ والتراكيب :
( الحشر ) : الجمع من أماكن متفرقة.
( جنوده ) : هم المنتظمون في سلك عسكريته، فجمعوا له عند الحاجة إليهم في سفر أراده.
( يوزعون ) يكفون عن الخروج عن النظام في السير، فيمنع أولهم من سبق آخرهم، وآخرهم من التأخر عن سابقهم، ويمنعون من الخروج عن الصفوف إلى اليمين أو الشمال، لأن وزعه عن الشيء معناه كفه عنه.
وفي ترتيب الجنود في الذكر مراعاة الأقوى، وأعلاهم في ذلك الجن، ثم الإنس، ثم الطير.
وفاعل ( حشرهم ) الأعوان الحاشرون. وفاعل ( وزع ) هم الضباط المنظمون.
المعنى :
تشريفة :
كان لسليمان – عليه الصلاة والسلام – من الجن والإنس والطير جنود معينون معروفون يتركب منهم عسكره. يكونون متفرقين، فإذا عرض أمر جمعهم.
وكان له أعوان يعرفون أولئك الجنود ويعرفون أماكنهم، فهم الذين يجمعونهم عند الحاجة إليهم.
فأراد سليمان أن يسافر، فأمر أعوانه بجمع الجنود فجمعوهم له. فلما اجتمعوا تولى رؤساؤهم تنظيمهم فساروا مع سليمان في كثرة ونظام، يتولى أولئك الرؤساء تنظيمهم في سيرهم ويمنعونهم من الخروج عن النظام.
تفصيل :
من خصوصيات سليمان :
كما أن للإنس من يعرفهم من أعوان سليمان، ومن ينظمهم من رؤسائهم كذلك يكون للجن، وكذلك يكون للطير.
و سلطة سليمان على الجن وتسخيره لهم وسلطته على الطير وفهمه لها وفهمها عنه معجزة له، وخصوصية ملك لم ينبغ لأحد من بعده ! !
الجندية في ملك سليمان :
تفيدنا الآية صورة تامة لنظام الجندية في ملك سليمان.
فقد كان الجنود يسرحون من الخدمة ويجمعون عند الحاجة.
وكانت أعيانهم معروفة مضبوطة.
وكانت لهم هيئة تعرفهم وتضبطهم وتجمعهم عند الحاجة.
وكان لهم ضباط يتولون تنظيمهم.
وكان النظام محكما لضبط تلك الكثرة ومنعها من الاضطراب والاختلال والفوضى.
عبرة في النظام والقوة :
تعرض علينا الآية هذه الصورة التاريخية الواقعية تعليما لنا، وتربية على الجندية المضبوطة المنظمة.
ولا شك أن الخلفاء الأولين قد علموا على ذلك في تنظيم جيوشهم، إن مثل هذه الآية كان له الأثر البليغ السريع في نفوس العرب لما أسلموا. فسرعان ما تحولوا إلى جنود منظمة مما لم يكن معروفا عندهم في الجاهلية.
وبقيت الآية على الدهر مذكرة لنا ؛ بأن النظام أساس كل مجتمع واجتماع، وأن القوة والكثرة وحدهما لا تغنيان بدون نظام، وأن النظام لا بد له من رجال أكفاء يقومون به ويحملون الجموع عليه، وأولئك هم الوازعون.
طبيعة وشريعة :
ترتيب الوظائف وتخطيطها :
في عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان نجد الطبيعة – بصنع الله – تستخلص الأعلى من الأدنى، والأقوى من الأضعف، فتجد الممتاز من أصل الخلق وبانتخاب الطبيعة في هذه العوالم الثلاث، كما تجد الذهب في المعدن وتجد الزهر والثمر في النجم والشجر، وتجد الملكة من النمل والنحل مثلا.
فالإنسان لم يخرج عن هذا القانون الطبيعي :
ففيه الممتازون الذين يحتاج إليهم النوع الإنساني في صلاح حاله ومآله.
ومنهم الذين يتولون حكمه وتنظيمه في أممه ومجتمعاته وجماعاته ؛ فالهيئة الحاكمة والأفراد المنظمون، والقادة المسيرون من ضروريات المجتمع الإنساني ومقررات الشرع الإسلامي، مثل ما في هذه الآية من أمر الوازعين.
ولما ولي الحسن البصري القضاء قال :
لابد للسلطان من وزعة أي عوان يكفون الناس عن الشر والفساد، ويتولون تربيتهم وتنظيمهم.
وفي رواية :
لابد للناس من وازع أي كاف يكف بعضهم عن بعض، وهو الحاكم وأعوانه.
وفي حديث – ذكره أهل الغريب : من يزع السلطان وعقابه الدنيوي أكثر ممن يكفهم عن الشر الوعد والوعيد في القرآن.
وقد قال الله تعالى :
" وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس " ١.
١ سورة الحديد، الآية ٢٥. وأول الآية الكريمة: " لقد أرسلنا رسلنا يالبينات " ويلاحظ القارئ إنزال الكتاب للعدل والقسط. وإنزال الحديد لتعمير الدنيا فعبر بأنزلنا في الموضعين؛ لأن الإسلام للدنيا والآخرة والدنيا مزرعة للآخرة. وختمت الآية بقوله تعالى: " إن الله قوي عزيز "..
الآية الرابعة :
" حتى إذا توا على وادي النمل قالت نملة : يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده و هم لا يشعرون ".
الألفاظ :
( أتوا على وادي النمل ( : هبطوا إليه من مكان أعلى منه، وهو بالشام أو بالحجاز، لم تتوقف العبرة على تعيينه فلم يعين، وأضيف لنمل لكثرته فيه.
( نملة ) لفظها مؤنث، ومعنا محتمل مثل شاة وحمامة.
( مساكنكم ) : هي قرى النمل التي يسكنها تحت وجه الأرض، المحكمة الوضع والتركيب والتقسيم. ولذلك قيل فيها : مساكن : ولم يقل غيران.
( لا يحطمنكم ) : لا يكسرنكم بالحوافر والأقدام
( لا يشعرون ) : لا يحسون بوجودكم.
التراكيب :
الإتيان ( بإذا ) وجوابها، لإفادة أن قولها كان بسبب إتيانهم عند أول ما أتو.
( لا يحطمنك ) : نهتهم عن أن يحطمهم، والحطم ليس من فعلهم حتى ينهوا عنه، وإنما المعنى لا تكونوا خارج مساكنكم فيحطمكم، فنهتهم عن السبب، والمراد النهي عن السبب، لما في ذلك من الإيجاز المناسب لسرعة الإنذار لسرعة النجاة، ولما في ذكر المسبب، وهو الحطم من التخويف الحامل على الإسراع إلى الدخول١.
والجملة مؤكدة للأولى فكأنها قالت : ادخلوا مساكنكم لا تبقوا خارجها.
ونظير التركيب في التعبير بالسبب عن المسبب، لا أرينك ههنا : أي لا تكن هنا فأراك.
المعنى :
سار سليمان – صلى الله عليه وسلم – في تلك الجنود العظيمة يحيط به الإنس والجن : وتظللهم الطير، حتى هبطوا على وادي النمل، فرأتهم كبيرة النمل وقائدته، فصاحت في بني جنسها، فنادتهم للتنبيه، وأرشدتهم إلى طريق النجاة : بأمرهم الدخول في مساكنهم، وحذرتهم من الهلاك بحطم سليمان وجنوده لهم عن شعور منهم، فلا يكون اللوم عليهم، وإنما على النمل إذا لم يسرع بالدخول.
عبرة وتعليم :
دروس من النملة :
عاطفة الجنسية غريزة طبيعية :
فهذه النملة لم تهتم بنفسها فتنجو بمفردها.
و لم ينسها هول ما رأت من عظمة ذلك الجند إنذار بني جنسها ؛ إذ كانت تدرك بفطرتها أن لا حياة لها بدونهم، ولا نجاة لها إذا لم تنج معهم، فأنذرتهم في أشد ساعات الخطر أبلغ الإنذار.
ولم ينسها الخوف على نفسها وعلى بني جسها من الخطر الداهم، أن تذكر عذر سليمان وجنده.
فهذا يعلمنا أن لا حياة للشخص إلا بحياة قومه، و لا نجاة لهم إلا بنجاتهم، وأن لا خير لهم إلا إذا شعر بأنه جزء منهم.
ومظهر هذا الشعور أن يحرص على خيرهم كما يحرص على نفسه، وألا يكون اهتمامه بها دون اهتمامه بهم :
واجب القائد والزعيم :
هذه النملة هي كبيرة النمل، فقد كان عندها من قوة الإحساس ما أدركت به الخطر قبل غيرها، فبادرت بالإنذار.
فلا يصلح لقيادة الأمة وزعامتها إلا من كان عنده من بعد النظر، وصدق الحدس، وصائب الفراسة، وقوة الإدراك للأمور قبل وقوعها – ما يمتاز به عن غيره، ويكون سريع الإنذار بما يحس وما يتوقع.
عظة بالغة :
ألا ليت لنا نملة :
هذه نملة وفت لقومها، وأدت نحوهم واجبها ! !
فكيف بالإنسان العاقل فيما يجب عليه نحو قومه ؟ !
هذه عظة بالغة لمن لا يهتم بأمور قومه، و لا يؤدي الواجب نحوهم، ولمن يرى الخطر داهما لقومه، فيسكت ويتعامى، ولمن يقود الخطر إليهم ويصبه بيده عليهم.
آه ما أحوجنا – معشر المسلمين – إلى أمثال هذه النملة !
١ وذلك من ضروب الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم..
الآية الخامسة :
" فتبسم ضاحكا من قولها.
وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي.
وأن أعمل صالحا ترضاه.
وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ".
الألفاظ والتراكيب :
( التبسم ) : انفراج الشفتين على الأسنان، وقد يكون للغضب، وقد يكون للسخرية، وقد يكون للضحك، وهو الأكثر، وهو بدايته ؛ ولهذا قيد بضاحكا.
( أوزعني أن أشكر ) : ألهمني شكر نعمتك. وتحقيقه في اللغة والتصريف، إنك تقول : وزعت الشيء أي كففته و أوزعني الله الشيء أي جعلني أزع ذلك الشيء أي أكفه. كما تقول : ركبت الفرس وأركبني زيد الفرس، أي جعلني أركبه، فأوزعني شكر نعمتك : أي اجعلني أزع أي أكف شكر نعمتك، أي أمنعه من أن يذهب عني، وينفلت مني، فالمقصود : اجعلني ملازما لشكرك فلا أنفك لك شاكرا.
( نعمتك ) : عام يشمل كل نعمة الله عليه وعلى والديه.
( وأن أعمل ) : معطوف على أن أشكر فيقدر مثل تقديره.
( ترضاه ) : وصف مؤكد وقد يكون للتقييد على ما سيأتي، لأن العمل الصالح.. يرضى عنه الله، وإنما ذكر الوصف ؛ ليفيد أن رضى الله مقصود بالعمل الصالح.
( أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ( : اجعلني معهم. وأكمل الصالحين الأنبياء والمرسلون صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
وتحقيقه : أن الصالحين بما امتازوا به من كمال صاروا كأنهم في حمى خاص بهم، لا يدخل عليهم فيه إلا من كان مثلهم، فلهم مقامهم في الرفيق الأعلى، ولهم منازلهم في الجنة، ولهم ذكرهم الطيب عند الله وعند العباد. وهذه المنازل والمقامات لا يدخلها العبد إلا برحمة من الله بتيسير لأسبابها، وتفضل عظيم.
المعنى :
لما سمع سليمان – عليه الصلاة والسلام – كلام النملة تبسم تبسم السرور والتعجب من قولها، وطلب من ربه – تعالى – أن يلهمه شكر ما أنعمه به عليه وعلى والديه، وأن يلهمه عملا صالحا ينال به رضاه، وطلب منه تعالى أن يجعله في الصالحين، بأن يثبت اسمه بينهم، ويقرن ذكره بذكرهم، ويلحقه بهم، ويسكنه الجنة معهم، بما يغمره به من رحمته وفضله وإحسانه.
توجيه :
وصدور ذلك الإنذار البليغ من مثل تلك النملة في ضعفها وصغرها طريف مستظرف، ككل شيء يصدر من حيث لا ينتظر صدوره منه، فهذا مبعث تعجب سليمان صلى الله عليه وسلم.
وشهادة النملة له ولجنوده بأنهم لو وطئوا النمل لوطئوه عن غير شعور ؛ فهم لرحمتهم وشفقتهم وارتباطهم بزمام التقوى، وأخذهم بالعدل لا يتعمدون التعدي على أضعف المخلوقات العجماء – هذه الشهادة أدخلت السرور على سليمان صلى الله عليه وسلم لما دلت عليه من ثبوت هذا الوصف العظيم له ولجنده، وظهوره منهم واشتهارهم به. كما بعث سروره شعوره بما آتاه الله من الملك العظيم والعلم الذي م يؤته غيره، حتى فهم ما همست به النملة، وهي من الحكل١ الذي ليس له صوت يستبان في حال من الأحوال.
أدب من سرته النعمة :
نعم الله على العبد تدخل عليه السرور بجبلة الفطرة، والفرح بنعمة الله من الاعتراف بفضله والإكبار لنواله.
ومن أدب العبد – حينئذ – أن يسأل الله التوفيق لشكر تلك النعمة بصرفها في الطاعة، كما فعل سليمان صلى الله عليه وسلم.
النعم المزدوجة :
إذا أنعم الله على الأبوين بنعمة الإيمان والصلاح، فهي نعمة على ولدهما ؛ إذا اتبعهما، وتكون تلك النعمة من الله عليهما سيما في حسن تربيتهما له وتوجيهه في الوجهة الصالحة.
كما أن نعمة الله على الولد هي نعمة على والديه فهو من أثرهما، ومثل حسناته في ميزانهما، لأنهما أصل ذلك وسببه، ويدعو له الناس، فيدعون لهما ويدعو هو لهما، وقد يؤذن له فيشفع لهما.
فالنعمة على الوالد هي نعمة مزدوجة بينهما، ولهذا ذكر سليمان - صلى الله عليه وسلم – نعمة الله على والديه مع نعمته عليه.
الغاية المطلوبة :
إن شعور العبد برضى الله عنه، هو أعظم لذة روحية تعجز عن تصويرها الألسن. و إحلال الرضوان على أهل الجنة أكبر من كل ما في الجنة من نعيم ؛ فالغاية التي يسعى إليها الساعون ويعمل لها العاملون هي رضى الله٢.
فالعمل الصالح ترتضيه العقول، وتستعذبه الفطر، ولكنه لا يفيد صاحبه إذا لم يبغ به مرضاة الله ؛ ولهذا قال سليمان صلى الله عليه وسلم : ترضاه.
جمع وتحقيق :
قال الله تعالى :
" ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون " فأفاد أن الأعمال سبب في دخول الجنة.
وفي هذه الآية :" وأدخلني برحمتك " فأفاد أن الدخول بالرحمة ولا منافاة ما بينهما.
فالأعمال سبب شرعي لدخول الجنة، والهداية إليه والتوفيق فيه وقبوله هو رحمة من الله جزاء ؛ لأنه لا ينتفع به ؛ إذ هو الغني عن خلقه، وإنما تفضل فجعله سببا في نيل ثوابه، ثم تفضل فجعل الجزاء مضاعفا إلى عشر أضعاف كثيرة، إلى الموفي للصابرين أجرهم بغير حساب.
دقيقة روحية :
إن الأرواح النورانية الطاهرة السامية لا لذة لها حقيقية في هذا العالم الفاني المادي المنحط، وإنما لذتها الحقيقية في عالمها العالي الأقدس، وفي الرفيق الأعلى الأطهر، وفي معاشرة أمثالها من النفوس الطيبة الزكية، في ذلك القدس الأسنى، فهي دائمة الشوق إليه، و الانجداب نحوه.
ولذا كان من دعوات الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – الدخول في الصالحين و اللحوق بهم ؛ مثل قول سليمان هنا، وقول إبراهيم :" رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ". وقول يوسف :" توفني مسلما وألحقني بالصالحين ".
وفقنا الله لشكر ما من به من سابق النعمة، وللقيام فيما بقي من العمر بواجب الخدمة، وختم لنا باللحوق بعباده الصالحين آمين.
١ الحكل، بضم الحاء وسكون الكاف ما لا يسمع له صوت. وهذا من بصر الإمام باللغة وغريبها..
٢ و لذا كان التنكير في قوله تعالى: " ورضوان من الله أكبر للتعظيم "..
الفصل الرابع
الآية السادسة :
" وتفقد الطير فقال : مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " ؟ !
( سورة النمل – الآية : ٢٠ )
الألفاظ والتراكيب :
( تفقد ) : التفقد تطلبك ما فقدته وغاب عنك، وتعرفك أحواله ( لا أرى ) : لا أبصر.
( الهدهد ) : هو ( تبيب ) وهو طائر صغير الجرم منتن الريح ليس من كرام الطير، و لا من سباعها.
( ما لي لا أرى ) ؟ استفهم عما حصل له فمنعه من الرؤية، حيث ظن أولا أن الهدهد كان حاضرا، وإنما هو لم يره.
( أم كان من الغائبين ) ؟ استفهم عن غيبته حيث ظن ثانيا أنه غائب فاستفهم عن صحة ما ظن، فكلمة أم فيها اضطراب، وفيها استفهام، فأضرب إضراب انتقال من ظن إلى ظن.
( كان من الغائبين ) ؛ تعريض بقبح فعله، لما انحط عن شرف الحضور، وكان من الغائبين.
المعنى :
تطلب سليمان – عليه السلام – معرفة ما غاب عنه من أحوال الطير قلم ير الهدهد، وأخذ يتساءل فظن أن شيئا ستره عنه فلم يره، ولما لم يكن شيء من ذلك، ظن أنه كان غائبا غير حاضر، وذلك هو الظن الأخير الذي حصل به اليقين.
تعليم وقدرة :
من حق الرعية على راعيها أن يتفقدها، ويتعرف أحوالها ؛ إذ هو مسؤول عن الجليل والدقيق منها.
يباشر بنفسه ما استطاع مباشرته منها، ويضع الوسائل التي تطلعه على ما غاب عليه منها.
وينيط بأهل الخبرة والمقدرة والأمانة تفقد أحوالها حتى تكون أحوال كل ناحية معروفة مباشرة لمن كلف بها.
فهذا سليمان على عظمة ملكه واتساع جيشه وكثرة أتباعه، قد تولى التفقد بنفسه، ولم يهمل أمر الهدهد على صغره وصغر مكانه.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول :( لو أن سخلة١ بشاطئ الفرات يأخذها الذئب ليسأل عنها عمر (.
وهذا التفقد والتعرف هو على كل راع في الأمم والجماعات والأسر والرفاق و كل من كانت له رعية٢.
تعليل وتحرير :
سؤال وجوابه :
تفقد سليمان جنس ما معه من الطير للتعرف كما ذكرنا، وذكر الطير ؛ هو الذي تعلقت به القصة، وليس في السكوت عن غير الطير ما يدل على أنه لم يتفقده. فالتفقد لم يكن للهدهد بخصوصه، وإنما لما تفقد جنس الطير فقده ولم يجده، فقال ما قال.
فلا وجه لسؤال من سأل : كيف تفقد الهدهد من بين سائر الطير.
تدقيق لغوي وغوص علمي :
تفاسير مقبولة لتوفر شروطها :
سأل سليمان عن حال نفسه، فقال : ما لي لا أرى الهدهد ؟ ولم يسأل عن حال الهدهد. فيقل ما للهدهد لا أراه فأنكر حال نفسه قبل أن ينكر حال غيره.
فنقل الحافظ الإمام ابن العربي عن الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري شيخ الصوفية في زمانه قال :
( إنما قال مالي لا أرى لأنه اعتبر حال نفسه إذ علم أنه أوتي الملك العظيم، وسخر له الخلق، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العمل، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر فلأجله سلبها ؛ فجعل يتفقد نفسه، فقال : مالي.
وكذلك تفعل شيوخ الصوفية إذا فقدوا آمالهم تفقدوا أعمالهم. هذا في الآداب، فكيف بنا ونحن اليوم نقصر في الفرائض ؟ !
توجيه :
مثل هذه المعاني الدقيقة القرآنية الجليلة النفيسة من مثل هذا الإمام الجليل من أجل علوم القرآن وذخائره ؛
إذ هي معاني صحيحة في نفسها ؛
ومأخوذة من التركيب القرآني أخذا عربيا صحيحا.
ولها ما يشهد لها من أدلة الشرع.
وكل ما استجمع هذه الشروط الثلاثة فهو صحيح مقبول.
ومنه فهم عمرو وابن عباس - رضي الله عنهما – أجل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم من سورة النصر٣.
وتفاسيره مرفوضة :
أما ما لم تتوفر فيه الشروط المذكورة، وخصوصا الأول والثاني٤- فهو الذي لا يجوز في تفسير كلام الله، وهو كثير في التفاسير المنسوبة لبعض الصوفية : كتفسير ابن عبد الرحمن السلمي من المتقدمين، والتفسير المنسوب لابن عربي من المتأخرين.
١ المولود من الضأن أو المعز..
٢ وفي الحديث :" كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته "..
٣ أي أن أجله قد انتهى، وإن اله نعاه بقوله تعالى:
" إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " فبكى عمر حين نزلت..

٤ أي صحة المعنى في نفسه، والأخذ من التركيب القرآني العربي..
الآية السابعة :
" لأعذبنه عذابا شديدا، أو لأذبحنه، أو ليأتيني بسلطان مبين ".
الألفاظ والتراكيب :
( عذابا شديدا ) : بنتف ريشه، هكذا فسره ابن عباس وجماعة من التابعين.
( بسلطان مبين ( : بحجة قاطعة توضح عذره في غيبته. سميت الحجة سلطانا لما لها من السلطة على العقل في إخضاعه.
أفادت ( أو ) أن المحلوف على حصوله هو أحد الثلاثة، فإذا حصلت الحجة غلا تعذيب، ولا ذبح، ولو لم تحصل لفعل أحدهما.
وقد تم التعذيب لأنه أشد من القتل، وحالة الغضب تقتضي تقديم الأشد.
المعنى :
يقسم سليمان على معاقبة الهدهد – وقد تحقق غيبته – بالتعذيب أو بالذبح، إذا لم يأته بالحجة التي تبين عذره في تلك الغيبة، ولا يستثنى للعفو ولا يجعل سببا لسلامته من العقوبة إلا الحجة.
توجيه واستنباط :
ليس في الآية ما يفهم خصوص نتف الريش من لفظ العذاب الشديد، وإنما فهم ابن عباس – رضي الله عنه وأئمة من التابعين ذلك بالنظر العقلي والاعتبار ؛ فإن نتف ريشه يعطل خاصية الطيران فيه، فيتحول من حياة الطير إلى حياة دواب الأرض، وذلك نوع من المسخ، وقد علم أن المسخ في القرآن أشنع عقوبة في الدنيا، فلهذا فسروا العذاب الشديد بنتف الريش.
والإنسان خاصيته التفكير في أفق العلم الواسع الرحيب، فمن حرم إنسانا – فردا أو جماعة – من العلم فقد حرمه من خصوصية الإنسانية، وحوله إلى عيشة العجماوات، وذلك نوع من المسخ، فهو عذاب شديد، وأي عذاب شديد ؟ !١
صرامة الجندية :
كان هذا الهدهد من جنود سليمان التي حشرت له، وقد كان في مكانه الذي عين له وأقيم فيه، فلما فارق وترك الفرجة في صفه وأوقع الخل في جنسه استحق العقاب الصارم. الذي لا هوادة فيه.
وهذا أصل في صرامة أحكام الجندية وشدتها ؛ لعظم المسؤولية التي تحملتها وتوقف سلامة الجميع على قيامها بها، وعظم الخطر الذي يعم الجميع إذا أخلت بها.
تقدير العقوبة :
جرم الهدهد صغير، وما كلف إلا بما يستطيعه من الوقوف في مكانه، والبقاء في مركزه، ولكن جرمه بإخلاله بهذا الواجب كان جرما كبيرا ؛ فإن الخلل الصغير مجبلة للخلل الكبير، فقدرت عقوبته على حسب كبر ذنبه لا على حسب صغر ذاته٢.
تنبيه وإرشاد :
كل واحد في قومه أو جماعته هو المسؤول عنهم من ناحيته، مما يقوم به من عمل حسب كفاءته واستطاعته، فعليه أن يحفظ مركزه و لا يدع الخطر يدخل، ولا الخلل من جهته ؛ فإنه إذا قصر في ذلك وترك مكانه فتح ثغرة الفساد على قومه وجماعته، وأوجد السبيل لتسرب الهلاك إليهم. وزوال حجر صغير من السد المقام لصد السيل يفضي إلى خراب السد بتمامه.
فإخلال أي أحد بمركزه – ولو كان أصغر المراكز – مؤد إلى الضرر العام.
وثبات كل واحد في مركزه وقيامه بحراسته هو مظهر النظام التضامن وهما أساس القوة.
الحق فوق كل أحد :٣.
لقد أغضب سليمان غياب الهدهد، فلذا توعده هذا الوعيد، وأكده هذا التأكيد، ولكن سلطان سليمان في قوته وملكه ومكانته يجب أن يخضع لسلطان آخر هو أعظم من سلطانه : هو سلطان الحق : والحق فوق كل أحد، وملك سليمان ملك حق، فلا بد له من الخضوع لسلطان الحجة، ليقيم ميزان العدل. والعدل أساس الملك، وسياج العمران. ا ه
١ وبعض الدول تعذب الخارجين عليها بمسخ المخ؟!و يا لها من جريمة..
٢ فالعقوبة نسبية..
٣ كان هذا شعار المجلة ( الشهاب ) التي كان يصدرها الإمام، لتكون عنوانا على المعاني الكبيرة التي يريدها..
الفصل الخامس
الآية الثامنة :
" فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبإ بنبإ يقين ".
الألفاظ والتراكيب :
( مكث ) : أقام وقرأ عاصم بفتح الكاف ( غير ) : صفة زمان محذوف فالتقدير زمانا غير بعيد.
فاعل ( مكث ) : هو الهدهد مثل فاعل قال الآتي.
( أحطت ) : الإحاطة بالشيء، عقليا هي العلم به من جميع نواحيه.
( سبأ ) : اسم مدينة باليمن، سميت باسم سبأ جد العرب اليمانية حمير وغيرها، و صرفه الجمهور على اعتبار المكان، ومنه من الصرف المكى والبصري على اعتبار البلدة.
( بنبأ ) : النبأ الخبر الذي له شأن وخطورة. ( واليقين ) : المحقق جعله نفس اليقين مبالغة في تحقق.
وفي الكلام إيجاز بالحذف١ إذ المعنى فجاء الهدهد فسأله سليمان عليه السلام عن سبب مغيبه فقال :....
المعنى :
لم تطل غيبة الهدهد عن مركزه في جنود سليمان، فلم يلبث في غيبته إلا زمنا قصيرا، وكان سؤال سليمان عن غيبته فور رجوعه، فأسرع بالجواب والاعتذار عن الغيبة، والدفاع عن نفسه، فقال : اطلعت على شيء لم تطلع أنت عليه، وعرفته من جميع نواحيه، وقد أتيتك من بلدة سبأ بخبر خطير، ذي شأن عظيم تيقنته غاية اليقين.
توجيه واستنباط :
كان في جواب الهدهد حجة بينة لسبب غيابه، وذلك لأنه لم يذهب عابثا، ولا لغرض خاص به، وإنما ذهب مستطلعا مكتشفا، فحصل علما، وجاء بخبر عظيم في زمن قصير، فرجحت هذه الفوائد العظيمة بتركه لمركزه في الجند فسقطت عنه المؤاخذة.
مخالفة جائزة :
فإن قيل : إن أصل مفارقته لمركزه دون استئذان كان مخالفة يستوجب عليها العقوبة ؟
فالجواب أن هذه المخالفة كانت لقصد حسن وهو الاستطلاع، وأثمرت خيرا، فاستحق العفو عن تلك المخالفة التي كانت عن نظر، ولم تكن عن تهاون وانتهاك للحرمة.
فإن قيل : ما الذي أوقع في نفس الهدهد رغبته في طلب ما طلب ؟
فالجواب : أنه يجوز أن يكون قد مر باليمن من مكان بعيد ببصره الحاد، فرغب في المعرفة، أو أن يكون قد مر باليمن من قبل، ولم يتحقق من حالها فأراد أن يتحقق.
قاعدة أصولية :
وهذه الآية مأخذة من مآخذ الأصل القائل : إن المخالف للأمر عن غير انتهاك للحرمة لا يؤاخذ بتلك المخالفة.
ومن فروع هذا الأصل سقوط الكفارة عمن أفطر رمضان معتمدا متأولا تأويلا قريبا.
عزة العلم وسلطانه :
ابتدأ الهدهد جوابه معتزا بما أحاط به من العلم، متجملا بما حصل منه، مظهرا لارتفاع منزلته به، متحصنا به من العقاب.
ولم تمنعه عظمة سليمان – عليه السلام – من إظهار علمه وإعلان اختصاصه به دون سليمان.
أدب واقتداء :
قد سمع سليمان هذا الهدهد وأقره عليه، فللصغير أن يقول للكبير وللحقير أن يقول للجليل. علمت ما لم تعلم، وعندي ما ليس عندك إذا كان من ذلك على يقين، وكان لقصد صحيح.
لا كبير في العلم :
ومن أدب من قيل له ذلك ولو كان كبيرا جليلا أن يتقبل ذلك، ولا يبادر برده، وعليه أن ينظر فيه ليعرف مقدار صدق قائله فيقبله أو يرده بعد النظر والتأمل ؛ إذ قد يكون في أصغر مخلوقات الله وأحقرها، من يحيط علما بما لم يحط مثل سليمان – عليه السلام – في علمه وحكمته، واتساع مدركاته.
وكفى بمثل هذا زاجرا لكل ذي علم عن الإعجاب بعلمه، والاعتزاز بسعة اطلاعه، والترفع عن الاستفادة ممن دونه٢.
مدرك عقيدة :
علم الغيب :
لا يعلم أحد من الأنبياء – عليهم السلام – شيئا مما غاب عنه إلا بإعلام الله، فليس لهم كشف عام عن جميع ما في الكون، وإنما يعلمون منه ما أطلعهم الله عليه.
ومن مدارك ذلك هذه القصة : فإن سليمان عليه السلام، لم يكن يعلم من مملكة سبأ شيئا حتى أطلعه الله عليه بواسطة الهدهد.
وإذا كان هذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فغيرهم من عباد الله الصالحين من باب أحرى وأولى٣.
تحقيق تاريخي :
تحذير :
رويت في عظم ملك سليمان روايات كثيرة ليست على شيء من الصحة، ومعظمها من الإسرائيليات الباطلة، التي امتلأت بها كتب التفسير، ما تلقى من غير تثبت ولا تمحيص، من روايات كعب الأخبار ووهب بن منبه.
وروى شيئا من ذلك الحاكم في مستدركه، وصرح الذهبي ببطلانه.
ومن هذه المبالغات الباطلة أنه ملك الأرض كلها مشارقها ومغاربها، فهذه مملكة عظيمة بسبأ كانت مستقلة عنه، ومجهولة لديه، على قرب ما بين عاصمتها باليمن وعاصمته بالشام٤.
١ حذف أكثر من جملة..
٢ والحكمة ضالة المؤمن أني وجدها أخذها..
٣ عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا إلا من ارتضى من رسول"..
٤ ولعل الأوان قد آن لتصفية هذه التفاسير والأقاويل، وتحديد إقامة مثل هذه الروايات حرصا على عقيدة المسلمين..
الفصل السادس
الآية التاسعة :
" إني وجدت امرأة تملكهم، وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم "
( سورة النمل – الآية : ٢٣ )
الألفاظ والتراكيب :
( وجدت ) : أصبت ( المرأة ) : هي بلقيس بإجماع المفسرين والمؤرخين.
( تملكهم ) : تتولى أمرهم ملكة عليهم، وعبر بالمضارع تصويرا للحال العجيب وهو أن تتولى ملكهم امرأة.
وعاد الضمير على سبأ جمع مذكر على معنى القوم، إذ كانوا يسمون باسم أبيهم، فذكر لفظ سبأ أولا بمعنى المدينة١ وأعيد عليه الضمير بمعنى القوم على أسلوب الاستخدام.
( من كل شيء ) : لفظ عام أريد به كل ما تحتاج إليه، من أشياء الملك والسلطان والقوة والعمران.
( عرش ) : وهو سرير الملك الذي تجلس عليه ( عظيم ) : في كبره وقوته وحسنه.
المعنى :
يقول الهدهد لسليمان – عليه الصلاة والسلام – مبينا الخبر العظيم الذي جاء به :
إني وجدت أولئك القوم الذين يسكنون تلك المدينة، قد جعلوا امرأة ملكة عليهم، وقد أعطيت تلك الملكة كل ما تحتاج إليه في نظام ملكها وعظمته، ومن مظاهر تلك العظمة السرير العظيم الذي تجلس عليه بين أهل مملكتها.
عظمة المملكة العربية اليمنية :
كانت بلقيس ملكة على اليمن، في منتصف القرن العاشر قبل الميلاد.
وقد كانت ملكة عظيمة على مملكة عظيمة راقية.
والهدهد الذي شاهد ملك سليمان وعظمته، قد استعظم ملكها وعرشها، وعظمة العرش عنوان عظمة الملك ؛ فلهذا خصصه الهدهد بالذكر، ورغب سليمان في الإتيان به.
تفوق العرب على الإسرائيليين :
كل ذلك الرقي وتلك العظمة بلغتها المملكة العربية اليمنية بنفسها، من تفكيرها وعملها من قرون بعيدة.
فأما الإسرائيليون – وهم إذ ذاك في القرن الخامس من تاريخهم- فإنهم لم يبلغوا في ذلك العهد إلى شيء من ذلك.
وما كان من بناءات ومنشآت فهو مما صنعته له الجن والشياطين، كما جاء في آيات من القرآن عديدة٢.
ولم يترك بنوا إسرائيل من الآثار ما يدل على شيء ذي بال من الفن والقوة.
فأما ما تركته اليمن فهو شيء كثير قائم مشاهد والاكتشافات مازالت تظهر منه شيئا فشيئا٣.
ولاية المرأة الملك :
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال :
" لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة ".
قاله لما بلغه أن الفرس ملكوا عليهم امرأة ؛ فاقتضى هذا ألا تلي المرأة ولاية ولا إمارة، ولا قضاء.
وأيدت هذا النص الصحيح السنة العملية، فأخذ به جمهور أئمة الإسلام، وجاءت روايات عليلة عن بعضهم، لم يلتفت إليها، ولم يعمل بها.
تعليل :
لا تصلح المرأة للولاية.
من ناحية خلقتها النفسية، فقد أعطيت من الرقة والعطف والرأفة ما أضعف فيها الحزم والصرامة اللازمين للولاية.
وفي اشتغالها بالولاية إخلال بوظيفتها الطبيعية الاجتماعية التي لا يقوم مقامها فيها سواها وهي القيام على مملكة البيت، وتدبير شؤونه، وحفظ النسل، بالاعتناء بالحمل والولادة وتربية الأولاد.
دفع اعتراض :
في تواريخ الأمم نساء تولين الملك، ومن المشهورات في الأمم الإسلامية : شجرة الدر في العصر الأيوبي، ومنهن من قضت آخر حياتها في الملك، وازدهر ملك قومها في عهدها.
فما معنى نفي الفلاح عمن ولوا أمرهم امرأة ؟
هذا اعتراض بأمر واقع، ولكنه لا يرد علينا.
لأن الفلاح المنفي هو الفلاح في لسان الشرع، وهو تحصيل خير الدنيا والآخرة، ولا يلزم من ازدهار الملك أن يكون القوم في مرضاة الله، ومن لم يكن في طاعة الله فليس من المفلحين، ولو كان في أحسن حال فيما يبدو من أمر دنياه.
على أن أكثر من ولوا أمرهم امرأة من الأمم إذا قابلهم مثلهم، كانت عاقبتهم أن يغلبوا٤.
١ في قوله تعالى: " وجئتك من سبأ بنبأ عظيم "..
٢ كقوله تعالى: " والشياطين كل بناء وغواص. وآخرين مقرنين في الاصفاد "، وكقوله تعالى :" ومن الشياطين من يغوصون له، ويعملون عملا دون ذلك، وكنا لهم حافظين".
.

٣ كان الإمام رحمه الله حفيا بالعرب، مشيدا بمجدهم الغابر، ومجدهم الزاهر، وما من مناسبة إلا ويذكر ذلك، مذكرا لنا بما كان لأسلافنا من سؤدد، ومهيبا بنا أن نبني كما شاؤا، وأن نصنع فوق ما صنعوا، لا كما صنعوا. و سيأتي في آخر هذا التفسير محاضرة ضافية للإمام عن العرب ومجدهم وحضاراتهم في القرآن الكريم..
٤ لم يكن بن باديس ضد المرأة، بل كان داعيا لتعلمها وتثقيفها، وحث أصحابه ومريديه في قسطنطينة على إرسال بناتهم إلى معهده لطلب العلم، ثم دعا جمعية العلماء إلى تعميم ذلك في كافة التراب الوطني، ومنهن اليوم أمهات فضيليات، وأستاذات ماهرات في تعليم العربية والدين في الجزائر اليوم. ومنهن أدبيات ماهرات، بل ومن يعترضن الشعر كما شاهدت. ومن النساء الأميات ما تروى الحديث بسنده، كما سبقه عن ابن باديس. وحينما شرح بن باديس موطأ مالك، جمعنا من شرحه في " باب عناية الإسلام بالمرأة " الشيء الكثير، وضح فيه بن باديس رأي الإسلام في المرأة. وذكر ما لها وما عليها في الدنيا والآخرة. فراجعه في كتاب " من هدى النبوة " جمعنا وتصنيفنا ص ١٣١ حى ص ١٦٥..
الآية العاشرة :
" وجدتها وقومها يسجدون من دون الله،
وزين لهم الشيطان أعمالهم.
فصدهم عن السبيل
فهم لا يهتدون ".
الألفاظ والتراكيب :
( من دون الله ) : تجاوزوا عبادة الله إلى عبادة الشمس.
( زين ) : حسن، ( أعمالهم ) : سجودهم للشمس وغيره من أعمال كفرهم.
( قصدهم ) : صرفهم صرفا شديدا.
( السبيل ) : هو الطريق الوحيد المعهود للنجاة وهو توحيد اله.
( لا يهتدون ) : لا يكون منهم سلوك في طريق الحق والسداد.
جملة ( وجدتها ) : مستأنفة للبيان جوابا على تقدير سؤال فالكلام السابق بين حالتها من ناحية الدنيا، فتشوقت نفس السامع إلى معرفة حالتها من ناحية الدين.
وعدم اهتدائهم مسبب عن صد الشيطان لهم، وصده مسبب عن تزييفه لأعمالهم، هذا ما تفيده ( الفاء ).
المعنى :
المجوس :
وجدتها وقومها مجوسا يعبدون الشمس فيسجدون لها، و لا يسجدون لله.
وقد تمكن الشيطان منهم فحسن في أعينهم أعمالهم، فصرفهم عن عبادة الله وتوحيده، مع ظهور الدلائل ووضوح الآيات ؛ فثبتوا على ضلالتهم : لا يكون منهم اهتداء لطريق النجاة الظاهر، في حال من الأحوال.
سلاح الشيطان وأصل الضلال :
غريزة حب النفس :
محبة الإنسان نفسه غريزة من غرائزه، وهو محتاج إليها ليجلب لنفسه حاجتها ويدفع عنها ما يضر بها، ويسعى في تكميلها.
هذه هي الناحية النافعة والمفيدة من هذه الغريزة.
ولكنها من جهة أخرى هي مدخل من أعظم مداخل الشيطان على الإنسان، فيحسن له أعماله، وهو لمحبة نفسه يحب أعماله ويغتر بها ؛ فيذهب مع هواه في تلك الأعمال على غير هدى ولا بيان، فيهلك هلاكا بعيدا.
فاستحسان المرء لأعماله : هو أصل ضلالته وتزيين الشيطان لتلك الأعمال، هو أحد أسلحة الشيطان.
الوقاية :
فعلى المرء أن يتهم نفسه في كل ما تدعوه إليه، وأن يزن جميع أعماله بميزان الشرع الدقيق، خصوصا ما تشتد رغبته فيه، و يعظم حسنه في عينه.
الآية الحادية عشرة :
" ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، ويعلم ما تخفون وما تعلنون ".
الألفاظ والتراكيب :
( ألا يسجدوا ) : عدم سجودهم، فإن مصدرية، ولا نافية، وهو بدل بعض من أعمالهم خصص بالذكر، لأنه أصل كفرهم، ومبعث فساد أعمالهم.
( الخبء ) : الشيء المخبوء، فعل بمعنى مفعول، يقال : خبأت الشيء أخبؤه، بمعنى سترته عن العيون.
فالخبء يشمل كل ما احتوته السموات والأرض مما يبرزه الله للخلق لمنفعتهم فتشاهده العيون مثل المطر والنبات، أو تدركه العقول، مثل بدائع الخلق، ودقائق الصنع.
ومنه ما يكشفه الله لعلماء الأكوان من أسرار الخلقة عندما يستعملون عقولهم ووسائلهم العلمية، فيأتون بما فيه نفع للعباد ورقي للعمران.
( ما يخفون ) : ما يكتمون في أنفسهم أو عن غيرهم. ( ويعلنون ) : يظهرون للناس.
المعنى :
زين لهم الشيطان من أعمالهم على الخصوص عدم سجودهم لله، الذي أقام عليهم الحجة، بما يخرجه لهذ من الخيرات المختبئات في السموات والأرض :
من أمطار السماء، ونبات الأرض، ما يدل على عظيم قدرته، ولطف عمله الذي أحاط بما ببواطن الأشياء وظواهرها، وبما تنطوي عليه السرائر، أو تواريه الستائر، وبما هو ظاهر للعموم.
استدلال وتوجيه :
السجود مظهر لغاية الذل والخضوع والانقياد والاستسلام، وتلك أصل العبادة. ولا يستحقها من العبد غلا من هو – حقيقة – المنعم الغني الكامل القوي، وما هو إلا خالقه ؛ فاستدل على استحقاق الله السجود دون غيره، بما ذكر من إخراجه الخبء، ويشمل علمه لما خفي وما علن.
حكم وانبناؤه :
انبنى على أن السجود عبادة، ولا يستحقها إلا الخالق تحريم السجود لمخلوق، فلا يجوز أن يعظم به أحد أحدا، ولو لم يقصد به العبادة.
أما إذا قصد به العبادة فهو الكفر البواح.
تحذير :
كثيرا ما رأينا في الرسوم التي تنشرها الصحف أناسا من المسلمين راكعين أو مقاريين للسجود لذي سلطان.
فعلى المسلم أن يحذر من ذلك فلا يفعله، ولا ينحني لأحد من الخلق، وأن ينكره إذا رآه١.
تشوييق القرآن إلى علوم الأكوان :
دعوة للعلم :
من أساليب الهداية القرآنية إلى العلوم الكونية، أن يعرض علينا القرآن صورا من العالم العلوي والسفلي، في بيان بديع جذاب، يشوقنا إلى التأمل فيها، والتعمق في أسرارها.
وهنا يذكر لنا ما خبأه في السموات والأرض لنشتاق إليه، وننبعث في البحث عنه، واستجلاء حقائقه، ومنافعه ؛ بدافع غريزة حب الاستطلاع، ومعرفة المجهول.
وبمثل هذا انبعث أسلافنا في خدمة العلم، واستثمار ما في الكون، إلى أقصى ما استطاعوا، ومهدوا بذلك السبيل لمن جاء بعدهم.
ولن نعز عزهم إلا إذا فهمنا الدين فهمهم وخدمنا العلم خدمتهم.
ترتيب في الاستدلال :
إخراج الخبء لا يكون إلا من العالم بذلك الخبء، الذي أحاط علمه به في حال ستره، وفي حال ظهوره، فيدل ذلك على شمول علمه لما ظهر وما بطن، ومنه ما يخفون وما يعلنون، ولذلك عطفه عليه ؛ لترتبه عليه، ترتب المدلول على دليله.
١ " ولله العزة، ولرسوله، وللمؤمنين " صدق الله العظيم.
.

الآية الثانية عشرة :
" الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ".
الألفاظ :
( العرش ) : مخلوق عظيم من عالم الغيب، أعظم من السموات والأرض.
المعنى :
الموصوف بتلك الصفات، والمنعم بتك الإنعامات، المستحق للسجود منهم – وقد زين لهم الشيطان عدم السجود له – هو الله الذي لا معبود غيره، و لا يستحق العبادة سواه. خالق المخلوقات كلها، والمالك لها، والمدبر لأمرها، والمتصرف فيها، من أصغر مخلوق إلى أعظم مخلوق، وهو عرشه العظيم، الذي فاق كل ما نرى من عالم الشهادة.
توجيه الترتيب :
لما ذكر استحقاقه للعبادة بكمالاته وإنعاماته.. ذكر أن لا مستحق للعبادة غيره، إذ لا يشاركه في تلك الكمالات والإنعامات سواه ؛ فكأن الجملة كالنتيجة لما قبلها.
ولما ذكر وحدانيته في الألوهية فلا يعبد سواه.. ذكر وحدانيته في الربوبية، بانفراده بالخلق والملك والتصرف والتدبر لهذا المخلوق العظيم، ونبه به على ما دونه من المخلوقات.
ولما كان الحديث على عظمة ملك العباد : ملك النبوة وغيره، ذكر عظمة ملك الله، التي تصغر إزاءها كل عظمة.
بيان مراد :
قد يتماتل اللفظان، ولكن يجب أن يعبر كل واحد بمعنى لائق بالمقام الذي قيل فيه.
فلقد جاء في حق سليمان ( عليه السلام ) :" وأوتينا من كل شيء "، وصف الهدهد بلقيس بأنها ( أوتيت من كل شيء )، ولما كان المتحدث عنه أولا هو سليمان، فكل شيء يعم ما يحتاج إليه من أمر النبوة وملك النبوة.
كما أنه قد قال عنها.
" وله عرش عظيم ".
وقال عن الله :" رب العرش العظيم ".
فعرش عظيم بين عروش الملوك.
وعرش الله عظمته أعظم من السموات والأرض.
وهكذا لا بد من اعتبار المقام في فهم الكلام.
للعبرة والقدرة :
الهدهد الممتاز :
قد ألهم الله الحيوانات إلى ما قد يخفى عن بعض العقلاء، مضى منا كلام عن هذا فيما تقدم من هذه الآيات الكريمة.
وهذا الهدهد بين الهداهد، فله إلهام خاص، يقتضيه تخصيصه بهذا الموقف، واتصاله بسليمان عليه السلام، وزمن الأنبياء زمن خرق العوائد، وظهور الآيات١.
وقد كان في حسن بيانه، وترتيب أخباره، وبديع تهديه، عبارة بالغة لأولي الألباب.
فقد تحصن بالعلم، ونوه بالنبأ المتيقن، وفصل النبأ فشرح حاليها الدنيوية والدينية، وتنقل من تشويق إلى تشويق أبلغ منه. فكان متثبتا فيما أخبر، بارعا فيما صور، مستدلا فيما قرر، وفيما أنكر، بصيرا بكيد الشيطان للإنسان، متفطنا للأنبياء الضلالات بعضها على بعض، خبيرا بترتيب الأدلة وحسن الاستنتاج.
حديث عن الفطنة والكياسة :
وفي ما ذكر الله لنا من هذه العبر البالغة من هذا الحيوان الأعجم حث لنا على – أن نسلك – عندما نخبر ونبين، أو نبحث وننظر، أو نستدل ونرتب ونعلل – أن نسلك هذا المسلك.
وإذا كان الله – تعالى – قد بعث غرابا، ليتعلم منه ابن آدم كيف يواري سوءة أخيه، فكذلك ذكر لنا أمر هذا الهدهد الممتاز بين الهداهد لنقتدي به، تنبيها لنا على أخذ العلم من كل أحد، والاستفادة من كل مخلوق، والشعور دائما بالنقص للسلامة من شر ادواء الإنسان : العجب. والكبر، والغرور " وقل رب زدني علما "، " وفوق كل ذي علم عليم ".
لمحة نفسية :
ميزة الهدهد :
الظواهر دلائل البواطن : فالمرء يعرف من سبحات وجهه، وفلتات لسانه.
وكثيرا ما تدل كلماته على مهنته أو فكرته وعقيدته، كما تدل هيئته أو لبسته وشمائله.
وما يبشره المرء تنطبع به نفسه، و يصطبغ خياله، فيجري على لسانه في تشبيهاته وتمثيلاته وفنون قوله، فقد تختلف العبارات عن شيء واحد في وقت واحد باختلاف نفسيات المتكلمين عليه.
وقد عرف الهدهد بين الطيور بثقوب البصر، والاهتداء إلى الماء في جوف الأرض، خصوصا هدهد سليمان الممتاز بين الهداهد، فلما استدل ذكر من صنع الله ما هو أقرب إليه، وأغلب عليه، وهو إخراج الخبء الذي منه الماء المخبوء في جوف الأرض.
إشارة علمية :
دلالة الصنعة على الصانع نظرية عقلية قطعية :
فكل ذي صنعة، في مكنته أن يستدل بصنعته عن وجود خالق هذا العالم وكماله يشاهد أن صنعته ما كانت إلا به، وبما له من قدرة فيها، وعلم بها ؛ فهداه ذلك إلى أن هذا العالم ما كان إلا من خالق قادر عالم.
فالهدهد ذكر ما هو من عمله في الاستدلال على وجود الخالق تعالى ووحدانيته، ومثله كل ذي صنعة.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
١ أي المعجزات وخرق العادات.
.

Icon