تفسير سورة النّمل

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة النمل من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها. وهي تتضمن فيضا من قصص الأولين وأخبارهم، وأحداثهم، في معاندتهم ومخاصمتهم لأنبيائهم بغير حق.
ويأتي في طليعة ذلك، الإخبار عن كليم الله موسى عليه السلام، إذ رجع إلى مصر مع أهله حتى إذا رأى في طريقه نارا أتاها ليأخذ جذوة يصطلي وزوجه بها، فسمع صوتا قاصفا مخوفا يناديه ﴿ يا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ﴾ ثم آتاه الله جملة من المعجزات الكبيرة المثيرة لتكون له معاونا يزدجر به فرعون عسى أن يتذكر أو يخشى لكنه كفر وعتا عتوا كبيرا، فأخذه الله وجنوده وأتباعه بالتغريق أخذ عزيز مقتدر.
وفي السورة إخبار عن نبي الله سليمان عليه السلام ؛ إذ أوتي بعضا من المعجزات الحسية العظيمة التي تنشر في النفس اليقين بصدق رسالته وأنه مبعوث من رب العالمين. فقد علمه الله منطق الطير. وكذا النمل الذي يدب على الأرض دبيبا صامتا لينا، ويتخاطب أفراده فيما بينهم بما أودعهم الله أن يتخاطبوا به فيفهموه. وهي لغة لا يقف عليها أو يفهمها إلا من أوتي القدرة الخارقة على ذلك. وهذه معجزة ظاهرة من معجزات النبوة.
وكذلك قصة سيدنا سليمان مع ملكة سبأ التي جاءت إليه تتعرف شأنه وخبره وحقيقة أمره فوجدت عرشها منصوبا بين يديه فأثارها ذلك وراعها روعا ثم أسلمت مع سليمان لله رب العالمين
إلى غير ذلك من الأخبار والحكم والترهيب من يوم القيامة بأفزاعها وخطوبها وفظائعها. وذلك كله في أسلوب قرآني عجيب يثير الدهش ويستنفر الخيال أيما استنفار.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَاب مُّبِينٍ ( ١ ) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( ٢ ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( ٣ ) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( ٤ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ ( ٥ ) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾
مضى الكلام عن الحروف المتقطعة في فواتح السور. وقوله :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ ﴾ أي هذه آيات القرآن التي أنزلها على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. أو هذه السورة آيات القرآن ﴿ وَكِتَاب مُّبِينٍ ﴾ معطوف على القرآن. يعني : وآيات كتاب ظاهر لمن تدبره ووعاه وتفكر في معانيه وأحكامه ليستيقن أنه من عند الله. فهو لم يتقوله أنت ولا أحد سواك من البشر أو الجن.
قوله :﴿ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ هُدًى ﴾ مرفوع على أنه خبر لمبتدأ ؛ أي هو هدى. وقيل : منصوب على الحال، من الكتاب ؛ أي تلك آيات الكتاب هاديا.
﴿ وَبُشْرَى ﴾ معطوف عليه ؛ أي ومبشرا١.
والمعنى : أن هذه الآيات القرآنية بما حملته في مضمونها من جليل الأحكام والمواعظ والمعاني قد جيء بها لتكون هداية للمؤمنين، يستنيرون بها في حياتهم فتكتب لهم النجاة والسعادة في هذه الدنيا وفي المعاد. وهي كذلك بشارة من الله لمن آمن به وصدق بما أنزل من عنده وأيقن أنه حق.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢١٨..
قوله :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ هذه صفات للمؤمنين الصادقين. أولها : أنهم يقيمون الصلاة ويحافظون عليها كامل المحافظة من غير تفريط في ذلك ولا تقصير. وثانيها : أنهم يؤدون الزكاة المفروضة، دون تردد أو تثاقل أو شح. بل يبادرون ببذلها ؛ لتؤدى في وجوهها المعروفة. وثالثها : أنهم موقنون بالمعاد بعد الممات. فلا يتسرب إلى نفوسهم في هذه اليقينية الكبرى أيما شك أو ارتياب.
قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ أي هؤلاء المكذبون بيوم القيامة والذين يجحدون الساعة والمعاد قد سوّلت لهم قبائح أعمالهم وحبّب إليهم فساد سلوكهم وتصرفاتهم فظنوا أنهم يحسنون صنعا. وهم في الحقيقة ضالون تائهون سادرون في الغي والباطل.
وهو قوله :﴿ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ من العمه وهو التحير والتردد١ أي سادرون في ضلالهم مترددين حيارى. ٥
١ مختار الصحاح ص ٤٥٦..
قوله :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ أي هؤلاء الذين يكذبون بيوم القيامة ﴿ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ وذلك في الدنيا حيث المخازي والمفاسد والشقاء والضلال وفي الآخرة حيث الويل والعذاب المستديم ﴿ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ ﴾ هؤلاء المكذبون بالساعة هم أشد الناس يوم القيامة خسرانا وأعظمهم هوانا وخيبة.
قوله :﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ أي أنك تؤتى القرآن من لدن إله حكيم بتدبير الخلق، حكيم في أوامره ونواهيه وسائر أحكامه، وهو كذلك عليم بأحوال العباد ومصالحهم مما ينفعهم أو يضرهم، وعليم بما هو كائن من أمورهم سواء فيما مضى أو ما هم آت ؛ فإن الله عليم بذلك كله١
١ تفسير الرازي جـ ٢٤ ص ١٨٠ وتفسير الطبري جـ ١٩ ص ٨١، ٨٢.
.

قوله تعالى :﴿ إذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ( ٧ ) فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٨ ) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٩ ) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ( ١٠ ) إِلا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١١ ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( ١٢ ) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١٣ ) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾.
ذلك إخبار من الله عن نبيه وكليمه موسى عليه الصلاة والسلام ؛ إذ كان عائدا من مدين إلى مصر ومعه أهله فلقيا من شديد البرد والنصب ما لقيا. ثم وقع له من عظيم المعجزات الحسية ما يدل على عظيم الشأن لهذا النبي الكريم. وهو ما نعرض له في تفسير هذه الآيات البينات. وهو قوله :﴿ إذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ﴾ أي اذكر يا محمد حين سار موسى بأهله لدى عودته من مدين إلى مصر فضل الطريق لشدة الظلام وابتغاء الدليل، فقال لأهله : إني أبصرت نارا فامكثوا مكانكم سآتيكم منها بما نستدل به على الطريق ﴿ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ الشهاب، الشعلة من نار ساطعة١ والقبس، بدل من شهاب أو صفة له بمعنى مقبوس. أي آتيكم من النار بشعلة مأخوذة منها ﴿ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ أي تستدفئون من البرد. من الاصطلاء. اصطلى يصطلي إذا استدفأ.
١ مختار الصحاح ص ٣٤٩..
قوله :﴿ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ ﴿ أَن ﴾ مخففة من الثقيلة. وتقديره : أنه بورك١ أي لما جاء موسى النار التي أبصرها، وكان يظن أنها نارا كالنار المعروفة، وقف بجانبها مشدوها مبهورا وهو ينظر إلى عظمتها وشدة اضطرامها وعجيب اشتعالها وتوقدها، ثم ناداه الله بأنه بورك أي تقدس وتعظم ﴿ مَن فِي النَّارِ ﴾ أي موسى نفسه ﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ أي الملائكة. والمعنى : بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين من حول النار. وهذه تحية من الله سبحانه لموسى وتكريم له. وقيل : المراد بمن في النار، الله جل جلاله، فقد عنى بنفسه ؛ أي تقدس من في النار وهو الله. وعلى هذا يكون المراد بالنار نور الله.
قوله :﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ذلك تقديس لله وتنزيه له عن النقائص والعيوب ؛ فهو سبحانه الرب المتعالي ذو الملكوت والجبروت.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢١٩..
قوله :﴿ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ الهاء في قوله :﴿ إِنَّهُ ﴾ ضمير الأمر والشأن. أي أن الأمر والشأن أنا الله العزيز، بمعنى الغالب لا يقهره شيء ولا يعز عليه صنع شيء. و ﴿ الْحَكِيمُ ﴾، الذي يدبر أمور الخلائق في غاية الحكمة وحسن التدبير.
قوله :﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ وهذه آية كبرى من الآيات التي سخرها الله لكليمه موسى تأييدا له في دعوته، وتصديقا لنبوته ورسالته ؛ إذ أمره ربه أن يلقي عصاه التي كانت في يده فلما ألقاها صارت حية هائلة مخوفة تضطرب وتسعى مسرعة كأنما هي جان. فتولى موسى هاربا لفرط الخوف منها، كشأن البشر ؛ إذ يخافون من الأفاعي والحيات بالطبع الخلقي ﴿ وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ يعني لم يرجع ولم يلتفت من شدة ما أصابه من الرعب والجزع، فناداه ربه لكي يأمن ويطمئن ﴿ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ أي لا تخش الحية فإنها لا تضرك ولا تصيبك بسوء ولا أذى فإنك في رعايتي وحفظي فأنت في مأمن من كل سوء، فإني قد اصطفيتك لحمل رسالتي. والمرسلون ينبغي أن لا يخافوا. لأنهم في كنفي وصوني.
قوله :﴿ إِلا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ﴾ استثناء منقطع ؛ أي ولكن من ظلم نفسه منهم، إذ فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء كالذي فرط من آدم ويونس وسليمان ومن موسى بوكزه القبطي ﴿ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي من تاب وأناب بعد سوء الذنب فإني متجاوز له عن سيئته.
قوله :﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ الجيب، ما ينفتح على النحر، والجمع جيوب وأجياب١. وأمر الله موسى أن يدخل كفه في جيب قميصه حتى إذا أخرجها صارت ﴿ بيْضَاء ﴾ ساطعة تتلألأ كالبرق ﴿ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ أي من غير مرض كبرص ونحوه. وبيضاء منصوب على الحال.
قوله :﴿ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ﴾ فهاتان آيتان من تسع وهما العصا واليد. وأما الآيات الباقيات فهي : الجراد والقمل والضفادع والطوفان والدم والحجر والطمس الذي أصاب آل فرعون في أموالهم ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ أي أن فرعون وقومه من القبط كانوا كافرين بالله، خارجين عن طاعته.
١ المصباح المنير جـ ١ ص ١٢٦.
قوله :﴿ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ ﴿ مُبْصِرَةً ﴾، منصوب على الحال من الآيات، أي مبينة١ أي لما جاءت آيات الله – وهي معجزاته- فرعون وقومه من القبط ﴿ مُبْصِرَةً ﴾ أي واضحة جلية يراها الناظرون ويستيقنون حقيقتها، كذبوا وجحدوا عنادا واستكبارا. وليس لهم على جحودهم وتكذيبهم أيما حجة إلا أن ﴿ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ وهذا هو ديدن الجاحدين المفلسين الذين لا تسعفهم حجة ولا منطق ولا برهان إلا أن يقولوا في مكابرة وافتراء واحتجاج مصطنع : إن هذا سحر ظاهر وإن موسى ساحر بارع غلب السحرة بسحره.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢١٩..
قوله :﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ الباء، زائدة ؛ أي جحدوها. والمعنى : كذبوا بالآيات التسع وجحدوا كونها من عند الله وأيقنت قلوبهم أنها حق وأنها من عند الله. لكنهم أبوا واستكبروا وجحدوا ﴿ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ كلاهما صفة لمصدر محذوف. أي جحدوا بها جحودا ظلما وعلوا.
قوله :﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ أي انظر وتدبر ما حل بآل فرعون وقومه الظالمين من وخيم العواقب وسوء المصير من تغريق وتدمير١.
١ تفسير الطبري جـ ١٩ ص ٨٤-٨٧ وتفسير الرازي جـ ٢٤ ص ١٨٤ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ١٦٠-١٦٣..
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٥ ) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ( ١٦ ) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ( ١٧ ) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( ١٨ ) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾.
هذا إخبار من الله عن نبيين كريمين وهما داود وابنه سليمان، وما آتاهما من تفضيل وتكريم. لقد آتاهما من العطايا والخصائص في هذه الدنيا ما لم يعط أحدا من البشر مثله. فقد آتاهما النبوة والملك، وعلمهما منطق الطير والدواب وخول سليمان قيادة جنوده من الجن والإنس والطير.
قوله :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ﴾ أتاهما الله فهما في الدين والأحكام والأحوال. أو علمهما منطق الطير والدواب بفهم ما تتخاطب به هذه الخلائق من لغات.
قوله :﴿ وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي الحمد لله على ما خصنا به من العلم الذي أوتيناه دون غيرنا من الناس ففضلنا بذلك على كثير من عباده المؤمنين. ويستفاد من ذلك ما قررته ديانة السماء من شرف المنزلة ورفيع الدرجة للعلم والعلماء. لا جرم أن العلم أجل النعم على الإنسان. وهو لا يعلوه إلا التقوى ﴿ يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات ﴾.
قوله :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ ورث سليمان عن أبيه النبوة والملك دون سائر إخوته. فقد خصه الله بذلك من بينهم تكريما له وتشريفا. ثم أعلن على الملأ أن الله علمه منطق الطير. أي أفهمه لغتهم فكان يدرك ما تتخاطب به الطيور والدواب من لغات فيما بينها.
والمراد بإتيانه من كل شيء، كثرة ما آتاه الله من جزيل النعم والخيرات.
قوله :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ أي الفضل الكبير الظاهر الذي لا يخفى على أحد.
قوله :﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنسِ وَالطَّيْرِ ﴾ أي جمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير وهو راكب فيهم في أبهة وشرف، فكان يليه الإنس، ومن بعدهم الجن، ومن فوق رأسه الطير تظله بأجنحتها من حر الشمس.
قوله :﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا. أو يمنعون ويدفعون ويرد أولهم على آخرهم. وهو من الوازع، أي الكاف أو المانع. ويقال للذين يدفعون الناس عن الولاة والأمراء وزعة، لكفهم إياهم عنهم. والوزعة جمع وازع. والوازع، الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم ويؤخر جمعه. قال الحسن البصري : لا بد للناس من وازع ؛ أي من سلطان يكفهم١ وروي عن عثمان قوله : ما يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن ؛ أي يكفهم.
١ مختار الصحاح ص ٧١٩..
قوله :﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ ﴾ لما أتى سليمان وجنوده على واد النمل، قيل : بأرض الشام، وقيل : بالطائف ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ﴾ ﴿ لا ﴾، ناهية١ أي لا يكسرنكم سليمان وجنوده بوطئهم عليكم ﴿ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ﴾ أي لا يعلمون بكم. أو لا يعلمون أنهم يحطمونكم.
وهذه واحدة من المعجزات التي أوتيها نبي من أنبياء بني إسرائيل. معجزة ظاهرة مثيرة تتجلى في كلام تنطق به نملة من النمل فيفهمه سليمان. وذلك من تقدير الله الذي يختار من عباده من يشاء ليميزهم بالنبوة الطاهرة وما تقتضيه من الظواهر العجيبة الخارقة لنواميس الحياة وقوانين الطبيعة.
من أجل ذلك كان للنمل تكريم. فقد قال ابن عباس : " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب، الهدهد والصرد٢ والنملة والنحلة " وأخرجه أبو داود عن أبي هريرة. وثبت في الصحيح عند مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قرصت٣ نبيا من الأنبياء نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه : أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ؟ فهلا نملة واحدة ؟ " ويستدل من هذا أيضا على جواز قتل ما يؤذي أو يضر من النمل ؛ فقد أبيح للمؤمن أن يدفع عن نفسه الأذى والضرر إن كان من إنسان، فكيف بالهوام والدواب التي سخرها الله للإنسان وسلطه عليها ؟ وعلى هذا إذا تأذى الإنسان من النمل جاز له قتل المؤذي منه. فإن قوله : " فهلا نملة واحدة ؟ " دليل على أن الذي يؤدي، يؤذى ويقتل. وكلما كان القتل لنفع أو لدفع ضرر فلا بأس به عند العلماء.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢٠..
٢ الصرد: بوزن عمر: طائر فوق العصفور. أو هو نوع من الغربان ويقال له الواق. وكانت العرب تتطير من صوته وتقتله فنهى عن قتله دفعا للطيرة وجمعه صردان. انظر لسان العرب جـ ٣ ص ٢٤٩ والمصباح المنير جـ ١ ص ٣٦١..
٣ القرص: الأخذ بأطراف الأصابع. قرصت الشيء قرصا: لويت عليه بأصبعين. أو أخذ جلده بظفرين. انظر مختار الصحاح جـ ٢ ص ١٥٥..
قوله " ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا ﴾ ﴿ ضَاحِكًا ﴾، منصوب على الحال. وتقديره تبسم مقدار الضحك ؛ لأن التبسم غير الضحك وهو دونه١ والمعنى أن سليمان تبسم ضاحكا عجبا مما سمعه من قول النملة ؛ فقد ألهمه الله القدرة على سماع النملة وهي تنطق، وخوله من نورانية النبوة وإشراقها ما يستطيع به أن يفهم ما تتخاطب به النمل فيما بينها.
قوله :﴿ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾ أوزعني، أي ألهمني. و ﴿ أن ﴾، مصدرية ؛ فقد دعا سليمان ربه خاشعا متذللا : رب ألهمني شكر نعمتك، أو اجعلني أشكر نعمتك التي مننت بها علي إذ علمتني منطق الطير والدواب، وما مننت به على والدي بالهداية والإيمان بك ﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ﴾ وألهمني أو اجعلني أعمل الطاعات والصالحات لترضى عني ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ أي ألحقني بالصالحين من عبادك وأدخلني في جملتهم الجنة٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢١..
٢ أحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص١٤٣٨ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ١٦٧-١٧٦..
قوله :﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ( ٢٠ ) لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ٢١ ) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ( ٢٢ ) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( ٢٣ ) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ( ٢٤ ) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( ٢٥ ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٢٦ ) *قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٢٧ ) اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾.
ذكر عن ابن عباس وغيره أن الهدهد كان يدل سليمان عليه السلام على الماء إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض ليعرف كم مسافة بُعْده من وجه الأرض. فإذا دلهم عليه أمر سليمان عليه السلام الجان فحفروا ذلك المكان حتى يستنبط الماء من قراره. فنزل سليمان عليه السلام يوما بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره. وهو قوله سبحانه :﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ يعني ما لي لا أرى الهدهد هل أخطأ بصري فلا أراه، وقد حضر ﴿ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ ﴿ أم ﴾ منقطعة، بمعنى بل والهمزة ؛ أي بل أهو غائب مع الغائبين فلم يحضر.
قوله :﴿ لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ ﴿ عَذَابًا ﴾، منصوب على المصدر١ وتعذيبه بنتف ريشه وإلقائه في الشمس. ﴿ أَوْ لأذْبَحَنَّهُ ﴾ يعني لأقتلنه ﴿ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ أي حجة ظاهرة تكون عذرا له في غيبته.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢٠..
قوله :﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ ﴿ غَيْرَ ﴾، منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، وتقديره فمكث مكثا غير بعيد. وقيل : منصوب على أنه صفة لظرف محذوف. وتقديره : فمكث وقتا غير بعيد١ أي مكث الهدهد غير طويل من الوقت ؛ إذ غاب زمانا يسيرا ثم جاء ليقول لسليمان :﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ أي علمت من الأخبار ما لم تعلمه أنت ولا جنودك ﴿ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ ﴿ سَبَإٍ ﴾، اسم مدينة تعرف بمآرب اليمن بينها وبين صنعاء ثلاثة أيام، وكانت فيها بلقيس. والمعنى : جئتك من سبأ بخبر حق ويقين لا شك فيه.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢٠..
قوله :﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ﴾ المراد بالمرأة هنا بلقيس، فقد وجدتها تملك أهل سبأ ؛ إذ كانت ملكة عليهم، وكان أهلها وقومها مجوسا يعبدون الشمس ﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي أعطيت من متاع الدنيا وزينتها ما يحتاجه الملوك ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ أي سرير، إذ كان عظيما في هيئته ومزخرفا بأنواع الجواهر، وكانت تجلس عليه.
قوله :﴿ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ كانت ملكة سبأ وقومها ممن يعبدون الشمس ؛ إذ كانوا مجوسا، فكانوا بذلك وثنيين يعبدون غير الله.
قوله :﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي سوّل لهم الشيطان عبادة الشمس وكل وجوه الكفر، وزين ذلك في قلوبهم ﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ﴾ أزلّهم الشيطان عن طريق الحق ؛ إذ أضلهم وأغواهم فهم بإغواء الشيطان لهم ضلوا ولم يسلكوا طريق الحق والهداية.
قوله :﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ ﴿ أَلَّا ﴾، بالتشديد، وأصلها : أن لا. وأن في موضع نصب متعلق بقوله :﴿ يَهْتَدُونَ ﴾ ولا، زائدة. وقيل : إن منصوب على البدل من الأعمال. ولا غير زائدة. وقرئ ( ألا )، بالتخفيف، فتكون ألا، للتنبيه. ويا حرف نداء. والمنادى محذوف. والتقدير : ألا يا هؤلاء اسجدوا١ ﴿ لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ ﴿ الْخَبْءَ ﴾، ما خبئ. وخبء السماء القطر، وخبء الأرض النبات٢ والمعنى : أن الله يخرج المخبوء أو المستور في السماوات والأرض من غيث في السماء أو نبات وكنوز في الأرض ونحو ذلك. أو أن الله يعلم كل مخبوء ومستور في السماوات والأرض ﴿ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ وهذه صفة من صفات الله تعالى، وهو علمه بالغيب، فهو عليم بكل شيء، سواء في ذلك ما كان خفيا مستورا أو ظاهرا معلوما.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢١..
٢ مختار الصحاح ص ١٦٧..
قوله :﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ الله الواحد، ليس من معبود إلا هو، ولا تصلح العبادة لأحد سواه، وهو ذو الملكوت ورب كل شيء ورب العرش العظيم. وقد خص العرش هنا بالذكر ؛ لأنه أعظم المخلوقات في هذا الوجود.
قوله :﴿ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ قال سليمان للهدهد : سننظر أو نتأمل في مقالتك وما اعتذرت به أو تذرعت به من الحجة، أصدقت أم كذبت.
قوله :﴿ اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ كتب سليمان كتابا إلى ملكة سبأ وهي بلقيس، ثم دفعه إلى الهدهد ليحمله إليها وقومها فلما جاءها ألقاه إليها ثم تولى منصرفا كما أمره سليمان١.
١ تفسير القرطبي جـ ١٣ ص ١٧٧-١٩١ وتفسير الطبري جـ١٩ ص ٩٢-٩٥ والبيضاوي ص ٥٠٢..
قوله تعالى :﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ( ٢٩ ) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( ٣٠ ) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ ذهب الهدهد فألقى كتاب سليمان إلى بلقيس، فقالت لأشراف قومها وهم الملأ :﴿ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾ وصفت كتاب سليمان بالكرم، لأن صاحبه سليمان كريم، فعظمته بذلك وأجلته إجلالا. وقيل : وصفته بأنه كريم لما تضمنه كتابه من لين القول والموعظة في الدعاء إلى دين الله وإلى صراطه المستقيم.
فقد جاء كتابه لها مستعطفا مستلطفا دون فظاظة من القول، كالسب أو الشتم أو اللعن بل كان حديثا حسنا وفي غاية التأديب والاستلطاف وذلك هو شأن الدعاة إلى الله، إذ يدعون في لين وهوادة. كما قال سبحانه :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾ وقال سبحانه عن موسى وهارون :﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ﴾.
أما الكتاب الذي القي إليها، كان مبدوءا بالبسملة وهي ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ وهذه بداية مباركة لكل قول أو فعل. فما يخلو منها أو خطاب أو كتاب أو عمل حتى تنتزع منه البركة. وفي الخبر : " كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم "
وقد تضمن كتاب سليمان ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ﴾ أن، في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر. أي بألا تعلو. وقيل : أن، في موضع رفع على البدل من ﴿ كِتَابٌ ﴾ وتقديره : إني ألقي إلي كتاب ألا تعلو، وقيل : أن، مفسرة بمعنى أي١.
قوله :﴿ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ يعني أقبلوا إلي مؤمنين مذعنين لله بالوحدانية والطاعة والامتثال لأمره وحكمه٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٣ ص٢٢٢..
٢ تفسير الطبري جـ١٩ ص ٩٤-٩٦ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ١٩١-١٩٤..
قوله تعالى :﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ( ٣٢ ) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ( ٣٣ ) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ( ٣٤ ) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾.
قالت بلقيس – هذه المرأة الحازمة الفطنة- للملأ وهو أشراف قومها :﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ﴾ أي أشيروا علي في أمري من شأن هذا الكتاب الذي ألقي إلي وهو مرسل من سليمان ﴿ مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ أي لم أكن لأقضي أمرا في شأن ذي أهمية كهذا حتى تحضروا إلي فأشاوركم فيه.
وهذا دليل حزمها ورجاحة عقلها ؛ إذ تعبأ بالمشورة لتخلص إلى الرأي السديد. وما يطلب المشورة من أهل النهى والنظر إلى العقلاء الحازمون من الناس، الذين يبتغون لأنفسهم وأمتهم السلامة والخير. ولا يستكبر على قومه وأهل النظر فيهم فينفر من مشاورتهم إلا الجاهلون والسفهاء والمستكبرون.
قوله :﴿ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ كان جواب قومهم وأشرافهم : نحن أقوياء وأشداء ومقتدرون على القتال ومواجهة من تريدين ﴿ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ يعني الأمر في كل الأحوال راجع إليك وما تقولينه من أمر وقرار، فانظري من الرأي ما ترينه صواب ثم مرينا به لنأتمر بأمرك ولا نني.
قوله :﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ قالت بلقيس لمن حولها من الحاشية والأشراف عقب عرضهم أنفسهم عليها لقتال سليمان : إن الملوك إذا دخلوا بلدا أو مدينة عنوة وقهرا ﴿ أَفْسَدُوهَا ﴾ بالقتل والتخريب والإذلال. وهو قوله :﴿ وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ﴾ أي أهانوا أشرافها وكبراءها فجعلوهم أذلة مقهورين ﴿ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ هذا من قول بلقيس، تأكيدا لما قالته عن إفساد الملوك لما يحتلونه ويقهرونه من البلاد والعباد.
وقيل : هذا من قول الله، إذ يبين لنبيه صلى الله عليه وسلم وأمته ما يفعله الملوك إذ غلبوا أهل القرية ودخلوها عنوة، وإنما يفعل ذلك من الملوك الذين يحكمون بشرائع الضلال والجاهلية، الشرائع القائمة على الظلم والشر والباطل، والتي تسوّل للساسة والأمراء والملوك الطغاة أن يفعلوا الآثام والمنكرات والمعاصي. أولئك هم ملوك الضلال والباطل الذين يشاقون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا، ويسوسون الناس بغير ما أنزل الله بل يسوسونهم بالكفر وأنظمة الجاهلية، ويقودونهم بالبطش والتنكيل. أما الملوك الذين يخشون ربهم يحكمون الناس بشريعة الله، شريعة العدل والفضل والرحمة والاستقامة. فأولئك لا يفسدون البلاد ولا يسعون في خرابها وتدميرها بل ينشرون فيها الخير والفضيلة والهداية. ويرسخون فيها العدل والرحمة والاستقرار.
قوله :﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾. جنحت بلقيس في هذا إلى المصانعة والمراوغة والمسالمة ؛ لترى ماذا تكون عليه النتيجة لو أرسلت بهدية إلى سليمان. ويدل ذلك على ما تتسم به هذه المرأة من فطانة وبراعة وثاقب نظر.
وهو قوله :﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ أرادت من إرسال الهداية إليه أن تختبره بها فتعرف أنه ملك أو نبي. فإن كان ملكا قبلها. وإن كان نبيا ردها ولم يقبلها فتستيقن بذلك أنه لا قبل لها ولجنودها بسليمان وجنوده١.
١ تفسير الطبري جـ ١٩ ص ٩٥-٩٧ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ١٩٥-٢٠٠..
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ( ٣٦ ) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٣٧ ) قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ( ٣٨ ) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ( ٣٩ ) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾.
لما جاء الرسول سليمان بالهدية قال :﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ﴾ الاستفهام للإنكار. استنكر سلميان إمدادهم له بالمال مصانعة منهم له وموادعة لكي يتركوهم على حالهم من الكفر والملك والمتاع.
قوله :﴿ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم ﴾ أي ما أعطانيه ربي من الملك والجاه والسلطان والنبوة والإسلام والمال خير مما أعطاكم ﴿ بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ أنتم الذين تفرحون بالهدايا، لأنكم أهل مكاثرة ومفاخرة بالأموال والهدايا وصنوف المتاع من زينة الحياة الدنيا.
قوله :﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا ﴾ قال سليمان لرسول بلقيس : ارجع إليهم بهديتهم فلنأتينهم بجنود من الإنس والجن لا طاقة لهم بقتالهم ﴿ وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا ﴾ اللام للقسم، أو التوكيد. أي لنخرجنهم من أرضهم ﴿ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ أي مهانون ذليلون خزايا.
قوله :﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ قال سليمان هذه المقالة بعد ما رجع رسول بلقيس إليها فتجهزت هي وقومها للقدوم إلى سليمان طائعين مذعنين. وهو قوله :﴿ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ وعرشها، سريرها العظيم بهيأته وزخرفته وحبكه بالجوهر فقد أراد سليمان إحضار عرشها لترى ما خوله الله من قدرة فائقة تشهد بصدق نبوته وانه مرسل من ربه. وذلك من قبل أن يأتوه مسلمين. أي طائعين منقادين. على أن بلقيس لم تأت سليمان مسلمة على دينه من التوحيد، بل إنها أسلمت بعد مقدمها عليه وما جرى بينهما من تحاور وجدال، فرأت صدق حديثه وصحة ما يقول ؛ فأيقنت أنه نبي مرسل ؛ فأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
قوله :﴿ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ﴾ العفريت هو رئيس مارد قوي من رؤساء الجن. فقد قال لسليمان : أنا آتيك بعرشها قبل أن تقوم من مجلسك الذي جلست فيه لتقضي بين الناس ﴿ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾ أي قوي قادر على حمله، وأمين على ما فيه من الجواهر فلا أفرط فيه ولا أخونه.
قوله :﴿ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ الذي عنده علم الكتاب رجل صالح من بني إسرائيل كان وزيرا لسليمان وكان تقيا صديقا وذا علم بالكتاب المنزل من عند الله. فقد قال سليمان ﴿ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ يعني آتيك بعرش بلقيس في مقدار ما تفتح فيه عينك ثم تطرفها، أي في لحظة عين. والطرف : تحريك الأجفان عند النظر. ولا عجب فهذه معجزة من الله تشهد بصدق نبوة سليمان وأنه رسول رب العالمين، أما في حق الرجل الصالح الذي جاء بعرشها في طرفة عين، فهذه كرامة من الكرامات يؤتيها الله أولياءه الصالحين من عباده المؤمنين.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ﴾ لما رأى سليمان عرش بلقيس ثابتا بين يديه هتف شاكرا محبورا من أمر الله وفضله عليه وهو قوله :﴿ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ﴾ أي هذا العطاء والتوفيق والتمكين مما أنعم به ربي علي ﴿ لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ أي ليمتحنني ربي أأشكر نعمته علي أم أجحدها.
قوله :﴿ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ أي من شكر الله على ما تفضل به وأنعم فذكر ذلك لله مقرا معترفا بمنه وكرمه فإنما ينفع بهذا الشكران نفسه، والله جل وعلا يزيد الشاكرين خيرا منه وفضلا.
قوله :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ الله غني عن العالمين فلا يعبأ بهم وبكفرهم، وهو سبحانه كريم في نفسه سواء شكره العباد أو كفروه١.
١ أحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٤٤٨-١٤٥٠ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢٠١-٢٠٧. وفتد القدير جـ ٣ ص ١٣٨ وتفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٣٦٤..
قوله تعالى :﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ( ٤١ ) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ( ٤٢ ) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ( ٤٣ ) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
لما جيء بعرش بلقيس إلى سليمان وجاءت هي إليه قال لجنوده :﴿ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ﴾ أي غيروه لها. وتغييره بجعل أعلاه أسفله، أو أسفله أعلاه. أو أن يزاد فيه وينقص منه.
قوله :﴿ نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ﴾ ﴿ نَنظُرْ ﴾، جواب الأمر ؛ أي ننظر أتعرف عرشها أو لا تعرفه.
قوله :﴿ فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾ لما جاءت بلقيس سليمان أظهر لها عرشها ثم ﴿ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾ ﴿ أَهَكَذَا ﴾، ثلاث كلمات : حرف التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة. والمعنى : أمثل هذا عرشك ؟ فشكت وشبهته به وقالت :﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ وذلك من رجاجة عقلها ونباهتها.
قوله :﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ هذا من قول سليمان. والمعنى : أوتينا العلم بإسلام ملكة سبأ وبمجيئها إلينا طائعة ﴿ مِن قَبْلِهَا ﴾ أي من قبل مجيئها. أو أوتينا العلم بالله وبقدرته المطلقة على فعل ما يشاء من قبل هذه المرأة ﴿ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ أي مسلمين لله من قبلها.
وقيل : من قول بلقيس. فالمعنى : أوتينا العلم بصدق سليمان وحقيقة نبوته من قبل هذه الآية في العرش ﴿ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ أي طائعين منقادين لأمره. أو أوتينا العلم بكمال قدرة الله وصدق نبوة سليمان قبل هذه المعجزة، وكنا على دينه ومنقادين لحكمه.
قوله :﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ هذا من قول سليمان. والمعنى : أوتينا العلم بإسلام ملكة سبأ وبمجيئها إلينا طائعة ﴿ مِن قَبْلِهَا ﴾ أي من قبل مجيئها. أو أوتينا العلم بالله وبقدرته المطلقة على فعل ما يشاء من قبل هذه المرأة ﴿ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ أي مسلمين لله من قبلها.
وقيل : من قول بلقيس. فالمعنى : أوتينا العلم بصدق سليمان وحقيقة نبوته من قبل هذه الآية في العرش ﴿ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ أي طائعين منقادين لأمره. أو أوتينا العلم بكمال قدرة الله وصدق نبوة سليمان قبل هذه المعجزة، وكنا على دينه ومنقادين لحكمه.
قوله :﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ﴾ ﴿ الصَّرْحَ ﴾، معناه القصر، وكل بناء عال. وجمعه صروح١ واللجة هي معظم الماء٢. والصرح، وهو القصر الذي أمرت بلقيس بدخوله كان من قوارير، أي زجاج، وقيل : كان من تحته ماء جعله سليمان كذلك لتستعظم بلقيس أمر سليمان فتستيقن أنه نبي مرسل. ولما طلب منها أن تدخل القصر ظنته ماء فكشفت عن ساقيها كيلا يبتل ثوبها.
وما ينبغي لنا أن نشطح فوق ذلك فننجح في ذكر الروايات الغربية الشاذة عن وصف بلقيس في هيئة قدميها وساقيها وما عليها من شعر كما جنح كثير من المفسرين اغترارا بما في ذكر هذه المسألة من الإسرائيليات. وهي روايات كثيرة ومريبة، وغالبا ما يخالطها الشك والمبالغة والنقل المضطرب الموهوم الذي لا يسعفه التثبت ولا الرويّة ولا اليقين.
وأقصى ما يراد بالقصة من بناء القصر الممرد على هيئته العظيمة والشامخة المنيفة، ما كان يبتغيه سليمان من الإظهار لملكة سبأ أنه مؤيد من الله، وأن سلطانه وتمكينه في الأرض إنما كان بقدرة الله ؛ لتستيقن أنه مرسل من ربه فتبادر للإيمان معه.
ولما كشفت عن ساقيها لتلج القصر وهي تظن أنه ماء قيل لها :﴿ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ﴾ أي قصر أملس من زجاج. عندئذ أيقنت ملكة سبأ أن سليمان مرسل من ربه وأنه نبي زمانه ؛ لما رأت من عجائب الخلق الباهر. سواء في ذلك ؛ هذا القصر الهائل المثير، أو حمل عرشها العظيم في لمح البصر لتجده بين يدي سليمان في قصره، وهي معجزة ظاهرة لا تدع مجالا للشك أو الارتياب. إنها لما رأت ذلك كله أعلنت إسلامها في مجاهرة صريحة وإقرار ظاهر. بما كانت عليه من كفر وضلال، قبل أن تتوب إلى الله فتفيء إليه مسلمة أمام سليمان. وهو قولها :﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي ظلمت نفسي بما سلف من الكفر والإشراك بالله وعبادة الشمس، وأسلمت الآن متابعة لسليمان في دينه وعبادته لله الواحد٣.
١ مختار الصحاح ص ٣٦٠..
٢ القاموس المحيط جـ ١ ص ٢١٢..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٢٦٦ وفتح القدير جـ ٣ ص ١٤١ وتفسير البيضاوي ص ٥٠٤..
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٥ ) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٤٦ ) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾
أرسل الله نبيه صالحا إلى قومه ثمود ليدعوهم إلى توحيد الله وعبادته وحده دون غيره من الأنداد ﴿ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴾ من الخصومة، وهي الجدال١.
والمعنى : أرسل الله إلى قوم ثمود نبيهم صالحا فصاروا فيما دعاهم إليه فريقين يتجادلون. ففريق مصدق ومؤمن بما جاء به صالح، وفريق جاحد ومكذب بما جاءهم به، فقال لهم نبيهم صالح ناصحا لهم وواعظا قَالَ ﴿ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ﴾
١ القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٠٩...
﴿ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ﴾ أي لماذا تستعجلون العذاب قبل الرحمة فتؤخروا الإيمان بربكم وبما جئتكم به من عنده وتبادروا بالكفر الذي يفضي بكم إلى العذاب.
وذلك أن المشركين من قومه كانوا لفرط إنكارهم وشدة جحودهم يقولون له على سبيل المعاندة والتهكم : ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به.
قوله :﴿ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ أي هلا تتوبون إلى الله مما أنتم عليه من الكفر فيتوب الله عليكم ويغفر لكم ذنوبكم ويرحمكم برحمته الواسعة.
قوله :﴿ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ﴾ التطير، معناه التشاؤم. والطيرة هي ما يتشاءم به من الفأل الرديء. و ﴿ اطَّيَّرْنَا ﴾، أصله تطيرنا١، أي قال المشركون من ثمود لنبيهم صالح : تشاءمنا بك وبمن معك، فما رأينا على وجهك ووجوه الذين اتبعوك خيرا. فقد كانوا لحماقاتهم وجهالاتهم، لا يصيب أحدا منهم سوء إلا قال هذا من صالح وأصحابه افتراء منهم وتخريصا. فرد صالح مقالتهم وما كانوا يظنونه من الوهم والسفه فقال :﴿ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ﴾ أي مصائبكم عند الله. أو السبب الذي منه يجيء خيركم وشركم ﴿ عِندَ اللَّهِ ﴾، وهو قضاؤه وقدره. فإن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم وهو قول الرازي. وقال لهم صالح أيضا :﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾ أي تمتحنون ؛ إذ يختبركم الله بإرسالي إليكم ليميز المطيع منكم من العاصي، أو المهتدي من الضال، فيجازي الأول خيرا وحسنا، ويعذب الثاني بكفره وعصيانه. ويحتمل أن يكون المراد، أن الشيطان يفتنهم بوسوسته فيزين لهم الكفر وفعل المعاصي٢.
١ مختار الصحاح ص ٤٠٢.
.

٢ تفسير الرازي جـ ٢٤ ص ٢٠٣ وتفسير الطبري ص ١٠٧..
قوله تعالى :﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ( ٤٨ ) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( ٤٩ ) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( ٥٠ ) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ( ٥١ ) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٥٢ ) وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾.
كان في مدينة صالح وهي الحجر، من أرض الشام ﴿ تِسْعَةُ رَهْطٍ ﴾ أي تسعة نفر. والرهط، ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة. والجمع أرهط وأرهاط وأراهط. ورهط الرجل قومه وقبيلته١. والمعنى : أن تسعة رجال من أشراف ثمود وهم من كبراء القوم وسادتهم وقادتهم إلى الضلال والكفر كانوا يفسدون في الأرض بالتحريض على تكذيب صالح والتصدي له بالأذى والجحود وغير ذلك من وجوه الإفساد، كتتبع عورات النساء وإشاعة الرذيلة بين الناس. وهم الذين سعوا في قتل الناقة. وفق ذلك كله تعاون هؤلاء الأشرار الأشقياء فيما بينهم على قتل صالح فتحالفوا على الإتيان بهذه الفعلة الفظيعة النكراء. وهو قوله :﴿ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾.
١ مختار الصحاح ص ٢٥٩..
﴿ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾ قال بعضهم لبعض مستسرين فيما بينهم : تحالفوا بالله، أي ليحلف بعضكم لبعض على أن نقتل صالحا وأهله ليلا ﴿ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ ﴾ المراد بوليه، رهط صالح الذين لهم ولاية الدم. أي لنقولن لقبيلة صالح ما حضرنا قتل صالح وأهله أو إهلاكهم ولا نعلم من قتلهم ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ أي فيما نقول، وفي إنكارنا لقتله.
لقد تمالأ المجرمون الأشرار على قتل رسول الله الذي أرسله إلى الناس بالهدى والصلاح والفضيلة ؛ فأي اجتراء غشوم أثيم على الإتيان بهذه الفعلة الخبيثة. وأي جناية عظمى يتلبس بها هؤلاء الخبثاء الأشقياء وهم يتواطئون على إزهاق إنسان ليس كغيره من الأناسي، ولكنه رسول رب العالمين.
لكن الله المنتقم الجبار كان لهؤلاء المتواطئين المجرمين بالمرصاد ليرد كيدهم في نحورهم، ويدفع عن نبيه الكريم شرهم ومكرهم. وهو قوله :﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ﴾. المكر، يعني الاحتيال والخديعة. فهو ماكر ومكار. ومكر الله معناه مجازاته على المكر ؛ فهو يجازي السيئة بالعقاب. وذلك مكره١ فقد أخذهم الله بالعذاب ودمّر عليهم تدميرا ﴿ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ﴾ أي استدرجهم الله استدراجا ثم أخذهم على غره وهم لا يعلمون بمكر الله بهم. وذلك جزاء تمالئهم على نبيه وائتمارهم به ليقتلوه ليلا. قال ابن عباس : أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة فامتلأت بهم دار صالح. فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فقتلهم الملائكة رضخا بالحجارة فيرون الحجارة ولا يرون من يرميها. وقيل : اختفوا في غار قريب من دار صالح، فانحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعا. فهذا ما كان من مكرهم، ومكر الله مجازاتهم على ذلك.
١ مختار الصحاح ص ٦٢٩ والمصباح المنير جـ ٢ ص ٢٤٣..
قوله :﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ أنّ بالفتح بدل من العاقبة١ ؛ أي انظر يا محمد ما آلت إليه حال هؤلاء الظالمين الماكرين، وما صاروا إليه من الهلاك والإبادة فقد دمّر الله عليهم وقومهم تدميرا، إذ أخذ الله التسعة المفسدين وهم الرهط الذين ائتمروا بصالح ليقتلوه ليلا. وكذلك أهلك الباقين من ثمود بالصيحة العاتية فدمدم عليهم ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ﴾
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢٥..
﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ﴾ ﴿ خَاوِيَةً ﴾، منصوب على الحال من بيوتهم١ و ﴿ خَاوِيَةً ﴾، خالية من أهلها. من الخواء٢.
والمعنى : أن مساكن هؤلاء الظالمين خالية منهم فليس فيها منهم أحد ؛ إذ أهلكهم الله إهلاكا بسبب ظلمهم، أي إشراكهم وتكذيبهم وصدهم عن الحق.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ أي فيما فعله الله بثمود من التدمير والإهلاك والإبادة لعبرة لمن يعتبر وعظة لمن يتذكر فيخشى ويزدجر.
١ نفس المصدر السابق..
٢ المصباح المنير جـ ١ ص ١٩٨..
قوله :﴿ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ لقد نجّى الله الفئة المؤمنة من عباده الذين اتبعوا صالحا فصدقوه وآمنوا بدعوته ؛ فقد خرج بهم صالح إلى أرض الشام، وقيل إلى حضرموت حيث كتب الله لهم السلامة والنجاة بسبب إيمانهم وتقواهم والله ينجي عباده الصالحين١
١ تفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢١٦-٢١٨ وتفسير الطبري جـ ١٩ ص ١٠٨-١١٠..
قوله تعالى :﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ( ٥٤ ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( ٥٦ ) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ( ٥٧ ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾
﴿ وَلُوطًا ﴾، منصوب بفعل مقدر. وتقديره : واذكر لوطا، أو أرسلنا لوطا١ وهذا إخبار من الله عن نبيه لوط ؛ إذ ابتلاه ربه بقوم فاسقين قذرين يعملون الخبائث ويقترفون أشد الموبقات بشاعة وشناعة، فحذرهم لوط عليه السلام وأنكر عليهم هذا الرجس المقيت الذي انحدرت فيه نفوسهم إلى الحضيض من دركات الإسفاف والقذر. فقال سبحانه :﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ. فقد أنكر عليهم إتيانهم فاحشة اللواط وهي إتيان الذكران، وهم يعلمون أن هذه فاحشة نكراء مستقذرة. وقيل : يأتي بعضهم بعضا وهم ينظرون إلى إتيان القذر فكانوا لا يستترون مبالغة في الإسراف والإسفاف.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢٥..
قوله :﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء ﴾ أعاد الاستنكار والتوبيخ للفاحشة لفرط قبحها ونكارتها. و ﴿ شَهْوَةً ﴾، منصوب على التعليل أي يأتون هذه الفاحشة للشهوة. وقيل : صفة لمصدر محذوف، أي إتيانا شهوة. أو على الحال. أي تأتون مشتهين هذه الفاحشة، متجاوزين النساء اللواتي أباحهن الله لذلك.
قوله :﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ أي تفعلون هذه الفعلة المستقذرة سفاهة منكم وجهلا بفظاعة هذه الفاحشة.
قوله :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ جواب، خبر كان. واسمها ﴿ إِلَّا أَن قَالُوا ﴾ أي إلا قولهم. والمعنى : لم يكن لدى قوم لوط من جواب لما نهاهم عنه لوط من فعل الخبائث وهو إتيان الذكران، إلا أن قال بعضهم لبعض :﴿ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ لقد حرض بعضهم بعضا على إخراج آل لوط من قريتهم محتجين بأنهم أناس أطهار يتنزهون عن الفحش والقذر وهو إتيان الذكور. قالوا ذلك استهزاء وتهكما. وذلك هو خلق الفاسقين الفجار، إذ يعيبون الصالحين الأبرار من أولي الطبائع السليمة ؛ لكونهم أولي طهر وعفة واستبراء، فبات الطهر والفضيلة والحياء في تصور هؤلاء المسفين عيبا ونكرا. لا جرم أن قوم لوط أشقياء مقبوحون وهم أولوا طبائع سقيمة، خالطها الإسفاف والالتواء والشذوذ فكانوا مثار استهجان واستقذار كلما ذكرتهم الأجيال والأمم عبر تاريخهم المتعاقب الطويل.
قوله :﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ أي أنجينا لوطا وأهله الذين آمنوا معه واتبعوه باستثناء امرأته قضينا أنها من الهالكين مع قومها. فقد كانت عونا لهم على كفرهم وشنيع فعالهم وكانت تدلهم على ضيفان لوط ليأتي قومها إليهم.
قوله :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾ أمطرهم الله بالحجارة تهوي عليهم من السماء فتشدخهم وتحطمهم حتى هلكوا، فساء ذلك المطر، مطر الذين أنذرهم الله عقابه فلم يقبلوا الإنذار ولم يزدجروا.
قوله تعالى :﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٥٩ ) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ المخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قل يا محمد الحمد لله على ما أنعم به علينا من الإيمان والهداية والتوفيق، وما منّ به علينا من الأمن من عقابه الذي أصاب به قوم لوط وقوم صالح وغيرهم من العصاة والفاسقين الذين أتى عليهم الهلاك والتدمير والإبادة ﴿ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ﴾ أمره الله أن يستفتح بحمده وبالسلام على الأنبياء والمرسلين المصطفين من عباده. وهذا من أدب النبوة الكريمة ؛ إذ علم الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أدب الاستفتاح في مطلع كل حديث أو خطاب يعظ به الناس أو يذكرهم، لتحقق البركة ويثبت الأجر ويستجاب الدعاء.
قوله :﴿ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ الاستفهام للإنكار والتهكم والتبكيت للمشركين لما أنهم آثروا عبادة الشركاء والأنداد على عبادة الله. والمراد التنبيه على غاية الضلال التي وصلها المشركون السفهاء في مجانبتهم للحق وتلبسهم بالباطل.
والمعنى : قل لهم يا محمد آللَّهُ الذي خلقهم ورزقهم وأنعم عليهم من النعم ما لا يعد ولا يحصى خير، أم ما يشركون به من الأصنام والشركاء.
قوله :﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ يعني أعبادة الأصنام والأوثان بمختلف أشكالها ومسمياتها خير أم عبادة الله خالق السماوات والأرض وما فيها من أصناف الخلائق والعجائب والأشياء ﴿ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾ من عجيب صنع الله وبالغ قدرته إنزال المطر من السماء لإحياء الأرض بعد موتها فتنبت به البساتين المخضرة ذات المنظر البهيج والجمال المثير الجذاب.
قوله :﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ﴾ أي ما يستطيع البشر إنبات الشجر من الأرض بعد مواتها وهمودها وإنما الله يصنع ذلك وهو القادر على إنزال الماء من السماء لإحياء الأرض بالنبات. ذلكم هو الله الخالق القادر الرازق المتفرد بالخلق دون سواه من الشركاء والأنداد المزعومة.
قوله : و ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع. أي هل من إله يستحق العبادة مع الله الذي خلق الأرباب المصطنعة جميعا والذي ثبتت صفاته من الخلق والرزق والقدرة وغير ذلك من صفات الكمال.
قوله :﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ ﴿ بل ﴾، إضراب. فقد أضرب عن توبيخهم وتقريعهم ليبين سوء حالهم من الكفر والطغيان وهو أنهم ﴿ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ أي يعدلون بالله غيره.
أو يعدلون عن الحق إلى الباطل، وعن الهداية إلى الضلالة جائرين متعمدين١.
١ فتح القدير جـ٣ ص ١٤٦ وتفسير الطبري جـ ٢٠ ص ٣..
قوله تعالى :﴿ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.
جعل الله قرارا، أي مستقرا. فكانت ساكنة ثابتة لا تتحرك بمن عليها أو تضطرب ليطيب عليها العيش وتستقيم الحياة. وقد زيّن الله الأرض بأنواع مختلفة من ظواهر الزينة لتزداد صلوحا وجمالا. إذ جعل الأنهار العذبة تتفجر من خلالها فيشرب منها العباد وتستقي الدواب والحرث.
قوله :﴿ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ﴾ رواسي أو راسيات، أي جبال ثابتة راسخة والمفرد راسي أو راسية١. والمعنى : أن الله أرسى في الأرض جبالا ضخاما شواهق لتثبت بها وتستقر فلا تميد أو تتحرك أو تضطرب. ذلك أن الأرض إذا ما قيست بغيرها من الأجرام الكونية الهائلة فإنها بالغة الصغر والبساطة. وهي بذلك هينة خفيفة توشك أن تميد وتضطرب أو تتطاير في أجواز الفضاء لدى دورانها حول الشمس. لكن الجبال الهائلة الثقال أرست الأرض وثبتتها تثبيتا لتكون راسخة مستقرة متماسكة وهي تدور دورتها الرتيبة المنتظمة.
قوله :﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ﴾ أي جعل الله بين المياه العذبة من أنهار وعيون وغيرها، وبين البحار الملحة حاجزا وهو المانع من الأرض اليابسة والجبال الراسيات الشم ليحول دون اختلاط الماء من الصنفين.
ولا يقتصر المانع على الحواجز من الأرض والجبال، بل يحتمل أن تكون الأسباب الكونية وظواهر الطبيعة كعوامل الجاذبية أو المد والجزر ضربا من ضروب الحاجز الذي يحول دون الاختلاط بين الماءين. وكيفما يكون الحاجز أو المانع فإن ذلك كله منن صنع الله الذي أحسن كل شيء خلقه.
قوله :﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ إذا تبين ذلك كله وثبت أن الله أتقن كل شيء وأودع في الطبيعة والكائنات نواميسها وقوانينها المنسجمة المؤتلفة المتكاملة، فهل بعد ذلك من إله يستحق العبادة غير الله ؟
قوله :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أكثر الناس لا يقدرون الله حق قدره، ولا يدركون بالغ قدرة الله وعظيم جلاله وسلطانه.
١ المصباح المنير جـ ١ ص ٢٤٣..
قوله تعالى :﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( ٦٢ ) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٦٣ ) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
الله الذي يسمع دعاء المكروبين والملهوفين والمظلومين من عباده. فما يجأر العبد إلى ربه بالدعاء في تضرع إليه وتذلل إلا كان الله في عونه ؛ إذ يستجيب له الدعاء.
وهو قوله :﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاه ﴾ و ﴿ الْمُضْطَرَّ ﴾، من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء، واضطره إليه، أحوجه وألجأه، فاضطر، بضم الطاء، والاسم الضرورة وهي الحاجة١ وعلى هذا فإن المضطر هو ذو الحاجة الملهوف الذي نزلت به نازلة كمرض أو فقر أو ظلم أو غير ذلك من وجوه النوازل التي تحيق بالمرء، فتلجئه إلى التوجه لربه داعيا منكسرا لعله يكشف عنه البلاء. والله جلت قدرته خير راحم ومجيب يكفكف بقدرته ورحمته الضر والكرب عن المضرورين والمكروبين.
على أن الدعاء من العباد يأتي في الطليعة من ضروب العبادة والإنابة. والله سبحانه يحب من عبده أن يلح عليه في الدعاء راجيا متوسلا، وهو سبحانه حقيق بالاستجابة والقبول. وثمة دعوات مستجابات لا ترد بل يستجيب الله لأصحابها الداعين بها فيكشف عنهم الكرب والسوء والهم ويحقق لهم الراحة والسلامة والسكينة. وفي الحديث الصحيح : " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده ".
والمظلوم له في الدعاء شأن خاص ومميز ليكون دعاؤه مستجابا. ويستوي في ذلك كونه مؤمنا أو فاسقا أو كافرا، فإن دعاءه مستجاب ؛ لكونه مظلوما قد حاق به ضرب من ضروب الظلم. ومن صفات الله، العدل المطلق والرحمة الكاملة. وهو سبحانه لكامل عدله ورحمته ورأفته بالعباد، يكره الظالمين الذين يجورون ويظلمون الناس، وقد حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى اليمن : " واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب ".
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام فيقول الله تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ".
ومن حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر ".
قوله :﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ ﴾ أي يخلف بعضكم بعضا فيهلك قوما ويأتي بآخرين.
قوله :﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ استفهام إنكار وتوبيخ. أي هل من أحد سوى الله قادر على فعل ذلك من إنعام النعم وخلق الخلائق وإجابة الدعوات من المضطرين والمظلومين.
قوله :﴿ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ ﴿ مَّا ﴾، اسم موصول. ﴿ قَلِيلًا ﴾، منصوب على أنه صفة لمصدر مقدر، وتقديره : تذكرا قليلا يذكرون٢أي قليلا ما يتذكرون نعم الله.
١ القاموس المحيط جـ ٢ ص ٧٧..
٢ البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٢٢٦..
قوله :﴿ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ أي، هل آلهتكم المصطنعة الموهومة التي لا تضر ولا تنفع –بل هي مصفوفة جامدة بلهاء- خير أم الله الذي يرشدكم في ظلمات البر إذا سافرتم إلى البلاد الواسعة البعيدة، بما جعل فيها من العلامات والأمارات التي تكشف لكم مجاهل الطريق سواء في البر أو في البحر بظلامه الحالك وهديره المخُوف، إنه لا يدلكم على سواء السبيل إلا الله الذي خول لكم من الأسباب والدلائل من الكواكب والنجوم والرياح وغير ذلك ما تهتدون به كيلا تضلوا.
قوله :﴿ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ وهو الذي يرسل الرياح مبشرات قدام الغيث ليستدل بها العباد على ورود المطر من السماء، فتعم البهجة والسرور بمقدم الخير والرزق والسعة.
قوله :﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ بعد هذا الذي تبين عن عظيم قدرة الله وبالغ سلطانه في الحياة والكون، هل يعقل أن يكون مع الله أحد من هذه الأنداد المفتراة فتعبدوه ؟
قوله :﴿ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تنزه وتقدس عن الشركاء والأنداد.
قوله :﴿ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ أي الله الذي أنشأ الخلائق بعد موات وعدم وهو الذي يحييها مرة أخرى ليبعثها إلى الحشر يوم تقوم الساعة.
قوله :﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ هذا الذي بيده مقاليد الكون كله، وهو المحيي والمميت الذي يبعث الخلق يوم القيامة، هل من إله مع الله قادر على أن يفعل مثل ذلك ؟
قوله :﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ذلك تقريع من الله، وتوبيخ لهؤلاء السفهاء المضللين الواهمين الذين يزعمون أن مع الله آلهة أخرى. والمعنى : إن كنتم تعتقدون مثل هذا الاعتقاد الفاسد المكذوب، فقدموا على ذلك حجة. وليس لهم في ذلك أيما حجة أو دليل إلا الضلال والهوى والتقليد الأعمى١
١ فتح القدير جـ ٣ ص ١٤٧ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢٢٣-٢٢٥..
قوله :﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( ٦٥ ) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ﴾ لفظ الجلالة ﴿ اللَّهُ ﴾ مرفوع على البدل من الموصول ﴿ مَن ﴾ ١ يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يعلن لكافة للناس أنه ليس من أحد سوى الله من يعلم الغيب المستور ومن جملة ذلك قيام الساعة.
فلا أحد في الخلق يدري بخبرها. إنما الله وحده عليم بذلك ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ لا يدري أهل السماوات والأرض متى الساعة ليبعثوا للحساب.
١ البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٢٢٦..
قوله :﴿ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾ ﴿ ادَّارَكَ ﴾، أصلها تدارك. أدغمت التاء في الدال. والمعنى : تناهى علمهم وعجز عن معرفة الساعة، وذلك حين لا ينفعهم العلم ؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين.
قوله :﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ﴾ أي شاكون في وجودها وهم في الدنيا. ثم أضرب عن ذلك ليبين ما هو أسوأ حالا وهو العمى ﴿ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمونَ ﴾ ﴿ عمون ﴾، جمع عمو، أو عمي، والمراد عمى القلوب ؛ إذ أعماها الضلال والشك والجهالة.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ( ٦٧ ) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ٦٨ ) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( ٦٩ ) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾.
يبين الله ما يقوله المكذبون بيوم القيامة، الذين يعجبون من بعثهم من مرقدهم إلى النشر ليناقشوا الحساب، وهو قوله :﴿ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ﴾ أي بعد صيرورتنا رفاتا وعظاما نخرة نحن وآباؤنا السابقون، هل نبعث أحياء من قبورنا. وهو استفهام يراد به الجحود والتكذيب.
قوله :﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ﴾ أي قيل لنا مثل هذا الكلام كما قيل لآبائنا من قبل، لكنه لم يتبين لذلك صحة أو حقيقة.
قوله :﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ أي ما هذا القول بالبعث من القبور إلا ما سطره السابقون في كتبهم من الأكاذيب فتحدثوا به حديث الأساطير والخرافات.
قوله :﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ أي قل لهؤلاء المكذبين بيوم القيامة أن يسيروا في البلاد ؛ ليروا ديار الذين سبقوهم من الأمم الجاحدة، ويشاهدوا ما حل بمساكنهم من الخراب والدمار جزاء كفرهم وتكذيبهم ؛ وذلك ليحذروا سوء العاقبة وما يوشك أن يحل بهم نتيجة تكذيبهم كما كذب الأولون. فإن ما نزل بساحة المكذبين الأولين يوشك أن ينزل بساحتكم أنتم بسبب تكذيبكم وإعراضكم فاحذروا.
قوله :﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ هذه مواساة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يعزي بها نبيه الكريم، ويسري بها عن نفسه، كيلا يألم ويحزن بسبب إعراضهم عنه وإدبارهم عن الحق.
قوله :﴿ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ أي لا تكن في حرج من كيد المشركين ومكرهم وإعراضهم فإن الله مؤيدك وناصرك وقاهر أعدائك المكذبين١.
١ تفسير البيضاوي ص ٥٠٧ وتفسير الرازي جـ ٢٤ ص ٢١٢-٢١٤..
قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٧١ ) قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ( ٧٢ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ( ٧٣ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ( ٧٤ ) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ يستعجل الكافرون وقوع العذاب. وذلك على سبيل التكذيب والسخرية. وهو قولهم :﴿ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي متى العذاب الذي تعدنا به يا محمد إن أعرضنا وكذبنا.
فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بما فيه تهديد لهم ووعيد وهو قوله :﴿ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ﴾
﴿ رَدِفَ ﴾، تبع ولحق، من الترادف أي التتابع. ترادف القوم أي تتابعوا١ والمعنى : عسى أن يكون قد اقترب لكم، ودنا منكم ولحق بكم بعض ما تستعجلونه من العذاب.
١ المصباح النير جـ ١ ص ٢٤٠ ومختار الصحاح ص ٢٤٠..
قوله :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ الفضل والفضيلة بمعنى الخير، وهو ضد النقص والنقيصة. والإفضال معناه الإحسان. ورجال مفضال، وامرأة مفضالة على قومها١ والمعنى أن الله متفضل على العباد بما أسبغ عليهم من جزيل الإحسان والنعم، لا جرم أن فضله عليهم عظيم وأن آلاءه وخيراته وبركاته لا تحصى ولا تعد، سواء في ذلك ما منّ به عليهم من مركبات الجسد : كنعمة العقل والسمع والبصر والحس، ونعمة الفطرة بمختلف أجزائها ومعانيها الخلقية، من حياء ورحمة ورأفة وإيثار ونخوة ومودة ووازع ورهافة. وفوق ذلك كله يتفضل الله على الناس بواسع غفرانه لهم، وبتجاوزه عن مساءاتهم وآثامهم وذنوبهم. لا جرم أن الله لذو فضل على الناس ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ أكثر الناس يجحدون نعمة الله عليهم، وينسون ما من به عليهم من عظيم النعم وجزيلها. وهم إنما ينثنون عن عبادة تالله وحده، وعن بذل الشكر له والثناء عليه، وتذكر ما أفاض به عليهم من صنوف الخير لينغمسوا في الباطل والشهوات لاهين غافلين.
١ المصباح النير جـ ٢ ص ١٣١ ومختار الصحاح ص ٥٠٦..
قوله :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ الله عليم بالأستار وما خفي على العباد من أخبار. فما يطويه العباد من أسرار في قلوبهم، أو يظهرونه من أقوال وأفعال تبديه جوارحهم إلا يعلمه الله. وهو سبحانه يستوي عنده الظاهر والباطن.
وما من شيء في الوجود إلا هو مكشوف له ومستبين. فلا يخفى عليه صغير ولا كبير، ولا ظاهر أو مستور وهو قوله :﴿ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ الغائبة، ما خفي عن علم الناس وعن أبصارهم من خبر أو سر، سواء في السماء بأطوائها وطباقها وأجوازها، أو في الأرض بغياهبها ومجاهلها إلا هو مسطور فِي ﴿ كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ أي اللوح المحفوظ١
١ الكشاف جـ٣ ص ١٥٨ وتفسير الطبري جـ٢٠ ص ٧-٨.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( ٧٦ ) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ( ٧٧ ) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( ٧٨ ) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ( ٧٩ ) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( ٨٠ ) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾.
نزل القرآن على نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم هداية للناس ورحمة وهو ﴿ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ فقد اختلف بنو إسرائيل من اليهود والنصارى في أشياء كثيرة من قضايا العقيدة وغيرها من الأحكام مما حرّفوه في كتبهم فاحش التحريف، كالقول في عيسى ابن مريم، إذ فرّطت يهود تفريطا فكذبوه أد تكذيب وتمالئوا عليه أشنع تمالؤ. وأفرطت النصارى إفراطا فألهوه وعبدوه. إلى غير ذلك من مختلف الأحكام في مسائل الحياة والمعاش.
لقد جاء القرآن ليحمل للناس كافة قواعد ثوابت في الخير والحق والعدل والفضل والرحمة لتستقر بهم الحياة ويستقيم فيهم السلوك فيعيشوا أسوياء كرماء سعداء آمنين في هذه الدنيا. ويوم القيامة يسعدون بالجنة والرضوان.
قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ القرآن هداية للمؤمنين، ينير لهم الطريق ويكشف لهم الحق والصواب. وهو كذلك رحمة لهم يسعدون بأحكامه ومواعظه وتصوراته. وقد خصّ المؤمنين بذلك ؛ لأنهم وحدهم الذين ينتفعون بالقرآن الحكيم بسبب يقينهم وثقتهم الكاملة بصلوحه وصدقه. أما الجاحدون المكذبون فهم بعيدون عن الخير والرحمة التي جاء بها القرآن للعالمين.
قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ ﴾ الله يحكم بين المختلفين من بني إسرائيل بقضائه فيهم ليجازي المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه.
قوله :﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ ذلك تثبيت من الله لقلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ؛ إذ يأمره أن يثق بجلال قدره وعظيم سلطانه، وأن يفوض كل أمره إليه ويعتمد عليه كامل الاعتماد فهو سبحانه ناصره ومؤيده.
قوله :﴿ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ ذلك تعليل للأمر بالتوكل على الله وحده دون غيره ؛ لأن المتوكل مهتد وهو سائر في طريق الحق الظاهر الأبلج الذي لا شك فيه ولا غبش.
قوله :﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ المراد بالموتى، الكفرة من الجاحدين والمرتابين والمكذبين والزائغين عن منهج الله وعن طريق الحق. أولئك جميعا كالموتى لا يفهمون ولا يعون ولا ينطقون ؛ فهو بذلك لا يجدي فيهم التذكير والموعظة.
قوله :﴿ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾ وكذلك شبههم بالصم الذين لا يسمعون. وتلك هي حقيقة الكافرين على اختلافهم في ملل الكفر وصوره ومسمياته ؛ فإنهم لا تنفعهم النصيحة، ولا تنفذ إلى قلوبهم وعقولهم العبرة والعظة إذا تولوا جامحين معرضين عن دين الله وقرآنه الحكيم، فهم قساة غلاظ، قد استغلق عليهم التدبر والتفكر والاعتبار.
قوله :﴿ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ﴾ أي ليس في مستطاعك يا محمد أن تهدي أولي الطبائع السقيمة والفطر التي أتى عليها الزيغ والخلل والاعوجاج، فأولئك سادرون في مجاهل الضلالة والغي، ولا يملك الإنسان كيفما كان شأنه أن يقوم اعوجاجهم فيثنيهم عن الجنوح على الباطل والعصيان. وقد شبههم بالعميان الذين لا يبصرون شيئا. فأنى للأعمى بالخلقة أن يرتد بصيرا.
قوله :﴿ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ أي لا تسمع الحق والموعظة إلا المؤمنين بآيات الله الحكيم. أولئك المصدقون الموقنون الذين هدوا إلى الصواب واليقين من أولي الفطر السليمة والطبائع السوية المستقيمة التي لا عوج فيها ولا أمت، أولئك هم المستسلمون لله الممتثلون لأمره، الخاضعون لجلاله وسلطانه١.
١ تفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢٣١-٢٣٣ وفتح القدير جـ٣ ص ١٥٠-١٥١..
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ( ٨٢ ) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ( ٨٣ ) حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٨٤ ) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ ( ٨٥ ) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
إذا وجب القول على الكافرين بالعذاب عند فساد الناس آخر الزمان، فأعرضوا عن دين الله ولجّوا في المعاصي والذنوب، أخرج الله لهم دابة من الأرض، قيل من مكة ﴿ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ﴾ أي تخاطبهم الدابة بالعربية بلسان ذلق١، قائلة لهم : إن الناس كانوا غير موقنين بآيات الله. والمراد بآيات الله قرآنه وما تضمنه من الدلائل والبينات والأخبار والحقائق.
وقد ورد في حقيقة الدابة جملة أخبار منها ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة، فقال : " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاثة خسوف : خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق – أو تحشر- الناس تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا ".
وكذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بادروا بالأعمال ستة، طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة ".
وما نبتغي بالإسهاب في وصف الدابة مما لا يرقى في حقيقته إلى اليقين.
١ لسان ذلق، أي حديد بليغ بين الذلاقة. انظر القاموس المحيط جـ ٣ ص ٢٤٢..
قوله :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ هذا إخبار عن بعض الأحداث المخوفة في يوم القيامة، إذ يحشر الله الظالمين من الناس، وهم المكذبون بآياته، المعرضون عن دينه، يحشرهم جميعا مهانين، معذبين ﴿ خزايا فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ أي يساقون ويدفعون إلى موضع الحساب دفعا. أو يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا جميعا فيكبكبوا في النار.
قوله :﴿ حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا ﴾ يعني إذا جاء من كل أمة فوج من الجاحدين الذين كذبوا بآيات الله فسيقوا جميعا إلى الرحمن، سألهم سبحانه ﴿ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي ﴾ استفهام على سبيل التوبيخ والتقريع ؛ أي أكذبتم بحججي وأدلتي التي أنزلتها إليكم من غير أن تعرفوها حق المعرفة، وأنتم لا تعلمون ببطلانها حتى تعرضوا عنها، بل كذبتم بها جاهلين غير ناظرين فيها.
قوله :﴿ أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي ما الذي كنتم تعملونه حتى شغلتم عن النظر والتفكير في آيات الله وبيناته ؟
قوله :﴿ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا ﴾ أي وجب عليهم العذاب بسبب شركهم وإعراضهم عن دين الله ﴿ فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ ﴾ أي لا ينطقون بعذر ولا حجة يدفعون بها عن أنفسهم ما حاق بهم من العذاب. وقيل : نختم على أفواههم فلا ينطقون.
قوله :﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ ألم ير هؤلاء المكذبون بآيات الله كيف يصرف الله الليل والنهار ؛ إذ جعل الليل سكنا لهم يهجعون فيه ويسكنون هادئين مرتاحين، وجعل لهم ﴿ النَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ أي يبصرون فيه الأشياء ليسعوا في الأرض طالبين الرزق وأسباب العيش.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ الإشارة عائدة إلى تصيير الليل للسكون والراحة، وجعل النهار للعمى والسعي والاسترزاق، أي فيما بين الله لعباده من ذلك لدلالة ظاهرة للناس على إلهية الله سبحانه وعلى بالغ قدرته لكي يصدقوا ويستيقنوا. وقد خصّ المؤمنين هنا بالذكر ؛ لأنهم أكثر الناس انتفاعا بالآيات البينات والدلائل الظاهرات لمبادرتهم التصديق والثقة والاستيقان١.
١ تفسير الرازي جـ٢٤ ص ٢١٨، ٢١٩ وفتح القدير جـ ٣ ص ١٥٤..
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ( ٨٧ ) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ( ٨٨ ) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ( ٨٩ ) وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
ذلك إخبار مذهل عن أحداث القيامة وما فيها من أهوال وبلايا. وبين يدي ذلك كله نفخة الفزع المروع الأكبر. الذي ترتجف بفظاعته القلوب وتوجل من شدته الخلائق في السماوات والأرض، وهو قوله :﴿ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ﴾ يوم، منصوب بفعل مقدر، وتقديره : اذكر يوم ينفح في الصور١، و ﴿ الصُّورِ ﴾، هو القرن على هيئة البوق وهو من نور ينفخ فيه إسرافيل بأمر من الله.
وهذه هي نفحة الفزع الأكبر. وذلك في آخر أيام الدنيا حتى تقوم الساعة. والصور ينفخ فيها ثلاث نفخات، هي نفخة الفزع، ونفخة الصعق أي الموت، ثم نفخة البعث والقيام لرب العالمين. وقيل : هما نفختان اثنتان، لا ثلاث نفخات. وهما نفخة الصعق ثم نفخة البعث ؛ ليجتمع الخلق في أرض الجزاء وهو يوم النشور.
ويندرج في هذه، نفخة الفزع. أي يحيون فزعين مذعورين ؛ لهول ما يجدونه أمامهم من شدائد. وقيل : تندرج في نفخة الصعق. أي فزعوا فزعا رعيبا ماتوا بسببه.
قوله :﴿ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ﴾ اختلفوا في تعيين المستثنين. فقيل : المراد بهم الشهداء والأنبياء. وقيل : الملائكة. وقيل : المؤمنون جميعا.
قوله :﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ ﴿ دَاخِرِينَ ﴾، منصوب على الحال. وهو جمع داخر، أي الصاغر الذليل. دخر الشخص دخورا، أي ذل وهان٢ وهذا وصف لحال العباد وهم يقومون مذعورين وجلين أذلة، إذ يساقون إلى المحشر. وحينئذ تغشى البشرية من غواشي الخوف والفزع ما لا تتصوره العقول إلا بالمعاينة والنظر. ونسأل الله النجاة والسلامة.
١ البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٢٢٧..
٢ المصباح المنير جـ١ ص ٢٠٣ وتفسير الرازي جـ٢٤ ص ٢٢٠..
قوله :﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ أي ترى الجبال يا محمد، تحسب أنها قائمة ساكنة وهي تسير سيرا حثيثا، أي مسرعا. وهكذا كل ناظر للجبال، فإنه يراها ثابتة لا تتحرك، وهي في حقيقتها تسير كما يسير السحاب، إذ تسوقه الرياح. وقيل : وهذا كائن يوم القيامة، تسير الجبال سيرا. وإذا رآها الناظرون حسبوا أنها مستقرة ثابتة ؛ لأن الأجسام الكبيرة إذا تحركت حركة سريعة وكانت على سمت، واحد وكيفية واحدة ظن من يراها أنها واقفة. مع أنها تمر مرا حثيثا.
قوله :﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ ﴿ صُنْعَ ﴾، منصوب على المصدر المؤكد وتقديره : صنع صنعا١ وأتقن من الإتقان وهو الإحكام.
والمعنى : أن ما سبق ذكره من النفخ في الصور وما يعقب ذلك من إفزاع للخلائق، ومن مرور الجبال كما يمر السحاب، وهي يحسبها الرائي قائمة ثابتة.
كل ذلك صنع الله الذي أحكم كل شيء وأوثق خلقه.
قوله :﴿ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ الله يعلم ما يفعله العباد من خير أو شر ومن طاعة أو معصية فيجازي كل امرئ بما عمل.
١ البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٢٢٨..
قوله :﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ ﴿ مَن ﴾، اسم شرط في موضع رفع بالابتداء. ﴿ فَلَهُ ﴾، جواب الشرط، في موضع رفع خبر المبتدأ١ والألف واللام في الحسنة للجنس، فالمراد : من جاء بجنس الحسنة وهو يفيد عموم الطاعات سواء في ذلك الإيمان والتوحيد وفعل الصالحات، من صلاة وزكاة وجهاد وبر، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وغير ذلك، من وجوه الفرائض والحسنات.
قوله :﴿ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ أي يجزيه الله أكثر من حسنته أضعافا كثيرة. فما عند الله خير وأعظم مما يقدمه العبد من الطاعات. وقيل :﴿ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ يعني وصل إليه الخير منها. أو له الجزاء الجميل وهي الجنة، وليس ﴿ خَيْرٌ ﴾ للتفضيل. وعلى هذا فالمراد بالحسنة : لا إله إلا الله، فقد روى البيهقي عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله، أوصني. قال : " اتق الله، وإذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها " قال : قلت : يا رسول الله، أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال : " من أفضل الحسنات " وفي رواية قال : " نعم هي أحسن الحسنات " وقيل : المراد بالحسنة الإخلاص والتوحيد.
وقيل : أداء الفرائض كلها. والمعنى الأول أولى ؛ لعموم اللفظ ولدلالة أل التعريف، على جنس الحسنة بكل أنواعها ومعانيها.
قوله :﴿ وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾ يوم، مجرور بالإضافة لفزع، فهم بذلك آمنون من خوف يوم القيامة ؛ إذ الأهوال والمخاوف والأفزاع وكل أسباب الرعب ماثلة بارزة لتعاينها الأبصار والقلوب فيغشاها من الذعر والفزع ما يغشاها.
١ البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٢٢٨..
قوله :﴿ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ﴾ المراد بالسيئة هنا الشرك وهو قول أكثر المفسرين من السلف. فالذين أشركوا ؛ إذ جحدوا وحدانية الله وعبدوا معه آلهة أخرى، فإنهم يكبون على وجوههم في النار، أي يلقون فيها منكوسين على وجوههم، وذلك زيادة في التنكيل.
ويستدل من ذلك أن المراد بهؤلاء، المشركون، لأن مثل هذا الجزاء الوبيل لا يكون إلا في مقابلة الكفر والإشراك بالله.
قوله :﴿ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ تقول خزنة النار من الملائكة لهؤلاء المشركين المكبكبين في النار زيادة في التعذيب والتنكيل ﴿ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ والاستفهام من باب التوبيخ والتهكم والتقريع، أي ما تجزون هذا الجزاء الأليم من الكبكبة في النار على وجوهكم إلا جزاء كفركم وإشراككم١.
١ تفسير الطبري جـ٢٠ ص ١٥-١٦ وفتح القدير جـ ٣ ص ١٥٥-١٥٦ والكشاف جـ ٣ ص ١٦٢ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢٣٩-٢٤٦..
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ٩١ ) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ ( ٩٢ ) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾.
المراد بهذه البلدة مكة، و ﴿ الذي ﴾، في موضع نصب، صفة لرب. وحرمها أي عظم حرمتها، وجعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم ولا يصاد فيها صيد، ولا يقطع فيها شجر أو يظلم فيها أحد. والله يأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس : إنما أمرت بعبادة ربي وحده، رب هذه البلدة المباركة، الذي جعلها بلدا حراما آمنا، وذلك على سبيل التشريف لمكة والاهتمام بها أكثر من غيرها من البلدان.
قوله :﴿ وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ﴾ وهذا وصف لله الذي أمرت بعبادته وحده ؛ فهو مالك كل شيء، الذي تجب له العبادة وحده دون غيره من المخاليق.
قوله :﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ أمرني ربي بالاستسلام لأمره فأكون من المسلمين الحنفاء، المنقادين لجلال وجهه الكريم، الخاضعين لسلطانه العظيم.
قوله :﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ﴾ أي وأمرت أيضا أن أقرأ القرآن على الناس، فمن آمن وصدّق واتبع ما جئت به فقد اهتدى. أي سلك سبيل الحق والرشاد، أو سبيل الهداية والصواب فيكون من الآمنين الناجين من عذاب الله في الآخرة.
قوله :﴿ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ أي من زاغ عن الهدى وجار عن سبيل الحق بتكذيبه ما جئت به فقد جنى على نفسه، وأركسها في الأذلين الخاسرين، وما أنا إلا نذير لكم أحذركم عذاب ربكم وسخطه وغضبه إن كذبتم وأعرضتم.
قوله :﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ﴾ أي قل لهؤلاء المشركين : الحمد لله على ما أنعم به علينا من جزيل النعم، وفي مقدمة نعم الله وآلائه، توفيقه إيانا للإسلام، دين الهداية، والاستقامة والصواب، وما تضمنه من منهج شامل متكامل تناول سائر المشكلات والقضايا التي تعرض للبشرية كما تعيش في أمن ومودة واستقرار وسعادة في هذه الدنيا، ويوم القيامة يصيرون إلى السعادة الباقية المستديمة.
قوله :﴿ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ﴾ ذلك تهديد من الله للكافرين المكذبين بما سيريهم من الآيات، وهي دلائل قدرته ووحدانيته، سيريهم ذلك في الآخرة أو عند حضور الموت، وحينئذ لا تجديهم المعرفة ولا ينفعهم الإيمان، لفوات الأوان.
قوله :﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ ذلك تخويف قائم يظل يتهدد الله به المجرمين والغافلين واللاهين عن دين الله، الذين شغلتهم الحياة الدنيا بعروضها وطيباتها وزينتها فضلوا ضلالا. أولئك الساهون السادرون في الغي والظلام ليس الله غافلا عنهم، بل إنه سبحانه لهم بالمرصاد، وهو مملي لهم ومستدرجهم حتى إذا جاء أجلهم في العذاب وسوء الحساب لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون١.
١ الكشاف جـ ٣ ص ١٦٣ وتفسير الرازي جـ ٢٤ ص ١٦٣ وتفسير الطبري جـ ٢٠ ص ١٧-١٨.
Icon