ﰡ
مكية نزلت بعد الشعراء، وآيها ثلاث وتسعون.
ومناسبتها ما قبلها من وجوه:
(١) إنها كالتتمة لها، إذ جاء فيها زيادة على ما تقدم من قصص الأنبياء قصص داود وسليمان.
(٢) إن فيها تفصيلا وبسطا لبعض القصص السالفة كقصص لوط وموسى عليهما السلام.
(٣) إن كلتيهما قد اشتمل على نعت القرآن وأنه منزل من عند الله.
(٤) تسلية رسوله ﷺ على ما يلقاه من أذى قومه وعنتهم، وإصرارهم على الكفر به، والإعراض عنه.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣)الإيضاح
(طس) تقدم القول فى المراد من فواتح السور، وأن الأصح أنها حروف مقطعة جاءت للتنبيه نحو ألا ويا التي للنداء، وينطق بأسمائها فيقال: (طا- سين).
(تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي إن هذه الآيات التي أنزلتها إليك أيها الرسول لآيات القرآن، وآيات كتاب بيّن لمن تدبره وفكر فيه أنه من عند الله
والمراد بالكتاب المبين: القرآن، وعطفه عليه كعطف إحدى الصفتين على الأخرى كما يقال هذا فعل السخي والجواد الكريم.
(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي هى تزيد المؤمنين هدى على هداهم كما قال:
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» وهى تبشرهم برحمة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.
ولما كان وصف الإيمان خفيا ذكر ما يلزمه من الأمور الظاهرة فقال:
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي إن المؤمنين حق الإيمان هم الذين يعملون الصالحات، فيقيمون الصلاة المفروضة على أكمل وجوهها، ويؤدون الزكاة التي تطهّر أموالهم وأنفسهم من الأرجاس، ويوقنون بالمعاد إلى ربهم، وأن هناك يوما يحاسبون فيه على أعمالهم خيرها وشرّها، فيذلّون أنفسهم فى طاعته، رجاء ثوابه وخوف عقابه.
وليسوا كأولئك المكذبين به الذين لا يبالون. أحسنوا أم أساءوا، أطاعوا أم عصوا، لأنهم إن أحسنوا لا يرجون ثوابا، وإن أساءوا لم يخافوا عقابا.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤ الى ٥]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥)
تفسير المفردات
يعمهون: أي يتحيرون ويترددون فى أودية الضلال، الأخسرون: أي أشد الناس خسرانا، لحرمانهم الثواب، واستمرارهم فى العذاب.
بعد أن ذكر سبحانه أن المؤمنين يزيدهم القرآن هدى وبشرى، إذ هم به يستمسكون ويؤدون ما شرع من الأحكام على أتم الوجوه- أردف هذا ببيان أن من لا يؤمن بالآخرة يركب رأسه، ويتمادى فى غيه، ويعرض عن القرآن أشد الإعراض، ومن ثم تراه حائرا مترددا فى ضلاله، فهو فى عذاب شديد فى دنياه لتبلبله، وقلقه واضطراب نفسه، وفى الآخرة له أشد الخسران، لما يلحقه من النكال والوبال والحرمان من الثواب والنعيم الذي يتمتع به المؤمنون.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي إن الذين لا يصدقون بالآخرة وقيام الساعة والمعاد إلى الله بعد الموت، وبالثواب والعقاب- حبّبنا إليهم قبيح أعمالهم، ومددنا لهم فى غيهم، فهم فى ضلالهم حيارى تائهون، يحسبون أنهم يحسنون صنعا، لا يفكرون فى عقبى أمرهم، ولا ينظرون إلى ما يئول إليه سلوكهم.
قال الزجاج: أي جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه بأن جعلناه مشتهى بالطبع، محبوبا إلى النفس.
(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) فى الدنيا بقتلهم وأسرهم حين قتال المؤمنين كما حدث يوم بدر.
(وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي وهم فى الآخرة أعظم خسرانا مما هم فيه فى الدنيا، لأن عذابهم فيها مستمر لا ينقطع، وعذابهم فى الدنيا ليس بدائم بل هو زائل لا بقاء له.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦ الى ١٤]
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠)
إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
تفسير المفردات
لتلقى: أي لتلقّن وتعطى، آنست: أي أبصرت إبصارا حصل لى به أنس، بخبر: أي عن الطريق وحاله، بشهاب: أي بشعلة نار، قبس: أي قطعة من النار مقبوسة ومأخوذة من أصلها، تصطلون: أي تستدفئون بها، قال الشاعر:
النار فاكهة الشتاء فمن يرد | أكل الفواكه شاتيا فليصطل |
أي لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ماوراءه من قولهم: عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرّ،
أي علمت علما يقينيا أنها من عند الله، وعلوا: أي ترفعا واستكبارا.
المعنى الجملي
بعد أن وصف عز اسمه القرآن بأنه هدى وبشرى للمؤمنين، وأن من أعرض عنه كان له الخسران المبين- أردفه بذكر حال المنزل عليه وهو الرسول ﷺ مخاطبا له.
الإيضاح
(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي وإنك أيها الرسول لتحفظ القرآن وتعلّمه من عند حكيم بتدبير خلقه، عليم بأخبارهم وما فيه الخير لهم، فخبره هو الصدق، وحكمه هو العدل كما قال: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا».
ثم خوطب ﷺ وأمر بتلاوة بعض ما تلقاه من لدنه عز اسمه تقريرا لما قبله وتحقيقا له بقوله:
(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي واذكر أيها الرسول لقومك حين قول موسى لأهله وقد ساربهم فضلّ الطريق فى ليل دامس وظلام حالك، فرأى نارا تأجج وتضطرب، إنى أبصرت نارا سآتيكم منها إما بخبر عن الطريق أو آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها، وكان كما قال: فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس نورا جليلا.
وقد كان هذا حين مسيره من مدين إلى مصر ولم يكن معه سوى امرأته، وكانا يسيران ليلا فاشتبه عليهما الطريق والبرد شديد.
(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي فلما وصل إلى النار نودى بأن بورك من فى مكان النار ومن حول مكانها، ومكانها هى البقعة المباركة المذكورة فى قوله: «نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» ومن حولها من فى ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات ومهبط الخيرات، لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا.
وقوله سبحان الله تنزيه لنفسه عما لا يليق به فى ذاته وحكمته وإيذان بأن مدبر ذلك الأمر هو رب العالمين.
أخرج عبد بن حميد وابن ماجه وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي عن أبى موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله ﷺ فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات (أنوار) وجهه كل شىء أدركه بصره» ثم قرأ أبو عبيدة «أن بورك من فى النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين».
وفى التوراة: جاء الله من سيناء، وأشرف من ساعير، واستعلى من جبل فاران، فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا ﷺ (وفاران مكة).
ولما تشوقت النفس إلى تحقيق ما يراد بالتصريح قال تعالى تمهيدا لما أراد إظهاره على يد موسى من المعجزات الباهرة:
(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي يا موسى إن الذي يخاطبك ويناجيك هو ربك الذي عزّ كل شىء وقهره، وهو الحكيم فى أقواله وأفعاله.
(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي وألق عصاك، فلما ألقاها انقلبت حية سريعة الحركة، فلما رآها كذلك ولّى هاربا خوفا منها ولم يلتفت وراءه من شدة فرقه.
وحينئذ تاقت النفس إلى معرفة ما قيل إذ ذاك فقال:
(يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي لا تخف مما ترى، فإنى لا يخاف عندى رسلى وأنبيائى الذين اختصهم وأصطفيهم بالنبوة.
(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لكن من ظلم من سائر العباد، فإنه يخاف إلا إذا تاب، فبدل بتوبته حسنا بعد سوء، فإنى أغفر له وأمحو ذنوبه وجميع آثارها كما فعل السحرة الذين آمنوا بموسى، وفى هذا بشارة عظيمة لسائر البشر، فإن من عمل ذنبا ثم أقلع عنه وتاب وأناب، فإن الله يتوب عليه كما قال:
«وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» وقال: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً».
ثم أراه جلت قدرته آية أخرى ذكرها بقوله:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي وأدخل يدك فى جيب «مدخل الرأس منه المفتوح إلى الصدر» فميصك تخرج بيضاء بياضا عظيما، ولها شعاع كشعاع الشمس بلا آفة بها من برص أو غيره.
والآية الأولى كانت بتغيير ما فى يده وقلبها من جماد إلى حيوان، والثانية بتغيير يده نفسها وقلب أوصافها إلى أوصاف أخرى نورانية.
(فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) أي هاتان آيتان من تسع آيات أؤيدك بهن، وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون وقومه كما قال: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ».
ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله:
وبعدئذ ذكر ما حدث لهم حين أتاهم بالبراهين من ربه فقال:
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فلما جاءت فرعون وقومه أدلتنا الواضحة المنيرة الدالة على صدق الداعي- أنكروها وقالوا هذا سحر بين لائح يدل على مهارة فاعله وحذق صانعه.
ثم بين أن هذا التكذيب إنما كان باللسان فحسب لا بالقلب فقال:
(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) أي وكذبوا بها بألسنتهم وأنكروا دلالتها على صدقه وأنه رسول من ربه، لكنهم علموا فى قرارة نفوسهم أنها حق من عنده، فخالفت ألسنتهم قلوبهم، ظلما للآيات، إذ حطوها عن مرتبتها العالية وسمّوها سحرا، ترفعا عن الإيمان بها كما قال فى آية أخرى: «فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ».
والخلاصة- إنهم تكبروا عن أن يؤمنوا بها وهم يعلمون أنها من عند الله.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فانظر أيها الرسول ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الذي فيه العبرة للظالمين، ومن إخراجهم من الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم.
وفى هذا تحذير للمكذبين بمحمد ﷺ الجاحدين لما جاء به من عند ربه، أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، لعلهم يقلعون عن عنادهم واستكبارهم حتى لا تنزل بهم القوارع ويأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون.
قصص داود وسليمان عليهما السلام
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
ورث سليمان داود: أي قام مقامه فى النبوة والملك، منطق الطير: أي فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، حشر: أي جمع، يوزعون: أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وادي النمل: واد بأرض الشام لا يحطمنكم:
أي لا يكسرنكم ويهشمنكم، أوزعنى: أي يسر لى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص موسى ﷺ تقريرا لما قبله ببيان أنه تلقاه من لدن حكيم عليم- أردفه قصص داود وسليمان، وذكر أنه آتى كلا منهما طائفة من علوم الدين والدنيا، فعلّم داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلّم سليمان منطق الطير، ثم بين أن سليمان طلب من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يمكنه من العمل الصالح وأن يدخله جنات النعيم.
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد أعطينا داود وسليمان ابنه عليهما السلام طائفة عظيمة من العلم، فعلمنا داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلمنا سليمان منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ونحو ذلك مما لم نؤته أحدا ممن قبلهما، فشكر الله على ما أولاهما من مننه، وقالا الحمد لله الذي فضلنا بما آتانا من النبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن، على كثير من المؤمنين من عباده الذين لم يؤتهم مثل ما آتانا.
وفى الآية إيماء إلى فضل العلم وشرف أهله من حيث شكرا عليه وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا شيئا دونه مما أوتياه من الملك العظيم: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» وفيها تحريض للعلماء على أن يحمدوا الله على ما آتاهم من فضله، وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن عباد الله من يفضلهم فيه.
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي قام مقامه فى النبوة والملك بعد موته، وسخّرت له الريح والشياطين.
قال قتادة فى الآية: ورث نبوته وملكه وعلمه، وأعطى ما أعطى داود، وزيد له تسخير الريح والشياطين، وكان أعظم ملكا منه وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان، شاكرا لنعم الله تعالى اهـ.
ثم ذكر بعض نعم الله عليه:
(وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي وقال متحدثا بنعمة ربه، ومنبها إلى ما شرّفه به، ليكون أجدر بالقول: يا أيها الناس إن ربى يسرّ لى فهم ما يريده الطائر إذا صوّت، فأعطانى قوة أستطيع بها أن أتبين مقاصده التي يومئ إليها فضلا منه ونعمة.
وقد اجتهد كثير من الباحثين فى العصر الحاضر فعرفوا كثيرا من لغات الطيور
وفى هذا معجزة لكتابه الكريم لقوله فى آخر السورة: «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها».
وإنك لتعجب إذ ترى اليوم أن كثيرا من الأمم تبحث فى لغات الطيور والحيوان والحشرات كالنمل والنحل، وتبحث فى تنوع أصواتها لتنوع أغراضها، فكأنه تعالى يقول: إنكم لا تعرفون لغات الطيور الآن وعلّمتها سليمان، وسيأتى يوم ينتشر فيه علم أحوال مخلوقاتى، ويطلع الناس على عجائب صنعى فيها.
(وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مما نحتاج إليه فى تدبير الملك، ويعيننا فى ديننا ودنيانا.
وهذا أسلوب يراد به الكثرة من أي شىء، كما يقال فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شىء، وسيأتى فى مقال الهدهد عن بلقيس. «وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ».
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الذي أوتيناه من الخيرات لهو الفضل المبين الذي لا يخفى على أحد.
ثم ذكر بعض ما أوتيه سليمان بقوله:
(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي وجمع له عساكره من مختلف النواحي ليحارب بهم من لم يدخل فى طاعته فهو يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، وقال ابن عباس لكل صنف وزعة ترد أولاها على أخراها، لئلا تتقدمها فى السير كما يصنع الملوك. وقال الحسن: لا بد للناس من وازع: أي سلطان يكفلهم. وقال عثمان بن عفان: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن.
(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي حتى إذا أشرفوا على وادي النمل صاحت نملة بما فهم منه سليمان أنها تأمرهم بأن يدخلوا مساكنهم خوفا من تحطيم سليمن وجنوده لهم وهم لا يشعرون بذلك.
وخلاصة ذلك- كأنه قال: العلم غاية مطلبى وقد حصلت عليه، ولم يبق بعد ذلك إلا أن أطلب التوفيق للشكر عليه بالعمل الصالح الذي ترضاه، وأن أدخل فى عداد الصالحين من آبائي الأنبياء وغيرهم.
تذكرة وعبرة بالآية
قد دلّ بحث الباحثين فى معيشة النمل على مالها من عجائب فى معيشتها وتدبير شئونها، فإنها لتتخذ القرى فى باطن الأرض، وتبنى بيوتها أروقة ودهاليز وغرفات ذوات طبقات، وتملؤها حبوبا وقوتا للشتاء، وتخفى ذلك فى بيوت من مساكنها منعطفات إلى فوق، حذرا من ماء المطر.
وفى هذه الآية تنبيه إلى هذا لإيقاظ العقول إلى ما أعطيته من الدقة وحسن النظم والسياسة، فإن نداءها لمن تحت أمرها وجمعها لهم ليشير إلى كيفية سياستها، وحكمتها وتذبيرها لأمورها، وأنها تفعل ما يفعل الملوك، وتدبّر وتسوس كما يسوس الحكام.
ولم يذكره الكتاب الكريم إلا ليكون أمثالا تضرب للعقلاء، فيفهموا حال هذه الكائنات، وكيف أن النمل أجمعت أمرها على الفرار خوفا من الهلاك كما تجتمع على طلب المنافع، وإن أمة لا تصل فى تدبيرها إلى مثل ما يفعل هذا الحيوان الأعجم تكون أمة حمقاء تائهة فى أودية الضلال، وهى أدنى حالا من الحشرات والديدان:
«وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)
تفسير المفردات
التفقد: طلب ما فقد، بسلطان مبين، أي بحجة واضحة، والإحاطة بالشيء علما علمه من جميع جهاته، وسبأ: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو قبيلة باليمن، ونبأ: أي خبر عظيم، والعرش: سرير الملك، عن السبيل: عن سبيل الحق والصواب والخبء: هو المخبوء من كل شىء كالمطر وغيره من شئون الغيب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى سابق الآيات أنه سخر لسليمان الجن والإنس والطير وجعلهم جنودا له- ذكر هنا أنه احتاج إلى جندى من جنوده وهو الهدهد، فبحث عنه فلم يجده فتوعده بالعذاب أو القتل إلا إذا أبدى له عذرا يبرئه، فحضر بعد قليل وقص عليه خبر مملكة باليمن من أغنى الممالك وأقواها تحكمها امرأة هى بلقيس ملكة سبأ، ووصف له مالها من جلال الملك وأبّهته وأنها وقومها يعبدون الشمس لا خالق الشمس
الإيضاح
(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي وطلب ما فقد من الطير بحسب ما تقتضيه العناية بأمر الملك من الاهتمام بالرعايا ولا سيما الجند فقال: الهدهد حاضر ومنع مانع من رؤيته كساتر ونحوه؟ ثم لاح له أنه غائب فقال أم كان قد غاب قبل ذلك ولم أشعر به؟.
وخلاصة ذلك- أغاب عنى الهدهد الآن فلم أره حين تفقده، أم كان قد غاب من قبل ولم أشعر بغيبته.
ثم توعده بالعذاب إذا لم يجد سببا يبرر به غيبته فقال:
(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي لأعذبنه بحبسه مع ضده فى قفص، ومن ثم قيل: أضيق السجون معاشرة الأضداد، أو بإبعاده من خدمتى، أو بإلزامه بخدمة أقرانه أو نحو ذلك، أو لأذبحنه ليعتبر به سواه أو ليأتينى بحجة تبين عذره.
والخلاصة- إنه ليعذبنه بأحد الأمرين الأولين إن لم يكن الأمر الثالث.
ثم ذكر أنه جاء بعد قليل وبين أن غيابه كان لأمر هامّ لدى سليمان.
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي فغاب مدة قصيرة بعد سؤال سليمان عنه ثم جاء فسأله: ما الذي أبطأ بك عنى؟
فقال: اطلعت على ما لم تطلع أنت ولا جنودك عليه، على سعة علمك واتساع أطراف مملكتك.
وقد بدأ كلامه بهذا التمهيد، لترغيبه فى الإصغاء إلى العذر، واستمالة قلبه إلى قبوله، ولبيان خطر ما شغله، وأنه أمر جليل الشأن يجب أن يتدبر فيه، ليكون فيه
قال صاحب الكشاف: ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتى من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له فى علمه، وتنبيها على أن فى أدنى خلقه وأضعفه من أحاط بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له فى ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة اهـ.
ثم فصل هذا النبأ وبينه بقوله:
(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) بين فى هذا الكلام شئونهم الدنيوية وذكر منها ثلاثة أمور:
(١) إن ملكتهم امرأة وهى بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها من قبلها ملكا جليل القدر واسع الملك.
(٢) إنها أوتيت من الثراء وأبهة الملك وما يلزم ذلك من عتاد الحرب والسلاح وآلات القتال، الشيء الكثير الذي لا يوجد مثله إلا فى الممالك العظمى.
(٣) إن لها سريرا عظيما تجلس عليه، مرصّعا بالذهب وأنواع اللآلئ والجواهر فى قصر كبير رفيع الشأن، وفى هذا أكبر الأدلة على عظمة الملك وسعة رقعته ورفعة شأنه بين الممالك.
وبعد أن بين شئونهم الدنيوية ذكر معتقداتهم الدينية فقال:
(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) أي وجدتها وقومها فى ضلال مبين، فهم يعبدون الشمس لا ربّ الشمس وخالق الكون المحيط بكل شىء علما، وزين لهم الشيطان قبيح أعمالهم، فظنوا حسنا ما ليس بالحسن، وصدهم عن الطريق القويم الذي بعث به الأنبياء والرسل وهو إخلاص السجود والعبادة لله وحده.
ولما بين أن كل العوالم مفتقرة إليه ومحتاجة إلى تدبيره، ذكر ما هو كالدليل على ذلك، فأبان أن أعظمها قدرا، وهو العرش الذي هو مركز تدبير شئون العالم هو الخالق له وهو محتاج إليه فقال:
(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي هو الله الذي لا تصلح العبادة إلا له وهو رب العرش العظيم، فكل عرش وإن عظم فهو دونه، فأفردوه بالطاعة ولا تشركوا به شيئا.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)
تفسير المفردات
تولّ عنهم: أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه، ليكون ما يقولونه بمسمع منك، فانظر: أي تأمل وفكّر، يرجعون: أي يرجع بعضهم إلى بعض من القول ويدور بينهم بشأنه، والملأ: أشراف القوم وخاصة الملك، ألا تعلوا علىّ:
أي ألا تتكبروا ولا تنقادوا للنفس والهوى، مسلمين: أي منقادين خاضعين.
بعد أن ذكر أن الهدهد أبدى المعاذير لتبرئة نفسه- أردف ذلك إجابة سليمن عن مقالة الهدهد، ثم أمره بتبليغ كتاب منه إلى ملكة سبأ، والتنحي جانبا ليستمع ما يدور من الحديث بينها وبين خاصتها بشأنه.
الإيضاح
(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ؟) أي قال سنختبر مقالك، ونتعرف حقيقته بالامتحان، أصادق أنت فيما تقول، أم كاذب فيه لتتخلص من الوعيد؟
وفى التعبير بقوله: كنت من الكاذبين، دون أن يقول أم كذبت، إيذان بأن تلفيق الأقوال المنمّقة، واختيار الأسلوب الذي يستهوى السامع إلى قبولها من غير أن يكون لها حقيقة تعبر عنها- لا يصدر إلا ممّن مرن على الكذب وصار سجيّة له حتى لا يجد وسيلة للبعد عنه، وهذا يفيد أنه كاذب على أتم وجه، ومن كان كذلك لا يوثق به.
ثم شرع يفعل ما يختبره به فكتب له كتابا موجزا وأمره بتبليغه إلى ملكة سبأ فقال:
(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ) أي اذهب بهذا الكتاب فألقه إليهم، ثم تنح عنهم وكن قريبا منهم، واستمع مراجعة الملكة أهل مملكتها، وما بعد ذلك من مراجعة بعضهم بعضا ونقاشهم فيه.
ثم فصل ما دار بينهم بشأنه فقال:
(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) أي وبعد أن ذهب الهدهد بالكتاب ألقاه إلى الملكة ففضّت خاتمه وقرأته، وجمعت أشراف قومها ومستشاريها
وفى الآية إيماء إلى أمور:
(١) سرعة الهدهد فى إيصال الكتاب إليهم.
(٢) إنه أوتى قوة المعرفة فاستطاع أن يفهم بالسمع كلامهم.
(٣) إنها ترجمت ذلك الكتاب فورا بواسطة تراجمتها.
(٤) إن من آداب رسل الملوك أن يتنحّوا قليلا عن المرسل إليهم بعد أداء الرسالة، ليتشاور المرسل إليهم فيها.
ثم بينت مصدر الكتاب وما فيه لخاصتها وذوى الرأى فى مملكتها فقالت.
(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ونص هذا الكتاب على وجازته يدل على أمور:
(١) إنه مشتمل على إثبات الإله ووحدانيته وقدرته وكونه رحمانا رحيما.
(٢) نهيهم عن اتباع أهوائهم، ووجوب اتباعهم للحق.
(٣) أمرهم بالمجيء إليه منقادين خاضعين.
وبهذا يكون الكتاب قد جمع كل ما لا بد منه فى الدين والدنيا.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥)
أفتونى: أي أشيروا علىّ بما عندكم من الرأى والتدبير فيما حدث، قاطعة أمرا:
أىّ باتّة فيه منفذته، تشهدون: أي تحضروني، والمراد بالقوة: القوة الحسية وكثرة الآلات، والمراد بالبأس: النجدة والثبات فى الحرب.
المعنى الجملي
ذكر فيما سلف أن الهدهد حيما ألقى الكتاب أحضرت بطانتها وأولى الرأى لديها وقرأت عليهم نصّ الكتاب، وهنا بين أنها طلبت إليهم إبداء آرائهم فيما عرض عليهم من هذا الخطب المدلهمّ والحادث الجلل حتى ينجلى لهم صواب الرأى فيما تعمل ويعملون، لأنها لا نريد أن تستبدّ بالأمر وحدها، فقلّبوا وجوه الرأى واشتد الحوار بينهم وكانت خاتمة المطاف أن قالوا: الرأى لدينا القتال، فإنا قوم أولو بأس ونجدة، والأمر مفوّض إليك فافعلى ما بدا لك، وإن قالت: إنى أرى أن عاقبة الحرب والدمار والخراب وصيرورة العزيز ذليلا، وإنى أرى أن نهادنه ونرسل إليه بهدية ثم ننظر ماذا يكون رده، علّه يقبل ذلك منا، ويكفّ عنا، أو يضرب علينا خراجا نحمله إليه كل عام ونلتزم ذلك له، وبذا يترك قتالنا وحربنا:
الإيضاح
(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي قالت بلقيس لأشراف قومها: أيها الملأ أشيروا علىّ فى أمر هذا الكتاب الذي ألقى إلىّ فإنى لا أقضى فيه برأى حتى تشهدونى فأشاوركم فيه.
وفى قولها هذا دلالة على إجلالهم وتكريمهم ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، ولتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضاءهم على الطاعة لها، علما منها أنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن
وعلى هذا النهج سار الإسلام، فقد قال سبحانه لنبيه «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» وقد مدح سبحانه صحابة رسوله بقوله: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ».
فأجابوا عن مقالها:
(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ) أي قال الملأ من قومها حين شاورتهم فى أمرها وأمر سليمان: نحن ذوو بأس ونجدة فى القتال، إلى ما لنا من وافر العدّة وعظيم العتاد وكثير الكراع والسلاح، وإن أمر القتال والسلم مفوّض إليك، فانظرى وقلّبى الرأى على وجوهه، ثم مرينا نأتمر بذلك.
ولما أحست منهم الميل إلى القتال شرعت تبين لهم وجه الصواب، وأنهم فى غفلة عن قدرة سليمان وعظيم شأنه، إذ من سخر له الطير على الوجه الذي يريده ليس من السهل مجالدته والتغلب عليه.
(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أي قالت لهم حين عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمان: إن الملوك إذا دخلوا قرية فاتحين أفسدوها بتخريب عمائرها وإتلاف أموالها، وأذلوا أهلها بالأسر والإجلاء عن موطنهم أو قتلوهم تقتيلا، ليتم هلم الملك والغلبة، وتتقرر لهم فى النفوس المهابة، وهكذا يفعلون معنا.
وفى هذا تحذير شديد لقومها من مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم.
(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ؟) أي وإنى سأرسل إليه هدية من نفائس الأموال لأتعرف حاله وأختبر أمره، أنبى هو أم ملك؟ فإن كان نبيا لم يقبلها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه، وإن كان ملكا قبل الهدية وانصرف إلى حين، فإن الهدايا مما تورث المودة، وتذهب العداوة،
وفى الحديث: «تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء»
ولقد أحسن من قال:
هدايا الناس بعضهم لبعض | تولّد فى قلوبهم الوصالا |
وتزرع فى الضمير هوى وودّا | وتكسبهم إذا حضروا جمالا |
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)
تفسير المفردات
لا قبل لهم بها: أي لا طاقة لهم بمقاومتها، صاغرون: أي مهانون محتقرون.
الإيضاح
لما وصلت الهدية مع الرسول إلى سليمان وكانت من ذهب وجواهر ولآلى وغيرها مما تقدمه الملوك العظام، قال سليمان للرسول: أتصانعونني بالمال لأترككم على شرككم وكفركم؟ لن يكون ذلك أبدا، إن الذي أعطانيه الله من النبوة والملك الواسع الأرجاء والمال الوفير- خير مما أنتم فيه، فلا حاجة لى بهديتكم، وليس رأيى فى المال كما ترون، فأنتم تفرحون به دونى، فارجع بما جئت به إلى من أرسلك،
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)
تفسير المفردات
العرش: سرير الملك، مسلمين أي خاضعين منقادين، العفريت من البشر:
الخبيث الماكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين: المارد، مقامك: أي مجلسك الذي تجلس فيه للحكم، قوى: أي قادر على حمله لا أعجز عنه، أمين: أي على ما فيه من لآلئ وجواهر وغيرها، والكتاب: هو علم الوحى والشرائع، والذي عنده علم هو سليمان عليه السلام كما اختاره الرازي وقال إنه أقرب الآراء، يرتد: أي يرجع، والطرف: تحريك الأجفان والمراد بذلك السرعة العظيمة، مستقرا: أي ساكنا قارا على حاله التي كان عليها، الفضل: التفضل والإحسان، ليبلونى: أي ليعاملنى معاملة المختبر، أم أكفر أي أقصر فى أداء واجب الشكر، كفر أي لم يشكر.
المعنى الجملي
استبان مما سلف أن سليمان رفض قبول الهدايا وتهدد الرسول بأن قومه وملكتهم إن لم يأتوا إليه طائعين خاضعين فسيوجه إليهم جيشا جرارا ينكل بهم أشد التنكيل،
وعلينا أن نؤمن بما جاء فى الكتاب الكريم على أنه معجزة لسليمان، إذ هو لا ينطبق على السنن العادية التي وضعها ربنا لخلقه، فعلم البشر إلى الآن لم يصل إلى تحقيق ذلك عمليا مع تقدم سبل الانتقال، فالطائرات على سرعتها التي أدهشت العقول لا تستطيع أن تسافر من جنوب اليمن إلى أطراف الشام فى مثل تلك اللحظات الوجيزة.
الإيضاح
لما رجعت الرسل إلى بلقيس وأخبرتها بما قال سليمان قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئا، وبعثت إليه إنى قادمة إليك بأشراف قومى، لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه، من دينك، ثم شخصت إليه، فجعل يبعث الجن يأتونه بأخبارها ويعلمونه غاية سيرها كل يوم حتى إذا دنت منه جمع جنده من الجن والإنس وتكلم فيهم.
(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي قال أيها الأعوان من منكم فى مكنته أن يأتينى بسرير ملكها قبل قدومها علينا، لنطلعها
(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي قال شيطان قوى أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس قضائك وكان إلى منتصف النهار، ثم زاد الأمر توكيدا فقال: وإنى على الإتيان به لقادر لا أعجز عنه، وإنى لأمين لا أمسه بسوء، ولا أقتطع منه شيئا لنفسى- حينئذ.
(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي قال سليمان للعفريت متحدثا بنعمة الله وعظيم فضله عليه: أنا أفعل ما لا تستطيع أنت، أنا أحضره فى أقصر ما يكون مدة، أنا أحضره قبل ارتداد طرفك إليك، وقد كان كما قال:
(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟) أي فلما رآه سليمان ساكنا ثابتا على حاله لم يتبدل منه شىء ولم يتغير وضعه الذي كان عليه قال هذا تفضل من الله ومنّة ليختبرنى: أأشكر بأن أراه فضلا منه بلا قوة منى أم أجحد فلا أشكر بل أنسب العمل إلى نفسى؟
وإن النعم الجسمية والروحية والعقلية كلها مواهب يمتحن الله بها عباده، فمن ضل بها هوى، ومن شكرها ارتقى، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) أي ومن شكر ففائدة الشكر إليه، لأنه يجلب دوام النعمة، ومن جحد ولم يشكر فإن الله غنى عن العباد وعبادتهم، كريم بالإنعام عليهم وإن لم يعبدوه، كما قال: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» وقال: «وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ»
وروى مسلم قوله ﷺ حكاية عن ربه
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
تفسير المفردات
نكروا لها عرشها: أي غيروا هيئته وشكله بحيث لا يعرف بسهولة، مسلمين:
أي خاضعين منقادين، صدها: أي منعها، والصرح: القصر وكل بناء عال، واللجة الماء الكثير، ممرد: أي ذو سطح أملس ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر فى وجهه، القوارير: الزجاج واحدها قارورة، أسلمت: أي خضعت.
المعنى الجملي
علمنا مما سلف أن بلقيس تجهزت للسفر مقبلة إلى سليمان، وأن الجن كانت تترسم خطاها من يوم إلى آخر حتى إذا دنت منه سأل سليمان جنده: من يستطيع
وهنا ذكر ما فعل سليمان من تغيير معالم العرش وتبديل أوضاعه، ثم سؤالها عنه ليختبر مقدار عقلها، ولتعلم صدق سليمان فى دعواه النبوة، وتتظاهر لديها الأدلة على قدرة المولى سبحانه.
وقد كان مما أعده لنزولها قصر عظيم مبنى من الزجاج الشفاف، فرشت أرضه بالزجاج أيضا، وفى أسفله ماء جار فيه صنوف السمك، فلما دخلت فى بهوه خالته لجة من الماء فكشفت عن ساقيها لتخوض فيه، فأنبأها سليمان بأن هذا زجاج يجرى تحته الماء، حينئذ أيقنت بأن دين سليمان هو الحق وأنها قد ظلمت نفسها بكفرها بالله ربها خالق السموات والأرض وصاحت تقول: أسلمت مع سليمان لله رب العالمين
الإيضاح
(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أي قال سليمان لجنده لما جاء عرش بلقيس: غيروا لها معالم السرير وبدّلوا أوضاعه، لنختبر حالها إذا نظرت إليه ونرى: أتهتدي إليه وتعلم أنه هو أم لا تستبين لها حقيقة حاله؟.
ثم أشار إلى سرعة مجيها وخضوعها بقوله:
(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي فحين قدمت واطلعت على عرشها سئلت عنه، أعرشك مثل هذا؟ أجابت بما دل على رجاحة عقلها إذ قالت كأنه هو، ولم تجزم بأنه هو، إذ ربما كان مثله.
قال مجاهد: جعلت تعرّف وتنكر، وتعجب من حضوره عند سليمان فقالت:
ولما ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار المعجزة لها قالت:
(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصدق نبوتك من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد، وبما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك، وكنا منقادين لك من ذلك الحين، فلا حاجة بي إلى إظهار معجزات أخرى.
ثم ذكر سبحانه ما منعها عن إظهار ما ادعت من الإسلام إلى ذلك الحين فقال:
(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أي ومنعها ما كانت تعبده من دون الله وهو الشمس عن إظهار الإسلام والاعتراف بوحدانيته تعالى، من قبل أنها من قوم كانوا يعبدونها ونشأت بين أظهرهم ولم تكن قادرة على إظهار إسلامها إلى أن مثلت بين يدى سليمان فاستطاعت أن تنطق بما كانت تعتقده فى قرارة نفسها ويجول فى خاطرها.
روى أن سليمان أمر قبل مقدمها ببناء قصر عظيم جعل صحنه من زجاج أبيض شفاف يجرى من تحته الماء وألقى فيه دواب البحر من سمك وغيره، فلما قدمت إليه استقبلها فيه وجلس فى صدره، فحين أرادت الوصول إليه حسبته ماء فكشفت عن ساقيها، لئلا تبتل أذيالها كما هى عادة من يخوض الماء، فقال لها سليمان: إن ما تظنينه ماء ليس بالماء، بل هو صرح قد صنع من الزجاج فسترت ساقيها وعجبت من ذلك، وعلمت أن هذا ملك أعزّ من ملكها، وسلطان أعز من سلطانها، ودعاها سليمان إلى عبادة الله وعليها على عبادة الشمس دون الله، فأجابته إلى ما طلب وقالت: رب إنى ظلمت نفسى بالثبات على ما كنت عليه من الكفر، وأسلمت مع سليمان لله رب كل شىء وأخلصت له العبادة
وإلى ما تقدم أشار سبحانه بقوله:
أخرج البخاري فى تاريخه والعقيلي عن أبى موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من صنعت له الحمامات سليمان».
قصص صالح
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٥ الى ٥٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
تفسير المفردات
فريقان: أي طائفتان طائفة مؤمنة وأخرى كافرة، يختصمون: أي يجادل بعضهم بعضا ويحاجه، السيئة: العقوبة التي تسوء صاحبها، الحسنة: التوبة، لولا: أي هلّا، وهى كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها، اطيرنا: أي تطايرنا وتشاء منا بك،
الحجر، والرهط والنفر: من الثلاثة إلى التسعة، تقاسموا: أي احلفوا، والبيات:
مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا، وليه: أي من له حق القصاص من ذوى قرابته إذا قتل، والمهلك: الهلاك، والمكر: التدبير الخفي لعمل الشر، والتدمير: الإهلاك، خاوية: أي خالية، لآية: أي لعبرة وموعظة.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي ولقد بعثنا إلى ثمود أخاهم صالحا وقلنا لهم: اعبدوا الله وحده لا شريك له، ولا تجعلوا معه إلها غيره.
وحين دعاهم إلى ذلك افترقوا فرقتين:
(١) فريق صدّق صالحا وآمن بما جاء به من عند ربه.
(٢) فريق كذّبه وكفر بما جاء به.
وصارا يتجادلان ويتخاصمان، وكل منهما يقول أنا على الحق وخصمى على الباطل.
ثم ذكر أن صالحا استعطف المكذّبين وكانوا أكثر عددا وأشد عتوّا وعنادا حتى قالوا: «يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».
(قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟) أي لم تستعجلون بالعقوبة التي يسوءكم نزولها بكم قبل حصول الخيرات التي بشّرتكم بها فى الدنيا والآخرة إن أنتم آمنتم بي.
ثم نصحهم وطلب إليهم أن يستغفروا ربهم لعلهم يرحمون فقال:
ولما قال لهم صالح ما قال، وأبان لهم سبيل الرشاد أجابوه بفظاظة وغلظة.
(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي قالوا: إنا تشاءمنا بك وبمن آمن معك، إذ زجرنا الطير فعلمنا أن سيصيبنا بك وبهم من المكاره ما لا قبل لنا به، ولم تزل فى اختلاف وافتراق منذ اخترعتم دينكم وأصابنا القحط والجدب بسببكم.
وسمى التشاؤم تطيرا من قبل أنه كان من دأبهم أنهم إذا خرجوا مسافرين فمروا بطائر زجروه: أي رموه بحجر ونحوه، فإن مرّ سانحا بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسره تيمنوا به، وإن مر بارحا بأن مر من المياسر إلى الميامن تشاءموا منه.
فأجابهم صالح عليه السلام:
(قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي قال إن ما يصيبكم من خير أو شر مكتوب عند الله وهو بقضائه وقدره، وليس شىء منه بيد غيره، فهو إن شاء رزقكم، وإن شاء حرمكم:
وسمى ذلك القضاء طائرا لسرعة نزوله بالإنسان، فلا شى أسرع منه نزولا.
ثم أبان لهم سبب نزول ما ينزل من الشر بقوله:
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي بل أنتم قوم يختبركم ربكم حين أرسلنى إليكم أتطيعونه فتعملوا بما أمركم به فيجزيكم الجزيل من ثوابه، أم تعصونه فتعملوا بخلافه فيحل بكم عقابه؟
ثم ذكر أن قريته كانت كثيرة الفساد فقال:
(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي وكان فى مدينة صالح وهى الحجر تسعة أنفس يعيثون فى الأرض فسادا لا يعملون فيها صالحا.
ثم بين بعض ما عملوا من الفساد:
وإذا كانوا لم يشهدوا هلاكهم فهم لم يقتلوهم بالأولى، وأيضا فهم إذا لم يقتلوا الأتباع فأحربهم ألا يقتلوا صالحا.
قال الزجاج: كان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيّتوا صالحا وأهله ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه، وكان هذا مكرا منهم، ومن ثم قال سبحانه محذّرا لهم ولأمثالهم.
(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وغدر هؤلاء التسعة الرهط الذين يفسدون فى الأرض بصالح، إذ صاروا إليه ليلا ليقتلوه وأهله وهو لا يشعر بذلك، فأخذناهم بعقوبتنا، وعجلنا لهم العذاب من حيث لا يشعرون بمكر الله بهم.
ثم بين ما ترتب على ما باشروه من المكر بقوله:
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) أي ففكر كيف آل أمرهم، وكيف كانت عاقبة مكرهم، فقد أهلكناهم وقومهم الذين لم يؤمنوا على وجه يقتضى النظر، ويسترعى الاعتبار، ويكون عظة لمن غدر كغدرهم فى جميع الأزمان.
روى أنه كان لصالح فى الحجر مسجد فى شعب يصلى فيه، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه، فوقعت عليهم صخرة من جبالهم طبّقت عليهم الشعب فهلكهوا وهلك الباقون فى أماكنهم بالصيحة، ونجّى الله صالحا ومن آمن معه.
ثم أكد ما تقدم وقرره بقوله:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن فى فعلنا بثمود ما قصصناه عليك لعظة لمن كان من أولى المعرفة والعلم، فيعلم ارتباط الأسباب بمسبباتها، والنتائج بمقدماتها، بحسب السنن التي وضعت فى الكون.
وبعد أن ذكر من هلكوا أردفهم بمن أنجاهم فقال:
(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي وأنجينا من نقمتنا وعذابنا الذي أحللناه بثمود- رسولنا صالحا ومن آمن به، لأنهم كانوا يتقون سخط الله ويخافون شديد عقابه، بتصديقهم رسوله الذي أرسله إليهم.
وفى هذا إيماء إلى أن الله ينجى محمدا وأتباعه عند حلول العذاب بمشركى قريش حين يخرج من بين ظهرانيهم كما أحلّ بقوم صالح ما أحل حين خرج هو والمؤمنون إلى أطراف الشام ونزل رملة وفلسطين.
قصص لوط
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)
الإيضاح
(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟) أي واذكر لقومك حديث لوط لقومه إذ قال لهم منذرا ومحذّرا: إنكم لتفعلون فاحشة لم يسبقكم بها أحد من بنى آدم، مع علمكم بقبحها لدى العقول والشرائع (واقتراف القبيح ممن يعلم قبحه أشنع).
(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي أينبغى أن تأتوا الرجال وتقودكم الشهوة إلى ذلك وتذروا النساء اللاتي فيهن محاسن الجمال، وفيهن مباهج الرجال، إنكم لقوم جاهلون سفهاء حمقى ما جنون.
ونحو الآية قوله: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ».
وقد أشار سبحانه إلى قبيح فعلهم وعظيم شناعته من وجوه:
(١) قوله: (الرِّجالَ) وفيه الإشارة إلى أن الحيوان الأعجم لا يرضى بمثل هذا.
(٢) قوله: (مِنْ دُونِ النِّساءِ) وفى ذلك إيماء إلى أن تركهن واستبدال الرجال بهن خطأ شنيع وفعل قبيح.
(٣) قوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وفى هذا إيماء إلى أنهم يفعلون فعل الجهلا الذين لا عقول لهم، ولا يدرون عظيم قبح ما يفعلون.
هذا آخر ما سطرناه تفسيرا لهذا الجزء من كلام ربنا العليم القدير، فله الحمد والمنة.
وكان ذلك بمدينة حلوان من أرباض القاهرة فى الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الصفحة المبحث ٣ ما شرطه المشركون للتصديق بنبوة محمد ﷺ ٥ ما تقوله الملائكة للمشركين يوم القيامة ٨ ندمهم فى الآخرة على ما فعلوا فى الدنيا ٩ مثل الجليس الصالح وجليس السوء ١٠ شكاية الرسول إلى ربه بأن قومه هجروا كتابه ١٠ كان لكل نبى أعداء من شياطين الإنس والجن ١٢ فوائد إنزال القرآن منجّما ١٣ وعد الله رسوله بتأييده بإزالة ما يقولون من الشبه ١٤ قصص بعض الأنبياء مع أممهم ١٧ قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم ١٩ استهزاء المشركين بالرسول ﷺ وقولهم «أهذا الذي بعث الله رسولا ١٩ احتفال النبي ﷺ بالدعوة والإلحاف فى البلاغ ٢٠ تسفيه آراء المشركين من وجوه ثلاثة:
٢٣ الأدلة على التوحيد ٢٥ بعثة الرسول ﷺ إلى الناس كافة كما جاء فى الحديث: بعثت إلى الأحمر والأسود ٢٧ النهى على المشركين فى عبادة الأصنام ٢٧ المشركون يظاهرون أولياء الشيطان ويعادون أولياء الرحمن
٤٠ ترغيب الأبرار فى التوبة ٤١ كان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ٤١ «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» ٤٢ إحسان الله إلى عباده المتقين ٤٢ لولا عبادتكم ربكم لم يعبأ بكم ٤٥ الحروف المقطعة فى أوائل السور ٤٦ جرت سنة الله أن يكون الإيمان طوعا لا كرها ٤٦ إعراض المشركين عن النظر فى الآيات ٤٨ بشارة النبي ﷺ بتأييده ونصره ٤٨ قصص موسى عليه السلام ٤٩ تسلية الرسول ﷺ بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم ٥٠ الأسباب التي جعلت موسى يطلب معونة هارون ٥١ تقريع فرعون لموسى على حسن صنيعه له ٥٢ قال موسى لفرعون إن أحسنت إلىّ فقد أسأت إلى شعبى
١٤٣ ما فعلته بلقيس حين دخولها الصرح ١٤٤ ما أعده سليمان لنزول بلقيس ١٤٥ قصص ثمود مع صالح عليه السلام ١٤٨ توعدوا صالحا عليه السلام بعد أن توعدهم ١٤٩ ما قاله لوط لقومه ناصحا لهم ١٥٠ تأنيب قوم لوط على قبيح فعلهم
[تتمة سورة النمل]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
تفسير المفردات
يتطهرون: أي ينزهون أنفسهم، ويتباعدون عما نفعله، ويزعمون أنه من القاذورات، قدّرنا: أي قضينا وحكمنا، الغابرين: أي الباقين فى العذاب.
المعنى الجملي
سبق أن بيّنا أن الذين قسموا القرآن إلى أجزائه الثلاثين لاحظوا العدّ اللفظي للحروف والكلمات والآيات، ولم ينظروا إلى ارتباط المعاني بعضها ببعض، ومن ثم نرى هنا أن الجزء قد انتهى قبل تمام قصة لوط وبدئ الجزء العشرون بتمام هذه القصة، وقد بين فيها أن النصح لم يجدهم شيئا وعقدوا العزم على استعمال القوة فى إخراجه من
الإيضاح
(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي فلم يكن جوابهم للوط إذ نهاهم عما أمره الله بنهيهم عنه من إتيان الذكور إلا قيل بعضهم لبعض:
أخرجوا لوطا وأهله من قريتنا، وقد عدّوا سكناه بينهم منّة ومكرمة عليه إذ قالوا:
من قريتكم.
ثم عللوا هذا الإخراج بقولهم استهزاء بهم:
(إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي إنهم يتحرّجون من فعل ما تفعلون، ومن إقراركم على صنيعكم، فأخرجوهم من بين أظهركم، فإنهم لا يصلحون لجواركم فى بلدكم.
ولما وصلوا إلى هذا الحد من قبح الأفعال والأقوال دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها، وإلى هذا أشار بقوله:
(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) أي فأهلكناهم وأنجينا لوطا وأهله إلا امرأته جعلناها بتقديرنا وحكمتنا من الباقين فى العذاب، لأنها كانت على طريقتهم راضية بقبيح أفعالهم وكانت ترشد قومها إلى صيفان لوط ليأتوا إليهم، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبى الله صلى الله عليه وسلم، لا كرامة لها.
ثم بين ما أهلكوا به فقال:
(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي وأمطرنا عليهم مطرا غير ما عهد
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٤]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)
تفسير المفردات
العباد المصطفون: هم الأنبياء عليهم السلام، الحدائق: البساتين واحدها حديقة، والبهجة: الحسن والرونق، يعدلون: من العدول وهو الانحراف، قرارا: أي مستقرا، الخلال: واحدها خلل وهو الوسط، رواسى: أي ثوابت أي جبالا ثوابت، الحاجز:
الفاصل بين الشيئين، والمضطر: الذي أحوجته الشدة وألجأته الضراعة إلى الله،
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه على رسوله قصص أولئك الأنبياء السالفين، وذكر أخبارهم الدالة على كمال قدرته وعظيم شأنه، وعلى ما خصهم به من المعجزات الباهرة الناطقة بجلال أقدارهم، وصدق أخبارهم، وفيها بيان صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الشرك والكفر، وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى، ومن أعرض عنهم فقد تردّى فى مهاوى الردى، ثم شرح صدره عليه الصلاة والسلام بما فى تضاعيف تلك القصص من العلوم الإلهية، والمعارف الربانية، الفائضة من عالم القدس مقررا بذلك قوله: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» أردف هذا أمره عليه الصلاة والسلام بأن يحمده تعالى على تلك النعم، ويسلم على الأنبياء كافة عرفانا لفضلهم، وأداء الحق تقدمهم واجتهادهم فى الدين، وتبليغ رسالات ربهم على أكمل الوجوه وأمثل السبل، ثم ذكر الأدلة على تفرده بالخلق والتقدير ووجوب عبادته وحده، وأنه لا ينبغى عبادة شىء سواه من الأصنام والأوثان.
الإيضاح
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أمر الله رسوله أن يحمده شكرا له على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، وأن يسلّم على عباده الذين اصطفاهم لرسالته، وهم أنبياؤه الكرام ورسله الأخيار.
ومن تلك النعم النجاة والنصر والتأييد لأوليائه، وحلول الخزي والنكال بأعدائه.
ونحو الآية قوله: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».
ثم شرع يوبخ المشركين ويتهكم بهم وينبههم إلى ضلالهم وجهلهم، إذ آثروا عبادة الأصنام على عبادة الواحد القهار فقال:
(آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟) أي آلله الذي ذكرت لكم شئونه العظيمة خير أم الذي تشركون به من الأصنام؟ وفى ذلك ما لا يخفى من تسفيه آرائهم، وتفبيح معتقداتهم، وإلزامهم الحجة، إذ من البين أنه ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يوازن بينها وبين ما هو محض الخير، فهو من وادي ما حكاه سيبويه: تقول العرب: السعادة أحب إليك أم الشقاء؟ وكما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أتهجوه ولست له بكفء | فشركما لخيركما الفداء |
بل الله خير وأبقى، وأجل وأكرم»
ثم انتقل من التوبيخ تعريضا إلى التبكيت تصريحا فقال:
(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي أعبادة ما تعبدون أيها المشركون من أوثانكم التي لا تضر ولا تنفع خير، أم عبادة من خلق السموات على ارتفاعها وصفائها وجعل فيها كواكب نيّرة ونجوما زاهرة، وأفلاكا دائرة وخلق الأرض وجعل فيها جبالا وأنهارا وسهولا وأوعارا، وفيافى وقفارا، وزروعا وأشجارا، وحيوانات مختلفة
ونحو الآية قوله: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» وقوله: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».
ثم زاد فى التوبيخ فنفى الألوهية عما يشركون بعد تبكيتهم على نفى الخيرية عنها فقال.
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) أي أإله غيره يقرّون به، ويجعلونه شريكا له فى العبادة، مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين؟ ونحو الآية قوله: «وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ».
ثم انتقل من تبكيتهم إلى بيان سوء حالهم فقال:
(بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي بل هؤلاء المشركون قوم دأبهم العدول عن طريق الحق، والانحراف عن جادّة الاستقامة فى جميع شئونهم، ومن ثمّ يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح وهو التوحيد، ويعكفون على الضلال المبين وهو الإشراك.
وفى معنى الآية قوله: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» وقوله: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» وقوله:
«وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ».
ثم أعاد التوبيخ بوجه آخر فقال:
(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) أي أعبادة ما تشركون أيها الناس بربكم مع أنه لا يضر ولا ينفع خير، أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرا للإنسان والدواب، وجعل فى أوسطها أنهارا تنتفعون بها فى شربكم وسقى أنعامكم ومزارعكم، وجعل فيها ثوابت الجبال حتى لا نميد بكم،
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) فى إبداع هذه الكائنات وإيجاد هذه الموجودات.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قدر عظمة الله وما عليهم من ضرّ فى إشراكهم غيره به، وما لهم من نفع فى إفرادهم إياه بالألوهة، وإخلاصهم العبادة له، وبراءتهم من كل معبود سواه.
ثم زادهم توبيخا من وجه ثالث فقال:
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ؟) أي أمن تشركون بالله خير أم من يجيب المكروب الذي يحوجه المرض أو الفقر أو النازلة من نوازل الدهر إلى اللّجأ والتضرع إليه إذا دعاه وقت اضطراره، ويرفع عن الإنسان ما يسوءه من فقر أو مرض، ويجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم فى الأرض فيورثكم إياها بالسكنى والتصرف فيها؟.
وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أسألك بالله أن تدعو لى فأنا مضطر قال:
إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه، وقال الشاعر:
وإنى لأدعو الله والأمر ضيّق | علىّ فما ينفك أن يتفرّجا |
ورب أخ سدّت عليه وجوهه | أصاب لها لمّا دعا الله مخرجا |
وجاء فى الخبر: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده»
«واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب».
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) الذي هذه شئونه، وتلك نعمه؟.
ثم بين أن من طبيعة الإنسان ألا يتذكر نعم الله عليه إلا قليلا، وإلى ذلك أشار بقوله:
(قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) أي قليلا ما تتذكرون نعم الله عليكم، وأياديه عندكم، ومن ثمّ أشركتم به غيره فى العبادة.
ثم زادهم تأنيبا وتهكما من ناحية أخرى فقال:
(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أمن تشركون بالله خير، أم من يرشدكم فى ظلمات البر والبحر إذا أظلمت عليكم السبل فضللتم الطريق- بما خلق من الدلائل السماوية كما قال: «وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» وقال: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» ومن يرسل الرياح أمام الغيث الذي يحيى موات الأرض.
ولما اتضحت الأدلة ولم يبق لأحد فى ذلك عذر ولا علة قال:
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) فعل هذا؟.
ثم أكد هذا النفي وقرره بقوله:
(تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه ربنا المنفرد بالألوهية، ومن له صفات الكمال والجلال، ومن تخضع له جميع المخلوقات، وتذلّ لقهره وجبروته- عن شرككم الذي تشركونه به وعبادتكم معه ما تعبدون.
ثم أضاف إلى ذلك برهانا آخر لعلهم يرتدعون عن غيهم فقال:
(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي أما تشركون به خير أم الذي ينشىء الخلق بادىء بدء ويبتدعه من غير أصل سلف، ثم يفنيه إذا
وهم وإن كانوا ينكرون الإعادة والبعث لم يلتفت إلى ذلك الإنكار لظهور أدلته فلم يبق لهم عذر فيه وبعد أن وضح الدليل على نفى الشريك بكّتهم وقال:
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) يفعل هذا حتى يجعل شريكا له؟
وبعد أن ذكر البرهان تلو البرهان وأوضح الحق حتى صار كفلق الصبح زاد فى التهكم بهم والإنكار عليهم والتسفيه لعقولهم، فأمر رسوله أن يطلب منهم البرهان على صدق ما يدّعون. فقال:
(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لهم أيها الرسول: هاتوا الدليل على وجود ما تزعمون من الشركاء إن كان ما تقولونه حقا وصدقا
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦)
تفسير المفردات
أيان: أي متى، يبعثون: أي يقومون من القبور للحساب والجزاء، ادّارك:
أي تدارك وتتابع والمراد التتابع فى الاضمحلال والفناء، فى شك: أي فى حيرة عظيمة، عمون: واحدهم عم وهو أعمى القلب والبصيرة.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت تفرده بالألوهية، لاختصاصه بالقدرة التامة، والرحمة العامة- أعقب هذا بذكر لوازمها وهو اختصاصه بعلم الغيب، تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث
والمراد بالغيب الشئون التي تتعلق بأمور الآخرة وأحوالها، وشئون الدنيا التي لا تقع تحت حسّنا وليست فى مقدورنا.
وعن مسروق عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: من زعم أن النبي ﷺ يعلم ما يكون فى غد فقد أعظم الفرية على الله، لأن الله يقول: «قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ» ثم ذكر بعض ذلك الغيب فقال:
(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما يدرى من فى السموات والأرض من خلقه متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة كما قال: «ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض فلا يشعرون بها، بل تأتيهم فجأة.
ثم أكد جهلهم بهذا اليوم بقوله:
(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي بل انتهى علمهم وعجزهم عن معرفة وقتها فلم يكن لهم علم بشىء مما سيكون فيها قطعا مع توافر أسباب العلم، وليس المراد أنه كان لهم علم بوقتها على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا، بل المراد أن أسباب العلم ومبادثه من الدلائل العقلية والنقلية ضعفت فى اعتبارهم شيئا فشيئا كلما تأملوا فيها حتى لم يعد لها قيمة وكأن لم تكن.
ثم انتقل من وصفهم بالجهل بميقاتها إلى الحيرة فى الآخرة نفسها، أتكون أو لا تكون؟ فقال:
ثم ارتقى من وصفهم بالشك فى أمرها إلى وصفهم بالعمى واختلال البصيرة بحيث لا يدركون الدلائل التي تدل على أنها كائنة لا محالة فقال:
(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي بل هم فى عماية وجهل عظيم من أمرها، وعن كل ما يوصلهم إلى الحق فى شأنها، والنظر فى دلائلها
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٧ الى ٧٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه فيما سلف جهلهم بالآخرة وعما هم عنها- أردف ذلك بيان ذلك وإيضاحه بأنهم ينكرون الإخراج من القبور بعد أن صاروا ترابا، وأنهم قالوا
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أي وقال الكافرون بالله المكذبون لرسله، أإنا لمخرجون من قبورنا أحياء كهيئتنا من بعد مماتنا وبعد أن بلينا وكنا فيها ترابا؟
وهذا منهم استبعاد لإعادة الأجسام بعد صيرورتها عظاما ورفاتا.
ثم ذكروا شبهتهم على استبعاده فى زعمهم فقال:
(لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي إنا ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ولا نرى تحقق ذلك ولا وقوعه.
ثم أكدوا هذا الاستبعاد بقولهم:
(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الوعد إلا أسطورة مما سطّره الأولون من الأكاذيب فى كتبهم من غير أن يكون لهم بينة على إمكان تحققه ووجوده.
ثم أمر الله رسوله ﷺ أن يرشدهم إلى وجه الصواب مع التهديد والوعيد فقال:
ثم صلّى رسوله ﷺ على ما يناله من عماهم عن السبيل، الذي هدى إليه الدليل فقال:
(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي ولا تحزن على إدبار هؤلاء المشركين عنك وتكذيبهم لك، ولا يضق صدرك من مكرهم، فإن الله ناصرك عليهم، ومظهر دينك على من خالفه فى المشارق والمغارب.
ثم أشار إلى أنهم لم يقصروا إنكارهم على الساعة، بل كان إنكارهم لغيرها من عذاب الله أشد بقوله:
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول مشركو قريش المكذبون بما أتيتهم به من عند ربك: متى يكون هذا العذاب الذي تعدنا به؟ إن كنتم صادقين فيما تدّعون؟.
ثم أمر رسول الله ﷺ أن يجيبهم فقال:
(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي قل لهم: عسى أن يلحقكم ويصل إليكم بعض ما تستعجلون حلوله من العذاب، والمراد به ما حل بهم يوم بدر من النكال والوبال.
قال صاحب الكشاف: عسى ولعل وسوف، فى وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجدّه، وما لا مجال للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم،
ثم بين سبحانه السبب فى ترك تعجيل العذاب فقال:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي وإن ربك لهو المنعم المتفضل على الناس جميعا بتركه المعاجلة بالعقوبة على المعصية والكفر، ولكن أكثرهم لا يعرفون حق فضله عليهم. فلا يشكره إلا القليل منهم.
ثم أبان سبحانه أنه مطّلع على ما فى قلوبهم فقال:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) يقال كننت الشيء وأكننته:
إذا سترته وأخفيته، أي إن ربك يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر كما قال «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ» وقال «فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى».
وقصارى ذلك- إنه يعلم ما يخفون من عداوة الرسول ومكايدهم له وما يعلنون، وهو محصيها عليهم ومجازيهم بذلك.
ثم ذكر أن كل ما يحصل فى الوجود فهو محفوظ فى اللوح المحفوظ فقال:
(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي وما من أمر مكتوم وسر خفى يغيب عن الناظرين فى السماء أو فى الأرض إلا وهو فى أم الكتاب الذي أثبت ربنا فيه كل ما هو كائن من ابتداء الخلق إلى يوم القيامة، وهو بيّن لمن نظر إليه وقرأ ما فيه، مما أثبته ربنا جلت قدرته.
ونحوه: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ».
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٦ الى ٨١]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
بعد أن ذكر سبحانه ما يتعلق بالنشأة الأولى وأنه خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وما يتصل بالبعث والنشور وأقام على ذلك الدليل يتلو الدليل بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد- أردف ذلك الكلام فى نبوة محمد ﷺ وأقام الأدلة على صحتها وصدق دعواه فيما يدّعى، وكان من أعظم ذلك القرآن الكريم، لا جرم بين الله تعالى إعجازه من وجوه:
(١) إن ما فيه من القصص موافق لما فى التوراة والإنجيل مع أنه ﷺ كان أميا ولم يخالط أحدا من العلماء للاستفادة والتعلم، فلا يكون ذلك إذا إلا من وحي إلهى من لدن حكيم خبير.
(٢) إن ما فيه من دلائل عقلية على التوحيد والبعث والنبوة والتشريع العادل المطابق لحاجة البشر فى دنياهم وآخرتهم- لا يوجد له نظير فى كتاب آخر، فلا بد أن يكون ذلك من عند الله.
(٣) إنه قد بلغ الغاية فى الفصاحة والبلاغة حتى لم يستطع أحد أن يتصدى لمعارضته مع حرصهم عليها أشد الحرص، فدل ذلك على أنه خارج عن قوى الشر، وأنه من من الملإ الأعلى ومن لدن خالق القوى والقدر.
ثم ذكر بعد ذلك أنه جاء حكما على بنى إسرائيل فيما اختلفوا فيه، فأبان لهم الحق فى هذا كاختلافهم فى أمر المسيح، فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله، ومن قائل
ثم أمر رسوله ﷺ أن يتوكل عليه فإنه حافظه وناصره، وأن يعرض عن أولئك الذين لا يستمعون لدعوته، لأنهم صم بكم لا يعقلون، والذكرى لا تنفع إلا من له قلب يعى، وآذان تسمع دعوة الداعي إلى الحق فتستجيب لها.
الإيضاح
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك أيها الرسول يقص على بنى إسرائيل الحق فى كثير مما اختلفوا فيه، وكان عليهم لو أنصفوا أن يتبعوه، لكنهم لم يفعلوا وكابروا مع وضوح الحق وظهور دليله كما تفعلون أنتم أيها المشركون.
ثم وصف القرآن بقوله:
(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وإنه لهاد للمؤمنين إلى سبيل الرشاد، ورحمة لمن صدّق به وعمل بما فيه.
وبعد أن ذكر فضله وشرفه أتبعه دليل عدله فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك يقضى بين المختلفين من بنى إسرائيل بحكمه العادل، فينتقم من المبطل منهم، ويجازى المحسن بما يستحق من الجزاء، وهو العزيز الذي لا يردّ حكمه وقضاؤه، العليم بأفعال العباد وأقوالهم، فقضاؤه موافق لواسع علمه.
وبعد أن أثبت لنفسه العلم والحكمة والجبروت والقدرة أمر رسوله ﷺ أن يتوكل عليه وحده فقال:
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي أنت على الحق المبين، وإن خالفك فيه من خالفك ممن كتب عليه الشقاء: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ».
ثم أيأسه من إيمان قومه وأنه لا أمل فى استجابتهم لدعوته فقال:
(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم الحق من طبع الله على قلوبهم فأماتها، ولا أن تسمعه من أصمهم عن سماعه، ولا سيما أنهم مع ذلك معرضون عن الداعي، مولّون على أدبارهم، وإنما شبههم بالموتى لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم، وشبههم بالصم البكم ليبين أنه لا أمل فى استجابتهم للدعوة، لأن الأصم الأبكم لا يسمع الداعي بحال.
وظاهر نفى سماع الموتى العموم، فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل.
كما
ثبت فى الصحيح «أنه ﷺ خاطب القتلى فى قليب (بئر) بدر فقيل له: يا رسول الله إنما تكلم أجسادا لا أرواح لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم». أخرجه مسلم.
وكما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه.
وقصارى ما سلف- إنه تعالى أمره بالتوكل عليه والإعراض عما سواه، لأنه على الحق المبين ومن سواه على الباطل، ولأنه تعالى مؤيده وناصره، ولأنه لا مطمع فى مشايعة المشركين ومعاضدتهم، لأنهم كالموتى وكالصم البكم، فلا أمل فى استجابتهم للدعوة، ولا فى قبولهم للحق.
ثم أكد ما سلف وقطع أطماعه فى إيمانهم على أتم وجه فقال:
ثم زاد ذلك توكيدا فقال:
(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي إنما يستجيب لك من هو نافذ البصيرة، خاضع لربه، متبتل إليه، مجيب لدعوة رسله.
الخلاصة- إنك لا تقدر أن تفهم الحق وتسمعه إلا من يصدقون بآياتنا وحججنا، فإنهم هم الذين يسمعون منك ما تقول، ويتدبرونه ويعملون به، إذ هم ينقادون للحق فى كل حين.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٢ الى ٩٠]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
وقع: حدث وحصل، والمراد من القول: ما دل من الآيات على مجىء الساعة، تكلمهم: أي تنبئهم وتخبرهم، نحشر: أي نجمع، فوجا: أي جماعة من الرؤساء، يوزعون: أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا فى موقف التوبيخ والمناقشة، ولم تحيطوا بها علما: أي ولم تدركوا حقيقة كنهها، ألم يروا: أي ألم يعلموا، ليسكنوا فيه: أي ليستريحوا فيه ويهدءوا، مبصرا: أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب فى أمور معاشهم، الصور: البوق، داخرين: أي أذلاء صاغرين، جامدة: أي ثابتة فى أماكنها، أتقن: أي أحكم، يقال رجل تقن (بكسر التاء وسكون القاف) أي حاذق بالأشياء، الحسنة: الإيمان وعمل الصالحات، والسيئة: الإشراك بالله والمعاصي، كبت: أي ألقيت منكوسة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما يدل على كمال علمه وقدرته، وأبان بعدئذ إمكان البعث والحشر والنشر، ثم فصل القول فى إعجاز القرآن، ونبه بذلك إلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم- أردف ذلك ذكر مقدمات القيامة وما يحدث من الأهوال حين قيامها، فذكر خروج دابة من الأرض تكلم الناس أنهم كانوا لا يؤمنون بآيات ربهم، وأنه حينئذ ينفخ فى الصور، فيفزع من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله، وأن الجبال تجرى وتمر مر السحاب ثم بين أحوال المكلفين بعد ذلك وجعلهم
الإيضاح
(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) يخبر سبحانه بأنه حين فساد الناس وتركهم أوامره وتبديلهم الدين الحق قرب مجىء الساعة- تخرج دابة من الأرض تحدّث الناس بأنهم كانوا لا يوقنون بآياته الدالة على مجىء الساعة ومقدّماتها.
والمقصود من هذا التحديث: التشنيع عليهم بهذه المقالة، وفى التعبير بكلمة (النَّاسَ) الإشارة إلى كثرتهم وأنهم جمّ غفير منهم.
وما جاء فى وصف الدابة والمبالغة فى طولها وعرضها، وزمان خروجها ومكانه- مما لا يركن إليه، فإن أمور الغيب لا يجب التصديق بها إلا إذا ثبتت بالدليل القاطع عن الرسول المعصوم.
ثم بين سبحانه حال المكذبين حين مجىء الساعة بعد بيان بعض مباديها وأشراطها فقال:
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟) أي ويوم نجمع من كل أهل قرن جماعة كثيرة ممن كذبوا بآياتنا ودلائلنا، ونحبس أولهم على آخرهم، ليجتمعوا فى موقف التوبيخ والإهانة، حتى إذا جاءوا ووقفوا بين يدى الله فى مقام السؤال والجواب، ومناقشة الحساب، قال لهم ربهم مؤنبا وموبخا لهم على تكذيبهم:
أكذبتم بآياتى الناطقة بلقاء يومكم هذا بادى الرأى غير ناظرين فيها نظرا يوصلكم إلى العلم بحقيقتها، أم ماذا كنتم تعملون فيها من تصديق وتكذيب؟.
ونحو الآية قوله: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ».
وبعد أن خوّفهم من أهوال يوم القيامة ذكر الدليل على التوحيد والحشر والنبوة فقال:
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتنا تصريفنا الليل والنهار ومخالفتنا بينهما يجعل ذاك سكنا لهم يسكنون فيه، ويهدءون راحة لأبدانهم من تعب التصرف والتقلب نهارا، وجعل هذا مضيئا يبصرون فيه الأشياء ويعاينونها، فيتقلبون فيه لمعايشهم- فيتفكرون فى ذلك ويتدبرون ويعلمون أن مصرّف ذلك كذلك، هو الإله الذي لا يعجزه شىء، ولا يتعذر عليه إماتة الأحياء، وإحياء الأموات بعد الممات.
وفى ذلك أيضا دليل على النبوة، لأنه كما يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين ففى بعثة الأنبياء منافع عظيمة للناس فى دنياهم ودينهم، فما المانع إذا من بعثهم إليهم؟
بل الحاجة إلى ذلك ملحّة.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فيما ذكر لدلالة على قدرته على البعث بعد الموت، وعلى توحيده لمن آمن به وصدّق برسله، فإن من تأمل فى تعاقبهما واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم تحار فى فهمها العقول، ولا يحيط بعلمها إلا الله وشاهد فى الآفاق تبدل ظلمة الليل الحالكة المشابهة للموت، بضياء النهار المضاهي للحياة، وعاين فى نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة- قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فى القبور، وجزم بأن الله جعل هذا دليلا على تحققه، وأن الآيات الناطقة به حق، وأنها من عند الله.
(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) أي واذكر أيها الرسول لهم هول يوم النفخ فى الصور، إذ يفزع من فى السموات ومن في الأرض، لما يعتريهم من الرعب حين البعث والنشور، بمشاهدة الأهوال الخارقة لعادة فى الأنفس والآفاق، إلا من ثبّت الله قلبه.
ويرى أكثر أهل العلم أن هناك نفختين، نفخة الفزع المذكورة فى هذه الآية وهى نفخة الصعق المذكورة فى قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» لأن كلا الأمرين الفزع والخوف، والصعق وهو الموت يحصلان بها، ونفخة البعث المذكورة فى قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ».
(وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) أي وكل هؤلاء الفزعين المبعوثين، حين النفخة يحضرون الموقف بين يدى رب العزة للسؤال والجواب، والمناقشة والحساب، أذلاء صاغرين، لا يتخلف أحد عن أمره كما قال: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ».
وقال: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» وقال:
«يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ».
ولما ذكر دخورهم أتبعه بدخور ما هو أعظم منهم فقال:
(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي وترى الجبال كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه وهى تزول عن أماكنها وتسير حثيثا كمر السحاب، لأن الأجرام الكبار إذا تحركت فى سمت واحد لا تكاد تبين حركتها.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» وقوله:
«وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً» وقوله: «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» وهذا يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، فيبدل الله الأرض غير الأرض ويغيّر هيئتها ويسيّر الجبال عن مقارّها ليشاهدها أهل المحشر، وهى وإن
«فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» وقوله: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ».
ثم علل إمكان ذلك وسرعة حصوله بقوله:
(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي ذلك الصنع العظيم صنع الله الذي أحكم كل شىء وأودع فيه من الحكمة ما أودع.
ثم علل ما تقدم من النفخ فى الصور والقيام للحساب ومجازاة العباد على أعمالهم بقوله:
(إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) أي إنه تعالى ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشر، وطاعة ومعصية، وهو مجازيهم على ذلك أتم الجزاء.
ثم بين حال السعداء والأشقياء يومئذ فقال:
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من آمن بالله وعمل صالحا فله على ذلك جزيل الثواب من عند ربه فى جنات النعيم، يأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة كما جاء فى الآية: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» وقال: «أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟» وقال: «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» وقد صح تفسير الحسنة هنا بشهادة أن لا إله إلا الله، على ما رواه ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والحسن.
(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ومن أشركوا بالله وعملوا السيئات يكبّون على وجوههم فى جهنم ويطرحون فيها.
ونحو الآية قوله: «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ».
ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ فقال:
(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟) أي ويقال لهم: هل هذا إلا جزاء ما كنتم تعملون فى الدنيا، مما يسخط ربكم ويغضبه منكم من شرك به ومعصية له.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)تفسير المفردات
البلد: هى مكة، أتلو القرآن: أي أواظب على تلاوته، من المنذرين: أي المخوفين قومهم من عذاب الله.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أحوال المبدإ والمعاد، وفصّل أحوال القيامة- أمر رسوله أن يقول لهؤلاء المشركين هذه المقالة تنبيها لهم إلى أنه قد تمّ أمر الدعوة بما لا مزيد عليه، ولم يبق له بعد ذلك شأن سوى الاشتغال بعبادة الله والاستغراق فى مراقبته، غير مبال بهم ضلّوا أو رشدوا، صلحوا أو فسدوا، إثارة لهممهم بألطف وجه إلى تدارك أحوالهم وتحصيل ما ينفعهم، والتدبر فيما يقرع أسماعهم من باهر الآيات التي تكفى فى إرشادهم، وتشفى عللهم وأمراضهم.
الإيضاح
(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) أي قل لهم أيها الرسول إنما أمرت أن أعبد رب مكة التي حرم على خلقه أن يسفكوا فيها دما حراما أو يظلموا فيها أحدا. وخصها بالذكر لأنى أول بيت للعبادة كان فيها- دون الأوثان التي تعبدونها كما قال: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ».
(وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وملكا وتصرفا دون أن يشركه فى ذلك أحد.
(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرنى ربى أن أسلم وجهى له، فأكون من الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المخبتين له فى الطاعة.
ونحو الآية قوله: «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) آناء الليل وأطراف النهار، لتنكشف لى أسراره المخزونة فى تضاعيفه، وأستطلع أدلة الكون المتفرّقة فى آية، فأعرف حقائق الحياة، وسر الوجود، ويفاض علىّ من فيوضاته الإلهية، وأسراره القدسية ما شاء الله أن يفيض.
وقد روى «أنه ﷺ قام ليلة يصلى فقرأ قوله تعالى «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» فما زال يكررها ويظهر له من أسرارها ما يظهر، ويتجلّى له من مقاصدها ما تسمو به نفسه إلى الملإ الأعلى حتى طلع الفجر».
ونحو الآية: «ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ».
(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن اتبعنى واهتدى بهداي وآمن بي وبما جئت به فقد سلك سبيل الرشاد، وأمن نقمة ربه فى الدنيا وعذابه فى الآخرة.
(وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي ومن جار عن قصد السبيل بتكذيبه بي وبما جئت به من عند الله، فقل إنما أنا من المنذرين فحسب، وقد خرجت من عهدة الإنذار، وليس علىّ من وبال ضلالكم من شىء، فإن قبلتم وانتهيتم عما يكرهه ربكم من الشرك، فحظوظ أنفسكم تصيبون، وإن كذبتم وأعرضتم عما أدعوكم إليه فعلى أنفسكم تجنون، وقد بلّغتكم ما أمرت بإبلاغه إياكم.
ونحو الآية قوله: «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» وقوله: «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ».
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي وقل الحمد لله على ما أفاض علىّ من نعمائه التي من أجلّها نعمة النبوة المستتبعة لضروب من النعم الدينية والدنيوية، ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها، بالآيات البينة، والبراهين الساطعة، ووفقني لاتباع الحق الذي أنتم عنه عمون (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) أي سيريكم ربكم آيات عذابه وسخطه فتعرفون بها حقيقة نصحى، ويستبين لكم صدق ما دعوتكم إليه من الرشاد حين لا تجدى المعرفة، ولا تفيد التبصرة شيئا.
ونحو الآية قوله: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».
ثم ذيل هذا بتقرير ما قبله من الوعد والوعيد بقوله:
(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي وما ربك بغافل عما يعمله هؤلاء المشركون ولكنه مؤخر عذابهم إلى أجل هم بالغوه، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فلا يحزنك تكذيبهم فإنى لهم بالمرصاد، وأيقن بأنى ناصرك وخاذل عدوك، ومذيقهم الذلّ والهوان.
روى أن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفى الرياح من أثر قدمى ابن آدم وكان الإمام أحمد كثيرا ما ينشد هذين البيتين:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل | خلوت ولكن قل علىّ رقيب |
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة | ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب |
(١) وصف القرآن الكريم بأنه هدى ورحمة للمؤمنين.
(٢) قصص موسى عليه السلام.
(٣) قصص سليمان عليه السلام.
(٤) قصص ثمود وقصص قوم لوط.
(٥) النعي على المشركين فى عبادة الأصنام والأوثان، وإقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى.
(٦) إنكار المشركين للبعث والنشور وقولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين.
(٧) علم الله بما فى الصدور.
(٨) حكم القرآن على ما اختلف فيه بنو إسرائيل.
(٩) قطع الأطماع فى إيمان المشركين وتشبيههم بالعمى الصم (١٠) أشراط الساعة كخروج الدابة من الأرض، وحشر فوج من كل أمة، وتسيير الجبال.
(١١) الجزاء على العمل خيرا كان أو شرا.
(١٢) أمر الرسول ﷺ أن يقول للمشركين: إنه إنما أمر بعبادة رب مكة، لا بعبادة الأصنام والأوثان.
(١٣) أمره بحمد الله والثناء عليه وطلبه تلاوة القرآن.
(١٤) إنه سبحانه سيرى المشركين آياته فيعرفونها حق المعرفة حين لا يفيدهم ذلك شيئا.