تفسير سورة سورة النمل من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
﴿طس﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ بالقيامة، والحساب، والجزاء ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ الفاسدة؛ ليزدادوا كفراً على كفرهم، وطغياناً على طغيانهم (انظر آية ١٢٢ من سورة الأنعام) ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يترددون في ضلالهم
﴿لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ أسوؤه
﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ﴾ لتتلقاه وتتلقنه ﴿مِن لَّدُنْ﴾ من عند ﴿حَكِيمٍ﴾ يحكم قوله وفعله وأمره ﴿عَلِيمٍ﴾ بمصالح الناس وحاجاتهم
﴿إِذْ قَالَ مُوسَى﴾ أي واذكر قصة موسى؛ إذ قال ﴿لأَهْلِهِ﴾ امرأته ﴿إِنِّي آنَسْتُ﴾ أبصرت من بعيد ﴿سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ لأن النار الموقدة: دليل على وجود موقد لها؛ تستقى منه الأخبار، ويهتدى به إلى الطريق، ويستطعم ﴿بِشِهَابٍ﴾ شعلة مضيئة ﴿قَبَسٍ﴾ القبس: كل ما يقتبس؛ من جمر، وجذوة، ونحوهما ﴿لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلِونَ﴾ تستدفئون من البرد
﴿فَلَمَّا جَآءَهَا﴾ أي جاء موسى النار التي توهمها ﴿نُودِيَ﴾ من حيث لا يعلم من أين يأتيه النداء، ولا يعلم صفته، ولا كنهه: نداء ولا صوت ﴿أَنْ﴾ بأن ﴿بُورِكَ﴾ بارك الله ﴿مَن فِي النَّارِ﴾ من الملائكة
-[٤٥٨]- ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ موسى. وهي تحية من الله تعالى لكليمه عليه الصلاة والسلام ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ تنزه وتقدس (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) ونودي
﴿يمُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ﴾ القوي، الغالب، الذي لا يغلب ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي يضع الأمور في مواضعها، ويعد لكل شيء عدته
﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾ تتحرك ﴿كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ حية ﴿وَلَّى مُدْبِراً﴾ أسرع راجعاً ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ لم يرجع؛ فناداه ربه تعالى ﴿يمُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ وكيف يخافون في موطن الأمن والسلامة؟
﴿إَلاَّ مَن ظَلَمَ﴾ نفسه منهم بالزلل ﴿ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ﴾ كآدم، ويونس، وداود، وسليمان؛ عليهم السلام فإنهم يخافون؛ رغم رضائي عنهم، ومغفرتي لهم، وتوبتي عليهم. وقيل: «إلا من ظلم» من غير الأنبياء؛ لأن الأنبياء لا يظلمون
﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ الجيب: فتحة الثوب مما يلي العنق ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ من غير مرض: كبرص ونحوه
﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ أي ظاهرة بينة
﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ﴾ أي أنكروها بألسنتهم؛ لشدة كفرهم وعنادهم، واستيقنتها قلوبهم؛ لما رأوه من صحتها، وصدقها، ووضوحها (انظر آية ٢٠٠ من سورة الشعراء)
﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ في النبوة والعلم؛ دون سائر أبنائه ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ المراد به كثرة ما أوتي من الملك، والعلم، والنبوة
﴿وَحُشِرَ﴾ جمع ﴿يُوزَعُونَ﴾ يحبس أولهم على آخرهم؛ ليكونوا مجتمعين طوع أمره وإرادته
﴿وَادِي النَّمْلِ﴾ هو واد كثير النمل ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ قيل: إنها ملكتهم. هذا وقد أثبت العلم الحديث: أن للنمل ملكة يأتمر بأمرها، وينتهي بنهيها (انظر آية ٣٨ من سورة الأنعام) ﴿لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ لئلا يحطمنكم. والحطم: الكسر. ومن هنا نعلم أن القوي قد يهلك الضعيف من حيث لا يشعر، وأن الضعيف يجب أن يعد عدته، ويأخذ أهبته؛ لتوقي ضرر القوي
﴿وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ ألهمني
﴿أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ﴾ ليكون عبرة لغيره؛ ممن يستكبر عن أمري. هذا وقد رسمت هذه الكلمة في المصحف الإمام هكذا «لا أذبحنه» بصيغة النفي. وساق علماء الرسم في سبيل إثبات صحة هذا الرسم التعلات، وبذلوا ما وسعهم من الجهد ليحولوا دون الحقيقة المجردة: وهي لا تعدو خطأ كاتب، أو زلة مملٍ. وفي موضوع هجاء المصحف العثماني ورسمه، وعدم وجوب التقيد به، مزيد بيان؛ فانظره إن شئت في كتابنا «الفرقان» ﴿بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ بحجة ظاهرة
﴿فَمَكَثَ﴾ سليمان وقتاً ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ فجاء الهدهد ﴿فَقَالَ﴾ حين سأله سليمان عن سبب تخلفه عن مجلسه ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ﴾ وهي قبيلة باليمن، أو هو اسم مدينة بها؛ تعرف بمأرب
﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ هي بلقيس بنت شراحيل ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ تحتاجه الملوك: من الجند، والميرة، والذخيرة، والعظمة، والقوة ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ سرير كبير من ذهب، مرصع بالجواهر واليواقيت؛ كانت تجلس عليه للحكم
﴿الْخَبْءَ﴾ المخبوء، المستتر عن الأنظار ﴿فِي السَّمَاواتِ﴾ من الماء في ﴿الأَرْضِ﴾ من النبات والكنوز} وفي هذه القصة: تعليم لنا من الله تعالى باستخدام الطير في حمل الرسائل، ولذا وفق الناس لاختيار الحمام الزاجل
﴿ثُمَّ تَوَلَّ﴾ انصرف ﴿عَنْهُمْ﴾ وكن قريباً منهم؛ بحيث تراهم ولا يرونك ﴿فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ يجيبون على كتابي. فلما قرأت بلقيس خطاب سليمان: جمعت وجوه قومها، وأشرافهم، وقادتهم؛ و
﴿قَالَتْ﴾ لهم ﴿يأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ﴾ يؤخذ من هذا: أن بلقيس كانت تحكم قومها حكماً «ديموقراطياً» وأنه كان لها مجلس للشورى «برلمان» والقرآن لم يورد هذه القصة عبثاً؛ بل ليرشدنا إلى الطرق الدستورية، والنظم الشورية
﴿أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ﴾ لا تتكبروا عن طاعتي ﴿وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ مؤمنين منقادين
﴿مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ أي ما كنت ممضية أمراً حتى تحضرون. لم تأخذها العزة بالإثم، ولم تغرها سطوة سلطانها، وقوة جيشها، وإخلاص شعبها؛ لم يمنعها كل ذلك من استشارة رؤوس دولتها، وكبراء مملكتها، ومناقشتهم؛ وقد تكون بلقيس أول امرأة في التاريخ بمثل هذا الخلق، وبمثل هذا التدبير، وهذه الحكمة
﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً﴾ فاتحين غازين ﴿أَفْسَدُوهَا﴾ بالقسوة والبطش ﴿وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً﴾ لقد نظرت بلقيس بثاقب رأيها، وعلمت أن الملوك الأقوياء إذا احتلوا بلداً عنوة: أخذوا خيراتها، وأذلوا أهلها واستعبدوهم
-[٤٦١]- ﴿وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ﴾
دائماً
﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾ امتحاناً لهم، ودرءاً لصولتهم؛ فعسى أن يكونوا طلاب مال؛ فتشغلهم هديتنا عن إيذائنا ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ من أخبارهم
﴿فَلَمَّا جَآءَ﴾ الرسل ﴿سُلَيْمَانُ﴾ ورأى ما يحملون من هدايا، وأموال، وتحف، ونفائس؛ تفوق العد والحصر ﴿قَالَ﴾ لرسل بلقيس ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِي اللَّهُ﴾ من الإسلام، والملك، والعلم، والنبوة ﴿خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ﴾ من المال وحده ﴿بَلْ أَنتُمْ﴾ لا أنا ﴿بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ والتفت سليمان إلى رئيس وفد بلقيس قائلاً له
﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾ بهديتهم ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ أي لا طاقة لهم على مقابلتهم ومقاتلتهم ﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ﴾ أي من بلادهم ﴿أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ الصغار: شدة الذل.
ثم التفت سليمان إلى خاصته ووزرائه؛ من الإنس والجن
﴿قَالَ يأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا﴾ الذي رآه الهدهد، ووصفه لي: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿مُسْلِمِينَ﴾ طائعين منقادين
﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ﴾ العفريت: هو القوي، الواسع الحيلة، النافذ الأمر، الشديد الدهاء. و «الجن» المستتر. من جنه الليل: إذا ستره. وجن الليل: ظلمته ﴿قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾ أي من مجلسك هذا
﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ﴾ قيل: إنه ملك سخره الله تعالى لسليمان. وقيل: إنه جبريل عليه السلام. وقيل: هو وزيره آصفبن برخيا؛ وقد كان يعلم اسم الله الأعظم؛ الذي إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى ﴿قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ أي قبل أن تغمض عينك؛ والمراد به: المبالغة في قرب المدة ﴿لِيَبْلُوَنِي﴾ ليختبرني ﴿أَأَشْكُرُ﴾ على ما أنعم به علي ﴿أَمْ أَكْفُرُ﴾ فأنسى ذلك، وأنسبه لنفسي ولجندي ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ﴾ عن شكر الشاكرين، وعبادة العابدين ﴿كَرِيمٌ﴾ في عطائه؛ يتفضل على من يشكر، ومن يكفر
﴿قَالَ نَكِّرُواْ﴾ أي غيروا
﴿فَلَمَّا جَآءَتْ﴾ بلقيس: أروها عرشها المستقر عند سليمان؛ و ﴿قِيلَ﴾ لها ﴿أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ لم تجزم بأنه هو: لغرابة وجوده في ذلك الزمان والمكان، ولاستحالة حدوث ذلك عقلاً. وذهب بعض المحدثين إلى أنه لم يكن ثمة سوى رسم العرش - لا العرش نفسه - واستدلوا على ذلك: بقول سليمان لها: «أهكذا عرشك» وقولها «كأنه هو» وهذا الرأي يأباه سياق النظم الكريم؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ﴾ وإلا فأين المعجزة الخارقة وأين الآية الظاهرة؟ ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ﴾ هو من قول سليمان؛ أي أوتينا العلم بأن الله تعالى على كل شيء قدير
﴿مِن قَبْلِهَا﴾ أي من قبل هذه المرة، أو «وأوتينا العلم» بمجيئها طائعة وإسلامها «من قبل» مجيئها ﴿وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ منقادين لأمرالله، طائعين له
﴿وَصَدَّهَا﴾ منعها عن عبادة الله تعالى ﴿مَا كَانَت﴾ أي الذي كانت ﴿تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ ويجوز أن يكون المعنى «وصدها» سليمان «ما كانت تعبد» عما كانت تعبد ﴿إِنَّهَا﴾ أي لأنها ﴿كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ يعبدون الشمس والقمر
﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ وهو كل بناء عال ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ﴾ أي رأت الصرح؛ وقد صنعت أرضه من زجاج شفاف ﴿حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ ماء عظيماً ﴿قَالَ﴾ سليمان ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ﴾ مملس ﴿مِّن قَوارِيرَ﴾ زجاج. فلما رأت هذه العظمة، وهذه الأبهة؛ التي أضفاهما الله تعالى على سليمان، ورأت عرشها؛ وقد جيء به إليه: علمت أن ذلك لا يتوفر إلا لمن تسنده قوى خارقة من السماء؛ و ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ بالشرك الذي كنت فيه، وأقمت عليه ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قيل: إن سليمان تزوجها بعد إسلامها. وقيل: زوجها لذي تبع ملك همدان؛ ولم يثبت صحة شيء من ذلك
﴿قَالَ﴾ لهم نبيهم صالح ﴿يقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ تطلبون العذاب ﴿قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ قبل طلب المغفرة. أو ﴿لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ بالمعصية قبل الطاعة ﴿لَوْلاَ﴾ هلا ﴿تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ﴾ من ذنوبكم الماضية
﴿اطَّيَّرْنَا﴾ تشاءمنا ﴿بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ من المؤمنين ﴿قَالَ طَائِرُكُمْ﴾ شؤمكم ﴿عِندَ اللَّهِ﴾ ينزله بكم؛ بسبب كفركم وتكذيبكم (انظر آية ١٣صلى الله عليه وسلّم من سورة الأعراف)
﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ تختبرون بالخير والشر، أو «تفتنون» تعذبون بسبب إصراركم على الكفر والعصيان
﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ الرهط: ما دون العشرة من الرجال
﴿قَالُواْ﴾ لبعضهم ﴿تَقَاسَمُواْ﴾ أي احلفوا ﴿بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ لنقتلنه بياتاً؛ أي ليلاً
-[٤٦٣]- ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ﴾ أي لولي دمه ﴿مَا شَهِدْنَا﴾ ما رأينا
﴿وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً﴾ أي دبروا أمرهم بإهلاك صالح وأهله، ودبرنا أمراً بإهلاكهم
﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ أهلكناهم
﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً﴾ أي ساقطة، أو خالية ﴿بِمَا ظَلَمُواْ﴾ أي بسبب ظلمهم وكفرهم وذلك بمعنى قولهم: إن الظلم يخرب الديار الإهلاك والتدمير ﴿لآيَةً﴾ عظة وعبرة
﴿وَلُوطاً﴾ أي واذكر لوطاً ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ اللواط ﴿وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ أي تبصرون ما حل بالأمم السابقة من العذاب؛ حين عصوا وكفروا بربهم. أو المراد: يبصر بعضكم بعضاً؛ عند إتيان هذه الفاحشة الذميمة وذلك إمعاناً منهم في الفسوق، وانهماكاً في المعصية
﴿إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ كان قولهم ذلك استهزاء؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ أو أرادوا «يتطهرون» مما نعمل ﴿قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ أي قدرنا أنها من الباقين في العذاب؛ لإصرارها على الكفر، وتكذيب زوجها مع المكذبين
﴿ءَآللَّهُ﴾ استفهام؛ أي أألله ﴿خَيْرٌ﴾ عبادة، وخير لمن يعبده ﴿أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ به من الأصنام
﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾ وما فيها من كواكب وأفلاك، ومن فيها من مخلوقات وأملاك
-[٤٦٤]- خلق ﴿الأَرْضِ﴾ وما فيها من بحار وأنهار، وزروع وأشجار، وجبال ورمال، وإنسان وحيوان ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ﴾ بساتين ﴿ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ حسن ورونق ﴿مَّا كَانَ لَكُمْ﴾ ما كان في استطاعتكم فما بالكم بثمرها؟ والمعنى: أذلك الإله - الموصوف بكل هذه الصفات - خير أم ما تعبدون من دونه؟ ويلكم {مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ *
أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يشركون ب الله تعالى غيره ممن خلق، ويجعلونه له عدلاً. والعدل: المثل والنظير ﴿قَرَاراً﴾ للاستقرار عليها؛ ولا تميد بأهلها ﴿خِلاَلَهَآ﴾ فيما بينها ﴿رَوَاسِيَ﴾ جبالاً ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً﴾ بين العذب والملح: لا يختلط أحدهما بالآخر. والحجز: المنع ﴿وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ الضر، أو الجور ﴿وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأَرْضِ﴾ أي سكانها؛ يخلف بعضكم بعضاً فيها ﴿بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ أي للبشارة قدام المطر. وسمي المطر رحمة: لأنه سبب في حياة سائر الحيوان والنبات
﴿أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ من غير مثال سبق ﴿ثُمَّ يُعيدُهُ﴾ يوم القيامة؛ بلا تعب ولا نصب ﴿وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ﴾ بالمطر من ﴿الأَرْضِ﴾ بالنبات ﴿مَّعَ اللهِ بَلْ﴾ فإن زعموا - بعد أن سقت لهم هذه الآيات البينات - أن هناك إلهاً مع الله ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ حجتكم
﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ أي لا يعلم أحد ممن فيهما الغيب الذي انفرد الله تعالى بعلمه إلا هو. قيل: نزلت حين سأل المشركون الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عن وقت القيامة
-[٤٦٥]- ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ متى يبعثون من قبورهم. وقيل: نزلت في سائر الغيوب. ويؤخذ من هذه الآية أن في السموات سكاناً عقلاء؛ لأن «من» لمن يعقل، و «ما» لما لا يعقل. والآية دليل قاطع على نفي علم الغيب عن سائر المخلوقات؛ حتى سكان السموات ومن عجب أن نرى من بيننا من يدعي علم الماضي والحاضر والمستقبل والأعجب أن نرى من يصدقه في هذا الافتراء والزور والبهتان ومن ذهب إلى منجم أو عراف: فقد جحد بهذه الآية؛ بل كذب بالرسالة قال: «من ذهب إلى عراف ذهب ثلثا دينه» وفي حديث آخر «فقد كفر بما أنزل على محمد» وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: «من قال إن محمداً يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية؛ والله تعالى يقول: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾.
هذا وقد اعتاد كثير من الناس التردد على بعض العرافين وأرباب التنويم والتنجيم؛ وكثير من هؤلاء يزعم علم الغيب ومعرفته؛ ويقدم لك دليلاً على صدقه: إنباءك بما في يدك - مما يقع عليه بصرك، ويدركه علمك - وهذا ليس من الغيب في شيء؛ بل يدخل تحت قراءة الأفكار. وقد جيء للحجاج بأحد العرافين؛ فأمسك الحجاج في يده حصيات - بعد أن علم عددها - وقال للعراف: كم في يدي؟ فذكره العراف ولم يخطىء. فأمسك الحجاج بحصيات أخر - لم يعدهن - وسأله عن عددها؛ فأخطأ. فسأله عن السبب؟ فقال: إن الأولى قد أحصيتها أنت وعلمتها فخرجت عن حد الغيب، والأخرى لم تحصها فكانت غيباً و ﴿لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾
﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ﴾ أي تدارك وتكامل علمهم بها؛ لوصول الرسل والنذر إليهم، وتحقق الموعود به. وقيل: المعنى: بل جهلوا علمها، ولا علم عندهم من أمرها ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا﴾ أي من وقوعها ﴿بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾ عمي قلب وبصيرة
﴿أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ﴾ من قبورنا أحياء
﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ﴾ على لسانك وعد ﴿آبَآؤُنَا﴾ على لسان من سبقك من الرسل ﴿إِنْ هَذَآ﴾ ما هذا الذي تقوله من أمر البعث والحساب والجزاء ﴿إِلاَّ أَسَاطِيرُ﴾ أكاذيب
﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ أي على عدم إيمانهم ﴿وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ ويكيدون لك؛ فسننصرك عليهم
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ بالعذاب، أو بالقيامة ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ قرب منكم
﴿بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ وقد جاءهم بعض العذاب الموعود يوم بدر، وباقيه سيأتيهم في قبورهم، ويوم القيامة عند بعثهم
﴿وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ﴾ تغيب عن علمنا، وعن تصورنا ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ مكتوب؛ بمعنى أنه مقضي بها، ومعلوم لدى ربك أمرها
﴿إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ﴾ يوم القيامة
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ وحده؛ ولا تخش أحداً ﴿إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ الدين الواضح المنجي
﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ﴾ لما كانوا لا يعون ما يستمعون: شبهوا بالموتى؛ لأن حالهم كحالهم، وشبهوا أيضاً بالصم والعمي؛ لأنهم لا ينتفعون بما يسمعون من الحق، ولا بما يرون من الآيات
﴿وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ﴾ ما تسمع سماع قبول وتفهم ﴿إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ القرآن ﴿فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾ مخلصون؛ لأنهم فتحوا أسماعهم لسماع القرآن، وقلوبهم لفهمه
﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم﴾ أي وقع الغضب، وحق العذاب: وقتئذٍ لا تقبل توبتهم، ولا يفيد استغفارهم. وقد أجمع أهل العلم على أن وقوع القول - المعني في هذه الآية - لا يكون إلا عند انعدام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ﴿أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ﴾ كلاماً مفهوماً؛ وحينئذٍ لا يقبل استغفار مستغفر، ولا إيمان طالب. قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» وقيل «تكلمهم» أي تجرحهم؛ تؤيده قراءة ابن عباس، والحسن، وغيرهما «تكلمهم» من الكلم؛ وهو الجرح.
وقد اختلفوا في هيئة الدابة، وصفتها، ووقت طلوعها، ومن أين تطلع؛ وتكلموا كلاماً أغرب من الخيال، وأشبه بالمحال؛ ولا حاجة بنا إلى إيراده لأنه بالأساطير أشبه. وقد قيل: إنها فصيل ناقة صالح. وقيل: إنها دابة لها لحية طويلة. وقيل: إنها إنسان كامل عاقل؛ يكلم الناس بالقول الصحيح، والكلام الفصيح، والمنطق البليغ، والحجة القاطعة. وتطلع الدابة - كيفما كان شكلها وصفتها - قبيل القيامة. وقيل: إنها تخرج من مكة؛ فلا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب: فتمسح على جبين المؤمن؛ فيصير وضيئاً منيراً، وتخطم الكافر والمنافق؛ فيكون وجهه كالحاً مسوداً وسئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هل «تكلمهم» أو «تكلمهم»؟ فقال: هي والله تكلمهم، وتكلمهم: تكلم المؤمن، وتكلم الكافر والفاجر؛ وتقول لهم: ﴿أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ﴾ وعلى قراءة الفتح يكون المعنى «بأن الناس» وبها قرأ ابن مسعود
﴿فَوْجاً﴾ جماعة ﴿يُوزَعُونَ﴾ يحبس أولهم على آخرهم؛ حتى يجتمعوا؛ ثم يساقون إلى موضع الحساب
﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ﴾ حق العذاب
﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ من السكون. وهو الهدوء، والراحة، والطمأنينة ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِراً﴾ مضيئاً؛ يبصر فيه الإنسان كل شيء، ويتقن كل مصنوع
-[٤٦٧]- ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ﴾ لعظات وعبر
﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ﴾ وهو القرن: ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، بأمر ربه تعالى ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ﴾ ألا يفزعه. وهم الشهداء: لأنهم ﴿أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ والفزع إنما يصل إلى من حيي، والأنبياء: لأن لهم الشهادة مع النبوة. وقيل: هم الملائكة. ويدخل من جملة هؤلاء: المؤمنون الذين عناهم الله تعالى بقوله: ﴿وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ صاغرين منقادين
﴿جَامِدَةً﴾ واقفة لا تتحرك ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فانظر - يا رعاك الله - إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها: لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر ولو تأملت ما في بطنها من مجاري أكلها، ومسالك أمعائها، وما في رأسها من أعين وآذان، وأداة ذوق وشم ولمس. لو تأملت ذلك لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً وهي مع هذا الضعف والصغر: تفكر في رزقها، وتنقل الحبة إلى جحرها، وتجمع في رخائها لشدتها، وفي حرها لبردها
وانظر أيضاً إلى النحلة في دقة خلقتها، وجمال صنعتها، وعظم منفعتها: تأكل من ثمار الأشجار، وورق النبات والأزهار، وتخرج لنا رحيقاً مختوماً بخاتم الكمال، من صنع ذي الجلال ومنه نتخذ غذاء لذيذاً، وشراباً صافياً، ودواء شافياً. كل ذلك بتقدير العزيز الرحيم، وتدبير الحكيم العليم ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾
﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ﴾ من الثواب الجزيل، والأجر الجميل ﴿خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ وبذلك يسلم المؤمنون المحسنون من أهوال القيامة، وينجون من الفزع الأكبر، ويكونون من المستثنين، بقول أصدق القائلين ﴿فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ﴾
﴿هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ مكة شرفها الله تعالى ﴿حَرَّمَهَا﴾ جعلها حرماً آمناً
﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ في أنفسكم، وفي غيركم، و
«في الآفاق» ﴿فَتَعْرِفُونَهَا﴾ تعلمونها علم اليقين
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾.
467
سورة القصص
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿طسم﴾
468