ﰡ
الطلاق حل العصمة وهو مكروه على الجملة. فإذا وقع جاز فيكون معنى الآية إذا وقعتم هذا الشيء المكروه فالحكم فيه كذا. ويؤكد ذلك من الحديث ما رواه أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله تعالى لا يحب الذواقين ولا الذواقات " ١ وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق " ٢. وفي الحديث أيضا : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " ٣. وقال ابن المنذر : أباح الله تعالى الطلاق بهذه الآية وبقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر : " فإن شاء أمسك وإن شاء طلق " ٤. وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها فجعل الطلاق على ظاهر لفظه من قبيل المباح. والصحيح أنه من قبيل المكروه وأن المعنى في الآية ما قدمته.
- قوله تعالى :﴿ لعدتهن ﴾ :
معناه لاستقبال عدتهن وقوامها وتقريبها عليهن. وقد قرأ جماعة من الصحابة هذه الآية :﴿ فطلقوهن في قبل عدتهن ﴾ وقرأ بعضهم :﴿ لقبل عدتهن ﴾. وروى ابن عمر القراءتين عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ ابن مسعود :﴿ لقبل طهرهن ﴾. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " طلقوا المرأة في قبل طهرها " ٥. والمعنى في ذلك كله أن لا يطلقها وهي حائض فهو منهي عنه بالآية لأنه إذا فعل ذلك لم يقع طلاقه في الحال التي أمر الله تعالى بها وهو استقبال العدة. فالعدة التي أمر الله تعالى بالطلاق فيها هي الطهر. إلا أنه يستحب أن يكون طهرا لم يجامع فيه لئلا يلبس على المرأة العدة فلا تدري بم تعتد هل بالوضع أو بالقراء ؟ وقيل ليكون هو على يقين من نفي حمل إن أتت به فأراد أن ينفيه. واختلف في النهي عن الطلاق في الحيض هل هو لعلة أم لا ؟ فقيل لعلة لأن ذلك بطول العدة عليها. وقيل بل ذلك لغير علة وإن علل بالتطويل لا ينبغي أن يجوز إذا رضيت به المرأة. وقد حكي عن الشافعي أن ذلك يجوز إذا رضيت به المرأة ٦ طردا للتعليل المذكور. فإذا ثبت أن طلاق الحائض منهي عنه بالآية لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وأن الطلاق ينبغي أن يوقع إذا وقع في طهر. فإن أوقع أحد الطلاق في الحيض فهو لازم يعتد به خلافا لابن علية ٧ وبعض أهل الظاهر في قولهم إنه لا ينفذ وقع على خلاف ما أمر الله تعالى به. والصحيح أنه يعتد به للأدلة القوية في ذلك وإذا كان كذلك ففي المذهب أنه يجبر على مراجعتها حتى يطلقها على الصفة التي ذكر الله تعالى، قال :﴿ فطلقوهن لعدتهن ﴾، فكأنه ألزم من طلق أن يطلق في الطهر، فإن طلق في الحيض لزم أن يجبر على الرجعة حتى يوقعه على الوجه اللازم. وعلى هذا من الإيجاب يحمل أمره عليه الصلاة والسلام بالمراجعة. وذهب الشافعي والأوزاعي والكوفيون إلى أنه لا يجبر على الرجعة ومن حجتهم أن الله تعالى إنما أمر أن تطلق المرأة في الطهر فغاية ما في هذا أن يكون نهيا عن ضده. فيكون قد نهى عن إيقاع الطلاق في الحيض، وليس في الآية حكم لمن أوقعه في المحيض هل يجبر أم لا ؟ وأما أمره عليه الصلاة والسلام بالمراجعة فإنه لا يحمل أيضا على الإيجاب بل يحمل ذلك على الندب، وإذا كان هكذا فلا يجبر على الرجعة. والقول الأول أصح في طريق الاعتبار ولذا أجبر على الرجعة، ففي الحديث أن ابن عمر قال : طلقت امرأتي وهي حائض، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر : " مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء " ٨. فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء. وروى بعضهم هذا الحديث : ليراجعها فإذا طهرت طلقها إن شاء. وقال بكل واحد من الحديثين طائفة من العلماء. ووجه ما جاء في الحديث الأول أن الطهر الأول الوطء فيه مقصود فلا يصح فيه الطلاق. وقيل إنما منع من الطلاق فيه عقوبة لا لعلة. واختلف في الحامل متى تطلق ؟ ففي المذهب أنه يطلقها متى شاء لأنه متى طلقها فهي تستقبل عدتها لا تنتظر طهرا كما تصنع التي تحيض. فطلاقها موافق لما أمر الله تعالى به، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، وخالف الأوزاعي فذهب إلى أنه يطلقها للأهلة. وكره الحسن طلاقها وهي حامل. وأما إن حاضت الحامل على حملها فهو يجوز للزوج أن يطلقها في الحيض أم لا ؟ ففيه قولان للمتأخرين. ووجه الجواز أن عدة الحامل وضع الحمل وارتفعت العلة لأنه متى طلقها فذلك في قبل العدة، وإذا قلنا إنما يطلق في الطهر فحكمه أن يطلق واحدة في طهر لم يمس فيه ويأتي على قول من يرى الإقراء الحيض أن يطلق واحدة فهي في طهر ولا يشترطون مس فيه أو لم يمس. وأما غير هذا من الطلاق مثل أن يطلق في كل طهر طلقة أن يطلق ثلاثا في طهر واحد فليس بمراد في الآية. وعلى هذا جمهور أهل المذهب لأنه عندهم مخالف للسنة. لكن إذا وقع لزم إذ ليس في الآية دليل قطعي على تحريمه. وعند أشهب أن من طلاق السنة أيضا أن يطلق في كل طهر طلقة، وهو قول الكوفيين وجماعة سواهم. فيكون هذا الطلاق أيضا مما أباحه الله تعالى في الآية على هذا القول. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : ليس في عدة ٩ الطلاق بدعة ولا سنة وإنما السنة في وقت الطلاق بطلاق المرأة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا في طهر لم يصبها ١٠ فيه طلاق سنة واحتجوا بقوله تعالى :﴿ فطلقوهن لعدتهن ﴾ ولم يخص واحدة من اثنتين ولا ثلاثا. وكذلك أمر صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يطلق في الموضع ١١ الذي يجوز له ولم يخص واحدة من غيرها. ورد بعضهم على هذا القول بأنه لو كان طلاق ثلاث في كلمة من السنة لبطلت فائدة قوله تعالى :﴿ لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ﴾. قال أهل التفسير : يعني به الرجعة في العدة. قالوا : فأي أمر ١٢ يحدث بعد الثلاث. فدل أن المراد بالطلاق في الآية الطلاق الرجعي لأن الرجعة لا تسوغ في البائن بالثلاث ١٣.
وقوله تعالى :﴿ وأحصوا العدة ﴾ :
أي عدوها بما يلحق بها من الأحكام في الميراث والسكنى والرجعة ونحو ذلك.
قوله تعالى :﴿ لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن ﴾ :
أعلم الله تعالى بهذه الآية أنهن يلزمهن السكنى في بيوتهن التي طلقن فيها فنهى عن إخراجهن وخروجهن. فعلى هذا تلزم بيتها ولا تخرج منه إلا أن تخرج نهارا في حاجة لها. وهو لازم للمطلقة الرجعية بإجماع من العلماء. وكذلك لا خلاف في وجوب السكنى والنفقة لها. وهذا النهي لعلة وهي حفظ الأنساب والمخاطبة لقوله تعالى :﴿ لا تخرجوهن ﴾ للأزواج. ففي هذا دليل أن البيت إنما هو للزوج ملكا كان أو كراء، فيلزمه أن يتركها فيه حتى تنقضي عدتها ١٤ وإن كان لها فعليه لها الكراء ١٥ وإن كانت أمتعته مدة الزوجية ففي لزوم خروج والعدة له قولان في المذهب، الأظهر منهما اللزوم لأن ظاهر الآية على ما قدمنا أن سكناها في العدة إنما هو على الزوج. وإذا كان كذلك فسواء تقدم امتناع منها له أو لم يتقدم ولا تكون العدة داخلة في الإمتاع بمدة الزوجية لأن الزوجية قد انفصلت ١٦ بالطلاق.
وقوله تعالى :﴿ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾ :
اختلف في هذه الفاحشة التي أباحت خروج المعتدة ما هو ؟ فقال الحسن ومجاهد وقتادة هي الزنا، فتخرج بإقامة الحد، وهو قول الليث والشعبي وغيرهما. وقال ابن عباس هي البذاء على الأحماء فتخرج ويسقط حقها من السكنى ويلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظا للنسب ١٧. وقال ابن عمر والسدي هي الخروج عن البيت خروج انتقال، فمتى فعلت ذلك فقد سقط حقها في السكنى، وإلى هذا ذهب مالك في الناشز في العدة. وقال قتادة أيضا المعنى إلا أن يأتين بفاحشة من نشوز عن الخروج فيطلق بسبب ذلك فلا يكون عليه سكنى. وقال ابن عباس أيضا : الفاحشة جميع المعاصي، فمتى سرقت أو قذفت أو زنت أو أربت في تجارة وغير ذلك فقد سقط حقها في السكنى، وإلى هذا القول مال الطبري رحمه الله تعالى ١٨ وقال بعض الناس متى وردت الفاحشة معرفة في القرآن فهي الزنا ومتى جاءت منكرة فهي في مطلق المعاصي، فمرة يراد بها عشرة الزوج ومرة غير ذلك.
وقوله تعالى :﴿ لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ﴾ :
اختلف في تأويله. فذهب الأكثر إلى أن المراد به الرجعة، أي احصوا العدة وامتثلوا ما أمرتم به من طلاق السنة تقدروا على التخلص إن ندمتم فإنكم لا تدرون لعلكم تندمون فتريدون الرجعة. وذهب إلى أن المعنى : لعل الله يحدث أمرا من النسخ. وهو بعيد. وهذه الآية المتقدمة في الآية من أن لا يخرجن إنما هي في المطلقة واحدة واثنتين بدليل قوله تعالى :﴿ لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ﴾ على القول بأن المراد به الرجعة. وقال بعضهم هي لمن لم يطلق وللمطلقة أقل من الثلاث. وقال بعضهم : هي لكل مطلقة ثلاثا فما دونها وهذا يأتي على قول الشافعي المتقدم في الثلاث. وعلى هذا يأتي الاختلاف في المطلقة الطلاق البائن هل لها سكنى أم لا ؟ فعلى قول الشافعي يكون لها السكنى لأنه ظاهر الآية على قوله، وسيأتي الكلام على ذلك. وهل يلزمها المقام بالمسكن وترك الخروج أم لا ؟ وسيأتي الكلام على ذلك أيضا. وقد قيل إن سبب الرجعة المذكورة في الآية تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة فأمره الله تعالى بمراجعتها ١٩. وقوله تعالى :﴿ فإذا بلغن أجلهن ﴾ يريد آخر القرء. والإنفاق بالمعروف وهو تحسين العشرة في النفقة عليهن والصحبة لهن. والفراق بالمعروف هو تأدية الصداق والإمتاع والوفاء بالشروط ونحو ذلك.
٢ الحديث رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق. انظر هامش المقاصد الحسنة للسخاوي ص ٢٧٣..
٣ الحديث أخرجه أبو داود في سننه عن ابن عمر، كتاب الطلاق، باب: في كراهية الطلاق ٢/ ٦٣٢..
٤ الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق ١/ ٤٧٥..
٥ ذكره ابن العربي في أحكام القرآن ٤/ ١٨١٣..
٦ "وقد حكي عن الشافعي أن ذلك يجوز إذا رضيت به المرأة" كلام ساقط في (ج)، (ح)..
٧ ابن علية: هو إسماعيل بن علية، أبو بشر، مفسر ومحدث وفقيه. له عدة مؤلفات في التفسير والفقه. توفي ببغداد. انظر الفهرس ١/ ٢٢٧..
٨ والحديث ذكره مالك في الموطأ، كتاب الطلاق، باب: ما جاء في الإقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض ١/ ٣٩١..
٩ في (أ)، (ج)، (د)، (هـ)، (ز): "في عدد الطلاق"..
١٠ في (أ)، لم يمس، وفي (ب): "لم يصلها"..
١١ في (أ)، (ز): "في الوقت"..
١٢ "أمر" كلمة ساقطة في (ح)..
١٣ راجع تفسير هذه الآية في أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٤١٩ وفي أحكام القرآن للجصاص ٥/ ٣٤٧ – ٣٤٩، وفي أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٨١٢- ١٨١٦..
١٤ قال مالك: لكل مطلقة السكنى كان الطلاق واحدا أو ثلاثا. ذكره ابن العربي في أحكام القرآن ٤/ ١٨١٧..
١٥ وجاء في الموطأ عن مالك عن يحيى بن سعيد أن سعيد بن المسيب سئل عن المرأة يطلقها زوجها وهي في بيت بكراء، على من الكراء؟ فقال سعيد بن المسيب: على زوجها. قال: فإن لم يكن عند زوجها؟ قال: فعليها: فإن لم يكن عندها؟ قال: فعلى الأمير. راجع الموطأ، كتاب الطلاق، باب: ما جاء في عدة المرأة في بيتها إذا طلقت فيه ١/ ٣٩٣..
١٦ في (ح): "وفصلت"..
١٧ وفي تنوير المقباس: إلا أن يجئن بمعصية بينة وهي أن تخرج في العدة بغير إذن زوجها.... ويقال إلا أن يأتين بفاحشة بالزنا مبينة بأربعة شهود فتخرج فترجم. ص ٤٧٥..
١٨ راجع جامع البيان، وأحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٨١٩، والجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٥٦..
١٩ ذكره السيوطي في لباب النقول ص ٧٧٨..
اختلف في الإشهاد المأمور به على أي شيء أمر الله تعالى أن يكون ؟ فقال الجمهور : الرجعة. وقال ابن عباس : المراد على الرجعة وعلى الطلاق لأن الإشهاد يرفع من النوازل إشكالات كثيرة ١ وهو أظهر لأنه جاء عقبهما جميعا فوجب أن يرجع إليهما. وقد اختلف في الإشهاد على الرجعة هل هو واجب أم لا ؟ فحكى ابن القصار في كتابه أنه مستحب. وحكى إسماعيل القاضي عن مالك أنه واجب لرفع الدعاوي وتحصين الفروج والأنساب والطلاق في هذا ينبغي أن يكون كالرجعة لأن اللفظ يعمهما كما قدمنا على القول الأظهر. وإذا كان كذلك فإما أن يكون الإشهاد عليهما جميعا ندبا وإما أن يكون واجبا. وحكى عبد الحق ٢ عن بعض شيوخه الفرق بين وجوب الإشهاد على الرجعة وعدم وجوبه في الطلاق والبيع. وذلك في أن الفرق بين الرجعة والبيع أن الله تعالى قال في البيع :﴿ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ] فدل ذلك على أن الإشهاد على البيع غير واجب، وسكت عن الفرق بين الرجعة والطلاق، ولا فرق بينهما لما قدمناه. وقال ابن بكير : معنى ذلك أن يشهد ذوي عهد على مراجعتها إن راجعها وعند انقضاء عدتها إن لم يراجعها أنه قد طلقها وأن عدتها قد انقضت خوفا من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق، أو تموت هي فيدعي الزوج ذلك. قال : وينبغي إن طلق طلاقا بائنا أن يشهد أيضا حين الطلاق أنها قد بانت منه حسبما ذكرنا لأن معنى البائن معنى التي انقضت عدتها ويلزم ٣ على قياس قوله أن يلزم الإشهاد في الطلاق الرجعي حين الطلاق مخافة الموت. وإذا قلنا إن الإشهاد بالآية واجب فمعناه إنما يكون بتركه إنما لتضييع ٤ الفروج وما يتعلق بذلك من الحقوق من غير أن يكون ذلك شرطا في صحة الرجعة أو الطلاق. وقد تقدم الكلام في العدالة ما هي فلا معنى لإعادته. ويؤخذ من هذه الآية أنه إنما يشهد في النكاح أو الطلاق الرجال دون النساء لقوله تعالى :﴿ ذوى عدل منكم ﴾ خلافا لمن أجاز في ذلك شهادة النساء من أهل العراق، وخلافا لمن أجازها منهم في النكاح دون الطلاق لأنه تعالى لما قال :﴿ ذوى عدل منكم ﴾ على أنه لا يجيء غير ذلك لأنه تعالى إنما ذكر أقل ما يجوز في ذلك كقوله تعالى في شهادة الأموال :﴿ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] ولا فرق بين النكاح والطلاق وبين الحدود. وقد منعوا شهادتهن في الحدود، ولا فرق بينهما ٥.
وقوله تعالى :﴿ وأقيموا الشهادة لله ﴾ :
أمر بالشهود بأن يشهدوا إذا استشهدوا. وهو عند أهل العلم أمر وجوب يقوم به بعض الناس عن بعض كالجهاد وصلاة الجنازة وما أشبههما. فإذا كان الرجل في موضع ليس فيه من يحمل ذلك عنه تعين عليه الوجوب في خاصته ٦.
وقوله :﴿ ذلكم يوعظ به ﴾ :
إشارة إلى إقامة الشهادة.
وقوله تعالى :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ﴾ :
اختلف في معناه. فقال ابن عباس : أي من يتق الله تعالى يخلصه من كرب الدنيا وكرب الآخرة. وقال بعضهم ما يعضد هذا التأويل ٧. قال نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي ٨ وذلك أنه أسر ولده وقدر عليه رزقه فشكى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره بالتقوى. فلم يلبث أن تفلت ولده وأخذ قطيعا من غنم الذين أسروه. فسأل عوف رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتطيب له تلك الغنم ؟ قال : " نعم " فنزلت الآية ٩. وقال علي بن أبي طالب وأكثر المفسرين : معناه في الطلاق أي من لا يتعدى في طلاق السنة إلى طلاق الثلاث يجعل الله تعالى له مخرجا إن ندم بالرجعة ويرزقه ما يطعم أهله ويوسع عليه. ومن لا يتقي الله فربما طلق وبت وندم فلم يكن له مخرج وزال عنه رزق زوجته. وهذا القول في الآية يدل على أن طلاق الثلاث إذا وقع لازم لأنه لم يجعل لمن أوقعه مخرجا أي أنها قد بانت منه بما قال فلا رجعة له، وعلى هذا الذي دلت عليه الآية أئمة الفتوى. وكان الحجاج بن أرطأة ١٠ لا يرى طلاق الثلاث شيئا، وهو قول داود الظاهري. وكان محمد بن إسحاق ١١ يقول ترد الثلاثة إلى واحدة١٢ ويحتج بحديث ركانة١٣ روي عن ابن عباس قال : قد طلق ركانة بن يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا. فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف طلقتها ؟ " قال : ثلاثا في مجلس واحد. قال : " إنما ذلك واحدة فارتجعها إن شئت ". فارتجعها. قال الطحاوي : وهو حديث منكر قد خالفه ما هو أولى منه، وهو حديث خطأ. وإنما طلق ركانة زوجته ألبتة لا ثلاثا، كذلك رواه الثقات من أهل بيت ركانة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أردت ؟ " قال : والله ما أردت إلا واحدة. فردها النبي صلى الله عليه وسلم. فطلقها الثانية في زمان عمر والثالثة في زمان عثمان. قال أبو داود : وهذا أصح ما روي في حديث ركانة ١٤. وجاء عن ابن عباس أيضا أنه قال لمطلق ثلاثا : إنك لم تتق الله فبانت منك امرأتك ولا أرى لك مخرجا ١٥ وفسر بذلك الآية.
٢ عبد الحق: هو أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية الغرناطي. مفسر وفقيه أندلسي. صاحب المحرر الوجيز. اختلف في تاريخ وفاته. انظر قضاة الأندلس ص ١٩..
٣ "بائنا أن يشهد أيضا حين الطلاق.... إلى: ويلزم " كلام ساقط في (أ)..
٤ في (هـ): "في تركه إنما لتحصين"..
٥ راجع أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٨٢٤، والجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٥٨، ١٥٩..
٦ في (أ)، (ز): "في خاصة نفسه"..
٧ وقيل غير ذلك فراجعه في الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٥٩..
٨ عوف بن مالك الأشجعي: هو الصحابي الشجاع عوف بن مالك الأشجعي الغطفاني حضر خيبر. توفي سنة ٧٣هـ/ ٦٧٢م. انظر الإصابة لابن حجر ٣/ ٤٣..
٩ راجع لباب النقول ص ٧٨٠..
١٠ الحجاج بن أرطأة: هو الحجاج بن أرطأة النخعي من رواة الحديث وحفاظه. ولي القضاء بالبصرة. توفي سنة ١٤٥هـ/ ٧٦٢م. انظر تهذيب التهذيب ٢/ ١٩٦..
١١ محمد بن إسحاق: هو محمد بن إسحاق بن سيار المدني من أكبر مؤرخي العرب له السيرة النبوية وكتاب الخلفاء. توفي سنة ١٥٩هـ/ ٧٦٨م. انظر تهذيب التهذيب ٧/ ١٣٨..
١٢ راجع المنتقى، كتاب الطلاق، باب: ما جاء في البتة ٤/ ٣..
١٣ ركانة: هو ركانة بن يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي. أسلم في الفتح وقيل غير ذلك. مات في خلافة معاوية وقيل في خلافة عثمان. انظر الإصابة ١/ ٥٠٦..
١٤ الحديث أخرجه أبو داود في سننه عن ابن عمر، كتاب الطلاق، باب: في كراهية الطلاق ٢/ ٦٣٢..
١٥ ذكره الباجي عن مجاهد في المنتقى، كتاب الطلاق، باب: ما يجوز إيقاعه في الطلاق ٤/٥..
هذه الآية مخصصة لعموم آية البقرة في الاعتداد بالحيض. وقد تقدم الكلام على هذا.
قوله تعالى :﴿ إن ارتبتم ﴾ :
اختلف فيه. فقيل هو متصل بأول السورة، والمعنى لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة. وقيل هو من هذه الآية التي وقع فيها. واختلف في تأويله، فروى أشهب عن مالك أنها ريبة ماضية في الحكم لا في معاودة الحيض وذلك أن الله تعالى لما بين عدة ذوات الإقراء وذوات الحمل وبقيت اليائسة من المحيض والتي لم تحض ارتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حكمها، فنزلت الآية. وإلى هذا ذهب مجاهد واختاره الطبري ١. فاليائسة على هذا القول في الآية هي التي لا ترتاب في معاودة الحيض وهي مخصصة من عموم آية البقرة. وأما التي ارتفع عنها الحيض وهي في سن من تحيض فليست بداخلة في الآية. قال ابن بكير وإسماعيل القاضي إنه يلزم على هذا القول في الآية أن تعتد هذه المرتابة ٢ في معاودة الحيض بالإقراء وتنتظر القرء حتى تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض وإن بقيت عشرين عاما. وإلى هذا ذهب الشافعي وأبو حنيفة، قالا : فإذا يئست من المحيض اعتدت ثلاثة أشهر ما لم تيأس من الحيض ٣ وإليه ذهب أيضا النخعي والثوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق. وهذا غير لازم لأنه وإن كانت هذه المرتابة لم تتخصص بهذه الآية من آية البقرة فتخصص بالقياس والنظر، وهو الذي ذهب إليه عمر بن الخطاب ولا مخالف له من الصحابة أنها تنتظر تسعة أشهر، فإن كان بها حمل وإلا اعتدت بعد التسعة ثلاثة ثم تحل. وقاله الشافعي بالعراق وهو قول مالك رحمه الله تعالى، على أنه يقول إن الريبة في الآية إنما هي في الحكم ٤. وذهب ابن بكير وإسماعيل القاضي وغيرهما إلى أن المعنى في قوله تعالى :﴿ إن ارتبتم ﴾ أي ارتبتم في معاودة الحيض وأنها ريبة مستقبلة، واحتج لذلك بحجج يطول جلبها. من ذلك أن اليأس في كلام العرب إنما هو مما لم ينقطع منه الرجاء. لا ترى أنك تقول : يئست من المريض لشدة مرضه ومن الغائب لطول٥ غيبته، ولا يصلح أن تقول : يئست من الميت الذي انقطع الرجاء منه. قالا ولو كانت الريبة في الحكم لكان حق اللفظ أن يكون إن ارتبتم بفتح الهمزة لأنها ريبة ماضية. ودليل خطاب هذا القول إنه لا تجب عدة على من يعلم أنها ممن لا تحيض من صغر أو كبر ولا يرتاب في أمرها، وإلى هذا ذهب ابن لبابة وقال إنه مذهب داود وأنه القياس لأن العدة إنما هي لحفظ الأنساب، فإذا أمن الحمل فلا معنى للعدة. وهو شذوذ من القول، وهذا ليس بلازم لإسماعيل القاضي وابن بكير لأن دليل الخطاب ضعيف في الاستدلال، وقد اختلف فيه الأصوليون، ولما لم يكن عندهما بد من عدة الأدلة القوية، فمن لا تحيض من صغر أو كبر في ذلك ولم يجدا في ذلك حدا جعلا الباب واحدا فيهما فحملهما محمل المرتابة في العدة بثلاثة أشهر. والذين ذهبوا إلى أن الآية في المرتابة اختلفوا، فبعضهم يرى أنه ليس عليها أكثر من ثلاثة أشهر تعلقا بظاهر الآية. وإلى نحو هذا ذهب عكرمة وابن زيد وقتادة. والأكثر على ٦ أن الثلاثة الأشهر إنما هي التي بعد التسعة الأشهر على حديث عمر بن الخطاب إن يئست من الحمل فيهن، وهو تأويل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في الآية على ما ذكر المفسرون. وتحصيل هذا أنه يأتي في تأويل قوله تعالى :﴿ واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم ﴾ قولان : أحدهما : أنهن اليائسات من معاودة الحيض. والآخر : أنهن المرتابات في معاودة الحيض. وإذا قلنا إنهن اليائسات من معادة الحيض ففي عدة المرتابة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ثلاثة أشهر خاصة حملا لها على اليائسة.
والثاني : أنها ثلاثة أشهر بعد تسعة أشهر يستبدأ بها أمر الحمل.
والثالث : أن عدتها بالإقراء وإن طالت ثلاثين سنة، لأنها عند من قال بذلك باقية تحت عموم آية البقرة. وإذا قلنا إن اللائي يئسن من المرتابات ففي عدة اليائسة قولان :
أحدهما : أنها ثلاثة أشهر حملا لها على المرتابة المذكورة في الآية.
والثاني : أنها لا عدة عليها تعلقا بدليل خطاب الآية. واختلف في المستحاضة هل تعتد بثلاثة أشهر خاصة أو ثلاثة أشهر بعد تسعة فتكون/ عدتها سنة، وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى : وعلل ذلك كثير من المفسرين بأن الاستحاضة ريبة فلحقت بمعنى قوله :﴿ إن ارتبتم ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ واللائي لم يحضن ﴾ :
معناه واللائي لم يحضن عدتهن أيضا ثلاثة أشهر.
– قوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن... ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فإن أرضعن لكم.... ﴾ الآية :
حكم هذه الآية عند الجمهور عام للمطلقة الحامل والمتوفى عنها الحامل فتكون عدتها بوضع الحمل. وحديث سبيعة الأسلمية ٧ شاهد لذلك. وهو أنها كانت تحت سعد بن خولة ٨ فتوفي في حجة الوداع وهي حبلى، فلما وضعت خطبها أبو السنابل بعكك ٩ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها : " أنكحي من شئت " ١٠ وعلى هذا القول علماء الحجاز والعراق والشام. ولا أعلم مخالفا فيه من السلف إلا ابن عباس وعلي بن أبي طالب في ذلك أنهما قالا : عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين. قال ابن مسعود لما بلغه قول علي : من شاء لاعنته. إن هذه الآية في سورة النساء القصرى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ نزلت بعد التي في البقرة ﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ﴾ [ البقرة : ٢٣٤ ]. ولولا حديث سبيعة الأسلمية لكان هذا القول أظهر ولو بلغت السنة عليا ما تركها. وأما ابن عباس فروي عنه أنه رجع إلى حديث سبيعة بعد منازعته، فقد مر في سورة البقرة وجه معارضته هذه الآية بآية الطلاق وآية الوفاة الكائنتين في سورة البقرة، فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك ١١.
٢ "هي التي لا ترتاب في معاودة الحيض... إلى: المرتابة" كلام ساقط في (أ)..
٣ راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٤٢١..
٤ راجع الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٦٤..
٥ في غير (أ)، (ز): "لبعد"..
٦ "يرى أنه ليس عليها... إلى: الأكثر على" كلام ساقط في (أ)..
٧ سبيعة الأسلمية: هي سبيعة بنت الحارث الأسلمية. روى عنها ابن عمر ومسروق وغيرهما. انظر الإصابة لابن حجر ٤/ ٣١٧..
٨ سعد بن خولة القرشي العامري من بني مالك. انظر الإصابة لابن حجر ٢/ ٢٣..
٩ أبو السنابل بعكك: قال الباجي: وقيل اسمه بعكك بن الحاج العبدري. راجع المنتقى، كتاب الطلاق، باب: عدة المتوفي عنها زوجها إذا كانت حاملا ٤/ ١٣٣..
١٠ والحديث ذكره مالك في الموطأ، كتاب الطلاق، باب: عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا ١/ ٣٩٩..
١١ والمنازعة كانت بين ابن عباس وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. فراجع ذاك في المنتقى، كتاب الطلاق، باب: عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا ٤/ ١٣٣..
ذهب بعضهم إلى أنه أمر عام بالسكنى لجميع المطلقات. وذهب بعضهم إلى أنها في إسكان البوائن خاصة. ويأتي على مذهب ١ من لا يرى للمبتوتة سكنى أنها في غير البوائن. والقول بأنها في البوائن خاصة أحسن لقوله تعالى بعد هذا :﴿ وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن ﴾ فلم يوجب لهن نفقة إلا مع الحمل، وهذا لا يتصور في غير البائن لأن الإجماع منعقد على أن لها النفقة كانت حاملا أو غير حامل. فإن قيل : وكيف ذلك ولم يتقدم لهن في السورة ذكر وإنما تقدم ذكر اللواتي لم يبن بدليل قوله تعالى :﴿ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ﴾ ؟ ففي ذلك جوابان :
أحدهما : وإن لم يتقدم لهن في السورة ذكر فقد تقدم لهن في سورة البقرة وهو قوله عز وجل :﴿ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ﴾ [ البقرة : ٢٣٠ ] فيعاد قوله :﴿ أسكنوهن ﴾ على تلك الحالة لأن القرآن كله كسورة واحدة في رد بعضه إلى بعض، وتفسير بعضه ببعض.
والثاني : أن تقول إنه قد تقدم لهن في السورة ذكر لأن قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ﴾ عام فيمن لم تتطلق وفيمن طلقت طلقتين وبقيت فيها طلقة لأنها تبين بالطلقة الواحدة للسنة. فرجع قوله :﴿ أسكنوهن ﴾ الآية إليها دون من سواها ممن عمه عموم اللفظ. وعلى القول بأن المأمور بإسكانهن البوائن يكون قوله :﴿ وإن كن أولات حمل ﴾ في البوائن أيضا فيكون قد أوجب لهن السكنى ولم يوجب لهن نفقة إذا لم تكن حوامل ثم أوجب لهن النفقة إذا كن حامل. ويؤيد هذا حديث فاطمة بنت قيس ٢، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لك عليه نفقة " ٣ وقد كان طلقها ثلاثا. فيأتي على هذا أن البائنة لها السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالك رحمه الله تعالى وجميع أصحابه. وفي المسألة قولان سوى ذلك : أحدهما : أن لها النفقة والسكنى ٤. والثاني : أنه لا نفقة لها ولا سكنى٥. واستدل من ذهب إلى أنها لا نفقة لها ولا سكنى بما جاء في بعض روايات حديث فاطمة وهي أنها قالت : لم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى. ولا حجة في هذا بأنها إنما قالت ذلك تأولا على قول النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمرها أن تعتد في بيت أم مكتوم. وإخراجها إلى الموضع الذي كانت فيه لاستطالتها بلسانها على أحمائها. فقد أوجب لها النبي صلى الله عليه وسلم السكنى وجعله حقا عليها لله تعالى من حيث لم تشعر. ولو لم يوجبه عليها لما أمرها به في موضع ما ولقال لها : اعتدي حيث شئت فلا سكنى لك. واستدل من ذهب أن لها السكنى والنفقة بما روي أن عمر بن الخطاب قال : لا ندع آية من كتاب الله ربنا وسنة نبينا لقول امرأة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لها : السكنى والنفقة وتأول – والله تعالى أعلم – قول النبي صلى الله عليه وسلم لها لا نفقة لك، تأديبا من أجل أنها سخطت ما أرسل إليها به إذ رأى أنه هو الواجب لها عليه لقول الله عز وجل :﴿ ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ﴾ وتأول أيضا أن النفقة التي أمر الله تعالى بها للحوامل في قوله :﴿ وإن كن أولات حمل... ﴾ الآية ليست لأجل الحمل وإنما هي من أجل العدة إذ لو كان من أجل الحمل لوجب له الرجوع بها عليه إذا ولد حيا، وقد مات أخ لأمه فورثه كما أنفق عليه في حياته ثم انكشف أن له مالا. واختلف الذين أوجبوا لها السكنى في الذي يجب عليها فيه. فقيل إنه حق لها فإن شاءت أخذته وإن شاءت تركته. وقيل إنه حق لله تعالى فيلزمها أن لا تبيت إلا فيه ولها أن تخرج في نهارها فتتصرف في حوائجها، وهو قول مالك وجميع أصحابه. وقيل إنه ليس لها أن تبيت عنه ولا أن تخرج منه نهارا. وهذا إنما يأتي على قول من رأى أن النفقة لها. والأظهر أنه حق له لأن ظاهر أمره تعالى بذلك إنما هو على أن الحق له فيه حتى يقيده بما يدل على غير ذلك، وليس في الآية تقييد. واختلف هل لهذه المطلقة أن تحج ؟ فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه ٦ ليس لها ذلك. وذهب ابن حنبل وغيره إلى أن لها أن تحج في العدة. وقال مالك رحمه الله تعالى : ترد ما لم تحرم. وأما الحامل المطلقة، فإن كان الطلاق رجعيا فحكمها حكم المطلقة الرجعية، وإن كان طلاقها بائنا فحكمها حكم البائن غير الحامل في وجوب السكنى لقوله تعالى :﴿ أسكنوهن ﴾ ولها النفقة بنص قوله تعالى :﴿ وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ﴾ ولا خلاف في ذلك وإنما اختلف في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها ففي ذلك قولان : أحدهما : المنع من ذلك. والآخر : إيجابه تعلقا بعموم الآية. والقول بالمنع أجرى على طريق النظر والأثر. وقد استدل بعضهم من قوله تعالى :﴿ أسكنوهن ﴾ الآية على القول بأن المرأة إذا كانت ساكنة في دارها ومعها زوجها ثم طلبته بالكراء أن ذلك يلزمه، خلافا للقول بأنه لا يلزمه كراء. والقولان معلومان في المذهب وذكر الاستدلال بذلك صاحب الوثائق المجموعة. واختلف هل يجوز عقد النكاح على حامل من زنا. فلم يجزه مالك وأجازه الشافعي وأبو حنيفة. وحجة مالك قوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾. واختلف في المبتوتة في المرض ٧، ففي المذهب أنها تعتد عدة المطلقة مات زوجها أو بقي. وقال أبو حنيفة : أقصى الأجلين. والحجة عليه قوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ ٨.
قوله تعالى :﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ سيجعل الله بعد عسر يسرا ﴾ :
يقول إن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات ولذلك فآتوهن أجورهن أي جميع ما يعان به الصبي وذلك نفقته وكسوته والأجرة على إرضاعه باتفاق.
واختلف في كراء سكناه، فمنهم من رأى على الأب ذلك ومنهم من لم يره. وظاهر الآية على إيجابه على الأب.
قوله تعالى :﴿ وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ﴾ :
أي إن تشططت الأم على الأب في أجرة الرضاع فللزوج أن يسترضع لولده غيرها بما فيه رفقة. وقد اختلف قول مالك إذا وجد الأب من يرضعه باطلا أو بدون ما يساوي رضاعه. فعنه أن من حق الأم أن ترضعه بأجر مثلها. وروى ابن وهب عنه أن الأم لم ترد أن ترضعه مجانا أو بما وجد كان له أن يدفعه إلى من ترضعه له مجانا أو بما وجد ٩. ومعنى ذلك إذا أرضعته عند أمه ولم تخرجه من حضانتها. وهذا القول أشبه بظاهر قوله تعالى :﴿ وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ﴾. وقد استدل بعضهم بقوله تعالى :﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ﴾ على أنها إذا رضيت أن ترضع بأجر مثلها لم يكن للأب أن يسترضع غيرها بدون الأجر ويلزم على هذا أن يتأول قوله تعالى :﴿ وإن تعاسرتم ﴾ على أن الأم تطلق أكثر من أجر مثلها. وتدل هذه الآية أيضا على أن الأم أولى بحضانة الولد. وتدل أيضا على أن الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل وإن احتمل أن يراد به غير ذلك.
٢ فاطمة بنت قيس بن خالد القرشية الفهرية. توفيت سنة ٥٠هـ/ ٦٧٠م. انظر تهذيب التهذيب ١٢/ ٤٤٣..
٣ والحديث فيه طول وقد ذكره مالك في الموطأ فراجعه في كتاب الطلاق، باب: ما جاء في نفقة المطلقة ١/ ٣٩٣، ٣٩٤..
٤ وهو قول أبي حنيفة وأصحابه فراجع الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٦٧..
٥ وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. راجع م. س. ، ن. ص..
٦ "بما يدل على غير ذلك... إلى: أنه" كلام ساقط في (أ)،(ز)..
٧ في (أ)، (ز): "بالمرض"..
٨ راجع أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٨٢٤، والتفسير الكبير للفخر الرازي ٣٠/ ٣٧، والجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٦٦- ١٦٨..
٩ "كان له أن يدفعه إلى من ترضعه له مجانا أو بما وجد" كلام ساقط في (أ)..
خص تعالى بهذه آية على الإنفاق على قدر اليسر والإعسار فدل أن النفقة مختلفة باختلاف الأحوال في ذلك وأن نفقة المعسر أقل من نفقة الموسر، خلافا لأبي حنيفة فإنه اعتبر كفايتهما. وقد اختلف في التطليق على من يعجز على نفقة امرأته، فقال مالك والشافعي وغيرهما تطلق. وقال أصحاب الرأي وعمر بن عبد العزيز وغيرهم : لا يفرق بينهما. قال بعضهم : وقوله تعالى :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ فيه دليل على أنه لا يجوز التفريق لعجزه عن النفقة لأن الله تعالى لم يوجب النفقة في هذه الحالة. وحجة من يرى التفريق ١ أن يقول إن الزوج عجز عن الإمساك بالمعروف فعليه التسريح بإحسان. ولما كان لا بد من أحدهما وجب إذا فات أحدهما أن يتعين الثاني. ولا شك أن العاجز عن نفقة ٢ عبده أو أمته أو بهيمته لا يجب عليه نفقتها ولكن يجبر على بيع المملوك. كذلك ها هنا٣. وقد استدل بعضهم أيضا على أنه لا يطلق بالعجز لقوله تعالى :﴿ وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ﴾ [ النور : ٣٢ ]. وقد تقدم الكلام على ذلك. واختلف أيضا في التطليق على الزوج بعدم الكسوة وإن وجد النفقة على قولين في المذهب. والتوجه للقولين على ما تقدم في النفقة لأن الكسوة من النفقة وإن كان اختلف الفقهاء فيمن طاع في نفقته رجل هل تلزمه كسوته أم لا ؟ فمنهم من أخرج الكسوة عن النفقة ومنهم من جعلها منها ٤.
٢ في (أ) زيادة: ولده..
٣ راجع أحكام القرآن للجصاص ٥/ ٣٦١، وأحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٤٢٣..
٤ راجع أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٨٢٧- ١٨٣١..