ﰡ
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
الإعراب:
هُدىً.. إما منصوب على الحال من الكتاب، أي تلك آيات القرآن هاديا، وَبُشْرى عطف عليه، أي مبشرا وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو هدى، أو خبر بعد خبر، فإن قوله تعالى: تِلْكَ مبتدأ، وآياتُ الْقُرْآنِ خبره، وهُدىً خبر بعد خبر.
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي الْآخِرَةِ تبيين، وليس بمتعلق بالأخسرين، فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة، وهؤلاء خسروا الآخرة.
البلاغة:
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ إشارة بالبعيد بدلا عن القريب، لبيان رفعة القرآن وعلو شأنه.
وَكِتابٍ مُبِينٍ التنكير للتفخيم والتعظيم، أي كتاب عظيم الشأن رفيع القدر.
هُدىً وَبُشْرى التعبير بالمصدر بدلا عن اسم الفاعل للمبالغة، أي هاديا ومبشرا.
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ بينهما مقابلة، وتكرار الضمير فيهما لإفادة الحصر والاختصاص.
المفردات اللغوية:
طس تقرأ: طا، سين، وهذه الحروف المقطعة التي ابتدئ بها في كثير من السور القرآنية للتنبيه، أريد بها تحدي العرب للإتيان بمثل القرآن، ما دام مكونا من حروف لغتهم التي بها ينطقون ويخطبون وينظمون الشعر.
تِلْكَ آياتُ أي هذه الآيات، أو أي السورة آياتُ الْقُرْآنِ أي آيات من القرآن، والإضافة للتفخيم لها والتعظيم لأن المضاف إلى العظيم عظيم. وَكِتابٍ مُبِينٍ مظهر للحق من الباطل، والمراد بالكتاب: إما اللوح، وإبانته: أنه قد خط فيه كل ما هو كائن، فهو يبينه للناظرين، وإما القرآن ذاته، وإبانته: أنه يبين ما أودع فيه من العلوم والحكم والشرائع، وإعجازه ظاهر مكشوف، وإذا أريد بالكتاب هنا القرآن، فيكون ذلك عطفا لإحدى الصفتين على الأخرى، بزيادة صفة، ولتغايرهما في المدلول عليه بالصفة، من حيث إن مدلول الْقُرْآنِ الاجتماع، ومدلول كِتابٍ الكتابة. وتنكير كِتابٍ للتفخيم والتعظيم.
هُدىً أي هو هاد من الضلالة. وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي مبشرا للمصدقين بالجنة، أو هما حالان من الآيات، والعامل فيهما معنى الإشارة. يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يأتون بها تامة على وجهها المطلوب. وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعطون الزكاة المفروضة. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي يصدقون ويعلمون بوجود الآخرة بالاستدلال، والواو: للحال، أو للعطف، وتغيير النظم للدلالة على قوة يقينهم وثباته، وأنهم الأوحدون فيه. ويصح أن تكون جملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة، لأن تحمل المشاق إنما يكون لخوف العاقبة والتوثق من المحاسبة.
زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة، بأن جعلها مشتهاة للطبع، محبوبة للنفس. فَهُمْ يَعْمَهُونَ يترددون ويتحيرون فيها لقبحها وعدم إدراكهم ما يتبعها من ضر أو نفع. سُوءُ الْعَذابِ أشده في الدنيا، كالقتل والأسر يوم بدر. وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أشد الناس خسرانا لفوات المثوبة، واستحقاق العقوبة في النار المؤبدة عليهم.
وَإِنَّكَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم. لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لتؤتاه، ويلقى عليك بشدة. مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ من عند أحكم الحكماء وأعلم العلماء. والجمع بين الصفتين، مع أن العلم داخل في الحكمة، لعموم العلم، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، وللدلالة على أن علوم القرآن منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع، ومنها ما ليس كذلك كالقصص والإخبار عن المغيبات.
طس حروف مقطعة في أوائل السور، للتنبيه على إعجاز القرآن، كما بينا.
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ أي هذه الآيات المنزلة عليك أيها النبي في هذه السورة هي آيات القرآن المجموع في النهاية، وآيات الكتاب المسطور في السطور، الواضح البيّن، الذي سيبقى إلى يوم القيامة، ويسهل العمل به لوضوحه وبيانه المشرق، ويستفيد منه من تأمل فيه، واستعذب حلاوة كلام الله، وفكّر في عظمته وفضل الله تعالى في إنزاله وبيانه، فهو ليس من كلام البشر، بل ولا يستطيع أحد الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه.
وعطف الكتاب على القرآن من عطف إحدى الصفتين على الأخرى، كما بينا في المفردات، كما تقول: هذا فعل السخي والجواد والكريم. ويلاحظ أن هاتين الصفتين مرة يذكران بالتعريف، ومرة بالتنكير، والمعنى واحد، وأن القرآن له صفتان: قرآن وكتاب لأنه يظهر بالقراءة والكتابة.
هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن القرآن هاد للناس من الضلالة، ومبشر المؤمنين الطائعين بالجنة وبرحمة الله تعالى.
ومعنى كون القرآن هدى للمؤمنين: أنه يزيدهم هدى على هداهم، كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة ٩/ ١٢٤] وأنه يهديهم إلى الجنة، كما قال تعالى: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النساء ٤/ ١٧٥].
والتخصيص بالمؤمنين للدلالة على أن الهداية والبشارة إنما يحصلان لمن آمن به، واتبعه وصدقه، وعمل بما فيه. ثم ذكر تعالى مظاهر الإيمان فقال:
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي إن المؤمنين المنتفعين بالقرآن هداية وبشارة هم الذين يؤدون الصلاة كاملة
ثم قارن الله تعالى حال هؤلاء بحال من لا يؤمن بالآخرة، فذكر منكري البعث بعد ذكر المؤمنين الموقنين بالبعث فقال:
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ، فَهُمْ يَعْمَهُونَ أي إن الذين يكذبون بالآخرة ويستبعدون وقوعها بعد الموت، حسّنا لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غيهم، فهم يتيهون ويترددون في ضلالهم، جزاء على ما كذبوا من الدار الآخرة، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام ٦/ ١١٠].
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي أولئك جزاؤهم العذاب السيء في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فمثل قتلهم وأسرهم يوم بدر، وأما في الآخرة فلهم عذاب النار، بل هم في الآخرة أشد الناس خسرانا، لا يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر لأن عذابهم فيها دائم لا ينقطع.
وبعد وصف حال المؤمنين بالقرآن والمكذبين به، ذكر الله تعالى حال المنزل عليه فقال: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي وإنك أيها الرسول لتأخذ القرآن وتعطاه وتتعلمه من عند حكيم في أمره ونهيه وتدبير خلقه، عليم بالأمور جليلها وحقيرها وبأحوال خلقه وما فيه خيرهم، فخبره هو الصدق المحض، وحكمه هو العدل التام، كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام ٦/ ١١٥].
يفهم من هذه الآيات ما يلي:
١- آيات هذه السورة آيات القرآن، وآيات كتاب مبين، وهما صفتان:
صفة بأنه قرآن مقروء مجموع مصون، وصفة بأنه كتاب مكتوب، فهو يظهر بالقراءة ويظهر بالكتابة. وذكر القرآن بلفظ المعرفة، وذكر كتاب بلفظ النكرة، وهما في معنى المعرفة، كما تقول: فلان رجل عاقل، وفلان الرجل العاقل. وذلك بدليل ورودهما في سورة الحجر بالعكس: الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ فورد الكتاب بلفظ المعرفة، والقرآن بلفظ النكرة لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة، وأن يجعل صفة.
ووصف القرآن أو الكتاب بصفة «المبين» لأنه تعالى بيّن فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده.
٢- وكذلك آيات هذا الكتاب أو القرآن هادية ومبشرة للمؤمنين بالجنة، أولئك المؤمنون المتصفون بأنهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصدقون بالآخرة صدقا لا شك فيه ولا تردد.
٣- أما الذين لا يصدقون بالبعث فهم في حيرة وضلالة، يترددون في مهاوي الضلال، لذا عاقبهم الله جزاء كفرهم بتزيين أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة، قال الزجّاج: «جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه» وهم يترددون في أعمالهم الخبيثة وفي ضلالتهم.
ولهم عدا هذا العقاب المعنوي عقاب مادي سيء في الدنيا والآخرة وهو جهنم، وبما أنهم خسروا الآخرة بكفرهم، فهم أخسر كل خاسر.
القصة الأولى قصة موسى عليه السلام بالوادي المقدس
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧ الى ١٤]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
الإعراب:
بِشِهابٍ قَبَسٍ قَبَسٍ بالتنوين: بدل مجرور من شهاب. ومن قرأ بغير تنوين أضاف كلمة بِشِهابٍ إلى قَبَسٍ إضافة النوع إلى جنسه، مثل: ثوب خزّ.
تَصْطَلُونَ أصلها «تصتليون» فأبدل من التاء طاء، لتوافق الطاء في الإطباق، ونقلت
أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَنْ مخففة من الثقيلة، أي أنه بورك، وهو في موضع رفع ب نُودِيَ. ومَنْ فِي النَّارِ، أي من في طلب النار، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر، والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان للخبر.
تَهْتَزُّ، كَأَنَّها جَانٌّ تَهْتَزُّ جملة فعلية حال من هاء رَآها. وكَأَنَّها جَانٌّ حال أيضا، أي فلما رآها مهتزة مشبهة جانا، ومُدْبِراً حال منصوب أيضا.
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مَنْ في موضع نصب، لأنه استثناء منقطع.
تَخْرُجْ بَيْضاءَ بَيْضاءَ حال من ضمير تَخْرُجْ. وإِلى فِرْعَوْنَ حال من مرسلا المحذوف المنصوب على الحال، لدلالة الحال عليه، أي مرسلا إلى فرعون.
مُبْصِرَةً حال من الآيات، أي مبينة.
البلاغة:
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ إيجاز بالحذف، حذفت جملة: فألقاها، فانقلبت حية، لدلالة السياق عليه.
حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ ووَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ بين كل منهما طباق.
آياتُنا مُبْصِرَةً استعارة، استعار لفظ الإبصار للوضوح والبيان لأن الإبصار يكون بالعينين.
كَأَنَّها جَانٌّ تشبيه مرسل مجمل، ذكرت أداة الشبه، وحذف وجه الشبه، فصار مرسلا مجملا.
المفردات اللغوية:
إِذْ قالَ أي اذكر حين قال موسى. لِأَهْلِهِ كنى عن زوجته بالأهل عند مسيرته من مدين إلى مصر. آنَسْتُ أبصرت من بعيد. بِخَبَرٍ عن حال الطريق لأنه قد ضله. وجمع الضمير في قوله: سَآتِيكُمْ وآتِيكُمْ ولَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ مراعاة لكلمة لِأَهْلِهِ. وأتى بالسين في قوله: سَآتِيكُمْ للدلالة على بعد المسافة، أو الوعد بالإتيان وإن أبطأ. وأتى بأو دون الواو اعتمادا أو رجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه معا، لم يعدم واحدة منهما: إما هداية الطريق،
بِشِهابٍ شعلة نار. قَبَسٍ قطعة من النار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها.
تَصْطَلُونَ تستدفئون من البرد، وقوله لَعَلَّكُمْ معناه رجاء أن تستدفئوا. نُودِيَ أَنْ بُورِكَ أي نودي بأن بارك الله، فأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة، أو مفسرة، لأن النداء فيه معنى القول مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي بورك من في مكان النار وهو موسى والبقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص ٢٨/ ٣٠].
وَمَنْ حَوْلَها المكان الذي حولها، والمعنى: بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، قال البيضاوي: والظاهر أنه عام في كل من في تلك البقعة وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا، وخصوصا تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى.
وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ من جملة ما نودي، ومعناه: تنزيه الله من السوء. يا مُوسى إِنَّهُ ضمير الشأن والأمر.
تَهْتَزُّ تتحرك باضطراب. كَأَنَّها جَانٌّ حية خفيفة سريعة. وَلَّى مُدْبِراً هرب.
وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع على عقبه. لا تَخَفْ من غيري ثقة بي، أو مطلقا، لقوله: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لا يخاف عندي الرسل من حية وغيرها، حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق. إِلَّا لكن فهو استثناء منقطع. مَنْ ظَلَمَ نفسه. ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أتى حسنا بعد سوء وبدل ذنبه بالتوبة، أي تاب. فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أستر عليه وأغفر له وأرحمه بقبول التوبة. والمراد من الاستثناء التعريض بموسى حينما وكز القبطي.
فِي جَيْبِكَ طوق قميصك. تَخْرُجْ خلاف لونها من الأدمة أي الجلد. مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير برص ونحوه من الآفات، لها شعاع يغشي البصر. فِي تِسْعِ آياتٍ أي تلك آية من تسع آيات أي معجزات دالة على صدقك، أو في جملتها، والتسع: هي فلق البحر، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والطمسة، وجدب واديهم، ونقصان مزارعهم. ومن عد العصا واليد من التسع جعل الأخيرين واحدا، ولم يعد الفلق منها لأنه لم يبعث به إلى فرعون وقومه.
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تعليل للإرسال. مُبْصِرَةً بينة واضحة مضيئة. مُبِينٌ بيّن ظاهر. وَجَحَدُوا بِها لم يقروا. اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ تيقنوا أنها من عند الله والاستيقان أبلغ من الإيقان. ظُلْماً لأنفسهم. وَعُلُوًّا ترفعا وتكبرا عن الإيمان بما جاء به موسى.
فَانْظُرْ يا محمد. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة.
قال الزمخشري: وأي ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينات واضحة جاءت من عند الله، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه.
بعد أن أخبر الله تعالى أن القرآن المجيد متلقى من عند الله الحكيم العليم، أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بتلاوة بعض ما تلقاه، تقريرا له، وهو ما أورده من بعض القصص للعظة والذكرى.
التفسير والبيان:
ابتدأ الله تعالى بالتذكير بقصة موسى كيف اصطفاه الله وكلّمه وناجاه، وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملئه، فجحدوا بها وكفروا، واستكبروا عن اتباعه والانقياد له، فقال:
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ ناراً، سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي اذكر أيها الرسول حين سار موسى بأهله (زوجته) من مدين إلى مصر، فضل الطريق في ليل مظلم، فرأى من بعيد نارا تتأجج وتضطرم، فقال لأهله مستبشرا بمعرفة الطريق والاصطلاء بالنار: إني أبصرت نارا، سآتيكم منها بخبر عن الطريق، أو آتيكم منها بشعلة نار، تستدفئون بها في هذه الليلة الباردة.
وكان الأمر كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم هو النبوة، واقتبس منها نورا عظيما لا نارا هو نور الرسالة، كما قال:
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها، وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي فلما وصلها، ورأى منظرها هائلا حيث تضطرم النار في شجرة خضراء، فلا تزداد النار إلا توقدا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضارة، ثم رفع رأسه، فإذا نورها متصل بعنان السماء، ولم تكن نارا، وإنما كانت نورا، هو نور رب العالمين، كما قال ابن عباس، فوقف موسى متعجبا مما رأى، فنودي أن
هو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص ٢٨/ ٣٠] وما حولها: أرض الشام ذات البركات والخيرات لكونها مهبط الأنبياء، ومبعث الرسالات.
وقيل: من في النور هو الله سبحانه، ومن حولها: الملائكة، والأولى ما ذكرناه.
وسبب المباركة: حدوث هذا الأمر العظيم فيها، وهو تكليم الله موسى عليه السلام، وجعله رسولا، وإظهار المعجزات على يده، ولما كان هذا الحال قد يوهم بالتجسيم والمادية نزه الله تعالى نفسه عما لا يليق بذاته وحكمته، فقال: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي تنزه الله الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات، والأحد الفرد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات.
وقد عرف موسى أن ذلك النداء من الله تعالى لأن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق، فصار ذلك كالمعجز الدال على صدور الكلام من الله سبحانه.
ومما يدل على صحة هذا التعليل
المروي عن ابن عباس: ما أخرجه مسلم في صحيحة وابن ماجه في سننه، والبيهقي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفها «١» لأحرقت سبحات (أنوار) وجهه كل شيء
ثم قرأ أبو عبيدة: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها، وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ثم صرح الله تعالى بإظهار كلامه فقال:
يا مُوسى، إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي يا موسى، إن الذي يخاطبك ويناجيك هو الله ربّك الذي عزّ كل شيء وقهره وغلبه، الحكيم في أقواله وأفعاله.
ثم أراه قدرته وأيده بالمعجزات، فقال تعالى:
المعجزة الأولى:
وَأَلْقِ عَصاكَ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ، وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ أي أمره الله بإلقاء عصاه من يده على الأرض، فلما ألقاها، انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة، في غاية الكبر وسرعة الحركة معا، فلما رآها هكذا، ولّى هاربا خوفا منها، ولم يرجع على عقبيه، ولم يلتفت وراءه من شدة خوفه.
فهدّأ الحق تعالى نفسه، وأزال عنه الرعب، فقال:
يا مُوسى، لا تَخَفْ، إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي لا تخف يا موسى مما ترى، فإني أريد أن أصطفيك رسولا، وأجعلك نبيا وجيها، ولا يخاف عندي الرسل والأنبياء إذا أمرتهم بإظهار المعجزة.
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ، فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا استثناء عظيم، وبشارة عظيمة للبشر في هذا الكلام الرباني المباشر مع موسى، أي لكن من ظلم نفسه أو غيره أو كان على عمل سيء، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب إلى ربه، فإن الله يقبل توبته لأنه بدل بتوبته عملا حسنا بعد سوء، كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه ٢٠/ ٨٢] وقال
[النساء ٤/ ١١٠].
المعجزة الثانية:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي أدخل يدك في جيب قميصك «١» فإذا أدخلتها وأخرجتها، خرجت بيضاء ساطعة، كأنها قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف، من غير آفة بها كبرص وغيره.
ويلاحظ أن المعجزة الأولى كانت بتغيير ما في يده وقلبها من جماد إلى حيوان، والثانية بتغيير يده نفسها وجعلها ذات أوصاف نورانية.
فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أي هاتان المعجزتان أو الآيتان في جملة أو من تسع آيات أخرى أؤيدك بهن، وأجعلها برهانا لك، مرسلا بها إلى فرعون وقومه، كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء ١٧/ ١٠١].
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي لأنهم كانوا قوما عصاة خارجين عن دائرة الحق، بتأليه فرعون. وهذا تعليل لما سبق من تأييده بالمعجزات.
ثم كان اللقاء مع فرعون وقومه، فقال تعالى:
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي فلما جاءت فرعون وقومه آياتنا التسع بينة واضحة ظاهرة دالة على صدق موسى وأخيه هارون، أنكروها وقالوا: هذا سحر واضح ظاهر، وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين. وعبّر بقوله: مُبْصِرَةً للدلالة على أنها لفرط وضوحها
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا أي وأنكروها وكذبوا بها في ظاهر الأمر مكابرة بالألسنة وعنادا، وتيقنوا وعلموا في أنفسهم أنها حق من عند الله ظلما من أنفسهم واستكبارا عن اتباع الحق، كما جاء في آية أخرى:
فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [المؤمنون ٢٣/ ٤٦].
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي انظر أيها الرسول وكل سامع كيف كان عاقبة أمر فرعون وقومه في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة. وفي هذا تحذير لمكذبي الرسل الذين أرسلهم الله لهداية البشرية.
والمعنى: فاحذروا أيها المكذّبون لمحمد صلّى الله عليه وسلم، الجاحدون لما جاء به من عند ربه أن يصيبكم مثل ما أصاب أولئك بطريق الأولى والأخرى، لأن النبوات ختمت برسالته، ولأن القرآن المنزل عليه مصدّق لما بين يديه وما تقدمه من الكتب السابقة ومهيمن عليها، ولبشارات الأنبياء به وأخذ المواثيق له، ولتأييده بأدلة دالة على صدق نبوته أكثر من موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء والرسل، وعلى رأسها معجزة القرآن المجيد، كما أخبر تعالى في مطلع هذه السورة: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ.
فقه الحياة أو الأحكام:
تكررت قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم في سور عديدة، لما تضمنت من العظة والعبرة التي تتجلى في قهر الله أكبر قوة عاتية بشرية وتحطيم جبروت سلطة ظالمة غاشمة، على يد رجل أعزل من السلاح هو وأخوه هارون إلا أنهما قويان بقوة الله، وقوة الإيمان، وعظمة النبوة.
مشى موسى عليه السلام هو وزوجته من مدين إلى مصر، وشأنه ككل بشر عادي، يحار في الصحراء، ومفارق الطرق، وفي الليالي الظلماء الباردة العاصفة، فضل الطريق، وأحس هو وزوجته بالحاجة إلى الدفء، كما يحس المسافر العادي بالحاجة إلى النار أثناء البرد.
واستدرجه ربّه فيما يناسب ظرفه والمناخ الذي يكتنفه، فرأى نارا من بعيد، فبشّر أهله بما رأى، وأنه سيأتي بشعلة نار منها، ويهتدي بأهل النار إلى الطريق، إذ النار لا توقد وحدها من دون شخص يوقدها.
ولكنه فوجئ بنقيض مقصوده، لما جاء المكان الذي ظن أنه نار، وهي نور، وذلك أنه لما رأى موسى النار وقف قريبا منها، فوجدها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الاخضرار، يقال لها العلّيق، لا تزداد النار إلا عظما وتضرّما، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا، وأراد أن يقتطع منها غصنا ملتهبا، فلم يتمكن، حتى تبين أنها مباركة، ثم نودي: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي ناداه الله مباركا مكان النار، ومن حولها: الملائكة والبقعة وموسى. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له، كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه قال: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود ١١/ ٧٣].
والخلاصة: إن هذه النار التي رآها موسى فيض من نور الله، تمهيدا لتكليم الله موسى وتحيته وجعله نبيا رسولا، وتنزيها وتقديسا لله رب العالمين، علما بأن هذا الكلام الأخير من قول الله تعالى تعليما لنا، وقيل: إن موسى عليه السلام قال حين فرغ من سماع النداء: استعانة بالله تعالى وتنزيها له.
إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إنني أنا الله الغالب القاهر الذي ليس كمثله شيء، الحكيم في أمره وفعله.
ثم جعل له تسع آيات دليلا وبرهانا على نبوته، وأهمها وأبرزها: العصا واليد، فكان إذا ألقى عصاه من يده، صارت حية تهتز كأنها جانّ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم، وقيل: إنها كبيرة ضخمة ذات حركة سريعة. وإذ أدخل يده في جيب ثم أخرجها أصبحت ذات مصدر إشعاع ونور كالقمر.
ومن الطبيعي أن يخاف موسى عليه السلام لأول مرة من الحية المضطربة المتحركة التي يخشى الإنسان من لدغها بالفطرة، ففرّ هاربا منها، ولم يرجع ولم يلتفت إلى ما وراءه، فطمأنه ربه العلي العظيم قائلا: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وهذا خبر بالرسالة والنبوة.
ثم استثنى استثناء منقطعا من خلاف جنس المستثنى منه فقال: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أي لكن لا يخاف من ظلم وعصى وأساء، ثم تاب وأناب لربه، فالله غفور لمن تاب، رحيم بمن أناب. وهذا تثبيت لموسى بأنه ليس من شأنه الخوف، وتطمين له بأن ربّه غفر له بعد أن تاب من حادث قتل القبطي وهو شاب حدث قبل النبوة. أما بعد النبوة فالأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر.
ثم أخبره ربه بأنه مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه الفاسقين، أي الخارجين عن طاعة الله، فأظهر موسى عليه السلام لهم معجزاته الباهرة الدالة على صدقه دلالة واضحة بيّنة، فجروا على عادتهم في التكذيب، وأنكروها وعاندوها في الظاهر، ولكنهم تيقنوا من صدقها في الباطن أو في القلب، وأنها من عند الله، وأنها ليست سحرا، غير أنهم تجاهلوا ذلك، وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا واستكبارا كشأن كل العتاة المتكبرين.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي انظر يا محمد كيف كان مصير أو آخر أمر الكافرين الظالمين، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه، ولينظر أيضا كل عاقل، وليعتبر بالنتائج الحادثة بأسباب تؤدي إليها في سنة الله ونظامه.
القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما السلام
- ١- نعم الله الجليلة عليهما
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ خاطبهم مخاطبة من يعقل لما وصفهم بصفات من يعقل.
لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ لا الناهية، ولهذا دخلت النون المشددة في يَحْطِمَنَّكُمْ.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ جملة حالية.
البلاغة:
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه حسن الاعتذار والالتفات.
يا أَيُّهَا النَّمْلُ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه نداء، وتنبيه، وأمر بالدخول، وبيان الملجأ والمأمن، والتحذير، وتخصيص سليمان، ثم التعميم، والاعتذار الحسن.
المفردات اللغوية:
عِلْماً هو علم الشرائع والأحكام والقضاء بين الناس ومنطق الطير وغير ذلك.
وَقالا شكرا لله، وعطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة، كأنه قال: ففعلا شكرا له ما فعلا، وقالا: الحمد لله الَّذِي فَضَّلَنا.. بالنبوة والعلم وتسخير الجن والإنس والشياطين على من لم يؤت علما. وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله، حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل، ولم يعتبروا ما دونه من الملك. وفيه أيضا تحريض للعالم على أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله وأن يتواضع.
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ النبوة والعلم أو الملك دون باقي أولاده الذين كانوا تسعة عشر عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي علمنا فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، والمنطق والنطق: الصوت المعبر عما في النفس. وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تؤتاه الأنبياء والملوك، وفيه التحدث بنعمة الله، ودعوة الناس إلى التصديق بالمعجزة التي هي علم الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه. إِنَّ هذا المؤتى. لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ البيّن الظاهر. يُوزَعُونَ يكفّون، ويجمعون بأن يوقف أوائلهم لتلحقهم أواخرهم من الوزع: الكف والمنع. وَحُشِرَ جمع. وادِ النَّمْلِ واد في بلاد الشام كثير النمل، وقيل: في بلاد اليمن. قالَتْ نَمْلَةٌ هي ملكة النمل، وقد رأت جند سليمان.
لا يَحْطِمَنَّكُمْ أصله: لا يحتطمنكم، وهو نهي لهم عن الحطم أي عن التوقف بحيث يحطمونها
فَتَبَسَّمَ سليمان. ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها تعجبا من تحذيرها واهتدائها إلى مصالحها أو سرورا بما خصه الله به من إدراك همسها وفهم غرضها. أَوْزِعْنِي ألهمني. وَعَلى والِدَيَّ أدرج في دعائه ذكر والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها، فإن النعمة عليهما نعمة عليه، والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ تماما للشكر واستدامة للنعمة. فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي أدخلني في عدادهم الجنة، وهم الأنبياء والأولياء.
المناسبة:
هذه قصة ثانية بعد قصة موسى عليه السلام تبين آثار حكمة الله، وتعليمه، وإنزال القرآن، وأنه من حكيم عليم، ففيها يخبر الله تعالى عما أنعم به على داود وسليمان من النعم الجليلة والصفات الجميلة، وما جمع لهما من سعادة الدنيا والآخرة بإيتاء النبوة والملك معا.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أي ولقد أعطينا كلا من داود وابنه سليمان طائفة من العلم هو علم الشرائع والأحكام والقضاء بين الناس، وعلمنا داود صنعة دروع الحرب، وعلمنا سليمان منطق الطير، فشكرا الله تعالى على نعمه، وقالا: الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من العباد المؤمنين بهذه العلوم والمعارف الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، ولم يؤتهم مثلنا.
وهذا دليل على فضل العلم الذي لم يكن الملك إلا دونه، وعلى رفع مرتبة العلم والعلماء، كما قال سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا
[المجادلة ٥٨/ ١١] وهو حث للعالم على شكر النعمة وعلى التواضع، فلم يفضلا أنفسهما على الكل، وإنما على الكثير، وتذكير بأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل على الكثير أناس مثله. وأشرف مراتب العلم: العلم بالله وبصفاته. روي ابن أبي حاتم أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب: إن الله لم ينعم على عبده نعمة، فيحمد الله عليها، إلا كان حمده أفضل من نعمه، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل، قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام.
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي خلف سليمان أباه داود بعد موته في ميراث النبوة والعلم والملك، وليس المراد وراثة المال، لأنه خصص بهذا الإرث عن بقية أولاد داود الكثر، ولأن الأنبياء لا تورث أموالهم، كما أخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في
قوله فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة: نحن معاشر الأنبياء «لا نورث، ما تركنا صدقة».
وكان داود أكثر تعبدا من سليمان، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله، وكان أعظم ملكا من أبيه، فقد أعطي ما أعطي داود، وزيد له تسخير الريح والشياطين، ومعرفة لغة الطيور، كما أخبر تعالى معددا بعض نعم الله عليه:
١- تعليمه منطق الطير:
وَقالَ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي قال سليمان متحدثا بنعمة الله عليه أن ربه علّمه لغة الطير والحيوان إذا صوّت، فأستطيع التمييز بين مقاصده من نوع تصويته. وربما فهم بعض الناس الذين يقدمون خدمات للحيوان بعض أصوات الحيوانات، كالخيول والبغال والحمير والأبقار والإبل والقطط، فيدركون رغبتها في الأكل أو الشرب، ويفهمون تألمها عند المرض أو
قال البيضاوي: ولعل سليمان عليه السلام كان إذا سمع صوت حيوان، علم بقوّته الحدسية التخيل الذي صوّته، والغرض الذي توخاه به، ومن ذلك ما حكي: أنه مرّ ببلبل يصوّت ويرقص، فقال سليمان: إنه يقول: «إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء» وصاحت فاختة «١»، فقال: إنها تقول: «ليت الخلق لم يخلقوا» فلعل صوت البلبل كان عن شبع وفراغ بال، وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب.
وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي وأعطينا خيرا كثيرا من كل شيء في الدين والدنيا من ملك وثروة. وهذا الأسلوب كما ذكر الزمخشري يراد به كثرة ما أوتي كما تقول: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، تريد كثرة قصّاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه، ومثله قوله تعالى في مقال الهدهد عن بلقيس:
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل ٢٧/ ٢٣].
والضمير في عُلِّمْنا، وَأُوتِينا لسليمان ولأبيه، أو له وحده، على عادة الملوك، لمراعاة قواعد السياسة.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي إن هذا المؤتى من الخيرات والنعم من النبوة والملك والحكم، لهو الفضل الإلهي الظاهر البيّن الذي لا يخفى على أحد، وهو فضل الله علينا. وهو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة، كما
قال
أي أقول هذا القول شكرا، ولا أقوله فخرا.
٢- جنود سليمان:
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير، أي ركب فيهم في أبّهة وعظمة، تليه الإنس، ثم الجن، ثم الطير، فإن كان حرّ أظلته منه بأجنحتها، فهم يجمعون بترتيب ونظام، بأن يوقف أوائلهم لتلحقهم أواخرهم، ويردّ أو يكفّ أولهم على آخرهم، لئلا يتقدم أحد عن منزلته ومرتبته، وليكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد. وهذا يدل على مسيرته في جيش عظيم منظم له عرفاء، ليس جيشا من الناس فقط، وإنما معه الجن، والطير.
قال مجاهد: جعل على كل صنف وزعة (عرفاء)، يردون أولاها على أخراها، لئلا يتقدموا في المسير، كما يفعل الملوك اليوم. وعلى هذا فكلمة يُوزَعُونَ من الوزع وهو الكف والمنع، قال عثمان بن عفان: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن أي من الناس. وقال الحسن البصري: لا بد للناس من وازع، أي سلطان يكفّ ويمنع.
وهذا دليل على أن سليمان عليه السلام جمع بين النبوة والسلطات كلها، والملك الذي لم يتوافر لأحد بعده، فضلا من الله واستجابة لدعائه: قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص ٣٨/ ٣٥- ٣٧]. وقال تعالى: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ ٣٤/ ١٢- ١٣].
٣- قصة النملة:
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي حتى إذا قدم سليمان ومن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل، وهي- كما يقال ولم يثبت- واد بالشام أو بغيره كثير النمل، نادت نملة هي ملكة النمل، كما فهم سليمان: يا أيها النمل، ادخلوا بيوتكم، حتى لا يكسرنكم سليمان وجنوده، دون أن يشعروا بذلك.
وقوله: لا يَحْطِمَنَّكُمْ كما جاء في الكشاف: يحتمل أن يكون جوابا للأمر، أي ادخلوا لا يحطمنكم، مثل: اجتهد لا ترسب، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر، أي في معنى: لا تكونوا حيث أنتم، فيحطمكم، على طريقة: لا أرينك هاهنا.
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها، وَقالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي فتبسم شارعا في الضحك بعد أن فهم قولها، تعجبا من تحذيرها، أو سرورا بما خصه الله به من فهم غرضها، وقال: ربّ ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي من تعليمي منطق الطير والحيوان وعلى والدي بالإسلام لك والإيمان بك، وأن أعمل عملا تحبه وترضاه قياما بواجب الشكر على النعمة، واجعلني إذا توفيتني في الجنة في زمرة الصالحين من الأنبياء والأولياء الصلحاء.
وإنما أدرج ذكر والديه لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين، خصوصا نعمة الدين، فإن الولد إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته، وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له.
ومن وقائع فهم سليمان كلام النمل: ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: «خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن سقياك، وإلا تسقنا تهلكنا، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن نعمة العلم من أجل النعم وأشرفها وأرفعها رتبة، وإن من أوتي العلم فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين، كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة ٥٨/ ١١].
٢- كان إرث سليمان من والده داود عليهما السلام هو النبوة والملك، وليس وراثة مال، وإلا لكان جميع أولاد داود التسعة عشر فيه سواء. والمقصود أنه صار إليه ذلك بعد موت أبيه، فسمي ميراثا تجوزا، كما
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي الدرداء مرفوعا: «العلماء ورثة الأنبياء»
أي ورثتهم في العلم والحكمة وفهم أمور الدين والدنيا على حقيقتها. ودليل ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: إنا معشر الأنبياء «لا نورث».
٣- تقتضي نعمة العلم وغيره شكر المنعم وحمده على فضله وإحسانه، كما فعل داود وسليمان عليهما السلام، ودل قولهما على تواضع العلماء والاعتقاد بأنه وإن فضلا على كثير، فقد فضل عليه أناس مثلهما، وهذا مشابه لقول عمر رضي الله عنه: كل الناس أفقه من عمر.
٥- بدأ سليمان عليه السلام في تعداد هذه النعم قائلا: يا أَيُّهَا النَّاسُ وهذا تشهير لنعمة الله، وتنويه بها، واعتراف بمكانها، ودعوة الناس إلى التصديق برسالته بذكر المعجزة وهي علم منطق الطير وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور.
٦- اشتمل دعاء سليمان عليه السلام على طلب الإلهام من الله شكر ما أنعم به عليه، وعلى توفيقه لزيادة العمل الصالح والتقوى، فهو عليه السلام بعد أن سأل ربه شيئا خاصا وهو شكر النعمة، سأل شيئا عاما وهو أن يعمل عملا يرضاه الله تعالى.
٧- دل قوله: فَهُمْ يُوزَعُونَ على جواز اتخاذ الإمام والحكام وزعة (أي عرفاء) يكفّون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم.
هذا.. وقد علّق ابن العربي على قول عثمان: «ما يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن» فقال:
وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن. وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ووضعه لخلقه، فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافّة قائمة لقوام الخلق، لا زيادة عليها ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها،
ولو حكموا بالعدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور «١».
٨- ما حكاه تعالى من قول النملة: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حسن اعتذار، وبيان عدل سليمان ورأفته وتدينه وفضله وفضل جنوده، فهم لا يحطمون نملة أو لا يدوسون على نملة فما فوقها إلا خطأ غير مقصود لا يشعرون به. وقد قيل: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها، ولذلك أكد التبسم بقوله ضاحِكاً إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، وتبسم الضحك إنما هو عن سرور، وسرور النبي بأمر الآخرة والدين، لا بأمر الدنيا.
٩- أفهم الله تعالى النملة هذا الكلام لتكون معجزة لسليمان عليه السلام.
١٠- أودع الله في كل حيوان غرائز معينة، يهتدي بها إلى ما ينفعه، ويمتنع بها عما يضره. ومن درس طبائع الحيوانات وعرف خصائصها، أدرك فيها عجائب مثيرة، وإلهامات غريبة، وذلك يدعو إلى الإيمان بالله الخالق الموجد الملهم، وسبحانه أبدع كل شيء، وأحسن كل شيء خلقه. وقد أجاب موسى عليه السلام فرعون حينما قال له ولأخيه هارون: قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى [طه ٢٠/ ٤٩- ٥٠].
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٨]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨)
الإعراب:
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً عَذاباً: إما منصوب على المصدر، بجعل العذاب الذي هو اسم قائما مقام «تعذيب» ويجوز إقامة الأسماء مقام المصادر، كقولهم: سلمت عليه سلاما، وكلمته كلاما، وإما منصوب على المفعول بتقدير حذف حرف الجر، أي لأعذبنه بعذاب. وليست اللام في لَيَأْتِيَنِّي لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد، ولكن لما جاء في أثر قوله لَأُعَذِّبَنَّهُ أجراه مجراه.
مِنْ سَبَإٍ اسم مصروف للحي أو للأب، ومن قرأ بترك الصرف جعله اسما لقبيلة أو بلدة، فلم يصرف للتعريف والتأنيث. والصحيح أن سَبَإٍ اسم رجل، كما في كتاب الترمذي.
أَلَّا يَسْجُدُوا أَلَّا بالتشديد، أصلها «أن لا» وأن: في موضع نصب، لتعلقه ب يَهْتَدُونَ و (لا) : زائدة. ومن قرأ بالتخفيف، جعل أَلَّا للتنبيه، وجعل (يا) حرف نداء، والمنادي محذوف، وتقديره: يا هؤلاء اسجدوا، فحذف المنادي لدلالة حرف النداء عليه.
البلاغة:
أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ فيها مراعاة فواصل الآيات. ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ تعجب.
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي التأكيد المكرر للدلالة على العزم المشدد على الفعل.
أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ بينهما طباق السلب.
مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ جناس ناقص.
تُخْفُونَ تُعْلِنُونَ بينهما طباق.
أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ طباق بالمعنى، وهو أبلغ من المطابقة باللفظ لأن الجملة الثانية اسمية، وهي تفيد الثبوت.
المفردات اللغوية:
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ بحث عنه، والتفقد: طلب ما فقد، والطير: اسم جنس لكل طائر ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ تعجب من عدم رؤيته الهدهد، ظنا منه أنه حاضر محجوب عنه لساتر أو غيره. وأم منقطعة للإضراب، أي فلما لاح له أنه غائب، أضرب عن ذلك وقال: بل أهو غائب، كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أي تعذيبا شديدا كنتف ريشه وإلقائه في الشمس، فلا يمتنع من هوام الأرض لعجزه عن الطيران، أو كجعله في قفص أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ بقطع حلقومه، ليعتبر به غيره أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ببرهان بين ظاهر أو بحجة بينة على عذره.
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ اسمها بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان، وضمير تَمْلِكُهُمْ لسبأ أو لأهلها وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ المراد كثرة ما أوتيت مما يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة وَلَها عَرْشٌ هو سرير الملك عَظِيمٌ عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش أمثالها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي كأنهم كانوا يعبدونها وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي عبادة الشمس وغيرها من مقابيح أفعالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ سبيل الحق والصواب فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ إليه.
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أي: أن يسجدوا له، فزيدت (لا) وأدغم فيها نون «أن» كما في آية لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد ٥٧/ ٢٩] أي ليعلم الْخَبْءَ المخبوء من كل شيء كالمطر والنبات وغيره من المغيبات، ويُخْرِجُ الْخَبْءَ يظهره، وهو يشمل إشراق الكواكب وإنزال الأمطار وإنبات النبات وإنشاء الأشياء وإبداعها وَيَعْلَمُ ما يخفون في قلوبهم وَما تُعْلِنُونَ بألسنتهم.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ هو استئناف جملة ثناء، مشتمل على عرش الرحمن، في مقابلة عرش بلقيس، وبينهما بون عظيم قالَ: سَنَنْظُرُ أي قال سليمان للهدهد: سنتعرف أَصَدَقْتَ فيما أخبرتنا به أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي من هذا النوع، والتغيير من الجملة الفعلية إلى الاسمية للمبالغة، فالجملة الاسمية أبلغ من: «أم كذبت فيه» ولمراعاة الفواصل.
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا صورة الكتاب: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ:
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أي إلى بلقيس وقومها ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ انصرف أو تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه فَانْظُرْ تأمل وفكّر ماذا يَرْجِعُونَ ما يردّون من الجواب وماذا يقول بعضهم لبعض.
بعد بيان تسخير الجن والإنس والطير لسليمان عليه السلام، أبان الله تعالى هنا أن سليمان تفقد طير الهدهد، فلم يجده، ثم حضر فأخبره عن مملكة بلقيس، وعن عبادتهم الشمس.
التفسير والبيان:
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ، فَقالَ: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ، أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أي بحث سليمان عن الهدهد بين جنوده، وكان له علم بمنطق الطير، وكانت الطيور مسخرة له كالريح وغيرها، فقال متعجبا: كيف لا أرى الهدهد؟ علما بأنه لم يأذن له بالغياب، بل هو من الغائبين دون أن أعلم بغيبته. وفي العبارة قلب، أي ما للهدهد لا أراه؟! وهو كقولك: ما لي أراك كئيبا؟ أي مالك؟.
وذكر المفسرون أن سبب بحثه عنه أنه كان يدل على مكان وجود الماء تحت الأرض، بنقره فيها، فيستخرج منها من طريق الجن أو الشياطين، كما كان يرشد سليمان وجنوده إلى الحد الفاصل بين قريب الماء وبعيده أثناء السير بفلاة من الأرض.
وحين تثبّت من غيابه توعده بالعذاب إذا كان بغير عذر مقبول، فقال تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي أنه هدده بالقتل أو بالتعذيب والعقاب الشديد كنتف ريشه إلا أن يأتي ببرهان واضح يبين عذره، أي إن التهديد والوعيد كان بأحد أمرين إن لم يأت بالأمر الثالث وهو العذر الواضح البيّن.
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقالَ: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ أي غاب الهدهد زمانا يسيرا ثم جاء فسأله سليمان عن سبب غيابه، فقال
وقد كان الهدهد ماهرا بالدفاع عن نفسه بتلطف وقدرة على اجتذاب النظر إليه وإصغاء السمع لكلامه، وأنه كان يقوم برحلة استكشاف علمية لمملكة سبأ ومعرفة أحوال أهلها في الملك والتدين. ثم عرّف سليمان ببعض المعارف بالرغم مما أوتيه من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة، للتنبيه على وجود العلم والمعرفة عند من هو أضعف منه، وللإرشاد إلى ضرورة تواضع العلماء.
قال الزمخشري: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة: أن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه «١».
ومضمون خبر الهدهد ثلاثة أمور هي في هذه الآية:
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ أي إني وجدت في بلاد سبأ مملكة عظيمة ذات مجد تملكهم امرأة هي بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها قبلها ملكا عظيم الملك، وأعطيت من متاع الدنيا الشيء الكثير من شراء وغنى، وملك وأبهة، وجيش مسلح بأنواع مختلفة من معدات القتال، وبإيجاز: أوتيت من كل شيء تحتاجه المملكة في زمانها، ولها سرير عظيم هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ، تجلس عليه، فوصفه بالعظم أي في الهيئة ورتبة السلطان، قال المؤرخون: وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد، رفيع البناء، محكم الصنع، فيه ثلاث مائة طاقة من مشرقه ومثلها
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أي وجدت هذه الملكة وقومها يعبدون الشمس من غير الله، وزيّن لهم الشيطان قبيح أعمالهم، فصاروا يرون السيء حسنا، ومنعهم الشيطان عن طريق الحق وعبادة الله الواحد الأحد، فأصبحوا لا يهتدون إليه.
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ أي لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده، دون ما خلق من الكواكب وغيرها، وهو الخالق المبدع الذي يخرج إلى الوجود بعد العدم كل شيء مخبوء مغيب في السموات والأرض كالمطر والنبات والمعادن والمخلوقات، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال.
ونظير الآية في القسم الأول منها: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت ٤١/ ٣٧]. ونظيرها في القسم الآخر: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد ١٣/ ١٠].
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي أنه بعد بيان الدليل على وجود الله وتوحيده، وهو افتقار العالم إليه، نزهه وأبان عظمته، فذكر أنه الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود بحق سواه، وهو رب العرش العظيم الذي ليس في المخلوقات أعظم منه، فكل عرش مهما عظم فهو دونه، ومنها عرش بلقيس، فكان الواجب إفراده بالعبادة. فوصف الهدهد عرش بلقيس بالعظم
فأجاب سليمان عليه السلام طير الهدهد عن دفاعه عن نفسه لتبرئة ساحته، حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم فقال:
قالَ: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي قال سليمان:
سنتعرف على مدى صحة قولك، أصادق في إخبارك هذا، أم أنك كاذب في مقالتك، لتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك به؟.
والمغايرة بين الجملتين الفعلية والاسمية في هذه الآية، وجعل الثانية اسمية للمبالغة كما بينا، وإفادة ثبات صفة الكذب عليه، وأنه مداوم على الكذب لا ينفك عنه. ووسيلة الاختبار هي:
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ، فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي إن سليمان عليه السلام كتب كتابا إلى بلقيس وقومها، يدعوها فيه إلى الإيمان والإسلام لله عز وجل، وأعطاه ذلك الهدهد، وأمره أن يلقيه إليهم، ثم يبتعد عنهم قريبا، ويتأمل رد الفعل، وما يراجع بعضهم بعضا القول، ويناقش فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- القائد يتفقد عادة جيشه وجنوده، وقد فعل ذلك سليمان عليه السلام أثناء مسيره ومروره بوادي النمل، فتفقد جنس الطير وجماعتها التي كانت تصحبه في سفره، وتظله بأجنحتها. وكان سبب تفقده ما تقتضيه عادة العناية بأمر الملك، والاهتمام بعناصر الجيش وبكل جزء منها، كما دل ظاهر الآية. وقال
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته، والمحافظة عليهم، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك. ويرحم الله عمر بن الخطاب، فإنه كان على سيرته قال: لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب، ليسأل عنها عمر «١». والخلاصة:
استنبط العلماء من الآية استحباب تفقد الحاكم أحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء والأقارب.
٢- قوله تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً دليل على أن الحدّ أي العقوبة على قدر الذنب، لا على قدر الجسد، ولكن يرفق بالمحدود في الزمان والصفة.
وأما ذبحه فدليل على أن الله أباح له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع.
٣- قوله تعالى: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي علمت ما لم تعلمه من الأمر، دليل على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب، ودليل على أن الصغير يقول للكبير، والمتعلم للعالم: عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه.
٤- الاعتذار الصحيح مقبول عند أهل الحق والإيمان، فقول الهدهد:
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ دفع فيه عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح.
٥- كانت بلقيس ملكة سبأ، وكان هذا عرفا معمولا به عند القدماء، وعند المعاصرين غير المسلمين. أما في شرعنا
فقد روى البخاري من حديث ابن عباس
قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة، ولا خلاف فيه. ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق ولا بأن يكتب لها منشور (أو مسطور) بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة، بدليل
قوله صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» «١».
وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير. وما روي عن عمر أنه قدّم امرأة على حسبة السوق لم يصح، فلا يلتفت إليه، وإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث.
٦- كانت أمة بلقيس ممن يعبد الشمس لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى، وقيل: كانوا مجوسا يعبدون الأنوار، وقد زين لهم الشيطان أعمالهم أي ما هم فيه من الكفر، وصدهم عن طريق التوحيد، فهم لا يهتدون إلى الله وتوحيده، وزين لهم ألا يسجدوا لله، أو فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، وعلى هذا تكون (لا) زائدة، مثل: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف ٧/ ١٢] أي أن تسجد.
وهذا دليل على أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به قطعا.
ثم آمنت تلك الأمة واهتدت إلى الإقرار بنبوة سليمان ودعوته إلى التوحيد، كما سيأتي بيانه.
٧- إن الله الذي خلق فسوى، وأخرج المخبوء في السموات والأرض كالمطر من السماء والنبات والكنوز من الأرض، هو الذي تجب عبادته، وهو الذي يستحق العبادة. والآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم، أما القدرة:
وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ.
٨- قول الهدهد أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ وقوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ دليل على أنه داع إلى الخير، وعبادة الله وحده والسجود له، لذا نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتله، كما
روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب:
النملة والنحلة والهدهد والصرد».
٩- قوله تعالى: أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم، بباطن أعذارهم لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه. وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد.
وفي الصحيح: «ليس أحد أحبّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل».
وقد قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه.
لكن للإمام أن يمتحن المعتذر إذا تعلق بالأمر حكم من أحكام الشريعة، كما فعل سليمان بالتثبت من صدق الهدهد.
١٠- دلت آية: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا... على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة، ودعوتهم إلى الإسلام، وقد كتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، وإلى كل جبار، كما دلت الآية على سرعة الهدهد في تبليغ الكتاب إليهم، وعلى إيتائه قوة المعرفة وفهم كلامهم، وأن الملكة فهمت الكتاب فورا بواسطة مترجم، وعلى حسن آداب الرسل أن يتنحوا عن المرسل إليهم بعد أداء الرسالة، للتشاور فيها.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٧]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣)
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)
الإعراب:
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ في «أن» ثلاثة أوجه:
الأول- أن تكون في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، أي بألا تعلوا عليّ.
الثاني- أن تكون في موضع رفع على البدل من كِتابٌ وتقديره: إني ألقي إلي كتاب ألا تعلوا.
الثالث- أن تكون مفسرة بمعنى «أي» كقوله تعالى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي امشوا، ولا موضع لها من الإعراب.
أَذِلَّةً، وَهُمْ صاغِرُونَ كل من أَذِلَّةً والجملة بعدها حال من الهاء والميم في لَنُخْرِجَنَّهُمْ.
قالَتْ بلقيس لأشراف قومها الْمَلَأُ أشراف القوم وخاصتهم كِتابٌ كَرِيمٌ لكرم مضمونه أو مرسلة، أو لأنه كان مختوما أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ أي ألا تتكبروا علي وتنقادوا للأهواء مُسْلِمِينَ منقادين مطيعين مستسلمين. وهذا الكتاب مع وجازته تضمن المقصود لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الصانع وصفاته، والنهي عن الترفع الذي هو داء المعاندين والمتكبرين، والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل.
الْمَلَأُ أشراف القوم أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أشيروا علي بالرأي في هذا الأمر قاطِعَةً أَمْراً باتة في أمر أو مبرمة أمرا حَتَّى تَشْهَدُونِ أي حتى تحضروني أي بمحضركم، وقد استعطفتهم بذلك ليظهروا إخلاصهم التام في الدفاع عنها أُولُوا قُوَّةٍ قدرة جسدية وعددية وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب شدة وشجاعة ونجدة وثبات في الحرب ماذا تَأْمُرِينَ أي ماذا توجهين إيانا بأوامرك فنطيعك أَفْسَدُوها بالتخريب وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ مرسلو الكتاب. ويلاحظ أنها لما أحست ميلهم إلى القتال، جنحت إلى الصلح لأن الحرب سجال، لا يدري عاقبتها.
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ بيان لما ترى تقديمه للمصالحة بإرسال هدية تدفع بها عن ملكها بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ من قبول الهدية أو ردها، فإن كان ملكا قبلها، وإن كان نبيا لم يقبلها فَلَمَّا جاءَ الرسول بالهدية ومعه أتباعه فَما آتانِيَ اللَّهُ من النبوة والملك خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ من الدنيا بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لأنكم لا تهتمون إلا بزخارف الدنيا.
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ارجع أيها الرسول إلى بلقيس وقومها بما أتيت من الهدية لا قِبَلَ لَهُمْ بِها لا طاقة لهم بمقاومتها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها من بلدهم سبأ، سميت باسم أبي قبيلتهم أَذِلَّةً بذهاب ما كانوا فيه من العز وَهُمْ صاغِرُونَ أسرى مهانون محتقرون، إن لم يأتوا مسلمين.
المناسبة:
بعد إرسال سليمان عليه السلام كتابه إلى بلقيس وقومها مع الهدهد، ذكر الله تعالى مضمون الكتاب، وتشاور بلقيس في شأنه مع مستشاريها، فارتأوا القتال، وارتأت المهادنة والصلح بإرسال هدية إليه تدفع بها عن بلادها ويلات الحروب، ولا مانع لديها من إعطائه خراجا دائما مقابل ترك القتال.
قالَتْ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ، إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ أي قالت بلقيس لأشراف قومها ومستشاريها وأركان دولتها ومملكتها: يا أشراف القوم، إني ألقي إلي كتاب كريم: لأن مرسلة نبي الله سليمان، وهو ملك كريم، ولحسن مضمونه وجمال عباراته، ولأنه كان مختوما،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني: «كرامة الكتاب: ختمه»
وكان صلّى الله عليه وسلم يكتب إلى العجم، فقيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم، فاتخذ لنفسه خاتما كما أن فيه عجيب أمر حامله، وهو طائر ألقاه به إليها، ثم تولى عنها أدبا، وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك، ولا سبيل لهم إلى ذلك.
ومضمون الكتاب:
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي قرأت الكتاب على أشراف قومها، وكان في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة شاملا أمورا ثلاثة:
١- البسملة الدالة على إثبات الله ووحدانيته وقدرته ورحمته.
٢- النهي عن الترفع الذي يحجب وصول الحق إلى النفوس، والنهي عن الانقياد للأهواء.
٣- الأمر بالإسلام الجامع لأصول الفضائل، أو الأمر بالانقياد والطاعة لأمر سليمان.
قال العلماء: لم يكتب أحد: بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه السلام. وبه ثبت أن هذا الكتاب على وجازته جامع كل ما لا بد منه من أمور الدين والدنيا.
وهذا دال على حسن سياستها ورشادها وحكمتها، فإنها استعطفتهم ليعينوها على اتخاذ الرأي الأفضل والأخلص والأصوب، فأجابوها بإظهار الاستعداد للقتال والحرب والدفاع عن المملكة:
قالُوا: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ أي قال أشراف القوم: نحن أصحاب قوة جسدية وعددية، وذوو نجدة وشجاعة وشدة وثبات في الحروب. ثم فوضوا إليها أمر إعلان الحرب، قائلين: نحن على أتم الاستعداد من جانبنا للحرب، وبعد هذا فالأمر إليك، مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه، ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا، ففيه إظهار القوة الذاتية والعرضية، وإظهار الطاعة لها إن أرادت السلم والمصالحة.
فناقشتهم في ذلك، لعلمها بقوة سليمان وجنوده وجيوشه، وما سخر له من الجن والإنس والطير، فآثرت السلم على الحرب، وقالت: إني أخشى أن نحاربه، فيتغلب علينا، ويصيبنا جميعا الهلاك والدمار. فمالت إلى المصالحة، وتبين أنها أحزم رأيا منهم، وأعلم بأمر سليمان، ولهذا حكت لهم ما يفعله الملوك الأشداء:
قالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً، وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أي قالت بلقيس لهم حين أظهروا استعدادهم لقتال سليمان:
إن الملوك إذا دخلوا بلدا عنوة، خرّبوه وأتلفوا الديار والأموال، وأذلوا أعزة
وقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ الأقرب أنه من كلامها الذي أرادت به أن هذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير لأنها كانت في بيت الملك القديم، فسمعت نحو ذلك ورأت.
وهذا تحذير لقومها من محاربة سليمان ومجيئه إليهم ودخوله بلادهم، وبعد أن استبعدت فكرة الحرب، لجأت إلى الوسائل الودية ومنها المسالمة والمصالحة، واقترحت إرسال هدية إليه، وكان ذلك هو الرأي السديد.
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ، فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي وإني ألجأ إلى هذه التجربة وهي بعث هدية إليه، تليق بمثله، وأختبر أمره، أهو نبي أم ملك؟ وأنظر ماذا يكون جوابه بعدئذ، فلعله يقبل ذلك منا ويكف عنا، أو يفرض علينا خراجا نرسله إليه في كل عام، فنأمن جانبه، ويترك قتالنا ومحاربتنا.
قال قتادة رحمه الله: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس.
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عساكر عن أبي هريرة وهو حسن: «تهادوا تحابوا، وتصافحوا يذهب الغل عنكم».
وقال ابن عباس وغيره: قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك، فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
وكانت الهدية عظيمة مشتملة على ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك، قال ابن كثير: والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب، فماذا كان موقف سليمان من الهدية؟:
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً، وَهُمْ صاغِرُونَ أي ارجع أيها المبعوث إليهم بهديتهم، فإنا سنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بقتالهم، ولنخرجنهم من بلدتهم أذلة، وهم مهانون مدحورون، إن لم يأتوا مسلمين منقادين لله رب العالمين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- أدب الخطاب وخصوصا في مجال الدعوة إلى الله تعالى في مكاتبات الملوك ورؤساء الدول مطلوب شرعا، لذا وصفت بلقيس كتاب سليمان عليه السلام بأنه كتاب كريم، لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعوة إلى عبادة الله عز وجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبّا ولا لعنا، ويؤيده قول الله عز وجل إلى نبيه صلّى الله عليه وسلم: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل ١٦/ ١٢٥] وقوله لموسى وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه ٢٠/ ٤٤].
٢- كانت عادة المتقدمين في المكاتبة أو المراسلة أن يبدءوا بأنفسهم من فلان إلى فلان، وسار السلف الصالح من أمتنا على هذا المنهج معاملة بالمثل،
قال ابن سيرين، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن أهل فارس إذا كتبوا بدؤوا بعظمائهم، فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه»
وقال أنس: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان أصحابه إذا كتبوا بدؤوا بأنفسهم.
لكن لو بدأ الكاتب بالمكتوب إليه جاز لأن الأمة اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوها في ذلك، فالأحسن في زماننا ومن عدة قرون أيضا أن يبدأ الكاتب بالمكتوب إليه، ثم بنفسه، لأن البداية بنفسه تعدّ منه استخفافا بالمكتوب إليه، وتكبرا عليه.
٣- إذا كانت التحية واردة في رسالة ينبغي على المرسل إليه أن يرد الجواب لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر، وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام.
٤- اتفق العلماء على البدء بالبسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في أول الكتب والرسائل، وعلى ختمها لأنه أبعد من الريبة،
وجاء في الحديث المتقدم: «كرامة الكتاب ختمه»
واصطنع النبي صلّى الله عليه وسلم خاتما، ونقش على فصه:
«لا إله إلا الله محمد رسول الله».
٥- كان مضمون كتاب سليمان مع وجازته مشتملا على المقصود وهو إثبات وجود الله وصفاته الحسنى، والنهي عن الانقياد للهوى والنفس والترفع والتكبر، والأمر بالإسلام والطاعة، بأن يأتوه منقادين طائعين مؤمنين.
٦- المشاورة أمر مطلوب في كل شيء عام أو خاص ما لم يكن سرا لأنها تحقق نفعا ملحوظا للتوصل إلى أفضل الآراء وأصوبها، وخصوصا في الحروب والمصالحات وقضايا الأمة العامة، فإنه ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة، قال الله له: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران ٣/ ١٥٩] إما استعانة بالآراء، وإما مداراة للأولياء، ومدح الله تعالى الفضلاء بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى ٤٢/ ٣٨].
والمشاورة نهج قديم، وبخاصة في الحرب، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس قبل إسلامها: قالَتْ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قالت ذلك لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم في أمرهم، ومدى طاعتهم لها. وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده، وربما كان في استبدادها مكمن الخطر والضعف والسقوط في النهاية.
وقد نجحت في هذه المشاورة، فسلّموا الأمر إلى نظرها، مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ ثم وجّهتهم إلى مراعاة قوة الملوك وشدة بأسهم، حماية لهم وحفظا لبلادهم، وأن من عادتهم الإفساد والتخريب، والتدمير والإهلاك، والإذلال والإخراج من البلاد، وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا.
٧- كان من حسن نظر الملكة بلقيس وتدبيرها اختبار أمر سليمان بإرسال هدية عظيمة إليه، فإن كان نبيا لم يقبلها ولم يرض إلا اتباعهم على دينه، وإن كان ملكا قبل الهدية، وللهدية تأثير في كسب المودة والمحبة، واستلال الحقد والضغينة، وإنهاء الخصومة والمشاحنة.
روى مالك عن عطاء الخراساني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تصافحوا يذهب الغلّ، وتهادوا تحابّوا، وتذهب الشحناء»
وعن ابن شهاب الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تهادوا بينكم، فإن الهدية تذهب السّخيمة».
وروى البزار عن أنس بإسناد ضعيف: «تهادوا، فإن الهدية تسلّ السخيمة».
قال القرطبي: وعلى الجملة: فقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة.
أما سليمان عليه السلام فإنه رد هدية بلقيس لأنها كانت بدلا عن السكوت عن الحق وعن الدعوة إلى الإسلام والإيمان، وواجب الرسل التبليغ دون أجر، ودون مهادنة أو مساومة لأن غرضهم إرضاء الله، ونشر العقيدة والفضيلة والإخلاص في عبادة الله تعالى. لذا انضم إلى رده الهدية إنذارهم بالحرب والقتال بجيوش لا طاقة لهم على مقاومتها، وتهديدهم بالإخراج من أرضهم أذلة قد سلبوا ملكهم وعزمهم، مهانين محتقرين إن لم يسلموا.
وقد حقق الإنذار الغاية منه، فجاءت بلقيس مع حاشيتها وجنودها مسلمين منقادين طائعين، كما أبانت الآيات التالية.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٤]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
الإعراب:
عِفْرِيتٌ: التاء فيه زائدة، ووزنه فعليت، كغزويت، أي قصير، والعفريت: القوي النافذ، وجمعه عفاريت.
وَصَدَّها ما كانَتْ.. ما: إما فاعل «صد» وإما منصوب بصد، بتقدير حذف حرف الجر، وفاعل صَدَّها ضمير وهو الله، أي صدها الله عما كانت تعبد، أي عن عبادتها. وإنها بالكسر على الابتداء، وبالفتح: إما بدل مرفوع من ما إذا كانت فاعلا، وإما منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي لأنها كانت.
عَ
إما ظرف، وإما حرف وبنيت على الفتح لأنها قد تكون ظرفا أحيانا، وكانت الحركة فتحة لأنها أخف الحركات، فإن سكنت العين فهو حرف لا غير.
البلاغة:
تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
فيهما جناس الاشتقاق.
كَأَنَّهُ هُوَ تشبيه مرسل مجمل، أي كأنه عرشي في الهيئة.
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ استعارة، استعار رجوع الطرف للسرعة في الإتيان بالعرش، مشبها السرعة بالتقاء الجفنين الذي هو ارتداد الطرف. ومثله وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَتَهْتَدِي لا يَهْتَدُونَ بينهما طباق السلب.
المفردات اللغوية:
أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها العرش: سرير الملك، أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله به من العجائب الدالة على عظيم القدرة، وصدقه في دعوى النبوة، ويختبر عقلها بعد التمويه على العرش، فينظر أتعرفه أم تنكره مُسْلِمِينَ منقادين طائعين عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ خبيث مارد قوي شديد قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ مجلسك للقضاء، وكان من الغداة إلى نصف النهار عَلَيْهِ على حمله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ لقادر مؤتمن على ما فيه من الجواهر وغيرها، لا أنقص منه شيئا ولا أبدّله.
قال سليمان: أريد أسرع من ذلك قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ المنزل هو آصف بن برخيا وزيره، كان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وهو المشهور. وقيل: إنه الخضر عليه السلام، وقيل: هو جبريل عليه السلام، وقيل: هو ملك أيد الله تعالى به سليمان، وقيل:
إنه سليمان نفسه، قال الرازي: وهو الأقرب.
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أي قبل أن يرجع إليك بصرك إذا نظرت به إلى شيء، ويَرْتَدَّ يرجع، والطرف: تحريك الأجفان، والمراد بذلك السرعة العظيمة على سبيل الاستعارة، كما يقال: آتيك به مثل لمح البصر، أو قبل أن تغمض عينك، ويراد الإسراع الشديد في الإحضار مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ساكنا حاصلا بين يديه قالَ: هذا أي الإتيان لي به فَضْلِ تفضل وإحسان لِيَبْلُوَنِي ليختبرني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ أي أشكر بأن أراه فضلا من الله بلا حول مني ولا قوة، وأقوم بحقه، أم أجحد الفضل بنسبته إلي، وأقصر في أداء واجب الشكر يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأجلها لأن ثواب شكره له وَمَنْ كَفَرَ النعمة فلم يشكرها غَنِيٌّ عن شكره كَرِيمٌ بالتفضل والإنعام عليه ثانيا.
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ هذا من كلام سليمان وقومه، وهو معطوف على محذوف تقديره: قد أصابت في جوابها، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام، ثم قالوا: ونحن أوتينا العلم بالله وبقدرته قبل علمها وكنا منقادين لحكمه، ويكون غرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزية التقدم في الإسلام. ويصح أن يكون من تتمة كلام بلقيس، متصلا بقوله كَأَنَّهُ هُوَ والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة، أو قبل هذه الحالة بما تقدم من الآيات، وكنا خاضعين منقادين لله عز وجل. ثم إن قوله: وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية من كلام رب العزة. ومعنى صَدَّها أي منعها عن عبادة الله مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ على قراءة كسر إنها يكون المعنى: صدها أي منعتها عبادة الشمس عن عبادة الله، وإنها من قوم كافرين، فهو استئناف وابتداء كلام جديد، وعلى قراءة الفتح أنها يكون المعنى: صدّها نشوؤها بين أظهر الكفار، أو تعليل لما سبق، أي: لأنها.
َّرْحَ
القصر وكل بناء عال جَّةً
ماء مجتمعا كثيرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لتخوضه، روي أن أرضية القصر أو صحنه بني من زجاج أبيض شفاف، وأجري تحته ماء عذب، فيه سمك، ووضع سليمان سريره في صدر الصرح، وجلس عليه، فلما أبصرته ظنته ماء راكدا، فكشفت عن ساقيها.
ْحٌ مُمَرَّدٌ
أملس نْ قَوارِيرَ
من زجاج الَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
أي فلما دعاها إلى الإسلام، اعترفت بظلمها نفسها بعبادة غير الله وأسلمت لله كائنة مع سليمان، أي خضعت.
المناسبة:
بعد أن رجعت الرسل بهديتها إلى الملكة بلقيس، وأخبروها بما قال سليمان، أخبرت قومها بمضمون رأيها السابق وأنه لا طاقة لهم بمواجهة سليمان وجنوده، ثم استجابت لطلبه، وأقبلت هي وقومها تسير إليه في جنودها معظمة سليمان، ناوية متابعته في الإسلام، فسرّ سليمان عليه السلام بقدومهم عليه، ووفودهم إليه، وبعث الجن يأتونه بأخبارهم.
لما اقترب وفد بلقيس من بلاد الشام، جمع سليمان عليه السلام جنده من الجن والإنس، وخاطبهم بقوله:
قالَ: يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي قال سليمان: يا أيها السادة الأعوان، من منكم يستطيع الإتيان بعرش (سرير) بلقيس قبل وصولها مع وفدها إلينا منقادين طائعين، ليكون ذلك دليلا على صدق نبوتنا، ومعجزة إلهية تعرف بها أن مملكتها صغيرة أمام عجائب الله وبدائع قدرته؟ فأجابه بعض جنده:
قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ، وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ أي قال شيطان مارد من الجن: أنا أحضره إليك قبل انفضاض مجلس حكمك وقضائك، وكان يمتد إلى منتصف النهار، ثم أكد عزمه وضمن نتيجة فعله بقوله: وإني على حمله لقادر غير عاجز، أمين غير خائن، لا آخذ منه شيئا، ولا أمسّ ما فيه من الجواهر واللآلئ.
ثم أجابه آخر بعد أن قال سليمان: أريد أعجل من ذلك، لأنه أراد بإحضار هذا السرير عظمة ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد بعده، وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها، بأن يأتي بخارق عظيم وهو إحضار سريرها من بلادها في اليمن بعد أن تركته محفوظا، قبل وصولها إليه:
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أي قال عالم من علماء أسرار الكتاب الإلهي: أنا أحضره في لمح البصر قبل أن تغمض عينك وقبل أن يرجع إليك نظرك.
ومن أغرب الأقوال أنه سليمان عليه السلام، كأنه يقول لنفسه: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. والمهم أنه حدث ما وعد به هذا العالم، والله أعلم به.
فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي، لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟ أي فلما عاين سليمان وجماعته وجود سرير بلقيس الذي أتي به من بلاد اليمن السعيدة، ورآه ساكنا قائما بين يديه، قال: هذا من نعم الله علي ليختبرني أأشكر بأن أراه فضلا منه بلا حول ولا قوة مني، أم أجحد فأنسب العمل لنفسي. وفائدة الشكر ومضرة الجحود والكفر ترجع إلى الإنسان نفسه، لذا قال:
وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ، فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ أي ومن شكر النعمة فإن نفع الشكر عائد إليه، لا إلى الله تعالى لأنه بالشكر تدوم النعم، ومن جحد النعمة ولم يشكرها، فإن الله غني عن العباد وعبادتهم وعن شكرهم لا يضره كفرانهم، كريم في نفسه، وإن لم يعبده أحد، لا يقطع النعمة عن عباده بسبب إعراضهم عن شكره، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت ٤١/ ٤٦] وقال سبحانه حكاية لقول موسى: وَقالَ مُوسى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم ١٤/ ٨].
وجاء في صحيح مسلم: «يقول الله تعالى: يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم
يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه».
ثم أمر سليمان عليه السلام بتغيير صفات عرش بلقيس، ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته، كما حكى تعالى:
قالَ: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي، أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أي قال سليمان لأتباعه: غيّروا هيئة عرشها وصفته وشكله لنختبر حالها، وننظر في إمكاناتها العقلية وملاحظاتها الفكرية ومقدار ذكائها، أتهتدي إليه، فتعرف أنه عرشها، أم تكون غير مهتدية إليه أو تائهة عنه متحيرة في الحكم وإبداء الرأي؟
وذلك يدل على قدرة الله تعالى بنقله من مكان بعيد إلى بلاد الشام، وعلى صدق سليمان عليه السلام.
فَلَمَّا جاءَتْ، قِيلَ: أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ أي حين قدمت، عرض عليها عرشها (سرير الملك) وقد غيّر وزيد فيه ونقص، فسئلت عنه: أمثل هذا عرشك؟ ولم يقل: أهذا عرشك؟ لئلا يكون تلقينا، فقالت: كأنه هو، أي يشبهه ويقاربه، ولم تجزم أو تقطع يقينا بأنه هو، لاحتمال أن يكون مثله بسبب بعد مسافته عنها.
وكان جوابها جواب سياسي بارع ذكي محنّك، دل على كمال عقلها ودهائها، وثبات شخصيتها، وأنها في غاية الذكاء والحزم، فشبهت عليهم من حيث شبهوا عليها.
ثم أبان الله تعالى عذر بلقيس في عدم إعلانها الإسلام قبل ذلك فقال:
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أي ومنعها عن عبادة الله وإظهار الإسلام ما كانت تعبد من غير الله وهو عبادة الشمس، فإنها كانت من قوم وثنيين كانوا يعبدون الشمس، فتأثرت بالبيئة التي نشأت فيها، ولم تكن قادرة على تغيير عقيدتها، حتى جاءت إلى بلاد سليمان الذي أحسن عرض الإسلام عليها، وأقنعها بصحته ووجوب الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته، فهو رب الكون جميعه، ورب الكواكب كلها، شمسها وقمرها ونجومها العديدة.
لَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً، وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها، قالَ: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ، قالَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
هذا جار على عادة استقبال الملوك والرؤساء في قصور الضيافة الفخمة، فقد قال لها وفد الاستقبال السليماني: ادخلي هذا القصر المشيد العالي، فإنه بني لاستقبال العظماء، وليريها سليمان ملكا أعز من ملكها، وسلطانا هو أعظم من سلطانها، وكان صحنه من الزجاج الأبيض الشفاف، فلما رأت مدخله الفخم ظنت وجود ماء مجتمع كثير فيه، فكشفت عن ساقيها، فقال لها سليمان: إنه قصر مصنوع من الرخام الأمرد ذي السطح الأملس، ومن
(٢) تفسير ابن كثير: ٣/ ٣٦٥.
وحينئذ استدلت بكل ما رأت على التوحيد والنبوة فأعلنت إسلامها، وأراد الله لها الخير والهداية، فقالت: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ، لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
أي يا ربي، إني ظلمت نفسي في الماضي بعبادة غيرك، وأسلمت مع إسلام سليمان، وخضعت لله رب العوالم كلها من الإنس والجن.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- استدعى سليمان عليه السلام عرش بلقيس (كرسي الملك) من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ليريها قدرة الله العظمى، ويجعله دليلا على نبوته لأخذه من قصرها دون جيش ولا حرب، وقبل أن تأتي هي وجماعتها إليه مستسلمين.
٢- ظهرت قدرة الله على يد مؤمن عالم بكتاب الله وبأسراره وبالاسم الأعظم، فجيء بعرش بلقيس بسرعة خاطفة، وكان هذا العالم بإقدار الله وتوفيقه أقدر من عفريت الجن- وهو القوي المارد- الذي استعد للإتيان به، في زمن أطول، ولكنه سريع وقريب وقصير أيضا، إذ كان في مدة زمن القضاء اليومي، وأما زمن العالم فهو بمقدار إطباق الأجفان وفتحها.
وفي هذا دلالة على سمو مرتبة العلم ورفعة العلماء في الدنيا والآخرة إذا عملوا بعلمهم صالحات الأعمال.
قال القشيري: وقد أنكر كرامات الأولياء من قال: إن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان، قال للعفريت: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ. وعند هؤلاء يكون ما فعل العفريت ليس من المعجزات، ولا من
وعلى أي حال، تم نقل العرش من اليمن إلى الشام بقدرة الله العظمى، وإن وجدت الوسيلة في الظاهر، كفلق البحر لموسى عليه السلام، بضرب العصا، فإن الفالق هو الله تعالى، وليس العصا.
٣- إن ما حدث من إحضار العرش بهذه السرعة هو معجزة لسليمان عليه السلام، والمعجزات خوارق للعادات، لا تخضع لمقاييس الأحوال العادية، ولا يصدق بالمعجزة إلا مؤمن بقدرة الله، أما الكافر الملحد أو المادي الذي لا يصدق إلا بما يقدمه العلم التجريبي، فإن إقناعه بذلك عبث. وقد أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوة، وتؤمن بنبوته.
٤- إن ظهور المعجزة على يد الأنبياء أمر موجب للشكر والحمد الكثير لله عز وجل، لتأييدهم بها، ولإظهار عجزهم الحقيقي أمامها، لذا قال سليمان لما رأى العرش ثابتا مستقرا عنده: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي أي هذا النصر والتمكين من فضل الله ربي، لينظر أأكون شاكرا حامدا، أما كافرا بالنعمة جاحدا؟
٥- لا يرجع نفع الشكر إلا إلى الشاكر نفسه لأنه بالشكر يحقق تمام النعمة ودوامها والمزيد منها، وبه تنال النعمة المفقودة أيضا. وأما ضرر الكفر والجحود فعائد كذلك إلى الكافر نفسه، ومع كفره فإن الله غني عن شكره، كريم في التفضل والإنعام عليه بالرغم من الكفر.
٦- إن تنكير العرش وتغيير هيئته فيه استثارة البحث، وإمعان النظر، وإعمال العقل، وتركيز الانتباه إلى آية المعجزة، وقد بدا كل هذا في جواب بلقيس كَأَنَّهُ هُوَ. قال عكرمة: كانت حكيمة، فقالت: كَأَنَّهُ هُوَ.
وقال مقاتل: عرفته، ولكن شبّهت عليهم، كما شبّهوا عليها، ولو قيل لها:
٧- قوله تعالى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها.. إذا كان من قول سليمان وهو الظاهر فيراد به أنه أوتينا العلم بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرة، أو أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها. وإذا كان من قول بلقيس، فيراد به أنه أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل آية العرش هذه، وكنا مسلمين منقادين لأمره.
٨- ما أجمل تقديم هذا الاعتذار عن تأخر إسلام بلقيس إلى لقاء سليمان، وهو تأثرها بالبيئة وعقيدة أهل المملكة، فقد منعها أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر، وكانت من قوم كافرين غير مؤمنين بوجود الله ووحدانيته.
٩- أراد سليمان أيضا بالإضافة إلى إظهار المعجزة لنبوته بإحضار عرش بلقيس أن يبهرها بقوة ملكه، وعزة سلطانه، وأن ذلك أعزّ وأمنع من مملكتها الغنية، وبلادها الخصبة، وقصورها المشيدة. كما أنها شهدت في صرح سليمان فنا رائعا في البناء والهندسة المعمارية ما لا مثيل له حتى في أوج العصر الحاضر وعظمة تقدم العلم والفن في القرن العشرين، ولعل عظمة بناء المسجد الأقصى خير مثال على تقدم فن البناء وعظمته في عهد سليمان عليه السلام.
١٠- تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان، وخضوعها لله رب العالمين.
وأخيرا يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه السلام من بلقيس، وأحسن ما أذكره هنا قول الرازي: والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته، ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها: اختاري من قومك من أزوجك
خلاصة نعم الله تعالى على سليمان عليه السلام
يحسن أن أوجز هنا خصائص سليمان ومعجزاته ونعم الله عزّ وجلّ عليه مما ذكر في القرآن كله، بعد أن أوردت هذه السورة مواقف أربعة متميزة في قصته، وحينئذ أكون قد ذكرت إلى هنا مجملا قصص عشرين نبيا أو أكثر تحت عنوان: أضواء من التاريخ على قصة أو حياة كل نبي أو رسول.
ومن المعلوم أن سليمان ذكر في القرآن (١٦) ست عشرة مرة في سور:
البقرة والنساء والأنعام والأنبياء والنمل وسبأ، وأوضح الآن نعم الله الكثيرة عليه وهي ما يأتي «٢» :
١- ذكاؤه وفراسته في القضاء: منح الله تعالى سليمان عليه السلام ذكاء نادرا وإصابة في القضاء والحكم، بدليل قصة الحرث الذي نفشت فيه غنم الراعي، فكان حكمه كما بينا في سورة الأنبياء أصوب من حكم أبيه داود عليه السلام، كما قال تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ، وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً، وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَكُنَّا فاعِلِينَ [الأنبياء ٢١/ ٧٨- ٧٩].
٢- تعليمه منطق الطير: إن الله تعالى علّم سليمان منطق الطير، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها، كما تبين في تفسير الآية [١٦] من سورة النمل:
(٢) انظر قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار ٣١٧- ٣٤٨، ط رابعة.
٣- تسخير الرياح له: كان لسليمان بساط الريح ينقله من مكان إلى آخر بعيد، ويوجه الريح حيث يشاء، فيأمرها بأن تهب في ناحية ما، كما قال تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأنبياء ٢١/ ٨١]، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص ٣٨/ ٣٦]، وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ [سبأ ٣٤/ ١٢].
٤- تربية الخيول وهي الصافنات الجياد للجهاد: كان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه السلام، كما هو مندوب في شرعنا،
قال صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن عروة البارقي-: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، والأجر والمغنم».
وكان سليمان يستعرضها كالعروض العسكرية اليوم بمناسبات وطنية أمام الرؤساء، وكان يحبها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه، وهو المراد من قوله تعالى: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي.
وقد أعاد عرضها أمامه يمسح سوقها وأعناقها، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها، وهذا هو المقصود من الآيات:
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ، فَقالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ. رُدُّوها عَلَيَّ، فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ [ص ٣٨/ ٣٠- ٣٣]. وأما تفسير هذه الآيات بما يتنافى مع منصب النبوة، كالاشتغال بالخيول عن صلاة العصر، ثم تقطيع أعناقها وسوقها، فهو باطل لا أصل له، كما ذكر الرازي في تفسيره الكبير.
٥- فتنة سليمان وإلقاء الجسد على كرسيه: ذكر الله تعالى بعد قصة عرض الصافنات الجياد هذه الفتنة، فقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ
[ص ٣٨/ ٣٤- ٣٧]، وقد اختار الرازي في تفسير هذه الآيات أن سليمان ابتلي بمرض شديد أضناه، أي أثقله حتى صار لشدة المرض كأنه جسد أو جسم بلا روح، ثم أناب أي رجع إلى الصحة.
واختار العلامة أبو السعود والألوسي في تفسير هذه الآيات
ما ورد في الصحيحين مرفوعا: أنه- أي سليمان- قال: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون».
والمراد بالسبعين الكثرة وليس تمام العدد، كما هو المألوف في الاستعمال العربي والقرآني لكلمة (سبعين) مثل: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ، أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة ٩/ ٨٠] أي إن تستغفر لهم كثيرا.
وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية فلم تصح ولا يعول عليها.
٦- إسالة عين القطر (النحاس المذاب) له: أنعم الله على سليمان عليه السلام بتطويع النحاس المذاب له، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة ذات الحجارة الكبيرة، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان، كما ذكر تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ، وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سبأ ٣٤/ ١٢].
٧- تسخير الجنّ له: عدد الله تعالى في الآية السابقة في سورة سبأ النعم العظمى التي أنعم بها على سليمان عليه السلام، فقال: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ
[سبأ ٣٤/ ١٢- ١٣]. وقال سبحانه بعد ذكر تسخير الرّيح: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص ٣٨/ ٣٧]. وبه تبين أن الله جلّ جلاله سخر الجنّ كما سخر له الرّيح، فكانت الجن من جنده، تطيعه بما يأمر، وتعمل له ما يشاء من ضخم المباني والعمائر والتماثيل، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم، والقدور الراسيات والجفان (الآنية الواسعة) التي كأنها الحياض لسعتها.
٨- إسلام ملكة سبأ والإتيان بعرشها: عرفنا في البيان المتقدم في سورة النمل لقصة سليمان مع بلقيس ملكة سبأ أن طير الهدهد أخبره بوجود ملكة عظيمة في سبأ من بلاد اليمن تعبد مع قومها الشمس من دون الله، وأن لها عرشا عظيما مزينا بأنواع الجواهر واللآلئ، فأرسل سليمان رسالة لها مع الهدهد مضمونه:
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.
فاستجابت بلقيس مع قومها لطلب سليمان بعد أن أقنعتهم بألا طاقة لهم بمواجهة جنود سليمان، وآثرت بكمال عقلها وفطنتها السلم والمصالحة والمسالمة والموادعة على الحرب والقتال، بالرغم من توافر قوة عسكرية كبيرة عندها:
نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ.
فشيّد لها سليمان صرحا عظيما ومرّد أرضه بالزجاج، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به، ثم لما دخلته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها لخوض الماء لئلا تبتل ثيابها بالماء، ثم أحضر لها عرشها من بلاد اليمن إلى بلاد الشام، ليكون دليلا على صدق نبوته، ومعجزة على صحة رسالته، وآية على قدرة الله العجيبة في خرق العادات وتجاوز المحسوسات، مما لم يكتشف العلم سره ونواميسه إلى الآن، فما كان من بلقيس إلا أن أسلمت وآمنت برسالة سليمان، فقالت: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
١٠- موت سليمان عليه السلام: أعمى الله موت سليمان على الجان المسخرين لخدمته في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئا على عصاه (منسأته) بعد موته مدة طويلة نحوا من سنة كما يقال، فلما أكلتها الأرضة (دابة الأرض) ضعفت وسقط إلى الأرض، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة، وهو أمامهم، وتبينت الجن والإنس أنهم لا يعلمون الغيب قطعا، فقال تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ، ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ [سبأ ٣٤/ ١٤]. وهذا من تكريم الله لسليمان عليه السلام، وإلقاء هيبته على الجنّ والإنس حتى بعد موته.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٥ الى ٥٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِتَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
الإعراب:
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأن اعبدوا الله. وأَخاهُمْ مبتدأ، وفَرِيقانِ خبر المبتدأ، وإذا:
خبر ثان، أي فبالحضرة هم فريقان. ويَخْتَصِمُونَ جملة فعلية في موضع نصب حال من ضمير فَرِيقانِ.
تَقاسَمُوا فعل أمر، أمر بعضهم بعضا بالتقاسم والتحالف على أن يبيتوه وأهله. وقرئ بالياء «يقاسموا» على أنه فعل ماض لأنه إخبار عن غائب.
مَهْلِكَ أَهْلِهِ بمعنى الهلاك، وقرئ: مَهْلِكَ وأراد به الإهلاك مصدر «أهلك» وقرئ «مهلك» وأراد به الهلاك من «هلك» والمشهور في المصدر الفتح، والكسر قليل لأن الكسر يكون في المكان والزمان، فيكون «مهلك» بالكسر كالمرجع بمعنى الرجوع.
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ أَنَّا بتقدير حذف حرف الجر، أي لأنا دمرناهم، فتكون كانَ ناقصة، أو عاقِبَةُ: اسمها، وكَيْفَ: خبرها. ومن قرأ بالكسر إنا فعلى الابتداء، وعاقِبَةُ اسم كانَ، وكَيْفَ خبرها، وجملة أَنَّا دَمَّرْناهُمْ خبر مقدم لأن الاستفهام له صدر الكلام. ويحتمل أن تكون كانَ تامة أي وقع، وعاقِبَةُ فاعل، ولا تفتقر إلى خبر، وكَيْفَ في موضع نصب على الحال، أي انظر على أي حال وقع أمر عاقبة مكرهم، ثم بين العاقبة بقوله: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ.
خاوِيَةً حال من بُيُوتُهُمْ وعامله ما في فَتِلْكَ من معنى الإشارة أي أشير إليها خاوية، وتقرأ بالرفع على أنها خبر للبيوت، أو خبر ثان، أو خبر لمبتدأ مقدر أي هي خاوية، أو بدل من «البيوت» أو خبر تلك، وبُيُوتُهُمْ عطف بيان على فَتِلْكَ.
البلاغة:
بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةِ طباق. وتسمية العذاب أو العقاب بالسيئة مجاز.
يُفْسِدُونَ وَلا يُصْلِحُونَ طباق.
تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ للتحضيض.
اطَّيَّرْنا طائِرُكُمْ جناس اشتقاق.
وَمَكَرُوا وَمَكَرْنا مشاكلة، سمى تعالى إهلاكهم مكرا على سبيل المشاكلة.
المفردات اللغوية:
أَخاهُمْ من القبيلة. أَنِ اعْبُدُوا بأن وحدوا الله. فَإِذا هُمْ ففاجئوا التفرق.
فَرِيقانِ فريق مؤمن وفريق كافر. يَخْتَصِمُونَ يتنازعون ويجادل بعضهم بعضا. قالَ:
قال صالح للمكذبين. لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالعذاب قبل الرحمة، أو بالعقوبة التي تسوء صاحبها قبل التوبة، حيث قلتم: إن كان ما أتيتنا به حقا فأتنا بالعذاب.
هلا. تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ من الشرك. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبول التوبة فلا تعذبوا، فإنها لا تقبل عند نزول العذاب.
اطَّيَّرْنا تشاءمنا بك حيث فرقتنا، والطيرة: تعليق الخير أو الشر على طيران الطائر يمينا أو شمالا. بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ من المؤمنين، حيث قحطوا المطر وجاعوا. طائِرُكُمْ شؤمكم أي ما يصيبكم من الخير أو الشر. عِنْدَ اللَّهِ أي هو قدره أتاكم به، أو عملكم المكتوب عنده.
تُفْتَنُونَ تختبرون بالخير والشر أو تعاقب السراء والضراء.
فِي الْمَدِينَةِ مدينة ثمود وهي الحجر. تِسْعَةُ رَهْطٍ تسعة رجال، والرهط: من الثلاثة إلى العشرة، وأما النفر فهو من الثلاثة إلى التسعة. يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي شأنهم الإفساد الخالص عن شوائب الصلاح، والإفساد: بالمعاصي كاقتطاع جزء من الدراهم والدنانير، والصلاح: بالطاعة. قالُوا قال بعضهم لبعض. تَقاسَمُوا احلفوا. لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ لنباغتن صالحا وأهله الذين آمنوا به ليلا، أي نقتلهم ليلا. لِوَلِيِّهِ لولي دمه وهو من له حق القصاص من ذوي قرابته إذا قتل. ما شَهِدْنا ما حضرنا. مَهْلِكَ هلاك، وقرئ مَهْلِكَ أي إهلاك، أي فلا ندري من قتلهم.
وَمَكَرُوا مَكْراً بهذا التواطؤ على الاغتيال، والمكر: التدبير الخفي لعمل الشر.
وَمَكَرْنا مَكْراً جازينا بتعجيل عقوبتهم. لا يَشْعُرُونَ بذلك. دَمَّرْناهُمْ أهلكناهم.
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ بصيحة جبريل، أو برمي الملائكة بحجارة يرونها ولا يرونهم. خاوِيَةً خالية. بِما ظَلَمُوا بظلمهم أي كفرهم. لَآيَةً لعبرة وموعظة. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قدرتنا فيتعظون. وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بصالح، وهم أربعة آلاف. وَكانُوا يَتَّقُونَ الشرك أو الكفر والمعاصي، فلذلك خصوا بالنجاة.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة موسى وداود وسليمان، وهم من بني إسرائيل، ذكر قصة من هو من العرب، وهم ثمود أي عاد الأولى، وصالح أخوهم في النسب، بقصد تذكير قريش والعرب وتنبيههم أن من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله بالعبادة، ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة، وأن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
التفسير والبيان:
لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي وتالله لقد بعثنا إلى قبيلة ثمود العربية أخاهم في النسب والقبيلة بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له، فانقسموا فريقين: فريق مؤمن مصدق برسالته وبما جاء به من عند ربه، وفريق كافر مكذّب بما جاء به.
وأصبح الفريقان يتجادلان ويتنازعان في الدين، كل فريق يقول: الحق معي، وغيري على الباطل، كما قال تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف ٧/ ٧٥- ٧٦].
قالَ: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟ أي قال صالح:
يا قومي، لم تطلبون أو تتعجلون نزول العقاب أو العذاب قبل أن تطلبوا من الله رحمته أو ثوابه إن عملتم بما دعوتكم إليه وآمنتم بي، والمقصود: أن الله مكنكم من التوصل إلى رحمة الله تعالى وثوابه بالإيمان، فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه؟ وكان هذا جوابا لهم حينما توعدهم صالح عليه السلام بالعذاب إن لم يؤمنوا بالله وحده، فقالوا: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف ٧/ ٧٧].
تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي هلا تطلبون من الله المغفرة وتتوبون إليه من كفركم لكي ترحموا!! لأنه إذا نزل العذاب لم تنفعكم التوبة فكان جوابهم:
وهذا كما قال الله تعالى إخبارا عن قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف ٧/ ١٣١].
وسمي التشاؤم تطيرا من عادة العرب بزجر الطير أي رميه بحجر ونحوه، فإن تحول يمينا تفاءلوا، وسموه السانح، وإن اتجه يسارا تشاءموا وسموه البارح.
قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي قال صالح: شؤمكم وتفاؤلكم وما يصيبكم من شر أو خير هو قدر الله أتاكم به، وهو مكتوب عند الله، والله يجازيكم على ذلك، فهو إن شاء رزقكم، وإن شاء حرمكم. وسمي القضاء والقدر طائرا لسرعة نزوله بالإنسان. وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء ٤/ ٧٨].
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي بل إنكم قوم تختبرون بالطاعة والمعصية، حين أرسلني الله إليكم، فإن أطعتم أجزل الله لكم الثواب، وإن عصيتم حل بكم العقاب. وقال ابن كثير: والظاهر أن المراد بقوله: تُفْتَنُونَ أي تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال. وعلى أي حال، فإن القصد بيان أن سبب نزول الشر بهم هو عصيانهم.
ثم أخبر الله تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم، وعن كون مدينة ثمود مرتع الفساد الكثير فقال:
قالُوا: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي قال بعضهم لبعض في المشاورة بشأن صالح بعد أن عقروا الناقة: احلفوا لنباغتنه وأهله الذين آمنوا معه ليلا، فنقتلنهم، فهذا تحالف على قتل نبي الله صالح عليه السلام ليلا قتل غيلة، ثم تحالفوا على أن يقولوا لأولياء الدم أو القصاص إذا مات: ما حضرنا هلاكهم، ولا ندري من قتلهم، وإنا لصادقون في قولنا، أي إننا لم نحضر هلاك أحد الجانبين وهو أهل صالح، وإن فعلوا الأمرين معا. قال الزمخشري: وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم.
وهذا من الزمخشري على طريقة المعتزلة في أن العقل يدرك الحسن والقبح قبل الشرع، والكذب قبيح عقلا.
وكان تآمرهم على قتل صالح بعد أن توعدهم على عقرهم الناقة فقال لهم:
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود ١١/ ٦٥].
ولكن الله كادهم وأحبط مؤامرتهم وجعل الدائرة عليهم، فقال: وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنا مَكْراً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي ودبروا مؤامرة وكادوا كيدا خفيا، ولكنا جازيناهم وأهلكناهم، وعجلنا لهم العقاب، دون أن يشعروا بمجيئه، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ أي فتأمل أيها الرسول وكل سامع كيف كان مصير تأمرهم أنا أهلكناهم وقومهم جميعا، ولم نبق أحدا منهم إلا الذين آمنوا بصالح عليه السلام.
أما المؤمنون فهم دائما ناجون كما قال سبحانه:
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ أي ونجينا من العذاب صالحا النبي ومن آمن به إذ ساروا إلى بلاد الشام ونزلوا بالرملة من فلسطين لأن الإيمان واتقاء عذاب الله بطاعته سبب دائم للنجاة من عذاب الدنيا والآخرة.
والمقصود تذكير قريش والعرب وتحذيرهم بأنهم إن استمروا في كفرهم وعنادهم عذبوا كما عذّب أمثالهم، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين المصدقين برسالته ينجيهم الله برحمة منه وفضل.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- من البداهة أن ينقسم الناس بعد النبوة إلى فريقين: فريق مؤمن وفريق كافر، وليس هذا شرا، وإنما هو أثر طبيعي من آثار الرسالة النبوية، وهو حجة على الكافرين وليس ذريعة لهم في معاداة الأنبياء.
٢- المخاطبون بالرسالة الإلهية هم المخطئون المقصرون بتفويت فرصة الخير على أنفسهم، لذا قال صالح عليه السلام لقوله: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب، وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب، فكانوا يقولون لفرط الإنكار: ايتنا بالعذاب. وهم لم يدركوا أن الإيمان سبب للرحمة، والكفر سبب للعذاب.
فنهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال فيما رواه أبو داود والحاكم عن أم كرز: «أقرّوا الطير على وكناتها»
أي أعشاشها ولا تنفروها،
وفي رواية: «مكناتها».
ورد صالح على قومه: قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي مصائبكم عند ربكم، وأنتم قوم تمتحنون، وقيل: تعذبون بذنوبكم.
٤- إن قادة السوء ودعاة الكفر من أشد الناس عذابا يوم القيامة، ويضاعف لهم العذاب، لذا خصص القرآن التنديد بتسعة رجال من أبناء مدينة صالح وهي الحجر، وكانوا عظماء المدينة، وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد، ويدعون قومهم إلى الكفر والضلال. وكان قدار بن سالف الذي عقر الناقة أحد هؤلاء التسعة زعماء الاجرام. وزاد من طغيانهم أنهم عقروا الناقة، وتآمروا على قتل نبي الله صالح عليه السلام، فكانوا عتاة قوم صالح، مع أنهم كانوا من أبناء أشرافهم.
٥- إن كل مكر أو تدبير خفي أو مؤامرة دنيئة كالتآمر على قتل نبي، ذو عاقبة سيئة، فلا يحيق المكر السيء إلا بأهله، لذا كان عقاب قبيلة ثمود بسبب كفرهم وطغيانهم التدمير والإهلاك بصيحة جبريل عليه السلام وبإمطار الملائكة عليهم حجارة قاتلة قتلتهم. قال القرطبي: والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد، ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة.
٦- بقيت آثار الدمار شاهدة على سوء أفعال ثمود، فصارت بيوتهم خالية من
٧- نجّى الله الذين آمنوا بصالح لأنهم مؤمنون اتقوا الله وخافوا عذابه، قيل: آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل. وهذا أيضا بشارة بالرحمة والنجاة لأهل الإيمان في الدنيا والآخرة، فاللهم يا ربنا ثبّت علينا الإيمان، والإخلاص في عبادتك، وجنبنا العصيان، فإنا نخاف عذابك، ونجّنا من عذاب الدنيا وأهوال عذاب الآخرة يا أرحم الراحمين.
القصة الرابعة قصة لوط عليه السلام مع قومه
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)
الإعراب:
وَلُوطاً منصوب بفعل مقدر، تقديره: واذكر لوطا، أو أرسلنا لوطا.
البلاغة:
أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ استفهام توبيخي وإنكاري.
المفردات اللغوية:
وَلُوطاً أي واذكر لوطا، أو أرسلنا لوطا، لدلالة: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا في قصة صالح السابقة عليه. إِذْ قالَ بدل مما قبله على تقدير: اذكر، وظرف على تقدير: أرسلنا الْفاحِشَةَ اللواط. وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ تعلمون فحشها، من بصر القلب لأن اقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح، أو يبصر بعضكم بعضا انهماكا في الفاحشة، وإعلانا بها، فتكون أفحش.
المناسبة:
هذه هي القصة الرابعة في هذه السور، لكن تتمتها في بداية الجزء التالي، قصد بها كما قصد بغيرها من القصص السابقة التحذير من مخالفة أوامر الله، واقتراف الفواحش أو المعاصي الكبيرة، لئلا ينزل بالعصاة من العذاب مثل ما نزل بمن قبلهم.
التفسير والبيان:
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟ أي واذكر أيها الرسول لقومك قصة لوط حين أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين فقال منكرا عليهم وموبخا لهم: أتأتون الفاحشة وهي إتيان الذكور دون الإناث، مع علمكم بقبحها، واقتراف القبيح من العالم أشنع من غيره، أو في حال رؤية بعضكم بعضا إذ تأتون في ناديكم المنكر. ثم صرح بما يفعلون بعد الإبهام فقال:
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ هذا تكرار للتوبيخ، أي كيف تقبلون إتيان الرجال من غير النساء، فهذا شذوذ جنسي، وانتكاس للفطرة، وترك لما أحل الله لكم من الاستمتاع بالنساء، والحقيقة أنكم قوم جهلاء سفهاء، لا تعرفون شيئا لا طبعا ولا شرعا، وتجهلون عاقبة هذا الأمر الشنيع، ولا تميزون بين الحسن والقبيح، فتفضلون العمل الشنيع على المباح لكم من النساء. كما قال تعالى في آية أخرى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشعراء ٢٦/ ١٦٥- ١٦٦].
ولا نرى حملة تشنيع على منكر مثل هذه الحملة الشديدة، فقوله الرِّجالَ شذوذ يأباه الحيوان، وقوله: مِنْ دُونِ النِّساءِ انحراف عن الشيء الطبيعي والأفضل، وأنه خطأ بالغ وفعل قبيح، وقوله بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصف ثابت لازم لهم بأنهم يفعلون فعال الجهلاء السفهاء الذين لا يميزون ولا يعقلون الفرق بين الحسن والقبيح.
وإزاء هذه الحملة، وبالرغم من عنفها وقسوتها أجابوا عنها بما لا يصلح أن يكون جوابا مقبولا ولا معقولا في ميزان العقلاء، وهو ما سيأتي في مطلع الجزء التالي.
آمنت بالله انتهى الجزء التاسع عشر
[الجزء العشرون]
[تتمة سورة النمل]تتمة قصة لوط عليه السلام
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
المفردات اللغوية:
آلَ لُوطٍ أهله. يَتَطَهَّرُونَ ينزهون أنفسهم عن أفعالنا. قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أنزلنا عليهم حجارة السجيل، فأهلكتهم. فَساءَ بئس. مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس المطر مطرهم، وهم المنذرون بالعذاب.
التفسير والبيان:
هذه تتمة قصة لوط عليه السلام مع قومه، تتضمن جوابهم عن إنذاره: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي لقد أعلن القوم إصرارهم على تعاطيهم الفاحشة المنكرة، وأجابوا لوطا عليه السلام بعد التشاور فيما بينهم: أخرجوا لوطا وأهله ومن معه من بلدتنا، فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم، ونرتاح من وعظهم وإرشادهم، فإن البلدة بلدتنا، ولوط وجماعته قوم أغراب عنا.
وسبب هذا الإخراج أو الإبعاد:
إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي إنهم يتحرجون من أفعالنا، ولا يقروننا على
فلما عزموا على إخراج لوط وأهله من بلدتهم دمّر الله عليهم، وللكافرين الفاسقين أمثالها، وأنجى الله المؤمنين الصالحين، قال تعالى:
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أي نجينا لوطا ومن آمن معه برسالته من أهله، أما امرأته التي كانت راضية بأفعالهم القبيحة، ومتواطئة معهم، فتدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم، فإنا حكمنا بجعلها من الباقين في العذاب، لأن من رضي بالمنكر وإن لم يفعله فهو مقرّ به، فله جزاء الفاعلين.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي وأنزلنا عليهم حجارة من سجيل وهو الحاصب، فأبادهم وخسف بهم الأرض، فبئس المطر مطر المنذرين بالعذاب الذين قامت عليهم الحجة، ووصلهم الإنذار الإلهي، فخالفوا الرسول وكذبوه، وهمّوا بإخراجه من قريتهم، وتلك هي عاقبة الفاسقين.
فقه الحياة أو الأحكام:
اقتضت عدالة الله تعالى ألا يعذب قوما إلا بعد إنذار، وألا يعجل لهم العقاب إلا بعد نصح وإرشاد وإمهال. وهذا ما فعله نبي الله لوط عليه السلام مع قومه أهل سدوم، فإنه وبخهم وأنكر عليهم بشدة فعلتهم القبيحة الشنيعة التي يعلمون أنها فاحشة، وذلك أعظم تجريما وأكبر إثما ومعصية، ويقال: إنهم كانوا يتعاطون هذه الفاحشة جهارا نهارا، ولا يستترون من بعضهم بعضا، عتوا منهم وتمردا.
ثم صرح لوط عليه السلام بذكر تلك الفعلة الشنيعة، وأعلنها لفرط قبحها
لكن القوم أمعنوا في ضلالهم، وازدادوا غيا في فسقهم، وأصروا على معصيتهم، وتآمروا فيما بينهم على طرد لوط وأهله من قريتهم، قائلين على سبيل الاستهزاء منهم: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يتنزهون عن أدبار الرجال.
فكان مقتضى الرحمة الإلهية أن ينجي الله لوطا وأهله الذين آمنوا برسالته، وتورعوا من التدنس برجس هؤلاء العصاة الفساق، إلا امرأته التي كانت راضية بأفعال قومها القبيحة، أضحت باقية معهم في العذاب.
وكان من مقتضى العدل أن يجازي الله هؤلاء المصرين على العصيان وارتكاب الفاحشة، والذين أنذروا بالعقاب فلم يقبلوا الإنذار، فأنزل الله عليهم من السماء حجارة من سجيل منضود، مسوّمة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد، فأهلكوا جميعا، وما أسوأ ذلك المصير المشؤوم!!
أدلة الوحدانية والقدرة الإلهية
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٤]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)
آللَّهُ خَيْرٌ... مبتدأ وخبر، والأظهر- كما قال ابن الأنباري- أن كلمة خَيْرٌ هنا للمفاضلة، فإنه وإن لم يكن في آلهتهم خير، فهو بناء على اعتقادهم، فإنهم كانوا يعتقدون أن في آلهتهم خيرا. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً بدل من أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ما صلة زائدة، قَلِيلًا صفة مصدر مقدر، أي تذكرا قليلا يذكرون، والمراد به النفي، مثل: قل ما يأتيني، أي لا يأتيني.
البلاغة:
آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ استفهام يقصد به التبكيت والتهكم.
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ استعارة، أي أمام نزول المطر، استعار اليدين للإمام.
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بينهما طباق.
قَراراً أَنْهاراً يُشْرِكُونَ يَعْدِلُونَ يَعْلَمُونَ تَذَكَّرُونَ فيها مراعاة الفواصل، الذي هو من محاسن الكلام.
المفردات اللغوية:
قُلِ أيها الرسول. الْحَمْدُ لِلَّهِ على هلاك الكفار الفجار من الأمم الخالية.
اصْطَفى اختار، والأنبياء هم المصطفون المختارون. خَيْرٌ لمن يعبده. أَمَّا يُشْرِكُونَ أصله أم ما يشركون فأدغم الميمان ببعضهما، وهم أهل مكة الذين يشركون بالله تعالى آلهة أخرى، أي هل شركهم خير لهم؟ وهو تهكم بهم وتسفيه لرأيهم إذ من المعلوم ألا خير أصلا فيما أشركوه، حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير وهو الله. أَمَّنْ أي بل أم من. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع. وَأَنْزَلَ لَكُمْ لأجلكم. فَأَنْبَتْنا فيه
حَدائِقَ بساتين مسورة، جمع حديقة. ذاتَ بَهْجَةٍ حسن ورونق. شَجَرَها شجر الحدائق. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أغيره يقرن به ويجعل له شريكا، وهو المتفرد بالخلق والتكوين؟
يَعْدِلُونَ يميلون أو ينحرفون عن الحق الذي هو التوحيد، فيشركون بالله غيره.
قَراراً مكانا يستقر عليه الإنسان، فلا يميد بأهله. خِلالَها وسطها، وبين جهاتها المختلفة، جمع خلل: أي وسط. رَواسِيَ جبالا ثوابت، ثبّت بها الأرض. بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ بين العذب والمالح، لا يختلط أحدهما بالآخر. حاجِزاً فاصلا بين الشيئين. لا يَعْلَمُونَ الحق، وهو التوحيد، فيشركون به.
الْمُضْطَرَّ الذي أحوجته الشدة إلى اللجوء والضراعة إلى الله، واللام فيه للجنس، لا للاستغراق، فلا يلزم منه إجابة كل مضطر. وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي يرفع السوء عنه وعن غيره. خُلَفاءَ الْأَرْضِ خلفاء فيها، بأن ورّثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم، من الخلافة:
وهي الملك والتسلط، والإضافة بمعنى في، أي يخلف كل قرن القرن الذي قبله. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي خصكم بهذه النعم العامّة والخاصة. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تتعظون، وما زائدة لتقليل القليل، والمراد به العدم أو الحقارة التي لا فائدة منها.
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ يرشدكم إلى مقاصدكم. فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بالنجوم ليلا، وبعلامات الأرض نهارا. والظلمات: ظلمات الليالي، أضافها إلى البر والبحر للملابسة. بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أمام المطر. عَمَّا يُشْرِكُونَ به غيره، فهو تعالى القادر الخالق، المنزه عن مشاركة العاجز المخلوق. يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بداية خلق الإنسان الأول من التراب، وبدء خلق سلالة الإنسان في الأرحام من نطفة. ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت. والكفرة وإن أنكروا الإعادة فهم محجوجون بالبراهين عليها. مِنَ السَّماءِ بالمطر. وَالْأَرْضِ بالنبات. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك؟
الحق أنه لا يفعل شيئا مما ذكر إلا الله، ولا إله معه. بُرْهانَكُمْ حجتكم على أن غيره يقدر على شيء من ذلك. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إشراككم، فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصص أربعة أنبياء مع أقوامهم، وإهلاكهم بسبب شركهم ووثنيتهم، والإدلال على كمال قدرته ونصر رسله على أعدائهم، أمر
التفسير والبيان:
قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بحمد الله وشكره على نعمه على عباده التي لا تعدّ ولا تحصى، وعلى ما اتصف به من الصفات العلا والأسماء الحسنى، وأن يسلّم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لتبليغ رسالته، وهم رسله وأنبياؤه الكرام على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه. وأما كون الخطاب لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم فلأن القرآن منزل عليه، وكل ما فيه فهو مخاطب به صلّى الله عليه وسلم إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره.
ومن تلك النعم نجاة رسله ونصرتهم وتأييدهم، وإهلاك أعدائه.
ونظير الآية قوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصافات ٣٧/ ١٨٠- ١٨٢].
وهذا تعليم لنا بأن نحمد الله تعالى على جميع أفعاله، ونسلّم على عباده المصطفين الأخيار.
آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أي هل الله الذي يتصف بالعظمة والقدرة التامة خير أم ما يشركون به من الأصنام؟ وهذا استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى، وتبكيت لهم، وتهكم بحالهم لإيثارهم عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى. والمقصود به التنبيه على نهاية ضلالهم وجهلهم، علما بأنه لا خير أصلا فيما أشركوه حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما كانت الموازنة بحسب اعتقادهم وجود منفعة في آلهتهم المزعومة.
ثم انتقل من التوبيخ والتبكيت إجمالا إلى الرد المفصل على عبدة الأوثان ببيان الأدلة على أنه تعالى إله واحد لا شريك له، قادر على كل شيء لأنه الخالق لأصول النعم وفروعها، فكيف تصح عبادة ما لا منفعة منه أصلا؟ وتلك الأدلة أنواع:
١- ما يتعلق بالسموات: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ، ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي أعبادة الأوثان التي لا تضر ولا تنفع خير أم عبادة من خلق السموات في ارتفاعها وصفائها، وما جعل فيها من كواكب نيّرة ونجوم زاهرة وأفلاك دائرة، وخلق الأرض الصالحة للحياة الهادئة، وجعل فيها الجبال والسهول، والأنهار والوديان، والزروع والأشجار، والثمار والبحار، والحيوانات المختلفة الأصناف والأشكال والألوان، وأنزل لأجل عباده من السماء مطرا جعله رزقا لهم، فأنبت به بساتين ذات بهجة ونضارة، وشكل حسن ومنظر بهي، ولولاه ما حصل الإنبات، ولم تكونوا تقدرون على إنبات الأشجار والزروع.
فهو المنفرد بالخلق والرزق، فهل يصح بعدئذ وجود إله مع الله يعبد؟ كما قال تعالى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [المؤمنون ٢٣/ ٩١].
بل هؤلاء المشركون قوم يميلون عن الحق إلى الباطل، وينحرفون عن جادة الصواب، فيجعلون لله عدلا ونظيرا.
ونظير الآية كثير مثل: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل ١٦/ ١٧] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف ٤٣/ ٨٧] ونحو
هذا.. وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أم في أَمَّنْ وأم في أَمَّا يُشْرِكُونَ وهو أن أَمَّا متصلة لأن المعنى أيهما خير، وفي أَمَّنْ منقطعة بمعنى «بل».
٢- ما يتعلق بالأرض: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ، وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي أعبادة الأوثان العديمة النفع والضرر خير أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرا للإنسان وغيره، لا تميد ولا تتحرك بأهلها، وجعل فيها الأنهار العذبة الطيبة لسقاية الإنسان والحيوان والنبات، وجعل فيها جبالا ثوابت شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بكم، وجعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزا، أي مانعا يمنعها من الاختلاط، لئلا يفسد هذا بذاك، لتبقى الغاية من التفرقة بينهما متحققة، فإن الماء العذب الزلال لسقي الإنسان والحيوان والنبات والثمار، والماء المالح في البحار ليكون مصدرا للأمطار، وليبقى الهواء فوقه نقيا صافيا لا يفسد بالرائحة الكريهة التي تحدث عادة في تجمعات المياه العذبة.
أيوجد إله مع الله فعل هذا وأبدع هذه الكائنات؟! بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الحق فيتبعونه، ولا يعرفون قدر عظمة الإله المستحق للعبادة.
ونظير الجزء الأول من الآية: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً [غافر ٤٠/ ٦٤] ونظير آية حاجز البحرين: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان ٢٥/ ٥٣].
أيعقل وجود إله مع الله بعد هذا؟ وهل يقدر أحد على ذلك غير الله المتفرد بهذه الأفعال؟ ولكن ما أقل تذكركم نعم الله عليكم، ومن يرشدكم إلى الحق ويهديكم إلى الصراط المستقيم.
٤- ما يتصل باحتياج الخلق إلى الله تعالى في وقت خاص: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي أتلك الآلهة التائهة خير أم من يرشدكم في أثناء الظلمات البرية أو البحرية إذا ضللتم الطريق بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية، كما قال تعالى: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل ١٦/ ١٦] وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام ٦/ ٩٧].
ومن يرسل الرياح مبشرات أمام نزول الغيث الذي يحيي به الأرض بعد موتها، أيكون هناك إله مع الله فعل هذا؟ تنزه الله المتفرد بالألوهية المتصف بصفات الكمال عن شرك المشركين الذين يعبدون مع الله إلها آخر؟! ٥- ما له صلة بإبداع الخلق والحشر والنشر: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ،
أي أتلك الآلهة العاجزة خير، أم الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق من غير مثال سبق، ثم يميته، ثم يعيده إلى الحياة الأولى مرة أخرى، كما قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج ٨٥/ ١٣] وقال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧] وهو الذي يرزقكم بما ينزّل من السماء من أمطار، وبما ينبت من بركات الأرض.
أيوجد إله آخر فعل هذا مع الله حتى يتخذ شريكا له؟ قل لهم أيها الرسول: قدّموا برهانكم على صحة ما تدّعون من عبادة آلهة أخرى إن كنتم صادقين في ذلك مع أنفسكم ومع غيركم. والواقع أنه لا حجة لهم ولا برهان يقبله عاقل، كما قال تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١١٧].
قال أبو حيان: ناسب ختم كل استفهام بما تقدمه، فلما ذكر العالم العلوي والسفلي وما امتنّ به من إنزال المطر وإنبات الحدائق، ختمه بقوله: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي عن عبادته أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق، فلا يعبد إلا موجد العالم، ولما ذكر جعل الأرض مستقرا وتفجير الأنهار وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيها على ضرورة تعقل ذلك والتفكر فيه، ختمه بقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. ولما ذكر إجابة دعاء المضطر وكشف السوء واستخلافهم في الأرض ختمه بقوله: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره، ولما ذكر الهداية في الظلمات وإرسال الرياح مبشرات، ومعبوداتهم لا تهدي وهم يشركون بها، ختمه بقوله: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى «١».
تضمنت هذه الآيات الأدلة على إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته الشاملة، وتتلخص هذه الأدلة بالخلق والإيجاد، والتفرد في دفع الضرر، وجلب النفع والخير، والقدرة على الحشر والنشر، ويتجلى ذلك فيما يأتي:
١- إهلاك كفار الأمم الخالية جميعا لإصرارهم على الشرك والوثنية وارتكابهم كبائر المعاصي وعظائم الفواحش.
وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى تعليم وإرشاد إلى حمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية الذين زرعوا الشرك والمعصية في ديارهم، مما يجب التخلص منهم، وفي هذا عبرة وعظة.
ويؤخذ من ذلك الاستفتاح بالتحميد لله والسلام على الأنبياء والمصطفين من عباده، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ جيلا عن جيل هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في فواتح الأمور المفيدة وفي المواعظ والخطب.
٢- قوله سبحانه: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ تبكيت للمشركين وتوبيخ وتهكم على حالهم وضلالهم، لإيثارهم عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى.
٣- الله تعالى هو خالق السموات والأرض، ومنزل المطر، ومنبت الشجر والزرع والثمر في الحدائق الغنّاء ذات الأنواع والأشكال والألوان المختلفة، والمناظر الجميلة الرائعة الحسن والبهاء، فيكون قطعا هو المستحق للعبادة دون غيره لأنه لا يتهيأ للبشر ولا لغيرهم ولا يتيسر لهم ولا يمكنهم أن يخلقوا شيئا مما ذكر، فهم عجزة عن مثل ذلك.
٤- قال القرطبي في قوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها:
ويعضده
ما رواه مسلم في صحيحة من حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبّة، أو ليخلقوا شعيرة».
وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح يجوز، كما يجوز الاكتساب به أخرج مسلم أيضا أن ابن عباس قال للذي سأله أن يصنع الصور: إن كنت لا بد فاعلا، فاصنع الشجر وما لا نفس له.
٥- الله عز وجل هو الذي جعل كرة الأرض اليابسة صالحة للحياة، بجعلها قارّة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها، وزودها بالهواء الذي لا تمكن الحياة بدونه، وجعل فيها الأنهار للسقي، والجبال الثوابت لتمسكها وتمنعها من الحركة، وجعل بين البحرين: العذب والمالح مانعا من قدرته، لئلا يختلط الأجاج بالعذب.
إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غير الله، فلم يعبد المشركون ما لا يضر ولا ينفع؟ ولكن أكثرهم يجهلون الله، فلا يعلمون ما يجب له من الوحدانية.
٦- الله تعالى وحده مصدر الرحمة الذي يدفع الضرر، فيجيب دعاء المضطر (وهو ذو الضرورة المجهود) ويكشف السوء (الضر) ويجعل الناس خلفاء الأرض أي سكانها جيلا بعد جيل، فيموت قوم وينشئ الله آخرين، أمع الله ويلكم أيها الناس إله؟ ولكنكم تتذكرون تذكرا قليلا نعم الله عليكم، والمراد نفي التذكر، والقلة تستعمل في معنى النفي.
وهذا دليل على أن الله تعالى ضمن إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، لأن التضرع إليه ينشأ عن الإخلاص، وعدم تعلق القلب بسواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمّة، سواء وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو
وفي الحديث الصحيح: «ثلاث دعوات مستجابات، لا شكّ فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده»
وفي صحيح مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما وجّهه إلى أرض اليمن: «واتق دعوة المظلوم، فليس بينها وبين الله حجاب».
٧- الله تعالى وحده مصدر الخير والنفع، فهو الذي يرشد الطريق في ظلمات البر والبحر حال السفر إلى البلاد البعيدة، وهو الذي يرسل الرياح مبشرات قدام المطر، فهل يوجد إله مع الله يفعل ذلك ويعينه عليه؟ تنزه الله عما يشرك به المشركون من دونه.
٨- الله الذي يقرّ المشركون أنه الخالق الرازق هو الذي يعيد الخلق يوم القيامة إلى الحياة الجديدة لأن من قدر على ابتداء الخلق فهو قادر حتما على الإعادة، وهو أهون عليه، أيوجد إله مع الله يخلق ويرزق ويبدئ الخلق ويعيده؟ فيا أيها المشركون مع الله إلها آخر، قدّموا حجتكم أن لي شريكا، أو حجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله، إن كنتم صادقين مع أنفسكم في ادعاء أن له شريكا.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦)
الإعراب:
الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ اللَّهُ: بدل مرفوع من «من» لأنه استثناء من منفي.
بَلِ ادَّارَكَ أي تتابع، وأصله «تدارك» فأبدل من التاء دالا، وأدغم الدال في الدال.
وقرئ «ادّرك» أي تناهي علمهم وكمل في أمر الآخرة.
فِي الْآخِرَةِ فِي بمعنى الباء، والمضاف محذوف، أي بل ادّرك علمهم بحدوث الآخرة، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي من حدوثها.
عَمُونَ أصله «عميون» فاستثقلت الضمة على الياء، فنقلت إلى ما قبلها، فسكنت الياء، والواو بعدها ساكنة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وكان حذفها أولى من حذف واو الجمع، لأن واو الجمع دخلت لمعنى، وهي لم تدخل لمعنى، فكان حذفها أولى.
البلاغة:
بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ استعارة، استعار العمى للتعامي عن الحق، وعدم التفكر في أدلة إثباتها.
المفردات اللغوية:
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة والناس الْغَيْبَ ما غاب عنهم إِلَّا اللَّهُ لكن الله يعلمه، فالاستثناء منقطع وَما يَشْعُرُونَ أي كفار مكة وغيرهم أَيَّانَ أي متى يُبْعَثُونَ ينشرون، أي يخرجون من القبور للحساب والجزاء بَلِ أي هل ادَّارَكَ تتابع وتلاحق واستحكم، وقرئ: «ادّرك» بوزن أكرم، أي انتهى علمهم وتكامل. والمراد أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والبينات على أن القيامة كائنة لا محالة، لا يعلمونه كما
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنه المختص بالقدرة التامة الفائقة العامة، أتبعه بما هو أيضا من لوازم الألوهية وهو أنه المختص بعلم الغيب، فثبت أنه هو الإله المعبود لأن الإله هو المتمكن من المجازاة لأهل الثواب والعقاب.
التفسير والبيان:
قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ أي قل أيها الرسول لجميع الخلق: لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله.
فقوله: إِلَّا اللَّهُ استثناء منقطع، أي لا يعلم أحد ذلك إلا الله عز وجل، فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له، كما قال: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام ٦/ ٥٩] وقال: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان ٣١/ ٣٤].
روى مسلم وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أن النبي صلّى الله عليه وسلم يعلم ما يكون في غد، فقد أعظم الفرية على الله لأن الله يقول: قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ.
ولما نفى عنهم علم الغيب على العموم، نفى عنهم علم الغيب المخصوص بوقت الساعة فصار منتفيا مرتين، فقال:
وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي وما يدري أهل السموات والأرض بوقت
ثم أكد الله تعالى جهلهم بيوم القيامة فقال:
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي بل انتهى علمهم بالآخرة، وعجز عن معرفة وقت حدوثها، والمراد: أن ما توصلوا إليه من أدلة إثبات الآخرة تلاشى شيئا فشيئا، حتى لم يعد لها قيمة ذات بال.
ثم وصفهم بالحيرة في الآخرة فقال:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي بل الكافرون (أي جنسهم) في حيرة شديدة من تحقق الآخرة ووجودها، أي شاكون في وجودها ووقوعها، كما قال تعالى:
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
[الكهف ١٨/ ٤٨] أي أن لن نجعل للكافرين منكم:
ثم وصفهم الله بالتعامي عن التفكر والتدبر في أمر الآخرة، فقال:
بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ أي بل هم في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها، لا يفكرون فيها في أعماق نفوسهم، فهم عمي البصيرة لا البصر، وهذا أسوأ حالا من الشك.
قال أبو حيان: هذه الإضرابات الثلاثة ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، فلذلك عدّاه بمن دون «عن» «١».
أرشدت الآيات إلى أنه لا يعلم أحد الغيب إلا الله، فذلك مما اختص الله به، فيكون هو الإله المستحق للعبادة.
ودلت على أن الكفار وغيرهم لا يشعرون بوقت القيامة حتى تأتيهم فجأة، وعلى أن علمهم بأدلة إثباتها معدوم، فهم جهلة بها ولا علم لهم فيها، وهم أيضا في شك منها في الدنيا وفي حيرة شديدة من شأن وجودها، وقلوبهم عمياء عن إدراكها وعما يوصل إلى الحق في شأنها.
إنكار المشركين البعث
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٧ الى ٧٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)
الإعراب:
رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم، واللام زائدة، كاللام في قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ أي بوأنا إبراهيم.
أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ استفهام إنكاري، وتكرار همزة أَإِنَّا للمبالغة في التعجب والإنكار.
قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وعيد وتهديد.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ تأكيد بإن، واللام لترسيخ المعنى.
ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ بين تُكِنُّ أي تخفي ويُعْلِنُونَ طباق.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قالوا أيضا في إنكار البعث بعد بيان عماهم عن الآخرة.
لَمُخْرَجُونَ من القبور أو من حال الفناء إلى الحياة. إِنْ هذا ما هذا. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيب الأقدمين، جمع أسطورة: وهي ما سطره الأقدمون من خرافات وأحاديث. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي هلاكهم بالعذاب لإنكارهم البعث.
ضَيْقٍ في ضيق صدر. مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم، أي فإن الله يعصمك من الناس، وهذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم، أي لا تهتم بمكرهم وتآمرهم عليك، فإنا ناصروك عليهم. مَتى هذَا الْوَعْدُ أي العذاب الموعود، أو الوعد بالعذاب. رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم بمعنى تبعكم ولحقكم.
بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي أصابهم بعض العذاب وهو القتل ببدر، وباقي العذاب يأتيهم بعد الموت.
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي ومنه تأخير العذاب عن الكفار. لا يَشْكُرُونَ نعم الله عليهم ومنه تأخير العذاب لإنكارهم وقوعه. تُكِنُّ صُدُورُهُمْ تخفيه. وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم. غائِبَةٍ التاء المربوطة أو الهاء للمبالغة، والمعنى: أيّ شيء في غاية الخفاء على الناس، كالتاء في علّامة ونسابة، والأصل: غائب. إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بيّن، وهو اللوح المحفوظ، فكل شيء يعلمه الله قديما، ومنه تعذيب الكفار.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى جهل الكفار بالآخرة، أردفه بما قالوا عنها، مما يدل على إنكارهم لها. وأما مناسبة هذه الآيات لجملة السورة فهي أنه تعالى لما تكلم في حال مبدأ الخلق، تكلم بعده في حال المعاد لأن الشك في المعاد لا ينشأ إلا من
التفسير والبيان:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا، أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ أي وقال المشركون منكرو البعث، الذين كفروا بالله وكذبوا رسله: أنخرج من قبورنا أحياء، بعد مماتنا، وبعد أن بليت أجسادنا وصارت ترابا؟ فهذا حكاية لاستبعادهم إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظاما ورفاتا وترابا.
لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي ما زلنا نسمع كثيرا بهذا نحن وآباؤنا، ولا نلمس له حقيقة ولا وقوعا ولم نر قيام أحد بعد موته، والمراد أن هذا تاريخ غابر محكي، أكل عليه الدهر وشرب.
إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الوعد بإعادة الأبدان إلا أسطورة، أي خرافة وأكذوبة، يتناقلها الناس عن بعضهم، وليس لها حقيقة، ولم يقم عليها دليل مقبول.
ثم أرشدهم الله تعالى إلى الصواب في ذلك وعما ظنوا من الكفر وعدم المعاد بصيغة الوعيد والتهديد، فقال: قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي قل لهم أيها الرسول: سيروا في أرض الحجاز والشام واليمن وغيرها، فانظروا مصير من سبقكم من المكذبين، إنهم اغتروا بدنياهم، وفتنوا بزخارفها، وكذبوا رسلهم، وأنكروا وجود البعث، فأهلكهم الله بذنوبهم، وبقيت ديارهم آثارا شاهدة عليهم للعبرة والعظة، ونجى الله رسله ومن اتبعهم من المؤمنين، فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته من الإيمان بالله
ثم سلّى الله نبيه صلّى الله عليه وسلم عن إعراضهم عن قوله ورسالته فقال: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي ولا تحزن يا محمد على إعراض هؤلاء المكذبين عن رسالتك، ولا تكن ضيق الصدر حزينا مكروبا مهموما من كيدهم وتآمرهم عليك، فإن الله مؤيدك وناصرك وعاصمك من الناس، ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق والمغارب.
ثم حكى الله تعالى إنكارا آخر من الكفار غير الساعة، وهو إنكار عذاب الله، فقال: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي يقول هؤلاء المشركون في مكة وغيرهم في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك: متى وقت هذا العذاب الذي تعدنا به، إن كنتم أيها الرسول والمؤمنون به صادقين في ادعائكم وقولكم؟ يقولون ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء.
فأجابهم الله تعالى بقوله:
قُلْ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي قل لهم يا محمد: عسى أن يكون ردفكم أي لحقكم وتبعكم واقترب منكم بعض ما تستعجلون وقوعه من العذاب، وهو القتل والعذاب والنكال يوم بدر. فقوله: رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم واللام زائدة، وقال ابن كثير: وإنما دخلت اللام في قوله:
رَدِفَ لَكُمْ لأنه ضمن معنى: عجل لكم، كما قال مجاهد في تفسير ذلك.
قال الزمخشري: عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجدّه، وما لا مجال للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجّلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أن عدوهم لا يفوتهم،
ثم ذكر تعالى سبب تأخير العقاب، فقال:
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي وإن الله لهو المنعم المتفضل على الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم حيث يسبغ إنعامه عليهم في الدنيا، مع ظلمهم لأنفسهم، ويترك معاجلتهم بالعقوبة على كفرهم ومعاصيهم، ولكنهم مع ذلك كله لا يشكره أكثرهم على فضله، ولا يشكره إلا القليل منهم.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أي وإن ربك ليعلم الضمائر والسرائر، كما يعلم الظواهر، كما قال: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الرعد ١٣/ ١٠] وقال: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه ٢٠/ ٧] والمراد أنه تعالى عالم بمكائد المشركين للرسول، وسيجازيهم على ذلك.
ثم أبان الله تعالى حقيقة شاخصة عامة وهي أن كل ما في الكون محفوظ في اللوح المحفوظ، فقال:
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي وما من شيء غائب مخفي في السموات والأرضين إلا وهو موجود معلوم محفوظ في اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه الله تعالى كل ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه، وعالم غيب السموات والأرض من أمر الخلائق قاطبة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج ٢٢/ ٧٠] وقال حكاية عن لقمان: يا بُنَيَّ، إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- تكرر في القرآن الكريم حكاية إنكار المشركين البعث، فهم يعدّونه من خرافات الأقدمين المتوارثة، وكانت الأنبياء يقرّبون أمر البعث مبالغة في التحذير، وكل ما هو آت قريب.
٢- وبما أن واقعة البعث أمر غيبي يحدث في المستقبل، فإن الله تعالى أجاب المنكرين له بالنظر في مصير المكذبين لرسلهم، المنكرين وقوع البعث، نظرة تأمل في القلوب والبصائر في بلاد الشام والحجاز واليمن وغيرها، هل دام لهم العز والسلطان، أم دمّر الله ديارهم بسبب كفرهم؟.
٣- كانت درجة إحساس النبي صلّى الله عليه وسلم عالية جدا، ومرهفة إرهافا مفرطا، فتألم وحزن لإعراض قومه عنه، فسرّى عنه القرآن همومه، ونهاه عن حمل الهموم والأحزان على كفار مكة إن لم يؤمنوا، كما نهاه عن الضيق أي الحرج من مكرهم وتدبيرهم وقولهم: متى أو أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا؟
٤- أجابهم الحق تعالى عن استبطاء نزول العذاب بالترهيب مرة وبالترغيب مرة أخرى، فأنذرهم بأن بعض عذابهم قد اقترب منهم ودنا من ساحتهم، وذلك في أول لقاء عسكري فاصل بينهم وبين المؤمنين في موقعة بدر، فيقتل رؤساؤهم ويؤسر أشرافهم، ورغّبهم بالتوبة والإيمان، وذكّرهم بفضله سبحانه على الناس في تأخير العقوبة وإدرار الرزق، ولكن أكثرهم لا يشكرون فضله ونعمه.
٥- وأبان لهم أن مصير خططهم ومؤامراتهم إلى الخيبة والفشل، فإن الله يعلم
إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٦ الى ٨١]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
البلاغة:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ: في هذا الفعل المضارع استعارة تبعية، استعار ما يتكلم به الإنسان الناطق إلى القرآن، لتضمنه نبأ الأولين، فكان كالإنسان الذي يقصّ على الناس الأخبار.
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة على وزن فعيل.
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ بِهادِي الْعُمْيِ استعارة تمثيلية، فقد عبر بالموتى والصم والعمي تمثيلا لأحوال الكفار في عدم انتفاعهم بالإيمان بأنهم كالموتى والصم والعمي.
يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ الموجودين في زمان نبينا أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي يخبرهم بأكثر نواحي الاختلاف كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزير والمسيح لَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ من العذاب وخص بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به يَقْضِي بَيْنَهُمْ يفصل بين بني إسرائيل كغيرهم يوم القيامة بِحُكْمِهِ بما هو حكمه الذي هو الحق والعدل وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب، فلا يرد قضاؤه الْعَلِيمُ بحقيقة ما يقضي فيه، فلا معقب لحكمه.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به، ولا تبال بمعاداتهم إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الدين البيّن، وصاحب الحق جدير بالثقة بنصر الله وحفظه، فإنه سينصرك على الكفار إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ تعليل آخر للأمر بالتوكل، من حيث إنه يقطع الأمل بمتابعتهم ومعاضدتهم، فضرب أمثالا لهم بالموتى وبالصم وبالعمي، لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم، ولا برؤية ما يرشدهم إلى الإيمان مُدْبِرِينَ راجعين فارّين هاربين لأن إسماعهم في هذه الحال أبعد.
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ لأن الهداية لا تحصل إلا بالصبر إِنْ تُسْمِعُ أي ما يجدي إسماعك سماع فهم وقبول إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يصدق بالقرآن فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون بتوحيد الله.
المناسبة:
بعد أن أتمّ الله تعالى الكلام في إثبات المبدأ والمعاد بالأدلة الكونية، الحسية والعقلية، أعقب ذلك بإثبات النبوة بأدلة أعظمها القرآن الكريم المشتمل على المعجزات، وإذا كان معجزا دل على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم فيما يدعيه.
التفسير والبيان:
إن الكتاب الذي أورد الأدلة على إثبات صفات الكمال لله تعالى، وإثبات البعث لإقامة العدل بين الخلائق بالثواب والعقاب، وهما أصلان للدين، هو هذا القرآن المتضمن وجوه الإعجاز التالية:
١- الإخبار عن قصص الأنبياء المتقدمين: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن هذا القرآن العزيز يخبر بني
٢- إثبات التوحيد والبعث والنبوة وأحكام التشريع بدلائل عقلية:
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن هذا القرآن لهاد للمؤمنين إلى طريق الرشاد، ورحمة لهم في الأحكام التشريعية المتعلقة بالعقيدة، كالتوحيد والحشر والنبوة وصفات الله الحسنى، والمتعلقة بالأحكام العملية الملائمة لحاجات البشر وتحقيق مصالحهم في الدنيا والآخرة.
وهو أيضا هدى ورحمة للمؤمنين لبلوغه غاية الفصاحة والبلاغة حتى عجزت البشر عن معارضته، فدل على إعجازه، وخروجه عن طاقتهم، وأنه وحي منزل من إله حكيم حميد قدير. وخص المؤمنين في الآية لأنهم المنتفعون به.
وبعد بيان خصائص إعجاز القرآن الدالة على صدق الرسالة النبوية أتبعه بذكر أمرين:
الأول- إقامة الدليل على عدل الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي إن ربك الذي يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يقضي بين المصيب والمخطئ منهم بحكمه العادل، وهو القوي القادر على الانتقام من المبطل منهم، ومكافأة المحسن منهم، فلا يرد قضاؤه، العليم بأفعال عباده وأقوالهم، فيقضي بالصواب المطابق للواقع لأنه العليم بمن يقضي له وبمن يقضي عليه.
الثاني- أمر النبي بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أي ثق بالله واعتمد عليه وفوض جميع أمورك إليه، وبلّغ رسالة ربك، ولا تلتفت إلى أعداء الله، فإنك أنت على الحق الواضح، وإن خالفك فيه من خالفك من أهل الشقاء. وهذه هي العلة الأولى للتوكل على الله، ثم علل ذلك بعلة أخرى فقال:
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أي إنك لا تستطيع أن تسمعهم شيئا ينفعهم، فهم حين توليهم مدبرين معرضين عنك كالموتى لا يتأثرون بما يتلى عليهم ولا يفهمونه، وكالصم الذين لا أمل في سماعهم فلا يسمعون بحال، وكالعمي الذين لا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء أصلا لأن على قلوبهم غشاوة، وفي آذانهم وقر الكفر، وفي نفوسهم استعلاء واستكبارا عن الرضوخ للحق. وفي هذه العلة الثانية قطع طمع النبي عن الكفار، فيقوى قلبه على إظهار مخالفة أعداء الله، بأن بيّن له أنهم كالموتى وكالصم وكالعمي، فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، ولأن الإنسان ما دام يطمع في أن يأخذ من أحد شيئا، فإنه لا يجرأ على مخالفته.
وهذا سبب قوة قلبه عليه الصلاة والسلام على إظهار الدين كما ينبغي.
ومعنى قوله: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ تأكيد لحال الأصم لأنه إذا تباعد وأدبر عن الداعي كان أبعد عن إدراك صوته.
والخلاصة: إنه تعالى أمر رسوله بالتوكل عليه والإعراض عما سواه لأنه على الحق المبين، وغيره على الباطل، ولأنه لا أمل ولا مطمع في مساندة المشركين، ولا في استجابتهم لدعوة الحق.
ثبت في صحيح البخاري ومسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم خاطب القتلى في قليب (بئر) بدر، فقيل له: يا رسول الله، إنما تكلّم أجسادا لا أرواح لها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».
ثم أكد الله تعالى ما سبق فقال:
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي وما أنت أيها الرسول بمستطيع أن تهدي العمي عن ضلالتهم، أي تردهم عن الضلال بالهدى لأن على أبصارهم غشاوة تمنعهم عن النظر فيما أتيت به نظرا مؤديا إلى الحق، وما يجدي إسماعك إلا الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته، أي يصدقون بها، فهم مسلمون مخلصون التوحيد لله، خاضعون لله، ولا يستجيب لك إلا من هو مبصر القلب، يستخدم سمعه وبصره في إدراك الأمور على وجهها الصحيح، مستعد لقبول الحق، فهذا هو المسلم الذي أسلم وجهه لله، يعني جعله سالما لله تعالى خالصا له.
فقه الحياة أو الأحكام:
يثبت الله تعالى بهذه الآيات صدق النبوة وصحة رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وذلك بالقرآن الذي أنزله على قلب نبيه، مشتملا على وجوه عديدة من الإعجاز.
منها: أنه يبين لبني إسرائيل الموجودين حال نزوله ما اختلفوا فيه، لو أخذوا به، وذلك ما حرّفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام.
ثم ذكر الله تعالى دليل عدله، فهو سبحانه يقضي بين بني إسرائيل وغيرهم فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل، وهو العزيز أي المنيع الغالب الذي لا يردّ أمره، العليم الذي لا يخفى عليه شيء.
ثم أمر الله تعالى نبيه بالتوكل على الله، أي تفويض أمره إليه واعتماده عليه، فإنه ناصره، لأنه على الحق المبين، أي الظاهر، ولأن هؤلاء الكفار أشبه بالموتى لتركهم التدبر، فلا حسّ لهم ولا عقل، وبمنزلة الصم عن قبول المواعظ، فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولّوا كأنهم لا يسمعون، وكالعميان الذين لا يميزون طريقهم، فهم تائهون حائرون، كما قال سبحانه: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة ٢/ ١٧١].
ثم ذكر الله تعالى قاعدة عامة في مسيرة الدعوة للنبي صلّى الله عليه وسلم بقوله:
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم، وما تسمع إلا المستعد لقبول الحق، المهيأ للإيمان بآيات الله، المخلوق للسعادة، فهم مخلصون في التوحيد. أما الكافر المعاند المعرض عن آيات ربه فلا أمل في إيمانه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يونس ١٠/ ٩٦- ٩٨].
- ١- إخراج دابة الأرض وحشر الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله أمام ربهم
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)
الإعراب:
أَنَّ النَّاسَ أَنَّ بالفتح: إما في موضع نصب مفعول به ل تُكَلِّمُهُمْ أي تخبرهم، أي تخبرهم أن الناس، وإما في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، أي تكلمهم بأن الناس، وبِآياتِنا في موضع نصب متعلق ب يُوقِنُونَ أي كانوا لا يوقنون بآياتنا. ومن قرأ بالكسر: «إن» فعلى الابتداء والاستئناف.
البلاغة:
أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه أسلوب التوبيخ والتأنيب.
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً فيه ما يسمى في علم البديع بالاحتباك، وهو أن يحذف من أوله ما أثبت في آخره وبالعكس، وبيانه هنا: جعلنا الليل مظلما
المفردات اللغوية:
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي إذا دنا أو قرب وقوع معنى القول وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب الذي ينزل بالكفار أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ كائنا حيا يدب على الأرض، وهو الجسّاسة تُكَلِّمُهُمْ تنبئهم وتخبرهم أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي أن أكثر الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله الدالة على مجيء الساعة، والله أعلم بحقيقة تلك الدابة، ولعلها إنسان عادي، والمهم الإخبار عن تكذيب الجم الغفير من الناس بوقوع القيامة.
وَيَوْمَ أي واذكر يوم القيامة نَحْشُرُ نجمع مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من للتبعيض فَوْجاً جماعة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا من للتبيين، وهم الرؤساء المتبعون يُوزَعُونَ يجمعون بمنع أولهم وإيقافه من أجل آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف المناقشة والحساب حَتَّى إِذا جاؤُ مكان الحساب أو المحشر قالَ تعالى لهم أَكَذَّبْتُمْ أنبيائي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً
الواو للحال، أي أكذبتم بآياتي بادي الرأي، ولم تتأملوا بحقيقتها، ولم تنظروا نظرا يحيط علمكم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب، فمعنى: لم تحيطوا بها علما: لم تدركوا حقيقة كنهها. والواو للعطف، أي أجمعتم بين التكذيب بها وعدم إلقاء الأذهان لتحققها؟ أي النظرة السطحية لها أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك، وهو استفهام للتبكيت، إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل، وأما: فيه إدغام «ما» الاستفهامية ب «ذا» الموصول، أي ما الذي كنتم تعملون فيما أمرتم به؟
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ حلّ بهم العذاب، وهو كبّهم في النار بعد ذلك بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم، وهو الشرك والتكذيب بآيات الله فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ باعتذار إذ لا حجة لهم أَلَمْ يَرَوْا ألم يعلموا أَنَّا جَعَلْنَا خلقنا لِيَسْكُنُوا فِيهِ ليستريحوا فيه ويهدأوا مُبْصِراً يبصر فيه بضوئه أسباب المعيشة ليتصرفوا فيه، وجعل الإبصار للنهار وهو لأهله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات على قدرة الله تعالى، وهي تدل على الأمور الثلاثة: التوحيد والحشر وبعثة الرسل لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصوا بالذكر لانتفاعهم بها في الإيمان لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص لا يكون إلا بقدرة قاهرة، وإن من قدر على إبدال الظلمة بالنور من مادة واحدة قدر على إبدال الموت بالحياة من مواد الأبدان.
بعد أن أبان الله تعالى الدلائل على كمال قدرته وكمال علمه، وفرع على ذلك القول بإمكان البعث والحشر والنشر، ثم أوضح كون القرآن معجزا، ونبّه بإعجازه على إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، أردف ما سبق ببيان مقدمات قيام القيامة، وهي إما كالعلامة للقيامة كإخراج دابة الأرض، وإما أن تقع عند قيام القيامة كنفخ الصور.
وإنما أخر تعالى الكلام عن علامات القيامة عن إثبات النبوة، لأن هذه الأشياء لا يمكن معرفتها إلا بقول النبي الصادق.
التفسير والبيان:
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي أنه في آخر الزمان عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، واستحقاقهم العذاب الموعود به، وذلك قرب مجيء الساعة، يخرج الله للناس دابة من الأرض تحدثهم أن أكثر الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون.
ولعل تلك الدابة هي إنسان كما قال بعض المفسرين الجدد لوصفها بالكلام ولأن كل ما يدب على الأرض فهو دابة.
وسميت تلك الدابة في الآثار بالجسّاسة، وورد في شأنها أحاديث آحاد، منها
ما رواه مسلم وأهل السنن عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غرفة، ونحن نتذاكر أمر الساعة، فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاثة
وأما موضع خروجها فهو:
سئل النبي صلّى الله عليه وسلم: من أين تخرج الدابة؟ فقال:
«من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى، يعني المسجد الحرام» «١».
وبعد ذكر العلامة الأولى لقيام الساعة ذكر تعالى العلامة الثانية وهي:
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً، مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا، فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ: أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً، أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ويوم نجمع يوم القيامة جماعة من رؤساء كل أمة من الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله، ونحبس أولهم على آخرهم، ليجتمعوا في موقف الحشر والحساب، حتى إذا جمعوا ووقفوا بين يدي الله عز وجل للحساب والنقاش، فيقول الله لهم توبيخا وتبكيتا: أكذبتم بآياتي الدالة على لقاء هذا اليوم، غير ناظرين بما يحيطكم علما بحقيقة الآيات، وإذا لم تتأملوا فيها، فبماذا كنتم تشغلون أنفسكم أو تعملون فيها من تصديق أو تكذيب؟! فقوله: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بمعنى: بل ماذا كنتم تعملون؟! وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا، فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أي وحينئذ يحل العذاب بأولئك المكذبين بآيات الله بسبب ظلمهم، أي تكذيبهم وكفرهم، فيشغلهم عن النطق والاعتذار، كما قال تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [المرسلات ٧٧/ ٣٥].
ثم ذكر الله تعالى دليل التوحيد والحشر والنبوة، فقال:
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي ألم يعلم هؤلاء المكذبون بآياتنا أنا خلقنا الليل للسكن والنوم
فمن تأمل في تعاقب الليل والنهار والانتقال من حال شبيهة بالموت إلى حال الحركة والحياة، أدرك أن القيامة كائنة لا محالة، وأن الله سيبعث من في القبور.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن مفاجات يوم القيامة وأهوالها كثيرة وغريبة ومذهلة، فمن مقدماتها:
إخراج دابة من الأرض عند استحقاق العذاب تخبر بأن أكثر الناس كانوا لا يصدقون بآيات الله.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض».
واختلف المفسرون في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا، قال القرطبي: أول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح عليه السلام، وهو أصحها- والله أعلم- لما
ذكر أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدابة فقال: «لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية- يعني مكة- ثم تكمن زمانا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك، فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية- يعني مكة- ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة، خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب، فارفضّ الناس منها شتّى ومعا..» الحديث.
ثم ذكر الله تعالى بعض الأمور الواقعة بعد قيام القيامة وهو حشر زمرة وجماعة من كل أمة، ممن يكذب بالقرآن وبالأدلة الدالة على الحق، فهم يوزعون أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب، وقال قتادة: أي يردّ أولهم على آخرهم، حتى إذا حضروا الموقف قال الله: أكذبتم بآياتي التي أنزلتها على رسلي، وبالآيات التي أقمتها دليلا على توحيدي، ولم تعلموا بحقيقتها، وإنما أعرضتم عنها مكذبين جاهلين غير مستدلين؟ ثم يقول لهم تقريعا وتوبيخا: ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها.
ولكن وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم، فهم لا ينطقون، أي ليس لهم عذر ولا حجة.
ثم أقام الله تعالى دليلا على البعث والتوحيد والنبوة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر، وهو خلق الليل للنوم والاستقرار، وخلق النهار المنير المشرق الذي يبصر فيه الناس الأشياء للحركة ونشاط الحياة وسعي الرزق، إن في ذلك لدلالات على قدرة الله وتوحيده وإمكانه الحشر لقوم يؤمنون بالله. أما وجه دلالته على التوحيد فهو أن التقليب من النور إلى الظلمة ومن الظلمة إلى النور بدقة متناهية لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية. وأما وجه دلالته على الحشر فلأنه لما ثبتت قدرة الله تعالى على هذا التقليب فهو قادر على القلب من الحياة إلى الموت ومن الموت إلى الحياة، وأما وجه دلالته على النبوة فلأنه تعالى يقلب الليل والنهار لمنافع الناس، وفي بعثة الأنبياء والرسل إلى الناس منافع عظيمة، فما المانع من بعثتهم إلى الناس لتحصيل تلك المنافع؟
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٧ الى ٩٠]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
الإعراب:
وَيَوْمَ يُنْفَخُ.. يَوْمَ منصوب بفعل مقدر، تقديره: اذكر يوم ينفخ.
صُنْعَ اللَّهِ منصوب على المصدر لأن ما قبله يدل أنه تعالى صنع ذلك، فكأنه قال: صنع صنعا الله، ثم أضاف المصدر إلى الفاعل.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ.. مَنْ شرطية مبتدأ، وفَلَهُ الجواب، خبر المبتدأ.
وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ من قرأ «فزع» بالتنوين، كان (يوم) منصوبا بالمصدر، أو ب آمِنُونَ تقديره: وهم آمنون يومئذ من فزع ومن قرأ بغير تنوين كان (يوم) مجرورا بالإضافة، كقوله تعالى: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج ٧٠/ ١١]. أي أنه في حالة إضافة «فزع» تكسر ميم «يومئذ» وتفتح، وفي حال تنوين «فزع» تفتح ميم «يومئذ».
البلاغة:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ بينهما طباق.
تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ تشبيه بليغ، أي تمر كمرّ السحاب في السرعة، حذفت فيه الأداة ووجه الشبه.
الصُّورِ البوق الذي ينفخ فيه، والمقصود هنا: النفخة الأولى من إسرافيل فَفَزِعَ خاف، والمراد هنا الخوف الشديد المفضي إلى الموت من الهول، وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ألا يفزع بأن ثبّت قلبه، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ملك الموت.
وعن ابن عباس: هم الشهداء إذ هم أحياء عند ربهم يرزقون وَكُلٌّ أَتَوْهُ حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية، أو راجعون إلى أمره، وتنوين كُلٌّ عوض عن المضاف إليه، أي وكلهم بعد إحيائهم يوم القيامة أتوه داخِرِينَ صاغرين، والتعبير ب أَتَوْهُ بالماضي لتحقق وقوعه.
وَتَرَى الْجِبالَ تبصرها وقت النفخة تَحْسَبُها تظنها جامِدَةً ثابتة في مكانها لعظمها وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي في السرعة لأن الأشياء الكبار إذا تحركت في سمت واحد، فلا تكاد تتبين حركتها. وهنا شبهها بالسحب التي تسيرها الرياح صُنْعَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله، أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله، تقديره: صنع الله ذلك صنعا أَتْقَنَ أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ عالم بظواهر الأفعال وبواطنها، فيجازيهم عليها.
بِالْحَسَنَةِ أي الإيمان والعمل الصالح فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي له ثواب بسببها وليس هذا للتفضيل، إذ لا فعل خير منها، وفي آية أخرى: عَشْرُ أَمْثالِها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ الفزع هنا:
الخوف من العذاب، وهم: أي الفاعلون الحسنة وأما الفزع الأول في قوله فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ فهو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع، وهول يفجأ من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به بِالسَّيِّئَةِ الإشراك بالله والمعاصي فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي ألقيت منكوسة، ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم، وذكرت لأنها موضع الشرف من الحواس، فغيرها من باب أولى هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ما تجزون إلا جزاء عملكم من الشرك والمعاصي.
وهذا القول المستفهم به للتبكيت.
المناسبة:
بعد ذكر العلامة الأولى لقيام القيامة وهي خروج الدابة للكلام والحديث، ذكر الله تعالى علامتين أخريين لقيام القيامة وهما النفخ في الصور، وتسيير الجبال، ثم ذكر أحوال المكلفين يوم القيامة وأنهم قسمان: المطيعون الأبرار الذين يعملون الحسنات، فيثابون خيرا منها ويأمنون الفزع من العذاب، والعصاة
التفسير والبيان:
العلامة الثانية- نفخ الصور:
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أي اذكر أيها الرسول للناس هول يوم نفخة الفزع في الصور، وهو كما جاء في الحديث: قرن ينفخ فيه، إذ يخاف جميع من في السموات ومن في الأرض خوفا شديدا، يؤدي بهم إلى الموت إلى من شاء ربك، بأن ثبت قلبه فلا يخاف، وهم بعض الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وقيل: هم الشهداء، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
وهناك نفختان: نفخة الفزع في هذه الآية وهي النفخة الأولى، ونفخة الصعق (أي الموت) المذكورة في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر ٣٩/ ٦٨] والنفخة الثانية: نفخة البعث التي في تتمة الآية السابقة: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وفي آية أخرى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس ٣٦/ ٥١].
وفي حديث الصور: إن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى، فينفخ فيه أولا نفخة الفزع ويطولها، وذلك في آخر عمر الدنيا حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء، فيفزع من في السموات ومن في الأرض.
فالنفخ إذن مرتان: مرة ليموت الكل إلا من شاء الله، ومرة ليحيي الكل للحساب، ومن استثني أولا يموت بعد النفخة الأولى وقبل الثانية.
وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ أي وكل واحد من الخلائق يأتون إلى الموقف بين
العلامة الثالثة- تسيير الجبال:
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي وتنظر إلى الجبال فتراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه، وهي تزول بسرعة عن أماكنها، وتسير كما يسير الغمام بتأثير الرياح، لأن الجسم الكبير إذا تحرك برتابة لا تكاد حركته تبين، كما قال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً [الطور ٥٢/ ٩- ١٠] وقال: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ، وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف ١٨/ ٤٧] وقال: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النبأ ٧٨/ ٢٠] وقال:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه ٢٠/ ١٠٥- ١٠٧].
وتسير الجبال- وإن دكت عند النفخة الأولى- يحدث بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، ليشاهدها أهل المحشر، فيبدل الله الأرض غير الأرض والسموات، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم ١٤/ ٤٨]. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على دوران الأرض حول الشمس بسرعة فائقة، لكن الظاهر أن ذلك في الآخرة لأن الكلام هنا عن يوم القيامة.
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي ذلك الصنع هو فعل الله بقدرته
إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ هذا علة النفخ في الصور والبعث للحساب والجزاء، أي إن الله تعالى عليم بما يفعل عباده من خير وشر، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء.
ثم بيّن الله تعالى حال المكلفين السعداء والأشقياء بعد قيام القيامة فقال:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ أي من جاء مؤمنا بالله وحده لا شريك له، عاملا الصالحات، فله على ذلك الثواب الجزيل عند ربه في جنات النعيم، يأمن من الفزع الأكبر، وهو الخوف من عذاب القيامة، كما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء ٢١/ ١٠٣] وقال سبحانه: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ [فصلت ٤١/ ٤٠] وقال عز وجل: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ ٣٤/ ٣٧].
والحسنة: الإيمان والعمل الصالح، وقال ابن عباس والنخعي وقتادة: هي لا إله إلا الله. وخَيْرٌ هنا ليس أفعل تفضيل، فليس شيء خيرا من لا إله إلا الله، كما قال عكرمة، وإنما المراد مضاعفة الثواب ودوامه لأن العمل ينقضي، والثواب يدوم، فالخير: الثواب، وقيل: للتفضيل، أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله. ومَنْ لابتداء الغاية أي له خير من الخيور، مبدؤه ونشوؤه منها أي من جهة هذه الحسنة. وقد رتب الله على مجيء المكلف بالحسنة شيئين: الثواب والأمن من العذاب.
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ومن أشرك بالله وارتكب المعاصي، ومن لقي الله مسيئا لا حسنة له، أو قد رجحت سيئاته على حسناته، كل بحسبه، فيلقى في النار، ويقال لهم أي للكفار والعصاة: هل هذا إلا جزاء عملكم في الدنيا من شرك ومعصية؟
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن نفخ إسرافيل في الصور نفخة مرعبة وهي النفخة الأولى ونفخة الصعق يموت من رعبها الخلائق كلهم إلا من شاء ربك من الملائكة أو الناس.
وهي العلامة الثانية لقيام القيامة.
قال القرطبي: والصحيح في الصور: أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل.
قال مجاهد: كهيئة البوق. والصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان، لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما ترجع إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لازمان لهما، أي فزعوا فزعا ماتوا منه، ثم تأتي نفخة البعث وهي النفخة الثانية التي يحيى بها العباد ليجتمعوا في أرض الجزاء «٢».
ولا يتخلف أحد من الخلائق من عهد آدم إلى قيام الساعة عن المثول حيا أمام الله تعالى، لقوله سبحانه: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ أي ذليلين صاغرين.
٢- وبعد قيام القيامة وبعد النفخة الثانية عند حشر الخلائق يحدث تسيير الجبال من أماكنها، ثم تتلاشى وتتبدد كالعهن، أي الصوف المندوف. يقال: إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة، ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها،
(٢) تفسير القرطبي: ١٣/ ٢٤٠.
أن تكون سرابا «١».
٣- إن تغيير معالم الأرض من جبال وغيرها، وتبديد السموات وغير ذلك من فعل الله الذي أتقن بصنعه كل شيء، وأودع فيه من الحكمة ما أودع.
٤- الناس صنفان يوم القيامة: سعداء وأشقياء، فالسعداء: هم المؤمنون الذين عملوا الأعمال الصالحة، وهؤلاء لهم الثواب الجزيل، والأمن من عذاب الله. والأشقياء: هم الكفار والمشركون والعصاة الذين ارتكبوا في الدنيا السيئات، وهؤلاء يطرحون في النار على وجوههم، ويقال لهم: هل هذا إلا جزاء أعمالكم؟
والثواب الممنوح من الله للسعداء وهو الخير اسم جنس، فسر بمضاعفته بعشرة أمثاله في آية أخرى، فإن الله تعالى يعطي بالحسنة الواحدة عشرا، أما جزاء السيئة فلا يضاعف فقال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام ٦/ ١٦٠].
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
المفردات اللغوية:
هذِهِ الْبَلْدَةِ مكة، وتخصيصها بهذه الإضافة: إضافة رَبَّ إليها تشريف لها وتعظيم لشأنها. الَّذِي حَرَّمَها أي الله الذي جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم الإنسان، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد صيدها، ولا يختلى خلاها (عشبها الرطب) وذلك من نعم الله على قريش حيث رفع عن بلدهم العذاب والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب. وقرئ: التي حرمها.
وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي له تعالى كل شيء خلقا وملكا، فهو ربه وخالقه ومالكه. مِنَ الْمُسْلِمِينَ لله بتوحيده، أي المنقادين الثابتين على ملة الإسلام. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي وأن أواظب على تلاوته لينكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا، وأتلوه أيضا عليكم تلاوة الداعية إلى الإيمان. لِنَفْسِهِ لأجلها، فإن ثواب اهتدائه له. وَمَنْ ضَلَّ عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى فَقُلْ له إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ المخوفين قومهم من عذاب الله، فليس علي إلا التبليغ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ على نعمة النبوة أو على ما علمني ووفقني للعمل به. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها يريكم آياته القاهرة في الدنيا كوقعة بدر، أو في الآخرة، فتعرفون أنها آيات الله، ولكن حين لا تنفعكم المعرفة. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي إنما يمهلهم لوقتهم، فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أحوال المبدأ والمعاد والنبوة ومقدمات القيامة، وصفة أهل القيامة من الثواب والعقاب، أمر رسوله بهذه الخاتمة اللطيفة بأن يقول
التفسير والبيان:
قل: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها أي قل لهم أيها الرسول: إنما أمرت أن أعبد رب مكة الذي حرمها على الناس، فجعلها شرعا وقدرا حرما آمنا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد شجرها، ولا ينفّر طيرها، ولا يخوّف فيها خائف، يجبى إليها ثمرات الدنيا من كل ناحية.
وخص مكة بالذكر تشريفا لها، لأن أول بيت وضع للعبادة كان فيها، كما قال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش ١٠٦/ ٣- ٤]. وفي هذا توبيخ لأهل مكة على ترك عبادة الله، والاتجاه نحو عبادة الأصنام.
ونظير الآية: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي، فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [يونس ١٠/ ١٠٤].
وقد أبان النبي صلّى الله عليه وسلم مظاهر تحريم مكة،
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد
أي عشبها الرطب.
وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي له تعالى كل شيء خلقا وملكا وتصرفا، دون أي شريك، وهذا من عطف العام على الخاص، أي هو رب هذه البلدة، ورب كل شيء ومليكه، لا إله إلا هو.
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي وأمرني ربي أن أكون من الموحّدين، المخلصين، المنقادين لأمره، المطيعين له.
وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي وأمرني ربي أن أتلو القرآن على الناس، وأن أتلوه وحدي ليل نهار، لتتكشف لي أسراره، وأتعرف دائما على أدلة الكون المودعة في آياته، فيزداد إيماني، وتشرق نفسي.
فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فمن اهتدى إلى الحق والإيمان فإنما يهتدي لأجل نفسه، ومن آمن برسالتي واتبعني فقد رشد، وأمن عذاب ربه.
وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي ومن ضل وأخطأ طريق الحق والإيمان والرشاد، وكذب بدعوتي وبما جاءني من عند الله وهو القرآن، فعليه وزر ضلاله، وإنما أنا من المنذرين المخوفين قومهم عذاب الله، وليس علي إلا الإنذار والتبليغ، وقد أديت المهمة وأبلغتكم ما يوحى إلي، وخلصت من العهدة، وحسابكم على الله، كما قال تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد ١٣/ ٤٠] وقال: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود ١١/ ١٢].
وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها أي وقل أيها الرسول:
لله الحمد الذي لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، والإنذار إليه، ولله الحمد على ما أنعم على من نعمة النبوة، وعلى ما علّمني ووفقني لتحمل أعباء الرسالة
ونظير الآية: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت ٤١/ ٥٣].
وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وما الله بغافل عما يعمله المشركون وغيرهم، بل هو شهيد على كل شيء، ولكن يؤخر عذابهم إلى أجل على وفق إرادته وحكمته. وهذا تقرير لما سبق من الوعد والوعيد، وتبشير للنبي بأن الله ناصره ومخزي أعدائه الكافرين.
روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس لا يغترنّ أحدكم بالله، فإن الله لو كان غافلا شيئا لأغفل البعوضة والخردلة والذرّة».
وروى أيضا عن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أمر النبي صلّى الله عليه وسلم ومثله أمته في هذه الآيات بأوامر ثلاثة هي:
١- تخصيص الله وحده بالعبادة دون اتخاذ شريك له. ووصف الله نفسه بأمرين:
أحدهما- أنه رب هذه البلدة أي مكة، واختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه، وأشار إليها إشارة تعظيم لها، دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه.
وقد حرمها لتحريمه فيها أشياء على من يحج، ولأن اللاجئ إليها آمن،
والثاني- وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقا وملكا وتصرفا، فهو خالق لجميع النعم، ومالك جميع من في الكون، ومتصرف بملكه كما يشاء، جلّ جلاله.
٢- أن يكون من المسلمين: أي المنقادين لأمره، الموحّدين له.
٣- أن يتلو القرآن، أي يقرأه لنفسه وعلى الناس لتبليغهم إياه. فمن اهتدى في هذه الأصول الثلاث المقررة في هذه السورة وهي التوحيد والحشر والنبوة فله ثواب هدايته، ومنفعة اهتدائه راجعة إليه، ومن ضل أو انحرف عن هذه الأصول، فما على الرسول صلّى الله عليه وسلم إلا البلاغ المبين، وما هو إلا رسول منذر من جملة المنذرين، أي المخوفين قومهم من العذاب.
ثم ختم تعالى السورة بهذا التوجيه الحميد لرسوله صلّى الله عليه وسلم ولكل مؤمن وهو أن يحمد الله على نعمه وعلى هدايته، والله تعالى سيري خلقه آياته في أنفسهم وفي غيرهم، فيعرفون بها دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسهم وفي السموات وفي الأرض، كقوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات ٥١/ ٢٠- ٢١].
والله شهيد على كل شيء، وليس هو بغافل عما يعمله الخلائق أجمعون، فيجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القصصمكية، وهي ثمان وثمانون آية
تسميتها:
سميت سورة (القصص) لما فيها من البيان العجيب لقصة موسى عليه السلام من حين ولادته إلى حين رسالته، التي يتضح فيها أحداث جسام، برز فيها لطف الله بالمؤمنين وخذلانه الكافرين. ثم ذكر فيها قصة قارون من قوم موسى المشابهة للقصة الأولى في تقويض أركان الطغيان، طغيان السلطة عند فرعون، وطغيان المال عند قارون.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لسورتي النمل والشعراء في أنها تفصيل لما أوجز فيهما من قصة موسى عليه السلام، مبتدئا ببيان استعلاء فرعون وظلمه، وذبحه أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عند ولادته في اليم، خوفا عليه من الذبح، ثم انتشال فرعون له وتربيته في قصره عنده إلى سن الشباب، حيث حدثت حادثة قتله القبطي، التي استوجبت فراره من مصر إلى مدين، وزواجه بابنة شعيب عليه السلام، ثم مناجاته ربه وبعثه إياه رسولا، وما تبع ذلك.
كذلك فصلت هذه السورة موقف القرآن من توبيخ المشركين على إنكارهم يوم القيامة، من خلال الإخبار بإهلاك الكثيرين من أهل القرى بسبب ظلمهم، والتساؤل عن شركاء الله يوم القيامة وما يدور بينهم وبين عبدتهم من
كما أن هناك ربطا من وجه آخر بين سورتي النمل والقصص، فقد أوجز هنا ما فصّل في السورة المتقدمة من إهلاك قوم صالح وقوم لوط، ومن بيان مصير من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة.
ما اشتملت عليه السورة:
تلتقي هذه السورة مع ما سبقها من سورتي الشعراء والنمل في بيان أصول العقيدة: التوحيد والرسالة والبعث في ثنايا قصص الأنبياء، وإيضاح الأدلة المثبتة لهذه الأصول في قضايا الكون وعجائبه البديعة ونظمه الفريدة.
وكان الطابع الغالب على هذه السورة تبيان قصة موسى مع فرعون التي تمثل الصراع بين طغيان القوي وضعف الضعيف، لكن الأول على الباطل والثاني على الحق، وأعوان الباطل هم جند الشيطان وأعوان الحق هم جند الرحمن.
كان فرعون معتمدا على سلطانه وقوته وثروته، فطغى وبغى، واستعبد شعب بني إسرائيل، وزاد في غلوه أنه ذبح الأبناء، واستحيا النساء، وادعى الربوبية ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص ٢٨/ ٣٨] وأفسد في الأرض.
واستوجب ذبح الأطفال إلقاء موسى في اليم، والتقاط آل فرعون له، ثم رده إلى أمه، ثم تربيته في قصر فرعون، إلى أن بلغ أشده وصار رشيدا قويا، فقتل قبطيا قتلا خطأ، فهرب من مصر إلى أرض مدين، فتزوج بابنة شعيب عليه السلام، ومكث راعيا ماشيته عشر سنين، ثم عاد إلى مصر، فناجى ربه في الطور، وأيده الله بمعجزات أهمها معجزة العصا واليد، فبلغ رسالة ربه، لكن كذبه فرعون وقومه علوا واستكبارا، فأغرقهم الله في البحر.
وأعقب ذلك بقصة مشابهة هي قصة قارون من قوم موسى واعتماده على طغيان الثروة والمال كاعتماد فرعون على طغيان السلطة والحكم، فكان مصيره أشأم من مصير فرعون وهو الخسف به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين.
وكل من خبر القصتين برهان قاطع على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه لم يكن حاضرا معهم، ولم يتعلم ذلك من معلم.
وختمت القصتان بإعلان مبادئ:
أولها- أن ثواب الآخرة يكون للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.
وثانيها- أن الإيمان بالله وباليوم الآخر هو طريق السعادة الموجب لمضاعفة الحسنات ومقابلة السيئات بجزاء واحد، وتحقيق النصر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على أعدائه، وعودته إلى مكة فاتحا بعد تهجيره منها.