ﰡ
هذا، وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة النمل ٤٨- ٢٧
نزلت بمكة بعد الشعراء، وهي ثلاث وتسعون آية، وألف وثلاثمائة وسبع عشرة كلمة، وأربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وستون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة بمثل هذين الحرفين الطاء والسين.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى: «طس» الله أعلم بمراده فيه، راجع تفسير طسم قبلها وما ترشدك إليه لندرك تفسيره «تِلْكَ» الآيات العظام المنزلة عليك يا سيد الأنام هي «آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» ١ أي وآيات اللوح المحفوظ لدينا، الذي لا خفاء في حكمه وأحكامه وأخباره وأمثاله، فهو «هُدىً» من الضلال في الدنيا «وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ٢ العاملين فيه بالآخرة وهم المبينون بقوله عز قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» اللتين ستفرض عليهم حتما، وقيل المراد بالصلاة الركعتان المفروضتان عليه صلّى الله عليه وسلم، وقلده فيهما من آمن به، وبالزكاة ما كان متعارفا عندهم من الصدقات، لأن هاتين العبادتين لم تخل أمة منهما ولو اختلفا في الكم والكيف، لأن الله تعالى تعبد فيهما كافة الأمم، لأنهما قوام الدين والدنيا، لما في الأولى من المنافع التي تعود على صاحبها بكل خير وفي الثانية من المنافع المادية التي تعود على المحتاجين بقضاء حوائجهم، وعلى المتصدقين برضاء الله «وَهُمْ» القائمون بهاتين العبادتين «بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» ٣ يصدقون تصديقا خالصا، فمن جمع مع الإيمان هذه الخصال فلا خوف عليهم في العاقبة «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لا تنفعهم أعمالهم الحسنة عند الله مهما كانت لأنهم من الذين «زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ» الخبيثة في الدنيا، فرأوها حسنة،قال تعالى «فَلَمَّا جاءَها» وأبصر تلك النار «نُودِيَ» من جهتها «أَنْ بُورِكَ» أن هنا تفسيرية للنداء، والمعنى أي بورك لما في النداء من معنى القول دون حروفه، وضمير بورك يعود على موسى عليه السّلام، وقيل إنها مخففة من الثقيلة وجاز كونها كذلك من غير حاجة الفصل بينهما وبين الفعل بقد والسين وسوف أو أحرف النفي، لانها وليت فعل دعاء وهو مستثنى من تلك الفواصل، خلافا لأبي علي الفارسي القائل إن أن المخففة لما كانت لا يليها إلا الأسماء استقبحوا أن يليها الفعل ليس بشيء يعتدّ به، لان هذا ليس على إطلاقه، فقد استثنى من عموم فعل الدعاء «مَنْ فِي النَّارِ» من جاء لأجلها إلى المحل الذي هي فيه «وَمَنْ حَوْلَها» موسى وغيره من الملائكة فيشمل كل من هو في تلك البقعة والبقعة نفسها، لانها مبعث الأنبياء ومهبط الوحي، وهي المعينة بقوله تعالى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) الآية ١٩ الآتية من سورة القصص، وتفيد هذه الآية المفسرة إبداء التحية العظيمة من الله عز وجل لموسى عليه السّلام، وفيها إشارة إلى حصول البركة في أراضي الشام التي هي حول تلك البقعة المقدسة المشار إليها في قوله تعالى حكاية عن حال إبراهيم عليه السّلام:
(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) الآية ٧١ من سورة الأنبياء في ج ٢ وبشارة عظيمة من الله إلى موسى أيضا بحدوث أمر ديني فيها، وهي استنباؤه، ورسالته، وتكليمه، وإظهار المعجزات على يده، وتجديد دين أبيه إبراهيم عليه السّلام.
ثم اعلم هداك الله أن لا مجال للقول هنا بأن السمع من الشجرة أو من جهة النار يدل على حدوث المسموع وهو كلام الله تعالى، لأن الله منزّه عن الجهة والمكان، وكذلك كلامه، لأن سماع موسى كلامه من إحدى الجهتين المذكورتين يرجع إلى موسى لا إلى الله، وان الله تعالى خلق لموسى علما ضروريا علم به أن الذي يسمعه هو كلام الله القديم الأزلي من غير صفة ولا صوت ولا جهة، فقد سمعه وحده من الجهات الست، وصارت جميع جوارحه كسمعه، ولو فرض أن هناك أحدا معه لما سمع شيئا البتة، وهكذا كان محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما ينزل عليه الوحي، يعلمه وحده دون الحاضرين معه، راجع الآية ١٩٥ من سورة الشعراء المارة،
إذا ذكرت ليلى فكلي مسامع | وإن ظهرت ليلى فكلي أعين |
ثم اعلم أيضا أنه لا يجوز السؤال عن الكيفية في ذات الله تعالى وصفاته، إذ لا يقال كيف ذاته من غير جسم ولا جوهر ولا عرض، ولا كيف علمه من غير كسب وضرورة، ولا كيف قدرته من غير صلابة، ولا كيف إرادته من غير شهوة وأمنية، ولا كيف تكليمه من غير حدة ولا صوت، لأن هذا كله من نعوت البشر، ولأن الله تعالى سدّ هذا الباب عليهم بقوله جل قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الآية ١١ من سورة الشورى في ج ٢، أما كيفية سماع موسى كلامه فقد وضحته لك أعلاه، فاغتنم هذا، فإنك لا تجده على هذا التفصيل والتمثيل في كتب كثيرة، واحمد الله على إنعامه «وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ٨ وهذه الجملة من تتمة مانودي به موسى، أي نزه ربك عما لا يليق به، فقد نزه تعالى شأنه ذاته المقدسة بذاته عن صفات خلقه وعما تتخيله الأوهام من التشبيه والتمثيل، وفيها تعجب إلى موسى بأنه سيلقى من جلائل الأمور وعظائم الشئون ما يتعجب منه المتعجبون.
وما قاله السدي بأن هذه الجملة من كلام سيدنا موسى، بعيد عن المقام ويأباه مدلول الكلام، لأن موسى لم يتكلم بعد، كيف وقد اعتراه ما اعتراه من الدهشة وهيبة الربوبية التي ألمعنا إليها في الآية ١٠ من سورة طه المارة، ولما رأى الله تعالى موسى كما كان مرئيا في الأزل لديه وقد أخذته الرهبة، أراد أن يعرفه بذاته المقدسة ويزيل عنه ما أهابه ليمهد له ما أراد أن يلقيه عليه ويظهره على يده من الأمور الغريبة، ناداه «يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ٩ الذي يكلمك هو أنا، ولفظة الجلال بيان للفظة أنا والعزيز الغالب لما يفعله من العجائب والبدائع بمقتضى الحكمة، وهي صفتان له جلّت صفاته وفيها إشارة إلى كمال قدرته وقوة عظمته ورمز إلى أنه سيبين له ما يستبعده الوهم المستفاد من قوله «وَأَلْقِ
فألقاها حالا دون تردد، امتثالا لأمره من غير أن يعلم المراد من إلقائها «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ» تنحرك بشدة «كَأَنَّها جَانٌّ» حية صغيرة لشدة اضطرابها، وتقدم في الآية ١٠ من سورة الأعراف والآية ١٥ من سورة طه والآية ٣٢ من سورة الشعراء فقد بينا فيها التوفيق بين ما جاء فيها هنا وهناك، فراجعها.
فلما رأى حركة عصاه وما انقلبت إليه هاله شأنها فتأخر عنها، وهو معنى قوله تعالى «وَلَّى» ظهره محلها «مُدْبِراً» عنها وهرب خوفا مما رأى وازداد اضطرابه «وَلَمْ يُعَقِّبْ» يرجع ويلتفت عقبه إليها ثم ناداه عز وجل ثانيا «يا مُوسى لا تَخَفْ» مما رأيت، ارجع لأني أريد أن أجعلك رسولا لي «إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» ١٠ لأني آمنتهم مما يخافون. واعلم أن الله تعالى يفعل هذه المقدمات مع خلص خلقه من عباده الذين يختارهم لنبوته، ويصطفيهم لرسالته، بداية أمرهم إرهاصا لأقدارهم على تلقي وحيه، ليتوطنوا عليه، ويعلموا كيفية نزوله، وهذا الخوف غير الخوف الذي هو شرط الإيمان، فإن ذلك لا يفارقهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنا أخشاكم لله- راجع الآية ٢٧ من سورة فاطر المارة-
ثم استثنى من عموم كلامه قوله «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» منهم بفعل ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى أو زل عن غير قصد أو استعجل في أمره كآدم ونوح وداود وسليمان وإبراهيم ويونس عليهم السلام، وقد سبقت الإشارة إلى ما صدر من كل منهم وتأويله وتفسيره ودواعيه في محله، وقد سمى الله ما حدث منهم ظلما بالنسبة إليهم، راجع الآية ٢ من الأعراف المارة والآية ٢٣ من ص والآيتين ٦٣ و ٨٥ من سورة هود في ج ٢، قال تعالى «ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ» تاب وندم على ما صدر منه، وقد سماه سوء أيضا نظرا لمقامهم وإلا في الحقيقة لا يسمى ظلما ولا سوء بالنسبة لغيرهم، لأنه على حد حسنات الأبرار وسيئات المقربين «فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ١١ به أعفو عما صدر منه ثم ناداه ثالثا بقوله «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» اجعلها تحت إبطك «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص، فأدخلها امتثالا لأمره، من غير أن يعرف الغاية منها، ثم أخرجها فإذا هي تبرق كالشمس، وبعد أن توطن لكلام الله قال اذهب «فِي تِسْعِ آياتٍ» مع هاتين الآيتين كما بيناها
مطلب أن الله تعالى خص الأنبياء بأشياء خاصة لأمور خاصة:
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً» عظيما في القضاء والسياسة لأمور نزيد إيقاعها على أيديهم كما قد قصصناه عليك في السور المتقدمة وما سنقصه عليك بعد، وعلمنا آدم الأسماء لإسجاد الملائكة له راجع الآية ٣٤ من البقرة في ج ٣، وعلمنا الخضر علم الفراسة ليتلمذ له موسى كما في الآية ٤١ فما بعدها من سورة الكهف في
مطلب قصة ابن كثير مع جاره وعظمة ملك سليمان وكلام الطيور:
كان ابن كثير رحمه الله يجلس على بابه فيطالع، وكان له جار رثّ الثياب، وكلما خرج من داره ورآه على حالته يركب عليه فيشم منه رائحة كريهة، فعنفه يوما على فعله، وأخبره بأنه يعوقه عن مطالعته، فقال له وما تطالع؟ قال في الاقتباس، قال أنشدني منه شيئا، فقال موريا فيه فورا:
كيد حسودي وهنا... ولي سرور وهنا
الحمد لله الذي... أذهب عنا الحزنا
الآية ٣٨ من سورة فاطر، فأجابه فورا معرضا فيه أيضا:
قلبي إلى الرشد يسير... وعنده النظم يسير
الحمد لله الذي... فضلنا على كثير
الآية المارة، فتعجب منه وقام إليه واحترمه، واعتذر منه، فقال له إياك أن تزدري بأحد، فإن مواهب الله في الصدور لا في الثياب.
أوتيه الأنبياء قبلنا والملوك، ومما لم يؤتوه من جميع ما تحتاجه الدنيا والآخرة «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» ١٦ الذي لا فوقه فضل، وقال هذا على سبيل التحدث بالنعمة أيضا على حد قوله صلّى الله عليه وسلم، أنا سيد ولد آدم ولا فخر. قالوا وفي زمانه صنعت الأعاجيب من البناء والجنان والهياكل والتصاوير البارزة والمحاريب البديعة وغيرها، وجاء في تفسير البغوي أن ملكه دام سبعمائة سنة وستة أشهر، وهو أحد الأربعة الذين ملكوا الدنيا، قالوا إنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه وذنبه، فقال لأصحابه أتدرون ما يقول؟ قالوا الله ونبيه أعلم، قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاخته فأخبر أنها تقول ليت ذا الخلق لم يخلقوا. وصاح طاووس فقال يقول كما تدين تدان. وصاح هدهد فقال يقول استغفروا الله يا مذنبون. وصاح طيطوى فقال يقول كل حي ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال يقول قدموا خيرا تجدوه، وصاحت رحمة فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فقال يقول سبحان ربي الأعلى، وقال تقول الحدأة كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول من سكت سلم، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه، والعقاب يقول في البعد عن الناس أنس، والديك يقول اذكروا الله يا غافلون، والنسر يقول يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت، والضفدع تقول سبحان ربي القدوس، والقنبرة تقول اللهم العن مبغض محمد وآل محمد، والزرزور يقول اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق، والدراج يقول الرحمن على العرش استوى. وعدّ الضفدع مع هذه الطيور مع أنه ليس منها، إشعارا بأنه كما علمه الله منطق الطير علمه نطق بعض الحيوان والحيتان.
والله أعلم بصحة ذلك، وإنما نقلناها لما فيها من الحكم البديعة التي تصح أن تكون موعظة وذكرى للمتعظين من البشر، والغافلين الذين لا يعقلون ما يراد بهم، إذ
مطلب الصفات الممدوحة بالملك وحكم وأمثال:
قال تعالى «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» ١٧ يمنع أولهم من سرعة السير ليلحق آخرهم مجتمعون لشدة الازدحام الناشئ عن كثرتهم، والوزع المنع، قال عثمان رضي الله عنه: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن. وقال الشاعر:
ومن لم يزعه لبه وحياؤه به فليس له من شيب فوديه وازع وإنما مال إلى حبس أولهم ولم يسق آخرهم ليلحقوا بهم رحمة ورأفة بهم، كي يستريح الأولون، ولا يزيد في تعب الآخرين. وقال محمد بن كعب القرضي: كان معسكر سليمان مائة فرسخ خمس وعشرون للإنس، ومثلها للجن، ومثلها للطير، ومثلها للوحش. والفرسخ اثنا عشر ألف باع، لأنه ربع البريد الذي هو مسافة مرحلة، قال:
أي بذراع اليد، وقالوا إن الجن نسجت بساطا لسليمان عليه السّلام من حرير وذهب فرسخا في فرسخ، وكان يوضع عليه كرسيه في الوسط وتوضع حوله كراسي الذهب والفضة ويجلس عليها العلماء والصلحاء والناس حولهم والجن والشياطين حول الناس، والوحوش حولهم وتظلّهم الطيور بأجنحتها، وكان له ألف بيت من قوارير فيها ثلاثمائة زوجة، وسبعمائة سرية، وأن الريح العاصفة ترفعه، والرّخاء يسير به بأمره، وأن الريح تخبره بما يتكلم به الخلائق، قالوا إن حراثا قال لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح بأذنه، فنزل بموكبه ومشى إليه وقال له تسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود. قال عمر رضي الله عنه: أخبرني يا رسول الله عن هذا السلطان الذي ذلت له الرقاب، وخضعت له الأجساد، ما هو؟
فقال صلّى الله عليه وسلم ظل الله في الأرض، فإذا أحسن فله الأجر، وعليكم الشكر، وإذا
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم | ولا سراة إذا جهالهم سادوا |
والبيت لا يبتنى ما لم يكن عمد | ولا عماد إذا لم ترس أوتاد |
وقال عليم: على الظالم أن يكون وجلا، وعلى المظلوم أن يكون جذلا، وعلى الأمير أن لا يتجاوز الحد فكل ما جاوزه لا يسمى فضلا، كالشجاع إذا جاوز حد الشجاعة نسب إلى التهور، والسخي إذا جاوز حد السخاء نسب إلى التبذير، والأديب إذا زاد حد الأدب نسب إلى الخساسة، واعلم أن الخوف خوفان:
محمود وهو المقرون بالطاعة وحفظ الحدود مثل خوف الأبرار والأتقياء، ومذموم وهو المقرون بالمعصية ومخالفة الأوامر الشرعية مثل خوف إبليس وجنوده الذين يعلمون أن لهم خالقا يعاقبهم على عصيانهم وهم يخافون عقابه ويخالفون أوامره، والرجاء اثنان: رجاء من الله أن يرحمه في الدنيا ويعطف عليه قلوب أوليائه وعباده ويغمره بعفوه وعافيته، وفي الآخرة أن يشمله برحمته وشفاعة نبيه ويلحقه بعباده الصالحين. ورجاء من النفس من الآمال الباطلة وما يتخيّله له الشيطان من الأعمال الخسيسة والطمع فيما فيه من المعصية. هذا وأفضل المعرفة معرفة الرجل نفسه، وأفضل العلم وقوف العالم عند علمه، وأفضل المروءة استبقاء الرجل ماء وجهه، قال تعالى «حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ» أشرفوا عليه لأن الإتيان غالبا
سيد ضحكه التبسم والمشي الهوينا ونومه الإغفاء واللهوات اللحمات المشدقة على الحلق أو التي ما بين منقطع أصل اللسان إلى منقطع القلب في أعلى الفم، مفرده لهاة، قالوا ثم إن سليمان حبس جنوده أي أوقفهم ومنعهم من مداومة السير، وأمر بإهباط البساط، فنزل على شفير الوادي، لأنه لو أهبطه فيه لتحطم النمل لعظمه وثقله، وانتظر حتى دخل النمل كله مساكنه فلم تكسر منه واحدة، ثم حمد الله وأثنى عليه «وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي» كفني عن كل شيء مؤذ وامنعني من كل شيء مضر، ووفقني «أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» من قبل «وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» لأن العمل مهما كان حسنا إذا لم يرضه الله لا يعد شيئا، والعمل الطيب الخالص لوجهه السالم من الرياء وشوائبه هو المرضي عند الله «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي
١٩ من آبائي إبراهيم وإسماعيل ومن قبلهم، ثم أمر العسكر بالنزول إلى الوادي، فاصطف كعادته وسار وركب هو البساط وأمر ملأه فركب حوله كهيئته المارة، ثم نظر إلى الطير المحلق فوقه فرأى كوة بينه «وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ» ليعلم الغائب منه، لأنه إذا حلق فوق البساط لم يترك كوة ينفذ منها شعاع الشمس على من فيه «فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ» إذ عرفه أنه هو الغائب الذي سبب وجود الكوة ونفوذ الشمس، ربما أن الهدهد له أهمية بالنسبة لغيره عدا سد الكوة لأنه الدليل على الماء إذ يعرف بتعريف الله إياه الأرض التي فيها الماء وقربه وبعده فيها بمجرد نظره، فيرى الماء داخلها كما يرى الناس الماء في الزجاجة وكما يرى القرلي السمك بأرض الأنهار وهو عائم فوقها، فيسقط ويأخذها.
سبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ولما تحقق عند سليمان غياب الهدهد قال «أَمْ» بل «كانَ مِنَ الْغائِبِينَ» ٢٠
ولما كان غيابه بغير إذن منه توعده، فقال «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً» قالوا بحبسه مع ضدّه بالشمس أو بنتف ريشه أو يفرق بينه وبين إلفه، هذا إذا جاء عليه بشيء أوجب غيابه لمجرد عدم الاستئذان، أما إذا كان تخلفه عن وجوده بمحله دون معذرة فتشدد عقوبته، ولهذا قال «أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» ٢١ حجة واضحة على غيبته بصورة اضطرارية لا يتمكن معها من الاستئذان، فإنه ينجو من العذابين المذكورين، قالوا ثم أرسل العقاب يطلبه فذهب «فَمَكَثَ» يتحراه «غَيْرَ بَعِيدٍ» أي مدة يسيرة وانتظره سليمان انتظارا قليلا، فوجده الغراب وأخبره بما توعده به سليمان، فقال له أو ما استثنى؟ قال بلى، وذكر له كيفية الاستثناء، قال نجوت إن شاء الله، فسار معه حتى أحضره أمام سليمان، فرفع الهدهد رأسه وأرخى ذنبه، وحط جناحيه في الأرض تواضعا وخشوعا وخوفا منه، ولما سأله عن تخلفه، قال قبل أن يبدي حجته: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل، فارتعد سليمان لكلامه هذا، وعفا عنه قبل إبداء عذره، هكذا كانت الأنبياء وهم ملوك فتخلقوا أيها الناس بأخلاقهم، واقتدوا بأفعالهم وأقوالهم، فلو أن أحدنا مكانه لضرب به الأرض حالا دون رويّة.
قالوا ثم سأله عن تأخره «فَقالَ» بعد أن أمن «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ» ألهمه الله هذا الكلام لينبّه سليمان بأن أدنى خلق الله علم ما لم يعلمه وهو بما عليه من النبوة والرسالة والملك، والإحاطة أبلغ من العلم بالشيء وقد أخفى الله مكان بلقيس على سليمان لمصلحة علمها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب ثم قال «وَجِئْتُكَ» يا رسول الله وملك الزمان «مِنْ سَبَإٍ» اسم لقبيلة جدها سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان، كان له عشرة أولاد سكن ستة منهم اليمن وأربعة الشام، وجاء أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال: رجل له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة واسم البلد التي هو فيها سبأ مأرب، ثم اعلم أنه جاء في رسم القرآن خاصة زيادة حروف تكتب ولا تقرأ وهي من معجزات القرآن لأن في اللغات الأجنبية حروفا تكتب ولا تقرأ ولهذا لم يغفل القرآن ذلك مثل الالف في (لَأَذْبَحَنَّهُ) هنا والهمزة في (بِأَيْدٍ) الآية ٤٧ من الذاريات في ج ٢، والألف في (بشراى) وفي كلمة جزاؤه في الآيتين ١٩ و ٧٤ من سورة يوسف ج ٢، والواو في كلمتي الصلوات والزكاة في كثير من الآيات المكية والمدنية، والألف في كلمة (السُّواى) الآية ١٠ من سورة الروم وفي كلمة (لِشَيْءٍ) الآية ١٤ من سورة الكهف في ج ٢ أيضا وهذه لا تكتب في غير القرآن، إذ كان في رسم قرآن عثمان رضي الله عنه هكذا، وجب التقيد فيها حتى الآن وما بعد، ومن هنا تعلم أن العلوم المتعلقة بالقرآن أربعة:
الاول ما يتعلق بكتابته، وهو علم الرسم، الثاني ما يتعلق بالأداء وهو علم القراءات السبع، الثالث ما يتعلق بكيفية الأداء وهو علم التجويد، الرابع ما يتعلق بالألفاظ وهو علم الإعراب والبناء والتصريف والبيان والبديع والمعاني، وقد المعنا إلى بعض هذا في المقدمة وما بعدها عند كل مناسبة، وهكذا إلى آخر هذا التفسير المبارك ومن الله التوفيق، ثم قال وسأخبرك «بِنَبَإٍ يَقِينٍ» ٢٢ عما وجدت ورأيت مما لا مرية فيه، فتشوق سليمان لذلك وقال أخبرني ما هو؟ قال «إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» يحتاجه الملك والملك «وَلَها» يا سيدي «عَرْشٌ عَظِيمٌ» ٢٣ فخم كبير لا نظير له، واستعظمه بالنسبة إليها، قالوا كان
مطلب ملك بلقيس وسلاطين آل عثمان:
قالوا كان أبوها يقول لسفراء الملوك لا أحد كفوء لي، ولم يتزوج منهم، فتزوج جنية اسمها ريحانه بنت السكن ملك الجن، وسبب زواجها أنه رأى حيتّين تقتتلان، فقتل السوداء ورش الماء على البيضاء، حتى أفاقت وانقلبت شابا، فعرض عليه المال، فأبى، فزوجه ابنته، وقال له إن الحيّة السوداء عبد تمرد علينا وقتل منا كثيرا، فأردت قتله كما رأيته، فلم أستطع، ولولاك لقتلني، ولهذا كافأتك بابنتي. وتوجد روايات أخرى لم نعتمد صحتها، وأنا في هذه شاك أيضا، وإنما نقلناها استنادا لما جاء في بعض الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن أحد أبوي بلقيس جنّي. قالوا وبعد وفاة أبيها ملك قومها عليهم ابن عمها، فساءت سيرته فيهم وصار يفجر في نساء رعيته، وقد عجزوا عنه، فاحتالت عليه وخطبته لنفسها، فخطبها، وقال لها ما منعني من خطيتك إلا اليأس منك، فقالت له لا أرغب عنك، لأنك كفو كريم، ولما زفت له بادرته بالخمر حتى سكر، فقتلته، ثم جمعت الوزراء وأنبتهم على صبرهم عليه مع انتهاكه حرماتهم، وقالت ما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته من هذا الفاجر؟ وأظهرته لهم مذبوحا، وقالت اختاروا من تملكونه عليكم، فقالوا لا نرضى غيرك بعد أن فعلت هذا وصنت كرائمنا منه، فملكوها عليهم والله أعلم. روى البخاري ومسلم عن أبي بكرة قال:
لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال:
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ» فتمتنعوا من الإجابة للإيمان تكبرا وتعاظما «وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» ٣١ منقادين لي طائعين لله فاستعظمت ما أمرت به في الكتاب، ونظرت إلى ملئها «قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي» هذا الذي نزل بي وأشيروا علي فيه لأني «ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً» يتعلق بالملك ولا أقضيه، أو أفعله وأمضيه بغيابكم، بل لا أعمل شيئا من ذلك «حَتَّى تَشْهَدُونِ» ٣٢ بكسر النون أصله تشهدونني، فحذفت النون
مطلب فراسة الملك وهدية بلقيس لسليمان:
ثم قالت لهم إني لا أريد أن أزعجكم في الحرب، ولو أن قوتكم وعددكم كما ذكرتم خوفا من سوء عاقبة الحرب، لأن الكاسب فيها خسران، فكيف بالخاسر؟
وأني عليمة بها فاتركوني لأرى لكم رأيا غير هذا، فأصغوا لكلامها لأنها من بيت
فأمرهم أن يغسلوا وجوههم، فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب به الأخرى وتغسل وجهها، والغلام يأخذ الماء بيديه ويغسل وجهه، فأخبرهم بأن المرتدين ألبسة الغلمان هم الجواري، والمرتدين ألبسة الجواري هم الغلمان، ثم رد الهدية وأمر الرسل بإيصالها، قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ» رسل بلقيس «سُلَيْمانَ» بهديتها كتب إليها ما قاله الله تعالى «قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ» نكره على عظمه
مجلس قضائك بين الناس، وهو من الصبح إلى الظهر، إذ يتصدر فيه لقضاء حاجات الناس من أحكام وغيرها، ثم أكد مقعده وهو على ما قالوا مارد قوي يدعى صخرا يضع قدمه عند منتهى طرفه وكان بعظم الجبل «وَإِنِّي عَلَيْهِ» على الإتيان به وحمله من موضعه إلى هنا «لَقَوِيٌّ أَمِينٌ» ٣٩ على ما فيه قال سليمان لملئه: أريد أسرع من ذلك لأن القوم أظلونا وأريد أن يروه أمامهم عندي «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» قالوا هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان ووزيره ومعلمه وكاتبه، وكان يقرأ الكتب الإلهية القديمة ويحفظ اسم الله الأعظم «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» قال سليمان هات، قال أنت بن النبي وليس أحد عند الله أوجه منك، فإن دعوت الله كان عندك، قالوا فخر ساجدا لله تعالى ودعاه بما ألهمه من أسمائه، فجيء بالعرش في الوقت، قال ابن عباس: إن آصف قال لسليمان حين صلى: مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن، ودعا آصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير يجرون به تحت الأرض حتى نبع من بين يدي سليمان وقيل أن الله تعالى يعدم جميع الأشياء ويوجدها في كل لحظة، وهكذا إلى انتهاء الدوران بالاستناد لقوله جل قوله (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) الآية ١٥ من سورة ق المارة، وانه أعدم هناك وأوجد أمام سليمان في تلك اللحظة، وكان الدعاء الذي دعا به آصف على ما روى عن عائشة هو: يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وعلى ما رواه الزهري هو: يا إلهنا وإله كل شيء لا إله إلا أنت
، ائتني بعرشها «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ» بعد أن رفع رأسه من السجود خرّ ساجدا لله تعالى شكرا على ذلك «قالَ هذا» الفضل الجليل «مِنْ فَضْلِ رَبِّي» العظيم «لِيَبْلُوَنِي» يمنحني ويختبرني «أَأَشْكُرُ» نعمه المترادفة علي «أَمْ أَكْفُرُ» بها وأجحدها «وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» يعود نفع شكره إليها إذ به دوام النعم، وهو قيد للنعمة الحاضرة وصيد للنعمة المستقبلة، «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ» عن شكره «كَرِيمٌ» ٤٠ بالتفضل عليه لأنه يمهل عبده ولا يعجله بالعقوبة ويكون مسببا لسلبها منه إن لم يشكره عليها، وهذا
«قالَ» سليمان لخاصته «نَكِّرُوا لَها عَرْشَها» أي افعلوا به شيئا تنكره من تغيير وتبديل فيه، فوضعوا الدر الأحمر مكان الأصفر، وجعلوا ما في مقدمه في مؤخره وبالعكس، وما بأعلاه أسفله وبالعكس، وعرضوا ما فعلوه به على سليمان، فأعجبه، وقال نعرضه عليها «نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي» لمعرفته فنستدل بذلك على هدايتها «أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ» ٤١ لمعرفته ولا للجواب اللائق بذلك «فَلَمَّا جاءَتْ» وتمثلت بين يدي سليمان واستقر بها المكان أطلعها المرافقون لها من قوم سليمان بأمره على المتاحف ومن جملتها عرشها، إذ وضع بالمتحف «قِيلَ» لها من قبل المرافقين «أَهكَذا عَرْشُكِ» الذي تركتيه في بلادك الذي أخبرنا عنه الهدهد؟ ولم يقولوا أهذا عرشك؟ لئلا يكون تلقينا لها فيفوت الأمر المقصود من تنكيره، فنظرت إليه وتأملته جيّدا ثم «قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ» لم تقل نعم هو، خوفا من الكذب لأنها تركته محصنا بالأقفال محروسا من عظائم الرجال، وتقدمته بالمجيء ولم تقل لا، خوفا من التكذيب، لأنها عرفته هو هو، وان ما أوقع فيه من التغيير لم يبدل هيئته بالجملة، وكان سليمان قريبا من المرافقين لها يسمع كلامها، فاستدل به على كمال عقلها وحكمتها ورجاحتها وتؤدتها من جوابها الحسن، وعدم إظهار ابتهاجها بما رأت، فقال لها سليمان عليه السّلام انه هو بعينه، وان إغلاق الأبواب عليه، وإحاطته بالحرس لم يحولوا دون قدرة الله بجلبه معجزة لي، وطلبا لإسلامك لله
صحن الدار الذي يمر به إلى سرير سليمان، وكان معمولا من الزجاج يجري فيه الماء وفيه أنواع من دواب البحرَلَمَّا رَأَتْهُ»
واقعا بين السرير ومدخل القصر ولا بد لها من أن تجوزه لتصل إلى سرير سليمانَ سِبَتْهُ لُجَّةً»
من الماء العميق وإنما عمل لها هذا ليختبرها، كما عملت هي بالغلمان والجواري والدرة لتختبره، إلا أنه لما كان عمل الصرح محكما جدا، إذ كان الماء جاريا في الزجاج على قدره، بحيث لم يترك في المجرى خلاء ما ولذلك ظنته جاريا بنفسه دون زجاج، والا لعرفته، وقيل ان الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي اليه أسرار الجن، لأن أمها منهم، فإذا أخذها وولدت له لا ينفكون عن خدمته وذريته من بعده، فقالوا له إن في عقلها شيئا وان رجليها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين، وإنه لما اختبر عقلها وأعجبته أراد أن يختبر بقية أوصافها التي
قالوا فرآها كأحسن النساء قدما وساقا الا أنها شعراء الساقين، ثم صرف بصره عنها والَ»
لهاِنَّهُ)
أي ماترين من الماء هوَرْحٌ مُمَرَّدٌ»
مملس مستو معمولِ نْ قَوارِيرَ»
زجاج- جمع قارورة- فلما عاينت هذا الأمر العظيم الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي»
قبلا بعبادة الشمس، والآن بكشف ساقي أمام سليمان بعد أن أخلصت له التوحيد، َ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»
٤٤ الى هنا انتهت هذه القصة.
مطلب جواز النظر الى المخطوبة والحكم الشرعي فيه:
يستفاد من هذه الآية جواز النظر الى المخطوبة بوسيلة ما، لا أن تعرض نفسها على الخاطب أو يعرضها وليها عليه كالسلعة عند البيع والشراء، ويتركها تعاشره، أو تسافر معه أو يختلي بها مثل بعض أهل الكتاب مما يخالف أهل المروءة والشهامة الحكم الشرعي جواز النظر الى المخطوبة لوجهها لمعرفة محاسنها وليديها لمعرفة صحتها فقط، ولا يجوز ان ينظر لغير ذلك، ويحرم ان يختلي بها البتة، أو يخالطها في سفر أو حضر، لأن الشريعة الإسلامية جعلت هذا كله محظورا وان أمر الرسول برؤية المخطوبة لا يفهم منه ما يقوله بعض الجهلة بأمر الدين الذين لا يعرفون ماهية الغيرة الإسلامية والأنفة العربية من المعاشرة معها والسير معها الى النزهة وغيرها، كلا بل المراد أن يترصد الخاطب الجازم للخطبة، لرؤية من يريد خطبتها من كوة أو مرور أو استطلاع حتى يكون على بصيرة منها، فإن أعجبته عقد عليها برغبة كاملة والا انسحب بمعروف دون أن يتكلم بشيء ما عنها، وان سليمان عليه السّلام إذا صح أنه كان مصمما على زواجه بها وقد قيل له فيها ما فيها، جاز له أن يختبرها بذلك تأديا واحتراما، لأن الأنبياء لم يخاطبوا أقوامهم الا بما يدل على مراعاة الأدب الكامل، ولا يقابلون أحدا بما يكره، أنظر مخاطبة ابراهيم عليه السّلام لأبيه في الآية ٤٢ فما بعدها من سورة مريم ومخاطبة موسى لفرعون في الآية ٤٣ فما بعدها من سورة طه المارتين، وكذلك مخاطبة نوح وهود وصالح وشعيب أقوامهم في سورة هود الآية ٢٥ فما بعدها في ج ٢ وفي غيرها من السور
وهي طلب إنزال العذاب الذي توعدهم به بنيتهم ان لم يؤمنوا به وهو قولهم في الآية ٧٦ من سورة الأعراف «يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا» به من السيئة «قَبْلَ الْحَسَنَةِ» التوبة التي أرجوها منكم عما سلف من كفركم «لَوْلا» هلا «تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ» من عبادة الأوثان وترجعون الى عبادة الرحمن وتعملون صالحا «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ٤٦ بالنجاة من العذاب في الدنيا وبالفوز بنعيم الآخرة
«قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ» من الذين آمنوا بك، إذ أمسك عنا القطر وأجدبت الأرض وهلك المال فأصابنا الضر والبلاء منذ طفقت تدعونا الى دينك «قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ» بسبب كفركم به وما أصابكم من الشؤم مقدر عليكم ومقسوم لكم بأزله «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» ٤٧ تختبرون وتمتحنون بتعاقب الخير والشر ليرى الناس أترجعون اليه فيكشف عنكم ذلك، أو تصرون على الكفر فيزيدكم عذابا في الدنيا والآخرة «وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ» من أبناء أشرافها كلهم «يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» فيعملون المنكرات كلها «وَلا يُصْلِحُونَ» ٤٨ أنفسهم ولا غيرهم أبدا دأبهم السعي في الإفساد والإعراض عن الإصلاح، وقد طبعوا على هذا «قالُوا» هؤلاء التسعة الغواة الذين اتفقوا على عقر النّاقة ورأسهم قدار بن سالف المتقدم ذكره مع القصة في الآية ٧٢ من الأعراف المارة، أي تذاكروا بينهم في تدبير الحيلة التي أرادوا بها عقر الناقة «تَقاسَمُوا بِاللَّهِ» تحالفوا كلهم على انها «لَنُبَيِّتَنَّهُ» يريدون صالحا بأن يأتوه ليلا فيقتلوه «وَأَهْلَهُ» معه زوجته وولده «ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ» إذا سئلنا عنه بعد القتل «ما شَهِدْنا» ما حضرنا «مَهْلِكَ أَهْلِهِ» محل وزمن إهلاكهم، أي إذا قال لنا ولي دمه ورئيس عاقلته من قتله؟ نقول ما حضرنا قتله ولا قتل أهله.
مطلب التحاشي عن الكذب:
هذا وقد اختاروا نفي شهود مهلك أهله على نفي قتلهم له، قصدا للمبالغة بالإنكار، أي كأنهم قالوا ما شهدنا ذلك فضلا عن أن نتولى قتلهم ويعلم من ذلك نفي إهلاكهم من قبلهم، لأن من لم يقتل اتباعه كيف يقتله هو، وهو الأصل، وقرىء بضم الميم وفتح اللام من أهلك وبفتحها أيضا، والقراءة التي عليها المصاحف بفتح الميم وكسر اللام، ويجوز على هذه أن يكون مصدرا كمرجع ويكون
«فَانْظُرْ» يا سيد الرسل وأخبر قومك «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ» على نبينا «أَنَّا دَمَّرْناهُمْ» التسعة المذكورين «وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ» ٥١ لم يقلت
قال تعالى «أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً» لكم أيها الناس تستقرون عليها ليل نهار ولا نحسون بأنها عائمة «وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً» جارية عذبة وملحة ومرّة وباهتة وحريفة وحامضة، وأودع بعضها معادن وحيوانات متنوعة وحليّا مختلفا باللون والقيمة «وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ» جبالا عظيمة تثقلها كي لا تضرب فتنعدم راحتكم عليها «وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً» حصينا لئلا يختلط الملح بالعذب، فتنعدم المنفعة المقصودة منهما، فتفكروا «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» فعل شيئا من ذلك كلا «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ٦١ حقائق قدرتنا وعظمة سلطاننا وحقيقة حكمتنا، فقل لقومك هل الذي يعبدونه خير أم هذا الإله الفعال لكل شيء من نفع وخسر وخير وشر ومنع وإعطاء وعز وذل وغنى وفقر واحياء وإماتة، فالإله القادر على هذه الأشياء
يقدر على شيء من ذلك فيفعله لكم كلا «تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» ٦٣ به علوا كبيرا «أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» من النطفة إلى أن يكمله خلفا سويا وبعد استكمال أجله في الدنيا يميته «ثُمَّ يُعِيدُهُ» بعد الموت حيا كما كان «وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» من مطر ونبات وحيوان «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» يعمل شيئا من ذلك؟ كلا، لا يقدر أحد على شيء منه، وإذا لزمتهم الحجة ووقعوا في المحجة «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على أن ما تعبدونه يفعل شيئا واحدا مما ذكر «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ٦٤ أن آلهتكم تقدر على شيء من ذلك، أو أن مع الله إلها آخر كما يزعم البعض، وبعد أن عدد هذه الحجج الخمس الدالة على وحدانيته في الإلهية وانفراده في فعل هذه الأشياء وغيرها، وعجز من سواه عنها وعما يتعلق بالنفع والضرر وغيره، وإلزامهم السكوت بتلك البراهين القاطعة، قال المشركون أخبرنا يا محمد عن الساعة التي تهددنا بها إن لم نؤمن بك، فأنزل الله «قُلْ» يا حبيبي لهؤلاء الجهلة الذين لا يميزون بين الممكن والمحال: هذه من الغيب و «لا يَعْلَمُ
وحده، فكيف نعطيهم علمها وهو من خصائص الإلهية «وَما يَشْعُرُونَ» هم ولا جميع الجن والإنس والملائكة «أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» ٦٥ من قبورهم ومواقعهم مع أنه لا بدّ لهم منه، وهو من أهم الأمور عندهم لأن الله تعالى وحده تفرّد بذلك «بَلِ ادَّارَكَ» اضمحل وفني وانمحق «عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» وشأنها، فليس لهم علم بها ولا بوقت إمارتها.
وأصل ادّارك تدارك، فأبدلت التاء دالا، وأسكنت للإدغام، واجتلبت الهمزة الوصلية للابتداء، ومعناها تلاحق وتتابع، وعليه يكون المعنى انتهى علمهم في لحوق الآخرة فجهلوها، وتابع علمهم فيها ما جهلوه في الدنيا. وقيل معنى ادّارك تكامل من أدركت الفاكهة إذا تكامل نضجها، وعليه يكون المعنى إن أسباب استحكام العلم بأن القيامة كائنة قد حصل لهم في الدنيا، ومكنوا من معرفته، إلا أنه لا علم عندهم من أمرها، فقد تتابع علمهم حتى انقطع، وهذا بيان لجهلهم بوقت البعث، وأرى أن الأول أولى لموافقته للسياق، ولقوله تعالى «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها» بعد أن بلغ علمهم بها وتكاملت أسبابه بحصولها ووجودها «بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» ٦٦ جمع عم وهو أعمى القلب، ويقال له أعمه كما يقال لأعمى البصر أعمى، وقد كرر الإضراب ببل ثلاثا لشدة جهلهم، إذ وصفهم أولا بعدم الشعور بوقت البعث، ثم بعدم العلم يكون القيامة، ثم بالخبط بالشك وعدم إزالته مع قدرتهم عليها بالإيمان والإيقان حتى صاروا لأسوأ حال، وهو وقوعهم بالحيرة بسبب عمه قلوبهم الناشئ عن كفرهم الذي منعهم من التفكر بالعاقبة، وهو من جهلهم المركب الذي لا يزول إلا بعناية من الله، وأنى لهم منها وقد انكبوا على الدنيا بكليتهم؟ وقيل في المعنى:
سقام الحرص ليس له شفاء | وداء الجهل ليس له طبيب |
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله | وأجسامهم قبل القبور قبور |
وإن امرأ يحي بالعلم ميّت | وليس له حين النشور نشور |
٦٧ أحياء من القبور كما كنا، هو كالبيان لجهلهم بالآخرة وعماهم عنها لأنهم يريدون بهذا عدم التصديق بها والإصرار على جحودها ويؤيده قولهم أيضا «لَقَدْ وُعِدْنا هذا» الإخراج من القبور بعد الموت «نَحْنُ» من قبل محمد ابن عبد الله الذي هو في عصرنا «وَآباؤُنا» أيضا وعدوا من قبله «مِنْ قَبْلُ» وجودنا من قبل أنبيائهم، وإنا نقول كما قال أسلافنا «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ٦٨ وخرافاتهم يتناقلها الواحد بعد الآخر لا حقيقة لها. ونظير هذه الآية الآية ٨٤ من سورة المؤمنين في ج ٢، «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» ٦٩ من أمثالكم وانظروا أطلال ديارهم واسمعوا بقايا أخبارهم تنبئكم عن فظاعة ما حل بهم بسبب تكذيبهم رسلهم. ثم التفت إلى حبيبه فقال «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» إذا حلّ بهم عذابي الذي لا دافع له «وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ» وحرج في صدرك مما تسمعه من التكذيب وتراه من الإعراض «مِمَّا يَمْكُرُونَ» ٧٠ ولا تهتم لما يكيدونه لك، فإني حافظك منهم ومن يعصمه الله لا يصل إليه مكر الخلق. وقرأ ابن كثير بكسر ضاد ضيق خلافا لسائر القراء، نزلت هذه الآية في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة، وأوقفوا على أبواب طرقها رجالا يقولون للداخلين والخارجين أن عندنا رجلا منا يدعى محمدا جاء بدين مخالف لدين آبائنا، وهو رجل ساحر فلا تصدقوه.
راجع الآية ٩٤ من سورة الحجر في ج ٢ والآية ٨٥ من الأعراف المارة
«وَيَقُولُونَ» هؤلاء الماكرون «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به من إنزال العذاب «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٧١ أنت وأصحابك وتهددنا به ليل نهار «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ» دنا وقرب، لأن من أردفته خلفك فقد قربته منك أو حضر «لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» ٧٢ به، لأن تغاليكم بالكفر وتكالبكم على عبادة الأوثان يستدعيان نزول العذاب بكم «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» ومنهم أهل مكة إذ لم يعجل عقوبتهم كرامة لرسولهم، ولأن العذاب إذا حل عمّ وان في علمه من يؤمن منهم كثير، لذلك أمهلهم بفضله وكرمه «وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ» من أهل مكة شأن غيرهم لأن الأكثر دائما هو الضال والقليل المهتدي.
قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الآية ١٣ من سورة سبأ في ج ٢، وهكذا الأقل هو الشاكر والأكثر «لا يَشْكُرُونَ» ٧٣ نعم الله التي من جملتها تأخير نزول العذاب «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ»
من عداوتك وتخفيه من مناوأتك «وَما يُعْلِنُونَ» ٧٤ منها وهو يكفيك ذلك «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» مهما كانت غامضة متغمضة في الخفاء «إِلَّا» قد علمها الله وأحاط بها من قبل وأثبتها «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ٧٥ لمن له حق النظر فيه وهو على ظهوره فيه كل شيء مكتوم عن غير الله، وهو مصدر كل الكتب الإلهية «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ» المدون ذلك الكتاب المنزل عليك يا محمد «يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ» أهل الكتابين التوراة والإنجيل الذين يستفتونهم أهل مكة في أمرك «أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ٧٦ من أمر دينهم ودنياهم، لأنهم أنفسهم اختلفوا بعضهم مع بعض، فمنهم من يقول المسيح هو الله ومنهم من يقول ابنه، ومنهم من يقول ثالث ثلاثه، ومنهم من يقول نبي كسائر الأنبياء وهو الصحيح، ومنهم من ينسبه وحاشاه إلى الكذب في دعواه وأمه إلى ما هي براء منه وهي العذراء التقية المصونة المفضلة على نساء زمانها، وان اليهود عليهم غضب الله كذبوه وقصدوا إهانته فأنجاه الله منهم ورفعه إليه، وقالوا عزير ابن الله، وقالوا على الله بالبداء أي أنه يفعل الشيء مما يقع في كونه ثم يندم على فعله فيفعل غيره، وحاشاه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، واختلفوا في أمر النبي المبشر به في التوراة فمنهم من يقول يوشع، ومنهم من يقول عيسى، ومنهم من يقول لمّا يأت ولم يحن زمانه، ومنهم من يقول هو محمد وهو الصحيح، ولهم اختلافات في أمر دينهم ودنياهم لا تدخل تحت الحصر، وقد أنزل الله هذا القرآن على محمد بين فيه ما اختلفوا فيه بيانا كافيا شافيا مما يوجب إيمانهم لو تأملوا وأنصفوا، ولكنهم لم يفعلوا مكابرة، ولذلك كذبوه كما فعل المشركون من قومه أو قالوا فيه ساحر وكاهن وناقل ومتعلم، وأن القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين، فقد كذبوا، وصفه أنه كلام الله عز وجل «وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» ٧٧
«وَما أَنْتَ» يا حبيبي «بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ» ولا بمرشد من أعماه الله عن طريق الحق، وأعمى قلبه عن قبول الإيمان «إِنْ تُسْمِعُ» أي ما تسمع إسماعا يجدي السامع نفعا «إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» فهذا الصنف يمكنك أن تسمعه دعوتك لأنه ينتفع بها «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» ٨١ لك منقادون لامرك، مخلصون في اتباعك، والله يعلم من يؤمن ممن لا يؤمن، فلا تذهب نفسك حسرات على من لا يقبل نصحك ولا يسمع أمرك.
مطلب خروج دابة الأرض ومحلها وعملها ووجوب الاعتقاد بها:
قال تعالى «وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ» أي عصاة أهل الأرض بأن أغضبوا الله الحليم بإصرارهم على ما هم عليه، ووجبت عليهم الحجة، واستحقوا العقاب
تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إن أهل الحق ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن، ويقول هذا يا كافر.
- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن- وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى اليمن، فينشو ذكرها بالبادية لا يدخل ذكرها القرية يعني مكة، ثم تمكث زمانا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة، ثم بين الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله (يعني المسجد الحرام) لم يرعهم الا وهي في ناحية المسجد، تدنو، وتدنو كذا وكذا، قال عمرو ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك، فارقض الناس عنها وتثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فخرجت عليهم تنقض رأسها من التراب، فمرّت بهم فجلت وجوههم حتي تركتها كأنها الكواكب الدرّية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب، حتى إن الرجل ليقوم فيعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلى فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه فيتجاور الناس في ديارهم ويصطبحون في أسفارهم، ويشتركون في الأحوال، يعرف الكافر من المؤمن، فيقال للمؤمن يا مؤمن، وللكافر يا كافر. وجاء بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن
قال تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً» واذكر يا محمد لقومك بعد ذكر الدابة يوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة «مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا» المنزلة على رسلنا لارشادهم «فَهُمْ يُوزَعُونَ» ٨٣ لشدة الازدحام في ذلك اليوم العظيم يحبس أولهم آخرهم ليجتمعوا فيساقوا دفعة واجدة «حَتَّى إِذا جاؤُ» وصلوا إلى محل العرض أثناء مرورهم به، وأرقفوا بين يدي ربهم في ذلك الموقف الرهيب «قالَ» لهم على طريق الاستفهام التوبيخي «أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي» المبلغة إليكم من رسلي في الدنيا «وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً» والحال انكم لم تعرفوها حق معرفتها بل كذبتموها بادىء الرأي من غير أن تتفكروا بمنزلها وتنظروا الصادقين الذين أرشدوكم إليها «أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٨٤ بها في الدنيا أجحدتموها وقد جاءكم بها رسل؟ فخرسوا، إذ لا حجة لهم يتذرعون بها قال تعالى «وَوَقَعَ الْقَوْلُ» وجب العذاب الثابت في قوله تعالى «لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ» الآية ١٣ من سورة السجدة في ج ٢ «عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا» أنفسهم بالكفر والعصيان وعدم الالتفات الى آيات الله التي ذكرتهم أنهم لم يخلقوا عبثا «فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ» ٨٥ إذ يغشاهم العذاب فيشغلهم عن الاعتذار، وتكون أفواههم كأنها مختوم عليها، راجع الآية ٢٥ من المرسلات المارة، وهذا في موطن من مواطن القيامة، وقد ذكرنا أن فيها مواطن كثيرة منها ما يعتذر فيه، ومنها ما يتحاج فيه، ومنها ما ينكر فيه، ومنها ما يعترف فيه، ومنها ومنها، أجارنا الله منها، راجع الآية ٨١ من سورة مريم والآية ٦٤ من سورة يس المارتين قال تعالى «أَلَمْ يَرَوْا» هؤلاء الجاحدون قدرتنا «أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ» ويستوحوا لأنفسهم من نصب المعاش «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» مضيئا لينتفعوا به بما يقوّم أمورهم، وهذه الرؤية قلبية لأن الليل والنهار وإن كانا مبصرين بالعين لكن جعل كون الليل للراحة والنهار للعمل من الأمور المعقولة لا المبصرة، أي ألم يعلموا جعلنا الليل المظلم للنوم والقرار؟ قيل: النوم راحة القوى الحسية، من حركات القوى النفسية، والنهار المضيء للشغل النافع مادة
فيهم فيهرولون نحو الصوت سراعا لا يميلون عنه، قال تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) الآية ١٠٨ من سورة طه المارة وليعلم أن سيدنا إسرافيل عليه السلام منتظر دائما ربه سبحانه، فعند ما يتلقاه يفاجأ الكون به حالا، أما ما قاله الألوسي في الغالبة بان النفخات ثلاث، مستدلا بهذه الآية إذ سماها نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث، ويؤيد استدلاله بآية ص المارة وهي (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) ١٥ فهو قول لا مستند له ولا يفهم من هذه الآية الا مطلق نفخة وتحمل بالنسبة لسياق التنزيل على النفخة الثانية كما بيناه في تفسيرها فراجعه وبما أن الإجماع على أنهما نفختان لا ثالثة لهما فكل قول يخالفه لا قيمة له، ولهذا لا عبرة يقوله هذا رحمه الله فلا يؤخذ به لعدم استناده على دليل قاطع ولانفراده بهذا القول وحده. قال تعالى «وَتَرَى الْجِبالَ» رأي العين «تَحْسَبُها جامِدَةً» ساكنة واقفة قائمة في أمكنتها ممكة عن الحركة «وَهِيَ» والحال أنها تسير سيرا حثيثا «تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» الذي تسيره الرياح بسرعة عظيمة وتجزأه أجزاء على عظمه وهكذا الأجرام الكبيرة إذا تحركت نحو سمت واحد تراها واقفة بلا شك إذ لا يكاد يحس بحركتها لاجتماعها وكثرتها والتصاقها بعضها ببعض.
قال النابغة الجعوي في وصف جيش عظيم:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم | وقوف لجاج والركاب تهملج |
كأن مشيتها في بيت جارتها | مر السّحابة لا ريث ولا عجل |
اعلم أيها القارئ أن المفسرين أجمعوا على أن هذه في سير الجبال عند خراب الكون في النفخة الأولى، لأن الآية في بحث القيامة، كما أن الآية قبلها، والآية بعدها في بحث القيامة، الا أن القيامة تكون لخراب الكون، وإذا أنعمنا النظر في هذه الآية وأجلنا الفكر فيها وهي واقعة بين آيتين دالتين على القيامة بلا شبهة، نرى أن ليس في معناها ما يدل على الخراب كما هو الحال في الآيات الدالة على القيامة مثل سورة التكوير والانفطار وغيرهما، والآية ٢٤ من سورة يوسف والآية ٤٧ من سورة الكهف في ج ٢، لأن كلمة الإتقان فيها تؤذن للعمار لا للخراب من إفساد أحوال الكائنات وإخلال نظامها وكلمة صنع تفيد إجادة العمل وإحسان الفعل لا تشتيته وتبديده والصنع من خصائص الإنسان ولا ينسب للحيوان الا شذودا ولفظ أتقن يفيد الإحكام والمتانة والرصانة فلا يؤول بالخراب، وليس الخراب في معناه، وهذان الفعلان أي مصدر صنع الذي فعله صنع وفعل اتقن، فيها تشيران الى التهويل من أمر الجبال الى الذي مصدره الإتقان، وتنبه على أن سيرها من الأفاعيل العجيبة وتؤذن بأنها من بدائع صنع الله المبنية على الحكمة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق، ومبادئ الإبداع على وجه متين ونهج رصين وهذا كله من شأن الدنيا لدلالته على العمار كما ذكرنا، والقصد من تسييرها يوم القيامة سقوطها التسوى بالأرض قال تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) الآية ١٠٧ من سورة طه المارة، وقال تعالى: (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) الآية ٦ من القارعة وقال تعالى: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) الآية ١١ من سورة الحاقة في ج ٢، والآيات الدالة على خراب الكون كثيرة في القرآن، ويكون يوم تبدل الأرض غير الأرض راجع الآية ٤٨ من سورة ابراهيم في ج ٢ أيضا، وهذه الآية والله أعلم لا تدل على شىء مما تضمنته هذه الآيات لذلك أرى تفسيرها على غير أحوال الآخرة واعتبارها المعترضة بين ما قبلها وما بعدها، ومثلها في القرآن كثير، لأن جل الآيات المدنية في السور المكية والآيات المدنية في السور المدنية معترضة بين ما قبلها وما بعدها للاخبار، وعليه يكون المعنى والله أعلم إرشاد
«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ» الخصلة الطيبة من أقوال وأفعال وأخلص لله وحده وآمن بكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر
ثم التفت إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم فقال قل يا أكرم الرسل لقومك إذا جادلوك أو خاصموك «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ» مكة المكرمة لا أخص بعبادتي غيره، وإنّما خصها بالذكر لأنها مولده وأحب البلاد إليه وأكرمها عليه وقد أشار إليها إشارة تعظيم «الَّذِي حَرَّمَها» على المشركين وجعلها موطىء رسوله ومهبط وحيه، وجعلها حرما آمنا من فيها ويتخطف الناس من حولها وحرم سفك الدماء فيها بحيث لو رأى الرجل قاتل أبيه لا يعارضه البتة، وقد ضاعف عقاب الظلم فيها ومنع أن يصاد صيدها أو يختلي خلاها أو تلتقط لقطتها ولا يدخلها إلا محرم تعظيما لشأنها «وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ» في السموات والأرض ملكا وعبيدا «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ٩١ لعظمة ربي المنقادين لأوامره ونواهيه «وَأَنْ أَتْلُوَا» بنفسي عليكم «الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى» بهديه وآمن بمنزله ومبلغه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» فيعود نفع