ﰡ
مكية، وآيها: ثلاث وتسعون آية، وحروفها: أربعة آلاف وسبع مئة وتسعون حرفًا، وكلمها: ألف ومئة وتسع وأربعون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (١)﴾.[١] ﴿طس﴾ تقدم الكلام (١) عليه، ومذاهب القراء فيه أولَ سورة الشعراء، وهو اسم من أسماء الله تعالى، قاله ابن عباس (٢)، قيل: معناه هنا: لطيف وسميع.
﴿تِلْكَ﴾ أي: هذه الآيات المذكورات ﴿آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ وهو اللوح المحفوظ؛ لأنه خط فيه ما هو كائن، فهو يبينه للناظرين. قرأ ابن كثير: (القُرَانِ) و (قُرَان) و (قُرَانًا) حيث وقع: بالنقل، والباقون: بالهمز (٣).
(٢) تقدم ذكره عنه، وتخريجه.
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٣٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٣٥).
[٢] ﴿هُدًى﴾ أي: هو هدى من الضلالة.
﴿وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ للمصدقين به.
...
﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ قرأ ورش: (الصَّلاَة) بتغليظ اللام.
﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ المعنى: المؤمنون الموصوفون بهذه الصفات يوقنون بالبعث.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)﴾.
[٤] ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ بخلق الشهوة فيهم، فاعتقدوا أعمالهم القبيحة حسنة؛ لشهوتهم إياها، لا أنا حَسَّنَّا لهم الفواحشَ، وأمرناهم بها. قرأ أبو عمرو: (بِالآخِرَة زَّيَّنَّا) بإدغام التاء في الزاي (١).
﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ يترددون بتحير.
...
[٥] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ في الدنيا؛ بالقتل والأسر.
﴿وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ أشد الناس خسرانًا؛ لفوت المثوبة، واستحقاق العقوبة.
...
﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ﴾ لتؤتاه.
﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ أي: وحيًا من عند الله ذي الحكمة، وهذه الآية رد على كفار قريش في قولهم: إن القرآن من تلقاء محمد بن عبد الله.
...
﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧)﴾.
[٧] ثم قص تعالى خبر موسى عليه السلام، والتقدير: اذكر ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ﴾ في مسيره من مدين إلى مصر:
﴿إِنِّي آنَسْتُ﴾ أبصرت ﴿نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ﴾ أخبركم به عن حال الطريق؛ لأنه كان قد ضل عنها. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿قَبَسٍ﴾ هو العود الذي في أحد طرفيه نار، قال في (طه): ﴿فَلَمَّا قَضَى﴾ [الآية: ١٠] ترجِّيًا، وهنا (سَآتِيكُمْ) إخبارًا؛ لأن الراجي إذا قوي ترجيه، ربما حكم بوقوع الفعل، المعنى: أن موسى قال لزوجته لما ضربها الطلق، ورأى النار: اثبتوا مكانكم، سآتيكم بجزء منها.
﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ تستدفئون من البرد، وكان ذلك في شدة الشتاء.
...
﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨)﴾.
[٨] ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ أي: بورك على من في طلب النار، وهو موسى عليه السلام ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ وهم الملائكة، والمراد بالنار: النور؛ لأن موسى حسبه نارًا، وهذا تحية من الله -عز وجل- لموسى -عليه السلام- بالبركة؛ كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [هود: ٧٣]، ثم نزه تعالى نفسه فقال:
...
﴿يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)﴾.
[٩] ثم تعرف إلى موسى بصفاته فقال: ﴿يَامُوسَى إِنَّهُ﴾ والهاء في (إِنَّهُ) ضمير الشأن، والشأن ﴿أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ صفتان لله تعالى، وروي أن موسى لما سمع الخطاب، فلم ير أحدًا، قال: من الذي يكلمني؟ فقيل: ﴿إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ﴾ (١).
...
﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ثم أرى موسى آية على قدرته تعالى ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ﴾ عطف على ﴿بُورِكَ﴾ أي: نودي أن بورك من في النار، وأن ألق عصاك.
﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾ تتحرك باضطراب. وتقدم اختلاف القراء في (رَآهَا) في سورة الأنبياء عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الآية: ٣٦].
﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ حية صغيرة.
﴿وَلَّى مُدْبِرًا﴾ وهرب من الخوف.
﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ لم يرجع بعد هربه.
...
﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)﴾.
[١١] ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ استثناء منقطع؛ أي: لكن من ظلم من المرسلين بذنب صدر منه؛ كآدم ويونس وداود وموسى (١) ﴿ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ﴾ توبة بعد ذنب.
﴿فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أغفر له، وأزيل الخوف عنه.
...
﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (١٢)﴾.
[١٢] ثم أراه الله تعالى آية أخرى، فقال: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ أي: قميصك؛ لأنه يُجاب؛ أي يقطع، والجيب: الفتح في الثوب لرأس
﴿تَخْرُجْ بَيْضَاءَ﴾ حال ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ آفة برص.
﴿فِي تِسْعِ﴾ أي: آية في تسع ﴿آيَاتٍ﴾ و ﴿إِلَى﴾ متعلق بمحذوف؛ أي: مرسلًا إلى فرعون في تسع آيات، وهي: اليد، والعصا، والفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمس، أنت مرسل بهن ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ تعليل للإرسال.
...
﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ حال يُبصر بها، ونسب البصر إليها مجازًا، وهو في الحقيقة لمتأمليها ﴿قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ظاهر.
...
﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَجَحَدُوا بِهَا﴾ أنكروا الآيات، ولم يقروا أنها من عند الله.
﴿وَاسْتَيْقَنَتْهَا﴾ أي: وقد استيقنتها ﴿أَنْفُسُهُمْ﴾ واستيقن أبلغُ من أيقن، المعنى: لما جاءتهم آياتنا واضحات، واستيقنوا صدقها، جحدوا بها ﴿ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ شركًا وتكبرًا.
﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ وسوء منقلبهم حين كذبوا موسى، وفي هذا تمثيل لكفار قريش؛ إذ كانوا مفسدين مستعلين.
[١٥] ثم ابتدأ بقصص فيه غيوب وعبر، وليس بمثال لقريش، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ أي: علم القضاء، ومنطق الطير والدواب، وتسبيح الجبال.
﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا﴾ بالنبوة، وتسخير الجن والإنس والشياطين ﴿عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: من لم يؤت علمًا.
...
﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ في النبوة والملك دون سائر أولاده، وكانوا تسعة عشر. قرأ أبو عمرو: (وَوَرِث سُّلَيْمَانُ) بإدغام الثاء في السين (١)، و (ورث) بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه، فسمي ميراثًا تجوزًا، وهذا نحو قولهم: "العلماء ورثة الأنبياء"، وحقيقة الميراث في المال، والأنبياءُ لا تورث أموالهم؛ لأن النبي - ﷺ - قال: "إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا، فهو صدقة" (٢) فأعطي سليمان ما أعطي داود عليهما السلام من
(٢) رواه البخاري (٢٩٦٢)، كتاب: أبواب الخمس، باب: فرض الخمس، ومسلم (١٧٥٨)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قول النبي - ﷺ -: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"، عن عائشة -رضي الله عنها-.
﴿وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ أي: فَهْمَ أصواته، والمنطق: الكلام، روي أنه صاح ورشانُ، فقال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب، وصاحت فاختة، فقال: إنها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا، والطاوس يقول: كما تدين تدان، والهدهد يقول: كل حي ميت، وكل جديد بال، والخطاف يقول: قدموا خيرًا تجدوه، والحمامة تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمواته وأرضه، والقطا يقول: من سكت سلم، والببغاء يقول: ويل لمن الدنيا همه، والدراج يقول: الرحمن على العرش استوى، والقُبر يقول: اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد، والنسر يقول: ابن آدم عش ما شئت آخره الموت، والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس، والحمار يقول: اللهم العن العشار، والفرس يقول إذا التقى الصفان: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، والزرزور يقول: اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق (١).
﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يؤتاه الأنبياء والملوك من أمر الدنيا والآخرة.
﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا.
...
[١٧] ﴿وَحُشِرَ﴾ جُمع ﴿لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ﴾ في مسير كان له.
﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ يُحبسون ثم يُساقون، وأصل الوزع: الكف، والوزَّاع: هو الحابس، وهو النقيب، وكان معسكره مئة فرسخ: في مئة فرسخ خمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان يأمر الريح العاصف فترفعه، ويأمر الرخاء فتسير به، فأوحى الله إليه وهو بين السماء والأرض: أني قد زدت في ملكك: أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرتك، فبينا هو يسير، رآه وجندَه حَرَّاث، فقال: لقد أوتي آل داود ملكًا عظيمًا، فمشى إليه سليمان وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال: والله لتسبيحة واحدة يتقبلها الله خير مما أوتي آل داود (١).
...
[١٨] ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ﴾ وقف يعقوب، والكساني (وَادِي) بإثبات الياء (١).
روي أن سليمان -عليه السلام- سار من اصطخر إلى اليمن حتى مر بواد النمل، وهو واد بالطائف، وقيل: بالشام، كثير النمل، والمشهور أنه النمل الصغير، وقيل: كان نمل ذلك المكان أمثال الذباب، وقيل كالبخاتي ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ وكانت ملكة النمل لما رأت جند سليمان: ﴿يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ ولم يقل: ادخلن؛ لأنه لما جعل لها قولًا، خاطبها خطاب الآدميين ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ يكسرنكم ﴿سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ﴾ قرأ رويس عن يعقوب: ﴿يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ بإسكان النون مخففًا، والباقون: بفتحها مشددًا (٢).
﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بهلاككم إقامة لعذرهم.
...
﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)﴾.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٧٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٤١).
وعن قتادة: أنه دخل الكوفة، فالتف عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة -رضي الله عنه- حاضرًا وهو غلام حَدَث، فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكرًا أم أنثى؟ فسألوه، فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: من أين عرفت؟ فقال: من كتاب الله، وهو قوله: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ ولو كان ذكرًا، لقال: قال نملة وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة؛ نحو قولهم: حمامة ذكر، وحمامة أنثى، وهو وهي (١).
روي أنه لما أشرف على الوادي، حبس جنده حتى دخل النمل بيوتهم. وروي أنه قال لعظيم النمل: لِمَ قلت ادخلوا مساكنكم، أخفت عليهم مني ظلمًا؟ قال: لا، ولكن خشيت أن يفتنوا بما يرون من ملكك، فيشغلهم ذلك عن طاعة الله (٢).
﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا﴾ حال مؤكدة، والتبسم أول الضحك، وهو ما لا صوت له ﴿مِنْ قَوْلِهَا﴾ تعجبًا من حذرها وتحذيرها.
﴿وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ ألهمني. قرأ ورش، والبزي: (أَوْزِعْنِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٣).
(٢) ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٣/ ١٧١) عن أبي إسحاق الثعلبي، قال: رأيت في بعض الكتب... فذكره.
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: =
...
﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠)﴾.
[٢٠] روي أن الهدهد كان دليل سليمان على الماء، وكان يعرف موضع الماء، ويراه تحت الأرض كما يرى في الزجاجة، ويعرف قربه وبعده، فينقر الأرض فتجيء الشياطين، فيسلخونه ويستخرجون الماء، فنزل سليمان منزلًا، فاحتاج إلى الماء وقت الصلاة، فطلب الهدهد فلم يجده (٢). ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ ليرى الهدهد، فلم يره، والتفقد: طلبُ ما فُقد، ومعنى الآية: طلب ما فقد من الطير.
﴿فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ في جملة الطير. قرأ ابن كثير، وعاصم، والكسائي، وهشام عن ابن عامر: (مَا لِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٣)، ثم أدركه الشك في غيبته، فقال:
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٣٩١).
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (١٩/ ٤٤٢) عن ابن عباس. وانظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٣٩٢).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٧٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٤٢).
...
﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١)﴾.
[٢١] فلما تحقق غيبته، قال: ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا﴾ أي: تعذيبًا.
﴿شَدِيدًا﴾ بنتف ريشه وذنبه، ورميه في الشمس، فلا يمتنع على الهوام.
﴿أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ﴾ لأقطعن حلقه، ورسمت (أَوْ لأَاذْبَحَنَّهُ) في بعض المصاحف بزيادة ألف بعد (لأَ).
﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ برهان ظاهر على عذره. قرأ ابن كثير: (لَيَأْتِيَنَّنِي) بنونين: الأولى مفتوحة مشددة، والثانية مكسورة مخففة، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة، أصلها: لَيَأْتِينِي، ثم دخلت النون مشددة، وهي محسوبة بنونين تأكيدًا للقسم، وبعدها نون مكسورة للوقاية كنون ضربني، وبني الفعل على الفتح، ففتح الياء التي هي لام الفعل، وقرأ الباقون: بنون واحدة مكسورة مشددة، وكذلك هو في مصاحفهم (١).
[٢٢] وكان سبب غيبة الهدهد: أن سليمان -عليه السلام- لما فرغ من عمارة بيت المقدس، خرج للحج، فأقام في الحرم مدة طويلة، يقرب كلَّ يوم خمسة آلاف ناقة، وخمسة آلاف بقرة، وعشرين ألف شاة، وقال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي، صفته كذا وكذا (١)، يعطى النصر على جميع من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم، يدين بدين الحنيفية، طوبى لمن أدركه وآمن به، ثم خرج من مكة يطلب صنعاء اليمن، فرأى مكانًا أعجبه، فنزل ليتغدى ويصلي الظهر، وكان الهدهد دليل الماء كما تقدم، واسمه يعفور، فقصد أن يرتفع لينظر في طول السماء وعرضها، فارتفع فرأى بستانًا لبلقيس، فمال إلى خضرته، فإذا بهدهد اسمه عنفير، فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان: من أين أقبلت؟ قال: من الشام مع صاحبي سليمان ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمن أين أنت؟ قال: من هذه البلاد، وملكتها بلقيس، وما أظن ملك سليمان بأعظم من ملكها، فهل أنت منطلق معي تنظر ملكها؟ فقال: أخاف أن يفقدني سليمان وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، فقال: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه، ونظر ملكها.
﴿فَمَكَثَ﴾ وقتًا ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ ثم جاء. قرأ عاصم، وروح عن يعقوب:
﴿فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ أي: علمت ما لم تعلم، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك (٣)، والإحاطة: العلمُ بالشيء من جميع جهاته.
﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ﴾ اسم أرض باليمن، أو رجل. قرأ أبو عمرو، والبزي عن ابن كثير: (سَبَأَ) بفتح الهمزة من غير تنوين، وروى قنبل عن ابن
(٢) "عليه" زيادة من "ت".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٣٩٢ - ٣٩٤).
﴿بِنَبَإٍ﴾ خبر ﴿يَقِينٍ﴾.
...
﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣)﴾.
[٢٣] قال سليمان: وما ذاك؟ قال: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ أي: تملك قومها، واسمها بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وأمها جنية؛ لأنه ما كان يرى التزوج من الإنس، ولم يكن له ولد غيرها، فملكت ملكه.
﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يليق بها من أسباب الدنيا.
﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ سرير ضخم كان مضروبًا من الذهب، مكللًا بالدر
(٢) رواه ابن حبان في "المجروحين" (٣/ ١١١ - ١١٢)، والطبراني في "المعجم الكبير" (١٨/ ٣٢٤)، عن فروة بن مسيك -رضي الله عنه-.
قال ابن عباس: "كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعًا في ثلاثين ذراعًا، وطوله في السماء ثلاثون ذراعًا" (١)، وقيل غير ذلك.
...
﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا﴾ وكانوا مجوسًا ﴿يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ القبيحة ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ سبيل الصواب.
﴿فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ إليه، وخفي حالها على سليمان، مع قربها منه؛ لأنه كان نازلًا بصنعاء، وهي بمأرب، وبينهما ثلاثة أميال لحكم يعلمها الله تعالى؛ ليعلم الإنسان أنه لا يعلم إلا ما عُلِّم.
...
﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ قرأ أبو جعفر، والكسائي، ورويس عن يعقوب: (أَلاَ) بتخفيف اللام، ويقفون: (أَلاَ يَا)، ويبتدئون: (اُسْجُدُوا) بهمزة مضمومة على الأمر على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا: وجعلوه أمرًا من الله
قال الحافظ أبو عمرو الداني: كما حذفوها في قوله: (يَبْنَؤمَّ) في طه على مراد ذلك.
قال ابن الجزري: أما (يا بنؤم). فقد رأيته في المصاحف الشامية من الجامع الأموي، ورأيته في المصحف (١) الكبير الذي يذكر أنه الإمام من الفاضلية بالديار المصرية. وفي المصحف المدني: بإثبات إحدى الألفين، ولعل الداني رآه في بعض المصاحف محذوف الألفين، فنقله كذلك. وقرأ الباقون: بتشديد اللام، و (يَسْجُدُوا) عندهم كلمة واحدة، مثل ألا يقولوا، فلا يجوز القطع على شيء منها (٢)، المعنى: وزين لهم الشيطان أعمالهم؛ لئلا يسجدوا ﴿لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ﴾ المستتر ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فخبء السماء: المطر، وخبء الأرض: النبات.
﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ وصف له بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود. قرأ الكسائي، وحفص عن عاصم: (تُخْفُونَ) و (تُعْلِنُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (٣).
...
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٧)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٩٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٤٦).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٤٨).
[٢٦] ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ هو المستحق للعبادة والسجود، لا غيره، وعرش ملكة سبأ وإن كان عظيمًا، فهو صغير حقير في جنب عرشه عز وجل، وهذا محل سجود بالاتفاق، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في حكم سجود التلاوة وسجود الشكر ملخصًا عند سجدة مريم.
...
﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٧)﴾.
[٢٧] فلما فرغ الهدهد، من كلامه ﴿قَالَ﴾ له سليمان:
﴿سَنَنْظُرُ﴾ من نظر التأمل ﴿أَصَدَقْتَ﴾ فيما أخبرت.
﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فيه (١).
...
﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ثم دلهم الهدهد على الماء، فاستخرج، وارتووا وتوضؤوا وصلوا، ثم كتب سليمان كتابًا صورته: "من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علي، وأتوني مسلمين"، ثم طبعه بالمسك، وختمه بخاتمه، ثم قال له: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ﴾ قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة: (فَأَلْقِهْ) بسكون الهاء تخفيفًا لغة صحيحة، وقرأ أبو جعفر،
﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ تنحَّ مستترًا ﴿فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ يردُّون من الجواب.
...
﴿قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩)﴾.
[٢٩] فأخذ الهدهد الكتاب، وأتى بلقيس وهي نائمة في قصرها، فألقاه على نحرها، فلما رأت الخاتم، أرعدت وخضعت خوفًا؛ لأن ملك سليمان كان فيه، وعرفت أن مُلكَ المرسل إليها أعظم من ملكها، ثم تأخر الهدهد يسيرًا، ثم جلست مع أشراف قومها، وكانوا اثني عشر ألفًا، ثم ﴿قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ مختوم، قال - ﷺ -: "كرامةُ الكتابِ خَتْمُه" (٢).
واختلاف القراء في الهمزتين من (الْمَلأُ إِنِّي) كاختلافهم فيهما من (نَشَاءُ إِلَى
(٢) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (٣٨٧٢)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٨/ ٩٩): فيه محمد بن مروان السدي الصغير، وهو متروك.
...
﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠)﴾.
[٣٠] ثم قرأت عليهم ما في الكتاب، وهو: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
...
﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ لا تتكبروا ﴿وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ طائعين مؤمنين.
...
﴿قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢)﴾.
[٣٢] ثم ﴿قَالَتْ﴾ اختبارًا لقومها وتطييبًا لقلوبهم:
﴿يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي﴾ أشيروا علي ﴿فِي أَمْرِي﴾ فيما عرض لي.
﴿مَا كُنْتُ قَاطِعَةً﴾ منفذة ﴿أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ تحضرون. قرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وابن كثير، ورويس عن يعقوب: (الْمَلأُ أَفْتُونِي) بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية، وهي أن تبدل واوًا محضة، وقرأ الباقون، وهم الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: بتحقيق
...
﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿قَالُوا﴾ مجيبين لها: ﴿نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ﴾ الأجساد والآلات.
﴿وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ شجاعة ونجدة في الحرب، وهذا تعرض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك.
﴿وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ﴾ في القتال وتركه.
﴿فَانْظُرِي﴾ من الرأي ﴿مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ فنحن لك تبع.
...
﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)﴾.
[٣٤] فأومأت إلى المسالمة، و ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً﴾ قهرًا ﴿أَفْسَدُوهَا﴾ بالتخريب.
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٥١).
فقال: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ أي: كما قالت.
...
﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] وكانت بلقيس امرأة لبيبة، قد سيست وساست، وعرفت تدبير الملك، فأرادت أن تداري عن بلدها، فقالت للملأ من قومها: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾ أختبر بذلك سليمان، إن كان ملكًا، أخذ الهدية وانصرف، وإن كان نبيًّا لم يأخذها، ولم نأمنه على بلادنا.
﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ﴾ أي: بأي شيء.
﴿يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ من قبول الهدية أو ردها، وما يقال لهم. وقف يعقوب والبزي: (بمَهْ) بزيادة هاء بعد الميم بخلاف عنهما (١)، والهدية: اسم للشيء المعطى بملاطفة ورفق.
...
﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦)﴾.
[٣٦] فأهدت بلقيس لسليمان وُصَفاءَ ووصائفَ، وألبستهم لباسًا واحدًا لئلا يُعرفوا، وكان عددهم خمس مئة جارية، وخمس مئة غلام، وأربع
﴿فَلَمَّا جَاءَ﴾ رسلها ﴿سُلَيْمَانَ﴾ نظر إليهم بوجه حَسَنٍ طَلْق، وقال: ما وراءكم؟ فأخبر الخبر، وأعطي كتابها، فنظر فيه فقال: أين الحقة؟ فجيء بها، فقال: إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجزعة معوجة الثقب،
﴿قَالَ أَتُمِدُّونَنِ﴾ أتزيدونني ﴿بِمَالٍ﴾ وأكثر استعمال الإمداد في المحبوب، والمد في المكروه.
﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ﴾ من النبوة والملك ﴿خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾ من الدنيا، ثم أضرب عن إنكاره عليهم مبينًا سبب حملهم على الإمداد.
فقال: ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ لفخركم بزخارف الدنيا (١)، المعنى: إن الله تعالى أعطاني نبوة وملكًا لا مزيد عليه، فلا حاجة بي إلى دنياكم، بل حاجتي إلى إيمان قومكم. قرأ حمزة، ويعقوب: (أَتُمِدُّونِّي) بنون واحدة مشددة وإثبات الياء، وقرأ الباقون: بنونين خفيفتين، وأثبت الياء وصلًا نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وفي الحالين: ابن كثير، ويعقوب، وحمزة (٢)، إلا أن حمزة ويعقوب يدغمان النون كما تقدم، وقرأ نافع،
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٠١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٥٢).
...
﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ثم قال سليمان للمنذر بن عمرو أمير الوفد: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ أي: لا طاقة لهم بهم. قرأ حمزة، ويعقوب: (إِلَيْهمْ) بضم الهاء حيث وقع (٢)، وابن كثير، وأبو جعفر، وقالون بخلاف عنه: يصلون الميم بواو حيث وقع، وقرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (لاَ قِبَل لَّهُمْ) بإدغام اللام الأولى في الثانية (٣).
﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا﴾ من سبأ ﴿أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ إن لم يأتوا مسلمين.
فلما رجع رسلها إليها، قالت: قد عرفت أنه ليس بملك، وما لنا به عن طاقة، وأرسلت إليه: أني قادمة عليك، وجحلت سرائرها داخل سبعة
(٢) سلفت عند تفسير الآية (٦) من سورة الفاتحة.
(٣) انظر: "الغيث" للصفافسي (ص: ٣١٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٥٤).
...
﴿قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨)﴾.
[٣٨] وكان سليمان رجلًا مَهِيبًا لا يبدأ بشيء حتى يسأل عنه، فجلس يومًا على سريره، فرأى رهجًا وجمعًا جمًّا على فرسخ عنه، فقال: ما هذا؟ قال: بلقيس بجنودها، فأقبل حينئذ سليمان على جنوده، و ﴿قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ فيحرم علي أخذه منها (٢). واختلاف القراء في الهمزتين من ﴿الْمَلأُ أَيُّكُمْ﴾ كاختلافهم فيهما من ﴿الْمَلأُ أَفْتُونِي﴾ [يوسف: ٤٣ والنمل: ٣٢].
...
﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ﴾ المارد القوي ﴿مِنَ الْجِنِّ﴾ والإنس، مأخوذ من العفر، وهو التراب، فكأنه يصرع قرنه عليه من الخبر، واسمه كوذي:
﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ أي: من مجلسك الذي تقضي فيه، وكان يجلس إلى القضاء إلى نصف النهار.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٣٩٩ - ٤٠١).
...
﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)﴾.
[٤٠] فقال سليمان: أسرع من هذا ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: من كتابها إليه، وهو آصف بن برخيا، وكان صِدّيقًا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وهو يا حي يا قيوم، وقيل غيره (١)، وكان بينه وبين عرشها مقدار شهرين:
﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ أي: تحريك أجفانك إذا نظرت.
قرأ حمزة، وخلف بخلاف عن خلاد: (آتِيكَ) بإمالة فتحة الهمزة في الحرفين (٢). رُوي أن آصف قال لسليمان: أرسل طرفك، فنظر نحو اليمين، فدعا آصف، فسار الكرسي تحت الأرض، ونبع لدى سليمان قبل أن يرجع إليه طرفه (٣).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٨٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٥١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٥٤).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٤٠٣)، ورواه الطبري في "تفسيره" (١٩/ ٤٦٨) عن وهب بن منبه.
﴿لِيَبْلُوَنِي﴾ ليختبرني ﴿أَأَشْكُرُ﴾ النعمة ﴿أَمْ أَكْفُرُ﴾ بكون غيري أعلم مني.
﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ لأن نفع شكره عائد عليه؛ لأن الشكر قيد النعمة الموجودة، وصيد النعمة المفقودة.
﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ بترك الشكر على النعمة ﴿فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ﴾ عن شكرهم ﴿كَرِيمٌ﴾ ذو فضل على الشاكر والكافر. وتقدم التنبيه على اختلاف القراء في (رَآهُ عِنْدَهُ) ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾ [النمل: ١٠]، وقرأ نافع، وأبو جعفر: (لِيَبْلُوَنيَ) بفتح الياء الأخيرة، والباقون: بإسكانها (١)، واختلافهم في الهمزتين من (أَأَشْكُرُ) كاختلافهم فيهما من (أَأَنْتَ فَعَلْتَ) في سورة الأنبياء [الأنبياء: ٦٢].
...
﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (٤١)﴾.
[٤١] ولما جاءت بلقيس، خاف الجن أن تفشي سرهم إلى سليمان؛ لأن أمها كانت جنية (٢)، وأن يتزوجها سليمان، فتلد له ولدًا فلا ينفكون من
(٢) قال الماوردي: وهذا مستنكر للعقول؛ لتباين الجنسين واختلاف الطبعين؛ إذ الآدمي جسماني والجني روحاني، وهذا من صلصال كالفخار، وذاك من مارج من نار، والامتزاج مع هذا التباين مدفوع، والتناسل مع هذا الاختلاف ممنوع. ورده =
﴿نَكِّرُوا﴾ غيروا ﴿لَهَا عَرْشَهَا﴾ بأن تجعلوا أعلاه أسفله، ومكان الجوهر الأحمر أخضر، وبالعكس.
﴿نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي﴾ إلى معرفته.
﴿أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ﴾ فغير عرشها لاختبار عقلها.
...
﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ﴾ بلقيس ﴿قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ عرفته، لكن شبهت عليهم، لم تقل: نعم؛ خوفًا من أن تكذب، ولم تقل: لا؛ خوفًا من التكذيب، فعرف سليمان كمال عقلها؛ حيث لم تقر ولم تنكر.
﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا﴾ من تتمة كلام بلقيس؛ أي: آمنا بالآيات المتقدمة من أمر الهداية والرسل من قبل هذه المعجزة في العرش.
﴿وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ طائعين له لما أخبرنا بما اقترحنا عليه من الدلالة على نبوته، وقيل: هو من كلام سليمان -عليه السلام- على جهة تعديد نعم الله
...
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿وَصَدَّهَا﴾ الله بتوفيقها للإسلام عن عبادة ﴿مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ وهي الشمس، وقيل: المعنى: وصدها منعَها من الإيمان قبل ذلك ما كانت تعبد من دون الله.
﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ يعبدون الشمس، فنشأت فيهم، ولم تعرف إلا عبادتها.
...
﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ولما أراد سليمان أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفهم لما قيل له: إن رجليها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين (١)، وليريها ملكًا أعظم من ملكها، أمر الشياطين فبنوا له صرحًا؛ أي: قصرًا من زجاج؛ كأنه الماء بياضًا، وجعل صحن الدار قوارير، وجعل تحته أمثال الحيات والضفادع، فإذا رئي، ظن ماء حقيقة، ووضع سريره في صدر
﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ هي معظم الماء، ﴿وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾ لتنجو منه إلى سليمان، فنظر سليمان، فإذا هي أحسن الناس ساقًا وقدمًا، إلا أنها كانت شَعراء الساقين. قرأ قنبل عن ابن كثير: (سَأْقَيْهَا) بالهمز الساكن؛ لجواز أن يكون من العرب من يهمز مفرد ساق وجمعه، والباقون: بغير همز (١)، فلما رأى سليمان ذلك، صرف بصره عنها.
ثم ﴿قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ﴾ بنيان مملس ﴿مِنْ قَوَارِيرَ﴾ من زجاج، وليس بماء حقيقة، ثم دعاها إلى الإسلام، فأجابت، و ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ بعبادتي غيرك.
﴿وَأَسْلَمْتُ﴾ أي: وقد أسلمت ﴿مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أخلصت له التوحيد.
وأراد سليمان تزوجها، فكره شعر ساقيها، فسأل الإنس: ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى، فقال: إنها تقطع ساقيها، فسأل الجن، فقالوا: لا ندري، ثم سأل الشياطين، فقالوا: نحتال لك حتى تصير كالفضة البيضاء، فأخذوا النورة والحمام، فكانت النورة والحمام من يومئذ، ويقال: إن الحمام الذي ببيت المقدس بباب الأسباط إنما بني لها، وإنه أول حمام بني على وجه الأرض، فلما تزوجها سليمان أحبها حبًّا شديدًا،
...
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ﴾ أي: بأن.
﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وحِّدوه.
﴿فَإِذَا هُمْ﴾ مبتدأ، وخبره ﴿فَرِيقَانِ﴾ مؤمن وكافر.
﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ يقول كلٌّ: الحقُّ معي.
...
﴿قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ أي: العذاب الذي يوعدون به.
﴿قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ قبل التوبة؛ لأئهم كانوا يعتقدون لجهلهم أن العذاب
﴿لَوْلَا﴾ أي: هَلَّا ﴿تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ﴾ من كفركم قبل نزول العذاب بكم.
﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ فإن العذاب إذا نزل لا يرفع.
...
﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا﴾ أصله: تطيرنا؛ أي: تشاءمنا ﴿بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ﴾ من المؤمنين؛ أي: أصابنا بسببكم شؤم، وهو القحط، وتفريق كلمتنا، وأصل التطير: أن الرجل كان إذا سافر، مر بطائر، فزجره، فإن مر سانحًا، وهو الذي ولاه مياسره، فلا يتمكن من رميه، فيتشاءم به، ثم استعمل في كل ما يُتشاءم به.
﴿قَالَ طَائِرُكُمْ﴾ أي: السبب الذي يجيء منه خيركم وشركم.
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: لا يأتي به إلا هو تعالى، وسمي طائرًا؛ لسرعة نزوله، ولا شيء أسرع من قضاء محتوم.
﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ تختبرون بالخير والشر.
...
﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ وهي الحِجْر ﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ أي: أنفس،
﴿يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ بالمعاصي ﴿وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ وهم الذين اتفقوا على عقر الناقة، وهم غواة قوم صالح، ورأسهم قدار بن سالف، وهو الذي تولى عقرها، كانوا يعملون بالمعاصي.
...
﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا﴾ تحالفوا ﴿بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ لنقتلنه ﴿وَأَهْلَهُ﴾ أي: قومه الذين أسلموا معه، البيات: مباغتة العدو ليلًا.
﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ﴾ أي: ولي دمه:
﴿مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ أي: إهلاكهم.
﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ في قولنا، ووجه دعواهم الصدق، وقد جحدوا ما فعلوا بهم: أنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (لَتُبَيِّتُنَّهُ) (ثُمَّ لَتَقُولُنَّ) بالتاء فيهما، وضم التاء الثانية في الأول، وضم اللام الثانية في الثاني؛ أي: يأمر بعضهم بعضًا بالتحالف على إهلاك صالح وأهله ليلًا؛ من البيات، وقرأ الباقون: بالنون في الفعلين وفتح التاء واللام إخبارًا عن أنفسهم (٢)، وقرأ أبو بكر عن عاصم: (مَهْلَكَ) بفتح الميم
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٨٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٦٨)، =
...
﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾ أي: غدروا غدرًا حين قصدوا تبييتَ صالح والفتكَ به.
﴿وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾ أي: جازيناهم جزاء مكرهم ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ مرادنا منهم.
...
﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ قرأ الكوفيون، ويعقوب: (أَنَّا) بفتح الهمزة ردًّا على العاقبة؛ أي: كانت العاقبة أنا دمرناهم، وقرأ الباقون: بالكسر على الاستئناف (٢)، المعنى: أن أولئك التسعة أرادوا الفتك بصالح وأهله، فأهلكناهم.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٥٨).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٠٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٥٩).
...
﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً﴾ نصب على الحال؛ أي: خالية.
﴿بِمَا ظَلَمُوا﴾ بسبب ظلمهم وكفرهم.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ قدرتنا.
...
﴿وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ الكفر والمعاصي، وهم صالح ومن نجا معه من العذاب، وكانوا أربعة آلاف.
...
﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿وَلُوطًا﴾ أي: واذكر لوطًا.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٤٠٨).
﴿وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ بقلوبكم أنها خطيئة وفاحشة.
...
﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ عاقبة فعلكم. واختلاف القراء في الهمزتين من (أَئِنَّكُمْ) كاختلافهم فيهما من (أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا) في سورة الشعراء [الآية: ٤١].
...
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ يتنزهون عن إتيان الذكور.
...
﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا﴾ بتخفيف الدال؛ أي: جعلناها، وقرأ الباقون: بتشديد الدال (١)؛ أي: قدرنا عليها؛ من القدر والقضاء.
...
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ وهي حجارة السجيل، أهلكت جميعهم.
قال ابن عطية: وهذه الآية أصلًا لمن جعل من الفقهاء الرجم في اللوطية، وبها تأنس؛ لأن الله عذبهم على كفرهم به، وأرسل عليهم الحجارة لمعصيتهم، ولم يقس هذا القول على الزنا، فيعتبر الإحصان (١).
وتقدم الكلام على ذلك مستوفىً في سورة النساء، وملخصه: أن مذهب مالك -رحمه الله- رجم الفاعل والمفعول به، أحصنا أو لم يحصنا، ومذهب الشافعي وأحمد حكمه كالزنا، فيه الرجم مع الإحصان، والجلد مع عدمه، ومذهب أبي حنيفة: يعزر، ولا حد عليه؛ خلافًا لصاحبيه، وعن أحمد رواية أن من تلوط بغلام، قُتل، بكرًا كان أو ثيبًا؛ لقوله - ﷺ -: "من وجدتموه يعملُ عملَ قومِ لوط، فاقتلوا الفاعلَ والمفعولَ به" (٢)، ولكن
(٢) رواه أبو داود (٤٤٦٢)، كتاب: الحدود، باب: فيمن عمل عمل قوم لوط، والترمذي (١٤٥٦)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في حد اللوطي، وابن ماجه (٢٥٦١)، كتاب: الحدود، باب: من عمل عمل قوم لوط، والإمام أحمد في "المسند" (١/ ٣٠٠)، وغيرهم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ثم أمر الله محمدًا - ﷺ - بحمده، ثم بالسلام على خير خلقه، فقال:
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على هلاك كفار الأمم الخالية.
﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ هم الرسل.
﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أجمع القراء على مد (آللَّهُ)؛ لأنها همزة استفهام دخلت على همزة الوصل؛ لتفرق بين الاستفهام والخبر، وأجمعوا على عدم تحقيقها؛ لكونها همزة وصل، وهمزة الوصل لا تثبت بالابتداء، وأجمعوا على تليينها، واختلفوا في كيفيته، فقال كثير منهم: تبدل ألفًا خالصة، وقال آخرون: تسهل بين بين (١)، وقرأ أبو عمرو، وعاصم، ويعقوب: (يُشْرِكُونَ) بالغيب إخبارًا عن الكفار، وقرأ الباقون: بالخطاب (٢)، المعنى: آلله أنفع لعابديه، أم الأصنام لعابديها؟ وهذا إلزام لهم، وتبكيت، لا أن في أصنامهم خيرًا.
...
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٨)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٤٠٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٦١).
[٦٠] ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ أي: عبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السموات والأرض؟ فهو رد مردود على ما قبله من المعنى المتقدم، وفيه معنى التوبيخ لهم، والتنبيه على قدرة الله تعالى، وعجز آلهتهم.
﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ يعني المطر. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (وَأَنْزَل لَّكُمْ) بإدغام اللام الأولى في الثانية (١).
﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ﴾ بساتين ﴿ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ أي: حُسن، تبهج من رآها. وقف الكسائي (ذَاهْ) بالهاء (٢).
﴿مَا كَانَ﴾ أي: ما ينبغي ﴿لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ لأنكم لا تقدرون عليها.
﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ استفهام على طريق الإنكار؛ أي: هل معه معبود سواه أعانه على صنعه؟ ﴿بَلْ﴾ ليس معه إله ﴿هُمْ قَوْمٌ﴾ يعني: كفار مكة ﴿يَعْدِلُونَ﴾ يشركون. واختلاف القراء في الهمزتين من (أَإِلَهٌ) كاختلافهم
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٣٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٦٢).
...
﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾ يُستقر عليها.
﴿وَجَعَلَ خِلَالَهَا﴾ أي: وسطها ﴿أَنْهَارًا﴾ تطرد بالمياه.
﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ﴾ جبالًا ثوابت.
﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ﴾ العذب والمالح.
﴿حَاجِزًا﴾ مانعًا لا يختلط أحدهما بالآخر.
﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ توحيدَ الله، فلا يؤمنون.
...
﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ﴾ المجهود الذي مسه الضر.
﴿إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ الضر.
﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ﴾ أي: سكان.
﴿الْأَرْضِ أَإِلَهٌ﴾ بعد هلاك المتقدمين.
﴿مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا﴾ الذي خلقكم بهذه النعمة؟!
﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ والمراد نفي التذكر؛ لأن القلة تستعمل بمعنى
...
﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ﴾ بالنجوم.
﴿فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ ليلًا، وبعلامات الأرض نهارًا.
﴿وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف: (الرِّيحَ) على الإفراد، وقرأ الباقون: (الرِّيَاحَ) على الجمع (٢).
﴿بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ أي: قدام المطر، وتقدم الكلام على (نُشْرًا)، واختلاف القراء فيها، وتوجيه قراءتهم في سورة الفرقان عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا﴾ [الآية: ٤٨].
﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ يقدر على فعل ذلك ﴿تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ به.
...
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٧٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٦٣).
[٦٤] ﴿أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ للبعث.
﴿وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ﴾ المطر ﴿وَالْأَرْضِ﴾ النبات.
﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ يفعل ذلك.
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ حجتكم على دعواكم.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في إشراككم، والاستفهام في جميع هذه الآيات توبيخ لا استرشاد.
...
﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥)﴾.
[٦٥] ولما سأل المشركون رسول الله - ﷺ - عن وقت قيام الساعة، نزل قوله تعالى:
﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (١) رفع بدل من (مَنْ)؛ لأنه فاعل (يَعْلَمُ) تقديره: لا يعلم إلا اللهُ الغيبَ في السموات، فأعلم الله تعالى أنه لا يعلم وقت الساعة سواه، وجاء بلفظ يعم الساعة وغيرها.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يعني: البشر ﴿أَيَّانَ﴾ متى ﴿يُبْعَثُونَ﴾.
...
﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ (بل) بمعنى: هل. قرأ أبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (أَدْرَكَ) بقطع الهمزة مفتوحة وإسكان الدال من غير ألف مفتوحة وألف بعدها (٢) وأصله: تدارك، أدغمت التاء في الدال؛ أي: تتابع واجتمع علمهم بحدوث الآخر، فليس من اختص بشيء من علمها فهم جهالة بها.
﴿بَلْ هُمْ﴾ اليوم في الدنيا ﴿فِي شَكٍّ مِنْهَا﴾ من الساعة.
﴿بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ جمع عمي؛ أي: عنها عمون بقلوبهم.
...
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: مشركي مكة ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ﴾ من قبورنا؟ قرأ نافع، وأبو جعفر: (إِذَا) بكسر الألف على
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤١١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص ت ٣٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٦٥).
...
﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا﴾ أي: البعث الذي تَعِدُنا به ﴿نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل محمد - ﷺ -، وليس ذلك بشيء ﴿إِنْ هَذَا﴾ أي: ما هذا.
﴿إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها.
...
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ تهديد لهم بأن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين من قبلهم.
[٧٠] ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ في تكذيبهم وإعراضهم.
﴿وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ أي: لا تهتم بتدبيرهم الحيل في إهلاكك، فأنا كافيك وناصرك عليهم. قرأ ابن كثير: (ضِيْقٍ) بكسر الضاد؛ أي: شدة، والباقون: بالفتح؛ أي: غمّ (١).
...
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ العذاب الموعود.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أن العذاب ينزل بالتكذيب.
...
﴿قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ﴾ اللام زائدة؛ أي: ردفكم، المعنى: دنا وقرب منكم.
﴿بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ من العذاب، فحل بهم عذاب يوم بدر.
...
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ حيث إنه لم يعجل عقوبتهم.
...
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ﴾ تُخفي.
﴿صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من الكفر.
...
﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ الغائبة: اسم لكل مستتر، المعنى: ليس شيء في الوجود.
﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ وهو اللوح المحفوظ، أثبته تعالى ويعلمه.
...
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦)﴾.
[٧٦] ولما اختلف أهل الكتاب في دينهم، وفي عيسى عليه السلام، نزل:
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ (١) المنزل على محمد - ﷺ -.
﴿يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الذين هم في زمان محمد - ﷺ - ﴿أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ لأنه مذكور فيه.
...
[٧٧] ﴿وَإِنَّهُ﴾ أي: القرآن ﴿لَهُدًى﴾ لمن اتبعه.
﴿وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فإنهم المنتفعون به.
...
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي﴾ يفصل ﴿بَيْنَهُمْ﴾ أي: بين المختلفين في الدنيا يوم القيامة ﴿بِحُكْمِهِ﴾ بعدله.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ فلا يرد حكمه.
﴿الْعَلِيمُ﴾ بأحوالهم وبحقيقة ما يقضي فيه.
...
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ فإنه ناصرك عليهم.
﴿إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ الدين الواضح، وهو الإسلام.
...
﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ يعني: الكفار.
﴿وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ معرضين، لما كانوا لا يعون ما يسمعون، ولا ينتفعون به، سماهم موتى صمًّا وعميًا. قرأ ابن كثير: (وَلاَ يَسْمَعُ) بالياء وفتح الميم (الصُّمُّ) بالرفع فاعلًا، ونصب (الدُّعَاءَ)
...
﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)﴾.
[٨١] ﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾ قرأ حمزة: (تَهْدِي) بالتاء وفتحها وإسكان الهاء من غير ألف (٢)، ونصب (العُمْيَ) مفعولًا، وقرأ الباقون: بالباء وكسرها وفتح الهاء وألف بعدها، وجر (العُمْيِ) (٣)، ووقف يعقوب (بِهَادِي) بإثبات الياء (٤)، تلخيصه: لا سبيل إلى هداية هؤلاء عن ضلالتهم؛ حيث الهداية لا تحصل إلا بالبصر.
﴿إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ القرآن ﴿فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾ مخلصون.
...
(٢) "ألف" ساقطة من: "ش".
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٧٠).
(٤) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٧٠).
[٨٢] ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ﴾ أي: وجب العذاب.
﴿عَلَيْهِمْ﴾ من ظهور أشراط الساعة.
﴿أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ﴾ قيل: هي رجل، وأكثرهم: هي دابة، وظهورُها من أشراط الساعة.
قال ابن عباس: "هي ذات زغب وريش، لها أربع قوائم" (١).
روي أن لها رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، ولون نمر، وصدر أسد، وخاصرة هر، وقرن إيل، وقوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعًا (٢).
في الحديث: أن طولها ستون ذراعًا.
وعنه - ﷺ -: "أنها تخرج من الصفا أول ما يبدو رأسها ذات وبر وريش، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب" (٣)، وروي غير ذلك.
﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ قال ابن عباس: "تكلم المؤمن والكافر" (٤).
(٢) رواه الديلمي في "مسند الفردوس" (٣٠٦٦)، عن حذيفة -رضي الله عنه-.
وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (٣/ ١٩)، و "الفتح السماوي" للمناوي (٢/ ٨٩١).
(٣) رواه الطبري في "تفسيره" (٢٠/ ١٤)، عن حذيفة -رضي الله عنه-.
(٤) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٩/ ٢٩٢٦)، بلفظ: "تكُلِّم المؤمنَ، وتُكَلِّم الكافرَ".
...
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿وَيَوْمَ﴾ أي: واذكر يوم ﴿نَحْشُرُ﴾ نجمع.
﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾ أي: من كل قرن من الناس متقدم؛ لأن كل عصر لم يَخْلُ من كَفَرة بالله، من لدن تفرق بني آدم، (مِنْ) للتبعيض، والمراد: الرؤساء.
﴿فَوْجًا﴾ جماعة ﴿مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا﴾ القرآن، و (مِنْ) للتعيين؛ لأن جميع الكفار مكذبون.
﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ يُحبس أولهم على آخرهم، فيحشر رؤساء الأمم بين يدي أممهم إلى الموقف حتى يجتمعوا، ثم يساقون إلى النار.
...
﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤)﴾.
﴿أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا﴾ أي: كذبتم بها غير عالمين بها، ولم تتفكروا في صحتها، بل كذبتم جاهلين، ونصب (عِلْمًا) على التمييز.
﴿أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أم أي شيء كنتم تعملون بعد ذلك؟ وهو للتبكيت؛ إذ لم يفعلوا غير التكذيب.
...
﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ﴾ وجب العذاب.
﴿عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا﴾ بتكذيبهم بآيات الله.
﴿فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ﴾ باعتذار لختم أفواههم.
...
﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ﴾ أي: خلقناه.
﴿لِيَسْكُنُوا فِيهِ﴾ بالنوم والقرار.
﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ مضيئًا، تُبْصَر فيه الأشياء.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يصدقون فيعتبرون.
***
[٨٧] ﴿وَيَوْمَ﴾ أي: واذكر يوم.
﴿يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ هو قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام.
﴿فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا.
روي أن النفخات ثلاث: الأولى نفخة الصور للفزع، والثانية نفخة الصعق للموت، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين للبعث، وهذه النفخة الأولى، المعنى: إذا نفخ في الصور، مات من شدة النفخة جميع الخلائق.
﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ من ثبت عليه من الملائكة، ثم يموتون بعد ذلك، وقيل الاستثناء: فيمن قضى الله من ملائكته وأنبيائه وشهداء عبيده أن ينالهم نوع الفزع في الصور، قال - ﷺ -: "ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من رفع رأسه، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان ممن استثنى الله، أم رفع رأسه قبلي؟ ومن قال: أنا خير من يونس بن متَّى، فقد كذب" (١).
﴿وَكُلٌّ﴾ أي: جميع الخلائق ﴿أَتَوْهُ﴾ قرأ حمزة، وخلف، وحفص عن
﴿دَاخِرِينَ﴾ صاغرين.
...
﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾ واقفة؛ من جمدَ مكانَه.
﴿وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ المعنى: إذا رأيت الجبال وقت النفخة الأولى، ظننتها ثابتة في مكان واحد؛ لعظمتها؛ لأن النظر لا يحيط بها، وهي في الحقيقة تسير سيرًا سريعًا كالسحاب إذا ضربته الريح.
﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ أي: فعلَه ﴿الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أحكمَه.
﴿إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ من الأفعال الباطنة والظاهرة، فيجازيهم عليها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وهشام: (يَفْعَلُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (٢).
...
(٢) المصادر السابقة.
[٨٩] ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ وهي قول: لا إله إلا الله ﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ قال ابن عباس: "فمنها يصير الخير إليه" (١)؛ يعني: له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والأمن من العذاب، أما أن يكون له شيء خير من الإيمان، فلا؛ فإنه ليس شيء خيرًا من قول: لا إله إلا الله.
﴿وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ قرأ الكوفيون: (فَزَعٍ) بالتنوين (يَوْمَئِذٍ) بفتح الميم؛ أي: فزع شديد، وقرأ الباقون: بغير تنوين على إضافة (فَزَعِ) إلى (يَوْمِئِذٍ)؛ لأنه أعم؛ فإنه يقتضي الأمن من فزع ذلك اليوم، ويفتح نافع وأبو جعفر ميم (يَوْمَئِذٍ)، ويكسرها الباقون (٢).
...
﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ الشرك ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ أي: ألقوا رؤوسهم.
﴿فِي النَّارِ﴾ ويقال لهم تبكيتًا:
﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ من المعاصي والشرك؟!
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٨٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٢٠)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٧٣ - ٣٧٤).
[٩١] ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ﴾ أي: قل يا محمد لقومك: إنما أمرت.
﴿أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ يعني: مكة ﴿الَّذِي حَرَّمَهَا﴾ أي: جعلَها حرمًا آمنًا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم أحد، ولا يصاد صيد ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ بالملك والعبودية.
﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي: عابدًا لله.
...
﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢)﴾.
[٩٢] ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾ واتل معناه: تابعْ بقراءتك بين آياته، واسرُدْ.
﴿فَمَنِ اهْتَدَى﴾ إلى الإسلام ﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ أي: فلنفسه ثوابه.
﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾ عن الإيمان، وأخطأ طريق الهدى.
﴿فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ المخوِّفين، فليس علي إلا التبليغ للرسالة، وهذا نُسخ بآية السيف.
...
﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)﴾.
[٩٣] ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على نعمه ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ وعدٌ بعذاب الدنيا؛ كبدر والفتح ونحوهما، وبعذاب الآخرة.
﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (تَعْمَلُونَ) بالخطاب للكفار، وقرأ الباقون: بالغيب إخبارًا عنهم (٢)، والله أعلم.
...
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢٦)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٦٣)، و "معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٧٥).