تفسير سورة الأنبياء

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ
سورة الأنبياء مكية وآياتها اثنتا عشرة ومائة

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) ﴾
﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ﴾ قِيلَ اللَّامُ بِمَعْنَى مِنْ، أَيِ اقْتَرَبَ مِنَ النَّاسِ حِسَابُهُمْ، أَيْ وَقْتُ مُحَاسَبَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَزَلَتْ فِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ، ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ عَنِ التَّأَهُّبِ لَهُ. ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ يَعْنِي مَا يُحْدِثُ اللَّهُ مِنْ تَنْزِيلِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُذَكِّرُهُمْ وَيَعِظُهُمْ بِهِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: يُحْدِثُ اللَّهُ الْأَمْرَ [بَعْدَ الْأَمْرِ] (١) قِيلَ: الذِّكْرُ الْمُحْدَثُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَهُ مِنَ السُّنَنِ وَالْمَوَاعِظِ سِوَى مَا الْقُرْآنِ، وَأَضَافَهُ إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ قَالَ بِأَمْرِ الرَّبِّ، ﴿إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ أَيِ اسْتَمَعُوهُ لَاعِبِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ وَلَا يَتَّعِظُونَ. ﴿لَاهِيَةً﴾ سَاهِيَةً غَافِلَةً، ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ مُعْرِضَةً عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ ﴿لَاهِيَةً﴾ نَعْتٌ تَقَدَّمَ الِاسْمَ، وَمِنْ حَقِّ النَّعْتِ أَنْ يَتْبَعَ الِاسْمَ فِي الْإِعْرَابِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ النَّعْتُ الِاسْمَ فَلَهُ حَالَتَانِ: فَصْلٌ
(١) زيادة من (ب).
وَوَصْلٌ، فَحَالَتُهُ فِي الْفَصْلِ النَّصْبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ﴾ (القَمَرِ: ٧)، ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا﴾ (الإِنْسَانِ: ١١)، وَ ﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ وَفِي الْوَصْلِ حَالَةُ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ كَقَوْلِهِ، ﴿أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ (النِّسَاءِ: ٧٥) ؛ ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أَيْ أَشْرَكُوا، قَوْلُهُ: ﴿وَأَسَرُّوا﴾ فِعْلٌ تَقَدَّمَ الْجَمْعَ وَكَانَ حَقُّهُ وَأَسَرَّ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَرَادَ: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا أَسَرُّوا النجوى.
وقيل: حمل "الَّذِينَ" رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، مَعْنَاهُ: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، ثُمَّ قَالَ: وَهُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا.
وَقِيلَ: رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَسَرُّوا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا كَقَوْلِكَ إِنَّ الَّذِينَ فِي الدَّارِ انْطَلَقُوا بَنُو عَبْدِ اللَّهِ، عَلَى الْبَدَلِ مِمَّا فِي انْطَلَقُوا ثُمَّ بَيَّنَ سِرَّهِمُ الَّذِي تَنَاجَوْا بِهِ فَقَالَ: ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ أَنْكَرُوا إِرْسَالَ الْبَشَرِ وَطَلَبُوا إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ.
﴿أَفَتَأْتُونَ﴾ أَيْ تَحْضُرُونَ السِّحْرَ وَتَقْبَلُونَهُ، ﴿وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ سِحْرٌ.
﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) ﴾
قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، ﴿رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: "قَالَ رَبِّي"، عَلَى الْخَبَرِ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لِأَقْوَالِهِمْ، ﴿الْعَلِيمُ﴾ بِأَفْعَالِهِمْ. ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ أَبَاطِيلُهَا [وَأَقَاوِيلُهَا] (١) وَأَهَاوِيلُهَا رَآهَا فِي النَّوْمِ، ﴿بَلِ افْتَرَاهُ﴾ اخْتَلَقَهُ، ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ يَعْنِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اقتسموا القول ١٥/ب فِيهِ وَفِيمَا يَقُولُهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ فِرْيَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مُحَمَّدٌ شَاعِرٌ وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ شِعْرٌ. ﴿فَلْيَأْتِنَا﴾ مُحَمَّدٌ ﴿بِآيَةٍ﴾ إِنْ كَانَ صَادِقًا ﴿كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ مِنَ الرُّسُلِ بِالْآيَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ﴾ قَبْلَ مُشْرِكِي مَكَّةَ، ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾ أَيْ مِنْ أَهْلِ
(١) زيادة من (ب).
قَرْيَةٍ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ، ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالتَّكْذِيبِ، ﴿أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ ؟، إِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ، مَعْنَاهُ: أَنَّ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْآيَاتِ لَمَّا أَتَتْهُمْ أَفَيُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ؟.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ يَعْنِي: إِنَّا لَمْ نُرْسِلِ الْمَلَائِكَةَ إِلَى الْأَوَّلِينَ إِنَّمَا أَرْسَلْنَا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ يَعْنِي: أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، يُرِيدُ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا بَشَرًا، وَإِنْ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ الْمُشْرِكِينَ بِمَسْأَلَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِلَى تَصْدِيقِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إِلَى تَصْدِيقِ مَنْ آمَنَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنَ (١) أَرَادَ: فَاسْأَلُوا الْمُؤْمِنِينَ الْعَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ، ﴿إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ﴾ أَيِ الرُّسُلُ، ﴿جَسَدًا﴾ وَلَمْ يَقُلْ أَجْسَادًا لِأَنَّهُ اسْمُ الْجِنْسِ، ﴿لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ هَذَا رد لقولهم ﴿ما لهذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ﴾ (الفُرْقَانِ: ٧)، يَقُولُ لَمْ نَجْعَلِ الرُّسُلَ مَلَائِكَةً بَلْ جَعَلْنَاهُمْ بَشَرًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، ﴿وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ فِي الدُّنْيَا. ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ﴾ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ بِإِهْلَاكِ أَعْدَائِهِمْ، ﴿فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ﴾ أَيْ أَنْجَيْنَا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ، ﴿وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ أَيِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ، وَكُلُّ مُشْرِكٍ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ. ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا﴾ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ أَيْ شَرَفُكُمْ، كَمَا قَالَ: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ (الزُّخْرُفِ: ٤٤)، وَهُوَ شَرَفٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: فِيهِ حَدِيثُكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَيْ ذِكْرُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
(١) انظر: الطبري: ١٧ / ٥.
﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (١٢) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (١٣) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (١٤) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (١٥) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦) ﴾
﴿وَكَمْ قَصَمْنَا﴾ أَهْلَكْنَا، وَالْقَصْمُ: الْكَسْرُ، ﴿مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً﴾ أَيْ كَافِرَةً، يَعْنِي أَهْلَهَا، ﴿وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا﴾ أَيْ: أَحْدَثْنَا بَعْدَ هَلَاكِ أَهْلِهَا، ﴿قَوْمًا آخَرِينَ﴾ ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا﴾ أَيْ [رَأَوْا] (١) عَذَابَنَا بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، ﴿إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ﴾ أَيْ يُسْرِعُونَ هَارِبِينَ. ﴿لَا تَرْكُضُوا﴾ أَيْ قِيلَ لَهُمْ لَا تَرْكُضُوا لَا تَهْرُبُوا، ﴿وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ﴾ أَيْ نَعِمْتُمْ بِهِ، ﴿وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ قَتْلِ نَبِيِّكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنْ دُنْيَاكُمْ شَيْئًا، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ حَصُورَا، وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ وَكَانَ أَهْلُهَا الْعَرَبَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ فَكَذَّبُوهُ وَقَتَلُوهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَخْتُنَصَّرَ، حَتَّى قَتَلَهُمْ وَسَبَاهُمْ (٢) فَلَمَّا اسْتَمَرَّ فِيهِمُ الْقَتْلُ نَدِمُوا وَهَرَبُوا وَانْهَزَمُوا، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُمُ اسْتِهْزَاءً: لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَسَاكِنِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ: لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكُمْ، فَتُعْطُونَ مَنْ شِئْتُمْ وَتَمْنَعُونَ مَنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّكُمْ أَهْلُ ثَرْوَةٍ وَنِعْمَةٍ، يَقُولُونَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، فَاتَّبَعَهُمْ بُخْتُنَصَّرُ وَأَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ، وَنَادَى مُنَادٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ: يَا ثَارَّاتِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَقَرُّوا بِالذُّنُوبِ حِينَ لَمْ ينفعهم. ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾. ﴿فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ﴾ أَيْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ يَا وَيْلَنَا، دُعَاؤُهُمْ يَدْعُونَ بِهَا وَيُرَدِّدُونَهَا.
﴿حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا﴾ بِالسُّيُوفِ كَمَا يُحْصَدُ الزَّرْعُ، ﴿خَامِدِينَ﴾ مَيِّتِينَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ أَيْ عَبَثًا وَبَاطِلًا.
(١) زيادة من (ب).
(٢) انظر: الطبري: ١٧ / ٩.
﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠) ﴾
﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا﴾ اخْتَلَفُوا فِي اللَّهْوِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: اللَّهْوُ الْمَرْأَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: اللَّهْوُ الْوَلَدُ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَهُوَ فِي الْمَرْأَةِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُسَمَّى لَهْوًا فِي اللُّغَةِ، وَالْمَرْأَةُ مَحَلُّ الْوَطْءِ ﴿لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا﴾ أَيْ مِنْ عِنْدِنَا مِنَ الْحُورِ الْعَيْنِ لَا مِنْ عِنْدِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا ذَلِكَ فِي صِفَتِهِ لَمْ يَتَّخِذْهُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ لَهُمْ وَيَسْتُرُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَطَّلِعُوا عَلَيْهِ.
وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ أَنَّ النَّصَارَى لَمَّا قَالُوا فِي الْمَسِيحِ وَأَمِّهِ مَا قَالُوا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا وَقَالَ: ﴿لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا﴾ لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتَهُ يَكُونَانِ عِنْدَهُ، لَا عِنْدَ غَيْرِهِ ﴿إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: ﴿إِنْ﴾ لِلنَّفْي، أَيْ: مَا كُنَّا فَاعِلِينَ. وَقِيلَ: ﴿إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ لِلشَّرْطِ أَيْ إِنْ كُنَّا مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا، وَلَكِنَّا لَمْ نَفْعَلْهُ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالرُّبُوبِيَّةِ. ﴿بَلْ﴾ أَيْ دَعْ ذَلِكَ الَّذِي قَالُوا فَإِنَّهُ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ، ﴿نَقْذِفُ﴾ نَرْمِي وَنُسَلِّطُ، ﴿بِالْحَقِّ﴾ بِالْإِيمَانِ، ﴿عَلَى الْبَاطِلِ﴾ عَلَى الْكُفْرِ، وَقِيلَ: الْحَقُّ قَوْلُ اللَّهِ، أَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ، وَالْبَاطِلُ قَوْلُهُمُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾ فَيُهْلِكُهُ، وَأَصْلُ الدَّمْغِ: شَجُّ الرَّأْسِ حَتَّى يَبْلُغَ الدِّمَاغَ، ﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ ذاهب، والمعنى: أنا نُبْطِلُ كَذِبَهُمْ بِمَا نُبَيِّنُ مِنَ الْحَقِّ حَتَّى يَضْمَحِلَّ وَيَذْهَبَ، ثُمَّ أَوْعَدَهَمْ عَلَى كَذِبِهِمْ فَقَالَ: ﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ﴾ يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ، ﴿مِمَّا تَصِفُونَ﴾ اللَّهَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِمَّا تَكْذِبُونَ. ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ عَبِيدًا وَمُلْكًا، ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ﴾ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ لَا يَأْنَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَتَعَظَّمُونَ عَنْهَا، ﴿وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ لَا يَعْيَوْنَ، يُقَالُ: حَسِرَ وَاسْتَحْسَرَ إِذَا تَعِبَ وَأَعْيَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَتَعَظَّمُونَ (١) عَنِ الْعِبَادَةِ. ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ لَا يَضْعُفُونَ وَلَا يَسْأَمُونَ، قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: التَّسْبِيحُ
(١) في "ب" لا ينقطعون.
لَهُمْ كَالنَّفَسِ لِبَنِي آدَمَ.
﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) ﴾
﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً﴾ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْجَحْدِ، أَيْ لَمْ يَتَّخِذُوا، ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ يَعْنِي الْأَصْنَامَ مِنَ الْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ، وَهُمَا مِنَ الْأَرْضِ، ﴿هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ يُحْيُونَ الْأَمْوَاتَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ إِلَّا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِيجَادِ مِنَ الْعَدَمِ وَالْإِنْعَامِ بِأَبْلَغِ وُجُوهِ النِّعَمِ. ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا﴾ أَيْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ﴿آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ﴾ أَيْ غَيْرُ اللَّهِ ﴿لَفَسَدَتَا﴾ لَخَرِبَتَا وَهَلَكَ مَنْ فِيهِمَا بِوُجُودِ التَّمَانُعِ بَيْنَ الْآلِهَةِ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ صَدَرَ عَنِ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ يَجْرِ عَلَى النِّظَامِ، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أَيْ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ. ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ وَيَحْكُمُ عَلَى خَلْقِهِ لِأَنَّهُ الرَّبُّ ﴿وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ أَيِ الْخَلْقُ يُسْأَلُونَ، عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ (١) لأنهم عبيد ١٦/أ ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ، ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ أَيْ حُجَّتَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ مُسْتَأْنِفًا، ﴿هَذَا﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ. ﴿ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ﴾ فِيهِ خَبَرُ مَنْ مَعِيَ عَلَى دِينِي وَمَنْ يَتَّبِعُنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِمَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. ﴿وَذِكْرُ﴾ خَبَرُ، ﴿مَنْ قَبْلِي﴾ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا يُفْعَلُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ: الْقُرْآنُ، وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَمَعْنَاهُ: رَاجِعُوا الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَسَائِرَ الْكُتُبِ هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ وَلَدًا، ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
(١) في "ب": وأقوالهم.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) ﴾
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ نُوحِي إِلَيْهِ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ عَلَى التَّعْظِيمِ، لِقَوْلِهِ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا﴾ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وَحِّدُونِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾ نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، ﴿سُبْحَانَهُ﴾ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا قَالُوا، ﴿بَلْ عِبَادٌ﴾ أَيْ هُمْ عِبَادٌ، يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، ﴿مُكْرَمُونَ﴾ ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾ لَا يَتَقَدَّمُونَهُ بِالْقَوْلِ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، ﴿وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ قَوْلًا وَلَا عَمَلًا. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أَيْ مَا عَمِلُوا وَمَا هُمْ عَامِلُونَ. وَقِيلَ: مَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِهِمْ وَمَا يَكُونُ بَعْدَ خَلْقِهِمْ ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ (١) ﴿وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ خَائِفُونَ لَا يَأْمَنُونَ مَكْرَهُ. ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: عَنَى بِهِ إِبْلِيسَ حِينَ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ وَأَمَرَ بِطَاعَةِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَقُلْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴿فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ الْوَاضِعِينَ الْإِلَهِيَّةَ وَالْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا.
(١) ذكر القولين الطبري: ١٧ / ١٦ - ١٧.
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) ﴾
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قَرَأَ ابن كثير " لم يَرَ " [بِغَيْرِ وَاوٍ] (١) وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ، مَعْنَاهُ: أَلَمْ يَعْلَمِ الَّذِينَ كَفَرُوا، ﴿أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: كَانَتَا شَيْئًا وَاحِدًا مُلْتَزِقَتَيْنِ ﴿فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ فَصَلْنَا بَيْنَهُمَا بِالْهَوَاءِ، وَالرَّتْقُ فِي اللُّغَةِ: السَّدُّ، وَالْفَتْقُ: الشَّقُّ.
قَالَ كَعْبٌ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ خَلَقَ رِيحًا فَوَسَّطَهَا (٢) فَفَتَحَهَا بِهَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَتِ السَّمَوَاتُ مُرْتَقَةً طَبَقَةً وَاحِدَةً فَفَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ كَانَتَا مُرْتَقَةً طَبَقَةً وَاحِدَةً فَجَعَلَهَا سَبْعَ أَرَضِينَ.
قَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطِيَّةُ: كَانَتِ السَّمَاءُ رَتْقًا لَا تُمْطِرُ وَالْأَرْضُ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ، فَفَتَقَ السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ وَالْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ. وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿رَتْقًا﴾ عَلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ مِنْ نَعْتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ، مِثْلَ الزَّوْرِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا. ﴿وَجَعَلْنَا﴾ [وَخَلَقْنَا] (٣) ﴿مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ أَيْ: وَأَحْيَيْنَا بِالْمَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَيْ مِنَ الْحَيَوَانِ وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّبَاتُ وَالشَّجَرُ، يَعْنِي أَنَّهُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ كُلِّ شَيْءٍ وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: [يَعْنِي] (٤) أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَاءِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ (النُّورِ: ٤٥)، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَعْنِي النُّطْفَةَ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خَلَقَ اللَّهُ بَعْضَ مَا هُوَ حَيٌّ مِنْ غَيْرِ الْمَاءِ؟ قِيلَ: هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّكْثِيرِ، يَعْنِي أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْيَاءِ فِي الْأَرْضِ مَخْلُوقَةٌ مِنَ الْمَاءِ أَوْ بَقَاؤُهُ بِالْمَاءِ، ﴿أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾
﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ جِبَالًا ثَوَابِتَ، ﴿أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ﴾ ؛ [يَعْنِي كَيْ لَا تَمِيدَ بِهِمْ] (٥) ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا﴾ فِي الرَّوَاسِي: ﴿فِجَاجًا﴾ طُرُقًا وَمَسَالِكَ، وَالْفَجُّ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ
(١) زيادة من "ب".
(٢) في "ب" بوسطها.
(٣) ساقط من "ب".
(٤) زيادة من "ب".
(٥) ما بين القوسين ساقط من "ب".
بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، أَيْ جَعَلْنَا بَيْنَ الْجِبَالِ طُرُقًا حَتَّى يَهْتَدُوا إِلَى مَقَاصِدِهِمْ، ﴿سُبُلًا﴾ تَفْسِيرٌ لِلْفِجَاجِ، ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾
﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) ﴾
﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ (الحَجِّ: ٦٥)، وَقِيلَ: مَحْفُوظًا مِنَ الشَّيَاطِينِ بِالشُّهُبِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ (الحِجْرِ: ١٧)، ﴿وَهُمْ﴾ يَعْنِي الْكُفَّارَ، ﴿عَنْ آيَاتِهَا﴾ مَا خَلْقَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَغَيْرِهَا، ﴿مُعْرِضُونَ﴾ لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا. ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ يَجْرُونَ وَيَسِيرُونَ بِسُرْعَةٍ كَالسَّابِحِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿يَسْبَحُونَ﴾ وَلَمْ يَقُلْ يَسْبَحُ عَلَى مَا يُقَالُ لِمَا لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَنْهَا فِعْلَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْجَرْيِ وَالسَّبْحِ، فَذُكِرَ عَلَى مَا يَعْقِلُ.
وَالْفَلَكُ: مَدَارُ النُّجُومِ الَّذِي يَضُمُّهَا، وَالْفَلَكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَدِيرٍ، وَجَمْعُهُ أَفْلَاكٌ، وَمِنْهُ فَلَكُ الْمِغْزَلِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْفَلَكُ طَاحُونَةٌ كَهَيْئَةِ فَلَكَةِ الْمِغْزَلِ: يُرِيدُ أَنَّ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ النُّجُومُ مُسْتَدِيرٌ كَاسْتِدَارَةِ الطَّاحُونَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَلَكُ السَّمَاءُ الَّذِي فِيهِ ذَلِكَ الْكَوْكَبُ، فَكُلُّ كَوْكَبٍ يَجْرِي فِي السَّمَاءِ الَّذِي قُدِّرَ فِيهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ (١) الْفَلَكُ اسْتِدَارَةُ السَّمَاءِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْفَلَكُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ دُونَ السَّمَاءِ يَجْرِي فِيهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ (٢).
(١) في "ب" الضحاك.
(٢) ذكر بعض هذه الأقوال وغيرها الطبري: ١٧ / ٢٣، ثم قال: والصواب من القول في ذلك أن يقال: كما قال الله عز وجل (كل في فلك يسبحون) وجائز أن يكون ذلك الفلك كما قال مجاهد كحديد الرحى، وكما ذكر عن الحسن كطاحونة الرحى، وجائز أن يكون موجا مكفوفا، وأن يكون قطب السماء، وذلك أن الفلك في كلام العرب هو كل شيء دائر، فجمعه أفلاك، وقد ذكرت قول الراجز:
باتت تناجي الفلك الدوارا
وإن كان كل ما دار في كلامها، ولم يكن في كتاب الله، ولا في خبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عمن يقطع بقوله العذر، دليل يدل على أي ذلك هو من أي كان الواجب أن نقول فيه ما قاله، ونسكت عما لا علم لنا به. فإذا كان الصواب في ذلك من القول عندنا ما ذكرنا، فتأويل الكلام: والشمس والقمر، كل ذلك في دائر يسبحون.
﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٣٥) ﴾
﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾ دَوَامَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ أَيْ أَفْهُمُ الْخَالِدُونَ إِنْ مِتَّ؟ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ قَالُوا نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ رَيْبَ الْمَنُونِ (١). ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ﴾ نَخْتَبِرُكُمْ ﴿بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ﴾ بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَقِيلَ: بِمَا تُحِبُّونَ وَمَا تَكْرَهُونَ، ﴿فِتْنَةً﴾ ابْتِلَاءً لِنَنْظُرَ كَيْفَ شُكْرُكُمْ فِيمَا تُحِبُّونَ، وَصَبْرُكُمْ فِيمَا تَكْرَهُونَ، ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ﴾ [مَا يَتَّخِذُونَكَ] (٢) ﴿إِلَّا هُزُوًا﴾ [سُخْرِيًّا] (٣) قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ، وَقَالَ: هَذَا نَبِيُّ بَنِي عَبْدِ منَافٍ (٤) ﴿أَهَذَا الَّذِي﴾ أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَهَذَا الَّذِي، ﴿يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ أَيْ يَعِيبُهَا، يُقَالُ: فُلَانٌ يَذْكُرُ فُلَانًا أَيْ يَعِيبُهُ، وَفُلَانٌ يَذْكُرُ اللَّهَ أَيْ يُعَظِّمُهُ وَيُجِلُّهُ، ﴿وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا مُسَيْلِمَةَ، ﴿وَهُمُ﴾ الثَّانِيَةُ صِلَةٌ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ أَنْ بِنْيَتَهُ وَخِلْقَتَهُ مِنَ الْعَجَلَةِ وَعَلَيْهَا طُبِعَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا﴾ ١٦/ب (الإِسْرَاءِ: ١١).
(١) ذكره صاحب زاد المسير: ٥ / ٣٥٠.
(٢) ساقط من "ب".
(٣) ساقط من "ب".
(٤) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٥ / ٦٣٠ لابن أبي حاتم.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ: لَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي رَأْسِ آدَمَ وَعَيْنِهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ فَلَمَّا دَخَلَتْ جَوْفَهُ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ إِلَى رِجْلَيْهِ عَجَلًا إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَوَقَعَ فَقِيلَ: "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ"، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ وَأُورِثَ أَوْلَادُهُ الْعَجَلَةَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلَّذِي يُكْثُرُ مِنْهُ الشَّيْءُ: خُلِقْتَ مِنْهُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: خُلِقْتَ فِي لَعِبٍ، وَخُلِقْتَ مِنْ غَضَبٍ، يُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِ بِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا".
وَقَالَ قَوْمُّ: مَعْنَاهُ خُلِقَ الْإِنْسَانُ يَعْنِي آدَمَ مِنْ تَعْجِيلٍ فِي خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ خَلْقَهُ كَانَ بَعْدَ [خَلْقِ] (١) كُلِّ شَيْءٍ فِي آخِرِ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَسْرَعَ فِي خَلْقِهِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ.
قَالَ مُجَاهِدُّ: فَلَمَّا أَحْيَا الرُّوحُ رَأْسَهُ قَالَ يَا رَبِّ اسْتَعْجِلْ بِخَلْقِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: بِسُرْعَةٍ وَتَعْجِيلٍ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ خَلْقِ سَائِرِ الْآدَمِيِّينَ مِنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ وَغَيْرِهَا (٢).
وَقَالَ قَوْمُّ: مِنْ عَجَلٍ، أَيْ: مِنْ طِينٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالنَّبْعُ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مُنْبِتَةٌ وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَيْنَ المَاءِ وَالْعَجَلِ (٣)
﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ [نَزَلَ هَذَا فِي الْمُشْرِكِينَ] (٤) كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ وَيَقُولُونَ: أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ (٥) فَقَالَ تَعَالَى: ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي﴾ أَيْ مَوَاعِيدِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ، أَيْ فَلَا تَطْلُبُوا الْعَذَابَ مِنْ قَبْلِ وَقْتِهِ، فَأَرَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ الْقِيَامَةَ.
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) ﴾
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ﴾ لَا يَدْفَعُونَ ﴿عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ﴾ قِيلَ: وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمُ السِّيَاطَ،
(١) زيادة من "ب".
(٢) أورد هذه الأقوال الطبري: ١٧ / ٢٦ -٢٧ ثم قال: والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا الذين ذكرناه عمن قال معناه: خلق الإنسان من عجل في خلقه: أي على عجل وسرعة في ذلك، وإنما قيل ذلك كذلك، لأنه بودر بخلقه مغيب الشمس في آخر ساعة من نهار يوم الجمعة، وفي ذلك الوقت نفخ فيه الروح. وإنما قلنا أولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب، لدلالة قوله تعالى: (سأريكم آياتي فلا تستعجلون) على ذلك. وأن أبا كريب حدثنا قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن في الجمعة لساعة يقللها، قال: لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا آتاه الله إياه" فقال عبد الله بن سلام: قد علمت أي ساعة هي، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، قال الله: (خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون).
(٣) البيت لبعض الحميرين، والعجل بلغتهم: الطين.
(٤) في "ب": (هذا في جواب قول المشركين).
(٥) ذكر القول صاحب زاد المسير: ٥ / ٣٥١.
﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ يُمْنَعُونَ مِنَ الْعَذَابِ، وَجَوَابُ لَوْ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ﴾ مَحْذُوفٌ مَعْنَاهُ: وَلَوْ عَلِمُوا لَمَا أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَمَا اسْتَعْجَلُوا، وَلَا قَالُوا: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ؟.
﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (٤٤) ﴾
﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ﴾ يَعْنِي السَّاعَةَ ﴿بَغْتَةً﴾ فَجْأَةً، ﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ أَيْ تُحَيِّرُهُمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ مَبْهُوتٌ أَيْ مُتَحَيِّرٌ، ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ يُمْهَلُونَ. ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ﴾ نَزَلَ، ﴿بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أَيْ جَزَاءُ اسْتِهْزَائِهِمْ. ﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ﴾ يَحْفَظُكُمْ، ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ إِنْ أَنْزَلَ بِكُمْ عَذَابَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ يَمْنَعُكُمْ مِنْ عَذَابِ الرَّحْمَنِ، ﴿بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ﴾ عَنِ الْقُرْآنِ وَمَوَاعِظِ اللَّهِ، ﴿مُعْرِضُونَ﴾ ﴿أَمْ لَهُمْ﴾ أَمْ: صِلَةٌ فِيهِ، وَفِي أَمْثَالِهِ ﴿آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا﴾ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِنَا تَمْنَعُهُمْ، ثُمَّ وَصَفَ الْآلِهَةَ بِالضَّعْفِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ﴾ مَنْعَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يَنْصُرُونَ عَابِدِيهِمْ، ﴿وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُمْنَعُونَ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: عَنْهُ يُجَارُونَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنَا لَكَ جَارٌ وَصَاحِبٌ مَنْ فُلَانٍ، أَيْ مُجِيرٌ مِنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُنْصَرُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَا يُصْبِحُونَ مِنَ اللَّهِ بِخَيْرٍ. ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ﴾ الْكَفَّارَ، ﴿وَآبَاءَهُمْ﴾ فِي الدُّنْيَا أَيْ أَمْهَلْنَاهُمْ. وَقِيلَ: أَعْطَيْنَاهُمُ النِّعْمَةَ، ﴿حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾ أَيِ امْتَدَّ بِهِمُ الزَّمَانُ فَاغْتَرُّوا.
﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ يَعْنِي مَا نَنْقُصُ مِنْ أَطْرَافِ الْمُشْرِكِينَ وَنَزِيدُ
320
فِي أَطْرَافِ الْمُؤْمِنِينَ، يُرِيدُ ظُهُورَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتْحَهُ دِيَارَ الشِّرْكِ أَرْضًا فَأَرْضًا، ﴿أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ أَمْ نَحْنُ.
321
﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧) ﴾
﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ أَيْ أُخَوِّفُكُمْ بِالْقُرْآنِ، ﴿وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ﴾ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِ الْمِيمِ، "الصُّمَّ" نُصِبَ، جَعَلَ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَفَتْحِهَا وَفَتْحِ الْمِيمِ، "الصُّمُّ" رُفِعَ، ﴿إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ يُخَوَّفُونَ. ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ﴾ أَصَابَتْهُمْ ﴿نَفْحَةٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا طَرَفٌ. وَقِيلَ: قَلِيلٌ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَصِيبٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ نَفَحَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ مَالِهِ أَيْ أَعْطَاهُ حَظًّا مِنْهُ. وَقِيلَ: ضَرْبَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَفَحَتِ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا إِذَا ضَرَبَتْ، ﴿مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أَيْ بِإِهْلَاكِنَا إِنَّا كُنَّا مُشْرِكِينَ، دَعَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْوَيْلِ بَعْدَمَا أَقَرُّوا بِالشِّرْكِ. ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾ أَيْ ذَوَاتِ الْقِسْطِ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، ﴿لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ حَسَنَاتِهِ وَلَا يُزَادُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، وَفِي الْأَخْبَارِ: إِنَّ الْمِيزَانَ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ (١).
رُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ الْمِيزَانَ فَأَرَاهُ كُلَّ كِفَّةٍ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَغُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: يَا إِلَهِي مَنِ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يَمْلَأَ كِفَّتَهُ حَسَنَاتٍ؟ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ إِنِّي [إِذَا] (٢) رَضِيتُ عَلَى عَبْدِي مَلَأْتُهَا بِتَمْرَةٍ (٣).
﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ﴿مِثْقَالَ﴾ بِرَفْعِ اللَّامِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ
(١) أخرج اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة: ٦ / ١١٧٣ عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: ذكر الميزان عند الحسن فقال: له لسان وكفتان. ويدل على ذلك أحاديث كثيرة: وانظر: شرح الطحاوية صفحة: (٤٨٠ - ٤٨٤)، لوامع الأنوار البهية للسفاريني: ٢ / ١٨٤ - ١٨٦.
(٢) ساقط من "أ".
(٣) ذكره القرطبي في التذكرة، انظر: لوامع الأنوار البهية: ٢ / ١٨٤.
لُقْمَانَ، أَيْ وَإِنْ وَقْعَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ، وَنَصَبَهَا الْآخَرُونَ عَلَى مَعْنًى: وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ أَيْ زِنَةَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، ﴿أَتَيْنَا بِهَا﴾ أَحْضَرْنَاهَا لِنُجَازِيَ بِهَا.
﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: مُحْصِينَ، وَالْحَسْبُ مَعْنَاهُ: الْعَدُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَالِمِينَ حَافِظِينَ، لِأَنَّ مَنْ حَسَبَ شَيْئًا عَلِمَهُ وَحَفِظَهُ.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ﴾ يَعْنِي الْكِتَابَ الْمُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْفَرْقَانُ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ (الْأَنْفَالِ: ٤١)، يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّهُ قَالَ ﴿وَضِيَاءً﴾ أَدْخَلَ الْوَاوَ فِيهِ أَيْ آتَيْنَا مُوسَى النَّصْرَ وَالضِّيَاءَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ.
وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْفُرْقَانِ التَّوْرَاةُ، قَالَ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَضِيَاءً﴾ زَائِدَةٌ مُقْحَمَةٌ، مَعْنَاهُ: آتَيْنَاهُ التَّوْرَاةَ ضِيَاءً، وَقِيلَ: هُوَ صِفَةٌ أُخْرَى لِلتَّوْرَاةِ، ﴿وَذِكْرًا﴾ تَذْكِيرًا، ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ أَيْ يَخَافُونَهُ وَلَمْ يَرَوْهُ، ﴿وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ خَائِفُونَ. ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ وَهُوَ ذِكْرٌ لِمَنْ تَذَكَّرَ بِهِ، مُبَارَكٌ يَتَبَرَّكُ بِهِ وَيَطْلُبُ مِنْهُ الْخَيْرَ، ﴿أَفَأَنْتُمْ﴾ يَا أَهْلَ مَكَّةَ، ﴿لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ جَاحِدُونَ (١) وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَعْبِيرٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ صَلَاحَهُ، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ مِنْ قَبْلِ مُوسَى وَهَارُونَ، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: رُشْدَهُ، أي هداه ١٧/أمِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ الْبُلُوغِ، وَهُوَ حِينُ خَرَجَ مِنَ السَّرْبِ وَهُوَ صَغِيرٌ، يُرِيدُ هَدْيَنَاهُ صَغِيرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى لِيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مَرْيَمَ: ١٢)، ﴿وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْهِدَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ.
(١) ساقط من "ب".
﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٥٤) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) ﴾
﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ﴾ أَيْ الصُّوَرُ، يَعْنِي الْأَصْنَامَ ﴿الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ أَيْ عَلَى عِبَادَتِهَا مُقِيمُونَ. ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ فَاقْتَدَيْنَا بِهِمْ. ﴿قَالَ﴾ إِبْرَاهِيمُ، ﴿لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ خَطَأٍ بَيِّنٍ بِعِبَادَتِكُمْ إِيَّاهَا. ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ يَعْنُونَ أَجَادٌّ أَنْتَ فِيمَا تَقُولُ أَمْ [أنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟] (١). ﴿قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ﴾ خَلَقَهُنَّ، ﴿وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ أَيْ عَلَى أَنَّهُ الْإِلَهُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: مِنَ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ لَأَمْكُرَنَّ بِهَا، ﴿بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ أَيْ بَعْدَ أَنْ تُدْبِرُوا مُنْطَلِقِينَ إِلَى عِيدِكُمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: إِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ هَذَا سِرًّا مِنْ قَوْمِهِ وَلَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَأَفْشَاهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ.
قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَجْمَعٌ وَعِيدٌ وَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ دَخَلُوا عَلَى الْأَصْنَامِ فَسَجَدُوا لَهَا، ثُمَّ عَادُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعِيدُ قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا أَعْجَبَكَ دِينُنَا، فَخَرَجَ مَعَهُمْ إِبْرَاهِيمُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ، وَقَالَ إِنِّي
(١) في "ب" لاعب".
323
سَقِيمٌ، يَقُولُ أَشْتَكِي رِجْلِي فَلَمَّا مَضَوْا نَادَى فِي آخِرِهِمْ وَقَدْ بَقِيَ ضُعَفَاءُ النَّاسِ، ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ فَسَمِعُوهَا مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى بَيْتِ الْآلِهَةِ وَهُنَّ فِي بَهْوٍ عَظِيمٍ مُسْتَقْبِلُ بَابِ الْبَهْوِ صَنَمٌ عَظِيمٌ إِلَى جَنْبِهِ أَصْغَرُ مِنْهُ، وَالْأَصْنَامُ بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ كُلِّ صَنَمٍ يَلِيهِ أَصْغَرُ مِنْهُ إِلَى بَابِ الْبَهْوِ، وَإِذَا هُمْ قَدْ جَعَلُوا طَعَامًا فَوَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيِ الْآلِهَةِ، وَقَالُوا: إِذَا رَجَعْنَا وَقَدْ بَرَّكَتِ الْآلِهَةُ فِي طَعَامِنَا أَكَلْنَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ وَإِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الطَّعَامِ، قَالَ لَهُمْ: عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ أَلَا تَأْكُلُونَ؟، فَلَمَّا لَمْ تُجِبْهُ قَالَ: مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ؟. فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ، وَجَعَلَ يَكْسِرُهُنَّ فِي يَدِهِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الصَّنَمُ الْأَكْبَرُ عَلَّقَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِهِ ثُمَّ خَرَجَ (١) فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ.
(١) أخرجه الطبري: ١٧ / ٣٨، وانظر الدر المنثور: ٥ / ٦٣٦ - ٦٣٧.
324
﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (٦٠) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) ﴾
﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا﴾ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ " جِذَاذًا " بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ كِسَرًا وَقِطَعًا جَمْعُ جَذِيذٍ، وَهُوَ الْهَشِيمُ مِثْلُ خَفِيفٍ وَخِفَافٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّهِ، مِثْلَ الْحُطَامِ وَالرُّفَاتِ، ﴿إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ﴾ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْسِرْهُ وَوَضَعَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِهِ، وَقِيلَ رَبَطَهُ بِيَدِهِ وَكَانَتِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ صَنَمًا بَعْضُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَبَعْضُهَا مِنْ فِضَّةٍ وَبَعْضُهَا مِنْ حَدِيدٍ وَرَصَاصٍ وَشَبَّةٍ وَخَشَبٍ وَحَجَرٍ، وَكَانَ الصَّنَمُ الْكَبِيرُ مِنَ الذَّهَبِ مُكَلَّلًا بِالْجَوَاهِرِ فِي عَيْنَيْهِ يَاقُوتَتَانِ تَتَّقِدَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى دِينِهِ وَإِلَى مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ إِذَا عَلِمُوا ضَعْفَ الْآلِهَةِ وَعَجْزِهَا، وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فَيَسْأَلُونَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ الْقَوْمُ مِنْ عِيدِهِمْ إِلَى بَيْتِ آلِهَتِهِمْ وَرَأَوْا أَصْنَامَهُمْ جُذَاذًا. ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ مِنَ الْمُجْرِمِينَ. ﴿قَالُوا﴾ يَعْنِي الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾، ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ يَعِيبُهُمْ وَيَسُبُّهُمْ، ﴿يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ هُوَ الَّذِي نَظُنُّ صَنَعَ هَذَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَمْرُودَ الْجَبَّارَ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ. ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ﴾ قَالَ نَمْرُودُ: يَقُولُ جِيئُوا بِهِ ظَاهِرًا بِمَرْأَى مِنَ النَّاسِ، ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ عَلَيْهِ أَنَّهُ الَّذِي فَعَلَهُ، كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ أَيْ يَحْضُرُونَ عِقَابَهُ وَمَا يُصْنَعُ بِهِ
﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (٦٢) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ﴾
فِلَمَّا أَتَوْا بِهِ، ﴿قَالُوا﴾ لَهُ ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ ؟:. ﴿قَالَ﴾ إِبْرَاهِيمُ، ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ غَضِبَ مِنْ أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ هَذِهِ الصِّغَارَ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا فَكَسَّرَهُنَّ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ حَتَّى يُخْبَرُوا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ.
قَالَ القُتَيْبِيُّ: مَعْنَاهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ، فَجَعَلَ النُّطْقَ شَرْطًا لِلْفِعْلِ، أَيْ إِنْ قَدَرُوا عَلَى النُّطْقِ قَدَرُوا عَلَى الْفِعْلِ، فَأَرَاهُمْ عَجْزَهُمْ عَنِ النُّطْقِ، وَفِي [ضِمْنِهِ] (١) أَنَا فَعَلْتُ،.
وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿بَلْ فَعَلَهُ﴾ وَيَقُولُ: مَعْنَاهُ [فَعَلَهُ] (٢) مَنْ فَعَلَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، اثْنَتَانِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ (الصَّافَاتِ: ٨٩)، وَقَوْلُهُ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ ﴿هَذِهِ أُخْتِي﴾ (٣) وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ أَيْ سَأَسْقُمُ، وَقِيلَ: سَقِمُ الْقَلْبِ أَيْ مُغْتَمٌ بِضَلَالَتِكُمْ، وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ: هَذِهِ أُخْتِي أَيْ فِي الدِّينِ، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ لِنَفْيِ الْكَذِبِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَوْلَى هُوَ الْأَوَّلُ لِلْحَدِيثِ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ لِقَصْدِ الصَّلَاحِ وَتَوْبِيخِهِمْ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ حَتَّى (٤) أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَقَالَ لِإِخْوَتِهِ: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ (يُوسُفَ: ٧٠). وَلَمْ يَكُونُوا سَرَقُوا. ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أَيْ فَتَفَكَّرُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَرَجَعُوا إِلَى عُقُولِهِمْ، ﴿فَقَالُوا﴾ مَا نَرَاهُ إِلَّا كَمَا قَالَ: ﴿إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ يَعْنِي بِعِبَادَتِكُمْ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ. وَقِيلَ: أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ هَذَا الرَّجُلَ فِي سُؤَالِكُمْ إِيَّاهُ وَهَذِهِ آلِهَتُكُمْ حَاضِرَةٌ فَاسْأَلُوهَا.
(١) في "ب" ضميره.
(٢) زيادة من "ب".
(٣) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) ٦ / ٣٨٨، ومسلم في الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، برقم (٢٣٧١) ٤ / ١٨٤٠.
(٤) في "ب" حين.
﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٧) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٦٨) ﴾
﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَجْرَى اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِمْ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ أَدْرَكَتْهُمُ الشَّقَاوَةُ، فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ أَيْ رُدُّوا إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ، يُقَالُ نُكِسَ الْمَرِيضُ إِذَا رَجَعَ إِلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ، وَقَالُوا: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾ فَكَيْفَ نَسْأَلُهُمْ؟ فَلَمَّا اتَّجَهَتِ الْحُجَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ﴿قَالَ﴾ لَهُمْ، ﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا﴾ إِنْ عَبَدْتُمُوهُ، ﴿وَلَا يَضُرُّكُمْ﴾ إِنْ تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُ. ﴿أُفٍّ لَكُمْ﴾ أَيْ تَبًّا وَقَذَرًا لَكُمْ، ﴿وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أَيْ أَلَيْسَ لَكُمْ عَقْلٌ تَعْرِفُونَ هَذَا، فَلَمَّا لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ وَعَجَزُوا عَنِ الْجَوَابِ. ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ ١٧/ب أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ نَاصِرِينَ لَهَا.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ الَّذِي قَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ (١). وَقِيلَ: اسْمُهُ "هيزن" فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (٢).
وَقِيلَ: قَالَهُ نَمْرُودُ، فَلَمَّا أَجْمَعَ نَمْرُودُ وَقَوْمُهُ عَلَى إِحْرَاقِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَبَسُوهُ فِي بَيْتٍ، وَبَنَوْا لَهُ بُنْيَانًا كالحظيرة (٣).
وقيل: بنو أَتُونًا بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا "كُوثَى" (٤) ثُمَّ جَمَعُوا لَهُ صِلَابَ الْحَطَبِ مِنْ أَصْنَافِ الْخَشَبِ مُدَّةً حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَمْرَضُ فَيَقُولُ لَئِنْ عَافَانِي اللَّهُ لَأَجْمَعَنَّ حَطَبًا لِإِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَنْذِرُ فِي بَعْضِ مَا تَطْلُبُ لَئِنْ أَصَابَتْهُ لَتَحْطِبَنَّ فِي نَارِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ الرَّجُلُ يُوصِي بِشِرَاءِ الْحَطَبِ وَإِلْقَائِهِ فِيهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَغْزِلُ وَتَشْتَرِي الْحَطَبَ بِغَزْلِهَا، فَتُلْقِيهِ فِيهِ احْتِسَابًا (٥) فِي دِينِهَا.
(١) أخرجه الطبري: ١٧ / ٤٣، وانظر: الدر المنثور: ٥ / ٦٣٩.
(٢) أخرجه الطبري: ١٧ / ٤٣، وانظر تفسير ابن كثير: ٣ / ١٨٥.
(٣) أخرجه الطبري: ١٧ / ٤٣، وانظر: البحر المحيط: ٦ / ٣٢٨.
(٤) بضم أوله، وبالثاء المثلثة، وهي بالعراق، ولد فيها إبراهيم عليه السلام.
(٥) انظر الطبري: ١٧ / ٤٤، الدر المنثور: ٥ / ٦٤١.
326
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانُوا يَجْمَعُونَ الْحَطَبَ شَهْرًا فَلَمَّا جَمَعُوا مَا أَرَادُوا أَشْعَلُوا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْحَطَبِ فَاشْتَعَلَتِ النَّارُ وَاشْتَدَّتْ حَتَّى أَنْ كَانَ الطَّيْرُ لَيَمُرُّ بِهَا فَيَحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ وَهَجِهَا، فَأَوْقَدُوا عَلَيْهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا كَيْفَ يُلْقُونَهُ فِيهَا فَجَاءَ إِبْلِيسُ فَعَلَّمَهُمْ عَمَلَ الْمَنْجَنِيقِ فَعَمِلُوا، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَرَفَعُوهُ عَلَى رَأْسِ الْبُنْيَانِ وَقَيَّدُوهُ ثُمَّ وَضَعُوهُ فِي الْمَنْجَنِيقِ مُقَيَّدًا مَغْلُولًا (١) فَصَاحَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَجَمِيعُ الْخَلْقِ إِلَّا الثَّقْلَيْنِ صَيْحَةً وَاحِدَةً، أَيْ رَبَّنَا إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُكَ يُلْقَى فِي النَّارِ وَلَيْسَ فِي أَرْضِكَ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرُهُ فَأْذَنْ لَنَا فِي نُصْرَتِهِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ خَلِيلِي لَيْسَ لِي غَيْرُهُ، وَأَنَا إِلَهُهُ وَلَيْسَ لَهُ إِلَهٌ غَيْرِي، فَإِنِ اسْتَغَاثَ بِشَيْءٍ مِنْكُمْ أَوْ دَعَاهُ فَلْيَنْصُرْهُ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ غَيْرِي فَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ وَأَنَا وَلِيُّهُ فَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَلَمَّا أَرَادُوا إِلْقَاءَهُ فِي النَّارِ أَتَاهُ خَازِنُ الْمِيَاهِ فَقَالَ: إِنْ أَرَدْتَ أَخْمَدْتُ النَّارَ (٢) وَأَتَاهُ خَازِنُ الرِّيَاحِ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ طَيَّرْتُ النَّارَ فِي الْهَوَاءِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا حَاجَةَ لِي إِلَيْكُمْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (٣).
وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حِينَ أَوْثَقُوهُ لِيُلْقُوهُ فِي النَّارِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الْمُلْكُ لَا شَرِيكَ لَكَ (٤) ثُمَّ رَمَوْا بِهِ فِي الْمَنْجَنِيقِ إِلَى النَّارِ، وَاسْتَقْبَلَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ لَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا (٥) قَالَ جِبْرِيلُ: فَاسْأَلْ رَبَّكَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ حَسَبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي (٦).
قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: جَعَلَ كُلُّ شَيْءٍ يُطْفِئُ عَنْهُ النَّارَ إِلَّا الْوَزَغَ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ فِي النَّارِ (٧).
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى وَابْنُ سَلَامٍ عَنْهُ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ، وَقَالَ: كَانَ
(١) انظر البحر المحيط: ٦ / ٣٢٨.
(٢) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٥ / ٦٤٠ للإمام أحمد في الزهد ولعبد بن حميد.
(٣) انظر البحر المحيط: ٦ / ٣٢٨ وقد عزاه لابن عباس، والدر المنثور: ٥ / ٦٤١، وعند البخاري: ٨ / ٢٢٩ بلفظ: (كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل).
(٤) أخرجه الطبري: ١٧ / ٤٥.
(٥) أخرجه الطبري: ١٧ / ٤٥، وانظر: تفسير ابن كثير: ٣ / ١٨٥.
(٦) ذكره ابن عراق في: "تنزيه الشريعة" ١ / ٢٥٠ بلفظ: (علمه بحالي يغني عن سؤالي) حكاية عن الخليل عليه السلام، وقال: قال ابن تيمية: موضوع.
(٧) انظر القرطبي: ١١ / ٣٠٤.
327
"يَنْفُخُ النَّارَ عَلَى إبراهيم" (١).
﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٦٩) ﴾
قَالَ تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يَقُلْ سَلَامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَرْدِهَا، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الْآثَارِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ يَوْمَئِذٍ نَارٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا طَفِئَتْ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِنَارٍ فِي الْعَالَمِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بَقِيَتْ ذَاتَ بَرْدٍ أَبَدًا (٢).
قَالَ السُّدِّيُّ: فَأَخَذَتِ الْمَلَائِكَةُ بِضَبْعَيْ إِبْرَاهِيمَ فَأَقْعَدُوهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ وَوَرْدٌ أَحْمَرُ وَنَرْجِسٌ (٣).
قَالَ كَعْبٌ: مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا وِثَاقَهُ (٤) قَالُوا: وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ (٥).
قَالَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ إِبْرَاهِيمُ مَا كُنْتُ أَيَّامًا قَطُّ أَنْعَمَ مِنِّي مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فِي النَّارِ (٦).
قَالَ ابْنُ يَسَارٍ: وَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكَ الظِّلِّ فِي صُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَعَدَ فِيهَا إِلَى جَنْبِ إِبْرَاهِيمَ يُؤْنِسُهُ، قَالُوا وَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ بِقَمِيصٍ مِنْ حرير الجنة وطنفسة فَأَلْبَسَهُ الْقَمِيصَ وَأَقْعَدَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ وَقَعَدَ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ (٧) وَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّارَ لَا تَضُرُّ أَحِبَّائِي.
ثُمَّ نَظَرَ نَمْرُودُ وَأَشْرَفَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ صَرْحٍ لَهُ فَرَآهُ جَالِسًا فِي رَوْضَةٍ وَالْمَلَكُ قَاعِدٌ إِلَى جَنْبِهِ وَمَا حَوْلَهُ نَارٌ تُحْرِقُ الْحَطَبَ، فَنَادَاهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ كَبِيرٌ إِلَهُكَ الَّذِي بَلَغَتْ قُدْرَتُهُ أَنْ حَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا أَرَى، يَا إِبْرَاهِيمُ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَخْشَى إِنْ أَقَمْتَ فِيهَا أَنْ تَضُرَّكَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَقُمْ فَاخْرُجْ مِنْهَا، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ يَمْشِي فِيهَا حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتُهُ مَعَكَ فِي صُورَتِكَ قَاعِدًا إِلَى جَنْبِكَ؟ قَالَ: ذَاكَ مَلَكُ الظِّلِّ أَرْسَلَهُ
(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) ٦ / ٣٨٩، ومسلم في باب السلام، باب استحباب قتل الوزغ، برقم (٢٢٣٧) ٤ / ١٧٥٧.
(٢) ذكر هذه الأقوال صاحب أضواء البيان: ٤ / ٥٨٩.
(٣) انظر: زاد المسير: ٥ / ٣٦٧.
(٤) أخرجه الطبري: ١٧ / ٤٤.
(٥) انظر: زاد المسير: ٥ / ٣٦٧، القرطبي: ١١ / ٣٠٤.
(٦) أخرجه الطبري: ١٧ / ٤٤ وابن كثير في التفسير: ٤ / ١٨٥.
(٧) انظر زاد المسير: ٥ / ٣٦٧.
إِلَيَّ رَبِّي لِيُؤْنِسَنِي فِيهَا، فَقَالَ نَمْرُودُ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنِّي مُقَرِّبٌ إِلَى إِلَهِكَ قُرْبَانًا لِمَا رَأَيْتُ مِنْ قُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ فِيمَا صَنَعَ بِكَ حِينَ أَبَيْتَ إِلَّا عِبَادَتَهُ وَتَوْحِيدَهُ إِنِّي ذَابِحٌ لَهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَقَرَةٍ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: إِذًا لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْكَ مَا كُنْتَ عَلَى دِينِكَ حَتَّى تُفَارِقَهُ إِلَى دِينِي، فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ تَرْكَ مُلْكِي. وَلَكِنْ سَوْفَ أَذْبَحُهَا لَهُ فَذَبَحَهَا لَهُ نَمْرُودُ ثُمَّ كَفَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهُ (١). قَالَ شُعَيْبٌ الْجُبَّائِيُّ: أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً (٢).
﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (٧١) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ خَسِرُوا السَّعْيَ وَالنَّفَقَةَ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مُرَادُهُمْ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ عَلَى نَمْرُودَ وَعَلَى قَوْمِهِ الْبَعُوضَ فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ، وَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ فِي دِمَاغِهِ فَأَهْلَكَتْهُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا﴾ مِنْ نَمْرُودَ وَقَوْمِهِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، ﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ يَعْنِي الشَّامَ بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا بِالْخِصْبِ وَكَثْرَةِ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَمِنْهَا بَعْثُ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: سَمَّاهَا مُبَارَكَةً لِأَنَّهُ مَا مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ إِلَّا وَيَنْبُعُ أَصْلُهُ مِنْ تَحْتِ الصَّخْرَةِ الَّتِي هِيَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِكَعْبٍ: أَلَا تَتَحَوَّلُ إِلَى الْمَدِينَةِ فِيهَا مُهَاجَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرُهُ، فَقَالَ كَعْبٌ: إِنِّي وَجَدْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمَنْزِلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الشَّامَ كَنْزُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، وَبِهَا كَنْزُهُ مِنْ عِبَادِهِ (٣).
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدَّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا العَذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الدَّيْرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عن عبد ١٨/أاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(١) ذكره صاحب زاد المسير: ٥ / ٣٦٧ - ٣٦٨.
(٢) أخرجه الطبري: ١٧ / ٤٥.
(٣) عزاه المتقي في كنز العمال: ١٤ / ١٤٣ لابن عساكر.
يَقُولُ: "إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ النَّاسِ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ" (١).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اسْتَجَابَ لِإِبْرَاهِيمَ رِجَالُ قَوْمِهِ حِينَ رَأَوْا مَا صَنَعَ اللَّهُ بِهِ مِنْ جَعْلِ النَّارِ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى خَوْفٍ مِنْ نَمْرُودَ وَمَلَئِهِمْ وَآمَنَ بِهِ لُوطٌ، وَكَانَ ابْنَ أَخِيهِ وَهُوَ لُوطُ بْنُ هَارَانَ بْنِ تَارِخَ، وَهَارَانُ هُوَ أَخُو إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ لَهُمَا أَخٌ ثَالِثٌ يُقَالُ لَهُ نَاخُورُ بْنُ تَارِخَ، وَآمَنَتْ بِهِ أَيْضًا سَارَةُ وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ وَهِيَ سَارَةُ بِنْتُ هَارَانَ الْأَكْبَرِ، عَمِّ إِبْرَاهِيمَ فَخَرَجَ مِنْ كَوْثَى مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ، وَمَعَهُ لُوطٌ وَسَارَةُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ (العَنْكَبُوتِ: ٢٦)، فَخَرَجَ يَلْتَمِسُ الْفِرَارَ بِدِينِهِ وَالْأَمَانَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، حَتَّى نَزَلَ حَرَّانَ فَمَكَثَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا مُهَاجِرًا حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ السَّبْعَ (٢) مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَهِيَ بَرِّيَّةُ الشَّامِ، وَنَزَلَ لُوطٌ بِالْمُؤْتَفِكَةِ وَهِيَ مِنَ السَّبْعِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَأَقْرَبُ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ (٣).
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (٧٢) ﴾
(١) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب في سكنى الشام ٣ / ٣٥٣ - ٣٥٤، والحاكم: ٤ / ٤٨٦ - ٤٨٧، وأحمد: ٢ / ١٩٩، والمصنف في شرح السنة: ١٤ / ٢٠٩ وشهر بن حوشب تكلم فيه غير واحد.
(٢) قال ياقوت: والسبع - بسكون الباء: ناحية في فلسطين، بين بيت المقدس والكرك، فيه سبع آبار، سمي الموضع بذلك، وكان ملكا لعمرو بن العاص أقام به لما اعتزل الناس، قال: وأكثر الناس يروي هذا بفتح الباء.
(٣) وأخرجه الطبري عن ابن إسحاق: ١٧ / ٤٧ مع أقوال أخر، ثم قال مرجحا أن هجرة إبراهيم كانت من العراق إلى الشام: وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك لأنه لا خلاف بين جميع أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام، وبها كان مقامه أيام حياته، وإن كان قد كان قدم مكة، وبنى بها البيت، وأسكنها إسماعيل ابنه مع أمه هاجر، غير أنه لم يقم بها، ولم يتخذها وطنا لنفسه، ولا لوط، والله إنما أخبر عن إبراهيم ولوط أنهما أنجاهما إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٧٣) ﴾
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: مَعْنَى النَّافِلَةِ الْعَطِيَّةُ وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ نَافِلَةً يَعْنِي عَطَاءً، قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: فَضْلًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي زَيْدٍ وَقَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: النَّافِلَةُ هُوَ يَعْقُوبُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْطَاهُ إِسْحَاقَ بِدُعَائِهِ حَيْثُ قَالَ: ﴿هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (الصَّافَّاتِ: ١٠٠)، وَزَادَ يَعْقُوبُ [وِلْدُ الْوَلَدِ] (١) وَالنَّافِلَةُ الزِّيَادَةُ، ﴿وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ يَعْنِي: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً﴾ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرِ، ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى دِينِنَا،
(١) في "ب" ولدا لولده.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ الْعَمَلَ بِالشَّرَائِعِ، ﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾ يَعْنِي: الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، ﴿وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ﴾ إِعْطَاءَهَا (١) ﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ مُوَحِّدِينَ.
﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨) ﴾
﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ﴾ أَيْ: وَآتَيْنَا لُوطًا، وَقِيلَ: وَاذْكُرْ لُوطًا آتَيْنَاهُ، ﴿حُكْمًا﴾ يَعْنِي: الْفَصْلَ بَيْنَ الخصوم بالحق، ﴿وَعِلْمًا﴾ ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ﴾ يعني: سدوما وَكَانَ أَهْلُهَا يَأْتُونَ الذُّكْرَانَ فِي أَدْبَارِهِمْ وَيَتَضَارَطُونَ فِي أَنْدِيَتِهِمْ مَعَ أَشْيَاءَ أُخَرَ، كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ﴾ ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى﴾ دَعَا، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ مِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ، ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ الْغَرَقِ وَتَكْذِيبِ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ أَطْوَلَ الْأَنْبِيَاءِ عُمْرًا وَأَشَدَّهُمْ بَلَاءً، وَالْكَرْبُ: أَشَدُّ الْغَمِّ (٢). ﴿وَنَصَرْنَاهُ﴾ مَنَعْنَاهُ، ﴿مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ بِسُوءٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةُ: أَيْ عَلَى الْقَوْمِ، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ اخْتَلَفُوا فِي الْحَرْثِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ الْحَرْثُ كَرْمًا قَدْ تَدَلَّتْ عَنَاقِيدُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ زَرْعًا، ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ أَيْ رَعَتْهُ لَيْلًا فَأَفْسَدَتْهُ، وَالنَّفْشُ: الرَّعْيُ بِاللَّيْلِ وَالْهَمَلُ بِالنَّهَارِ
(١) زيادة من "ب".
(٢) ساقط من "ب".
331
وَهُمَا الرَّعْيُ بِلَا رَاعٍ، ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ أَيْ: كَانَ ذَلِكَ بِعِلْمِنَا وَمَرْأَى مِنَّا لَا يَخْفَى عَلَيْنَا عِلْمُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: جَمَعَ اثْنَيْنِ، فَقَالَ لِحُكْمِهِمْ وَهُوَ يُرِيدُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ (النِّسَاءِ: ١١)، وَهُوَ يُرِيدُ أَخَوَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الزَّرْعِ: إِنَّ هَذَا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ لَيْلًا وَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي فَأَفْسَدَتْهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَعْطَاهُ دَاوُدُ رِقَابَ الْغَنَمِ بِالْحَرْثِ، فَخَرَجَا فَمَرَّا عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَوْ وُلِّيتُ أَمْرَهُمَا لَقَضَيْتُ بِغَيْرِ هَذَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ غَيْرُ هَذَا أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ فَدَعَاهُ فَقَالَ كَيْفَ تَقْضِي؟ وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ بِحَقِّ النُّبُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ إِلَّا أَخْبَرْتَنِي بِالَّذِي هُوَ أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ، قَالَ: ادْفَعِ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَصُوفِهَا وَمَنَافِعِهَا وَيَبْذُرُ صَاحِبُ الْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ مِثْلَ حَرْثِهِ، فَإِذَا صَارَ الْحَرْثُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ أُكِلَ دُفِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَأَخَذَ صَاحِبُ الْغَنَمِ غَنَمَهُ، فَقَالَ دَاوُدُ الْقَضَاءُ مَا قَضَيْتَ وَحَكَمَ بِذَلِكَ (١).
وَقِيلَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ يَوْمَ حَكَمَ كَانَ ابْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَمَّا حُكْمُ الْإِسْلَامِ [فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ] (٢) أَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَاشِيَةُ الْمُرْسَلَةُ بِالنَّهَارِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّهَا، وَمَا أَفْسَدَتْ بِاللَّيْلِ ضَمِنَهُ رَبُّهَا لِأَنَّ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّ أَصْحَابَ الزَّرْعِ يَحْفَظُونَهُ بِالنَّهَارِ، وَالْمَوَاشِي تَسْرَحُ بِالنَّهَارِ وَتُرَدُّ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَرَاحِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ، عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْهُ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَمَانُهُ عَلَى أَهْلِهَا، وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى أَنَّ الْمَالِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَتْلَفَتْ مَاشِيَتُهُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا (٣).
(١) أخرج هاتين الروايتين الطبري: ١٧ / ٥١ - ٥٤، وانظر: تفسير ابن كثير: ٣ / ١٨٧.
(٢) زيادة من "ب".
(٣) أخرجه أبو داود في البيوع، باب: المواشي تفسد زرع قوم: ٥ / ٢٠٢، وعزاه المنذري للنسائي في الكبرى، وابن ماجه في الأحكام، باب: الحكم فيما أفسدت المواشي برقم (٢٣٣٣) ٢ / ٧٨١، ورواه الإمام مالك في الموطأ مرسلا: ٢ / ٧٤٧ - ٧٤٨، وأحمد: ٤ / ٢٩٥، وعبد الرزاق ١٠ / ٨٢، والبيهقي ٨ / ٣٤١ - ٣٤٢. قال: ابن عبد البر في التمهيد: ١١ / ٨١ - ٨٢، هكذا رواه جميع رواة الموطأ - فيما علمت - مرسلا، وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب مرسلا إلا أن ابن عيينة رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب وحرام بن سعد بن محيصة... ثم قال: هذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور أرسله الأئمة وحدث به الثقات واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة به العمل، وقد زعم الشافعي أنه تتبع مراسيل سعيد بن المسيب فألفاها صحاحا وأكثر الفقهاء يحتجون بها. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: ٨ / ٣٤٢ اضطرب إسناد هذا الحديث اضطرابا شديدا، واختلف فيه على الزهري على سبعة أوجه ذكرها ابن القطان.
332
﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (٧٩) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ أَيْ عَلَّمْنَاهُ الْقَضِيَّةَ وَأَلْهَمْنَاهَا سُلَيْمَانَ، ﴿وَكُلًّا﴾ يَعْنِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، ﴿آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ قَالَ الْحَسَنُ: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْتُ الْحُكَّامَ قَدْ هَلَكُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمِدَ هَذَا بِصَوَابِهِ وَأَثْنَى عَلَى هَذَا بِاجْتِهَادِهِ (١). وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ حُكْمَ دَاوُدَ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ أَمْ بِالنَّصِّ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِعْلًا بِالِاجْتِهَادِ. وَقَالُوا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ لِلْأَنْبِيَاءِ لِيُدْرِكُوا ثَوَابَ الْمُجْتَهِدِينَ إِلَّا أَنَّ دَاوُدَ أَخْطَأَ وَأَصَابَ سُلَيْمَانُ. وَقَالُوا: يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَلَهُمُ الِاجْتِهَادُ فِي الْحَوَادِثِ إِذَا لَمْ يَجِدُوا فِيهَا نَصَّ كِتَابٍ أَوْ سَنَةٍ، وَإِذَا أَخْطَأُوا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ (٢) [فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ] (٣) لِمَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بن محمد ١٨/ب الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ بِشْرِ
(١) انظر: القرطبي: ١١ / ٣٠٩.
(٢) انظر تفصيلا في تفسير القرطبي: ١١ / ٣٠٨ - ٣١٠، وأضواء البيان ٤ / ٥٩٦ - ٥٩٧ وقد رجح الشيخ الشنقيطي - رحمه الله - أن حكمهما - داود وسليمان عليهما السلام - كان باجتهاد لا بوحي، إذا يقول: وفي الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحي، وأن سليمان أصاب فاستحق الثناء باجتهاده وإصابته، وأن داود لم يصب فاستحق الثناء باجتهاده ولم يستوجب لوما ولا ذما بعدم إصابته، كما أثنى على سليمان بالإصابة في قوله: (ففهمناها سليمان)، وأثنى عليهما في قوله: (وكلا آتينا حكما وعلما) فدل قوله: (إذ يحكمان) على أنهما حكما فيها معا، كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر، ولو كان وحيا لما ساغ الخلاف، ثم قال: (ففهمناها سليمان) فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود، ولو كان حكمه فيها بوحي لكان مفهما إياها كما ترى. فقوله: (إذ يحكمان) مع قوله: (ففهمناها سليمان) قرينة على أن الحكم لم يكن بوحي بل باجتهاد، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفهيم الله إياه ذلك. والقرينة الثانية: هي أن قوله تعالى: (ففهمناها) الآية يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع، لا أنه أنزل عليه فيها وحيا جديدا ناسخا، لأن قوله تعالى: (ففهمناها) أليق بالأول من الثاني كما ترى.
(٣) زيادة من "ب".
333
ابْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عَنْ قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ العاصِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ العاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" (١).
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ حَكَمَا بِالْوَحْيِ، وَكَانَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ نَاسِخًا لِحُكْمِ دَاوُدَ، وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِلْأَنْبِيَاءِ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُمْ مُسْتَغْنُونَ عَنِ الِاجْتِهَادِ بِالْوَحْيِ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ (٢) وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَبِالْخَبَرِ حَيْثُ وَعَدَ الثَّوَابَ لِلْمُجْتَهِدِ عَلَى الْخَطَأِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا بَلْ إِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدِينَ فِي حَادِثَةٍ كَانَ الْحَقُّ مَعَ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُصِيبًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"، لَمْ يَرِدْ بِهِ أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ بَلْ يُؤْجَرُ عَلَى اجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ عِبَادَةٌ، وَالْإِثْمُ فِي الْخَطَأِ عَنْهُ مَوْضُوعٌ إِذَا لَمْ يَأْلُ جُهْدَهُ (٣).
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا فَجَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكَ، وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ وَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَهُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى" (٤).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾ أَيْ وَسَخَّرْنَا الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ يُسَبِّحْنَ مَعَ دَاوُدَ إِذَا سَبَّحَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يَفْهَمُ تَسْبِيحَ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ. قَالَ وَهْبٌ: كَانَتِ الْجِبَالُ تُجَاوِبُهُ بِالتَّسْبِيحِ وَكَذَلِكَ الطَّيْرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُسَبِّحْنَ أَيْ يُصَلِّينَ مَعَهُ إِذَا صَلَّى. وَقِيلَ: كَانَ دَاوُدُ إِذَا فَتَرَ يُسْمِعُهُ اللَّهُ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ لِيَنْشَطَ فِي التَّسْبِيحِ وَيَشْتَاقَ إِلَيْهِ. ﴿وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾
(١) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ: ١٣ / ٣١٨ ومسلم في الأقضية، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ برقم (١٧١٦) ٣ / ١٣٤٢ والمصنف في شرح السنة: ١٠ / ١١٥.
(٢) انظر القرطبي: ١١ / ٣٠٨ - ٣١٠.
(٣) انظر القرطبي: ١١ / ٣١١.
(٤) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب: قول الله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب) ٦ / ٤٥٨ ومسلم في الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدين برقم (١٧٢٠) ٣ / ١٣٤٣.
334
يَعْنِي: مَا ذَكَرَ مِنَ التَّفْهِيمِ وَإِيتَاءِ الْحُكْمِ وَالتَّسْخِيرِ.
﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (٨١) ﴾
﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾ وَالْمُرَادُ بِاللَّبُوسِ هُنَا الدُّرُوعُ لِأَنَّهَا تُلْبَسُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُلْبَسُ وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَسْلِحَةِ كُلِّهَا، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَلْبُوسِ كَالْجُلُوسِ وَالرُّكُوبِ، قَالَ قَتَادَةُ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدُّرُوعَ وَسَرَدَهَا وَحَلَّقَهَا دَاوُدُ وَكَانَتْ مِنْ قَبْلُ صَفَائِحَ، وَالدِّرْعُ يَجْمَعُ الْخِفَّةَ وَالْحَصَانَةَ، ﴿لِتُحْصِنَكُمْ﴾ لِتُحْرِزَكُمْ وَتَمْنَعَكُمْ، ﴿مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ أيْ حَرْبِ عَدُوِّكُمْ، قَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ وَقْعِ السِّلَاحِ فِيكُمْ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ: ﴿لِتُحْصِنَكُمْ﴾ بِالتَّاءِ، يَعْنِي الصَّنْعَةَ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالنُّونِ لِقَوْلِهِ: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ﴾ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، جَعَلُوا الْفِعْلَ لِلَّبُوسِ، وَقِيلَ: لِيُحَصِّنَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ يَقُولُ لِدَاوُدَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ. وَقِيلَ: يَقُولُ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ نِعَمِي بِطَاعَةِ الرَّسُولِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً﴾ أَيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ، وَهِيَ هَوَاءٌ مُتَحَرِّكٌ، وَهُوَ جِسْمٌ لَطِيفٌ يَمْتَنِعُ بِلُطْفِهِ مِنَ الْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَيَظْهَرُ لِلْحِسِّ بِحَرَكَتِهِ، وَالرِّيحُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، عَاصِفَةٌ شَدِيدَةُ الْهُبُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً وَالرُّخَاءُ اللِّينُ؟ قِيلَ: كَانَتِ الرِّيحُ تَحْتَ أَمْرِهِ إِنْ أَرَادَ أَنْ تَشْتَدَّ اشْتَدَّتْ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ تَلِينَ لَانَتْ، ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ يَعْنِي الشَّامَ، وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْرِي لِسُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِهِ حَيْثُ شَاءَ سُلَيْمَانُ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مَنْزِلِهِ بِالشَّامِ، ﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ عَلَّمْنَاهُ، ﴿عَالِمِينَ﴾ بِصِحَّةِ التَّدْبِيرِ فِيهِ عَلِمْنَا أَنَّ مَا يُعْطَى سُلَيْمَانُ مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ وَغَيْرِهِ يَدْعُوهُ إِلَى الْخُضُوعِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَجْلِسِهِ عَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَقَامَ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ حَتَّى يَجْلِسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَكَانَ امْرَءًا غَزَّاءً قَلَّ مَا يَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ، وَلَا يَسْمَعُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِمَلِكٍ إِلَّا أَتَاهُ حَتَّى يُذِلَّهُ، كَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ أَمْرَ بِمُعَسْكَرِهِ فَضَرَبَ بِخَشَبٍ ثُمَّ نُصِبَ لَهُ عَلَى الْخَشَبِ ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ وَآلَةَ الْحَرْبِ، فَإِذَا حَمَلَ مَعَهُ مَا يُرِيدُ أَمْرَ الْعَاصِفَةَ مِنَ الرِّيحِ فَدَخَلَتْ تَحْتَ ذَلِكَ الْخَشَبِ فَاحْتَمَلَتْهُ حَتَّى إِذَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ أَمْرَ الرُّخَاءَ فَمَرَّ بِهِ شَهْرًا فِي رَوْحَتِهِ وَشَهْرًا فِي غَدَوْتِهِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ، وَكَانَتْ تَمُرُّ بِعَسْكَرِهِ الرِّيحُ الرُّخَاءُ وَبِالْمَزْرَعَةِ
335
فَمَا تُحَرِّكُهَا، وَلَا تُثِيرُ تُرَابًا وَلَا تُؤْذِي طَائِرًا. قَالَ وَهْبٌ: ذُكِرَ لِي أَنْ مَنْزِلًا بِنَاحِيَةِ دِجْلَةَ مَكْتُوبٌ فِيهِ [كَتَبَهُ] (١) بَعْضُ صَحَابَةِ سُلَيْمَانَ إِمَّا مِنَ الْجِنِّ وَإِمَّا مِنَ الْإِنْسِ نَحْنُ نَزَلْنَاهُ وَمَا بَنَيْنَاهُ مَبْنِيًّا وَجَدْنَاهُ، غَدَوْنَا مِنْ إِصْطَخْرَ فَقُلْنَاهُ وَنَحْنُ رَائِحُونَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَبَائِتُونَ بِالشَّامِ (٢).
قَالَ مُقَاتِلٌ: نَسَجَتِ الشَّيَاطِينُ لِسُلَيْمَانَ بِسَاطًا فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ ذَهَبَا فِي إِبْرَيْسَمٍ، وَكَانَ يُوضَعُ لَهُ مِنْبَرٌ مِنَ الذَّهَبِ فِي وَسَطِ الْبِسَاطِ فَيَقْعُدُ عَلَيْهِ، وَحَوْلَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ كُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، يَقْعُدُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى كَرَاسِيِّ الذَّهَبِ، وَالْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاسِيِّ الْفِضَّةِ، وَحَوْلَهُمُ النَّاسُ، وَحَوْلَ النَّاسِ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ، وَتُظِلُّهُ الطَّيْرُ بِأَجْنِحَتِهَا لَا تَقَعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَتَرْفَعُ رِيحُ الصِّبَا الْبِسَاطَ مَسِيرَةَ شَهْرٍ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ وَمِنَ الرَّوَاحِ إِلَى الصَّبَاحِ (٣)
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ يُوضَعُ لِسُلَيْمَانَ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ كُرْسِيٍّ فَيَجْلِسُ الْإِنْسُ فِيمَا يَلِيهِ ثُمَّ يَلِيهِمُ الْجِنُّ ثُمَّ تُظِلُّهُمُ الطَّيْرُ ثُمَّ تَحْمِلُهُمُ الرِّيحُ (٤).
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا شَغَلَتِ الْخَيْلُ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ غَضِبَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَعَقَرَ الْخَيْلَ فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ مَكَانَهَا خَيْرًا مِنْهَا، وَأَسْرَعُ الرِّيحِ تَجْرِي بِأَمْرِهِ كَيْفَ شَاءَ، فَكَانَ يَغْدُو مِنْ إِيلِيَاءَ فَيُقِيلُ بإِصْطَخْرَ، ثم يروح ١٩/أمِنْهَا فَيَكُونُ رَوَاحُهَا بِبَابِلَ (٥).
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ لَهُ مَرْكَبٌ مِنْ خَشَبٍ وَكَانَ فِيهِ أَلْفُ رُكْنٍ فِي كُلِّ رُكْنٍ أَلْفُ بَيْتٍ يَرْكَبُ مَعَهُ فِيهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، تَحْتَ كُلِّ رُكْنٍ أَلْفُ شَيْطَانٍ يَرْفَعُونَ ذَلِكَ الْمَرْكَبَ، وَإِذَا ارْتَفَعَ أَتَتِ الرِّيحُ الرُّخَاءُ فَسَارَتْ بِهِ وَبِهِمْ، يُقِيلُ عِنْدَ قَوْمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ شَهْرٌ وَيُمْسِي عِنْدَ قَوْمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ شَهْرٌ، لَا يَدْرِي الْقَوْمُ إِلَّا وَقَدْ أَظَلَّهُمْ مَعَهُ الْجُيُوشُ (٦).
[وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ سَارَ مَنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ غَادِيًا فَقَالَ بِمَدِينَةِ مَرْوٍ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَدِينَةِ بَلْخٍ، تَحْمِلُهُ وَجُنُودَهُ الرِّيحُ، وَتُظِلُّهُمُ الطَّيْرُ، ثُمَّ سَارَ مِنْ مَدِينَةِ بَلْخٍ مُتَخَلِّلًا بِلَادَ التُّرْكِ، ثُمَّ جَاءَهُمْ إِلَى بِلَادِ الصِّينِ يَغْدُو عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ وَيُرَوِّحُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ عَطَفَ يُمْنَةً عَنْ مَطْلِعِ الشمس عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى أَتَى عَلَى أَرْضِ القُنْدُهَارَ، وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى أَرْضِ مُكْرَانَ وَكَرِمَانَ، ثُمَّ جَاوَزَهَا حَتَّى أَتَى أَرْضَ
(١) ساقط من "أ".
(٢) أخرجه الطبري: ١٧ / ٥٥ - ٥٦.
(٣) انظر: البحر المحيط: ٦ / ٣٣٣.
(٤) ذكره ابن كثير في تفسيره: ٣ / ١٨٨.
(٥) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٦ / ٦٧٧ لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٦) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٥ / ٦٥١ لابن أبي حاتم.
336
فَارِسَ فَنَزَلَهَا أَيَّامًا وَغَدا مِنْهَا فَقَالَ بِكَسْكَرَ ثُمَّ رَاحَ إِلَى الشَّامِ وَكَانَ مُسْتَقَرُّهُ بِمَدِينَةِ تَدْمُرَ، وَكَانَ أَمَرَ الشَّيَاطِينَ قَبْلَ شُخُوصِهِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَبَنَوْهَا لَهُ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ وَالرُّخَامِ الْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ، وَفِي ذلك يقول النابعة:
إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْمَلِيكُ لَهُ قُمْ فِي البَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ
وَجَيِّشِ الْجِنَّ أَنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ] (١)
(١) زيادة من "ب".
337
﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ﴾ أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، ﴿مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ﴾ أَيْ يَدْخُلُونَ تَحْتَ الْمَاءِ فَيُخْرِجُونَ لَهُ مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ الْجَوَاهِرَ، ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾ أَيْ دُونَ الْغَوْصِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ﴾ (سَبَأٍ: ١٣) الْآيَةَ. ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ حَتَّى لَا يَخْرُجُوا مِنْ أَمْرِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ حَفِظْنَاهُمْ مِنْ أَنْ يُفْسِدُوا مَا عَمِلُوا. وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ إِذَا بَعَثَ شَيْطَانًا مَعَ إِنْسَانٍ لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا قَالَ لَهُ: إِذَا فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ أَشْغِلْهُ بِعَمَلٍ آخَرَ لِئَلَّا يُفْسِدَ مَا عَمِلَ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الشَّيَاطِينِ أَنَّهُمْ إِذَا فَرَغُوا مِنَ الْعَمَلِ وَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِعَمَلٍ آخَرَ خَرَّبُوا مَا عَمِلُوا وَأَفْسَدُوهُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾ أَيْ دَعَا رَبَّهُ، قَالَ وَهْبُّ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ أَمْوَصَ بْنِ رَازِخَ بْنِ رُومَ بْنِ عِيسَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ أَوْلَادِ لُوطِ بْنِ هَارَانَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدِ اصْطَفَاهُ وَنَبَّأَهُ وَبَسَطَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَكَانَتْ لَهُ البَثَنِيَّةُ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، كُلُّهَا سَهْلُهَا وَجَبَلُهَا، وَكَانَ لَهُ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، مِنَ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالْحُمُرِ مَا لَا يَكُونُ لِرَجُلٍ أَفْضَلَ مِنْهُ مِنَ الْعُدَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَكَانَ لَهُ خَمْسُمِائَةِ فَدَّانٍ، يَتْبَعُهَا خَمْسُمِائَةِ عَبْدٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ امْرَأَةٌ وَوَلَدٌ وَمَالٌ، وَيَحْمِلُ آلَةَ كُلِّ فَدَّانٍ أَتَانٌ لِكُلِّ أَتَانٍ وَلَدٌ مِنَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ، وَفَوْقَ ذَلِكَ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْطَاهُ أَهْلًا وَوَلَدًا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَكَانَ بَرًّا تَقِيًّا رَحِيمًا بِالْمَسَاكِينِ، يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ وَيَكْفُلُ الْأَرَامِلَ وَالْأَيْتَامَ، وَيُكْرِمُ الضَّيْفَ وَيُبْلِغُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَكَانَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِ اللَّهِ مُؤَدِّيًا لِحَقِّ اللَّهِ، قَدِ امْتَنَعَ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْهُ مَا يُصِيبُ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى مِنَ الْغِرَّةِ وَالْغَفْلَةِ وَالتَّشَاغُلِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَكَانَ مَعَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَدْ آمَنُوا
337
بِهِ وَصَدَّقُوهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يقال له اليقين، وَرَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا يَلْدَدُ وَالْآخَرُ صَافِرُ وَكَانُوا كُهُولًا وَكَانَ إِبْلِيسُ لَا يُحْجَبُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ السَّمَوَاتِ، وَكَانَ يَقِفُ فِيهِنَّ حَيْثُ مَا أَرَادَ حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى فَحُجِبَ عَنْ أَرْبَعِ سَمَوَاتٍ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجِبَ مِنَ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ، فَسَمِعَ إِبْلِيسُ تَجَاوُبَ الْمَلَائِكَةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَيُّوبَ، وَذَلِكَ حِينَ ذَكَرَهُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَأَدْرَكَهُ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ، فَصَعَدَ سَرِيعًا حَتَّى وَقَفَ مِنَ السَّمَاءِ مَوْقِفًا كَانَ يَقِفُهُ، فَقَالَ إِلَهِي نَظَرْتُ فِي أَمْرِ عَبْدِكَ أَيُّوبَ فَوَجَدْتُهُ عَبْدًا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ فَشَكَرَكَ وَعَافَيْتَهُ فَحَمِدَكَ، وَلَوِ ابْتَلَيْتَهُ بِنَزْعِ مَا أَعْطَيْتَهُ لَحَالَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ شُكْرِكَ وَعِبَادَتِكَ، وَلَخَرَجَ مِنْ طَاعَتِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى مَالِهِ فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ حَتَّى وَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ جَمَعَ عَفَارِيتَ الْجِنِّ وَمَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ، وَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ؟ فَإِنِّي قَدْ سُلِّطْتُ عَلَى مَالِ أَيُّوبَ، وَهِيَ الْمُصِيبَةُ الْفَادِحَةُ وَالْفِتْنَةُ الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، فَقَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ أُعْطِيتُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ إِعْصَارًا مِنْ نَارٍ وَأَحْرَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ آتِي عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: فَأْتِ الْإِبِلَ وَرِعَاءَهَا، فَأَتَى الْإِبِلَ حِينَ وَضَعَتْ رُءُوسَهَا وَثَبَتَتْ فِي مَرَاعِيهَا، فَلَمْ يَشْعُرِ النَّاسُ حَتَّى ثَارَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ إِعْصَارٌ مِنْ نَارٍ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا احْتَرَقَ فَأَحْرَقَ الْإِبِلَ وَرِعَاءَهَا، حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا، ثُمَّ جَاءَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ عَلَى قَعُودٍ إِلَى أَيُّوبَ فَوَجَدَهُ قَائِمًا يُصَلِّي، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ أَقْبَلَتْ نَارٌ حَتَّى غَشِيَتْ إِبِلَكَ فَأَحْرَقَتْهَا وَمَنْ فِيهَا غَيْرِي، فَقَالَ أَيُّوبُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَعْطَاهَا وَهُوَ أَخَذَهَا، وَقَدِيمًا مَا وَطَّنْتُ مَالِي وَنَفْسِي عَلَى الْفَنَاءِ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: فَإِنَّ رَبَّكَ أَرْسَلَ عَلَيْهَا نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَاحْتَرَقَتْ فَتَرَكَتِ النَّاسَ مَبْهُوتِينَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا كَانَ أَيُّوبُ يَعْبُدُ شَيْئًا وَمَا كَانَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَوْ كَانَ إِلَهُ أَيُّوبَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا لَمَنَعَ [وَلِيَّهُ] (١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ الَّذِي فَعَلَ لِيُشْمِتَ بِهِ عَدُوَّهُ وَيُفْجِعَ بِهِ صَدِيقَهُ.
قَالَ أَيُّوبُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حِينَ أَعْطَانِي وَحِينَ نَزَعَ مِنِّي، عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ فِي التُّرَابِ، وَعُرْيَانًا أُحْشَرُ إِلَى اللَّهِ، لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْرَحَ حِينَ أَعَارَكَ وَتَجْزَعَ حِينَ قَبَضَ عَارِيَتَهُ مِنْكَ، اللَّهُ أَوْلَى بِكَ وَبِمَا أَعْطَاكَ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ خَيْرًا لَنَقَلَ رُوحَكَ مَعَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ وَصِرْتَ شَهِيدًا، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ مِنْكَ شَرًّا فَأَخَّرَكَ، فَرَجَعَ إِبْلِيسُ إِلَى أَصْحَابِهِ [خَائِبًا] (٢) خَاسِئًا ذَلِيلًا فَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ؟ فَإِنِّي لَمْ أَكْلُمْ قَلْبَهُ؟ قَالَ عِفْرِيتٌ: عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا شِئْتُ صِحْتُ صَيْحَةً لَا يَسْمَعُهَا ذُو رُوحٍ إِلَّا خَرَجَتْ مُهْجَةُ نَفْسِهِ، فَقَالَ إِبْلِيسُ فَأْتِ الْغَنَمَ وَرُعَاتَهَا، فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَسَّطَهَا
(١) في "ب" عن وليه أيوب.
(٢) زيادة من "ب".
338
ثُمَّ صَاحَ صَيْحَةً فَتَجَثَّمَتْ أَمْوَاتًا عَنْ آخِرِهَا وَمَاتَ رِعَاؤُهَا، ثُمَّ جَاءَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الرُّعَاةِ إِلَى أَيُّوبَ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ مَثَلَ الرَّدِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَجَعَ إِبْلِيسُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ فَإِنِّي لَمْ أَكْلُمْ قَلْبَ أَيُّوبَ، فَقَالَ عِفْرِيتٌ عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ رِيحًا عَاصِفًا تَنْسِفُ كُلَّ شَيْءٍ تَأْتِي عَلَيْهِ، قَالَ فَأْتِ الْفَدَادِينَ وَالْحَرْثَ فَانْطَلَقَ وَلَمْ يَشْعُرُوا حَتَّى هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَنَسَفَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ جَاءَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الْحَرْثِ إِلَى أَيُّوبَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ مَثَلَ رَدِّهِ الْأَوَّلِ كُلَّمَا انْتَهَى إِلَيْهِ هَلَاكُ مَالٍ مِنْ أَمْوَالِهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ مِنْهُ بِالْقَضَاءِ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ.
فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ أَنَّهُ قَدْ أَفْنَى مَالَهُ صَعِدَ [إِلَى السَّمَاءِ] (١) فَقَالَ إِلَهِي إِنَّ أيوب يرى ١٩/ب أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِوَلَدِهِ فَأَنْتَ مُعْطِيهِ الْمَالَ فَهَلْ مُسَلِّطِي عَلَى وَلَدِهِ، فَإِنَّهَا الْمُصِيبَةُ الَّتِي لَا تَقُومُ لَهَا قُلُوبُ الرِّجَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى وَلَدِهِ، فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ حَتَّى جَاءَ بَنِي أَيُّوبَ وَهُمْ فِي قَصْرِهِمْ فَلَمْ يَزَلْ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حَتَّى تَدَاعَى مِنْ قَوَاعِدِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُنَاطِحُ جُدُرَهُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَيَرْمِيهِمْ بِالْخَشَبِ وَالْجَنْدَلِ، حَتَّى إِذَا مَثَّلَ بِهِمْ كُلَّ مُثْلَةٍ رَفْعَ الْقَصْرَ فَقَلَبَهُ فَصَارُوا مُنَكَّسِينَ، وَانْطَلَقَ إِلَى أَيُّوبَ مُتَمَثِّلًا بِالْمُعَلِّمِ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الحكمة وهو جريج مَخْدُوشُ الْوَجْهِ يَسِيلُ دَمُهُ وَدِمَاغُهُ فَأَخْبَرَهُ، وَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ بَنِيكَ كَيْفَ عُذِّبُوا وَقُلِّبُوا فَكَانُوا مُنَكَّسِينَ عَلَى رُءُوسِهِمْ تَسِيلُ دِمَاؤُهُمْ وَدِمَاغُهُمْ، وَلَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ شُقَّتْ بُطُونُهُمْ وَتَنَاثَرَتْ أَمْعَاؤُهُمْ لَقُطِعَ قَلْبُكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ هَذَا وَنَحْوَهُ حَتَّى رَقَّ أَيُّوبُ فَبَكَى وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، فَاغْتَنَمَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ فَصَعِدَ سَرِيعًا بِالَّذِي كَانَ مِنْ جَزَعِ أَيُّوبَ مَسْرُورًا بِهِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَيُّوبُ أَنْ فَاءَ وَأَبْصَرَ وَاسْتَغْفَرَ، وَصَعِدَ قُرَنَاؤُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِتَوْبَتِهِ فَسَبَقَتْ تَوْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ أَعْلَمُ، فَوَقَفَ إِبْلِيسُ ذَلِيلًا فَقَالَ: يَا إِلَهِي إِنَّمَا هُوِّنَ عَلَى أَيُّوبَ الْمَالُ وَالْوَلَدُ أَنَّهُ يَرَى مِنْكَ أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِنَفْسِهِ فَأَنْتَ تُعِيدُ لَهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى جَسَدِهِ؟ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى لِسَانِهِ وَلَا عَلَى قَلْبِهِ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمَ بِهِ لَمْ يُسَلِّطْهُ عَلَيْهِ إِلَّا رَحْمَةً لَهُ لِيُعَظِّمَ لَهُ الثَّوَابَ وَيَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِلصَّابِرِينَ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ فِي كُلِّ بَلَاءٍ نَزَلَ بِهِمْ، لِيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الصَّبْرِ وَرَجَاءً لِلثَّوَابِ، فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ سَرِيعًا فَوَجَدَ أَيُّوبَ سَاجِدًا فَعَجَّلَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ فَأَتَاهُ مِنْ قِبَلِ وُجُوهِهِ فَنَفَخَ فِي مَنْخَرِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا [جَمِيعُ] (٢) جَسَدِهِ، فَخَرَجَ مِنْ قَرْنِهِ إلى قدمه ثآليل مِثْلُ أَلْيَاتِ
(١) ساقط من "أ".
(٢) زيادة من "ب".
339
الْغَنَمِ فَوَقَعَتْ فِيهِ حَكَّةٌ فَحَكَّ بِأَظْفَارِهِ حَتَّى سَقَطَتْ كُلُّهَا ثُمَّ حَكَّهَا بِالْمُسُوحِ الْخَشِنَةِ حَتَّى قَطَعَهَا، ثُمَّ حَكَّهَا بِالْفَخَّارِ وَالْحِجَارَةِ الْخَشِنَةِ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُكُّهَا حَتَّى نَغِلَ لَحْمُهُ، وَتَقْطَّعَ وَتَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، وَأَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ فَجَعَلُوهُ عَلَى كُنَاسَةٍ، وَجَعَلُوا لَهُ عَرِيشًا، فَرَفَضَهُ خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ امْرَأَتِهِ، وَهِيَ رَحْمَةُ بِنْتُ أَفْرَاثِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ كَانَتْ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ بِمَا يُصْلِحُهُ وَتَلْزَمُهُ، فَلَمَّا رَأَى الثَّلَاثَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ: يَقِنُ وَيَلْدَدُ وَصَافِرُ مَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهِ اتَّهَمُوهُ وَرَفَضُوهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَهُ، فَلَمَّا طَالَ بِهِ الْبَلَاءُ انْطَلَقُوا إِلَيْهِ فَبَكَّتُوهُ وَلَامُوهُ وَقَالُوا لَهُ: تُبْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عُوقِبْتَ بِهِ، قَالَ: وَحَضَرَهُ مَعَهُمْ فَتًى حَدِيثُ السِّنِّ قَدْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ تَكَلَّمْتُمْ أَيُّهَا الْكُهُولُ، وَكُنْتُمْ أَحَقَّ بِالْكَلَامِ مِنِّي لِأَسْنَانِكُمْ، وَلَكِنْ قَدْ تَرَكْتُمْ مِنَ الْقَوْلِ أَحْسَنَ مِنَ الَّذِي قُلْتُمْ، وَمِنَ الرَّأْيِ أَصْوَبَ مِنَ الَّذِي رَأَيْتُمْ، وَمِنَ الْأَمْرِ أَجْمَلَ مِنَ الَّذِي أَتَيْتُمْ، وَقَدْ كَانَ لِأَيُّوبَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالذِّمَمِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي وَصَفْتُمْ، فَهَلْ تَدْرُونَ أَيُّهَا الْكُهُولُ حَقَّ مَنِ انْتَقَصْتُمْ وَحُرْمَةَ مَنِ انْتَهَكْتُمْ، وَمَنِ الرَّجُلُ الَّذِي عِبْتُمْ وَاتَّهَمْتُمْ؟ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَيُّوبَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَصَفْوَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، ثُمَّ لَمْ تَعْلَمُوا وَلَمْ يُطْلِعْكُمُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَخِطَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ مُنْذُ آتَاهُ اللَّهُ مَا آتاه إلى يومك هَذَا، وَلَا عَلَى أَنَّهُ نَزَعَ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمَهُ بِهَا، وَلَا أَنَّ أَيُّوبَ قَالَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ فِي طُولِ مَا صَحِبْتُمُوهُ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْبَلَاءُ هُوَ الَّذِي أَزْرَى بِهِ عِنْدَكُمْ وَوَضَعَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي الْمُؤْمِنِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ، وَلَيْسَ بَلَاؤُهُ لِأُولَئِكَ بِدَلِيلٍ عَلَى سُخْطِهِ عَلَيْهِمْ وَلَا لِهَوَانِهِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُ كَرَامَةٌ وَخِيَرَةٌ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ أَيُّوبُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِهَذِهِ المَنْزِلَةِ إِلَّا أَنَّهُ أَخٌ أَحْبَبْتُمُوهُ عَلَى وَجْهِ الصُّحْبَةِ لَكَانَ لَا يَجْمُلُ بِالْحَلِيمِ أَنْ [يَعْذِلَ] (١) أَخَاهُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَلَا يُعَيِّرَهُ بِالْمُصِيبَةِ، وَلَا يَعِيبَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَهُوَ مَكْرُوبٌ حَزِينٌ، وَلَكِنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيَبْكِي مَعَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ، وَيَحْزَنُ لِحُزْنِهِ، وَيَدُلُّهُ عَلَى مَرَاشِدِ أَمْرِهِ، وَلَيْسَ بِحَلِيمٍ وَلَا رَشِيدٍ مَنْ جَهِلَ هَذَا، فَاللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا الْكُهُولُ وَقَدْ كَانَ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ، وَذِكْرِ الْمَوْتِ مَا يَقْطَعُ أَلْسِنَتَكُمْ، وَيَكْسِرُ قُلُوبَكُمْ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَسْكَتَتْهُمْ خَشْيَةٌ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ وَلَا بُكْمٍ، وَأَنَّهُمْ لَهُمُ الْفُصَحَاءُ الْبُلَغَاءُ النُّبَلَاءُ الْأَلِبَّاءُ الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا عَظَمَةَ اللَّهِ انْقَطَعَتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودُهُمْ، وَانْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ، وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ إِعْظَامًا وَإِجْلَالًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا اسْتَفَاقُوا مِنْ ذَلِكَ اسْتَبَقُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ الظَّالِمِينَ وَالْخَاطِئِينَ، وَإِنَّهُمْ لَأَبْرَارٌ بَرَءَاءُ، وَمَعَ الْمُقَصِّرِينَ وَالْمُفَرِّطِينَ، وَإنَّهُمْ لَأَكْيَاسٌ أَقْوِيَاءُ، فَقَالَ أَيُّوبُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَزْرَعُ الْحِكْمَةَ بِالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَمَتَى نَبَتَتْ فِي الْقَلْبِ يُظْهِرُهَا اللَّهُ عَلَى اللِّسَانِ، وَلَيْسَتْ تَكُونُ الْحِكْمَةُ مِنْ قِبَلِ السِّنِّ وَالشَّيْبَةِ وَلَا طُولِ التَّجْرِبَةِ، وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ الْعَبْدَ حَكِيمًا فِي الصِّبَا لَمْ تُسْقَطْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ وَهُمْ يَرَوْنَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ نُورَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُمْ أَيُّوبُ وَأَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَبِّ لِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي لَيْتَنِي إِذْ كَرِهْتَنِي لَمْ تَخْلُقْنِي يَا لَيْتَنِي قَدْ عَرَفْتُ الذَّنْبَ الَّذِي أَذْنَبْتُ، وَالْعَمَلَ الَّذِي عَمِلْتُ، فَصَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي، لَوْ كُنْتَ أَمَتَّنِي فَأَلْحَقْتَنِي بِآبَائِي الْكِرَامِ، فَالْمَوْتُ كَانَ أَجْمَلَ بِي أَلَمْ أَكُنْ لِلْغَرِيبِ دَارًا، وَلِلْمِسْكِينِ قَرَارًا، وَلِلْيَتِيمِ وَلِيًّا، وَلِلْأَرْمَلَةِ قَيِّمًا، إِلَهِي أَنَا عَبْدُكَ إِنْ أَحْسَنْتُ فَالْمَنُّ لَكَ، وَإِنْ أَسَأْتُ فَبِيَدِكَ عُقُوبَتِي، جَعَلْتَنِي +عَرَضًا، وَلِلْفِتْنَةِ نَصْبًا، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيَّ بَلَاءٌ لَوْ سَلَّطْتَهُ عَلَى جَبَلٍ ضَعُفَ عَنْ حَمْلِهِ، فَكَيْفَ يَحْمِلُهُ ضَعْفِي وَإِنَّ قَضَاءَكَ هُوَ الَّذِي أَذَلَّنِي، وَإِنَّ سُلْطَانَكَ هُوَ الَّذِي أَسْقَمَنِي وَأَنْحَلَ جِسْمِي، وَلَوْ أَنَّ رَبِّي نَزَعَ الْهَيْبَةَ الَّتِي فِي صَدْرِي وَأَطْلَقَ لِسَانِي حَتَّى أَتَكَلَّمَ بِمَلْءِ فَمِي بِمَا كَانَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُحَاجَّ عَنْ نَفْسِهِ لَرَجَوْتُ أَنْ يُعَافِيَنِي عِنْدَ ذَلِكَ مِمَّا بِي، وَلَكِنَّهُ أَلْقَانِي وَتَعَالَى عَنِّي فَهُوَ يَرَانِي وَلَا أَرَاهُ وَيَسْمَعُنِي وَلَا أَسْمَعُهُ، لَا نَظَرَ إِلَيَّ فَيَرْحَمُنِي، وَلَا دَنَا مِنِّي وَلَا أَدْنَانِي فَأُدْلِي بِعُذْرِي وَأَتَكَلَّمُ ببراءتي وأخاصم ٢٠/أعَنْ نَفْسِي (٢) فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَيُّوبُ وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ أَظَلَّهُ غَمَامٌ حَتَّى ظَنَّ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، ثُمَّ نُودِيَ يَا أَيُّوبُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: هَا أَنَا قَدْ دَنَوْتُ مِنْكَ وَلَمْ أَزَلْ مِنْكَ قَرِيبًا قُمْ فَأَدْلِ بِعُذْرِكَ، وَتَكَلَّمْ بِبَرَاءَتِكَ، وَخَاصِمْ عَنْ نَفْسِكَ، وَاشْدُدْ إِزْرَكَ، وَقُمْ مَقَامَ جَبَّارٍ يُخَاصِمُ جَبَّارًا إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَاصِمَنِي إِلَّا جَبَّارٌ مِثْلِي، لَقَدْ +مَنَّتْكَ نَفْسُكَ يَا أَيُّوبُ أَمْرًا مَا تَبْلُغُ بِمِثْلِ قُوَّتِكَ، أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ الْأَرْضَ فَوَضَعْتُهَا عَلَى أَسَاسِهَا، هَلْ كُنْتَ مَعِي تَمُدُّ بِأَطْرَافِهَا؟ وَهَلْ عَلِمْتَ بِأَيِّ مِقْدَارٍ قَدَّرْتُهَا أَمْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَضَعْتُ أَكْنَافَهَا؟ أَبِطَاعَتِكَ حَمَلَ الْمَاءُ الْأَرْضَ أَمْ بِحِكْمَتِكَ كَانَتِ الْأَرْضُ لِلْمَاءِ غِطَاءً؟ أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يَوْمَ رَفَعْتُ السَّمَاءَ سَقْفًا فِي الْهَوَاءِ لَا تُعَلَّقُ بِسَبَبٍ مَنْ فَوْقَهَا وَلَا يُقِلُّهَا دَعْمٌ مِنْ تَحْتِهَا؟ حَتَّى تَبْلُغَ مِنْ حَكْمَتِكَ أَنْ تُجْرِيَ نُورَهَا أَوْ تُسِيِّرَ نُجُومَهَا أَوْ يَخْتَلِفَ بِأَمْرِكَ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا؟ أَيْنَ أَنْتَ مني يوم نبعث الْأَنْهَارُ وَسُكِّرَتِ الْبِحَارُ، أَسُلْطَانُكَ حَبَسَ أَمْوَاجَ الْبِحَارِ عَلَى حُدُودِهَا؟ أَمْ قُدْرَتُكَ فَتَحَتِ الْأَرْحَامَ حِينَ بَلَغَتْ مُدَّتَهَا؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ صَبَبْتُ الْمَاءَ عَلَى التُّرَابِ وَنَصَبْتُ شَوَامِخَ الْجِبَالِ؟ هَلْ تَدْرِي عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَرْسَيْتُهَا؟ وَبِأَيِّ مِثْقَالٍ وَزَنْتُهَا؟ أَمْ هَلْ لَكَ مِنْ ذِرَاعٍ تُطِيقُ حَمْلَهَا؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي مِنْ أَيْنَ الْمَاءُ الَّذِي أَنْزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْشِيْءُ السَّحَابَ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ خَزَائِنُ الثَّلْجِ؟ أَمْ أَيْنَ جِبَالُ الْبَرَدِ أَمْ أَيْنَ خِزَانَةُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ [وَخِزَانَةُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ] (٣) ؟ وَأَيْنَ خِزَانَةُ الرِّيحِ؟ وَبِأَيِّ لُغَةٍ تَتَكَلَّمُ الْأَشْجَارُ؟ وَمَنْ جَعَلَ الْعُقُولَ فِي أَجْوَافِ الرِّجَالِ؟ وَمَنْ شَقَّ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ؟ وَمَنْ ذَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ لِمُلْكِهِ وَقَهَرَ الْجَبَّارِينَ بِجَبَرُوتِهِ؟ وَقَسَّمَ الْأَرْزَاقَ بِحِكْمَتِهِ؟ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ ذَكَرَهَا لِأَيُّوبَ، فَقَالَ أَيُّوبُ: صَغُرَ شَأْنِي وَكُلَّ لِسَانِي وَعَقْلِي وَرَائِي وَضَعُفَتْ قُوَّتِي عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَعْرِضُ لِي يَا إِلَهِي، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ كُلَّ الَّذِي ذَكَرْتَ صُنْعُ يَدَيْكَ وَتَدْبِيرُ حِكْمَتِكَ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْجَبُ لَوْ شِئْتَ عَمِلْتَ، لَا يُعْجِزُكَ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ خَافِيَةٌ إِذْ لَقِيَنِي الْبَلَاءُ، يَا إِلَهِي فَتَكَلَّمْتُ وَلَمْ أَمْلِكْ لِسَانِي وَكَانَ الْبَلَاءُ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَنِي، فَلَيْتَ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ لِي فَذَهَبْتُ فِيهَا وَلَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ يُسْخِطُ رَبِّي، وَلَّيْتَنِي مُتُّ بِغَمِّي فِي أَشَدِّ بَلَائِي قَبْلَ ذَلِكَ، إِنَّمَا تَكَلَّمْتُ حِينَ تَكَلَّمْتُ لِتَعْذُرَنِي، وَسَكَتُّ حِينَ سَكَتُّ لِتَرْحَمَنِي، كَلِمَةٌ زَلَّتْ مِنِّي فَلَنْ أَعُودَ، وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي وَعَضِضْتُ عَلَى لِسَانِي، وَأَلْصَقْتُ بِالتُّرَابِ خَدِّي، أَعُوذُ بِكَ الْيَوْمَ مِنْكَ وَأسْتَجِيرُكَ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ فَأَجِرْنِي، وَأَسْتَغِيثُ بِكَ مِنْ عِقَابِكَ فَأَغِثْنِي، وَأَسْتَعِينُ بِكَ عَلَى أَمْرِي فَأَعِنِّي، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ فَاكْفِنِي، وَأَعْتَصِمُ بِكَ فَاعْصِمْنِي، وَأَسْتَ
340
مَا أَنْصَفْتِ أَلَا صَبَرْتِ فِي الْبَلَاءِ ثَمَانِينَ سَنَةً كَمَا كُنَّا فِي الرَّخَاءِ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَاللَّهِ لَئِنْ شَفَانِي اللَّهُ لِأَجْلِدَنَّكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ أَمَرْتِينِي أَنْ أَذْبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ طَعَامُكِ وَشَرَابُكِ الَّذِي أَتَيْتِنِي بِهِ عَلَيَّ حَرَامٌ [أَوْ حَرَامٌ عَلَيَّ] (١) أَنْ أَذُوقَ شَيْئًا مِمَّا تَأْتِينِي بِهِ بَعْدَ إِذْ قَلْتِ لي هذا، فاعزبي عَنِّي، فَلَا أَرَاكِ فَطَرَدَهَا فَذَهَبَتْ، فَلَمَّا نَظَرَ أَيُّوبُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ وَلَا صَدِيقٌ (٢) خَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ: رَبِّ ﴿إِنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ فَقِيلَ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ فَاغْتَسَلَ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ دَائِهِ شَيْءٌ ظَاهِرٌ إِلَّا سَقَطَ وَعَادَ إِلَيْهِ شَبَابُهُ وَجَمَالُهُ أَحْسَنُ مَا كَانَ، ثُمَّ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى فَشَرِبَ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ فِي جَوْفِهِ دَاءٌ إِلَّا خَرَجَ فَقَامَ صَحِيحًا وَكُسِيَ حُلَّةً، قَالَ: فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ فَلَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا كَانَ لَهُ مَنْ أَهْلٍ وَمَالٍ إِلَّا وَقَدْ أَضْعَفَهُ اللَّهُ حَتَّى وَاللَّهِ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي اغْتَسَلَ مِنْهُ تَطَايَرَ عَلَى صَدْرِهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَضُمُّهُ بِيَدِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أُغْنِكَ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنَّهَا بَرَكَتُكَ فَمَنْ يَشْبَعُ مِنْهَا، قَالَ فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى مَكَانٍ مُشْرِفٍ، ثُمَّ إِنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ أَرَأَيْتُكَ إِنْ كَانَ طَرَدَنِي إِلَى مَنْ أَكِلَهُ؟ أَدَعَهُ يَمُوتُ جُوعًا وَيَضِيعُ فَتَأْكُلُهُ السِّبَاعُ لَأَرْجِعَنَّ إِلَيْهِ فَلَا كُنَاسَةَ تَرَى وَلَا تِلْكَ الْحَالَةَ الَّتِي كَانَتْ، وَإِذَا الْأُمُورُ قَدْ تَغَيَّرَتْ فَجَعَلَتْ تَطُوفُ حَيْثُ كَانَتِ الْكُنَاسَةُ وَتَبْكِي وَذَلِكَ بِعَيْنِ أَيُّوبَ، وَهَابَتْ صَاحِبَ الْحُلَّةِ أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَسْأَلَهُ عَنْهُ، فَدَعَاهَا أَيُّوبُ فَقَالَ: مَا تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ اللَّهِ؟ فَبَكَتْ وَقَالَتْ: أَرَدْتُ ذَلِكَ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ مَنْبُوذًا عَلَى الْكُنَاسَةِ لَا أَدْرِي أَضَاعَ أَمْ مَا فَعَلَ، فَقَالَ أَيُّوبُ: مَا كَانَ مِنْكِ فَبَكَتْ، وَقَالَتْ: بَعْلِي، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفِينَهُ إِذَا رَأَيْتِيهِ؟ فَقَالَتْ: وَهَلْ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ رَآهُ؟ ثُمَّ جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَهِيَ تَهَابُهُ، ثُمَّ قَالَتْ: أَمَا أَنَّهُ أَشْبَهُ خَلْقِ اللَّهِ بِكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا، قَالَ فَإِنِّي أَنَا أَيُّوبُ الَّذِي أَمَرْتِنِي أَنْ أَذْبَحَ لِإِبْلِيسَ، وَإِنِّي أَطَعْتُ اللَّهَ وَعَصَيْتُ الشَّيْطَانَ وَدَعَوْتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَدَّ عَلَيَّ مَا تَرَيْنَ (٣).
وَقَالَ وَهْبٌ: لَبِثَ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ ثَلَاثَ سِنِينَ فَلَمَّا غَلَبَ أَيُّوبُ إِبْلِيسَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ مِنْهُ شَيْئًا اعْتَرَضَ امْرَأَتَهُ فِي هَيْئَةٍ لَيْسَتْ كَهَيْئَةِ بَنِي آدَمَ فِي الْعِظَمِ وَالْجِسْمِ وَالْجَمَالِ عَلَى مَرْكَبٍ لَيْسَ [مِنْ] (٤) مَرَاكِبِ النَّاسِ لَهُ عِظَمٌ وَبَهَاءٌ وَكَمَالٌ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ صَاحِبَةُ أَيُّوبَ هَذَا الرَّجُلُ الْمُبْتَلَى؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ فَهَلْ تَعْرِفِينِي؟ قَالَتْ: لَا قَالَ: أَنَا إِلَهُ الْأَرْضِ، وَأَنَا الَّذِي صَنَعْتُ بِصَاحِبِكِ مَا صَنَعْتُ لِأَنَّهُ عَبَدَ. إِلَهَ السَّمَاءِ وَتَرَكَنِي فَأَغْضَبَنِي، وَلَوْ سَجَدَ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً رَدَدْتُ عَلَيْهِ وَعَلَيْكِ كُلَّ مَا كَانَ لَكُمَا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، فَإِنَّهُ عِنْدِي ثُمَّ أَرَاهَا إِيَّاهُمْ بِبَطْنِ الْوَادِي الَّذِي لَقِيَهَا فِيهِ، قَالَ وَهْبٌ: وَقَدْ سَمِعْتُ
(١) زيادة من "ب".
(٢) أخرجه الطبري: ١٧ / ٧٠ - ٧١.
(٣) أخرجه الطبري: ١٧ / ٧١-٧٢.
(٤) في "ب" في صورة.
344
أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ لَهَا لَوْ أَنَّ صَاحِبَكِ أَكَلَ طَعَامًا وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ عَلَيْهِ لَعُوفِيَ مِمَّا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ (١) وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لَهَا: اسْجُدِي لِي سَجْدَةً حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْكِ الْمَالَ وَالْأَوْلَادَ وَأُعَافِيَ زَوْجَكِ، فَرَجَعَتْ إِلَى أَيُّوبَ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ لَهَا [وَمَا أَرَاهَا] (٢) قَالَ لَقَدْ أَتَاكِ عَدُوُّ اللَّهِ لِيَفْتِنَكِ عَنْ دِينِكِ، ثُمَّ أَقْسَمَ [إِنْ عَافَاهُ اللَّهُ] (٣) لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ مِنْ طَمَعِ إِبْلِيسَ فِي سُجُودِ حُرْمَتِي لَهُ، وَدُعَائِهِ إِيَّاهَا وَإِيَّايَ إِلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَحِمَ [رَحْمَةَ] (٤) امْرَأَةَ أَيُّوبَ بِصَبْرِهَا مَعَهُ عَلَى الْبَلَاءِ، وَخَفَّفَ عَلَيْهَا وَأَرَادَ أَنْ يَبِرَّ يَمِينُ أَيُّوبَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا يَشْتَمِلُ عَلَى مِائَةِ عُودٍ صِغَارٍ فَيَضْرِبُهَا بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ" (ص: ٤٤)، وَرُوِيَ أَنَّ إِبْلِيسَ اتَّخَذَ تَابُوتًا وَجَعَلَ فِيهِ أَدْوِيَةً وَقَعَدَ عَلَى طَرِيقِ امْرَأَتِهِ يُدَاوِي النَّاسَ فَمَرَّتْ بِهِ امْرَأَةُ أَيُّوبَ فَقَالَتْ [يَا شَيْخُ] (٥) إِنَّ لِي مَرِيضًا أَفَتُدَاوِيهِ؟ قَالَ نَعَمْ [وَاللَّهِ] (٦) لَا أُرِيدُ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَقُولَ إِذَا شَفَيْتُهُ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَيُّوبَ فَقَالَ: هُوَ إِبْلِيسُ قَدْ خَدَعَكِ، وَحَلَفَ إِنْ شَفَاهُ اللَّهُ أَنْ يَضْرِبَهَا مِائَةَ جَلْدَةٍ.
وَقَالَ وَهْبٌ وَغَيْرُهُ: كَانَتِ امْرَأَةُ أَيُّوبَ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ وَتَجِيئُهُ بِقُوتِهِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ وَسَئِمَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا أَحَدٌ الْتَمَسَتْ لَهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ مَا تُطْعِمُهُ فَمَا وَجَدَتْ شَيْئًا فَجَزَّتْ قَرْنًا مِنْ رَأْسِهَا، فَبَاعَتْهُ بِرَغِيفٍ فَأَتَتْهُ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ قَرْنُكِ؟ فَأَخْبَرَتْهُ (٧) فَحِينَئِذٍ قَالَ: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ قَصَدَتِ الدُّودُ إِلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فَخَشِيَ أَنْ يَفْتُرَ عَنِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ.
وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: لَمْ يَدْعُ اللَّهَ بِالْكَشْفِ عَنْهُ حَتَّى ظَهَرَتْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: قَدِمَ عَلَيْهِ صَدِيقَانِ حِينَ بَلَغَهُمَا خَبَرُهُ فَجَاءَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا عَيْنَاهُ وَرَأَيَا أَمْرًا عَظِيمًا فَقَالَا لَوْ كَانَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ مَا أَصَابَكَ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّ امْرَأَتَهُ طَلَبَتْ طَعَامًا فَلَمْ تَجِدْ مَا تُطْعِمُهُ فَبَاعَتْ ذُؤَابَتَهَا وَحَمَلَتْ إِلَيْهِ طَعَامًا. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ إِبْلِيسَ إِنِّي أُدَاوِيهِ عَلَى أَنْ يَقُولَ أَنْتَ شَفَيْتَنِي.
وَقِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ وَسْوَسَ إِلَيْهِ أَنَّ امْرَأَتَكَ زَنَتْ فَقَطَعَتْ ذُؤَابَتَهَا فَحِينَئِذٍ عِيلَ صَبْرُهُ، فَدَعَا وَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَسَّنِيَ الضُّرُّ مِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ. حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ [بَعْدَمَا
(١) أخرجه الطبري: ١٧ / ٦٦-٦٧.
(٢) ساقط من "ب".
(٣) في "ب" إن كان الله عافاه.
(٤) زيادة من "ب".
(٥) زيادة من "ب".
(٦) زيادة من "ب".
(٧) ذكره الطبري: ١٧ / ٦٦ عن وهب بن منبه.
345
عُوفِيَ] (١) مَا كَانَ أَشَدَّ عَلَيْكَ فِي بَلَائِكَ قَالَ: شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ. وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ حِينَ وَقَعَتْ دُودَةٌ مِنْ فَخْذِهِ فَرَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا.
وَقَالَ كُلِي: فَقَدْ جَعَلَنِي اللَّهُ طَعَامَكِ فَعَضَّتْهُ عَضَّةً زَادَ أَلَمُهَا عَلَى جَمِيعِ مَا قَاسَى مِنْ عَضِّ الدِّيدَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ صَابِرًا وَقَدْ أَظْهَرَ الشَّكْوَى وَالْجَزَعَ، بِقَوْلِهِ: ﴿إِنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ وَ ﴿مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ﴾ (ص: ٤١)، قِيلَ: لَيْسَ هَذَا شِكَايَةً إِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ عَلَى أَنَّ الْجَزَعَ إِنَّمَا هُوَ فِي الشَّكْوَى إِلَى الْخَلْقِ فَأَمَّا الشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَكُونُ جَزَعًا وَلَا تَرْكَ صَبْرٍ كَمَا قَالَ يعقوب: ﴿إِنَّمَا ٢١/أأَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ (يُوسُفَ: ٨٦). قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وَكَذَلِكَ مَنْ أَظْهَرَ الشَّكْوَى إِلَى النَّاسِ وَهُوَ رَاضٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ جَزَعًا كَمَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ دَخْلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: "أَجِدُنِي مَغْمُومًا وَأَجِدُنِي مَكْرُوبًا" (٢).
وَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ قَالَتْ وَارَأْسَاهُ، "بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ" (٣).
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (٨٤) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنُ [مَاءٍ] (٤) فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهَا فَفَعَلَ فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ بِظَاهِرِهِ، ثُمَّ مَشَى أَرْبَعِينَ خُطْوَةً فَأَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ مَرَّةً أُخْرَى فَفَعَلَ فَنَبَعَتْ عَيْنُ مَاءٍ بَارِدٍ، فَأَمَرَهُ فَشَرِبَ مِنْهَا فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ بِبَاطِنِهِ فَصَارَ كَأَصَحِّ مَا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ وَأَجْمَلِهِمْ.
﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: رَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ بِأَعْيَانِهِمْ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ لَهُ وَأَعْطَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ (٥).
قَالَ الْحَسَنُ: آتَاهُ اللَّهُ الْمِثْلَ مِنْ نَسْلِ مَالِهِ الَّذِي رَدَّهُ اللَّهُ [إِلَيْهِ وَأَهْلَهُ] (٦) يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى
(١) ساقط من "ب".
(٢) قطعة من حديث طويل أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير": ٣ / ١٣٩، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: ٩ / ٣٥ "فيه عبد الله ابن ميمون القداح، وهو ذاهب الحديث".
(٣) أخرجه البخاري في المرضى، باب: ما رخص للمريض أن يقول: أني وجع، أو وارأساه...: ١٠ / ١٢٣.
(٤) ساقط من "ب".
(٥) أخرج الطبري هذه الأقوال: ١٧ / ٧٢-٧٣.
(٦) ساقط من "ب".
346
الضَّحَّاكُ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَدَّ إِلَى الْمَرْأَةِ شَبَابَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ ذَكَرًا (١).
قَالَ وَهْبٌ كَانَ لَهُ سَبْعُ بَنَاتٍ وَثَلَاثَةُ بَنِينَ.
وَقَالَ ابْنُ يَسَارٍ: كَانَ لَهُ سَبْعُ بَنِينَ وَسَبْعُ بَنَاتٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَحَابَتَيْنِ فَأَفْرَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ الذَّهَبَ وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى عَلَى أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاضَ (٢).
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْثَ إِلَيْهِ مَلَكًا وَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ بِصَبْرِكَ فَاخْرُجْ إِلَى أَنْدَرِكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ فَطَارَتْ وَاحِدَةٌ فَاتَّبَعَهَا وَرَدَّهَا إِلَى أَنْدَرِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: أَمَا يَكْفِيكَ مَا فِي أَنْدَرِكَ؟ فَقَالَ هَذِهِ بَرَكَةٌ مِنْ بَرَكَاتِ رَبِّي وَلَا أَشْبَعُ مِنْ بَرَكَتِهِ (٣).
أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ [يَا أَيُّوبُ] (٤) أَلَمْ أَكُنْ أُغْنِيكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ وَعَزَّتِكِ، وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكِ" (٥). وَقَالَ قَوْمٌ: أَتَى اللَّهُ أَيُّوبَ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ أَهْلِهِ الَّذِينَ هَلَكُوا فَأَمَّا الَّذِينَ هَلَكُوا فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرَدُّوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا (٦) قَالَ عِكْرِمَةُ: قِيلَ لِأَيُّوبَ: إِنَّ أَهْلَكَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ فَإِنْ شِئْتَ عَجَّلْنَاهُمْ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ شِئْتَ كَانُوا لَكَ فِي الْآخِرَةِ، وَآتَيْنَاكَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ يَكُونُونَ لِي فِي الْآخِرَةِ، وَأُوتَى مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا (٧) فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ فِي الْآخِرَةِ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَرَادَ بِالْأَهْلِ الْأَوْلَادَ، ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ أَيْ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا، ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ أَيْ: عِظَةً وَعِبْرَةً لَهُمْ.
(١) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٥ / ٦٦٠ لابن مردويه وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الحاكم: ٢ / ٥٨١ - ٥٨٢ وصححه على شرط الشيخين.
(٣) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٥ / ٦٦٠ لابن مردويه وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.
(٤) زيادة من "ب".
(٥) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب: قول الله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر...) ٦ / ٤٢٠، والمصنف في شرح السنة: ٨ / ٧.
(٦) ذكره الطبري: ١٧ / ٧٢.
(٧) أخرجه الطبري: ١٧ / ٧٢.
347
﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ، ﴿وَإِدْرِيسَ﴾ وَهُوَ أَخْنُوخُ، ﴿وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَا الْكِفْلِ.
قَالَ عَطَاءٌ: إِنَّ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِّي أُرِيدُ قَبْضَ رُوحِكَ فَاعْرِضْ مُلْكَكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَنْ تَكَفَّلَ لَكَ أَنْ يُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ لَا يَفْتُرُ، وَيَصُومَ بِالنَّهَارِ وَلَا يُفْطِرُ، وَيَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يَغْضَبُ، فَادْفَعْ مُلْكَكَ إِلَيْهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَقَامَ شَابٌّ فَقَالَ: أَنَا أَتَكَفَّلُ لَكَ بِهَذَا فَتَكَفَّلَ، وَوَفَّى بِهِ فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ وَنَبَّأَهُ فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ (١).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا كَبُرَ الْيَسَعُ قَالَ: [لَوْ] (٢) أَنِّي أَسْتَخْلِفُ رَجُلًا عَلَى النَّاسِ يَعْمَلُ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاتِي حَتَّى أَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُ، قَالَ: فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: مَنْ يَتَقَبَّلُ مِنِّي بِثَلَاثٍ أَسْتَخْلِفُهُ: يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَلَا يَغْضَبُ، فَقَامَ رَجُلٌ تَزْدَرِيهِ الْعَيْنُ، فَقَالَ: أَنَا فَرَدَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَالَ مِثْلَهَا الْيَوْمَ الْآخَرَ فَسَكَتَ النَّاسُ، وَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ: أَنَا، فَاسْتَخْلَفَهُ فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ ضَعِيفٍ حِينَ أَخَذَ مَضْجَعَهُ لِلْقَائِلَةِ، وَكَانَ لَا يَنَامُ بِاللَّيْلِ [وَالنَّهَارِ] (٣) إِلَّا تِلْكَ النَّوْمَةِ فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَظْلُومٌ، فَقَامَ فَفَتَحَ الْبَابَ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي خُصُومَةً، وَإِنَّهُمْ ظَلَمُونِي، وَفَعَلُوا وَفَعَلُوا فَجَعَلَ يَطُولُ حَتَّى حَضَرَ الرَّوَاحُ، وَذَهَبَتِ الْقَائِلَةُ، فَقَالَ: إِذَا رُحْتَ فَائْتِنِي [فَإِنِّي] (٤) آخُذُ حَقَّكَ، فَانْطَلَقَ وَرَاحَ، فَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ يَنْظُرُ هَلْ يَرَى الشَّيْخَ فَلَمْ يَرَهُ، فَقَامَ يَبْتَغِيهِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَلَسَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ وَيَنْتَظِرُهُ فَلَا يَرَاهُ، فَلِمَا رَجَعَ إِلَى الْقَائِلَةِ فَأَخَذَ مَضْجَعَهُ أَتَاهُ فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: الشَّيْخُ الْمَظْلُومُ فَفَتَحَ [لَهُ الْبَابَ] (٥) فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِذَا قَعَدْتَ فَائْتِنِي؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ إِذَا عَرَفُوا أَنَّكَ قَاعِدٌ قَالُوا نَحْنُ نُعْطِيكَ حَقَّكَ وَإِذَا قُمْتُ جَحَدُونِي، قَالَ: فَانْطَلِقْ فَإِذَا رُحْتُ فَائْتِنِي، فَفَاتَتْهُ الْقَائِلَةُ وَرَاحَ فَجَعَلَ يَنْظُرُ فَلَا يَرَاهُ فَشَقَّ عَلَيْهِ النُّعَاسُ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: لَا تَدَعْنَ أَحَدًا يَقْرُبُ هَذَا الْبَابَ حَتَّى أَنَامَ فَإِنَّهُ قَدْ شَقَّ عَلَيَّ النَّوْمُ، فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ السَّاعَةُ جَاءَ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الرَّجُلُ، فَلَمَّا أَعْيَاهُ نَظَرَ فَرَأَى كُوَّةً فِي الْبَيْتِ فَتَسَوَّرَ مِنْهَا، فَإِذَا هُوَ فِي الْبَيْتِ يَدُقُّ الْبَابَ مِنْ دَاخِلٍ، فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ: يَا فُلَانُ أَلَمْ آمُرْكَ، فَقَالَ: أَمَّا مِنْ قِبَلِي فَلَمْ تُؤْتَ فَانْظُرْ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ، فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُغْلَقٌ كَمَا أَغْلَقَهُ، وَإِذَا الرَّجُلُ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَتَنَامُ وَالْخُصُومُ بِبَابِكَ؟ فَعَرَفَهُ فَقَالَ: أَعْدُوُّ
(١) انظر زاد المسير: ٥ / ٣٧٩ - ٣٨٠.
(٢) ساقط من "أ".
(٣) ساقط من "أ".
(٤) ساقط من "أ".
(٥) ساقط من "ب".
اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَعْيَيْتَنِي فَفَعَلْتُ مَا تَرَى لِأُغْضِبَكَ فَعَصَمَكَ اللَّهُ، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِأَمْرٍ فَوَفَّى بِهِ (١).
وَقِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ جَاءَهُ وَقَالَ: إِنَّ لِي غَرِيمًا يَمْطُلُنِي فَأُحِبُّ أَنْ تَقُومَ مَعِي وَتَسْتَوْفِي حَقِّي مِنْهُ، فَانْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي السُّوقِ خَلَّاهُ وَذَهَبَ. وَرُوِيَ: أَنَّهُ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ. وَقَالَ: إِنَّ صَاحِبِي هَرَبَ.
وَقِيلَ: إِنَّ ذَا الْكِفْلِ رَجُلٌ كَفَلَ أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ لَيْلَةٍ مائة ركعة ٢١/ب إِلَى أَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ فَوَفَّى بِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ نَبِيًّا (٢). وَقِيلَ: هُوَ إِلْيَاسُ. وَقِيلَ: زَكَرِيَّا. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا (٣).
﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) ﴾
﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا﴾ يَعْنِي مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَصَيَّرَهُمْ إِلَيْهِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الثَّوَابِ، ﴿إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَذَا النُّونِ﴾ أَيْ: اذْكُرْ صَاحِبَ الْحُوتِ وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، ﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ.
فَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ يُونُسُ وَقَوْمُهُ يَسْكُنُونَ فِلَسْطِينَ فَغَزَاهُمْ مَلِكٌ فَسَبَى مِنْهُمْ تِسْعَةَ أَسْبَاطٍ ونصفا وبقي سبطا وَنِصْفٌ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى شَعْيَاءَ النَّبِيِّ أَنْ سِرْ إِلَى حِزْقِيلَ الْمَلِكِ، وَقُلْ لَهُ حَتَّى يُوَجِّهَ نَبِيًّا قَوِيًّا فَإِنِّي أُلْقِي [الرُّعْبَ] (٤) فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ حَتَّى يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ فَمَنْ تَرَى، وَكَانَ فِي مَمْلَكَتِهِ خَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ يُونُسُ: إِنَّهُ قَوِيٌّ أَمِينٌ فَدَعَا الْمَلِكُ يُونُسَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ لَهُ يُونُسُ: هَلْ أَمَرَكَ اللَّهُ بِإِخْرَاجِي؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَهَلْ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَهَاهُنَا غَيْرِي أَنْبِيَاءٌ أَقْوِيَاءُ فَأَلَحُّوا
(١) أخرجه الطبري: ١٧ / ٧٤.
(٢) قال ابن كثير: ٣ / ١٩١ (... وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي، وقال آخرون: إنما كان رجلا صالحا وكان ملكا عادلا وحكما مقسطا، وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم). وقال ابن جرير: ١٧ / ٧٣ (... وبذي الكفل: رجلا تكفل من بعض الناس، إما من نبي وإما من ملك من صالحي الملوك بعمل من الأعمال، فقام به من بعده، فأثنى الله عليه حسن وفائه بما تكفل به، وجعله من المعدودين في عباده، مع حمد صبره على طاعة الله، والذي قلنا في أمره جاءت الأخبار عن سلف العلماء).
(٣) أخرجه الطبري: ١٧ / ٧٥.
(٤) ساقط من "أ".
349
عَلَيْهِ فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ مُغَاضِبًا لِلنَّبِيِّ وَلِلْمَلِكِ، وَلِقَوْمِهِ فَأَتَى بَحْرَ الرُّومِ فَرَكِبَهُ (١).
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَجَمَاعَةٌ: ذَهَبَ عَنْ قَوْمِهِ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ إِذْ كَشَفَ عَنْ قَوْمِهِ الْعَذَابَ بَعْدَمَا أَوْعَدَهُمْ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قَوْمٍ قَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْخُلْفَ فِيمَا أَوْعَدَهُمْ، وَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمِ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ رُفِعَ الْعَذَابُ، وَكَانَ غَضَبُهُ أَنَفَةً مِنْ ظُهُورِ خُلْفِ وَعْدِهِ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى كَذَّابًا لَا كَرَاهِيَةً لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى (٢).
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ قَوْمِهِ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ فَخَشِيَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لَمَّا لَمْ يَأْتِهِمُ الْعَذَابُ لِلْمِيعَادِ، فَغَضِبَ، وَالْمُغَاضَبَةُ هَاهُنَا كَالْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ، كَالْمُسَافَرَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ مُغَاضِبًا أَيْ غَضْبَانَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا غَضِبَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى قَوْمِهِ لِيُنْذِرَهُمْ بَأْسَهُ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنْظِرَهُ لِيَتَأَهَّبَ لِلشُّخُوصِ إِلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ الْأَمْرَ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى سَأَلَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ نَعْلًا يَلْبَسُهَا فَلَمْ يُنْظَرْ (٣) وَكَانَ فِي خُلُقِهِ ضِيقٌ [فَذَهَبَ مُغَاضِبًا] (٤).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ يُونُسَ فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى فَأَنْذِرْهُمْ، قَالَ: أَلْتَمِسُ دَابَّةً قَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَغَضِبَ فَانْطَلَقَ إِلَى السَّفِينَةِ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى كَانَ عَبْدًا صَالِحًا وَكَانَ فِي خُلُقِهِ ضَيقٌ، فَلَمَّا حُمِّلَ عَلَيْهِ أَثْقَالُ النُّبُوَّةِ تَفَسَّخَ تَحْتَهَا تَفَسُّخَ الرَّبُعِ (٥) تَحْتَ الْحَمْلِ الثَّقِيلِ فَقَذَفَهَا مِنْ يَدِهِ، وَخَرَجَ هَارِبًا مِنْهَا، فَلِذَلِكَ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَقَالَ لِنَبِيِّهِ [مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٦) ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الْأَحْقَافِ: ٣٥)، وَقَالَ: ﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ (٧) (القَلَمِ: ٤٨).
(١) انظر زاد المسير: ٥ / ٣٨١.
(٢) سبق تخريجه (سورة يونس).
(٣) انظر الطبري: ١٧ / ٧٧.
(٤) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(٥) ولد الناقة أول ما يحمل عليه.
(٦) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(٧) أخرج القولين الطبري: ١٧ / ٧٧ - ٧٨ ثم قال: (وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبي الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبا لقومه، لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم، وقد أمره الله تعالى بالمقام بين أظهرهم، ليبلغهم رسالته، ويحذرهم بأسه وعقوبته على تركهم الإيمان به والعمل بطاعته لا شك أن فيه ما فيه، ولولا أنه قد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه، ويصفه بالصفة التي وصفه بها، فيقول لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم) ويقول: (فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون).
350
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أَيْ لَنْ نَقْضِيَ بِالْعُقُوبَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُقَالُ: قَدَّرَ اللَّهُ الشَّيْءَ تَقْدِيرًا وَقَدَرَ يَقْدِرُ قَدْرًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ (الوَاقِعَةِ: ٦٠) فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ، دَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيْهِ﴾ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ الْحَبْسَ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ (الرَّعْدِ: ٢٦)، أَيْ يُضَيِّقُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ: أَفَظَنَّ أَنَّهُ يُعْجِزُ رَبَّهُ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ يُقْدَرَ [بِضَمِّ الْيَاءِ] (١) على المجهول خفيف.
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ يُونُسَ لَمَّا أَصَابَ الذَّنْبَ انْطَلَقَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ وَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى ظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ سَلَفٌ وَعِبَادَةٌ فَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَدَعَهُ لِلشَّيْطَانِ، فَقَذَفَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فَمَكَثَ فِيهِ أَرْبَعِينَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (٢). وَقَالَ عَطَاءٌ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ [وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ] (٣). وَقِيلَ: إِنَّ الْحُوتَ ذَهَبَ بِهِ مَسِيرَةَ سِتَّةِ آلَافِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: بَلَغَ بِهِ تُخُومَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ فَتَابَ إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَرَاجَعَ نَفْسَهُ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، حِينَ عَصَيْتُكَ وَمَا صَنَعْتُ مِنْ شَيْءٍ فَلَنْ أَعْبُدَ غَيْرَكَ فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ بِرَحْمَتِهِ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَوْلَى بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ أَوْ لِلْمَلَكِ، ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ أَيْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ وَظُلْمَةِ بَطْنِ الْحُوتِ، ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ أَنْ خُذْهُ وَلَا تَخْدِشْ لَهُ لَحْمًا وَلَا تَكْسِرْ لَهُ عَظْمًا، فَأَخَذَهُ ثُمَّ هَوَى بِهِ إِلَى مَسْكَنِهِ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا فَقَالَ فِي نَفْسِهِ مَا هَذَا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ، قَالَ: فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا نَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ صَوْتًا مَعْرُوفًا مِنْ مَكَانٍ مَجْهُولٍ، فَقَالَ: ذَاكَ عَبْدِي يُونُسُ عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَقَالُوا الْعَبْدَ الصَّالِحَ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ؟ قَالَ: نَعَمْ فَشَفَعُوا لَهُ، عِنْدَ ذَلِكَ
(١) زيادة من "ب".
(٢) أخرجه الطبري: ١٧ / ٧٩.
(٣) ما بين القوسين ساقط من "ب".
351
فَأَمَرَ الْحُوتَ فَقَذَفَهُ إِلَى السَّاحِلِ (١) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ (الصَّافَاتِ: ١٤٥).
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (٨٩) ﴾
فَلِذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ يَعْنِي: أَجَبْنَاهُ، ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ إِذَا دَعَوْنَا وَاسْتَغَاثُوا بِنَا، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: " نُجِّي " بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهَا لَحْنٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لَمْ تَسْكُنِ الْيَاءُ وَرُفِعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّبَهَا، وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ لَهَا وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ إِضْمَارُ الْمَصْدَرِ، أَيْ نَجَا النِّجَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَصَبَ الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ الضَّرْبَ زَيْدًا، ثُمَّ تَقُولُ ضَرَبَ زَيْدًا بالنصب على إضماء الْمَصْدَرِ، وَسَكَّنَ الْيَاءَ فِي " نُجِّي " كَمَا يُسَكِّنُونَ فِي بَقِيَ وَنَحْوِهَا، قَالَ القُتَيْبِيُّ مَنْ قَرَأَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَالتَّشْدِيدِ فَإِنَّمَا أَرَادَ نُنْجِي مِنَ التَّنْجِيَةِ إِلَّا أَنَّهُ أَدْغَمَ وَحَذَفَ نُونًا طَلَبًا للخفة ولم ٢٢/أيَرْضَهُ النَّحْوِيُّونَ لِبُعْدِ مَخْرَجِ النُّونِ مِنَ الْجِيمِ، وَالْإِدْغَامُ يَكُونُ عِنْدَ قُرْبِ الْمَخْرَجِ، وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ ﴿نُنْجِي﴾ بِنُونَيْنِ مِنَ الْإِنْجَاءِ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ النُّونَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ سَاكِنَةً وَالسَّاكِنُ غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى اللِّسَانِ فَحُذِفَتْ كَمَا فَعَلُوا فِي إِلَّا حَذَفُوا النُّونَ مِنْ إِنْ لِخَفَائِهَا (٢) وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ رِسَالَةَ يُونُسَ مَتَى كَانْتْ؟ فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ﴾ (الصَّافَّاتِ: ١٤٥)، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ (الصَّافَّاتِ: ١٤٧)، وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ (الصَّافَّاتِ: ١٣٩ -١٤٠). قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾ دَعَا رَبَّهُ، ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ وَحِيدًا لَا وَلَدَ لِي وَارْزُقْنِي وَارِثًا، ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مَنْ بَقِيَ حَيًّا.
(١) أخرجه الطبري: ١٧ / ٨١، وقال الهيثمي في المجمع: ٧ / ٩٨ رواه البزار عن بعض أصحابه ولم يسمه، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. وانظر تفسير ابن كثير: ٣ / ١٩٣، البداية والنهاية: ١ / ٢٣٤.
(٢) ذكر هذه الوجوه في القراءات الطبري: ١٧ / ٨٢ ثم قال: (والصواب من القراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار، من قراءته بنونين، وتخفيف الجيم لإجماع الحجة من القراء عليها، وتخطئتها خلافه).
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠) ﴾
﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٩١) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) ﴾
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى﴾ وَلَدًا ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ أَيْ جَعَلْنَاهَا وَلُودًا بَعْدَ مَا كَانَتْ عَقِيمًا، قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ فَأَصْلَحَهَا لَهُ بِأَنْ رَزْقَهَا حُسْنَ الْخُلُقِ. ﴿إِنَّهُمْ﴾ يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، ﴿كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا﴾ طَمَعًا، ﴿وَرَهَبًا﴾ خَوْفًا، رَغبًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَرَهبًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ أَيْ مُتَوَاضِعِينَ، قَالَ قَتَادَةُ: ذُلِّلَا لِأَمْرِ اللَّهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْخُشُوعُ هُوَ الْخَوْفُ اللَّازِمُ فِي الْقَلْبِ. ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ حَفِظَتْ مِنَ الْحَرَامِ، وَأَرَادَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ أَيْ أَمَرْنَا جِبْرَائِيلَ حَتَّى نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، وَأَحْدَثْنَا بِذَلِكَ النَّفْخَ الْمَسِيحَ فِي بَطْنِهَا، وَأَضَافَ الرُّوحَ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ أَيْ دَلَالَةٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِنَا عَلَى خَلْقِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ وَهُمَا آيَتَانِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ وَجَعَلْنَا شَأْنَهُمَا وَأَمْرَهُمَا آيَةً وَلِأَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ فِيهِمَا وَاحِدَةً، وَهِيَ أَنَّهَا أَتَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ﴾ أَيْ مِلَّتُكُمْ وَدِينُكُمْ، ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أَيْ دِينًا وَاحِدًا وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَأُبْطِلُ مَا سِوَى الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَأَصْلُ الْأُمَّةِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي هِيَ عَلَى مَقْصِدٍ وَاحِدٍ فَجُعِلَتِ الشَّرِيعَةُ أُمَّةً وَاحِدَةً لِاجْتِمَاعِ أَهْلِهَا عَلَى مَقْصِدٍ وَاحِدٍ، وَنَصَبَ أُمَّةً عَلَى الْقَطْعِ. ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾
﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (٩٤) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) ﴾
﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ أَيِ اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ فَصَارُوا فِرَقًا وَأَحْزَابًا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: [فَرَّقُوا دِينَهُمْ بَيْنَهُمْ] (١) يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالتَّقَطُّعُ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّقْطِيعِ، ﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ فَنَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
(١) ما بين القوسين ساقط من "ب".
353
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾ لَا يُجْحَدُ وَلَا يُبْطَلُ سَعْيُهُ بَلْ يُشْكَرُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ، ﴿وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ لِعَمَلِهِ حَافِظُونَ، وَقِيلَ: مَعْنَى الشُّكْرِ مِنَ اللَّهِ الْمُجَازَاةُ. ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ: " وَحِرْمٌ " بِكَسْرِ الْحَاءِ بِلَا أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ " حَرَامٌ " وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ حَلٍّ وَحَلَالٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى الْآيَةِ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَيْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ الْهَلَاكِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ " لَا " صِلَةً، وَقَالَ آخَرُونَ: الْحَرَامُ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ " لَا " ثابتا معناه واجب عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴿أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ وَحَرَامٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهُمْ أَيْ حَكَمْنَا بِهَلَاكِهِمْ أَنْ تُتَقَبَّلَ أَعْمَالُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَيْ لَا يَتُوبُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾ أَيْ يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَهُ وَبَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ﴾ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: " فُتِّحَتْ " بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، ﴿يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾ يُرِيدُ فُتِحَ السَّدُّ عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، ﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ﴾ أَيْ نَشَزٍ وَتَلٍّ، وَالْحَدَبُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، ﴿يَنْسِلُونَ﴾ يُسْرِعُونَ النُّزُولَ مَنَ الْآكَامِ وَالتِّلَالِ كَنَسَلَانِ الذِّئْبِ، وَهُوَ سُرْعَةُ مَشْيِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: عُنِيَ بِهِمْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بِدَلِيلِ مَا رُوِّينَا عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ" (١) وَقَالَ قَوْمٌ: أَرَادَ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ وَهَمْ مِنْ كُلِّ جَدَثٍ بِالْجِيمِ وَالثَّاءِ كَمَا قَالَ: ﴿فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى ربهم ينسلون﴾ (يونس: ٥١).
(١) أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال برقم (٢١٣٧) ٤ / ٢٢٥٠ - ٢٢٥٥.
354
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ حَجَّاجٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: مَا تَذْكُرُونَ؟ قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ: "إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ، فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خسوف: خسف بالمغرف وخسف بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ" (١).
﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (٩٧) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾ يَعْنِي الْقِيَامَةَ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَاقْتَرَبَ [مُقْحَمَةٌ فَمَعْنَاهُ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اقْتَرَبَ] (٢) الْوَعْدُ الْحَقُّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ﴾ (الصَّافَّاتِ: ١٠٣) أَيْ نَادَيْنَاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا اقْتَنَى فَلْوًا بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَمْ يَرْكَبْهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ (٣) وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ طَرْحُ الْوَاوِ، وَجَعَلُوا جَوَابَ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ فِي قَوْلِهِ يَا وَيْلَنَا، فَيَكُونُ مَجَازُ الْآيَةِ. حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، قَالُوا: يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ: ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وَفِي قَوْلِهِ "هِيَ" ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْأَبْصَارِ. ثُمَّ أَظْهَرَ الْأَبْصَارَ بَيَانًا، معناه فإذا ٢٢/ب الْأَبْصَارُ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وَالثَّانِي: أَنَّ "هِيَ" تَكُونُ عِمَادًا كَقَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ﴾ (الحَجِّ: ٤٦).
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: "هِيَ"، عَلَى مَعْنَى فَإِذَا هِيَ بَارِزَةٌ يَعْنِي مِنْ قُرْبِهَا كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ، ثُمَّ ابْتَدَأَ: ﴿شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عَلَى تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، مَجَازُهَا أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَاخِصَةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: شَخَصَتْ أَبْصَارُ الْكُفَّارِ فَلَا تَكَادُ تَطْرُفُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهَوْلِهِ، يَقُولُونَ، ﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا﴾ الْيَوْمِ، ﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ بِوَضْعِنَا
(١) أخرجه مسلم في الفتن، باب الآيات التي تكون قبل الساعة برقم (٢٩٠١) ٤ / ٢٢٢٥، والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ٤٥.
(٢) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٣) أخرجه الطبري: ١٧ / ٩٢.
الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا.
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) ﴾
﴿إِنَّكُمْ﴾ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ ﴿وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يَعْنِي الْأَصْنَامَ، ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ أَيْ وَقُودُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: حَطَبُهَا، وَالْحَصَبُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ: الْحَطَبُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْحَطَبُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي يَرْمُونَ بِهِمْ فِي النَّارِ كَمَا يُرْمَى بِالْحَصْبَاءِ. وَأَصْلُ الْحَصَبِ الرَّمْيُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا﴾ (الْقَمَرِ: ٣٤) أَيْ رِيحًا تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: حَطَبُ جَهَنَّمَ، ﴿أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ أَيْ فِيهَا دَاخِلُونَ. ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ﴾ يَعْنِي الْأَصْنَامَ، ﴿آلِهَةً﴾ عَلَى الْحَقِيقَةِ، ﴿مَا وَرَدُوهَا﴾ أَيْ مَا دَخَلَ عَابِدُوهَا النَّارَ، ﴿وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يَعْنِي الْعَابِدَ وَالْمَعْبُودِينَ. ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ﴾ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا بَقِيَ فِي النَّارِ مَنْ يَخْلُدُ فِيهَا جُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ جُعِلَتْ تِلْكَ التَّوَابِيتُ فِي تَوَابِيتَ أُخْرَى [ثُمَّ تِلْكَ التَّوَابِيتُ فِي تَوَابِيتَ أُخَرَ] (١) عَلَيْهَا مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ، فَلَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا وَلَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ فِي النَّارِ أَحَدًا يُعَذَّبُ غَيْرَهُ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ:. ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ هَاهُنَا بِمَعْنَى: إِلَّا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى، يَعْنِي السَّعَادَةَ وَالْعِدَّةَ الْجَمِيلَةَ بِالْجَنَّةِ، ﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ قِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: عَنِيَ بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُوَ لِلَّهِ طَائِعٌ وَلِعِبَادَةِ مَنْ يَعْبُدُهُ كَارِهٌ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخْلَ الْمَسْجِدَ وَصَنَادِيدَ قُرَيْشٍ فِي الْحَطِيمِ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَفْحَمَهُ ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِ: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ الْآيَاتِ الثَّلَاثَةَ، ثُمَّ قَامَ فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبْعَرَى السَّهْمِيُّ فَأَخْبَرَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بِمَا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ، فَدَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزِّبْعَرَى: أَنْتَ قَلْتَ:
(١) ما بين القوسين زيادة من "ب".
356
"إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ"؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَيْسَتِ الْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى تَعْبُدُ الْمَسِيحَ، وَبَنُو مَلِيحٍ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ هُمْ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾ (١) يَعْنِي عُزَيْرًا وَالْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ، ﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ وَأَنْزَلَ فِي ابْنِ الزِّبْعَرَى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ (الزُّخْرُفِ: ٥٨)، وَزَعَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْأَصْنَامُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّاسَ لَقَالَ وَمَنْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (٢).
(١) قال ابن حجر في الكافي الشاف: ص (١١١) ذكره الثعلبي ثم البغوي بغير إسناد، ولم أجده هكذا إلا ملفقا، فأما صدره ففي الطبراني الصغير من حديث ابن عباس... وأما قوله: وكانت صناديد قريش، فقصة أخرى ذكرها ابن إسحاق في المغازي والطبراني من طريق ابن عباس، وروى ابن مردويه والواحدي عن ابن عباس قال: لما نزلت (إنكم وما تعبدون من دون الله) شق ذلك على قريش... فذكر نحوه. انظر الطبري: ١٧ / ٩٧، أسباب النزول للواحدي: ص ٣٥٣ - ٣٥٤، مجمع الزوائد: ٧ / ٦٨ - ٦٩.
(٢) قال ابن حجر في الكافي الشاف: ص ١١١ - ١١٢ اشتهر في السنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما أجهلك بلغة قومك، فإني قلت: (وما تعبدون) وهي لما لا يعقل، ولم أقل ومن تعبدون أ. هـ. وهو شيء لا أصل له ولا يوجد لا مسندا ولا غير مسند.
357
﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (١٠٢) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) ﴾
﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾ يَعْنِي صَوْتَهَا وَحَرَكَةَ تَلَهُّبِهَا إِذَا نَزَلُوا مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَالْحِسُّ وَالْحَسِيسُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ: ﴿وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ مُقِيمُونَ كَمَا قَالَ: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾ (الزَّخْرُفِ: ٧١). ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ: النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ من في السموات ومن فِي الْأَرْضِ﴾ (النَّمُلِ: ٨٧)، قَالَ الْحَسَنُ: حِينَ يُؤْمَرُ بِالْعَبْدِ إِلَى النَّارِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حِينَ يُذْبَحُ الْمَوْتُ وَيُنَادَى يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ أَنْ تُطْبِقَ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمُ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْهَا مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ (١). ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ أَيْ تَسْتَقْبِلُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ +يُهَنِّئُونَهُمْ، وَيَقُولُونَ: ﴿هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾
(١) أخرج هذه الأقوال الطبري: ١٧ / ٩٨ - ٩٩، ثم رجح قائلا: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: ذلك عند النفخة الآخرة، وذلك أن من لم يحزنه ذلك الفزع الأكبر، وأمن منه، فهو مما بعده أحرى أن لا يفزع، وأن من أفزعه ذلك فغير مأمون عليه الفزع مما بعده.
﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) ﴾
﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: " تُطْوَى " بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَ" السَّمَاءُ " رَفْعٌ عَلَى الْمَجْهُولِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا وَكَسَرِ الْوَاوِ، وَ" السَّمَاءَ " نَصْبٌ، ﴿كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ لِلْكُتُبِ عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ لِلْكِتَابِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَاخْتَلَفُوا فِي السِّجِلِّ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: السِّجِلُّ مَلَكٌ يَكْتُبُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَاللَّامُ زَائِدَةٌ، أَيْ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَقَوْلِهِ ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ (النَمْلِ: ٧٢)، اللَّامُ فِيهِ زَائِدَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَكْثَرُونَ: السِّجِلُّ الصَّحِيفَةُ لِلْكُتُبِ أَيْ لِأَجْلِ مَا كُتِبَ مَعْنَاهُ كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ عَلَى مَكْتُوبِهَا، وَالسِّجِلُّ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُسَاجَلَةِ وَهِيَ الْمُكَاتَبَةُ، وَالطَّيُّ هُوَ الدَّرْجُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّشْرِ، ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ أَيْ كَمَا بَدَأْنَاهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَذَلِكَ نُعِيدُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ (الْأَنْعَامِ: ٩٤)، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا"، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ (١) ﴿وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ يَعْنِي الْإِعَادَةَ وَالْبَعْثَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: الزَّبُورُ جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَهُ، وَالْمَعْنَى مِنْ بَعْدِ مَا كَتَبَ ذِكْرَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: الزَّبُورُ التَّوْرَاةُ وَالذِّكْرُ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ بَعْدِ التَّوْرَاةِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الزَّبُورُ كِتَابُ دَاوُدَ، [وَالذِّكْرُ التَّوْرَاةُ. وَقِيلَ: الزَّبُورُ زَبُورُ دَاوُدَ] (٢) وَالذِّكْرُ الْقُرْآنُ، وَبَعْدُ بِمَعْنَى قَبْلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ﴾ (الكَهْفِ: ٩٧) : أي أمامهم ٢٣/أ ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ (النَّازِعَاتِ: ٣٠) قَبْلَهُ، ﴿أَنَّ الْأَرْضَ﴾ يَعْنِي أَرْضَ الْجَنَّةِ، ﴿يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
(١) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) ٦ / ٣٨٦، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة برقم (٢٨٦٠) ٤ / ٢١٩٤ والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ١٢٢ - ١٢٣.
(٢) ما بين القوسين زيادة من "ب".
صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} (الزُّمَرِ: ٧٤)، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ أَنَّ أَرَاضِي الْكُفَّارِ يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ بِإِظْهَارِ الدِّينِ وَإِعْزَازِ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَرْضِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ.
﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (١٠٦) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (١٠٩) ﴾
﴿إِنَّ فِي هَذَا﴾ أَيْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، ﴿لَبَلَاغًا﴾ وُصُولًا إِلَى الْبُغْيَةِ، أَيْ مَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِهِ وَصَلَ إِلَى مَا يَرْجُوهُ مِنَ الثَّوَابِ. وَقِيلَ: بَلَاغًا أَيْ كِفَايَةً. يُقَالُ فِي هَذَا الشَّيْءِ بَلَاغٌ وبلغة أَيْ كِفَايَةٌ، وَالْقُرْآنُ زَادُ الْجَنَّةِ كَبَلَاغِ الْمُسَافِرِ، ﴿لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَالِمِينَ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَشَهْرِ رَمَضَانَ. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُمْ. [وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ مَنْ آمَنَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَمَنْ آمَنَ فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُ] فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ وَرَفْعِ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ وَالِاسْتِئْصَالِ عَنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ" (١). ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أَيْ أَسْلِمُوا. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ﴾ أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ بِالْحَرْبِ وَأَنْ لَا صُلْحَ بَيْنَنَا، ﴿عَلَى سَوَاءٍ﴾ أَيْ إِنْذَارٌ بَيَّنٌ يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ لَا اسْتِيذَانًا بِهِ دُونَكُمْ لِتَتَأَهَّبُوا لِمَا يُرَادُ بِكُمْ، أَيْ آذَنْتُكُمْ عَلَى وَجْهٍ نَسْتَوِي نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي الْعِلْمِ بِهِ، وَقِيلَ: لِتَسْتَوُوا فِي الْإِيمَانِ، ﴿وَإِنْ أَدْرِي﴾ أَيْ وَمَا أَعْلَمُ. ﴿أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾ يَعْنِي الْقِيَامَةَ.
(١) أخرجه الدارمي عن أبي صالح مرسلا، في المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ١ / ٩ ووصله الحاكم ١ / ٣٥ وصححه على شرط الشيخين، وقال: "فقد احتجا جميعا بمالك بن سعير، والتفرد من الثقات مقبول" ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي في شعب الإيمان: ٣ / ٥٧٧ مرسلا من طريق الأعمش عن أبي صالح مرفوعا. ثم قال: رواه زياد بن يحيى الحساني عن مالك ابن سعير عن الأعمش موصولا بذكر أبي هريرة فيه، ثم ساقه بإسناده، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: ١١ / ٥٠٤، وابن سعد في الطبقات: ١ / ١٩٢ - ١٩٣ من طريق وكيع مرسلا، وقال الهيثمي في المجمع: ٨ / ٢٥٧ رواه البزار والطبراني في الصغير ورجال البزار رجال الصحيح، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ١ / ٨٠٣ - ٨٠٥.
﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (١١١) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١١٢) ﴾
﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾. ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ﴾ أَيْ لَعَلَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْكُمْ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، ﴿فِتْنَةٌ﴾ اخْتِبَارٌ، ﴿لَكُمْ﴾ لِيَرَى كَيْفَ صَنِيعُكُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ، ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أَيْ تَتَمَتَّعُونَ إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ. ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ﴾ وَالْآخَرُونَ: " قُلْ رَبِّ احْكُمْ " افْصِلْ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ كَذَّبَنِي بِالْحَقِّ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَاللَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ؟ قِيلَ: الْحَقُّ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْعَذَابِ كَأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ الْعَذَابَ لِقَوْمِهِ فَعُذِّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ (الْأَعْرَافِ: ٨٩)، وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: مَعْنَاهُ رَبِّ احْكُمْ بِحُكْمِكَ الْحَقِّ فَحُذِفَ الْحُكْمُ وَأُقِيمَ الْحَقُّ مَقَامَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَحْكُمْ بِالْحَقِّ طَلَبَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ، وَمَعْنَى الطَّلَبِ ظُهُورُ الرَّغْبَةِ مِنَ الطَّالِبِ فِي حُكْمِهِ الْحَقِّ، ﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ مِنَ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ.
Icon