تفسير سورة الكافرون

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الكافرون من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

لما أخبره في الكوثر أن العريق في شنآنه عدم، وجب أن يعرض عنه ويقبل بكليته على من أنعم عليه بذلك، فقال معلماً له ما يقول ويفعل: ﴿قل﴾ ولما كان شائنه أعرق الخلق في الضلال والبعد من الخير، قال منادياً له بأداة البعد وإن كان حاضراً معبراً بالوصف
301
المؤذن بالرسوخ: ﴿يا أيها الكافرون﴾ أي الذين قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه فستروا ما تدل عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردوها من أدناس الحظ، وهم كفرة مخصوصون وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع، وبما دل عليه التعبير بالوصف دون الفعل، واستغرقت اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان، وإنما عبر بالجمع الذي هو أصل في القلة وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإشارة إلى حقارة الكافر وذلته وإن كان كثيراً - كما يشير إليه جعل كل كلمة منها بحرف من الكوثر كما سيأتي، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدتهم ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علماً من أعلام النبوة.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما انقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم، وأعني بالفريقين من أشير إليه في قوله سبحانه وتعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم﴾ فهذا طريق أحد الفريقين، وفي قوله: ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾
302
إشارة إلى طريق من كان في الطرف الآخر من حال أولئك الفريق إذ ليس إلا طريق السلامة أو طريق الهلاك ﴿فريق في الجنة وفريق في السعير﴾ [الشورى: ٧] ﴿فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ [التغابن: ٢] والسالكون طريق السلامة فأعلى درجاتهم مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أتباعهم من صالحي العباد وعلمائهم العاملين وعبادهم وأهل الخصوص منهم والقرب من أحوال من تنسك منهم، ورتبتهم مختلفة وإن جمعهم جامع وهو قوله: ﴿فريق في الجنة﴾ وأما أهل التنكب عن هذا الطريق وهم الهالكون فعلى طبقات أيضاً، ويضم جميعهم طريق واحد فكيفما تشعبت الطرق فإلى ما ذكر من الطريقين مرجعهما، وباختلاف سبل الجميع عرفت آي الكتاب وفصلت، ذكر كله تفصيلاً لا يبقى معه ارتياب لمن وفق، فلما انتهى ذلك كله بما يتعلق به، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن ﴿هدى للمتقين﴾ [البقرة: ٢] إلى قوله: ﴿إن شانئك هو الأبتر﴾ أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل فقال تعالى: ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ فبين سبحانه أن من قضي عليه بالكفر والوفاة عليه لا سبيل له إلى خروجه عن ذلك، ولا يقع منه الإيمان أبداً
{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً
303
ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} [الأنعام: ١١١] ولو أنهم بعد عذاب الآخرة ومعاينة العذاب والبعث وعظيم تلك الأهوال وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا وقولهم: ﴿ربنا فارجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل﴾ [السجدة: ١٢] فلو أجيبوا إلى هذا ورجعوا لعادوا إلى حالهم الأول ﴿ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه﴾ [الأنعام: ١٢٨] تصديقاً لكلمة الله وإحكاماً لسابق قدره ﴿أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار﴾ [الزمر: ١٩] فقال لهم: ﴿لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد﴾ إلى آخرها، فبان أمر الفريقين وارتفع الإشكال، واستمر كل على طريقه ﴿فلا تذهب نفسك عليهم حسرات﴾ [فاطر: ٨] ﴿إن عليك إلا البلاغ﴾ [الشورى: ٤٨] فتأمل موقع هذه السورة وأنها الخاتمة لما قصد في الكتاب يلح لك وجه تأخيرها - والله أعلم - انتهى.
ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم، قال مؤذناً بصدق خبره تعالى آخر الكوثر من حيث إنه مع الجزم بالمنابذة لا يستطيعون له نوع مكابدة نافذة، بادئاً بالبراءة من جهته لأنها الأهم: ﴿لا أعبد﴾ أي الآن ولا في مستقبل الزمان لأن ﴿لا﴾ للمستقبل و ﴿ما﴾ للحال، كذا قالوا، وظاهر عبارة سيبويه في قوله: ﴿لن﴾ نفي لقوله ﴿سيفعل﴾ ﴿ولا﴾ لقوله: ﴿يفعل﴾، ولم يقع:
304
أنها تقع للمضارع الذي لم يقع سواء كان في غاية القرب من الحال أم لا، كما نقلته عنه في أول البقرة عند ﴿ولن تفعلوا﴾ [البقرة: ٢٤] على أن نطقنا بهذا الكلام لا يكاد يتحقق حتى يمضي زمن فيصير مستقبلاً، فلذا عبر ب «لا» دون «ما» بشارة بأنه سبحانه يثبته على الصراط المستقيم، ولا يظفرهم به - علماً من أعلام النبوة.
ولما كان في معبوداتهم ما لا يعقل، وكان المقصود تحقير كل ما عبدوه سوى الله، عبر ب «ما» فقال: ﴿ما تعبدون *﴾ أي الآن وفي آتي الزمان من دون الله من المعبودات الظاهرة والباطنة بوجه من وجوه العبادة في سر ولا علن لأنه لا يصلح للعبادة بوجه.
ولما بدأ بما هو الأحق بالبداءة وهو البراءة من الشرك، والطهارة من وضر الإفك، لأنه من درء المفاسد، فأبلغ في ذلك بما هو الحقيق بحاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا هم يعبدون الله تعالى على وجه الإشراك، وكانت العبادة مع الشرك غير معتد بها بوجه، نفى عبادتهم له في الجملة الاسمية الدالة على الثبات لا في الفعلية الدالة على نفي كل قليل وكثير من حيث إن الفعل نكرة في سياق النفي فقال: ﴿ولا أنتم عابدون﴾ أي عبادة معتداً بها بحيث يكون أهلاً لأن تكون وصفاً ثابتاً.
305
ولما كانوا لا نزاع لهم في أن معبوده عالم، وكانت «ما» صالحة للإطلاق عليه سبحانه وتعالى، عبر فيه أيضاً بها لأن ذلك - مع أنه لا ضرر فيه - أقرب إلى الإنصاف، فهو أدعى إلى عدم المراء أو الخلاف - فقال: ﴿ما أعبد *﴾ أي الآن وما بعده لأن معبودي - وله العلم التام والقدرة الشاملة - أبعدكم عنه فلا مطمع في الوفاق بيننا.
ولما كان ما نفى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدخل فيه الماضي، وكان عدم المشاركة بوجه من الوجوه في زمن من الأزمان أدل على البراءة وأقعد في دوام الاستهانة، وكانوا يعدون سكوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهم فيما قبل النبوة عبادة، وكانوا غير مقتصرين على عبادة أصنامهم التي اتخذوها، بل إذا خرجوا من الحرم فنزلوا منزلاً نظروا لهم حجراً ليستحسنوه فيعبدونه، فإن لم يروا حجراً جمعوا شيئاً من تراب وحلبوا عليه شيئاً من لبن وعبدوه ما داموا في ذلك المنزل، وكان ذلك من أشد ما يعاب به من جهة عدم الشباب وأنه لا معبود
306
لهم معين، قال منبهاً على ذلك كله: ﴿ولا أنا عابد﴾ أي متصف بعبادة ﴿ما عبدتم *﴾ أي فيما سلف، لم يصح وصفي قط بعبادة ذلك من أول زمانكم إلى ساعاتنا هذه، فكيف ترجون ذلك مني وأنا لم أفعله ولا قبل النبوة ولا كان من شأني قط.
ولما كان هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثابتاً على إله واحد لم يعبد غيره ولم يلتفت يوماً لفت سواه، وكان قد انتفى عنه بالجملتين هذه الماضية التي أول السورة أن يعبد باطلهم حالاً أو مآلاً، وأن يكون عبده قبل ذلك، وكان ربما ظن ظان أن النفي عنهم إنما هو لعبادة معبوده في الحال، نفى ذلك في الاستقبال أيضاً علماً من أعلام النبوة مع تأكيد ما أفادته الجملة الماضية جرياً على مناهيج العرب في التأكيد قطعاً لآمالهم منه على أتم وجه وآكده لأنه على وجه لا يقدرون عليه لما تفيده كل جملة مع التأكيد من فائدة جديدة مهمة، فقال: ﴿ولا أنتم عابدون﴾ أي عبادة هي لكم وصف معتد به في الحال أو الاستقبال.
ولما لم يكن قبل البعث مشهوراً عندهم بعبادة الله سبحانه وتعالى، عبر بما لا يتوجه لهم إليه إنكار، وهو المضارع الذي ظاهره
307
الحال أو الاستقبال مراداً به ما يشمل الماضي لما ذكر أبو حيان وغيره في سورة الحج عند ﴿إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله﴾ [الحج: ٢٥] من أنه يطلق المضارع مراداً به مجرد إيقاع الفعل من غير نظر إلى زمان معين، فقال: ﴿ما أعبد *﴾ أي وجدت مني عبادته واتصفت بها الآن وفي ماضي الزمان ومستقبله اتصافاً يعتد به.
ولما كان ذلك كله، وبدأ النفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيذاناً بالاهتمام ببراءته منهم، أنتج قطعاً مقدماً لما يتعلق بهم على وجه اختصاصهم به تأكيداً لما صرح به ما مضى من براءته منهم: ﴿لكم﴾ أي خاصة ﴿دينكم﴾ أي الذي تعلمون أنه لا أصل له يثبت عليه، ولا دليل يرجع بوجه إليه، لا أشارككم فيه بوجه ولا ترجعون عنه بوجه بل تموتون عليه موتاً لبعضكم حتف الأنف والآخرين قتلاً على يدي بالسيف ﴿ولي﴾ أي خاصة ﴿دين *﴾ من واسع روضة الإسلام إلى أعلى مقام: مقام الإيقان والإحسان، وأنتم تعلمون - لو جردتم عقولكم عن الهوى وأخلصتم أفكاركم من الحمية والإبا - أنه كله دليل وفرقان ونور وحجة وبرهان، لا تشاركونني فيه بوجه، ولا تقدرون على ردّي عنه أصلاً، فكانت هذه علماً
308
من أعلام النبوة من حيث إنه مات منهم ناس كثير بعد ذلك على الكفر وأتم الله له هذا الدين، فصدق سبحانه فيما قال، وثبت مضمون الكوثر بأكمل استدلال، وأما من آمن بعد ذلك فليس مراداً لأنه لم يكن عريقاً في وصف الكفران، ولا راسخاً في الضلال والطغيان، فأسعده وصف الإسلام والإيمان، وساق الجمل كلها غير مؤكد إشارة إلى أنها من الوضوح في حد لا خفاء به أصلاً، ولا شك أن آخرها الذي هو اختصاص كل بدينه هو أولها الذي أفاد أنه لا يعبد معبودهم ولا يعبدون معبوده فصار آخرها أولها، ومفصلها موصلها - هذا هو الذي دل عليه السياق، وليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليحتاج إلى نسخ، ومن أعظم الدلائل إعجازها وجمعها للمعاني في إشارتها وإيجازها أن حاصلها قطع رجاء أهل الكفران من أن يقاربهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أن يعدل بربه أحداً في زمن من الأزمان، وذلك من أعظم مقاصد المناظرة لها في رد الآخر على أول الأنعام لأنها السادسة في العد من الأول، كما أن هذه السادسة في العد من الآخر ﴿أغير الله اتخذ ولياً﴾ [الأنعام: ١٤] ﴿أفغير الله ابتغي حكماً﴾ [الأنعام: ١١٤] {أغير الله أبغي رباً وهو
309
رب كل شيء} [الأنعام: ١٦٤] إلى غير ذلك من الآيات، والفواصل والغايات، هذا ما يتعلق بمعاني تراكيبها ونظومها على ما هي عليه وتراتيبها وسياقاتها وأساليبها، وكلماتها الخطية سبع وعشرون إلى أربع كلمات البسملة إحدى وثلاثون إلى أربعة ضمائر مستترة خمس وثلاثون إلى تسعة بارزة، فتلك أربع وأربعون كلمة الضمائر منها ثلاثة عشر هي مدة الإقامة بمكة المشرفة قبل الهجرة لأنها في الخفاء كالضمائر في خزائن السرائر، ولا سيما الأربع الأول منها الموازية لضمائر الاستتار وغير الضمائر إحدى وثلاثون المناظر لها من السنين سنة إحدى وثلاثين، وهي سنة قتل يزدجرد ملك الفرس أكفر الكفرة من أهل ذلك الزمان وأعتاهم، وموافقة كلماتها في العدة لأحرف الكوثر مشيرة إلى أن اليسير من أتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر وأكبر من كثير شانئيه وأضداده وحاسديه، وقد دل على ذلك شاهد الوجوه في يوم الفتح والمسلمون عشرة آلاف، والكفار من قريش وممن حولهم لا يحصون كثرة، وقد كان فعلهم في ذلك اليوم ما شهد به اعتذار حماس الذي كان يعد امرأته أن يخدمها بعض المسلمين في قوله وقد فر هارباً ولم يستطع أن يغلق وراءه، بل قال
310
لها: أغلقي بابي، فقالت له: أين ما كانت تعدني به؟ فقال: لم تنطقي باللوم أدنى كلمه... هذا مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أوصاهم ألا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال. وهذا مع ما كان من أهل الإسلام حين قصدهم الكفار يوم الخندق والمشركون في عشرة آلاف وهم لا يبلغون ربعهم ولا مدد لهم ممن حولهم ولا ناصر إلا الله، بل جاءتهم الأعداء - كما قال الله تعالى: ﴿من فوقهم ومن أسفل منهم﴾ [الأحزاب: ١٠] ﴿وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً﴾ [الأحزاب: ٢٢] وإلى هذا أيضاً أشار بلوغ عدد كلمات النصر خطيها واصطلاحيها ظاهرها ومستترها إلى عدد كلمات الكافرون الخطية، فذلك رمز إلى أن أضعف أهل الإسلام لا يضعف عن مقاومة أهل الكفر وأرسخهم في كل صفة يريدها - والله هو الموفق.
311
سورة النصر
وتسمى التوديع.
مقصودها الإعلام بتمام الدين اللازم عن مدلول اسمها النصر، اللازم عنه موت النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، اللازم عنه العلم بأنه ما برز إلى عالم الكون والفساد إلا لإعلاء كلمة الله تعالى وإدحاض كلمة الشيطان - لعنة الله تعالى عليه - اللازم عنه أنه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خلاصة الوجود، وأعظم عبد للولي الودود، وعلى ذلك أيضا دل اسمها التوديع وحال نزولها وهو أيام التشريق من سنة حجة الوداعه) بسم الله (الذي له الأمر كله، فهو العليم الحكيم) الرحمن (الذي أرسلك رحمة للعالمين، فعمهم بعد نعمة الإيجاد بأن بين لهم إقامة لمعاشهم ومعادهم بك طريق النجاة غاية البيان، بما أنزل عليك من معجز القرآن الذي من سمعه فكأنما سمعه من العلي العظيم) الرحيم (الذي خص من أراده بالإقبال به إلى حزبه وجعله من أهل قربه بلزوم الصراط المستقيم.
312
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
إنك لو شهدت يوم الخندمه إذ فر صفوان وفر عكرمه
واستقبلتهم بالسيوف المسلمه يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه بهم تهيب خلفنا وهمهمه