تفسير سورة السجدة

نظم الدرر
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الم السجدة١
مقصودها إنذار الكفار بهذا الكتاب السار للأبرار بدخول الجنة والنجاة من النار، واسمها السجدة منطبق على ذلك بما دعت إليه [ آيتها ٢ ] من الإخبات وترك الاستكبار، و [ كذا ٣ ] تسميتها بالم تنزيل فإنه مشير إلى تأمل جميع السورة، فهو٤ في غاية الوضوح في هذا المقصود ﴿ بسم الله ﴾ ذي الجلال والإكرام العزيز الغفار ﴿ الرحمن ﴾ بعموم البشارة والنذارة ﴿ الرحيم ﴾ الذي أسكن٥ في قلوب أحبابه الشوق إليه والخشوع بين يديه ﴿ الم ﴾ تقدم في البقرة وغيرها شيء من أسرار هذه الأحرف، ومما٦ لم يسبق أنها إشارة إلى أن الله المحيط في علمه وقدرته وكل شأنه أرسل جبرائيل عليه السلام إلى محمد الفاتح الخاتم صلى الله عليه وسلم بكتاب معجز دال بإعجازه على صحة رسالته، ووحدانية من أرسله، وعدله في العاصين، وفضله على المطيعين، وسرد سبحانه هذه الأحرف في أوائل أربع من هذه السور، فزادت على الطواسين بواحدة، وذلك بقدر٧ العدد الذي يؤكد به، وزيادة مبدأ العدد إشارة إلى أن التكرير لم يرد به مطلق التأكيد، بل دوام التكرير، إشارة إلى أن هذه المعاني في غاية الثبات لا انقطاع لها ٨والله الهادي٩.
ولما كان المقصود في التي قبلها إثبات الحكمة لمنزل هذا الكتاب الذي ١٠هو بيان١١ كل شيء الملزوم لتمام١٢ العلم وكمال الخبرة الذي١٣ ختمت به بعد أن أخبر أنه سبحانه مختص بعلم المفاتيح بعد أن أنذر بأمر١٤ الساعة، فثبت بذلك وما قبله أنه ما أثبت شيئا فقدر١٥ غيره من أهل الكتاب ولا غيرهم على نفيه، ولا نفي شيئا١٦ فقدر غيره على إثباته ولا إثبات شيء منه، كانت١٧ نتيجة ذلك أنه لا يكون شيء من الأشياء دقيقها وجليلها إلا يعلمه سبحانه وتعالى، وأجل ذلك١٨ إنزال هذا الذكر الحكيم الذي١٩ فيه إثبات هذه العلوم مع شهادة العجز عن معارضته٢٠ له بأنه من عند الله، فلذلك قال :﴿ تنزيل الكتاب ﴾ أي الجامع لكل هدى على ما ترون من التدريج من السماء ﴿ لا ريب فيه ﴾ أي في كونه من السماء لأن نافي الريب ومميطه وهو الإعجاز معه لا ينفك عنه، فكل ما يقولونه مما يخالف ذلك تعنت أوجهل من غير ريب، حال كونه ﴿ من رب العالمين ﴾ أي الخالق لهم المدبر لمصالحهم، فلا يجوز في عقل ولا يخطر في بال ولا يقع في وهم ولا يتصور في خيال [ ٢١ أنه يترك خلقه وهو المدبر الحكيم من غير كتاب يكون سبب إبقائهم أو ] أن٢٢ يصل شيء ٢٣من كتابه٢٤ إلى هذا النبي الكريم بغير أمره، فلا يتخيل أن٢٥ شيئا منه ليس بقول الله، ثم لا يتخيل أنه كلامه تعالى ولكنه أخذه من بعض أهل الكتاب، لأن هذا لا يفعل مع ملك فكيف يملك الملوك، فكيف بمن هو عالم بالسر والجهر، محيط عليه بالخفي والجلي٢٦، فلو ادعى عليه أحد ما لم يأذن فيه لما أيده بالمعجزات.
ولما أقره على ذلك المدد المتطاولات، ولاسيما إعجاز كل ما ينسبه إليه بالمعجزات، و٢٧يدعيه عليه، و٢٨هذا غاية ما في آل عمران كما كان أول لقمان غاية أول القرآن المطلق، وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما انطوت سورة الروم على ما قد أشير إليه من التنبيه بعجائب ما أودعه سبحانه في عالم السماوات والأرض، وعلى ذكر الفطرة، ثم اتبعت بسورة لقمان تعريفا بأن مجموع تلك الشواهد من آيات الكتاب وشواهده ودلائله، وأنه قد ٢٩هدى من شاء٣٠ إلى سبيل الفطرة وإن لم يمتحنه بما امتحن به كثيرا ممن ذكر، فلم يغن عنه ودعى فلم يجب، وتكررت عليه الإنذارات فلم يصغ [ لها ٣١ ] لأن٣٢ كل ذلك من الهدى والضلال واقع بمشيئته وسابق إرادته، واتبع سبحانه ذلك بما ينبه المعتبر على صحته فقال " ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى " فأعلم سبحانه أن الخلاص والسعادة في الاستسلام له٣٣ ولما يقع من أحكامه، وعزى نبيه صلى الله عليه وسلم وصبره بقوله :﴿ ومن كفر فلا يحزنك كفره ﴾ ثم ذكر تعالى لجأ الكل قهرا ورجوعا بحاكم اضطرارهم لوضوح الأمر إليه تعالى فقال ﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾ ثم وعظ تعالى الكل بقوله :" ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " أي أن ذلك لا يشق عليه سبحانه وتعالى ولا يصعب، والقليل والكثير سواء، ثم نبه بما يبين ذلك من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وجريان الفلك بنعمته ﴿ ذلك بأن الله هو الحق ﴾، ثم أكد ما تقدم من رجوعهم في الشدائد إليه فقال :﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ فإذا خلصهم / سبحانه ونجاهم عادوا٣٤ إلى سيئ أحوالهم، هذا وقد عاينوا رفقه بهم وأخذه عند الشدائد بأيديهم وقد اعترفوا بأنه خالق السماوات والأرض ومسخر٣٥ الشمس ٣٦والقمر٣٧، وذلك شاهد من حالهم بجريانهم على [ ما ٣٨ ] قدر لهم ووقوفهم عند حدود السوابق ﴿ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾ ثم عطف سبحانه على الجميع فدعاهم إلى تقواه، وحذرهم يوم المعاد وشدته، وحذرهم من الاغترار، وأعلمهم أنه المتفرد بعلم٣٩ الساعة، وإنزال الغيث، وعلم ما في الأرحام، وما يقع من المكتسبات، وحيث يموت كل من المخلوقات، فلما كانت سورة لقمان بما بين من مضمنها محتوية من٤٠ التنبيه والتحريك على ما ذكر، ومعلمة بانفراده سبحانه بخلق الكل وملكهم٤١ اتبعها تعالى بما يحكم بتسجيل صحة الكتاب، وأنه من عنده وأن ما انطوى عليه من الدلائل والبراهين يرفع كل ريب، ويزيل كل شك، فقال :﴿ الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك ﴾.
١ الثانية والعشرون من سورة القرآن الكريم، مكية مع استثناء بعض الآي، وهي تسع وعشرون آية في البصري وثلاثون في الباقي ـ راجع روح المعاني ٦/٤٩٨..
٢ زيد من ظ وم ومد، إلا أن في الأولى: آياتها..
٣ زيد من ظ وم ومد..
٤ في ظ: فهي..
٥ من ظ وم ومد، وفي الأصل: سكن..
٦ في ظ: ما..
٧ في ظ: مقدار..
٨ سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد..
٩ سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد..
١٠ في ظ وم ومد: فيه تبيان..
١١ في ظ وم ومد: فيه تبيان..
١٢ من م ومد، وفي الأصل وظ: بتمام..
١٣ في ظ: التي..
١٤ في ظ: يعلم..
١٥ من م ومد، وفي الأصل وظ: لقدر..
١٦ من ظ وم ومد، وفي الأصل: شيء..
١٧ من ظ وم ومد، وفي الأصل: كان..
١٨ من ظ وم ومد، وفي الأصل: شيء..
١٩ سقط من ظ..
٢٠ من ظ وم ومد، وفي الأصل: معارضة..
٢١ زيد من ظ وم ومد..
٢٢ في ظ ومد: أنه..
٢٣ من ظ ومد، وفي الأصل وم: منه..
٢٤ من ظ ومد، وفي الأصل وم: منه..
٢٥ سقط من ظ..
٢٦ من ظ وم ومد، وفي الأصل: الجليل..
٢٧ سقط من ظ وم ومد..
٢٨ سقط من ظ..
٢٩ في ظ: يهدي من يشاء..
٣٠ في ظ: يهدي من يشاء..
٣١ زيد من ظ وم ومد..
٣٢ في ظ ومد: أن..
٣٣ سقط من ظ..
٣٤ في ظ: عاد..
٣٥ من م ومد، وفي الأصل وظ: سخر..
٣٦ سقط ما بين الرقمين من ظ ومد..
٣٧ سقط ما بين الرقمين من ظ ومد..
٣٨ زيد من ظ وم ومد..
٣٩ من م ومد، وفي الأصل وظ: بعلمي..
٤٠ في ظ: على..
٤١ في ظ ومد: هلكهم..

﴿الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك﴾ أي أيقع منهم هذا بعد وضوحه وجلاء وشواهده، ثم أتبع ذلك بقوله: ﴿مالكم من دونه من ولي ولا شفيع﴾ وهو تمام لقوله: ﴿ومن يسلم وجهه إلى الله﴾ ولقوله: ﴿ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله﴾ ولقوله: ﴿وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين﴾ ولقوله: ﴿اتقوا ربكم ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون﴾ بما ذكرتم، ألا ترون أمر لقمان وهدايته بمجرد دليل فطرته، فما لكم بعد التذكير وتقريع الزواجر وترادف الدلائل وتعاقب الآيات تتوقفون عن السلوك إلى ربكم وقد أقررتم بأنه خالقكم، ولجأتم إليه عند احتياجكم؟ ثم أعلم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجوع من عاند وإجابته حين لا ينفعه رجوع، ولا تغني عنه إجابة،
226
ثم اعلم سبحانة ان الواقع منهم انما هو بارادتة وسابق من حكمة لياخذ الموفق الموقن نفسة بالتسليم فقال: ﴿ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها﴾ كما فعلنا بلقمان ومن أردنا توفيقه، ثم ذكر انقسامهم بحسب السوابق فقال: ﴿أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون﴾ ثم ذكر مصير الفريقين ومآل الحزبين، ثم أتبع ذلك بسوء حال من ذكر فأعرض فقال: ﴿ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها﴾ وتعلق الكلام إلى آخر السورة - انتهى.
ولما كان هذا الذي قدمه أول السورة على هذا الوجه برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً على أن هذا الكتاب من عند الله، كان - كما حكاه البغوي والرازي في اللوامع - كأنه قيل: هل آمنوا به؟ ﴿أم يقولون﴾ مع ذلك الذي لا يمترئ فيه عاقل ﴿افتراه﴾ أي تعمد كذبه.
ولما كان الجواب: إنهم ليقولون: افتراه، وكان جوابه: ليس هو مفتري لما هو مقارن له من الإعجاز، ترتب عليه قوله: ﴿بل هو الحق﴾ أي الثابت ثباتاً لا يضاهيه ثبات شيء من الكتب قبله، كائناً ﴿من ربك﴾ المحسن إليك بإنزاله وإحكامه، وخصه بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم
227
حقيقته حق الفهم سواه.
ولما ذكر سبحانه إحسانه إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صريحاً، أشار بتعليله إلى إحسانه به أيضاً إلى كافة العرب، فقال مفرداً النذارة لأن المقام له بمقتضى ختم لقمان: ﴿لتنذر قوماً﴾ أي ذوي قوة جلد ومنعة وصلاحية للقيام بما أمرهم به ﴿ما أتاهم من نذير﴾ أي رسول في هذه الإزمان القريبة لقول ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد الفترة، ويؤيده إثبات الجار في قوله: ﴿من قبلك﴾ أي بالفعل شاهدوه أو شاهده آباؤهم. وإما بالمعنى والقوة فقد كان فيهم دين إبراهيم عليه السلام إلى أن غيّره عمرو بن لحي، وكلهم كان يعرف ذلك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يعبد صنماً ولا استقسم بالأزلام، وذلك كما قال تعالى:
﴿وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾ [فاطر: ٢٤] أي شريعته ودينه، والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر - نبه على ذلك أبو حيان. ويمكن أن يقال: ما أتاهم من ينذرهم على خصوص ما غيروا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأما إسماعيل ابنه عليه السلام فكان بشيراً لا نذيراً، لأنهم ما خالفوه، وأحسن من ذلك كله ما نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل أن ذلك
228
في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه قد نقل عيسى عليه السلام لما أرسل رسله إلى الآفاق أرسل إلى العرب رسولاً.
ولما ذكر علة الإنزال، أتبعها علة الإنذار فقال: ﴿لعلهم يهتدون*﴾ أي ليكون حالهم في مجاري العادات حال من ترجى هدايته إلى كمال الشريعة، وأما التوحيد فلا عذر لأحد فيه بما أقامه الله من حجة العقل مع ما أبقته الرسل عليهم الصلاة والسلام آدم فمن بعده من واضح النقل بآثار دعواتهم وبقايا دلالاتهم، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن سأله عن أبيه: «أبي وأبوك في النار» وقال: «لا تفتخروا بآبائكم الذين مضوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده لما تدحرج الجعل خير منهم» في غير هذا من الأخبار القاضية بأن كل من مات قبل دعوته على الشرك فهو للنار.
229
ولما تقرر بما سبق في التي قبلها من اتصافه تعالى بكمال العلم أنه من عنده وبعلمه لا محالة، وكان هذا أمراً يهتم بشأنه ويعتني بأمره، لأنه عين المقصود الذي ينبني عليه أمر الدين، وختم ما ذكره من أمره ههنا بإقامة اهتدائهم مقام الترجي بإنذاره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
229
أتبعه بيان ذلك بإيجاد عالم الأشباح والخلق ثم عالم الأرواح والأمر، وإحاطة العلم بذلك كله على وجه يقود تأمله إلى الهدى، فقال مستأنفاً شارحاً لأمر يندرج فيه إنزاله معبراً بالاسم الأعظم لاقتضاء الإيجاد والتدبير على وجه الانفراد له: ﴿الله﴾ أي الحاوي لجميع صفات الكمال وحده: ﴿الذي خلق السماوات﴾ كلها ﴿والأرض﴾ بأسرها ﴿وما بينهما﴾ من المنافع العينية والمعنوية.
ولما كانت هذه الدار مبنية على حكمة الأسباب كما أشير إليه في لقمان، وكان الشيء إذا عمل بالتدرج كان أتقن، قال: ﴿في ستة أيام﴾ كما يأتي تفصيله في فصلت، وقد كان قادراً على فعل ذلك في أقل من لمح البصر، ويأتي في فصلت سر كون المدة ستة.
ولما كان تدبير هذه وحفظه وتعهد مصالحه والقيام بأمره أمراً - بعد أمر إيجاده - باهراً، أشار إلى عظمته بأداة التراخي والتعبير بالافتعال فقال: ﴿ثم استوى على العرش﴾ أي استواء لم يعهدوا مثله وهو أنه أخذ في تدبيره وتدبير ما حواه بنفسه، لا شريك له ولا نائب عنه ولا وزير، كما تعهدون من ملوك الدنيا إذا اتسعت ممالكهم، وتباعدت أطرافها، وتناءت أقطارها، وهو معنى قوله تعالى استئنافاً جواباً لمن كأنه قال: العرش بعيد عنا جداً فمن استنابه في أمرنا، ولذلك لفت الكلام إلى الخطاب لأنه اقعد
230
في التنبيه: ﴿مالكم من دونه﴾ لأنه كل ما سواء من دونه وتحت قهره، ودل على عموم النفي بقوله: ﴿من ولي﴾ أي يلي أموركم ويقوم بمصالحكم وينصركم إذا حل بكم شيء مما تنذرون به ﴿ولا شفيع﴾ يشفع عنده في تدبيركم أو في أحد منكم بغير إذنه، وهو كناية عن قربه من كل شيء وإحاطته به، وأن إحاطته بجميع خلقه على حد سواء لا مسافة بينه وبين شيء أصلاً.
ولما كانوا مقرين بأن الخلق خلقه والأمر أمره، عارفين بأنه لا يلي وال من قبل ملك من الملوك إلا بحجة منه يقيمها على أهل البلدة التي أرسل إليها أو ناب فيها، ولا يشفع شفيع فيهم إلا وله إليه وسيلة، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في قوله: ﴿أفلا تتذكرون﴾ أي تذكراً عظيماً بما أشار إليه الإظهار ما تعلمونه من أنه الخالق وحده، ومن أنه لا حجة لشيء مما أشركتموه بشيء مما أهلتموه له ولا وسيلة لشيء منهم إليه يؤهل بها في الشفاعة فيكم ولا أخبركم أحد منهم بشيء من ذلك، فكيف تخالفون في هذه الأمور التي هي أهم المهم، لأن عاقبتها خسارة الإنسان نفسه، فضلاً عما دونها عقولكم وما جرت به عوائدكم، وتتعللون فيها المحال، وتقنعون بقيل وقال،
231
وتخاطرون فيه بالأنفس والأولاد والأموال.
ولما نفى أن يكون له شريك أو وزير في الخلق، ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه في ستة أيام من عالم الأرواح والأمر، فقال مستأنفاً مفسراً للمراد بالاستواء: ﴿يدبر الأمر﴾ أي كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه، كما نظر في إقباله لإحكام فواتحه وعوازمه، لا يكل شيئاً منه إلى شيء من خلقه، قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن استواءه على العرش بمعنى إظهار القدرة، والعرش مظهر التدبير لا قعر المدبر.
ولما كان المقصود للعرب إنما هو تدبير ما تمكن مشاهدتهم له من العالم قال مفرداً: ﴿من السماء﴾ أي فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في أدبار ما يعلمه ﴿إلى الأرض﴾ غير متعرض إلى ما فوق ذلك، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم.
ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد، فكان بذلك مستبعداً، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿ثم يعرج﴾ أي يصعد
232
الأمر الواحد - وهو من الاستخدام الحسن - إليه، أي بصعود الملك إلى الله، أي إلى المواضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى: ﴿إني ذاهب إلى ربي﴾ [الصافات: ٩٩] ﴿ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله﴾ [النساء: ١٠٠] ونحو ذلك، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير وهو السماء وكأنه صاعد في معارج، وهي الدرج على ما تتعارفون بينكم، في أسرع من لمح البصر ﴿في يوم﴾ من أيام الدنيا ﴿كان مقداره﴾ لو كان الصاعدين واحداً منكم على ما تعهدون ﴿ألف سنة مما تعدون﴾ من سنيكم التي تعهدون، والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ، أما اللفظ فالتعبير ب «كان» مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك، وأما العرف فهو أن الإنسان المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلاً، فإذا فرّغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه إلا جزءاً لا يعد، هذا وهو خلق محتاج فما ظنك بمن خلق الخلق في ستة أيام وهو غني عن كل شيء قادر على كل شيء وظاهر العبارة أن هذا التقدير بالألف لما بين السماء والأرض بناء على أن البداية والغاية لا يدخلان، فإذا أردنا تنزيل هذه الآية على أية سأل أخذنا
233
هذا بالنسبة إلى صعود أحدنا مستوياً لو أمكن، وجعلت الأرض واحدة في العدد، وأول تعددها كما قيل باعتبار الأقاليم، وزيد عليه مقدار ثخن السماوات وما بينهما، وزيد على المجموع مثل نصفه لمسافة الانحناء في بناء الدرج والتعريج الذي هو مثل محيط الدائرة بالوتر الذي قسمها بنصفين ليمكن الصعود منا، وهو مقدار نصف مسافة الاستواء وشيء يسير، لأنك إذا قسمت دائرة بوتر كان ما بين رأسي الوتر من محيط نصف الدائرة بمقدار ذلك الوتر مرة ونصفاً سواء يزاد عليه يسير لأجل تعاريج الدرج، فإذا فعلنا ذلك كان ما بين أحد سطحي الكرسي المحدب وما يقابله من السطح الآخر بحسب اختراقه من جانبيه واختراق أطباق السماوات السبع: الأربعة عشر، اثنين وثلاثين ألف سنة، لأنه يخص كل سماء ألفان، لأنه فهم من هذا السياق أن من مقعر السماء إلى سطح الأرض الذي نحن عليه سيرة ألف سنة وبعد ما بين كل سمائين كبعد ما بين السماء والأرض، وثخن كل سماء كذلك، فيكون بعد ما بين أحد سطحي الأرض إلى سطح الكرسي الأعلى ستة عشر ألف سنة، وبعد ما بين سطح الأرض إلى أعلى سطح الكرسي
234
من الجانب الآخر كذلك، ثم يزاد على المجموع وهو اثنان وثلاثون ألف سنة مسافة ثخن الأرض وهي ألف سنة ليكون المجموع ثلاثة وثلاثين ألف سنة يزاد عليه ما للتعريج، وهو نصف تلك المسافة وشيء يكون سبعة عشر ألف سنة، فذلك خمسون ألف سنة، وإنما جعلت سطح الكرسي الأعلى النهاية، لأن العادة جرت أن لا يصعد إلى عرش الملك غيره، وأن الأطماع تنقطع دونه، بل ولا يصعد إلى كرسيه، وسيأتي اعتبار ذلك في الوجه الأخير، وإن قلنا: إن الأراضي سبع على أنها كرات مترتبة متعالية غير متداخلة، وأدخلنا العرش في العدد فنقول: إنه مع الكرسي والسماوات تسعة، فجانباها الحيطان بالأرض ثماني عشرة طبقة، والأراضي سبع، فتلك خمس وعشرون طبقة، فكل واحدة - مع ما بينها وبين الأخرى على ما هو ظاهر الآية - ألفان، فضعف هذا العدد، فيكون خمسين ألفاً، وهذا الوجه أوضح الوجوه وأقربها إلى مفهوم الآية، ولا يحتاج معه إلى زيادة لأجل انعطاف الدرج، ويجوز أن نقول: إن السر - والله أعلم -
235
في جعل ما مسيرته خمسمائة سنة - كما في الحديث - ألف سنة لأجل التعريج، والحديث ليس نصاً في سير معين حتى يتحامى تأويله بل قد ورد بألفاظ متغايرة منها خسمائة ومنها اثنتان وسبعون سنة ومنها إحدى وسبعون إلى غير ذلك فلا بد أن يحمل كل لفظ على سير فنقول: الخمسمائة للصاعد في درج مستقيم كدرج الدقل مثلاً، والاثنان وسبعون لسير الطائر والألف كما في الآية لدرج منعطف، ويدل عليه ما رواه الترمذي - وقال: إسناده حسن - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«لو أن رصاصة مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها»، أو تقول: إن الألف لجملة التدبير بالنزول والعروج - والله أعلم، وإن جعلنا البداية داخلة فتكون الألف من سطح الأرض الذي نحن عليه إلى محدب السماء لتتفق الآية مع الحديث القائل بأن بين الأرض والمساء خمسمائة سنة، وثخن السماء كذلك،
236
وكذا بقية السماوات والعرش، أدخلنا العرش في العدد وقلنا: إن الأراضي سبع متداخلة كالسماوات، كل واحدة منها في التي تليها، فالتي نحن فيها أعلاها محيطة بها كلها، فهي بمنزلة العرش للسماوات، فتكون السماوات السبع من جانبيها بأربعة عشر ألفاً والأراضي كذلك فذلك ثمانية وعشرون ألفاً والعرش والكرسي من جانبيها بأربعة فذلك اثنان وثلاثون ألفاً يضاف إليها ما يزيد انحناء المعارج الذي يمكن لنا معه العروج، وهو نصف مسافة الجملة وشيء، فالنصف ستة عشر ألفاً، ونجعل الشيء الذي لم يتحرر لنا ألفين، فذلك ثمانية عشر ألفاً إلى اثنين وثلاثين، فالجملة خمسون ألفاً ويمكن أن يكون ذلك بالنسبة إلى السماوات مع الأراضي، والكل متطابقة متداخلة، فتلك ثمان وعشرون طبقة من سطح السماء السابعة الأعلى إلى سطحها الأعلى من الجانب الآخر، فذلك ثمانية وعشرون - ألف سنة، لكل جرم خمسمائة، ولما بينه وبين الجرم الآخر كذلك فذلك ألف فضعفه بالنسبة إلى الهبوط والصعود فيكون ستة وخمسين ألفاً حسب منه خمسون ألفاً والغى الكسر، لكن هذا الوجه مخالف لظاهر الآية التي في سورة سأل، وهي قوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه في
237
يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج: ٥] فإنه ليس فيها ذكر الهبوط والله أعلم. وكل من هذه الوجوه أقعد مما قاله البيضاوي في سورته سأل، وأقرب للفهم العرف، فإن كان ظاهر حاله أنه جعل الثمانية عشر ألفاً من أعلى سرادقات العرش إلى أعلى سرادقاته من الجانب الآخر ولا دليل على هذا ولا عرف يساعد في صعود الخدم إلى أعلى السرادق، وهو الأعلى منه، والعلم عند الله تعالى، وروى إسحاق بن راهويه عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما بين سماء الدنيا إلى الأرض خمسمائة سنة، وما بين كل سماء إلى التي تليها خمسمائة سنة إلى السماء السابعة، والأرض مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك» واعلم أن القول بأن الأراضي سبع هو الظاهر لظاهر قوله تعالى: ﴿الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن﴾
[الطلاق: ١٢] ويعضده ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من ظلم قدر شبر من الأرض طوقه الله من
238
سبع أرضين»، وفي رواية للبغوي: خسف به إلى سبع أرضين، وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن المؤمن إذا حضره الموت - فذكره إلى أن قال: وأما الكافر إذا قبضت نفسه ذهب به إلى الأرض فتقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحا أنتن من هذه، فيبلغ بها إلى الأرض السفلى» - قال المنذري: وهو عند ابن ماجه بسند صحيح، ويؤيد من قال: إنها متطابقة متداخلة كالكرات وبين كل أرضين فضاء كالسماوات ما روى الحاكم وصححه عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الأرضين بين كل أرض إلى التي تليها مسيرة خمسمائة سنة، فالعليا منها على ظهر حوت» إلى آخره، وهو في آخر الترغيب للحافظ المنذري في آخر أهوال القيامة في سلاسلها وأغلالها، وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث عن مجاهد رحمه الله أنه قال: إن الحرم حرم مناه من السماوات السبع والأرضين السبع، وأنه رابع أربعة عشر بيتاً، في كل سماء بيت وفي كل أرض بيت لو سقطت لسقط بعضها على بعض - مناه يعني قصده وحذاءه،
239
وفي مجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي أن الإمام أحمد روى من طريق الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه إذا مرت سحابة فقال: هل تدرون ما هذه؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: العنان وزوايا الأرض يسوقه الله إلى من لا يشكره، ولا يدعوه، أتدرون ما هذه فوقكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: الرفيع موج مكفوف، وسقف محفوظ، أتدرون كم بينكم وبينها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: مسيرة خمسمائة عام، ثم قال: أتدرون ما الذي فوقها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: سماء أخرى، أتدرون كم بينكم وبينها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: مسيرة خمسمائة عام - حتى عد سبع سماوات ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: والعرش، قال: أتدرون كم بينه وبين السماء السابعة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: مسيرة خمسمائة عام، ثم قال: ما هذه تحتكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال:
240
أرض قال: أتدرون ما تحتها؟ قلنا الله ورسوله أعلم! قال: أرض أخرى، أتدرون كم بينهما؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: مسيرة سبعمائة عام حتى عد سبعين أرضين، ثم قال: وأيم الله لو دليتم بحبل لهبط، ثم قرأ:
﴿هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم﴾ [الحديد: ٣] قال: رواه الترمذي غير أنه ذكر أن بين كل أرض والأرض الأخرى خمسمائة عام، وهنا سبعمائة، وقال في آخره: «لو دليتم بحبل لهبط على الله» ولعله أراد: على عرش الله أو على حكمه وعلمه وقدرته، يعني أنه في ملكه وقبضته ليس خارجاً عن شيء من أمره - والله أعلم، ورأيت في جامع الأصول لابن الأثير بعد إيراده هذا الحديث ما نصه قال أبو عيسى قراءة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ويكون مؤيداً للقول بأنها كرات متطابقة متداخلة - والله أعلم - ما روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع في العرش إلا كحلقة ملقاة في فلاه» ولم يقل: كدرهم - مثلاً، وكذا
241
ما روى محمد بن أبي عمر وإسحاق بن راهويه وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه حديثاً طويلاً فيه ذكر الأنبياء، وفيه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تدري ما مثل السماوات والأرض في الكرسي؟ قلت: لا إلا أن تعلمني مما علمك الله عز وجل، قال: مثل السماوات والأرض في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة، وإن فضل الكرسي على السماوات والأرض كفضل الفلاة على تلك الحلقة» وأصله عند النسائي والطيالسي وأبي يعلى، وكذا ما روى صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما السماوات السبع في عظمة الله إلا كجوزة معلقة»، وقوله تعالى: ﴿وسع كرسيه السماوات والأرض﴾ [البقرة: ٢٥٥] يدل على أن الكرسي محيط بالكل من جميع الجوانب وقوله تعالى: ﴿إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا﴾ [الرحمن: ٣٣] صريح في ذلك، فإن النفوذ يستعمل في الخرق لا سيما مع التعبير ب «من» دون «في»، وكذا قوله في السماء ﴿ومالها من فروج﴾ والله الموفق.
242
ولما تقرر هذا من عالم الأشباح والخلق، ثم عالم الأرواح والأمر، فدل ذلك على شمول القدرة، وكان شامل القدرة لا بد وأن يكون
242
محيط العلم، كانت نتيجته لا محالة: ﴿ذلك﴾ أي الإله العالي المقدار، الواضح المنار ﴿عالم الغيب﴾ الذي تقدمت مفاتيحه آخر التي قبلها من الأرواح والأمر والخلق.
ولما قدم علم الغيب لكونه، أعلى وكان العالم به قد لا يعلم المشهود لكونه لا يبصر قال: ﴿والشهادة﴾ من ذلك كله التي منها تنزيل القرآن عليك ووصوله إليك ﴿العزيز﴾ الذي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء. ولما كان ربما قدح متعنت في عزته بإهمال العصاة قال: ﴿الرحيم﴾ أي الذي خص أهل التكليف من عباده بالرحمة في إنزال الكتب على السنة الرسل، وأبان لهم ما ترضاه الإلهية، بعد أن عم جميع الخلائق بصفة الرحمانية بعد الإيجاد من الإعدام بالبر والإنعام.
ولما ذكر صفة الرحيمية صريحاً لأقتضاء المقام إياها، أشار إلى صفة الرحمانية فقال: ﴿الذي أحسن كل شيء﴾ ولما كان هذا الإحسان عاماً، خصه بأن وصفه - على قراءة المدني والكوفي - بقوله: ﴿خلقه﴾ فبين أن ذلك بالإتقان والإحكام، كما فسر ابن عباس رضي الله عنهما من حيث التشكيل والتصوير، وشق المشاعر، وتهيئة المدارك، وإفاضة
243
المعاني، مع المفاوتة في جميع ذلك، وإلى هذا أشار الإبدال في قراءة الباقين، وعبر بالحسن لأن ما كان على وجه الحكمة كان حسناً وإن رآه الجاهل القاصر قبيحاً.
ولما كان الحيوان أشرف الأجناس، وكان الإنسان أشرفه، خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام قبل بالآفاق، فقال دالاً على البعث: ﴿وبدأ خلق الإنسان﴾ أي الذي هو المقصود بالخطاب بهذا القرآن ﴿من طين﴾ أي مما ليس له أصل في الحياة بخلق آدم عليه السلام منه.
ولما كان قلب الطين إلى هذا الهيكل على هذه الصورة بهذه المعاني أمراً هائلاً، أشار إليه بأداة البعد في قوله: ﴿ثم جعل نسله﴾ أي ولده الذي ينسل أي يخرج ﴿من سلالة﴾ أي من شيء مسلول، أي منتزع منه ﴿من ماء مهين﴾ أي حقير وضعيف وقليل مراق مبذول، فعيل بمعنى مفعول، وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله: ﴿ثم سواه﴾ أي عدله لما يراد منه بالتخطيط والتصوير وإبداع المعاني ﴿ونفخ فيه من روحه﴾ الروح ما يمتاز به الحي من
244
الميت، والإضافة للتشريف، فيا له من شرف ما أعلاه إضافته إلى الله.
ولما ألقى السامعون لهذا الحديث أسماعهم، فكانوا جديرين بأن يزيد المحدث لهم إقبالهم وانتفاعهم، لفت إليهم الخطاب قائلاً: ﴿وجعل﴾ أي بما ركب في البدن من الأسباب ﴿لكم السمع﴾ أي تدركون به المعاني المصوتة، ووحده لقلة التفاوت فيه إذا كان سالماً ﴿والأبصار﴾ تدركون بها المعاني والأعيان القابلة، ولعله قدمها لأنه ينتفع بهما حال الولادة، وقدم السمع لأنه يكون إذ ذاك أمتن من البصر.
ولذا تربط القوابل العين لئلا يضعفها النور، وأما العقل فإنما يحصل بالتدريج فلذا أخر محله فقال: ﴿والأفئدة﴾ أي المضغ الحارة المتوقدة المتحرفة، وهي القلوب المودعة غرائز العقول المتباينة فيها أيّ تباين؛ قال الرازي في اللوامع: جعله - أي الإنسان - مركباً من روحاني وجسماني، وعلوي وسفلي، جمع فيه بين العالمين بنفسه وجسده، واستجمع الكونين بعقله وحسه، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً، وسلم الأمر لمن له الخلق والأمر
245
تسليماً اختيارياً طوعياً. ولما لم يتبادروا إلى الإيمان عند التذكير بهذه النعم الجسام قال: ﴿قليلاً ما تشكرون *﴾ أي وكثيراً ما تكفرون.
ولما كانوا قد قالوا: محمد ليس برسول، والإله ليس بواحد، والبعث ليس بممكن، فدل على صحة الرسالة بنفي الريب عن الكتاب، ثم على الوحدانية بشمول القدرة وإحاطة العلم بإبداع الخلق على وجه هو نعمة لهم، وختم بالتعجيب من كفرهم، وكان استبعادهم للبعث - الذي هو الأصل الثالث - من أعظم كفرهم، قال معجباً منهم في إنكاره بعد التعجيب في قوله: ﴿أم يقولون افتراه﴾، لافتاً عنهم الخطاب إيذاناً بالغضب من قولهم: ﴿وقالوا﴾ منكرين لما ركز في الفطر الأُوَل، ونبهت عليه الرسل، فصار بحيث لا يكره عاقل ألم بشيء من الحكمة: ﴿أإذا﴾ أي أنبعث إذا ﴿ضللنا﴾ أي ذهبنا وبطلنا وغبنا ﴿في الأرض﴾ بصيرورتنا تراباً مثل ترابها، لا يتميز بعضه من بعض: قال أبو حيان تبعاً للبغوي والزمخشري وابن جرير الطبري وغيرهم: وأصله من ضل الماء في اللبن - إذا ذهب. ثم كرروا
246
الاستفهام الإنكاري زيادة في الاستبعاد فقالوا: ﴿إنا لفي خلق جديد﴾ هو محيط بنا ونحن مظروفون له.
ولما كان قولهم هذا يتضمن إنكارهم القدرة، وكانوا يقرون بما يلزمهم منه الإقرار بالقدرة على البعث من خلق الخلق والإنجاء من كل كرب ونحو ذلك، أشار إليه بقوله: ﴿بل﴾ أي ليسوا بمنكرين لقدرته سبحانه، بل ﴿هم بلقاء ربهم﴾ المحسن بالإيجاد والإبقاء مسخراً لهم كل ما ينفعهم في الآخرة للحساب أحياء سويين كما كانوا في الدنيا، والإشارة بهذه الصفة إلى أنه لا يحسن بالمحسن أن ينغص إحسانه بترك القصاص من الظالم الكائن في القيامة ﴿كافرون *﴾ أي منكرون للبعث عناداً، ساترون لما في طباعهم من أدلته، لما غلب عليهم من الهوى القائد لهم إلى أفعال منعهم من الرجوع عنها الكبرُ عن قبول الحق والأنفة من الإقرار بما يلزم منه نقص العقل.
247
ولما ذكر استبعادهم، وأتبعه عنادهم، وكان إنكارهم إنما هو بسبب اختلاط الأجزاء بالتراب بعد إنقلابها تراباً، فكان عندهم من المحال تمييزها من بقية التراب. دل على أن ذلك عليه هين بأن نبههم على ما هو مقرّون به مما هو مثل ذلك بل أدق. فقال مستأنفاً: ﴿قل﴾ أي
248
جواباً لهم عن شبهتهم: ﴿يتوفاكم﴾ أي يقبض أرواحكم كاملة من أجسادكم بعد أن كانت مختلطة بجميع أجزاء البدن، لا تميز لأحدهما عن الآخر بوجه تعرفونه بنوع حيلة ﴿ملك الموت﴾ ثم أشار إلى أن فعله بقدرته، وأن ذلك عليه في غاية السهولة، ببناء الفعل لما لم يسم فاعله فقال: ﴿الذي وكل بكم﴾ أي وكله الخالق لكم بذلك، وهو عبد من عبيده، ففعل ما أمر به، فإذا البدن ملقى لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعي الخلل بسببه، فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده صرفه في ذلك فقام به على ما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب لأنه ربما يستدل بعض الحذاق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين، ومدير الخلائق أجمعين؟.
فلما قام هذا البرهان القطعي الظاهر مع دقته لكل أحد على قدرته التامة على تمييز ترابهم من تراب الأرض، وتمييز بعض تربهم من بعض، وتمييز تراب كل جزء من اجزائهم جل أو دق عن بعض. علم أن التقدير: ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة، فحذفه كما هو
249
عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره فعطف عليه قوله: ﴿ثم إلى ربكم﴾ أي الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ابتداء، لا إلى غيره، بعد إعادتكم ﴿ترجعون﴾ بأن يبعثكم كنفس واحدة فإذا أنتم بين يديه، فيتم إحسانه وربوبيته بأن يجازي كلاًّ بما فعل، كما هو دأب الملوك مع عبيدهم، لا يدع أحد منهم الظالم من عبيده مهملاً.
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك، فقال عادلاً عن خطابهم استهانة بهم وإيذاناً بالغضب، وخطاباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسلية له، أو لكل من يصح خطابه، عاطفاً على ما تقديره: فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وهناك أمور أيّ أمور، موقعاً المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي، لأنه لتحقق وقوعه كأنه قد كان، واختير التعبير به لترويح النفس بترقب رؤيته حال سماعه، تعجيلاً للسرور بترقب المحذور لأهل الشرور: ﴿ولو ترى﴾ أي تكون أيها الرائي من أهل الرؤية لترى حال المجرمين ﴿إذ المجرمون﴾ أي القاطعون لما أمر الله
250
به أن يوصل بعد أن وقفوا بين يدي ربهم ﴿ناكسوا رؤوسهم﴾ أي مطأطئوها خجلاً وخوفاً وخزياً وذلاً في محل المناقشة ﴿عند ربهم﴾ المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم، قائلين بغاية الذل والرقة: ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا ﴿أبصرنا﴾ ما كنا نكذب به ﴿وسمعنا﴾ أي منك ومن ملائكتك ومن أصوات النيران وغير ذلك ما كنا نستبعده، فصرنا على غاية العلم بتمام قدرتك وصدق وعودك ﴿فارجعنا﴾ بما لك من هذه الصفة المقتضية للإحسان، إلى دار الأعمال ﴿نعمل صالحاً﴾ ثم حققوا هذا الوعد بقولهم على سبيل التعليل مؤكدين لأن حالهم كان حال الشاك الذي يتوقف المخاطب في إيقانه: ﴿إنا موقنون *﴾ أي ثابت الآن لنا الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك مما كشف عنه العيان أي لو رأيت ذلك لرأيت أمراً لا يحتمله من هوله وعظمه عقل، ولا يحيط به وصف.
ولما لم يذكر لهم جواباً، علم أنه لهوانهم، لأنه ما جرأهم على العصيان إلا صفة الإحسان، فلا يصلح لهم إلا الخزي والهوان، ولأن الإيمان لا يصح إلا بالغيب قبل العيان.
ولما كان ربما وقع في وهم أن ضلالهم مع الإمعان في البيان، لعجز عن هدايتهم أو توان، قال عاطفاً على ما تقديره: إني لا أردكم لأني لم أضلكم في الدنيا للعجز عن هدايتكم فيها، بل لأني لم أرد إسعادكم، ولو شئت لهديتكم، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء المقام لها: ﴿ولو شئنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي تأبى أن يكون لغيرنا شيء يستقل به أو يكون في ملكنا ما لا نريد ﴿لأتينا كل نفس﴾ أي مكلفة لأن الكلام فيها ﴿هداها﴾ أي جعلنا هدايتها ورشدها وتوفيقها للإيمان وجميع ما يتبعه من صالح الأعمال في يدها متمكنة منها.
ولما استوفى الأمر حده من العظمة، لفت الكلام إلى الإفراد، دفعاً للتعنت وتحقيقاً لأن المراد بالأول العظمة فقال: ﴿ولكن﴾ أي لم أشأ ذلك لأنه ﴿حق القول مني﴾ وأنا من لا يخلف الميعاد، لأن الإخلاف إما لعجز أو نسيان أو حاجة ولا شيء من ذلك يليق بجنابي، أو يحل بساحتي، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً: ﴿لأملان جهنم﴾
251
التي هي محل إهانتي وتجهم أعدائي بما تجهموا أوليائي ﴿من الجنة﴾ أي الجن طائفة إبليس، وكأنه أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم لما دعا إلى تحقيرهم من مقام الغضب وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم ﴿والناس أجمعين *﴾ حيث قلت لإبليس: ﴿لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين﴾ [ص: ٨٥] فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً، وغيبت العاقبة عنهم، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً، والخلق في الحقيقة والمشيئة لي.
252
ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص عن عذابهم، قال مجيباً لترققهم إذ ذاك نافياً لما قد يفهمه كلامهم من أنه محتاج إلى العبادة: ﴿فذوقوا﴾ أي ما كنتم تكذبون به منه بسبب ما حق معي من القول ﴿بما﴾ أي بسبب ما ﴿نسيتم لقاء يومكم﴾ وأكده وبين لهم بقوله: ﴿هذا﴾ أي عملتم - في الإعراض عن الاستعداد لهذا الموقف الذي تحاسبون فيه ويظهر فيه العدل - عمل الناسي له مع أنه مركوز في طباعكم أنه لا يسوغ لذي علم وحكمة أن يدع عبيده
252
يمرحون في أرضه ويتقلبون في رزقه، ثم لا يحاسبهم على ذلك وينصف مظلومهم، فكان الإعراض عنه مستحقاً لأن يسمى نسياناً من هذا الوجه أيضاً ومن جهة أنه لما ظهر له من البراهين، ما ملأ الأكوان صار كأنه ظهر، وروي ثمّ نسي. ثم علل ذوقهم لذلك أو استانف لبيان المجازاة به مؤكداً في مظهر العظمة قطعاً لأطماعهم في الخلاص، ولذا عاد إلى مظهر العظمة فقال: ﴿إنا نسيناكم﴾ أي عاملناكم بما لنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي، فأوردنا النار كما أقسمنا أنه ليس أحد إلا يردها، ثم أخرجنا أهل ودنا وتركناكم فيها ترك المنسي.
ولما كان ما تقدم من أمرهم بالذوق مجملاً، بينه بقوله مؤكداً له: ﴿وذوقوا عذاب الخلد﴾ أي المختص بأنه لا آخر له. ولما كان قد خص السبب فيما مضى، عم هنا فقال: ﴿بما كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿تعملون *﴾ من أعمال من لم يخف أمر البعث ناوين أنكم لا تنفكون عن ذلك.
ولما كان قوله تعالى: ﴿بل هم بلقاء ربهم كافرون﴾ قد أشار إلى أن الحامل لهم على الكفر الكبر، وذكر سبحانه أنه قسم الناس قسمين
253
لأجل الدارين، تشوفت النفس إلى ذكر علامة أهل الإيمان كما ذكرت علامة أهل الكفران، فقال معرفاً أن المجرمين لا سبيل إلى إيمانهم ﴿ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه﴾ [الأنعام: ٢٨] :﴿إنما يؤمن بآياتنا﴾ الدالة على عظمتنا ﴿الذين إذا ذكروا بها﴾ من أيّ مذكر كان، في أيّ وقت كان، قبل كشف الغطاء وبعده ﴿خروا سجداً﴾ أي بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد، خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم له خضوعاً ثابتاً دائماً ﴿وسبحوا﴾ أي أوقعوا التنزيه عن كل شائبة نقص من ترك البعث المؤدي إلى تضييع الحكمة ومن غيره متلبسين ﴿بحمد﴾ ولفت الكلام إلى الصفة المقتضية لتنزيههم وحمدهم تنبيهاً لهم فقال: ﴿ربهم﴾ أي بإثباتهم له الإحاطة بصفات الكمال، ولما تضمن هذا تواضعهم، صرح به في قوله: ﴿وهم لا يستكبرون﴾ أي لا يجددون طلب الكبر عن شيء مما دعاهم إليه الهادي ولا يوجدونه خلقاً لهم راسخاً في ضمائرهم.
ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً بما تضمنته الآية السالفة من خوفهم: ﴿تتجافى﴾ أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء - بما أشار إليه الإظهار، وبشر بكثرتهم بالتعبير
254
بجمع الكثرة فقال: ﴿جنوبهم﴾ بعد النوم ﴿عن المضاجع﴾ أي الفرش الموطأة الممهدة التي هي محل الراحة والسكون والنوم، فيكونون عليها كالملسوعين، لا يقدرون على الاستقرار عليها، في الليل الذي هو موضع الخلوة ومحط اللذة والسرور بما تهواه النفوس، قال الإمام السهروردي في الباب السادس والأربعين من عوارفه عن المحبين: قيل: نومهم نوم الفرقى، وأكلهم أكل المرضى، وكلامهم ضرورة، فمن نام عن غلبة بهمّ مجتمع متعلق بقيام الليل وفق لقيام الليل، وإنما النفس إذا طعمت ووطنت على النوم استرسلت فيه، وإذا أزعجت بصدق العزيمة لا تسترسل في الاستقرار، وهذا الانزعاج في النفس بصدق العزيمة هو التجافي الذي قال الله، لأن الهم بقيام الليل وصدق العزيمة يجعل بين الجنس والمضجع سواء وتجافياً.
ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة، بين أنه لها، فقال مبيناً لحالهم: ﴿يدعون﴾ أي على سبيل الاستمرار، وأظهر الوصف الذي جرأهم على السؤال فقال: ﴿ربهم﴾ أي الذي عودهم بإحسانه: ثم علل دعاءهم بقوله: ﴿خوفاً﴾ أي من سخطه وعقابه، فإن أسباب الخوف من نقائضهم كثيرة سواء عرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا، فهم
255
لا يأمنون مكره لأن له أن يفعل ما يشاء ﴿وطمعاً﴾ أي في رضاه الموجب لثوابه، وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب، وإذا كانوا يرجون رحمته بغير سبب فهم مع السبب أرجى، فهم لا ييأسون من روحه.
ولما كانت العبادة تقطع عن التوسع في الدنيا، فربما دعت نفس العابد إلى التسمك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عن الحاجة لتشوش الفكر والحركة لطلب الرزق، حث على الإنفاق منه اعتماداً على الخلاق الرزاق الذي ضمن الخلف ليكونوا بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم، وإيذاناً بأن الصلاة سبب للبركة في الرزق ﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك﴾ [طه: ١٣٢]، فقال لفتاً إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده: ﴿ومما رزقناهم﴾ أي بعظمتنا، لا حول منهم ولا قوة ﴿ينفقون *﴾ من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم.
ولما ذكر جزاء المستكبرين، فتشوفت النفس إلى جزاء المتواضعين، أشار إلى جزائهم بفاء السبب، إشارة إلى أنه هو الذي وفقهم لهذه الأعمال برحمته، وجعلها سبباً إلى دخول جنته، ولو شاء لكان
256
غير ذلك فقال: ﴿فلا تعلم نفس﴾ أي من جميع النفوس مقربة ولا غيرها ﴿ما أخفي لهم﴾ أي لهؤلاء المتذكرين من العالم بمفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم بالصلاة في جوف الليل وغير ذلك ولا يراؤون بها، ولعله بني للمفعول في قراءة الجماعة تعظيماً له بذهاب الفكر في المخفي كل مذهب أو للعلم بأنه الله تعالى الذي أخفوا نوافل أعمالهم لأجله، وسكن حمزة الياء على أنه للمتكلم سبحانه لفتاً لأسلوب العظمة إلى أسلوب الملاطفة، والسر مناسبته لحال الأعمال.
ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال: ﴿من قرة أعين﴾ أي من شيء نفيس سارّ تقر به أعينهم لأجل ما أقلعوها عن قرارها بالنوم؛ ثم صرح بما أفهمته فاء السبب فقال: ﴿جزاء﴾ أي أخفاها لهم لجزائهم ﴿بما كانوا﴾ أي بما هو لهم كالجبلة ﴿يعملون *﴾ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم ﴿افلا تعلم نفس﴾ - الآية.
257
ولما كانوا أهل بلاغة ولسن، وبراعة: وجدل، فكان ربما قال متعنتهم: ما له إذا كان ما تزعمون من أنه لا يبالي بشيء ولا ينقص من خزائنه شيء وهو العزيز الرحيم، لا يسوي بين الكل في إدخال الجنة، والمن بالنعيم فيعمهم بالرحمة الظاهرة كما عمهم بها في الدينا كما هو دأب المحسنين؟ تسبب عن ذلك أن قال منكراً لذلك مشيراً إلى أن المانع منه خروجه عن الحكمة، فإن تلك دار الجزاء، وهذه دار العمل، فبينهما بون: ﴿أفمن كان﴾ أي كوناً كأنه من رسوخه جبلي ﴿مؤمناً﴾ أي راسخاً في التصديق العظيم بجميع ما أخبرت به الرسل ﴿كمن كان﴾ ولما كان السياق منسوقاً على دليل ﴿مالكم من دونه من ولي ولا شفيع﴾ - الآية، فكان الكافر خارجاً عن محيط ذلك الدليل الذي لا يخفي بوجه على أحد له سمع وبصر وفؤاد، اقتضى الحال التعبير بالفسق الذي هو الخروج عن محيط فقال: ﴿فاسقاً﴾ أي راسخاً في الفسق خارجاً عن دائرة الإذعان.
ولما توجه الاستفهام إلى كل من اتصف بهذا الصف، وكان الاستفهام إنكارياً، عبر عن معناه مصرحاً بقوله: ﴿لا يستوون﴾ إشارة - بالحمل على لفظ «من» مرة ومعناها أخرى - إلى أنه لا يستوي جمع من هؤلاء يجمع من أولئك ولا فرد بفرد.
258
ولما نفى استواءهم، أتبعه حال كل على سبيل التفصيل معبراً بالجمع لأن الحكم بإرضائه وإسخاطه بفهم الحكم على الواحد منه من باب الأولى فقال: ﴿أما الذين آمنوا وعملوا﴾ أي تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات فلهم جنات المأوى﴾ أي الجنات المختصة دون الدنيا التي هي دار ممر، دون النار التي هي دار مفر لا مقر، بتأهلها للمأوى الكامل في هذا الوصف بما أشار إليه ب «ال» ثابتون فيها لا يبغون عنها حولاً، كما تبؤوا الإيمان الذي هو أهل للإقامة فلم يبغوا به بدلاً ﴿نزلاً﴾ أي عداداً لهم أول قدومهم في قول الحسن وعطاء، وهو أوفق للمقام كما يعد للضيف على ما لاح ﴿بما كانوا﴾ جبلة وطبعاً ﴿يعملون *﴾ دائماً على وجه التجديد، فإن أعمالهم من رحمة ربهم، فإذا كانت هذه الجنات نزلاً فما ظنك بما بعد ذلك! وهو لعمري ما أشار إليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وهم كل لحظة في زيادة لأن قدرة الله لا نهاية لها، فإياك أن يخدعك خادع أو يغرك ملحد ﴿وأما الذين فسقوا﴾ أي خرجوا عن دائرة الإيمان الذي هو معدن التواضع وأهل للمصاحبة والملازمة ﴿فمأواهم النار﴾ أي التي لا صلاحية فيها للإيواء بوجه
259
من الوجوه أصلاً.
ولما كان السامع جديراً بالعلم بأنهم مجتهدون في الخلاص منها، قال مستأنفاً لشرح حالهم: ﴿كلما أرادوا﴾ أي وهم مجتهدون فكيف إذا أراد بعضهم ﴿أن يخرجوا منها﴾ وهذا يدل على أنه يزاد في عذابهم بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون بفسوقهم من محيط الأدلة من دائرة الطاعات إلى بيداء المعاصي والزلات، فيعالجون الخروج فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها ﴿أعيدوا﴾ بأيسر أمر وأسهله من أيّ من أمر بذلك ﴿فيها﴾ إلى المكان الذي كانوا فيه أولاً، ولا يزال هذا دأبهم أبداً ﴿وقيل﴾ أي من أيّ قائل وكل بهم ﴿لهم﴾ أي عند الإعادة إهانة له: ﴿ذوقوا عذاب النار﴾.
ولما وصف عذابهم في النار كان أحق بالوصف عند بيان سبب الإهانة بالأمر بالذوق مع أنه أحق من حيث كونه مضافاً محدثاً عنه فقال: ﴿الذي كنتم﴾ أي كوناً هو لكم كالجبلات، وأشار إلى أن تكذيبهم به يتلاشى عنده كل تكذيب، فكأنه مختص فقال: ﴿به تكذبون *﴾ فإن الإعادة بعد معالجة الخروج أمكن في التصديق باعتبار التجدد في كل آن.
260
ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان في هذه الدار، لأن نفوس البشر مطبوعة على العجلة، بشرهم بذلك على وجه يشمل عذاب القبر، فقال مؤكداً له لما عندهم من الإنكار لعذاب ما بعد الموت وللإصابة في الدنيا بما هم من الكثرة والقوة: ﴿ولنذيقنهم﴾ أي أجمعين بالمباشرة والتسبيب، بما لنا من العظمة التي تتلاشى عندها كثرتهم وقوتهم ﴿من العذاب الأدنى﴾ أي قبل يوم القيامة، بأيديكم وغيرها، وقد صدق الله قوله، وقد كانوا عند نزول هذه السورة بمكة المشرفة في غاية الكثرة والنعمة، فأذاقهم الجدب سنين متوالية، وفرق شملهم وقتلهم وأسرهم بأيدي المؤمنين إلى غير ذلك بما أراد سبحانه؛ ثم أكد الإرادة لما قبل الآخرة وحققها بقوله، معبراً بما يصلح للغيرية والسفول: ﴿دون العذاب الأكبر﴾ أي الذي مر ذكره في الآخرة ﴿لعلهم يرجعون*﴾ أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن فسقه عند من ينظره، وقد كان ذلك، رجع كثير منهم خوفاً من السيف، فلما رأوا محاسن الإسلام كانوا من أشد الناس فيه رغبة وله حباً.
261
ولما كان التقدير: يرجعون عن ظلمهم فإنهم ظالمون، عطف عليه قوله: ﴿ومن أظلم﴾ منهم هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي صاروا أظلم فقال: ﴿ممن ذكر﴾ أي من أيّ مذكر كان وصرف القول إلى صفة الإحسان استعطافاً وتنبيهاً على وجوب الشكر فقال: ﴿بآيات ربه﴾ أي الذي لا نعمة عنده إلا منه.
ولما بلغت هذه الآيات من الوضوح أقصى الغايات، فكان الإعراض عنها مستبعداً بعده، عبر عنه بأداة البعد لذلك فقال: ﴿ثم أعرض عنها﴾ ضد ما عمله الذين لم يتمالكوا أن خروا سجداً، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون «ثم» على بابها للتراخي، ليكون المعنى أن من وقع له التذكير بها في وقت ما، فأخذ يتأمل فيها ثم أعرض عنها بعد ذلك ولو بألف عام فهو أظلم الظالمين، ويدخل فيه ما دون ذلك عن باب الأولى لأنه أجدر بعدم النسيان، فهي أبلغ من التعبير بالفاء كما في سورة الكهف، ويكون عدل إلى الفاء هناك شرحاً لما يكون من حالهم، عند بيان سؤالهم، الذي جعلوا بأنه آية الصدق، والعجز عن آية الكذب.
ولما كان الحال مقتضياً للسؤال عن جزائهم، وكان قد فرد الضمير باعتبار لفظ «من» تنبيهاً على قباحة الظلم من كل فرد،
262
قال جامعاً لأن إهانة الجمع دالة على إهانة الواحد من باب الأولى، مؤكداً لإن إقدامهم على التكذيب كالإنكار لأن تجاوزوا عليه، صارفاً وجه الكلام عن صفة الإحسان إيذاناً بالغضب: ﴿إنا﴾ منهم، هكذا كان الأصلي، ولكنه أظهر الوصف نصفاً في التعميم وتعليقاً للحكم به معيناً لنوع ظلمهم تبشيعاً له فقال: ﴿من المجرمين﴾ أي القاطعين لما يستحق الوصل خاصة ﴿منتقمون﴾ وعبر بصيغة العظمة تنبيهاً على أن الذي يحصل لهم من العذاب لا يدخل تحت الوصف على جرد العداد في الظالمين، فكيف وقد كانوا أظلم الظالمين؟ والجملة الاسمية تدل على دوام ذلك عليهم في الدنيا إما باطناً بالاستدراج بالنعم، وإما ظاهراً بإحلال النقم، وفي الآخرة بدوام العذاب على مر الآباد.
ولما كان مقصود السورة نفي الريب عن تنزيل هذا الكتاب المبين في أنه من عند رب العالمين، ودل على أن الإعراض عنه إنما هو ظلم وعناد بما ختمه بالتهديد على الإعراض عن الآيات بالانتقام، وكان قد انتقم سبحانه ممن استخف بموسى عليه السلام قبل إنزال الكتاب عليه وبعد إنزاله، وكان أول من أنزل عليه كتاب
263
من بني إسرائيل بعد فترة كبيرة من الأنبياء بينه وبين يوسف عليهما السلام وآمن به جميعهم وألفهم الله به وأنقذهم من أسر القبط على يده، ذكر بحالة تسلية وتأسية لمن أقبل وتهديداً لمن أعرض، وبشارة بإيمان العرب كلهم وتأليفهم به وخلاص أهل اليمن منهم من أسر الفرس بسببه، فقال مؤكداً تنبيهاً لمن يظن أن العظيم لا يرد شيء من أمره: ﴿ولقد آتينا﴾ على ما لنا من العظمة ﴿موسى الكتاب﴾ أي الجامع للأحكام وهو التوارة.
ولما كان ذلك مما لا ريب فيه أيضاً، وكان قومه قد تركوا اتباع كثير منه لا سيما فيما قصَّ من صفات نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيما أمر فيه باتباعه، وكان هذا إعراضاً منهم مثل إعراض الشاك في الشيء، وكانوا في زمن موسى عليه السلام أيضاً يخالفون أوامره وقتاً بعد وقت وحيناً إثر حين، تسبب عن الإيتاء المذكور قوله تعريضاً بهم وإعلاماً بأن العظيم قد يرد رد بعض أوامره لحكمة دبرها: ﴿فلا تكن﴾ أي كوناً راسخاً - بما أشار إليه فعل الكون وإثبات نونه،
264
فيفهم العفو عن حديث النفس الواقع من الأمة على ما بينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿في مرية﴾ أي شك ﴿من لقائه﴾ أي لا تفعل في ذلك فعل الشاك في لقاء موسى عليه السلام للكتاب منا وتلقيه له بالرضا والقبول والتسليم، كما فعل المدعون لاتباعه والعمل بكتابه في الإعراض عما دعاهم إليه من دين الإسلام، أو لا تفعل فعل الشاك في لقائك الكتاب منا وإن نسبوك إلى الإفتراء وإن تأخر بعض ما يخبر به فسيكون هدى لمن بقي منهم، وعذاباً للماضين، ولا يبقى خبر ما أخبر به أنه كائن إلا كان طبق ما أخبر به، فإنك لتلقاه من لدن حكيم عليم، وقد صبر موسى عليه السلام في تلقي كتابه ودعائه حتى مات على أحسن الأحوال، أو يكون المعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف عليه فيه فما شك أحد من الثابتين في إيتائنا إياه الكتاب لأجل إعراض من أعرض، ولا زلزلة أدبار من أدبر، وانتقمنا ممن أعرض عنه فلا يكن أحد ممن آمن بك في شك من إيتائنا الكتاب لك لإعراض من أعرض، فسنهلك من حكمنا بشقائه انتقاماً منه، ونسعد الباقين به.
ولما أشار إلى إعراضهم عنه وإعراض العرب عن كتابهم، ذكر أن الكل فعلوا بذلك الضلال ضد ما أنزل له الكتاب، فقال ممتناً على
265
بني إسرائيل ومبشراً للعرب: ﴿وجعلناه﴾ أي كتاب موسى عليه السلام جعلاً يليق بعظمتنا ﴿هدى﴾ أي بياناً عظيماً ﴿لبني إسرائيل﴾ وأشار إلى اختلافهم فيه بقوله: ﴿وجعلنا منهم﴾ أي من أنبيائهم وأحبارهم بعظمتنا، مع ما في طبع الإنسان من اتباع الهوى ﴿أئمة يهدون﴾ أي يوقعون البيان ويعملون على حسبه ﴿بأمرنا﴾ أي بما أنزلنا فيه من الأوامر؛ ثم ذكر علة جعله ذلك لهم بقوله: ﴿لما صبروا﴾ أي بسبب صبرهم ولأجله - على قراءة حمزة والكسائي بالكسر والتخفيف - أو حين صبرهم على قبول أوامرنا على قراءة الباقين بالفتح والتشديد، وإن كان الصبر أيضاً إنما هو بتوفيق الله لهم ﴿وكانوا بآياتنا﴾ لما لها من العظمة ﴿يوقنون *﴾ لا يرتابون في شيء منها ولا يفعلون فعل الشاك فيه الإعراض، وكان ذلك لهم جبلة جبلناهم عليها.
266
ولما أفهم قوله «منهم» أنه كان منهم من يضل عن أمر الله ويصد عنه، جاء قوله تسلية للمؤمنين وتوعداً للكافرين، استئنافاً مؤكداً تنبيهاً لمن يظن أنه لا بعث، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى ما يظهر من شرفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك اليوم من المقام المحمود وغيره: ﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك بإرسالك ليعظم
266
ثوابك ويعلي ما بك ﴿هو﴾ أي وحده ﴿يفصل بينهم﴾ أي من الهادين والمضلين والضالين ﴿يوم القيامة﴾ بالقضاء الحق، فيعلى أمر المظلوم ويردي كيد الظالم ﴿فيما كانوا﴾ جبلة، طبعاً ﴿فيه﴾ أي خاصة ﴿يختلفون*﴾ أي يجددون الاختلاف فيه على سبيل الاستمرار حسب ما طبعوا عيله، لا يخفى عليه شيء منه، وأما غير ما اختلفوا فيه فالحكم فيه لهم أو عليهم لا بينهم، وما اختلفوا فيه لا على وجه القصد فيقع في محل العفو.
ولما كان قد تقدم عن الكفار في هذه السورة قولان: أحدهما في التكذيب بالقرآن، والثاني في إنكار البعث، ودل سبحانه على فسادهما إلى أن ختم بذكر الآيات والبعث والفصل بين المحق والمبطل، أتبعه استفهامين إنكاريين منشورين على القولين وختمت آية كل منهما بآخر، فتصير الاستفهامات أربعة، وفي مدخول الأول الفصل بين الفريقين في الدنيا، فقال مهدداً: ﴿أو لم﴾ أي أيقولون عناداً لرسولنا: أفتراه ولم ﴿يهد﴾ أي يبين - كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿لهم كم أهلكنا﴾ أي كثرة من أهلكناه.
267
ولما كان قرب شيء في الزمان أو المكان أدل، بين قربهم بإدخال الجار فقال: ﴿من قبلهم﴾ أي لأجل معاندة الرسل ﴿من القرون﴾ الماضين من المعرضين عن الآيات، ونجينا من آمن بها، وربما كان قرب المكان منزلاً قرب الزمان لكثرة التذكير بالآثار، والتردد خلال الديار.
ولما كان انهماكهم في الدنيا الزائلة قد شغلهم عن التفكر فيما ينفعهم عن المواعظ بالأفعال والأقوال، أشار إلى ذلك بتصوير اطلاعهم على ما لهم من الأحوال، بقوله: ﴿يمشون﴾ أي أنهم ليسوا بأهل للتفكر إلا حال المشي ﴿في مساكنهم﴾ لشدة ارتباطهم مع المحسوسات، وذلك كمساكن عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم. ولما كان في هذا أتم عبرة وأعظم عظة، قال منبهاً عليه مؤكداً تنبيهاً على أن من لم يعتبر منكر لما فيه من العبر: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم ﴿لآيات﴾ أي دلالات ظاهرات جداً، مرئيات في الديار وغيرها من الآثار، ومسموعات في الأخبار.
ولما كان السماع هو الركن الأعظم، وكان إهلاك القرون إنما وصل إليهم بالسماع، قال منكراً: ﴿أفلا يسمعون *﴾ أي إن أحوالهم لا يحتاج من ذكرت له في الرجوع عن الغيّ إلى غير سماعها،
268
فإن لم يرجع فهو ممن لا سمع له ﴿أو لم﴾ أي أيقولون في إنكار البعث: إذا ضللنا في الأرض، ولم ﴿يروا أنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿نسوق الماء﴾ من السماء أو الأرض ﴿إلى الأرض الجرز﴾ أي التي جرز نباتها أي قطع باليبس والتهشم، أي بأيدي الناس فصارت ملساء لا نبت فيها، وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنها التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً، قالوا: ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ: جزر، ويدل عليه قوله: ﴿فنخرج به﴾ من أعماق الأرض ﴿زرعاً﴾ أي نبتاً لا ساق له باختلاط الماء بالتراب الذي كان زرعاً قبل هذا، وأشار إلى أنه حقيقة، لا مرية فيه، وليس هو بتخييل كما تفعل السحرة، بقوله مذكراً بنعمة الإبقاء بعد الإيجاد: ﴿تأكل منه﴾ أي من حبه وورقه وتبنه وحشيشه ﴿أنعامهم﴾ وقدمها لموقع الامتنان بها لأن بها قوامهم في معايشهم وأبدانهم، ولأن السياق لمطلق إخراج الرزع، وأول صلاحه إنما هو لأكل الأنعام بخلاف ما في سورة عبس، فإن السياق لطعام الإنسان الذي هو نهاية الزرع حيث قال:
﴿فلينظر الإنسان إلى طعامه﴾ [عبس: ٢٤] ثم قال ﴿فأنبتنا فيها حباً﴾ [عبس: ٢٧] وذكر من طعامه من العنب وغيره ما لا يصلح
269
للأنعام ﴿وأنفسهم﴾ أي من حبه، وأصله إذا كان بقلاً.
ولما كانت هذه الآية مبصرة، وكانت في وضوحها في الدلالة على البعث لا يحتاج الجاهل به في الإقرار سوى رؤيتها قل: ﴿أفلا يبصرون﴾ إشارة إلى أن من رآها وتبه على ما فيها من الدلالة وأصر على الإنكار لا بصر له ولا بصيرة.
270
ولما كانت هذه الآية أدل دليل - كما مضى - على البعث، وكان يوماً يظهر فيه عز الأولياء وذل الأعداء، أتبعها قوله تعجيباً منهم عطفاً على «يقولون أفتراه» ونحوها: ﴿ويقولون﴾ أي مع هذا البيان الذي لا لبس معه استهزاء: ﴿متى هذا الفتح﴾ أي النصر والقضاء والفصل الذي يفتح المنغلق يوم الحشر ﴿إن كنتم﴾ أي كوناً راسخاً ﴿صادقين﴾ أي عريقين في الصدق بالإخبار بأنه لا بد من كونه لنؤمن إذا رأيناه.
ولما أسفر حالهم بهذا السؤال الذي محصله الاستعجال على وجه الاستهزاء عن أنهم لا يزدادون مع البيان إلا عناداً، أمرهم بجواب فيه أبلغ تهديد، فقال فاعلاً فعل القادر في الإعراض عن إجابتهم عن تعيين اليوم إلى ذكر حاله: ﴿قل﴾ أي لهؤلاء اللد الجهلة: ﴿يوم الفتح﴾ أي الذي يستهزئون به، وهو يوم القيامة - تبادرون إلى الإيمان بعد الانسلاخ مما أنتم فيه من الشماخة والكبر، فلا ينفعكم بعد العيان
270
وهو معنى ﴿لا﴾ ينفعكم - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال: ﴿ينفع الذين كفروا﴾ أي غطوا آيات ربهم التي لا خفاء بها سواء في ذلك أنتم وغيركم ممن اتصف بهذا الوصف ﴿إيمانهم﴾ لأنه ليس إيماناً بالغيب، ولكنه ساقه هكذا سوق ما هو معلوم ﴿ولا هم ينظرون *﴾ أي يمهلون في إيقاع العذاب بهم لحظة ما من منظر ما.
ولما كانت نتيجة سماعهم لهذه الأدلة استهزاءهم حتى بسؤالهم عن يوم الفتح، وأجابهم سبحانه عن تعيينه بذكر حاله، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشدة حرصه على نفعهم ربما أحب إعلامهم بما طلبوا وإن كان يعلم أن ذلك منهم استهزاء رجاء أن ينفعهم نفعاً ما، سبب سبحانه عن إعراضه عن إجابتهم، أمره لهذا الداعي الرفيق والهادي الشفيق بالإعراض عنهم أيضاً، فقال مسلياً له مهدداً لهم: ﴿فأعرض عنهم﴾ أي غير مبال بهم وإن اشتد أذاهم ﴿وانتظر﴾ أي ما نفعل بهم مما فيه إظهار أمرك وإعلاء دينك، ولما كان الحال مقتضياً لتردد السامع في حالهم هل هو الانتظار، أجيب على سبيل التأكيد بقوله: ﴿إنهم منتظرون *﴾ أي ما يفعل بك وما يكون من عاقبة أمرك فيما تتوعدهم به وفي غيره، وقد انطبق آخرها على أولها بالإنذار بهذا
271
الكتاب، وأعلم بجلالته وجزالته وشدته وشجاعته أنه ليس فيه نوع ارتياب، وأيضاً فأولها في التذكيب بتنزيله، وآخرها في الاستهزاء بتأويله، ﴿يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل﴾ [الأعراف: ٥٣]- الآية، وأيضاً فالأول في التكذيب بإنزال الروح المعنوي، والآخر في التكذيب بإعادة الروح العيني الحسي الذي ابتدأه أول مرة والله الهادي إلى الصواب.
272
مقصودها الحث على الصدق في الإخلاص في التوجه إلى الخالق من غير مراعاة بوجه ما للخلائق، لأنه عليم بما يصلحهم، حكيم فيما يفعله فهو يعلي من يشاء وإن كان ضعيفا، ويردي من يريد وإن كان قويا، فلا يهتمن الماضي لأمره برجاء لأحد منهم في بره ولا خوف منه في عظيم شره وخفي مكره، واسمها واضح في ذلك بتأمل القصة التي أشار إليها ودل عليها) بسم الله (الذي مهما أراد كان) الرحمن (الذي سرت رحمته خلال الوجود، فشملت كل موجود، بالكرم والجود) الرحيم (لمن توكل عليه بالعطف إليه.
لما ختمت التي قبلها بالإعراض عن الكافرين، وانتظار ما يحكم به فيهم رب العالمين، بعد تحقيق أن تنزيل الكتاب من عند المدبر لهذا الخلق كله، والنهي عن الشك في لقائهع، افتتح هذه بالأمر بأسا ذلك، والنهي عن طاعة المخالفين مجاهرين كانوا أو متساترين، والأمر بإتباع الوحي الذي أعظمه الكتاب تنبيها على أن الإعراض إنما يكون
273
طاعة لله مع مراعاة تقواه
274
Icon