تفسير سورة سبأ

تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ
تفسير سُورة سَبأ
وهي مكية.

تَفْسِيرُ سُورة سَبأ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ لَهُ الحمدَ الْمُطْلَقَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الْمَالِكُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، الْحَاكِمُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [الْقَصَصِ: ٧٠] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ أَيِ: الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَتَصَرُّفِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى﴾ [اللَّيْلِ: ١٣].
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ﴾، فَهُوَ الْمَعْبُودُ (١) أَبَدًا، الْمَحْمُودُ عَلَى طُولِ الْمَدَى. وَقَالَ: ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ أَيْ: فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وقَدَره، ﴿الْخَبِيرُ﴾ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: خَبِيرٌ بِخَلْقِهِ، حَكِيمٌ بِأَمْرِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ أَيْ: يَعْلَمُ عَدَدَ الْقَطْرِ النَّازِلِ فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَالْحَبِّ الْمَبْذُورِ وَالْكَامِنِ فِيهَا، وَيَعْلَمُ مَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ: عَدَدُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ وَصِفَاتُهُ، ﴿وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ أَيْ: مِنْ قَطْرٍ وَرِزْقٍ، ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ﴿وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾ أَيِ: الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ فَلَا يُعَاجِلُ عُصاتهم بِالْعُقُوبَةِ، الْغَفُورُ (٢) عَنْ ذُنُوبِ [عِبَادِهِ] (٣) التَّائِبِينَ إِلَيْهِ الْمُتَوَكِّلِينَ عليه.
(١) في أ: "المحمود".
(٢) في ت: "العفو".
(٣) زيادة من أ.
﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ أي : يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض، والحب المبذور والكامن فيها، ويعلم ما يخرج من ذلك : عدده وكيفيته وصفاته، ﴿ وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ أي : من قطر ورزق، ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ أي : من الأعمال الصالحة وغير ذلك، ﴿ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾ أي : الرحيم بعباده فلا يعاجل عُصاتهم بالعقوبة، الغفور١ عن ذنوب [ عباده ]٢ التائبين إليه المتوكلين عليه.
١ - في ت: "العفو"..
٢ - زيادة من أ..
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) ﴾.
هَذِهِ إِحْدَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي لَا رَابِعَ لَهُنَّ، مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ رسولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْسِمَ بِرَبِّهِ الْعَظِيمِ عَلَى وُقُوعِ الْمَعَادِ لَمَّا أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، فَإِحْدَاهُنَّ فِي سُورَةِ يُونُسَ: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [يُونُسَ: ٥٣]، وَالثَّانِيَةُ هَذِهِ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾، وَالثَّالِثَةُ فِي التَّغَابُنِ: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [التَّغَابُنِ: ٧]، فَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ (١)، ثُمَّ وَصَفَهُ بِمَا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ وَيُقَرِّرُهُ: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ﴾ لَا يَغِيبُ عَنْهُ، أَيِ: الْجَمِيعُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عِلْمِهِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَالْعِظَامُ وَإِنْ تَلَاشَتْ وَتَفَرَّقَتْ وَتَمَزَّقَتْ، فَهُوَ عَالِمٌ أَيْنَ ذَهَبَتْ وَأَيْنَ (٢) تَفَرَّقَتْ، ثُمَّ يُعِيدُهَا كَمَا بَدَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
ثُمَّ بَيَّنَ حِكْمَتَهُ فِي إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ أَيْ: سَعَوْا فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾ أَيْ: لِيُنَعِّمَ السُّعَدَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُعَذِّبَ الْأَشْقِيَاءَ مِنَ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الْحَشْرِ: ٢٠]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: ٢٨].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَرَى (٣) الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ﴾. هَذِهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى الرُّسُلِ إِذَا شَاهَدُوا قِيَامَ السَّاعَةِ وَمُجَازَاةَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ بِالَّذِي كَانُوا قَدْ عُلِّمُوهُ مَنْ كُتُبِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا رَأَوْهُ حِينَئِذٍ عَيْنَ الْيَقِينِ، وَيَقُولُونَ يَوْمَئِذٍ أَيْضًا: ﴿لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الْأَعْرَافُ: ٤٣]، وَيُقَالُ أَيْضًا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس: ٥٢]، ﴿لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ﴾ [الرُّومِ: ٥٦]، ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾. الْعَزِيزُ هُوَ: الْمَنِيعُ الْجَنَابِ (٤)، الَّذِي لَا يُغالب وَلَا يُمَانع، بَلْ قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، الْحَمِيدُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ، وَقَدَرِهِ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ في ذلك كله.
(١) في ت: "ليأتينكم".
(٢) في أ: "وإن".
(٣) في س: "وترى".
(٤) في أ: "الجبار".
ثم بين حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة بقوله :﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾
﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ أي : سعوا في الصد عن سبيل الله وتكذيب رسله، ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ أي : لينعم السعداء من المؤمنين، ويعذب الأشقياء من الكافرين، كما قال :﴿ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [ الحشر : ٢٠ ]، وقال تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ ص : ٢٨ ].
وقوله :﴿ وَيَرَى١ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ﴾. هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها، وهي أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله في الدنيا رأوه حينئذ عين اليقين، ويقولون يومئذ أيضًا :﴿ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ]، ويقال أيضًا :﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [ يس : ٥٢ ]، ﴿ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ﴾ [ الروم : ٥٦ ]، ﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾. العزيز هو : المنيع الجناب٢، الذي لا يُغالب ولا يُمَانع، بل قد قهر كل شيء، الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه، وقدره، وهو المحمود في ذلك كله.
١ - في س: "وترى"..
٢ - في أ: "الجبار"..
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) ﴾
﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) ﴾.
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ اسْتِبْعَادِ الْكَفَرَةِ الْمُلْحِدِينَ قيامَ السَّاعَةِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِخْبَارِهِ بِذَلِكَ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ أَيْ: تَفَرَّقَتْ (١) أَجْسَادُكُمْ فِي الْأَرْضِ وَذَهَبَتْ فِيهَا كُلَّ مَذْهَبٍ وَتَمَزَّقَتْ كُلَّ مُمَزَّقٍ: ﴿إِنَّكُمْ﴾ أَيْ: بَعْدَ هَذَا الْحَالِ ﴿لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أَيْ: تَعُودُونَ أَحْيَاءً تُرْزَقُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ لَا يَخْلُو أَمْرُهُ مِنْ قِسْمَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَمَّدَ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ لَكِنْ لُبّس عَلَيْهِ كَمَا يُلَبَّس عَلَى الْمَعْتُوهِ وَالْمَجْنُونِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ: ﴿بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ﴾ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا وَلَا كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، بَلْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ الَّذِي جَاءَ بِالْحَقِّ، وَهُمُ الْكِذْبَةُ الْجَهَلَةُ الْأَغْبِيَاءُ، ﴿فِي الْعَذَابِ﴾ أَيْ: [فِي] (٢) الْكُفْرِ الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ، ﴿وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ﴾ مِنَ (٣) الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا.
ثُمَّ قَالَ منبهًا لهم على قدرته في خلق السموات وَالْأَرْضِ، فَقَالَ: ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ﴾ أَيْ: حَيْثُمَا (٤) تَوَجَّهُوا وَذَهَبُوا فَالسَّمَاءُ مِظَلَّةٌ مُظلَّلة عَلَيْهِمْ، وَالْأَرْضُ تَحْتَهُمْ، كَمَا قَالَ: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ [الذَّارِيَاتِ: ٤٧، ٤٨].
قَالَ (٥) عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ﴾ ؟ قَالَ: إِنَّكَ إِنْ نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ أَوْ عَنْ شِمَالِكَ، أَوْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ أَوْ مَنْ خَلْفِكَ، رَأَيْتَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ أَيْ: لَوْ شِئْنَا لَفَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ لِظُلْمِهِمْ وَقُدْرَتِنَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ نُؤَخِّرُ ذَلِكَ لِحِلْمِنَا وَعَفْوِنَا.
ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ قَالَ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿مُنِيبٍ﴾ : تَائِبٌ.
وَقَالَ سُفْيَانُ (٦) عَنْ قَتَادَةَ: الْمُنِيبُ: الْمُقْبِلُ إِلَى (٧) اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أَيْ: إِنَّ فِي النَّظَرِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَدَلَالَةٌ لِكُلِّ عَبْدٍ فَطِن لَبِيبٍ رَجَّاع إِلَى اللَّهِ، عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ وَوُقُوعِ الْمَعَادِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ السَّمَوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا (٨) وَاتِّسَاعِهَا، وَهَذِهِ الْأَرْضِينَ فِي انْخِفَاضِهَا وَأَطْوَالِهَا وَأَعْرَاضِهَا، إِنَّهُ لَقَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ وَنَشْرِ الرَّمِيمِ مِنَ الْعِظَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ (٩) بَلَى﴾ [يس: ٨١]، وقال: ﴿لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: ٥٧].
(١) في ت: "فرقت".
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في أ: "عن".
(٤) في ت، س: "حيث".
(٥) في ت: "روى".
(٦) في أ: "شيبان".
(٧) في ت، أ: "على".
(٨) في ت، س: "وارتفاعها".
(٩) في ت، س، أ: "على أن يحيي الموتى" والصواب ما أثبتناه.
ثم قال منبهًا لهم على قدرته في خلق السموات والأرض، فقال :﴿ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ﴾ أي : حيثما١ توجهوا وذهبوا فالسماء مظلة مُظلَّلة عليهم، والأرض تحتهم، كما قال :﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٧، ٤٨ ].
قال٢ عبد بن حميد : أخبرنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة :﴿ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ﴾ ؟ قال : إنك إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك، أو من بين يديك أو من خلفك، رأيت السماء والأرض.
وقوله :﴿ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ﴾ أي : لو شئنا لفعلنا بهم ذلك لظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخر ذلك لحلمنا وعفونا.
ثم قال :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ قال مَعْمَر، عن قتادة :﴿ مُنِيبٍ ﴾ : تائب.
وقال سفيان٣ عن قتادة : المنيب : المقبل إلى٤ الله عز وجل.
أي : إن في النظر إلى خلق السماء والأرض لدلالة لكل عبد فَطِن لبيب رَجَّاع إلى الله، على قدرة الله على بعث الأجساد ووقوع المعاد ؛ لأن مَنْ قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها٥ واتساعها، وهذه الأرضين في انخفاضها وأطوالها وأعراضها، إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام، كما قال تعالى :﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ٦ بَلَى ﴾ [ يس : ٨١ ]، وقال :﴿ لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [ غافر : ٥٧ ].
١ - في ت، س: "حيث"..
٢ - في ت: "روى"..
٣ - في أ: "شيبان"..
٤ - في ت، أ: "على"..
٥ - في ت، س: "وارتفاعها"..
٦ - في ت، س، أ: "على أن يحيي الموتى" والصواب ما أثبتناه..
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ دَاوُدَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، مِمَّا آتَاهُ مِنَ الْفَضْلِ الْمُبِينِ، وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ الْمُتَمَكِّنِ، وَالْجُنُودِ ذَوِي العَدَد والعُدَد، وَمَا أَعْطَاهُ وَمَنَحَهُ مِنَ الصَّوْتِ الْعَظِيمِ، الَّذِي كَانَ إِذَا سَبَحَ بِهِ تَسْبَحُ مَعَهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، الصُّمُّ الشَّامِخَاتُ، وَتَقِفُ لَهُ الطُّيُورُ السَّارِحَاتُ، وَالْغَادِيَاتُ وَالرَّائِحَاتُ، وَتُجَاوِبُهُ بِأَنْوَاعِ اللُّغَاتِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ صَوْتَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ، فَوَقَفَ فَاسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ (١)، ثُمَّ قَالَ " لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ".
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: مَا سَمِعْتُ صَوْتَ صَنج وَلَا بَرْبَط وَلَا وَتَر أَحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (٢)
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿أَوِّبِي﴾ أَيْ: سَبِّحِي. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَزَعَمَ أَبُو (٣) مَيْسَرَةَ أَنَّهُ بِمَعْنَى سَبّحي بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّ التَّأْوِيبَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّرْجِيعُ، فَأُمِرَتِ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ أَنْ تُرَجِّعَ مَعَهُ بِأَصْوَاتِهَا.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِيُّ فِي كِتَابِهِ "الجُمل" فِي بَابِ النِّدَاءِ مِنْهُ: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ أَيْ: سَيْرِي مَعَهُ بِالنَّهَارِ كُلِّهِ، وَالتَّأْوِيبُ: سَيْرُ النَّهَارِ كُلِّهِ، وَالْإِسْآدُ (٤) : سَيْرُ اللَّيْلِ كُلِّهِ. وَهَذَا لَفْظُهُ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا لَمْ أَجِدْهُ (٥) لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مُسَاعَدَةٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هَاهُنَا. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوِّبِي مَعَهُ﴾ أَيْ: رَجّعي مَعَهُ مُسَبّحة مَعَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ : قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُمْ: كَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُدخلَه نَارًا وَلَا يَضْرِبَهُ بِمِطْرَقَةٍ، بَلْ كَانَ يَفْتِلُهُ بِيَدِهِ مِثْلَ الْخُيُوطِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ وَهِيَ: الدُّرُوعُ. قَالَ قَتَادَةُ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا مِنَ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ صَفَائِحُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا ابْنُ سَمَاعة، حَدَّثَنَا ابْنُ ضَمْرَة (٦)، عَنِ ابْنِ شَوْذَب قَالَ: كَانَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَرْفَعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْعًا فَيَبِيعُهَا بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ: أَلْفَيْنِ لَهُ وَلِأَهْلِهِ، وَأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يُطْعِمُ بِهَا بَنِي إسرائيل خبز الحُوّاري.
(١) في ت: "فاستمع رسول الله لقراءته".
(٢) سبق تخريج الحديث والأثر في فضائل القرآن.
(٣) في أ: "ابن".
(٤) في أ: "والآباد".
(٥) في أ: "لم أر"، وفي ت: "لم أره".
(٦) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ ﴾وهي : الدروع. قال قتادة : وهو أول من عملها من الخلق، وإنما كانت قبل ذلك صفائح.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين، حدثنا ابن سَمَاعة، حدثنا ابن ضَمْرَة١، عن ابن شَوْذَب قال : كان داود، عليه السلام، يرفع في كل يوم درعًا فيبيعها بستة آلاف درهم : ألفين له ولأهله، وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحُوّاري.
﴿ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ : هذا إرشاد من الله لنبيه داود، عليه السلام، في تعليمه صنعة الدروع.
قال مجاهد في قوله :﴿ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ : لا تُدِقّ المسمار فَيقلَق في الحلقة، ولا تُغَلّظه فيفصمها، واجعله بقدر.
وقال الحكم بن عُتيبة٢ : لا تُغَلظه فيفصم، ولا تُدِقّه فيقلَق٣. وهكذا روي عن قتادة، وغير واحد.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : السرد : حَلَق٤ الحديد. وقال بعضهم : يقال : درع مسرودة : إذا كانت مسمورة الحلق، واستشهد بقول الشاعر :٥
وَعَليهما مَسْرُودَتَان قَضَاهُما دَاودُ أو صنعَ السَّوابغ تُبّعُ
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود، عليه والسلام، ٦ من طريق إسحاق بن بشر - وفيه كلام - عن أبي إلياس، عن وهب بن مُنَبه ما مضمونه : أن داود، عليه السلام، كان يخرج متنكرًا، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته، فلا يسأل أحدًا إلا أثنى عليه خيرًا في عبادته وسيرته ومعدلته، صلوات الله وسلامه عليه. قال وهب : حتى بعث الله مَلَكًا في صورة رجل، فلقيه داود فسأله كما كان يسأل غيره، فقال : هو خير الناس لنفسه ولأمته، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملا قال : ما هي ؟ قال : يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين، يعني : بيت المال، فعند ذلك نصب داود، عليه السلام، إلى ربه في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به ويغني به عياله، فألان له الحديد، وعلمه صنعة الدروع، فعمل الدرع٧، وهو أول مَنْ عملها، فقال الله :﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ يعني : مسامير الحلق، قال : وكان يعمل الدرع٨، فإذا ارتفع من عمله درع باعها، فتصدق بثلثها، واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله، وأمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن يعمل غيرها. وقال : إن الله أعطى داود شيئًا لم يعطه غيره من حسن الصوت، إنه كان إذا قرأ الزبور تسمع الوحش٩ حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته. وكان شديد الاجتهاد، وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير، وكأن١٠ قد أعطي سبعين مزمارًا في حلقه.
وقوله :﴿ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ أي : في الذي أعطاكم الله من النعم، ﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ أي : مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى علي من ذلك شيء.
١ - في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده"..
٢ - في س، أ: "عيينة"..
٣ - في ت، أ: "فيفلق"..
٤ - في ت، س: "هو"..
٥ - هو أبو ذؤيب الهذلي، والبيت في اللسان مادة (قضى)..
٦ - تاريخ دمشق (٥/٧٠٨ المخطوط)..
٧ - في ت، أ: "الدروع"..
٨ - في ت، أ: "الدروع"..
٩ - في ت، س، أ: "تجتمع الوحوش إليه"..
١٠ - في ت، س: "وكان"..
﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ : هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي تَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ : لَا تُدِقّ الْمِسْمَارَ فَيقلَق فِي الْحَلْقَةِ، وَلَا تُغَلّظه فَيَفْصِمَهَا، وَاجْعَلْهُ بِقَدَرٍ.
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتيبة (١) : لَا تُغَلظه فَيَفْصِمَ، وَلَا تُدِقّه فيقلَق (٢). وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّرْدُ: حَلَق (٣) الْحَدِيدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَالُ: دِرْعٌ مَسْرُودَةٌ: إِذَا كَانَتْ مَسْمُورَةُ الْحَلَقِ، وَاسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: (٤)
وَعَليهما مَسْرُودَتَان قَضَاهُما... دَاودُ أَوْ صنعَ السَّوابغ تُبّعُ...
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ وَالسَّلَامُ، (٥) مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ -وَفِيهِ كَلَامٌ-عَنْ أَبِي إِلْيَاسَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبه مَا مَضْمُونُهُ: أَنَّ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَخْرُجُ مُتَنَكِّرًا، فَيَسْأَلُ الرُّكْبَانَ عَنْهُ وَعَنْ سِيرَتِهِ، فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا إِلَّا أَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا فِي عِبَادَتِهِ وَسِيرَتِهِ وَمَعْدَلَتِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. قَالَ وَهْبٌ: حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَلَقِيَهُ دَاوُدُ فَسَأَلَهُ كَمَا كَانَ يَسْأَلُ غَيْرَهُ، فَقَالَ: هُوَ خَيْرُ النَّاسِ لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ خَصْلَةً لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ كَانَ كَامِلًا قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ عِيَالَهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، يَعْنِي: بَيْتَ الْمَالِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَصَبَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى رَبِّهِ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُعَلِّمَهُ عَمَلًا بِيَدِهِ يَسْتَغْنِي بِهِ وَيُغْنِي بِهِ عِيَالَهُ، فَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ، وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، فَعَمَلَ الدِّرْعَ (٦)، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ يَعْنِي: مَسَامِيرَ الْحَلَقِ، قَالَ: وَكَانَ يَعْمَلُ الدِّرْعَ (٧)، فَإِذَا ارْتَفَعَ مِنْ عَمَلِهِ دِرْعٌ بَاعَهَا، فَتَصَدَّقَ بِثُلْثِهَا، وَاشْتَرَى بِثُلْثِهَا مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَ يَتَصَدَّقُ بِهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ إِلَى أَنْ يَعْمَلَ غَيْرَهَا. وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى دَاوُدَ شَيْئًا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ، إِنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ تَسْمَعُ الْوَحْشُ (٨) حَتَّى يُؤْخَذَ بِأَعْنَاقِهَا وَمَا تَنْفِرُ، وَمَا صَنَعَتِ الشَّيَاطِينُ الْمَزَامِيرَ وَالْبَرَابِطَ وَالصُّنُوجَ إِلَّا عَلَى أَصْنَافِ صَوْتِهِ. وَكَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ، وَكَانَ إِذَا افْتَتَحَ الزَّبُورَ بِالْقِرَاءَةِ كَأَنَّمَا يَنْفُخُ فِي الْمَزَامِيرِ، وَكَأَنْ (٩) قَدْ أُعْطِي سَبْعِينَ مِزْمَارًا فِي حَلْقِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ أَيْ: فِي الَّذِي أَعْطَاكُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ، ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أَيْ: مُرَاقِبٌ لَكُمْ، بَصِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (١٣) ﴾
(١) في س، أ: "عيينة".
(٢) في ت، أ: "فيفلق".
(٣) في ت، س: "هو".
(٤) هو أبو ذؤيب الهذلي، والبيت في اللسان مادة (قضى).
(٥) تاريخ دمشق (٥/٧٠٨ المخطوط).
(٦) في ت، أ: "الدروع".
(٧) في ت، أ: "الدروع".
(٨) في ت، س، أ: "تجتمع الوحوش إليه".
(٩) في ت، س: "وكان".
498
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى دَاوُدَ، عَطَفَ بِذِكْرِ مَا أَعْطَى ابْنَهُ سُلَيْمَانَ (١)، مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ لَهُ تَحْمِلُ بِسَاطَهُ، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ يَغْدُو عَلَى بِسَاطِهِ مِنْ دِمَشْقَ فَيَنْزِلُ بِإِصْطَخَرَ يَتَغَذَّى (٢) بِهَا، وَيَذْهَبُ رَائِحًا مِنْ إِصْطَخَرَ فَيَبِيتُ بِكَابُلَ، وَبَيْنَ دِمَشْقَ وَإِصْطَخَرَ شَهْرٌ كَامِلٌ لِلْمُسْرِعِ، وَبَيْنَ إِصْطَخَرَ وَكَابُلَ شَهْرٌ كَامِلٌ لِلْمُسْرِعِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ (٣) عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمَالِكٌ عن زيد بن أسلم، و (٤) عبد الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: الْقِطْرُ: النُّحَاسُ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ، فَكُلُّ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى لِسُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ السُّدِّيُّ: وَإِنَّمَا أُسِيلَتْ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ أَيْ: وَسَخَّرْنَا لَهُ الْجِنَّ يَعْمَلُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ: بِقَدَرِهِ (٥)، وَتَسْخِيرِهِ لَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ مَا يَشَاءُ مِنَ الْبِنَايَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ﴿وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا﴾ أَيْ: ومَنْ يَعْدِلْ وَيَخْرُجُ مِنْهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ وَهُوَ الْحَرِيقُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَير (٦)، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنيّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْجِنُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ، وَصِنْفٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعُنُونَ". رَفْعُهُ غَرِيبٌ جِدًّا. (٧)
وَقَالَ (٨) أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَرْمَلة، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي بَكْرُ (٩) بْنُ مُضَر، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَنْعُمَ أَنَّهُ قَالَ: الْجِنُّ ثَلَاثَةٌ: صِنْفٌ لَهُمُ الثَّوَابُ وَعَلَيْهِمُ الْعِقَابُ، وَصِنْفٌ طَيَّارُونَ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ.
قَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ: وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَّ الْإِنْسَ ثَلَاثَةٌ (١٠) : صِنْفٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ بِظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَصِنْفٌ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا. وَصِنْفٌ فِي صُوَر النَّاسِ عَلَى قُلُوبِ الشَّيَاطِينِ.
(١) في ت، أ: "ما أعطى ابنه سليمان بن داود" وفي س: "ما أعطى ابنه سليمان".
(٢) في ت: "فيتغذى".
(٣) في ت: "واسالنا"
(٤) في ت: "بن".
(٥) في ت، أ: "أي الإذن القدرى" وفي س: "أى القدرى".
(٦) في ت: "وقد روى ابن حاتم هاهنا حديثًا غريبًا بإسناده".
(٧) ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٤٥٦) وصححه، ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير (٢٢/٢١٤) من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صالح به، ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (٢٠٠٧) من طريق ابن وهب عن معاوية بن صالح، به.
(٨) في ت: "وروى".
(٩) في أ: "بكير".
(١٠) في أ: "ثلاثة أصناف".
499
وَقَالَ أَيْضًا (١) : حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ مَرْزُوقٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ -يَعْنِي ابْنَ الْفَضْلِ-عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحَسَنِ (٢) قَالَ: الْجِنُّ وَلَدُ إِبْلِيسَ، وَالْإِنْسُ وَلَدُ آدَمَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ، وَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، ومَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُؤْمِنًا فَهُوَ وَلِيُّ اللَّهِ، ومَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَافِرًا فَهُوَ شَيْطَانٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ﴾ : أَمَّا الْمَحَارِيبُ فَهِيَ الْبِنَاءُ الْحَسَنُ، وَهُوَ أَشْرَفُ شَيْءٍ فِي الْمَسْكَنِ وَصَدْرُهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَحَارِيبُ بُنْيَانٌ دُونَ الْقُصُورِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْمَسَاجِدُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْمَسَاجِدُ وَالْقُصُورُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْمَسَاكِنُ. وَأَمَّا التَّمَاثِيلُ فَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: التَّمَاثِيلُ: الصُّوَرُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانَتْ مِنْ نُحَاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنْ طِينٍ وَزُجَاجٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ الْجَوَابُ: جَمْعُ جَابِيَةٍ، وَهِيَ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الْمَاءُ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ:
تَرُوحُ عَلَى آلِ المَحَلَّق جَفْنَةٌ كَجَابِيَة الشَّيخ العِراقي تَفْهَق (٣) (٤)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿كَالْجَوَابِ﴾ أَيْ: كَالْجَوْبَةِ مِنَ الْأَرْضِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنْهُ: كَالْحِيَاضِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ.
وَالْقُدُورُ الرَّاسِيَاتُ: أَيِ الثَّابِتَاتُ، فِي أَمَاكِنِهَا (٥) لَا تَتَحَوَّلُ وَلَا تَتَحَرَّكُ عَنْ أَمَاكِنِهَا لِعِظَمِهَا. كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَثَافِيُّهَا مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾ أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمُ اعْمَلُوا شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ.
وَشُكْرًا: مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ، أَوْ أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالنِّيَّةِ، كَمَا قَالَ:
أفَادَتْكُمُ النّعْمَاء منِّي (٦) ثَلاثةً:... يدِي، ولَسَاني، وَالضَّمير المُحَجَّبَا...
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبلي (٧) : الصَّلَاةُ شُكْرٌ، وَالصِّيَامُ شُكْرٌ، وَكُلُّ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ لِلَّهِ شُكْرٌ. وَأَفْضَلُ الشُّكْرِ الْحَمْدُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي قَالَ: الشُّكْرُ تَقْوَى اللَّهِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.
(١) في ت: "وروى ابن أبي حاتم أيضا".
(٢) في ت: "الحسين".
(٣) في ت: "بقهق".
(٤) البيت في تفسير الطبرى (٢٢/٤٩).
(٥) في ت، س، أ: "أماكنهم".
(٦) في ت: "عندى".
(٧) في هـ، ت، س، أ: "السلمى" والتصويت من الطبري ٢٢/٥٠، مستفادا من طبعة الشعب.
500
وقوله :﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ﴾ : أما المحاريب فهي البناء الحسن، وهو أشرف شيء في المسكن وصدره.
وقال مجاهد : المحاريب بنيان دون القصور. وقال الضحاك : هي المساجد. وقال قتادة : هي المساجد والقصور، وقال ابن زيد : هي المساكن. وأما التماثيل فقال عطية العوفي، والضحاك والسدي : التماثيل : الصور. قال مجاهد : وكانت من نحاس. وقال قتادة : من طين وزجاج.
وقوله :﴿ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ الجواب : جمع جابية، وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء، كما قال الأعشى ميمون بن قيس :
تَرُوحُ عَلَى آل المَحَلَّق جَفْنَةٌ *** كَجَابِيَة الشَّيخ العِراقي تَفْهَق١ ٢
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ كَالْجَوَابِ ﴾ أي : كالجوبة من الأرض.
وقال العوفي، عنه : كالحياض. وكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك وغيرهم.
والقدور الراسيات : أي الثابتات، في أماكنها٣ لا تتحول ولا تتحرك عن أماكنها لعظمها. كذا قال مجاهد، والضحاك، وغيرهما.
وقال عكرمة : أثافيها منها.
وقوله :﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ﴾ أي : وقلنا لهم اعملوا شكرًا على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين.
وشكرًا : مصدر من غير الفعل، أو أنه مفعول له، وعلى التقديرين فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول وبالنية، كما قال :
أفَادَتْكُمُ النّعْمَاء منِّي٤ ثَلاثةً :*** يدِي، ولَسَاني، وَالضَّمير المُحَجَّبَا
قال أبو عبد الرحمن الحُبلي٥ : الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله شكر. وأفضل الشكر الحمد. رواه ابن جرير.
وروى هو وابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القُرَظي قال : الشكر تقوى الله والعمل الصالح.
وهذا يقال لمن هو متلبس بالفعل، وقد كان آل داود، عليه السلام، كذلك قائمين بشكر الله قولا وعملا.
قال٦ ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي بكر، حدثنا جعفر - يعني : ابن سليمان - عن ثابت البُنَاني قال : كان داود، عليه السلام، قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة، فكان لا تأتي عليهم٧ ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي، فغمرتهم هذه الآية :﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن أحب الصلاة إلى الله صلاةُ داودَ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما. ولا يَفر إذا لاقى ». ٨
وقد روى أبو عبد الله بن ماجه من حديث سُنيْد بن داود، حدثنا يوسف بن محمد بن المُنْكَدِر، عن أبيه، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قالت أمّ سليمان بن داود لسليمان : يا بني، لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرًا يوم القيامة ». ٩
وروى ابن أبي حاتم عن داود، عليه السلام، هاهنا أثرا غريبا مطولا جدا، وقال أيضًا :
حدثنا أبي، حدثنا عمران بن موسى، حدثنا أبو يزيد١٠ فيض بن إسحاق الرقي١١ قال : قال فضيل في قوله تعالى :﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ﴾. فقال داود : يا رب، كيف أشكرك، والشكر نعمة منك ؟ قال :" الآن شكرتني حين علمت١٢ أن النعمة١٣ مني ".
وقوله :﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ إخبار عن الواقع.
١ - في ت: "بقهق"..
٢ - البيت في تفسير الطبرى (٢٢/٤٩)..
٣ - في ت، س، أ: "أماكنهم"..
٤ - في ت: "عندى"..
٥ - في هـ، ت، س، أ: "السلمى" والتصويت من الطبري ٢٢/٥٠، مستفادا من طبعة الشعب..
٦ - في ت: "روى"..
٧ - في ت: "لا يأتي عليهن"، وفي أ: "لا يأتي عليهم"..
٨ - صحيح البخاري برقم (١١٣١) وصحيح مسلم برقم (١١٥٩)..
٩ - سنن ابن ماجه برقم (١٣٣٢) وقال البوصيري في الزوائد (١/٤٣٣): "هذا إسناد ضعيف"..
١٠ - في هـ: "زيد" والمثبت من ت، س، أ، والجرح والتعديل ٣/٢/٨٨ مستفادا من طبعة الشعب..
١١ - في أ: "المرى"..
١٢ - في ت، س: "قلت"..
١٣ - في أ: "النعم"..
وَهَذَا يُقَالُ لِمَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْفِعْلِ، وَقَدْ كَانَ آلُ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَذَلِكَ قَائِمِينَ بِشُكْرِ اللَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا.
قَالَ (١) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ -يَعْنِي: ابْنَ سُلَيْمَانَ-عَنْ ثَابِتٍ البُنَاني قَالَ: كَانَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ جَزَّأَ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَنِسَائِهِ الصَّلَاةَ، فَكَانَ لَا تَأْتِي عَلَيْهِمْ (٢) سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا وَإِنْسَانٌ مِنْ آلِ دَاوُدَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَغَمَرَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنْ أَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صلاةُ داودَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا. وَلَا يَفر إِذَا لَاقَى". (٣)
وَقَدْ رَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُنيْد بْنِ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ لِسُلَيْمَانَ: يَا بُنَيَّ، لَا تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ تَتْرُكُ الرَّجُلَ فَقِيرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". (٤)
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا مُطَوَّلًا جِدًّا، وَقَالَ أَيْضًا:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ (٥) فَيْضُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّقِّيُّ (٦) قَالَ: قَالَ فَضِيلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾. فَقَالَ دَاوُدُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَشْكُرُكَ، وَالشُّكْرُ نِعْمَةٌ مِنْكَ؟ قَالَ: "الْآنَ شَكَرْتَنِي حِينَ عَلِمْتَ (٧) أَنَّ النِّعْمَةَ (٨) مِنِّي".
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ.
﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (١٤) ﴾.
يَذْكُرُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَيْفَ عَمَّى اللَّهُ مَوْتَهُ عَلَى الْجَانِّ الْمُسَخَّرِينَ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَإِنَّهُ مَكَثَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَاهُ -وَهِيَ مِنْسَأته-كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ -مُدَّةً طَوِيلَةً نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ، فَلَمَّا أَكَلَتْهَا (٩) دابةُ الْأَرْضِ، وَهِيَ الْأَرَضَةُ، ضَعُفَتْ (١٠) وَسَقَطَ (١١) إِلَى الْأَرْضِ، وَعُلِمَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ-تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ أَيْضًا أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، كَمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ وَيُوهِمُونَ النَّاسَ ذلك.
(١) في ت: "روى".
(٢) في ت: "لا يأتي عليهن"، وفي أ: "لا يأتي عليهم".
(٣) صحيح البخاري برقم (١١٣١) وصحيح مسلم برقم (١١٥٩).
(٤) سنن ابن ماجه برقم (١٣٣٢) وقال البوصيري في الزوائد (١/٤٣٣) :"هذا إسناد ضعيف".
(٥) في هـ: "زيد" والمثبت من ت، س، أ، والجرح والتعديل ٣/٢/٨٨ مستفادا من طبعة الشعب.
(٦) في أ: "المرى".
(٧) في ت، س: "قلت".
(٨) في أ: "النعم".
(٩) في ت: "فلما أكلت العصا".
(١٠) في ت، س، أ: "فضعفت".
(١١) في أ: "وسقطت".
501
قَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ غَرِيبٌ، وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَان، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (١) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ سُلَيْمَانُ نَبِيُّ اللَّهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ: كَذَا. فَيَقُولُ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غُرِسَتْ، وَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ. فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَأَى شَجَرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتْ: الْخَرُّوبُ. قَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: اللَّهُمَّ، عَمّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتَتِي (٢) حَتَّى يَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ. فَنَحَتَهَا عَصًا، فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا حَوْلًا مَيِّتًا، وَالْجِنُّ تَعْمَلُ. فَأَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ، فَتَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا [حَوْلًا] (٣) فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ".
قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ قَالَ: "فَشَكَرَتِ الْجِنُّ الْأَرَضَةَ (٤)، فَكَانَتْ تَأْتِيهَا بِالْمَاءِ" (٥).
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمان، بِهِ. وَفِي رَفْعِهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ لَهُ غَرَابَاتٌ، وَفِي بَعْضِ حَدِيثِهِ نَكَارَةٌ.
وَقَالَ السُّدِّي، فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَعَنْ مُرة الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ يَتَحَرَّرُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ، يُدْخِلُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَأَدْخَلُهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي تُوَفِّي فِيهَا، وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمٌ يُصْبِحُ فِيهِ إِلَّا نَبَتَتْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ، فَيَأْتِيهَا فَيَسْأَلُهَا، فَيَقُولُ: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ: اسْمَيْ كَذَا وَكَذَا. فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غَرَسَهَا، وَإِنْ كَانَتْ نبْتَ دَوَاءٍ قَالَتْ: نَبَتُّ دَوَاءٍ لِكَذَا وَكَذَا. فَيَجْعَلُهَا (٦) كَذَلِكَ، حَتَّى نَبَتَتْ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: الْخَرُّوبَةُ، فَسَأَلَهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْخَرُّوبَةُ. قَالَ: وَلِأَيِّ شَيْءٍ نَبَتِّ؟ قَالَتْ: نَبَتُّ لِخَرَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ. قَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كَانَ اللَّهُ ليُخَرِّبه وَأَنَا حَيٌّ؟ أَنْتِ الَّتِي عَلَى وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ، فَمَاتَ وَلَمْ تَعْلَمْ (٧) بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْمَلُونَ لَهُ، يَخَافُونَ أَنْ يَخْرُجَ فَيُعَاقِبُهُمْ. وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَجْتَمِعُ حَوْلَ الْمِحْرَابِ، وَكَانَ الْمِحْرَابُ لَهُ كُوى بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ، فَكَانَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ يَقُولُ: أَلَسْتَ جَلْدًا (٨) إِنْ دَخَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ؟ فَيَدْخُلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَدَخَلَ شَيْطَانٌ مِنْ أُولَئِكَ فَمَرَّ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْطَانٌ يَنْظُرُ إِلَى سُلَيْمَانَ فِي الْمِحْرَابِ إِلَّا احْتَرَقَ. فَمَرَّ وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ، ثُمَّ رَجَعَ فَوَقَعَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يَحْتَرِقْ. وَنَظَرَ إِلَى سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ سَقَطَ مَيِّتًا. فَخَرَجَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ مَاتَ. فَفَتَحُوا (٩) عَنْهُ
(١) في ت: "رواه ابن جرير بإسناده".
(٢) في ت: "موتى".
(٣) زيادة من ت، س، أ، والطبري.
(٤) في ت، س، أ: "للأرضة".
(٥) تفسير الطبري (٢٢/٥١).
(٦) في ت، س: "فيجعل الشجرة".
(٧) في أ: "ولم يعلم".
(٨) في ت: "جليدا".
(٩) في هـ، س:: فتنحوا".
502
فَأَخْرَجُوهُ. وَوَجدوا مِنْسَأَتَهُ -وَهِيَ: الْعَصَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ-قَدْ أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مُنْذُ كَمْ مَاتَ؟ فَوَضَعُوا الْأَرَضَةَ عَلَى الْعَصَا، فَأَكَلَتْ مِنْهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ حَسِبُوا عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ، فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ سَنَةٍ. وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَمَكَثُوا يَدْأَبُونَ لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ حَوْلًا (١)، فَأَيْقَنَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْغَيْبَ، لَعَلِمُوا بِمَوْتِ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلْبَثُوا فِي الْعَذَابِ يَعْمَلُونَ لَهُ سَنَةً، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ (٢) عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾. يَقُولُ: تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيَاطِينَ قَالُوا لِلْأَرَضَةِ: لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ أَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ، وَلَوْ كُنْتِ تَشْرَبِينَ الشَّرَابَ سَقَيْنَاكِ أَطْيَبَ الشَّرَابِ، وَلَكُنَّا سَنَنْقُلُ إِلَيْكِ الْمَاءَ وَالطِّينَ -قَالَ: فَهُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهَا ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ-قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الطِّينِ الَّذِي يَكُونُ فِي جَوْفِ الْخَشَبِ؟ فَهُوَ مَا تَأْتِيهَا بِهِ الشَّيَاطِينُ، شُكْرًا (٣) لَهَا. (٤)
وَهَذَا الْأَثَرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-إِنَّمَا هُوَ مِمَّا تُلُقِّي مِنْ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهِيَ وَقْفٌ، لَا يُصَدَّقُ مِنْهَا (٥) إِلَّا مَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَلَا يُكذب مِنْهَا إِلَّا مَا خَالَفَ الْحَقَّ، وَالْبَاقِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ (٦).
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ﴾ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَلِكِ الْمَوْتِ: إِذَا أُمِرْتَ بِي فَأَعْلِمْنِي. فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا سُلَيْمَانُ، قَدْ أُمِرْتُ بِكَ، قَدْ بَقِيَتْ لَكَ سُوَيْعَةٌ. فَدَعَا الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ، وَلَيْسَ لَهُ بَابٌ، فَقَامَ يُصَلِّي فَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَبَضَ رُوحَهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَصَاهُ، وَلَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ. قَالَ: وَالْجِنُّ يَعْمَلُونَ (٧) بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ. قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، دَابَّةَ الْأَرْضِ. قَالَ: وَالدَّابَّةُ تَأْكُلُ الْعِيدَانَ -يُقَالُ لَهَا: الْقَادِحُ-فَدَخَلَتْ فِيهَا فأكلتْها، حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ جَوْفَ الْعَصَا ضَعُفَتْ، وَثَقُلَ عَلَيْهَا فَخَرَّ مَيِّتًا، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ الْجِنُّ انْفَضُّوا وَذَهَبُوا. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهِ﴾. قَالَ أَصْبُغُ: بَلَغَنِي عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهَا قَامَتْ (٨) سَنَةً تَأْكُلُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَخِرَّ (٩). وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ نحوًا من هذا، والله أعلم.
(١) في ت، س، أ: "حولا كاملا".
(٢) في ت: "قوله".
(٣) في ت، س، أ: "تشكرا".
(٤) تفسير الطبري (٢٢/٥١).
(٥) في س، أ: "لا نصدق منه".
(٦) في ت، أ: "لا تصدق ولا تكذب".
(٧) في ت، س، أ: "تعمل".
(٨) في ت: "أقامت".
(٩) في أ:"تخر".
503
﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ (١٧) ﴾.
503
كَانَتْ سَبَأٌ ملوكَ الْيَمَنِ وَأَهْلَهَا، وَكَانَتِ التَّبَابِعَةُ مِنْهُمْ، وَبِلْقِيسُ -صَاحِبَةُ سُلَيْمَانَ-مِنْهُمْ (١)، وَكَانُوا فِي نِعْمَةٍ وَغِبْطَةٍ فِي بِلَادِهِمْ، وَعَيْشِهِمْ وَاتِّسَاعِ أَرْزَاقِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ. وَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ تَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَيَشْكُرُوهُ (٢) بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَعْرَضُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ، فَعُوقِبُوا بِإِرْسَالِ السَّيْلِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْبِلَادِ أَيْدِيَ سَبَأٍ، شَذَرَ مَذرَ، كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرة، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلة قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ (٣) : أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَأٍ: مَا هُوَ؟ رَجُلٌ (٤) أَمِ امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ؟ قَالَ: "بَلْ هُوَ رَجُلٌ، وَلَدَ عَشَرة (٥)، فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَبِالشَّامِ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الْيَمَانِيُّونَ: فَمَذْحِجُ، وكِنْدَةُ، وَالْأَزْدُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَأَنْمَارٌ، وَحِمْيَرُ. وَأَمَّا الشَّامِيَّةُ فَلَخْمُ، وَجُذَامُ، وَعَامِلَةُ، وَغَسَّانُ.
وَرَوَاهُ عَبد، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ لَهِيعة، بِهِ (٦). وَهَذَا إِسْنَادٌ (٧) حَسَنٌ، وَلَمْ يُخْرِّجُوهُ، [وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ] (٨). وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ "الْقَصْدِ والأمَمْ، بِمَعْرِفَةِ أُصُولِ أَنْسَابِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ"، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَعْلَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَالَ [الْإِمَامُ] أَحْمَدُ (٩) أَيْضًا وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَنَاب يَحْيَى بْنُ أَبِي حيَّة الْكَلْبِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسيَك قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ بِمُقْبِلِ قَوْمِي مُدْبِرَهُمْ؟ قَالَ: "نَعَمْ، فَقَاتِلْ بِمُقْبِلِ قَوْمِكَ مُدْبِرَهُمْ". فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: "لَا تُقَاتِلْهُمْ حَتَّى تَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ سَبَأً؛ أَوَادٍ هُوَ، أَوْ رَجُلٌ (١٠)، أَوْ مَا هُوَ؟ قَالَ: " [لَا] (١١)، بَلْ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، وُلِدَ لَهُ عَشْرَةٌ فَتَيَامَنَ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ، تَيَامَنَ الْأَزْدُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَحِمْيَرُ، وَكِنْدَةُ، وَمَذْحِجُ، وَأَنْمَارُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ: بَجِيلَةُ وَخَثْعَمُ. وَتَشَاءَمَ لَخْمٌ، وَجُذَامٌ، وَعَامِلَةُ، وغسَّان".
وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ (١٢) وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَبُو جَنَاب الْكَلْبِيُّ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ (١٣). لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ العَنْقَزِي (١٤)، عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئٍ الْمُرَادِيِّ، عَنْ عَمِّهِ أَوْ عَنْ أَبِيهِ -يَشُكُّ أَسْبَاطٌ-قَالَ: قَدِمَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيك عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ. (١٥)
طَرِيقٌ أُخْرَى لِهَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عبد الأعلى، حدثنا ابن وَهْبٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ تَوْبَةَ بْنِ نَمر (١٦)، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ أخبره قال: كنا عند عبيدة (١٧)
(١) في ت، س، أ: "من جملتهم".
(٢) في أ: "ويشكروا له".
(٣) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس قال".
(٤) في ت، س: "أرجل".
(٥) في أ: "ولد له عشرة".
(٦) المسند (١/٣١٦).
(٧) في ت: "وإسناده".
(٨) زيادة من ت.
(٩) زيادة من ت، س، أ.
(١٠) في أ: "أم جبل".
(١١) زيادة من أ.
(١٢) في أ: "حسن".
(١٣) ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (٥/١٧٨) وليس في المطبوع من المسند.
(١٤) في أ: "العبقري".
(١٥) تفسير الطبري (٢٢/٥٣).
(١٦) في س، أ: "نمير".
(١٧) في أ: "عبدة".
504
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِأَفْرِيقِيَّةَ فَقَالَ يَوْمًا: مَا أَظُنُّ قَوْمًا بِأَرْضٍ إِلَّا وَهُمْ مِنْ أَهْلِهَا. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ: كَلَّا قَدْ حَدَّثَنِي فُلَانٌ أَنَّ فَرْوَةَ بْنَ مُسَيك الغُطَيفي (١) قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ (٢) اللَّهِ، إِنَّ سَبَأً قَوْمٌ كَانَ لَهُمْ عِزٌّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَرْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، أَفَأُقَاتِلُهُمْ؟ فَقَالَ: "مَا أُمِرْتُ فِيهِمْ بِشَيْءٍ بَعْدُ". فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ﴾ الْآيَاتِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سَبَأٌ؟ فَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ: أن رسول الله ﷺ سُئل عَنْ سَبَأٍ: مَا هُوَ؟ أَبْلَدٌ، أَمْ رَجُلٌ، أَمِ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: "بَلْ رَجُلٌ، وَلَد لَهُ عَشَرَة فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَالشَّامَ أَرْبَعَةٌ، أَمَّا الْيَمَانِيُّونَ: فَمُذْحِجُ، وَكِنْدَةُ، وَالْأَزْدُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَأَنْمَارُ، وَحِمْيَرُ غَيْرُ مَا حَلَّهَا. وَأَمَّا الشَّامُ: فَلَخْمُ، وَجُذَامُ، وَغَسَّانُ، وَعَامِلَةُ".
فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ حَيْثُ ذِكْرُ [نُزُولِ] (٣) الْآيَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا، وَاللَّهُ (٤) أَعْلَمُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا أَبُو (٥) سَبْرَة النَّخَعِي، عَنْ فَرْوَة بْنِ مُسَيْك الغُطَيْفي (٦) قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ سَبَأٍ: مَا هُوَ؟ أَرْضٌ، أَمِ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: "لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَتَيَامَنَ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا: فَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا: فَكِنْدَةُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَالْأَزْدُ، وَمُذْحِجُ، وَحِمْيَرُ، وَأَنْمَارُ". فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أَنْمَارُ؟ قَالَ: "الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، عَنْ أَبِي كُرَيْب وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، فَذَكَرَهُ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. (٧)
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ كَثِيرٍ -هُوَ عُثْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ-عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ؛ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَأٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ وحَسّن. (٨)
قَالَ عُلَمَاءُ النَّسَبِ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اسْمُ سَبَأٍ: عَبْدُ شَمْسِ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ سَبَأً لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَبَأَ فِي الْعَرَبِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الرَّائِشُ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَنِمَ فِي الْغَزْوِ فَأَعْطَى قَوْمَهُ، فَسُمِّي الرَّائِشَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَالَ: رِيشًا وَرِيَاشًا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ بشَّر بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ (٩) الْمُتَقَدِّمِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شعرًا:
(١) في أ: "القطيعي".
(٢) في س، أ: "يا نبي".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في س: "فالله".
(٥) في أ: "ابن".
(٦) في أ: "القطيعي".
(٧) تفسير الطبري (٢٢/٥٣) وسنن الترمذي برقم (٣٢٢٢).
(٨) القصد والأمم ص (٢٠).
(٩) في ت، أ: "الزمان".
505
سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مُلْكًا عَظيمًا... نَبيّ لَا يُرَخِّصُ في الحَرَام...
وَيَْملك بَعْدَه منْهُم مُلُوك... يدينوه العبادَ بغَير ذَامٍ...
ويَملك بَعدهم مِنَّا مُلُوك... يَصير المُلك فينَا باقْتسَام...
وَيَمْلك بَعَْد قَحْطَان نَبي... تَقي خَبْتَة خُيْرُ الْأَنَامِ...
وسُميَ أحْمَدًا يَا لَيْتَ أَنِّي... أُعَمَّرُ بَعْد مَبْعَثه بِعَامٍ...
فأعضُده وأَحْبوه بنَصْري... بكُل مُدَجّج وبكُل رَامٍ...
مَتَى يَظْهَرْ فَكُونُوا نَاصريه... وَمَنْ يَلْقَاهُ يُبْلغه سَلامي...
ذَكَرَ ذَلِكَ الْهَمْدَانِيُّ فِي كِتَابِ "الْإِكْلِيلِ".
وَاخْتَلَفُوا فِي قَحْطَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ نَسَبِهِ بِهِ عَلَى ثَلَاثِ (١) طَرَائِقَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ عَابَر، وَهُوَ هُودٌ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ نَسَبِهِ بِهِ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ أَيْضًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ نَسَبِهِ بِهِ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ أَيْضًا. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمري، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِهِ [الْمُسَمَّى] (٢) :"الْإِنْبَاهُ عَلَى ذِكْرِ أُصُولِ الْقَبَائِلِ الرُّوَاةِ" (٣).
وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "كَانَ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ" يَعْنِي: الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ سُلَالَةِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: كَانَ مِنْ سُلَالَةِ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ هَذَا بِالْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَكِنْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ بِنَفَرٍ مِنْ "أسلَمَ" يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ: "ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا" (٤). فَأَسْلَمُ قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالْأَنْصَارُ أَوْسُهَا وَخَزْرَجُهَا مِنْ غَسَّانَ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ مِنْ سَبَأٍ، نَزَلُوا بِيَثْرِبَ لَمَّا تَفَرَّقَتْ سَبَأٌ فِي الْبِلَادِ، حِينَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، وَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالشَّامِ، وَإِنَّمَا (٥) قِيلَ لَهُمْ: غَسَّان بِمَاءٍ نَزَلُوا عَلَيْهِ قيلَ: بِالْيَمَنِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ المُشَلَّل (٦)، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
إمَّا سَألت فَإنَّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ الأزْدُ نِسْبَتُنَا، وَالْمَاءُ غَسَّانُ (٧)
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْعَرَبِ" أَيْ: كَانَ (٨) مِنْ نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع
(١) في أ: "ثلاثة".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في ت: "بالرواة".
(٤) صحيح البخاري برقم (٣٥٠٧) من حديث سلمة، رضي الله عنه.
(٥) في ت: "وإن".
(٦) في ت: "المسلك" وفي أ: "المسكن".
(٧) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (١/١٠).
(٨) في ت: "كانوا".
506
إِلَيْهِمْ أُصُولُ الْقَبَائِلِ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ، لَا أَنَّهُمْ وُلِدُوا مِنْ صُلْبِهِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ الْأَبَوَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مُبِينٌ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ (١) كُتِبِ النَّسَبِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ" أَيْ: بَعْدَ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، مِنْهُمْ مَنْ أَقَامَ بِبِلَادِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَحَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ السَّدِّ أَنَّهُ كَانَ الْمَاءُ يَأْتِيهِمْ مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ وَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَيْضًا سُيُولُ أَمَطَارِهِمْ وَأَوْدِيَتِهِمْ، فعَمَدَ مُلُوكُهُمُ الْأَقَادِمُ، فَبَنَوْا بَيْنَهُمَا سَدًا عَظِيمًا مُحْكَمًا حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ، وحُكمَ عَلَى حَافَاتِ ذَيْنَكِ الْجَبَلَيْنِ، فَغَرَسُوا الْأَشْجَارَ وَاسْتَغَلُّوا الثِّمَارَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَثْرَةِ وَالْحُسْنِ، كَمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ قَتَادَةُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمْشِي تَحْتَ الْأَشْجَارِ وَعَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ أَوْ زِنْبِيلٌ، وَهُوَ الَّذِي تُخْتَرَفُ (٢) فِيهِ الثِّمَارُ، فَيَتَسَاقَطُ مِنَ الْأَشْجَارِ فِي ذَلِكَ مَا يَمْلَؤُهُ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَحْتَاجَ إِلَى كُلْفَةٍ وَلَا قُطَّاف، لِكَثْرَتِهِ وَنُضْجِهِ وَاسْتِوَائِهِ، وَكَانَ هَذَا السَّدُّ بِمَأْرَبَ: بَلْدَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، وَيُعْرَفُ بِسَدِّ مَأْرَبَ.
وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الذُّبَابِ وَلَا الْبَعُوضِ وَلَا الْبَرَاغِيثِ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِّ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَصِحَّةِ الْمِزَاجِ وَعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ، لِيُوَحِّدُوهُ وَيَعْبُدُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ﴾، ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: ﴿جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ أَيْ: مِنْ نَاحِيَتَيِ الْجَبَلَيْنِ وَالْبَلْدَةُ بَيْنَ (٣) ذَلِكَ، ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ أَيْ: غَفُورٌ لَكُمْ إِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَعْرَضُوا﴾ أَيْ: عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلُوا إِلَى عِبَادَةِ الشَّمْسِ، كَمَا قَالَ هُدْهُدُ سُلَيْمَانَ: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [النَّمْلِ: ٢٢، ٢٤].
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبّه: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا.
وَقَالَ السُّدِّي: أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ نَبِيٍّ، وَاللَّهُ (٤) أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ : قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَرِمِ الْمِيَاهُ. وَقِيلَ: الْوَادِي. وَقِيلَ: الجُرَذ. وَقِيلَ: الْمَاءُ الْغَزِيرُ. فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الِاسْمِ إِلَى صِفَتِهِ، مِثْلَ: "مَسْجِدُ الْجَامِعِ". وَ"سَعِيدُ كُرْز" حَكَى ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ. (٥)
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ؛ أَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، لَمَّا أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ بِإِرْسَالِ الْعَرِمِ عَلَيْهِمْ، بَعَثَ عَلَى السَّدِّ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ، يُقَالُ لَهَا: "الجُرَذ" نَقَبَتْهُ -قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ سَبَبَ خَرَابِ هَذَا السَّدِّ هُوَ الجُرَذ فَكَانُوا يَرْصُدُونَ عِنْدَهُ السَّنَانِيرَ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ، فَلَمَّا جَاءَ الْقَدَرُ غَلَبَتِ الْفَأْرُ السَّنَانِيرَ، وَوَلَجَتْ إِلَى السَّدّ فَنَقَبَتْهُ، فَانْهَارَ عَلَيْهِمْ.
(١) في ت: "في".
(٢) في ت: "يحترق".
(٣) في أ: "من".
(٤) في ت، س: "فالله".
(٥) الروض الأنف (١/١٥).
507
كانت سبأ ملوكَ اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم، وبلقيس - صاحبة سليمان - منهم١، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم، وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم. وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه٢ بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ، شذر مَذرَ، كما يأتي تفصيله وبيانه قريبًا إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وقوله :﴿ فَأَعْرَضُوا ﴾ أي : عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم، وعدلوا إلى عبادة الشمس، كما قال هدهد سليمان :﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ﴾ [ النمل : ٢٢، ٢٤ ].
وقال محمد بن إسحاق، عن وهب بن مُنَبّه : بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا.
وقال السُّدِّي : أرسل الله إليهم اثني عشر ألف نبي، والله ١ أعلم.
وقوله :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ﴾ : قيل : المراد بالعرم المياه. وقيل : الوادي. وقيل : الجُرَذ. وقيل : الماء الغزير. فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته، مثل :" مسجد الجامع ". و " سعيد كُرْز " حكى ذلك السهيلي. ٢
وذكر غير واحد منهم ابن عباس، ووهب بن منبه، وقتادة، والضحاك ؛ أن الله، عز وجل، لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم، بعث على السد دابة من الأرض، يقال لها :" الجُرَذ " نقبته - قال وهب بن منبه : وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجُرَذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمان، فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير، وولجت إلى السَّدّ فنقبته، فانهار عليهم.
وقال قتادة وغيره : الجُرَذ : هو الخَلْد، نقبت أسافله حتى إذا ضَعف ووَهَى، وجاءت أيام السيول، صَدمَ الماءُ البناءَ فسقط، فانساب الماء في أسفل٣ الوادي، وخرّبَ ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك، ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال، فيبست وتحطمت، وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة، كما قال الله وتعالى :﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾.
قال ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وعطاء الخُرَاساني، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي : وهو الأراك، وأكلة البَرير.
﴿ وَأَثْل ﴾ : قال العوفي، عن ابن عباس : هو الطَّرْفاء.
وقال غيره : هو شجر يشبه الطرفاء. وقيل : هو السّمُر. فالله أعلم.
وقوله :﴿ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ : لما كان أجودَ هذه الأشجار المبدل بها هو السّدْر قال :﴿ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾، فهذا الذي صار أمر تَيْنك٤ الجنتين إليه، بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة، والظلال العميقة والأنهار الجارية، تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسّدْر ذي الشوك الكثير والثمر القليل. وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل ؛ ولهذا قال :﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا٥ وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ﴾
١ - في ت، س: "فالله"..
٢ - الروض الأنف (١/١٥)..
٣ - في ت: "أصل"..
٤ - في ت، أ: "تللك"..
٥ - في ت: "بكفرهم" وهو خطأ..
كانت سبأ ملوكَ اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم، وبلقيس - صاحبة سليمان - منهم١، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم، وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم. وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه٢ بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ، شذر مَذرَ، كما يأتي تفصيله وبيانه قريبًا إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
أي : عاقبناهم بكفرهم.
قال مجاهد : ولا يعاقب إلا الكفور.
وقال الحسن البصري : صدق الله العظيم. لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور. وقال طاوس : لا يناقش إلا الكفور.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا أبو البيداء، عن هشام بن صالح التغلبي١، عن ابن خيرة - وكان من أصحاب علي، رضي الله عنه - قال : جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والتعسر في اللذة. قيل : وما التعسر في اللذة ؟ قال : لا يصادف لذة حلالا٢ إلا جاءه مَنْ يُنَغِّصه إياها.
١ - في ت: "وقال ابن أبي حاتم بإسناده"..
٢ - في ت: "حلالاً"..
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الجُرَذ: هُوَ الخَلْد، نَقَبَتْ أَسَافِلَهُ حَتَّى إِذَا ضَعف ووَهَى، وَجَاءَتْ أَيَّامُ السُّيُولِ، صَدمَ الماءُ البناءَ فَسَقَطَ، فَانْسَابَ الْمَاءُ فِي أَسْفَلِ (١) الْوَادِي، وخرّبَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَضَبَ الْمَاءُ عَنِ الْأَشْجَارِ الَّتِي فِي الْجَبَلَيْنِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، فَيَبِسَتْ وَتَحَطَّمَتْ، وَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْأَشْجَارُ الْمُثْمِرَةُ الْأَنِيقَةُ النَّضِرَةُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ وَتَعَالَى: ﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ﴾.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعِكْرِمة، وَعَطَاءٌ الخُرَاساني، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي: وَهُوَ الْأَرَاكُ، وَأَكْلَةُ البَرير.
﴿وَأَثْل﴾ : قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الطَّرْفاء.
وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ شَجَرٌ يُشْبِهُ الطَّرْفَاءَ. وَقِيلَ: هُوَ السّمُر. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ : لَمَّا كَانَ أجودَ هَذِهِ الْأَشْجَارِ الْمُبْدَلِ بِهَا هُوَ السّدْر قَالَ: ﴿وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾، فَهَذَا الَّذِي صَارَ أَمْرُ تَيْنك (٢) الْجَنَّتَيْنِ إِلَيْهِ، بَعْدَ الثِّمَارِ النَّضِيجَةِ وَالْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ، وَالظِّلَالِ الْعَمِيقَةِ وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ، تَبَدَّلَتْ إِلَى شَجَرِ الْأَرَاكِ وَالطَّرْفَاءِ والسّدْر ذِي الشَّوْكِ الْكَثِيرِ وَالثَّمَرِ الْقَلِيلِ. وَذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِهِمُ الْحَقَّ وَعُدُولِهِمْ عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا (٣) وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ﴾ أَيْ: عَاقَبْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَا يُعَاقَبُ إِلَّا الْكُفُورُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ. لَا يُعَاقَبُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ إِلَّا الْكُفُورُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: لَا يُنَاقَشُ إِلَّا الْكُفُورُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ النَّحَّاسِ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْبَيْدَاءِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ صَالِحٍ التَّغْلِبِيِّ (٤)، عَنِ ابْنِ خِيرَةَ -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-قَالَ: جَزَاءُ الْمَعْصِيَةِ الْوَهْنُ فِي الْعِبَادَةِ، وَالضِّيقُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالتَّعَسُّرُ فِي اللَّذَّةِ. قِيلَ: وَمَا التَّعَسُّرُ فِي اللَّذَّةِ؟ قَالَ: لَا يُصَادِفُ لَذَّةً حَلَالًا (٥) إِلَّا جَاءَهُ مَنْ يُنَغِّصه إِيَّاهَا.
﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (١٨) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) ﴾.
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الغِبْطة وَالنِّعْمَةِ، وَالْعَيْشِ الْهَنِيِّ الرَّغِيدِ، وَالْبِلَادِ الرَّخِيَّةِ، وَالْأَمَاكِنِ الْآمِنَةِ، وَالْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةِ الْمُتَقَارِبَةِ، بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث
(١) في ت: "أصل".
(٢) في ت، أ: "تللك".
(٣) في ت: "بكفرهم" وهو خطأ.
(٤) في ت: "وقال ابن أبي حاتم بإسنادة".
(٥) في ت: "حلالاً".
508
إِنَّ مُسَافِرَهُمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَمل زَادٍ وَلَا مَاءٍ، بَلْ حَيْثُ نَزَلَ وَجَدَ مَاءً وَثَمَرًا، ويَقيل فِي قَرْيَةٍ وَيَبِيتُ فِي أُخْرَى، بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي سَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾، قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هِيَ قُرًى بِصَنْعَاءَ. وَكَذَا قَالَ أَبُو مَالِكٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، والسُّدِّي، وَابْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ (١) : يَعْنِي: قُرَى الشَّامِ. يَعْنُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ فِي قُرًى ظَاهِرَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (٢) : بَيْتُ الْمَقْدِسِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنْهُ أَيْضًا: هِيَ قُرًى عَرَبِيَّةٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ.
﴿قُرًى ظَاهِرَةً﴾ أَيْ: بَيِّنَةً وَاضِحَةً، يَعْرِفُهَا الْمُسَافِرُونَ، يَقيلون فِي وَاحِدَةٍ، وَيَبِيتُونَ فِي أُخْرَى؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾ أَيْ: جَعَلْنَاهَا بِحَسْبَ مَا يَحْتَاجُ الْمُسَافِرُونَ إِلَيْهِ، ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ أَيِ: الْأَمْنُ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا.
﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾، وَقَرَأَ آخَرُونَ: "بَعِّدْ بَيْنِ أَسْفَارِنَا "، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ بَطروا هَذِهِ النِّعْمَةَ -كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ-وَأَحَبُّوا مَفَاوِزَ وَمَهَامِهَ يَحْتَاجُونَ فِي قَطْعِهَا إِلَى الزَّادِ وَالرَّوَاحِلِ وَالسَّيْرِ فِي الحَرُور وَالْمَخَاوِفِ، كَمَا طَلَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مُوسَى أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ لَهُمْ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ فِي مَنّ وَسَلْوَى وَمَا يَشْتَهُونَ مِنْ مَآكِلَ وَمَشَارِبَ وَمَلَابِسَ مُرْتَفِعَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٦١]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ [الْقَصَصِ: ٥٨]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النَّحْلِ: ١١٢]. وَقَالَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ: ﴿وَظَلَمُوا (٣) أَنْفُسَهُمْ﴾ أَيْ: بِكُفْرِهِمْ، ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ أَيْ: جَعَلْنَاهُمْ حَدِيثًا لِلنَّاسِ، وَسمَرًا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ مِنْ (٤) خَبَرِهِمْ، وَكَيْفَ مَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ، وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ وَالْعَيْشِ الْهَنِيءِ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا؛ وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي الْقَوْمِ إِذَا تَفَرَّقُوا: "تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَأٍ" "وَأَيَادِيَ سَبَأٍ" وَ "تَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ". (٥)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ (٦) عِكْرِمَةَ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ أَهْلِ سَبَأٍ، قَالَ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ [عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ] ﴾ (٧) إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ وكانت فيهم
(١) في ت: "وخلق غيرهما".
(٢) في ت: "هي".
(٣) في ت، س، أ: "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا".
(٤) في ت: "في".
(٥) في ت: "ومدر".
(٦) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى عكرمة".
(٧) زيادة من ت، س، أ.
509
كَهَنَةٌ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ، فَأَخْبَرُوا الْكَهَنَةَ (١) بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ (٢) السَّمَاءِ، فَكَانَ (٣) فِيهِمْ رَجُلٌ كَاهِنٌ شَرِيفٌ كَثِيرُ الْمَالِ، وَإِنَّهُ خُبّر أَنَّ زَوَالَ أَمْرِهِمْ قَدْ دَنَا، وَأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ أَظَلَّهُمْ (٤). فَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ مِنْ عَقَارٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِيهِ -وَهُوَ أَعَزُّهُمْ أَخْوَالًا-: إِذَا كَانَ غَدًا وَأَمَرْتُكَ بِأَمْرٍ فَلَا تَفْعَلْ، فَإِذَا انْتَهَرْتُكَ فَانْتَهِرْنِي، فَإِذَا تَنَاوَلْتُكَ فَالْطِمْنِي. فَقَالَ: يَا أَبَتِ، لَا تَفْعَلْ، إِنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَأَمْرٌ شَدِيدٌ، قَالَ: يَا بُنَيَّ، قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى وَافَاهُ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَاجْتَمَعَ النَّاسُ، قَالَ: يَا بُنَيَّ، افْعَلْ كَذَا وَكَذَا. فَأَبَى، فَانْتَهَرَهُ أَبُوهُ، فَأَجَابَهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَنَاوَلَهُ أَبُوهُ، فَوَثَبَ عَلَى أَبِيهِ فَلَطَمَهُ، فَقَالَ: ابْنِي يَلْطِمُنِي؟ عَلَيّ بِالشَّفْرَةِ. قَالُوا: وَمَا تَصْنَعُ بِالشَّفْرَةِ؟ قَالَ: أَذْبَحُهُ. قَالُوا: تَذْبَحُ ابْنَكَ. الْطِمْهُ أَوِ اصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ: فَأَبَى، قَالَ: فَأَرْسَلُوا إِلَى أَخْوَالِهِ فَأَعْلَمُوهُمْ ذَلِكَ، فَجَاءَ أَخْوَالُهُ فَقَالُوا: خُذْ مِنَّا مَا بَدَا لَكَ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَذْبَحَهُ. قَالُوا: فَلَتَمُوتَنَّ قَبْلَ أَنْ تَذْبَحَهُ. قَالَ: فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ هَكَذَا فَإِنِّي لَا أَرَى أَنْ أُقِيمَ بِبَلَدٍ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَ وَلَدِي (٥) فِيهِ، اشْتَرُوا مِنِّي دُورِي، اشْتَرُوا مِنِّي أَرْضِي، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى باع دوره وأرضيه وَعَقَارَهُ، فَلَمَّا صَارَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ وَأَحْرَزَهُ، قَالَ: أَيْ قَوْمِ، إِنَّ الْعَذَابَ قَدْ أَظَلَّكُمْ، وَزَوَالُ أَمْرِكُمْ قَدْ دَنَا، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ دَارًا جَدِيدًا، وَجَمَلًا شَدِيدًا، وَسَفَرًا بَعِيدًا، فَلْيَلْحَقْ بِعَمَّانَ. وَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الخَمْر والخَمير والعَصير -وَكَلِمَةً، قَالَ (٦) إِبْرَاهِيمُ: لَمْ أَحْفَظْهَا-فَلْيَلْحَقْ (٧) ببصْرَى، وَمَنْ أَرَادَ الرَّاسِخَاتِ فِي الْوَحْلِ، الْمُطْعِمَاتِ فِي الْمَحْلِ، الْمُقِيمَاتِ فِي الضَّحْلِ، فَلْيَلْحَقْ (٨) بِيَثْرِبَ ذَاتِ نَخْلٍ. فَأَطَاعَهُ قَوْمُهُ (٩) فَخَرَجَ أَهْلُ عُمَانَ إِلَى عُمَانَ. وَخَرَجَتْ غَسَّانُ إِلَى بُصْرَى. وَخَرَجَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَبَنُو عُثْمَانَ إِلَى يَثْرِبَ ذَاتِ النَّخْلِ. قَالَ: فَأَتَوْا عَلَى بَطْنِ مُرٍّ فَقَالَ بَنُو عُثْمَانَ: هَذَا مَكَانٌ صَالِحٌ، لَا نَبْغِي بِهِ بَدَلًا. فَأَقَامُوا بِهِ، فَسُمُّوا لِذَلِكَ خُزَاعَةَ، لِأَنَّهُمُ انْخَزَعُوا مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَاسْتَقَامَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى نَزَلُوا الْمَدِينَةَ، وَتَوَجَّهَ أَهْلُ عُمَانَ إِلَى عُمَانَ، وَتَوَجَّهَتْ غَسَّانُ إِلَى بُصْرَى.
هَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، وَهَذَا الْكَاهِنُ هُوَ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ أَحَدُ رُؤَسَاءِ الْيَمَنِ وَكُبَرَاءِ سَبَأٍ وَكُهَّانِهِمْ. (١٠)
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي أَوَّلِ السِّيرَةِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الَّذِي كَانَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، بِسَبَبِ اسْتِشْعَارِهِ بِإِرْسَالِ العَرم فَقَالَ: وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنَ الْيَمَنِ -فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ-: أَنَّهُ رَأَى جُرَذًا يَحفر (١١) فِي سَدِّ مَأْرِبَ، الَّذِي كَانَ يَحْبِسُ عَنْهُمُ الْمَاءَ فَيَصْرِفُونَهُ حَيْثُ شاؤوا مِنْ أَرْضِهِمْ. فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلسَّدِّ عَلَى ذَلِكَ، فَاعْتَزَمَ عَلَى النَّقُلة عَنِ الْيَمَنِ فَكَادَ (١٢) قَوْمَهُ، فَأَمَرَ أَصْغَرَ أَوْلَادِهِ إِذَا أَغْلَظَ لَهُ وَلَطَمَهُ أَنْ يَقُومَ إِلَيْهِ فَيَلْطِمُهُ، فَفَعَلَ ابْنُهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَقَالَ عَمْرٌو: لَا أُقِيمُ بِبَلَدٍ لَطَم وَجْهِي فِيهَا أَصْغَرُ وَلَدِي (١٣). وعرض أمواله، فقال
(١) في س: "فأخبروا به الكهنة".
(٢) في أ: "خبر".
(٣) في س: "وكان".
(٤) في أ: "أضلهم".
(٥) في ت، س: "ابنى".
(٦) في ت: "قالها".
(٧) في ت: "فيحق".
(٨) في ت: "فليحق".
(٩) في س: "قومنا".
(١٠) في ت: "كهناتهم".
(١١) في س: "تحفر".
(١٢) في ت، س: "وكاد".
(١٣) في ت: "أولادى".
510
أَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ: اغْتَنَمُوا غَضْبَةَ عَمْرٍو. فَاشْتَرَوْا مِنْهُ أَمْوَالَهُ، وَانْتَقَلَ هُوَ فِي وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ. وَقَالَتِ الْأَزْدُ: لَا نَتَخَلَّفُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ. فَبَاعُوا أَمْوَالَهُمْ، وَخَرَجُوا مَعَهُ فَسَارُوا (١) حَتَّى نَزَلُوا بِلَادَ "عَكَّ" مُجْتَازِينَ يَرْتَادُونَ الْبُلْدَانَ، فَحَارَبَتْهُمْ عَكُّ، وَكَانَتْ حَرْبُهُمْ سجَالا. فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسَ السُّلَمِيُّ:
وَعَكَ بنُ عَدنَانَ الذين تَغَلَّبُوا... بِغَسَّانَ، حَتَّى طُرّدُوا كُلّ مَطْرَد...
وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْ (٢) قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ: ثُمَّ ارْتَحَلُوا عَنْهُمْ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، فَنَزَلَ آلُ جَفْنَة بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الشَّامَ، وَنَزَلَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَثْرِبَ، وَنَزَلَتْ خُزَاعَةُ مَرّا. وَنَزَلَتْ أَزْدُ السَّرَاةِ السَّرَاةَ، وَنَزَلَتْ أَزِدُ عُمَان عُمان، ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى السَّدِّ السَّيْلَ فهدمَه، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ. (٣)
وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ قِصَّةَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ بِنَحْوٍ مِمَّا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: "فَأَمَرَ ابْنَ أَخِيهِ"، مَكَانَ "ابْنِهِ"، إِلَى قَوْلِهِ: "فَبَاعَ مَالَهُ وَارْتَحَلَ بِأَهْلِهِ، فَتَفَرَّقُوا". رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا [سَلَمَةُ] (٤)، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: يَزْعُمُونَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ -وَهُوَ عَمُّ الْقَوْمِ-كَانَ كَاهِنًا، فَرَأَى فِي كَهَانَتِهِ أَنَّ قَوْمَهُ سَيمَزّقون ويباعَدُ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَتُمَزَّقُونَ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ ذَا هَمٍّ بَعِيدٍ وَجَمَلٍ شَدِيدٍ، ومَزَاد جَديد -فَلْيَلْحَقْ بِكَاسٍ أَوْ كَرُودَ. قَالَ: فَكَانَتْ وَادَعَةُ بْنُ عَمْرٍو. ومَنْ كَانَ مِنْكُمْ ذَا هَمّ مُدْن، وَأَمْرٍ دَعْن، فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِ شَنْ. فَكَانَتْ عَوْفُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُمُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ: بَارِقُ. ومَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ عَيْشًا آنِيًا، وَحَرَمًا آمِنًا، فَلْيَلْحَقْ بِالْأَرْزِينِ. فَكَانَتْ خُزَاعَةُ. ومَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الرَّاسِيَاتِ فِي الْوَحْلِ، الْمُطْعِمَاتِ فِي الْمَحْلِ، فَلْيَلْحَقْ بِيَثْرِبَ ذَاتِ النَّخْلِ. فَكَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَهُمَا هَذَانِ الْحَيَّانِ مِنَ الْأَنْصَارِ. ومَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ خَمْرًا وخَميرا، وَذَهَبًا وَحَرِيرًا، وَمُلْكًا وَتَأْمِيرًا، فَلْيَلْحَقْ بكُوثي وبُصرى، فَكَانَتْ غسانَ بَنُو جَفنة (٥) ملوكُ الشَّامِ. ومَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّمَا قَالَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ طريفةُ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَكَانَتْ كَاهِنَةً، فَرَأَتْ فِي كَهَانَتِهَا ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. (٦)
وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَمَّا غَسَّانُ فَلَحِقُوا بِالشَّامِ، وَأَمَّا الْأَنْصَارُ فَلَحِقُوا بِيَثْرِبَ، وَأَمَّا خُزَاعَةَ فَلَحِقُوا بِتِهَامَةَ، وَأَمَّا الْأَزْدُ فَلَحِقُوا بِعُمَانَ، فَمَزَّقَهُمُ اللَّهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ.
ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ الْأَعْشَى -أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ-وَاسْمُهُ: مَيْمُونُ بْنُ قيس:
(١) في ت: "فسار".
(٢) في ت، س: "في".
(٣) السيرة النبوية لابن هشام (١/١٠).
(٤) زيادة من ت، والطبري.
(٥) في ت: "بنو حنيفة".
(٦) تفسير الطبري (٢٢/٥٩).
511
كانت سبأ ملوكَ اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم، وبلقيس - صاحبة سليمان - منهم١، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم، وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم. وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه٢ بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ، شذر مَذرَ، كما يأتي تفصيله وبيانه قريبًا إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾، وقرأ آخرون :" بعد بين أسفارنا "، وذلك أنهم بَطروا هذه النعمة - كما قاله ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وغير واحد - وأحبوا مفاوز ومهامه يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحَرُور والمخاوف، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض، من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد في مَنّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة ؛ ولهذا قال لهم :﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٦١ ]، وقال تعالى :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ﴾ [ القصص : ٥٨ ]، وقال تعالى :﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [ النحل : ١١٢ ]. وقال في حق هؤلاء :﴿ وَظَلَمُوا١ أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي : بكفرهم، ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ أي : جعلناهم حديثا للناس، وَسمَرًا يتحدثون به من٢ خبرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا ؛ ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا :" تفرقوا أيدي سبأ " " وأيادي سبأ " و " تفرقوا شَذَرَ مَذَرَ ". ٣
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، سمعت أبي يقول : سمعت٤ عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ، قال :﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ [ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ] ﴾٥ إلى قوله :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ﴾ وكانت فيهم كهنة، وكانت الشياطين يسترقون السمع، فأخبروا الكهنة٦ بشيء من أخبار٧ السماء، فكان٨ فيهم رجل كاهن شريف كثير المال، وإنه خُبّر أن زوال أمرهم قد دنا، وأن العذاب قد أظلهم٩. فلم يدر كيف يصنع ؛ لأنه كان له مال كثير من عقار، فقال لرجل من بنيه - وهو أعزهم أخوالا - : إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعل، فإذا انتهرتك فانتهرني، فإذا تناولتك فالطمني. فقال : يا أبت، لا تفعل، إن هذا أمر عظيم، وأمر شديد، قال : يا بني، قد حدث أمر لا بد منه. فلم يزل به حتى وافاه على ذلك. فلما أصبحوا واجتمع الناس، قال : يا بني، افعل كذا وكذا. فأبى، فانتهره أبوه، فأجابه، فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه، فوثب على أبيه فلطمه، فقال : ابني يلطمني ؟ عَلَيّ بالشفرة. قالوا : وما تصنع بالشفرة ؟ قال : أذبحه. قالوا : تذبح ابنك. الطمه أو اصنع ما بدا لك. قال : فأبى، قال : فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك، فجاء أخواله فقالوا : خذ منا ما بدا لك. فأبى إلا أن يذبحه. قالوا : فلتموتن قبل أن تذبحه. قال : فإذا كان الحديث هكذا فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ولدي١٠ فيه، اشتروا مني دوري، اشتروا مني أرضي، فلم يزل حتى باع دوره وأرضيه وعقاره، فلما صار الثمن في يده وأحرزه، قال : أي قوم، إن العذاب قد أظلكم، وزوال أمركم قد دنا، فمن أراد منكم دارا جديدا، وجملا شديدا، وسفرا بعيدا، فليلحق بعمان. ومن أراد منكم الخَمْر والخَمير والعَصير - وكلمة، قال١١ إبراهيم : لم أحفظها - فليلحق١٢ ببصْرَى، ومن أراد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، المقيمات في الضحل، فليلحق١٣ بيثرب ذات نخل. فأطاعه قومه١٤ فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسان إلى بصرى. وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل. قال : فأتوا على بطن مر فقال بنو عثمان : هذا مكان صالح، لا نبغي به بدلا. فأقاموا به، فسموا لذلك خزاعة، لأنهم انخزعوا من أصحابهم، واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة، وتوجه أهل عمان إلى عمان، وتوجهت غسان إلى بصرى.
هذا أثر غريب عجيب، وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم. ١٥
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن، بسبب استشعاره بإرسال العَرم فقال : وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن - فيما حدثني أبو زيد الأنصاري - : أنه رأى جرذًا يَحفر١٦ في سد مأرب، الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم. فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النَّقُلة عن اليمن فكاد١٧ قومه، فأمر أصغر أولاده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو : لا أقيم ببلد لَطَم وجهي فيها أصغر ولدي١٨. وعرض أمواله، فقال أشراف من أشراف اليمن : اغتنموا غَضْبَةَ عمرو. فاشتروا منه أمواله، وانتقل هو في ولده وولد ولده. وقالت الأزد : لا نتخلف عن عمرو بن عامر. فباعوا أموالهم، وخرجوا معه فساروا١٩ حتى نزلوا بلاد " عك " مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، وكانت حربهم سجَالا. ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي :
وَعَكَ بنُ عَدنَانَ الذين تَغَلَّبُوا بِغَسَّانَ، حتى طُرّدُوا كُلّ مَطْرَد
وهذا البيت من٢٠ قصيدة له.
قال : ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد، فنزل آل جَفْنَة بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مَرّا. ونزلت أزد السراة السراة، ونزلت أزد عُمَان عُمان، ثم أرسل الله على السد السيل فهدمَه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الآيات. ٢١
وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق، إلا أنه قال :" فأمر ابن أخيه "، مكان " ابنه "، إلى قوله :" فباع ماله وارتحل بأهله، فتفرقوا ". رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد، أخبرنا [ سلمة ]٢٢، عن ابن إسحاق قال : يزعمون أن عمرو بن عامر - وهو عم القوم - كان كاهنًا، فرأى في كهانته أن قومه سَيمَزّقون ويباعَدُ بين أسفارهم. فقال لهم : إني قد علمت أنكم ستمزقون، فمن كان منكم ذا هَمٍّ بعيد وجمل شديد، ومَزَاد جَديد - فليلحق بكاس أو كرود. قال : فكانت وادعة بن عمرو. ومَنْ كان منكم ذا هَمّ مُدْن، وأمر دَعْن، فليلحق بأرض شَنْ. فكانت عوف بن عمرو، وهم الذين يقال لهم : بارق. ومَنْ كان منكم يريد عيشا آنيا، وحرما آمنا، فليلحق بالأرزين. فكانت خزاعة. ومَنْ كان منكم يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل. فكانت الأوس والخزرج، وهما هذان الحيان من الأنصار. ومَنْ كان منكم يريد خمرا وخَميرا، وذهبا وحريرا، وملكا وتأميرا، فليلحق بكُوثي وبُصرى، فكانت غسانَ بنو جَفنة٢٣ ملوكُ الشام. ومَنْ كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق : وقد سمعت بعض أهل العلم يقول : إنما قالت هذه المقالة طريفةُ امرأة عمرو بن عامر، وكانت كاهنة، فرأت في كهانتها ذلك، فالله أعلم أيّ ذلك كان. ٢٤
وقال سعيد، عن قتادة، عن الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان، فمزقهم الله كل ممزق. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
ثم قال محمد بن إسحاق : حدثني أبو عبيدة قال : قال الأعشى - أعشى بني قيس بن ثعلبة - واسمه : ميمون بن قيس :
وَفي ذَاكَ للمُؤتَسي٢٥ أسْوَةٌ ومَأربُ عَفّى عَلَيها العَرمْ
رُخَام بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيرُ إذا جاءَ مَوَارهُ لم يَرمْ
فَأرْوَى الزُّرُوعَ وَأعنَابَها عَلَى سَعَة مَاؤهُمْ إذْ٢٦ قُسِم
فَصَارُوا أيَادي مَا يَقْدرُو نَ منْه عَلَى شُرب طِفْل فُطِم٢٧
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ أي : إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة وتحويل العافية، عقوبةَ على ما ارتكبوه من الكفر والآثام - لعبرةً وَدَلالةً لكل عبد صبار٢٨ على المصائب، شكور على النعم.
قال٢٩ الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني، قالا أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن العَيْزَار بن حُرَيث عن عمر بن سعد، عن أبيه - هو سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن، إن أصابه خير حَمدَ رَبَّه وشكر، وإن أصابته مصيبة حَمِد ربه وصَبَر، يؤجر المؤمن في كل شيء، حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته ".
وقد رواه النسائي في " اليوم والليلة "، من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، به٣٠ - وهو حديث عزيز - من رواية عمر بن سعد، عن أبيه. ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة :" عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا٣١، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ". ٣٢
قال عبد : حدثنا يونس، عن شيبان، عن٣٣ قتادة ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ قال : كان مطرّف يقول : نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.
١ - في ت، س، أ: "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا"..
٢ - في ت: "في"..
٣ - في ت: "ومدر"..
٤ - في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى عكرمة"..
٥ - زيادة من ت، س، أ..
٦ - في س: "فأخبروا به الكهنة"..
٧ - في أ: "خبر"..
٨ - في س: "وكان"..
٩ - في أ: "أضلهم"..
١٠ - في ت، س: "ابنى"..
١١ - في ت: "قالها"..
١٢ - في ت: "فيحق"..
١٣ - في ت: "فليحق"..
١٤ - في س: "قومنا"..
١٥ - في ت: "كهناتهم"..
١٦ - في س: "تحفر"..
١٧ - في ت، س: "وكاد"..
١٨ - في ت: "أولادى"..
١٩ - في ت: "فسار"..
٢٠ - في ت، س: "في"..
٢١ - السيرة النبوية لابن هشام (١/١٠)..
٢٢ - زيادة من ت، والطبري..
٢٣ - في ت: "بنو حنيفة"..
٢٤ - تفسير الطبري (٢٢/٥٩)..
٢٥ - في ت: "وفي ذلك للمتوسى"..
٢٦ - في ت: "إذا"..
٢٧ - السيرة النبوية لابن هشام (١/١٤)..
٢٨ - في ت: "صبار شكور على"..
٢٩ - في ت: "وروى"..
٣٠ - المسند (١/١٧٣) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٩٠٦)..
٣١ - في ت، س: "خيرًا له"..
٣٢ - لم أجده من حديث أبي هريرة، وقد رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٩٩٩) من حديث صهيب، رضي الله عنه..
٣٣ - في ت: "وعن"..
وَفي ذَاكَ للمُؤتَسي (١) أسْوَةٌ... ومَأربُ عَفّى عَلَيها العَرمْ...
رُخَام بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيرُ... إِذَا جاءَ مَوَارهُ لَمْ يَرمْ...
فَأرْوَى الزُّرُوعَ وَأعنَابَها... عَلَى سَعَة مَاؤهُمْ إذْ (٢) قُسِم...
فَصَارُوا أيَادي مَا يَقْدرُو نَ منْه عَلَى شُرب طِفْل فُطِم (٣)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أَيْ: إِنَّ فِي هَذَا الَّذِي حَلَّ بِهَؤُلَاءِ مِنَ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ، وَتَبْدِيلِ النِّعْمَةِ وَتَحْوِيلِ الْعَافِيَةِ، عقوبةَ عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْآثَامِ -لَعِبْرَةً وَدَلالةً لِكُلِّ عَبْدٍ صَبَّارٍ (٤) عَلَى الْمَصَائِبِ، شَكُورٍ عَلَى النِّعَمِ.
قَالَ (٥) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ الْمَعْنِيُّ، قَالَا أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ العَيْزَار بْنِ حُرَيث عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ -هُوَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَجِبْتُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمدَ رَبَّه وَشَكَرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِد رَبَّهُ وصَبَر، يُؤْجَرُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِهِ".
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ"، مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعي، بِهِ (٦) -وَهُوَ حَدِيثٌ عَزِيزٌ-مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَلَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا (٧)، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ". (٨)
قَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ (٩) قَتَادَةَ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ قَالَ: كَانَ مُطَرَّفٌ يَقُولُ: نِعْمَ الْعَبْدُ الصَّبَّارُ الشَّكُورُ، الَّذِي إِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ.
﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) ﴾.
لَمَّا ذَكَرَ [اللَّهُ] (١٠) تَعَالَى قِصَّةَ سَبَأٍ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمُ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ، أَخْبَرَ عَنْهُمْ وَعَنْ أَمْثَالِهِمْ مِمَّنِ اتَّبَعَ إِبْلِيسَ وَالْهَوَى، وَخَالَفَ الرَّشَادَ وَالْهُدَى، فَقَالَ: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾.
(١) في ت: "وفي ذلك للمتوسى".
(٢) في ت: "إذا".
(٣) السيرة النبوية لابن هشام (١/١٤).
(٤) في ت: "صبار شكور على".
(٥) في ت: "وروى".
(٦) المسند (١/١٧٣) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٩٠٦).
(٧) في ت، س: "خيرًا له".
(٨) لم أجده من حديث أبي هريرة، وقد رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٩٩٩) من حديث صهيب، رضي الله عنه.
(٩) في ت: "وعن".
(١٠) زيادة من ت.
وقوله :﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ قال ابن عباس : أي من حجة.
وقال الحسن البصري : والله ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورا وأماني دعاهم إليها فأجابوه.
وقوله :﴿ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ﴾ أي : إنما سلطناه عليهم ليظهرَ أمر مَنْ هو مؤمن بالآخرة وقيامها والحساب فيها والجزاء، فيُحسِنَ عبادة ربه عز وجل في الدنيا، ممن هو منها في شك.
وقوله :﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ أي : ومع حفظه ضَلّ من ضَلّ من اتباع إبليس، وبحفظه وكلاءته سَلِم مَنْ سلم من المؤمنين أتباع الرسل.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْلِيسٍ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، ثُمَّ قَالَ: ﴿أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٦٢]، ثُمَّ قَالَ: (١) ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الْأَعْرَافُ: ١٧] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ حَوَّاءُ، هَبَطَ (٢) إِبْلِيسُ فَرحا بِمَا أَصَابَ مِنْهُمَا، وَقَالَ: إِذَا أَصَبْتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَا أَصَبْتُ، فَالذُّرِّيَّةُ أَضْعَفُ وَأَضْعَفُ. وَكَانَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْ إِبْلِيسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إِبْلِيسُ: "لَا أُفَارِقُ ابْنَ آدَمَ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ، أعدُه (٣) وأُمَنّيه وَأَخْدَعُهُ". فَقَالَ اللَّهُ: "وَعِزَّتِي لَا أَحْجُبُ عَنْهُ التَّوْبَةَ مَا لَمْ يُغَرغِر بِالْمَوْتِ، وَلَا يَدْعُونِي إِلَّا أَجَبْتُهُ، وَلَا يَسْأَلُنِي إِلَّا أَعْطَيْتُهُ، وَلَا يَسْتَغْفِرُنِي إِلَّا غَفَرْتُ لَهُ". رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مِنْ حُجَّةٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ مَا ضَرَبَهُمْ بِعَصَا، وَلَا أَكْرَهَهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَمَا كَانَ إِلَّا غُرُورًا وَأَمَانِيَّ دَعَاهُمْ إِلَيْهَا فَأَجَابُوهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ أَيْ: إِنَّمَا سَلَّطْنَاهُ عَلَيْهِمْ ليظهرَ أَمْرُ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ بِالْآخِرَةِ وَقِيَامِهَا وَالْحِسَابِ فِيهَا وَالْجَزَاءِ، فيُحسِنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا، مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ أَيْ: وَمَعَ حِفْظِهِ ضَلّ مَنْ ضَلّ مِنَ اتِّبَاعِ إِبْلِيسَ، وَبِحِفْظِهِ وَكِلَاءَتِهِ سَلِم مَنْ سَلِمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ.
﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) ﴾
(١) في ت، س: "وقال".
(٢) في أ: "أهبط".
(٣) في ت، س: "أغره".
﴿وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) ﴾.
بَيَّن (١) تَعَالَى أَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَرِيكَ لَهُ، بَلْ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْأَمْرِ وَحْدَهُ، مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ وَلَا مُنَازِعٍ وَلَا مُعَارِضٍ، فَقَالَ: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أَيْ: مِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي عُبِدَتْ مِنْ دونه ﴿لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ﴾، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ [فَاطِرٍ: ١٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾ أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا اسْتِقْلَالًا وَلَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ، ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ أَيْ: وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْ (٢) هَذِهِ الْأَنْدَادِ مِنْ ظَهِيرٍ يُسْتَظْهَرُ بِهِ فِي الْأُمُورِ، بَلِ
(١) في ت، س، أ: "يبين".
(٢) في ت: "في".
513
الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ، عُبَيْدٌ لَدَيْهِ.
قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾، مِنْ عَوْنٍ يُعِينُهُ بِشَيْءٍ.
وَقَالَ: (١) ﴿وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ أَيْ: لِعَظَمَتِهِ [وَجَلَالِهِ] (٢) وَكِبْرِيَائِهِ لَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ تَعَالَى فِي شَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥]، وَقَالَ: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ [وَيَرْضَى (٣) ] ﴾ [النَّجْمِ: ٢٦]، وَقَالَ: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٨].
وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (٤)، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَكْبَرُ شَفِيعٍ عِنْدَ اللَّهِ-: أَنَّهُ حِينَ يَقُومُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ لِيَشْفَعَ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ أَنْ يَأْتِيَ رَبَّهُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، قَالَ: "فَأَسْجُدُ لِلَّهِ فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، وَيَفْتَحَ عَلَيَّ بِمَحَامِدَ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسمع (٥)، وَسَلْ تُعْطَه وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ" الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ﴾. وَهَذَا أَيْضًا مَقَامٌ رَفِيعٌ فِي الْعَظَمَةِ. وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السموات كَلَامَهُ، أرْعدوا مِنَ الْهَيْبَةِ حَتَّى يَلْحَقَهُمْ مِثْلُ الْغَشْيِ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ، وَغَيْرُهُمَا.
﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم﴾ أَيْ: زَالَ الْفَزَعُ عَنْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعيّ، وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم﴾ يَقُولُ: جُلِّى عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَقَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ -وَجَاءَ مَرْفُوعًا-: " [حَتَّى] (٦) إذَا فُرِّغَ" بِالْغَيْنِ (٧) الْمُعْجَمَةِ، وَيَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُ بِذَلِكَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ لِلَّذِينِ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ لِمَنْ تَحْتَهُمْ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قَالُوا الْحَقّ﴾ أَيْ: أَخْبَرُوا بِمَا قَالَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا اسْتَيْقَظُوا مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي الدُّنْيَا، وَرَجَعَتْ إِلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَقِيلَ لَهُمْ: الْحَقُّ وَأُخْبِرُوا بِهِ مِمَّا كَانُوا عَنْهُ لَاهِينَ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ : كَشَفَ عَنْهَا الْغِطَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ يَعْنِي: مَا فِيهَا مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ يَعْنِي: مَا فِيهَا مِنَ الشَّكِّ،
(١) في ت: "ثم قال".
(٢) زيادة من أ.
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) تقدمت أحاديث الشفاعة عند تفسير الآية: ٧٩ من سورة الإسراء.
(٥) في س، أ: "تسمع".
(٦) زيادة من أ.
(٧) في ت: "بالعين".
514
قَالَ: فُزِّعَ الشَّيْطَانُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَفَارَقَهُمْ وَأَمَانِيهِمْ وَمَا كَانَ يُضِلُّهُمْ، ﴿قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ قَالَ: وَهَذَا فِي بَنِي آدَمَ، هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، أَقَرُّوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ.
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ (١). هَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ وَالْآثَارِ، وَلْنَذْكُرْ مِنْهَا طَرَفًا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ:
قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، سَمِعْتُ عِكْرِمة، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيرة (٢) يَقُولُ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الأمرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضعانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صفوانَ، فَإِذَا فُزِّع عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرق السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ -هَكَذَا بَعْضُهُ (٣) فَوْقَ بَعْضٍ-وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ-فَحَرّفها وبَدّد (٤) بَيْنَ أَصَابِعِهِ-فَيسمع الْكَلِمَةَ، فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يلقيَها عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ (٥) أَوِ الْكَاهِنِ، فَربما أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَة، فيقال: أليس قد قال لنا يومَ كذا وكذا: كذا (٦) وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة الَّتِي سُمعت مِنَ السَّمَاءِ.
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ. (٧)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [جَالِسًا] (٨) فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: "مِنَ الْأَنْصَارِ"-فَرُميَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، [قَالَ] (٩) :" مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا كَانَ مثلُ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ " قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ يُولَد عَظِيمٌ، أَوْ يَمُوتُ (١٠) عَظِيمٌ -قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرْمَى بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ غُلّظت حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ رَبَّنَا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلةُ الْعَرْشِ [ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحَ هَذِهِ (١١) الدُّنْيَا، ثُمَّ يَسْتَخْبِرُ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ، فَيَقُولُ الَّذِينَ يَلُونُ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ] (١٢) : مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ، وَيُخْبِرُ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ سَمَاءً؛ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ، وَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيُرْمَوْنَ، فما جاؤوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَفْرِقُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ.
هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (١٣). وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بن كَيْسَان،
(١) تفسير الطبري (٢٢/٦٤).
(٢) في ت: "قال البخاري عند تفسيره هذه الآية الكريمة في صحيحه بإسناده عن أبي هريرة".
(٣) في أ: "بعضهم".
(٤) في أ: "وسدد".
(٥) في أ: "الآخر".
(٦) في أ: "وكذا، يوم كذا".
(٧) صحيح البخاري برقم (٤٨٠٠) وسنن أبي داود برقم (٣٩٨٩) وسنن الترمذي برقم (٣٢٢٣) وسنن ابن ماجه برقم (١٩٤).
(٨) زيادة من ت، س، والمسند.
(٩) زيادة من ت، س، والمسند.
(١٠) في ت، س: "ويموت".
(١١) في تـ س: "السماء".
(١٢) زيادة من ت، س، والمسند.
(١٣) المسند (١/٢١٨).
515
وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَيُونُسَ ومَعْقِل بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ (١)، أَرْبَعَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، بِهِ (٢). وَرَوَاهُ وَقَالَ يُونُسُ: عَنْ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْصَارِ (٣)، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ (٤) فِي "التَّفْسِيرِ" مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (٥). وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ عَنِ الحُسَين بْنِ حُرَيْثٍ؛ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (٦)، واللَّهُ (٧) أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ سَيَّارٍ الرَّمَادِيُّ -وَالسِّيَاقُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ-قَالَا حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ -هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ-عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ (٨) بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَكَرِيَّاءَ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعان (٩) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ بِأَمْرِهِ تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ، فَإِذَا تكلم أخذت السموات مِنْهُ (١٠) رَجْفَةٌ -أَوْ قَالَ: رِعْدَةٌ-شَدِيدَةٌ؛ مِنْ خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السموات صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، فَيَمْضِي بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، كُلَّمَا مَرّ بِسَمَاءٍ سَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلَائِكَتُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ: قَالَ: الْحَقُّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ".
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ خُزَيمة، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبَانٍ الْمِصْرِيِّ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، بِهِ. (١١)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالشَّامِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ العَوفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُمَا فَسَرَّا هَذِهِ الْآيَةَ بِابْتِدَاءِ إِيحَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْفَتْرَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِيسَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَوْلَى مَا دخل في هذه الآية.
(١) في س: "بن عبد الله".
(٢) صحيح مسلم برقم (٢٢٢٩).
(٣) صحيح مسلم برقم (٢٢٢٩).
(٤) في ت: "وكذا رواه النسائي والترمذي".
(٥) سنن الترمذي برقم (٣٢٢٤).
(٦) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٢٧٢).
(٧) في س: "فالله".
(٨) في أ: "زيد".
(٩) في ت: "حديث آخر رواه ابن جرير بإسناده عن النواس بن سمعان".
(١٠) في أ: "منها".
(١١) تفسير الطبري (٢٢/٦٣) والتوحيد لابن خزيمة ص (٩٥) ورواه ابن عاصم في السنة برقم (٥١٥) من طريق محمد بن عوف، عن نعيم بن حماد، به.
516
﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُقَرِّرًا تفرُّدَه بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ (١)، وَانْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ أَيْضًا، فَكَمَا كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ لَا يَرْزُقُهُمْ مِنَ السَّمَاءِ (٢) وَالْأَرْضِ -أَيْ: بِمَا يُنْزِلُ مِنَ الْمَطَرِ وَيُنْبِتُ مِنَ الزَّرْعِ-إِلَّا اللَّهُ، فَكَذَلِكَ فَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ : هَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، أَيْ: وَاحِدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُبْطِلٌ، وَالْآخَرُ مُحِقٌّ، لَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ وَنَحْنُ عَلَى الْهُدَى أَوْ عَلَى الضَّلَالِ، بَلْ وَاحِدٌ مِنَّا مُصِيبٌ، وَنَحْنُ قَدْ أَقَمْنَا الْبُرْهَانَ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.
قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ: وَاللَّهِ مَا نَحْنُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، إِنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ لَمُهْتَدٍ.
وَقَالَ عِكْرِمة وَزِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ: مَعْنَاهُ: إِنَّا نَحْنُ لَعَلَى هُدًى، وَإِنَّكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ : مَعْنَاهُ التَّبَرِّي مِنْهُمْ، أَيْ: لَسْتُمْ مِنَّا وَلَا نَحْنُ مِنْكُمْ، بَلْ نَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لَهُ، فَإِنْ أَجَبْتُمْ فَأَنْتُمْ مِنَّا وَنَحْنُ مِنْكُمْ، وَإِنْ كَذَّبْتُمْ فَنَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ بُرآء مِنَّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ (٣) كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [يُونُسَ: ٤١]، وَقَالَ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [سُورَةُ الْكَافِرُونَ].
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَجْمَعُ [بَيْنَ] (٤) الْخَلَائِقِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، أَيْ: يَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَسَتَعْلَمُونَ يَوْمَئِذٍ لِمَنِ الْعِزَّةُ وَالنُّصْرَةُ وَالسَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ [الرُّومِ: ١٤-١٦] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ أَيِ: الْحَاكِمُ (٥) الْعَادِلُ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ﴾ أَيْ: أَرَوْنِي هَذِهِ الْآلِهَةِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا لِلَّهِ أَنْدَادًا وصيَّرتموها لَهُ عدْلا. ﴿كَلا﴾ أَيْ: لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا نَديد، وَلَا شَرِيكٌ وَلَا عَدِيلٌ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿بَلْ هُوَ اللَّهُ﴾ : أَيِ: الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أَيْ: ذُو الْعِزَّةِ الَّتِي قَدْ قهر
(١) في ت: "بفرضه بالرزق والخلق".
(٢) في ت، أ: "السموات".
(٣) في هـ، ت، س، أ: "فإن" والصواب ما أثبتناه.
(٤) زيادة من ت.
(٥) في ت، أ: "الحكام".
وقوله :﴿ قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ : معناه التبري منهم، أي : لستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله وإلى توحيده وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم، وإن كذبتم فنحن برآء منكم وأنتم بُرآء منا، كما قال تعالى :﴿ وَإِنْ ١ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ يونس : ٤١ ]، وقال :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [ سورة الكافرون ].
١ - في هـ، ت، س، أ: "فإن" والصواب ما أثبتناه..
وقوله :﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ﴾ أي : يوم القيامة، يجمع [ بين ]١ الخلائق في صعيد واحد، ثم يفتح بيننا بالحق، أي : يحكم بيننا بالعدل، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية، كما قال تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ [ الروم : ١٤ - ١٦ ] ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ﴾ أي : الحاكم٢ العادل العالم بحقائق الأمور.
١ - زيادة من ت..
٢ - في ت، أ: "الحكام"..
وقوله :﴿ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ ﴾ أي : أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا وصيَّرتموها له عدْلا. ﴿ كَلا ﴾ أي : ليس له نظير ولا نَديد، ولا شريك ولا عديل، ولهذا قال :﴿ بَلْ هُوَ اللَّهُ ﴾ : أي : الواحد الأحد الذي لا شريك له ﴿ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ أي : ذو العزة التي قد قهر بها كل شيء، وَغَلَبت كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله، وشرعه وقدره، تعالى وتقدس.
بِهَا كُلَّ شَيْءٍ، وَغَلَبت كُلَّ شَيْءٍ، الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (١) :﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ (٢) ﴾ : أَيْ: إِلَّا إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، كَقَوْلِهِ (٣) تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٥٨]، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الْفُرْقَانِ: ١]. ﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ أَيْ تُبَشِّرُ (٤) مَنْ أَطَاعَكَ بِالْجَنَّةِ، وَتُنْذِرُ مَنْ عَصَاكَ بِالنَّارِ.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، كَقَوْلِهِ (٥) تَعَالَى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠٣]، ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١١٦].
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ يَعْنِي: إِلَى النَّاسِ عَامَّةً.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فأكرمُهم عَلَى اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ العَدَني، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ -يَعْنِي: ابْنَ أَبَانٍ (٦) -عَنْ عِكْرِمة قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنِ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وعلى الأنبياء. قالوا: يا بن عَبَّاسٍ، فِيمَ فَضَّلَهُ اللَّهُ (٧) عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾، وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾، فَأَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ رَفْعهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ. وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ. وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي. وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ. وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً". (٨)
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بُعِثْتُ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ" (٩) : قَالَ مُجَاهِدٌ. يَعْنِي: الْجِنَّ وَالْإِنْسَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنِي: الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ. وَالْكُلُّ صَحِيحٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ فِي اسْتِبْعَادِهِمْ قِيَامَ السَّاعَةِ: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
(١) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(٢) في ت: "للناس بشيرا".
(٣) في ت، س: "لقوله".
(٤) في س: "يبشر".
(٥) في ت، س: "لقوله".
(٦) في ت: "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
(٧) في ت، س: "فما فضله".
(٨) صحيح البخاري برقم (٣٣٥) وصحيح مسلم برقم (٥٢١).
(٩) وهو قطعة من حديث جابر السابق عند مسلم في صحيحه برقم (٥٢١).
ثم قال تعالى مخبرا عن الكفار في استبعادهم قيام الساعة :﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ﴾ الآية [ الشورى : ١٨ ].
ثم قال :﴿ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ﴾ أي : لكم ميعاد مؤجل معدود محرر، لا يزداد ولا ينتقص، فإذا جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ ﴾ [ نوح : ٤ ]، وقال ﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٤، ١٠٥ ].
، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ الْآيَةَ [الشُّورَى: ١٨].
ثُمَّ قَالَ: ﴿قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ﴾ أَيْ: لَكُمْ مِيعَادٌ مُؤَجَّلٌ مَعْدُودٌ مُحَرَّرٌ، لَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْتَقِصُ، فَإِذَا جَاءَ فَلَا يُؤَخَّرُ سَاعَةً وَلَا يُقَدَّمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ﴾ [نُوحٍ: ٤]، وَقَالَ ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هُودٍ: ١٠٤، ١٠٥].
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) ﴾
﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَادِي الْكُفَّارِ فِي طُغْيَانِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لَهُمْ وَمُتَوَعِّدًا، وَمُخْبِرًا عَنْ مَوَاقِفِهِمُ الذَّلِيلَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي حَالِ تُخَاصِمِهِمْ وَتَحَاجِّهِمْ: ﴿يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ مِنْهُمْ وَهُمُ الْأَتْبَاعُ ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ وَهُمْ قَادَتُهُمْ وَسَادَتُهُمْ: ﴿لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ: لَوْلَا أَنْتُمْ تَصُدُّونَا، لَكُنَّا اتَّبَعْنَا الرُّسُلَ وَآمَنَّا بِمَا جاؤونا بِهِ. فَقَالَ لَهُمُ الْقَادَةُ وَالسَّادَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: ﴿أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ﴾ أَيْ: نَحْنُ مَا فَعَلْنَا بِكُمْ (١) أَكْثَرَ مِنْ أنَّا دَعَوْنَاكُمْ فَاتَّبَعْتُمُونَا مِنْ غَيْرِ (٢) دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَخَالَفْتُمُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ وَالْحُجَجَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، لِشَهْوَتِكُمْ وَاخْتِيَارِكُمْ لِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار﴾ أَيْ: بَلْ كُنْتُمْ تَمْكُرُونَ بِنَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وتَغُرّونا وتُمَنّونا، وَتُخْبِرُونَا أَنَّا عَلَى هُدًى وَأَنَّا عَلَى شَيْءٍ، فَإِذَا جَمِيعُ ذَلِكَ بَاطِلٌ وكَذبٌ ومَيْن.
قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ (٣) :﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ يَقُولُ: بَلْ مَكْرُهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: مَكْرُهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
﴿إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا﴾ أَيْ نُظَرَاءَ وَآلِهَةً مَعَهُ، وتقيموا لنا شُبَهًا وأشياءَ من
(١) في س، أ: "بكم ذلك".
(٢) في ت، س، أ: "بغير".
(٣) في ت، أ: "ابن زيد بن أسلم".
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار ﴾ أي : بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا، وتَغُرّونا وتُمَنّونا، وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء، فإذا جميع ذلك باطل وكَذبٌ ومَيْن.
قال قتادة، وابن زيد١ :﴿ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ يقول : بل مكرهم بالليل والنهار. وكذا قال مالك، عن زيد بن أسلم : مكرهم بالليل والنهار.
﴿ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا ﴾ أي نظراء وآلهة معه، وتقيموا لنا شُبَهًا وأشياءَ من المحال تضلونا بها ﴿ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ أي : الجميع من السادة والأتباع، كُلٌّ نَدم على ما سَلَف منه.
﴿ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ : وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم، ﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾٢ أي : إنما نجازيكم بأعمالكم٣، كُلٌّ بحسبه، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع بحسبهم ﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء، حدثنا محمد بن سليمان٤ بن الأصبهاني، عن أبي سنان ضرار بن صُرَد، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل٥، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن جهنم لما سيق إليها أهلها تَلَقَّاهم لهبها، ثم لَفَحَتْهُم لفحةً فلم يبق لحم٦ إلا سقط على العرقوب ». ٧
وحدثنا٨ أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا الطيب أبو الحسن، عن الحسن بن يحيى الخُشَني قال : ما في جهنم دار ولا مغار ولا غل ولا سلسلة ولا قيد، إلا اسم صاحبها عليه مكتوب. قال : فحدثته أبا سليمان - يعني : الداراني، رحمة الله عليه٩ - فبكى ثم قال : ويحك. فكيف به لو جمع هذا كله عليه، فجعل القيد في رجليه، والغُلّ في يديه والسلسلة في عنقه، ثم أدخل النار وأدخل المغار ؟ !.
١ - في ت، أ: "ابن زيد بن أسلم"..
٢ - في ت، س: "هل تجزون إلا ما كنتم تعلمون"..
٣ - في أ: "نجازيهم بأعمالهم"..
٤ - في أ: "سليم"..
٥ - في ت: "روى ابن أبي حاتم بإسناده"..
٦ - في ت: "فلم يبق لهم لحم"..
٧ - ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٨٤٨) "مجمع البحرين" وأبو نعيم في الحلية (٤/٣٦٣) من طرق عن محمد بن سليمان الأصبهاني، به. وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٣٨٩): "وفيه محمد بن سليمان الأصبهاني وهو ضعيف"..
٨ - في ت: "وروى"..
٩ - في ت: "رحمه الله"..
الْمُحَالِ تُضِلُّونَا بِهَا ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ أَيِ: الْجَمِيعُ مِنَ السَّادَةِ وَالْأَتْبَاعِ، كُلٌّ نَدم عَلَى مَا سَلَف مِنْهُ.
﴿وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ : وَهِيَ السَّلَاسِلُ الَّتِي تَجْمَعُ أَيْدِيهِمْ مَعَ أَعْنَاقِهِمْ، ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (١) أَيْ: إِنَّمَا نُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ (٢)، كُلٌّ بِحَسْبِهِ، لِلْقَادَةِ عَذَابٌ بِحَسْبِهِمْ، وَلِلْأَتْبَاعِ بِحَسْبِهِمْ ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٣٨].
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا فَرْوَة بْنُ أَبِي الْمِغْرَاءِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ (٣) بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ ضِرَارِ بْنِ صُرَد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الهُذَيل (٤)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَّا سِيقَ إِلَيْهَا أَهْلُهَا تَلَقَّاهم لَهَبُهَا، ثُمَّ لَفَحَتْهُم لَفْحَةً فَلَمْ يَبْقَ لَحْمٌ (٥) إِلَّا سَقَطَ عَلَى الْعُرْقُوبِ". (٦)
وَحَدَّثَنَا (٧) أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحُوَارَى، حَدَّثَنَا الطَّيِّبُ أَبُو الْحَسَنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى الخُشَني قَالَ: مَا فِي جَهَنَّمَ دَارٌ وَلَا مَغَارٌ وَلَا غِلٌّ وَلَا سِلْسِلَةٌ وَلَا قَيْدٌ، إِلَّا اسْمُ صَاحِبِهَا عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ. قَالَ: فَحَدَّثْتُهُ أَبَا سُلَيْمَانَ -يَعْنِي: الدَّارَانِيَّ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ (٨) -فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ. فَكَيْفَ بِهِ لَوْ جُمِعَ هَذَا كُلُّهُ عَلَيْهِ، فَجُعِلَ الْقَيْدُ فِي رِجْلَيْهِ، والغُلّ فِي يَدَيْهِ وَالسِّلْسِلَةُ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ أُدْخِلَ النَّارَ وَأُدْخِلَ الْمَغَارُ؟!
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٣٤) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ، وَآمِرًا لَهُ بِالتَّأَسِّي بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَمُخْبِرُهُ بِأَنَّهُ مَا بَعَثَ نَبِيًّا فِي قَرْيَةٍ إِلَّا كَذَّبَهُ (٩) مُتْرَفُوهَا، وَاتَّبَعَهُ ضُعَفَاؤُهُمْ، كَمَا قَالَ قَوْمُ نُوحٍ: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١١١]، ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هُودٍ: ٢٧]، وَقَالَ الْكُبَرَاءُ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ: ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الأعراف: ٧٥، ٧٦]
(١) في ت، س: "هل تجزون إلا ما كنتم تعلمون".
(٢) في أ: "نجازيهم بأعمالهم".
(٣) في أ: "سليم".
(٤) في ت: "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
(٥) في ت: "فلم يبق لهم لحم".
(٦) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٨٤٨) "مجمع البحرين" وأبو نعيم في الحلية (٤/٣٦٣) من طرق عن محمد بن سليمان الأصبهاني، به. وقال الهيثمى في المجمع (١٠/٣٨٩) :"وفيه محمد بن سليمان الأصبهاني وهو ضعيف".
(٧) في ت: "وروى".
(٨) في ت: "رحمه الله".
(٩) في ت: "إلا كفر به".
520
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٥٣] ؟ وَقَالَ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٢٢] وَقَالَ: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ (١) ] ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٦]. وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ﴾ أَيْ: نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ ﴿إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا﴾، وَهُمْ أُولُو النِّعْمَةِ وَالْحِشْمَةِ وَالثَّرْوَةِ والرياسة.
قال قتادة: هم جَبَابرتهم وقادتهم ورؤوسهم فِي الشَّرِّ. ﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونََ﴾ أَيْ: لَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَتَّبِعُهُ.
قَالَ (٢) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِين قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ شَرِيكَانِ (٣) خَرَجَ أَحَدُهُمَا إِلَى السَّاحِلِ وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ يَسْأَلُهُ: مَا فَعَلَ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِنَّمَا (٤) اتَّبَعَهُ أَرَاذِلُ (٥) النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ. قَالَ: فَتَرَكَ تِجَارَتَهُ ثُمَّ أَتَى صَاحِبَهُ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَيْهِ -قَالَ: وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، أَوْ بَعْضَ الْكُتُبِ-قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِلَامَ تَدْعُو؟ قَالَ: "إِلَى كَذَا وَكَذَا". قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: "وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ " قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلَّا اتَّبَعَهُ رُذَالة النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ. قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (٦) :﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ ] الْآيَاتِ] (٧)، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ تَصْدِيقَ مَا قُلْتَ". (٨)
وَهَكَذَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلَ، قَالَ فِيهَا: وَسَأَلْتُكَ: أَضُعَفَاءُ النَّاسِ اتَّبَعَهُ أَمْ أَشْرَافُهُمْ فَزَعَمْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُتْرَفِينَ الْمُكَذِّبِينَ: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينََ﴾ أَيِ: افْتَخَرُوا بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ وَاعْتِنَائِهِ بِهِمْ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ لِيُعْطِيَهُمْ هَذَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهَيْهَاتَ لَهُمْ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٥، ٥٦] وَقَالَ: ﴿فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: ٥٥]، (٩) وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا.﴾ [المدثر: ١١-١٧].
(١) زيادة من ت.
(٢) في ت: "روى".
(٣) في ت، س: "شريكين".
(٤) في س: "إلا".
(٥) في ت، س: "رذالة".
(٦) في ت، س: "الآيات".
(٧) زيادة من ت، س.
(٨) ورواه ابن أبي شيبة وابن المنذر كما في الدر المنثور (٦/٧٠٤) ووقع في الدر: "ابن زيد" بدل: "أبو رزين".
(٩) في ت، س: "أن يعذبهم".
521
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ صَاحِبِ تَيْنِكَ الْجَنَّتَيْنِ: أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ وَوَلَدٍ وَثَمَرٍ، ثُمَّ لَمْ تُغن عَنْهُ شَيْئًا، بَلْ سُلب ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ أَيْ: يُعْطِي الْمَالُ لِمَنْ يُحِبُّ ومَنْ لَا يُحِبُّ، فَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ وَيُغْنِي مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ الْقَاطِعَةُ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونََ﴾.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ أَيْ: لَيْسَتْ هَذِهِ دَلِيلًا عَلَى مَحَبَّتِنَا لَكُمْ، وَلَا اعْتِنَائِنَا بِكُمْ.
قَالَ (١) الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا كَثير، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٢) : إن اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ". [وَ] (٣) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَان، بِهِ. (٤)
وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ أَيْ: إِنَّمَا يُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا﴾ أَيْ: تُضَاعِفُ (٥) لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِعَشَرَةِ (٦) أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ أَيْ: فِي مَنَازِلِ الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ آمَنُونَ مِنْ كُلِّ بَأْسٍ وَخَوْفٍ وَأَذًى، وَمِنْ كُلِّ شَرٍّ يُحْذَر مِنْهُ.
قَالَ (٧) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا فَرْوَة بْنُ أَبِي الْمِغْرَاءِ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِر، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغرفا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا". فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: لِمَنْ هِيَ؟ قَالَ: "لِمَنْ طَيَّبَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، [وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسِ نِيَامٌ] " (٨) (٩).
﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ أَيْ: يَسْعَوْنَ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَالتَّصْدِيقِ بِآيَاتِهِ، ﴿أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ أَيْ: جَمِيعُهُمْ مَجْزيون بِأَعْمَالِهِمْ فِيهَا بِحَسْبِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ أَيْ: بِحَسْبِ مَا لَه فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، يَبْسُطُ عَلَى هَذَا مِنَ الْمَالِ كَثِيرًا، وَيُضَيِّقُ عَلَى هَذَا وَيَقْتُرُ عَلَى هَذَا رِزْقَهُ جِدًّا، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ مَا لَا يُدْرِكُهَا غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٢١] أَيْ: كَمَا هُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدُّنْيَا: هَذَا فَقِيرٌ مُدْقِعٌ، وَهَذَا غَنِيٌّ
(١) في ت: "كما روى".
(٢) في ت، س: "أن رسول الله ﷺ قال".
(٣) زيادة من س.
(٤) المسند (٢/٥٣٩) وصحيح مسلم برقم (٢٥٦٤) وسنن ابن ماجه برقم (٤١٤٣).
(٥) في س: "يضاعف".
(٦) في ت، س، أ: "بعشر".
(٧) في ت: "وروى".
(٨) زيادة من ت، أ.
(٩) ورواه الترمذي في السنن برقم (١٩٨٤) من طريق عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسحاق بأطول منه، وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حديث عبد الرحمن بن إسحاق، وقد تكلم أهل الحديث في عبد الرحمن بن إسحاق هذا من قبل حفظه وهو كوفي". قلت: وله شواهد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي مالك الأشعري وأبي معانق الأشعري، رضي الله عنهم.
522
مُوَسَّع عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ: هَذَا فِي الغُرفات فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَهَذَا فِي الغَمرَات فِي أَسْفَلِ الدَّرَكَاتِ. وَأَطْيَبُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ ورُزق كَفَافا، وقَنَّعه اللَّهُ بِمَا آتَاهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرو. (١)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ أَيْ: مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَأَبَاحَهُ لَكُمْ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْبَدَلِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ (٢) : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أنْفق (٣) أنْفق عَلَيْكَ" (٤). وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ مَلِكَيْنِ يَصيحان كُلَّ يَوْمٍ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: "اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكا تَلَفًا"، وَيَقُولُ الْآخَرُ: "اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا" (٥) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنْفِقْ بِلَالًا وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالَا" (٦).
وَقَالَ (٧) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الطَّلَّاسِ، حَدَّثَنَا هُشَيْم عَنِ الْكَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أَلَا إِنَّ بَعْدَكُمْ (٨) زَمَانٌ عَضُوضٌ، يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ (٩) حَذَارَ الْإِنْفَاقِ". ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينََ﴾ (١٠)
وَقَالَ (١١) الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا هُشَيم، عَنِ الْكَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "أَلَا إِنَّ بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانٌ عَضُوضٌ، يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ حَذَارَ الْإِنْفَاقِ"، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينََ﴾، وَيَنْهَل شِرَارُ الْخَلْقِ يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ، أَلَا إِنَّ بِيعَ الْمُضْطَرِّينَ حَرَامٌ، [أَلَا إِنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّينَ حَرَامٌ] (١٢) الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ. لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَعْرُوفٌ، فَعُد بِهِ عَلَى أَخِيكَ، وَإِلَّا فَلَا تَزده هَلَاكًا إِلَى هَلَاكِهِ".
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. (١٣)
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي يُونُسَ الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ مجاهد: لا يتأولن أحدكم هذه
(١) صحيح مسلم برقم (١٠٥٤).
(٢) في ت: "في الصحيح".
(٣) في أ: "ابن آدم أنفق".
(٤) رواه البخاري في صحيحه برقم (٤٦٨٤) ومسلم في صحيحه برقم (٩٩٣) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(٥) رواه البخاري في صحيحه برقم (١٤٤٢) ومسلم في صحيحه برقم (١٠١٠) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(٦) جاء عن جماعة من الصحابة، فرواه الطبراني في المعجم الكبير (١/٣٤٠) من طريق قيس بن الربيع عن أبي حصين، عن يحيي بن وثاب، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنه، وقيس بن الربيع ضعفوه. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١/٣٤٢)، وأبو يعلى في مسنده (١٠/٤٢٩) وأبو نعيم في الحلية (٢/٢٨٠) عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيربن عن أبي هريرة، رضى الله عنه. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١/٣٥٩) من طريق أبي إسحاق عن مسروق عن بلال، رضي الله عنه، وفيه ابن زبالة وهو ضعيف.
(٧) في ت: "وروي".
(٨) في س: "بعدكم هذا زمان".
(٩) في ت، س: "يديه".
(١٠) ذكره السيوطي في الدر (٦/٧٠٧) وقال: "أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند ضعيف فذكره".
(١١) في ت: "وروى".
(١٢) زيادة من ت، س.
(١٣) ذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (١/٢٦١) وعزاه لأبي يعلى في مسنده.
523
الْآيَةَ: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهَ﴾ : إِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِكُمْ مَا يُقِيمُهُ فَلْيَقْصِدْ فِيهِ، فَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ.
524
وقوله تعالى إخبارا عن المترفين المكذبين :﴿ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينََ ﴾ أي : افتخروا بكثرة الأموال والأولاد، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا، ثم يعذبهم في الآخرة، وهيهات لهم ذلك. قال الله :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥، ٥٦ ] وقال :﴿ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٥ ]، ١ وقال تعالى :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا. ﴾ [ المدثر : ١١ - ١٧ ].
١ - في ت، س: "أن يعذبهم"..
وقد أخبر الله عن صاحب تينك الجنتين : أنه كان ذا مال وولد وثمر، ثم لم تُغن عنه شيئا، بل سُلب ذلك كله في الدنيا قبل الآخرة ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾ أي : يعطي المال لمن يحب ومَنْ لا يحب، فيفقر مَنْ يشاء ويغني مَنْ يشاء، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة الدامغة القاطعة ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونََ ﴾.
ثم قال :﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ﴾ أي : ليست هذه دليلا على محبتنا لكم، ولا اعتنائنا بكم.
قال١ الإمام أحمد، رحمه الله : حدثنا كَثير، حدثنا جعفر، حدثنا يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم٢ :«إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ». [ و ]٣ رواه مسلم وابن ماجة، من حديث كثير بن هشام، عن جعفر بن بُرْقَان، به. ٤
ولهذا قال :﴿ إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ أي : إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح، ﴿ فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا ﴾ أي : تضاعف٥ لهم الحسنة بعشرة٦ أمثالها، إلى سبعمائة ضعف ﴿ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ أي : في منازل الجنة العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى، ومن كل شر يُحْذَر منه.
قال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء الكندي، حدثنا القاسم وعلي بن مُسْهِر، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن في الجنة لَغرفا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها ». فقال أعرابي : لمن هي ؟ قال :" لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، [ وصلى بالليل والناس نيام ] " ٨ ٩.
١ - في ت: "كما روى"..
٢ - في ت، س: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"..
٣ - زيادة من س..
٤ - المسند (٢/٥٣٩) وصحيح مسلم برقم (٢٥٦٤) وسنن ابن ماجه برقم (٤١٤٣)..
٥ - في س: "يضاعف"..
٦ - في ت، س، أ: "بعشر"..
٧ - في ت: "وروى"..
٨ - زيادة من ت، أ..
٩ - ورواه الترمذي في السنن برقم (١٩٨٤) من طريق علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق بأطول منه، وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، وقد تكلم أهل الحديث في عبد الرحمن بن إسحاق هذا من قبل حفظه وهو كوفي". قلت: وله شواهد من حديث عبد الله بن عمرو وأبي مالك الأشعري وأبي معانق الأشعري، رضي الله عنهم..
﴿ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ أي : يسعون في الصد عن سبيل الله، واتباع الرسل والتصديق بآياته، ﴿ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ أي : جميعهم مَجْزيون بأعمالهم فيها بحسبهم.
وقوله :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾ أي : بحسب مَا لَه في ذلك من الحكمة، يبسط على هذا من المال كثيرا، ويضيق على هذا ويقتر على هذا رزقه جدًا، وله في ذلك من الحكمة ما لا يدركها غيره، كما قال تعالى :﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ﴾ [ الإسراء : ٢١ ] أي : كما هم متفاوتون في الدنيا : هذا فقير مدقع، وهذا غني مُوَسَّع عليه، فكذلك هم في الآخرة : هذا في الغُرفات في أعلى الدرجات، وهذا في الغَمرَات في أسفل الدركات. وأطيب الناس في الدنيا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قد أفلح مَنْ أسلم ورُزق كَفَافا، وقَنَّعه الله بما آتاه ". رواه مسلم من حديث ابن عَمْرو. ١
وقوله :﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ أي : مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث٢ : يقول الله تعالى : أنْفق٣ أنْفق عليك " ٤. وفي الحديث : أن ملكين يَصيحان كل يوم، يقول أحدهما :" اللهم أعط مُمْسِكا تَلَفًا "، ويقول الآخر :" اللهم أعط منفقا خَلَفًا " ٥ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا " ٦.
وقال٧ ابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد العزيز الطلاس، حدثنا هُشَيْم عن الكوثر بن حكيم، عن مكحول قال : بلغني عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا إن بعدكم٨ زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يده٩ حذار الإنفاق ". ثم تلا هذه الآية :﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينََ ﴾١٠
وقال١١ الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا روح بن حاتم، حدثنا هُشَيم، عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال : بلغني عن حذيفة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يديه حذار الإنفاق "، قال الله تعالى :﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينََ ﴾، وَيَنْهَل شرار الخلق يبايعون كل مضطر، ألا إن بيع المضطرين حرام، [ ألا إن بيع المضطرين حرام ]١٢ المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله، إن كان عندك معروف، فَعُد به على أخيك، وإلا فلا تَزده هلاكا إلى هلاكه ".
هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي إسناده ضعف. ١٣
وقال سفيان الثوري، عن أبي يونس الحسن بن يزيد قال : قال مجاهد : لا يتأولن أحدكم هذه الآية :﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهَ ﴾ : إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه، فإن الرزق مقسوم.
١ - صحيح مسلم برقم (١٠٥٤)..
٢ - في ت: "في الصحيح"..
٣ - في أ: "ابن آدم أنفق"..
٤ - رواه البخاري في صحيحه برقم (٤٦٨٤) ومسلم في صحيحه برقم (٩٩٣) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه..
٥ - رواه البخاري في صحيحه برقم (١٤٤٢) ومسلم في صحيحه برقم (١٠١٠) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه..
٦ - جاء عن جماعة من الصحابة، فرواه الطبراني في المعجم الكبير (١/٣٤٠) من طريق قيس بن الربيع عن أبي حصين، عن يحيي بن وثاب، عن مسروق عن ابن مسعود، رضي الله عنه، وقيس بن الربيع ضعفوه. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١/٣٤٢)، وأبو يعلى في مسنده (١٠/٤٢٩) وأبو نعيم في الحلية (٢/٢٨٠) عن هشام بن حسان عن محمد بن سيربن عن أبي هريرة، رضى الله عنه. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١/٣٥٩) من طريق أبي إسحاق عن مسروق عن بلال، رضي الله عنه، وفيه ابن زبالة وهو ضعيف..
٧ - في ت: "وروي"..
٨ - في س: "بعدكم هذا زمان"..
٩ - في ت، س: "يديه"..
١٠ - ذكره السيوطي في الدر (٦/٧٠٧) وقال: "أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند ضعيف فذكره"..
١١ - في ت: "وروى"..
١٢ - زيادة من ت، س..
١٣ - ذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (١/٢٦١) وعزاه لأبي يعلى في مسنده..
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (٤٢) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْرَعُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رؤوس الْخَلَائِقِ، فَيَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَنْدَادَ الَّتِي هِيَ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: ﴿أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ ؟ أَيْ: أَنْتُمْ أَمَرْتُمْ هَؤُلَاءِ بِعِبَادَتِكُمْ؟ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ [الْفُرْقَانِ: ١٧]، وَكَمَا يَقُولُ لِعِيسَى: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ [الْمَائِدَةِ: ١١٦]. وَهَكَذَا تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أَيْ: تعاليتَ وَتَقَدَّسْتَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ إِلَهٌ ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ﴾ أَيْ: نَحْنُ عَبِيدُكَ وَنَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ، ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾ يَعْنُونَ: الشَّيَاطِينَ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ (١) يُزَيِّنُونَ لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَيُضِلُّونَهُمْ (٢)، ﴿أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنْ يَدْعُونَ (٣) مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ (٤) إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ [النِّسَاءِ: ١١٧].
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا﴾ أَيْ: لَا يَقَعُ لَكُمْ نَفْعٌ مِمَّنْ كُنْتُمْ تَرْجُونَ نَفْعَهُ الْيَوْمَ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، الَّتِي ادَّخَرْتُمْ عِبَادَتَهَا لِشَدَائِدِكُمْ وكُرَبكم، الْيَوْمَ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، ﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ -وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ- ﴿ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا.
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٥) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهُ الْعُقُوبَةَ وَالْأَلِيمَ من العذاب؛ لأنهم كانوا إذا تتلى
(١) في هـ: "الشياطين ثم الذين" والمثبت من ت، س.
(٢) في س: "ويضلوهم".
(٣) في س: "تدعون".
(٤) في س: "تدعون".
وهكذا تقول الملائكة :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ أي : تعاليتَ وتقدست عن أن يكون معك إله ﴿ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ﴾ أي : نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء، ﴿ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ﴾ يعنون : الشياطين ؛ لأنهم هم الذين١ يزينون لهم عبادة الأوثان ويضلونهم٢، ﴿ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ إِنْ يَدْعُونَ٣ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ٤ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا ﴾ [ النساء : ١١٧ ].
١ - في هـ: "الشياطين ثم الذين" والمثبت من ت، س..
٢ - في س: "ويضلوهم"..
٣ - في س: "تدعون"..
٤ - في س: "تدعون"..
قال الله تعالى :﴿ فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا ﴾ أي : لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه اليوم من الأنداد والأوثان، التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكُرَبكم، اليوم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا، ﴿ وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ - وهم المشركون - ﴿ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ أي : يقال لهم ذلك، تقريعا وتوبيخا.
يخبر تعالى عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب ؛ لأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات يسمعونها غَضَّةً طرية من لسان رسوله١ صلى الله عليه وسلم، ﴿ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ﴾، يعنون أن دين آبائهم هو الحق، وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل - عليهم وعلى آبائهم لعائن الله - ﴿ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى ﴾ يعنون : القرآن، ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾.
١ - في ت: "رسول الله"..
قال الله تعالى :﴿ وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ﴾ أي : ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن، وما أرسل إليهم نبيًا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يَوَدّون ذلك ويقولون : لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب، لكنا أهدى من غيرنا، فلما مَنَّ الله عليهم بذلك كذبوه وعاندوه وجحدوه.
ثم قال :﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ أي : من الأمم، ﴿ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ ﴾ قال ابن عباس : أي من القوة في الدنيا. وكذلك١ قال قتادة، والسدّي، وابن زيد. كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ الأحقاف : ٢٦ ]، ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً ﴾ [ غافر : ٨٢ ]، أي : وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا رده، بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله ؛ ولهذا قال :﴿ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ أي : فكيف كان نكالي وعقابي وانتصاري لرسلي٢ ؟.
١ - في ت، س: "وكذا"..
٢ - في ت: "أى فكيف كان عقابي وانتصاري لرسلي"..
عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ بَيِّنَاتٍ يَسْمَعُونَهَا غَضَّةً طَرِيَّةً مِنْ لِسَانِ رَسُولِهِ (١) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ﴾، يَعْنُونَ أَنَّ دِينَ آبَائِهِمْ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ -عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ- ﴿وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى﴾ يَعْنُونَ: الْقُرْآنَ، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾ أَيْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ مِنْ كِتَابٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانُوا يَوَدّون ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: لَوْ جَاءَنَا نَذِيرٌ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيْنَا كِتَابٌ، لَكُنَّا أَهْدَى مِنْ غَيْرِنَا، فَلَمَّا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَذَّبُوهُ وَعَانَدُوهُ وَجَحَدُوهُ. ثُمَّ قَالَ: ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ، ﴿وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مِنَ الْقُوَّةِ فِي الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ (٢) قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الْأَحْقَافِ: ٢٦]، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً﴾ [غَافِرٍ: ٨٢]، أَيْ: وَمَا دَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَلَا رَدَّهُ، بَلْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أَيْ: فَكَيْفَ كَانَ نَكَالِي وَعِقَابِي وَانْتِصَارِي لِرُسُلِي (٣) ؟
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٤٦) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّكَ مَجْنُونٌ: ﴿إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ أَيْ: إِنَّمَا آمُرُكُمْ بِوَاحِدَةٍ، وَهِيَ: ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ أَيْ: تَقُومُوا قِيَامًا خَالِصًا لِلَّهِ، مِنْ غَيْرِ هَوًى وَلَا عَصَبِيَّةٍ، فَيَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا: هَلْ بِمُحَمَّدٍ مِنْ جُنُونٍ؟ فَيَنْصَحُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ أَيْ: يَنْظُرُ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْأَلُ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ عَنْ شَأْنِهِ إِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، وَيَتَفَكَّرُ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾.
هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، والسُّدِّيّ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامِ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "أُعْطِيتُ ثَلَاثًا لَمْ يُعْطَهُنَّ مَن قَبْلِي وَلَا فَخْرٌ: أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِمَنْ قَبْلِي، كَانُوا قَبْلِي يَجْمَعُونَ غَنَائِمَهُمْ فَيَحْرُقُونَهَا. وبُعثت إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ
(١) في ت: "رسول الله".
(٢) في ت، س: "وكذا".
(٣) في ت: "أى فكيف كان عقابي وانتصاري لرسلي".
إِلَى قَوْمِهِ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، أَتَيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ، وَأُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ، قَالَ اللَّهُ: ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ وَأُعِنْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ بَيْنَ يَدَيَّ" -فَهُوَ حَدِيثٌ ضعيف الإسناد، وتفسير الآية بِالْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى بَعِيدٌ، وَلَعَلَّهُ مُقْحَمٌ فِي الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ ثَابِتٌ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا (١) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ : قَالَ (٢) الْبُخَارِيُّ عِنْدَهَا:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازم، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مرَّة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر (٣)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَعدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: "يَا صَبَاحَاهُ". فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبّحكم أَوْ يُمَسّيكم، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٍ". فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ! أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [الْمَسَدِ]. (٤)
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٢١٤].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، (٥) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَنَادَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، أَتُدْرُونَ مَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مثلُ قَوْمٍ خَافُوا عَدُوًّا يَأْتِيهِمْ، فَبَعَثُوا رَجُلًا يَتَرَاءَى لَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ أَبْصَرَ الْعَدُوَّ، فَأَقْبَلَ لِيُنْذِرَهُمْ وَخَشِيَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ، فَأَهْوَى بِثَوْبِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، أُوتِيتُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، أُوتِيتُمْ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ".
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ (٦) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ جَمِيعًا، إِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي". تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. (٧)
﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ (٤٨) ﴾.
(١) سبق تخريج حديث جابر، رضي الله عنه، في الصحيحين عند تفسير الآية: ٢٨ من هذه السورة.
(٢) في ت: "روى".
(٣) في ت: "بإسناده".
(٤) صحيح البخاري برقم (٤٨٠١).
(٥) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن زيد".
(٦) في ت "وبإسناده".
(٧) المسند (٥/٣٤٨).
وقوله :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ﴾، كقوله تعالى :﴿ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ غافر : ١٥ ]. أي : يرسل الملك إلى مَنْ يشاء من عباده من أهل الأرض، وهو علام الغيوب، فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض.
﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ: ﴿مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ أَيْ: لَا أُرِيدُ مِنْكُمْ جُعلا وَلَا عَطاء عَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، وَنُصْحِي إِيَّاكُمْ، وَأَمْرِكُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا أَطْلُبُ ثَوَابَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أَيْ: عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ، بِمَا أَنَا عَلَيْهِ مِنْ إِخْبَارِي عَنْهُ بِإِرْسَالِهِ إِيَّايَ إِلَيْكُمْ، وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {
526
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [غَافِرٍ: ١٥]. أَيْ: يُرْسِلُ الْمَلَكَ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَلَا تَخْفَى عليه خافية في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ أَيْ: جَاءَ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرْعِ الْعَظِيمِ، وذهبَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَاضْمَحَلَّ، كَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ (١) ] ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٨]، وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَوَجَدَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ مَنْصُوبَةً حَوْلَ الْكَعْبَةِ، جَعَلَ يَطعنُ الصَّنَمَ (٢) بسِيَة قَوْسِه، وَيَقْرَأُ: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾، ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَحْدَهُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَر عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخبَرَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِهِ (٣).
أَيْ: لَمْ يَبْقَ لِلْبَاطِلِ مَقَالَةً وَلَا رِيَاسَةً وَلَا كَلِمَةً.
وَزَعَمَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَنَّ المراد بالباطل ها هنا إِبْلِيسُ، إِنَّهُ لَا يَخْلُقُ أَحَدًا وَلَا يُعِيدُهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَقًا وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا (٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ أَيِ: الْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَفِيمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْوَحْيِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ فِيهِ الْهُدَى وَالْبَيَانُ وَالرَّشَادُ، ومَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا سُئِلَ عَنْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي المفوَضة: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. (٥)
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ أَيْ: سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ، قَرِيبٌ مُجِيبٌ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَاهُ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ هَاهُنَا حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ [أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ] (٦) :"إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سميعا " (٧) قريبا مجيبا". (٨)
(١) زيادة من ت.
(٢) في ت، س، أ: "الصنم منها".
(٣) صحيح البخاري برقم (٢٤٧٨، ٤٢٨٧) وصحيح مسلم برقم (١٧٨١) وسنن الترمذي برقم (٣١٣٨) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٢٨).
(٤) في ت: "الآية"
(٥) انظر الأثر في المسند (١/٤٧٧).
(٦) زيادة من ت، أ.
(٧) في أ: "سميعا بصيرا".
(٨) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٢٧) وصحيح البخاري برقم (٤٢٠٥) وصحيح مسلم برقم (٢٧٠٤).
527
وقوله :﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾ أي : الخير كله من عند الله، وفيما أنزله الله عز وجل من الوحي والحق المبين فيه الهدى والبيان والرشاد، ومَنْ ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه، كما قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، لما سئل عن تلك المسألة في المفوَضة : أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. ١
وقوله :﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ أي : سميع لأقوال عباده، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه. وقد روى النسائي هاهنا حديث أبي موسى الذي في الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ]٢ :«إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا " ٣ قريبا مجيبا ». ٤
١ - انظر الأثر في المسند (١/٤٧٧)..
٢ - زيادة من ت، أ..
٣ - في أ: "سميعا بصيرا"..
٤ - النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٢٧) وصحيح البخاري برقم (٤٢٠٥) وصحيح مسلم برقم (٢٧٠٤)..
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى -يَا مُحَمَّدُ-إِذْ فَزِع هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ (١) يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿فَلا فَوْتَ﴾ أَيْ: فَلَا مَفَرَّ لَهُمْ، وَلَا وِزْرَ وَلَا مَلْجَأَ ﴿وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ أَيْ: لَمْ يَكُونُوا يُمنعون فِي الْهَرَبِ (٢) بَلْ أُخِذُوا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حِينَ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَقَتَادَةُ: مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: يَعْنِي: عَذَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي: قَتَلَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الطَّامَّةُ الْعُظْمَى، وَإِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَيْشٌ يُخْسَفُ بِهِمْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ أَوْرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَوْضُوعًا بِالْكُلِّيَّةِ. ثُمَّ لَمْ يُنَبِّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ غَرِيبٌ مِنْهُ
﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ (٣)، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السَّجْدَةِ: ١٢] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ أَيْ: وَكَيْفَ لَهُمْ تَعَاطِي (٤) الْإِيمَانِ وَقَدْ بَعُدُوا عَنْ مَحَلِّ قَبُولِهِ مِنْهُمْ وَصَارُوا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةَ، وَهِيَ دَارُ الْجَزَاءِ لَا دَارُ الِابْتِلَاءِ، فَلَوْ كَانُوا آمِنُوا فِي الدُّنْيَا لَكَانَ ذَلِكَ نَافِعَهُمْ، وَلَكِنْ بَعْدَ مَصِيرِهِمْ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةَ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى قَبُولِ الْإِيمَانِ، كَمَا لَا سَبِيلَ إِلَى حُصُولِ الشَّيْءِ لِمَنْ يَتَنَاوَلُهُ مِنْ بَعِيدٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ﴾ قَالَ: التَّنَاوُلُ لِذَلِكَ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: التَّنَاوُشُ: تَنَاوُلُهُمُ الْإِيمَانَ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَمَا إِنَّهُمْ طَلَبُوا الْأَمْرَ مِنْ حَيْثُ لَا يُنَالُ، تَعَاطَوُا الْإِيمَانَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلَبُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا وَالتَّوْبَةَ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَلَيْسَ بِحِينِ (٥) رَجْعَةٍ وَلَا تَوْبَةٍ. وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: كَيْفَ يَحْصُلُ لَهُمُ الْإِيمَانُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِالْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَكَذَّبُوا بِالرُّسُلِ؟
﴿وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ : قَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسلم: ﴿وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ﴾ قال: بالظن.
(١) في ت: "المكذبين".
(٢) في ت: "لم يمكنوا أي يمنعوا عن الهرب"، وفي س، أ: "لم يمكنوا أن يمنعوا في الهرب"
(٣) في ت، أ: "وبرسله".
(٤) في ت، س، أ: "تعاطى عن".
(٥) في ت، أ: "وليس هو حين".
528
قُلْتُ: كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾ [الْكَهْفِ: ٢٢]، فَتَارَةً يَقُولُونَ: شَاعِرٌ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: كَاهِنٌ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: سَاحِرٌ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: مَجْنُونٌ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالْغَيْبِ (١) وَالنُّشُورِ وَالْمَعَادِ، وَيَقُولُونَ: ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الْجَاثِيَةِ: ٣٢].
قَالَ قَتَادَةُ: يَرْجُمُونَ بِالظَّنِّ، لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ : قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمَا: يَعْنِي: الْإِيمَانُ.
وَقَالَ السُّدِّي: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ وَهِيَ: التَّوْبَةُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا، مِنْ مَالٍ وَزَهْرَةٍ وَأَهْلٍ. وَرُوِيَ [ذَلِكَ] (٢) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَجَمَاعَةٍ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا طَلَبُوهُ فِي الْآخِرَةِ، فَمُنِعُوا مِنْهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا [عَجِيبًا] (٣) جِدًّا، فَلْنَذْكُرُهُ بِطُولِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ حُجْرٍ السَّامِيُّ (٤)، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَنْصُورٍ الْأَنْبَارِيُّ، عَنِ الشَّرَقيّ ابن قُطَامي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاتِحًا -أَيْ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ مَالًا-فَمَاتَ فَوَرِثَهُ ابْنٌ لَهُ تَافِهٌ -أَيْ: فَاسِدٌ-فَكَانَ يَعْمَلُ فِي مَالِ اللَّهِ بِمَعَاصِي اللَّهِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِخْوَانُ أَبِيهِ أَتَوُا الْفَتَى فَعَذَلُوهُ وَلَامُوهُ، فَضَجِرَ الْفَتَى فَبَاعَ عَقَارَهُ بِصَامِتَ، ثُمَّ رَحَلَ فَأَتَى عَيْنًا ثجاجَة فسرَح فِيهَا مَالَهُ، وَابْتَنَى قَصْرًا. فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسٍ إِذْ شمَلت عَلَيْهِ [رِيحٌ] (٥) بِامْرَأَةٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبِهِمْ أرَجا -أَيْ: رِيحًا-فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنَا امْرُؤٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَتْ: فَلَكَ هَذَا الْقَصْرُ، وَهَذَا الْمَالُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَهَلْ لَكَ مِنْ زَوْجَةٍ؟ قَالَ: لَا. قَالَتْ: فَكَيْفَ يَهْنيك الْعَيْشُ وَلَا زَوْجَةَ لَكَ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ. فَهَلْ لَكِ مِنْ بَعل؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَهَلْ لَكِ إِلَى أَنْ أَتَزَوَّجَكِ؟ قَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ مِنْكَ عَلَى مَسِيرَةِ مِيلٍ، فَإِذَا كَانَ غَدٌ فَتَزَوَّدْ زَادَ يَوْمٍ وَأْتِنِي، وَإِنْ رَأَيْتَ فِي طَرِيقِكَ هَوْلًا فَلَا يَهُولنَّكَ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ تَزَوَّدُ زَادَ يَوْمٍ، وَانْطَلَقَ فَانْتَهَى إِلَى قَصْرٍ، فَقَرَعَ رِتَاجَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ شَابٌّ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبِهِمْ أرَجًا -أَيْ: رِيحًا-فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنَا الْإِسْرَائِيلِيُّ. قَالَ فَمَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: دَعَتْنِي صَاحِبَةُ هَذَا الْقَصْرِ إِلَى نَفْسِهَا. قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ فَهَلْ رَأَيْتَ فِي طَرِيقِكَ [هَوْلًا؟] (٦) قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْلَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنْ لَا بَأْسَ عَلَيَّ، لَهَالَنِي الَّذِي رَأَيْتُ؛ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ، إذا أنا بكلبة فاتحة
(١) في ت، س، أ: "بالبعث".
(٢) زيادة من ت.
(٣) زيادة من س، أ.
(٤) في ت: "الشامي".
(٥) زيادة من ت، س، والدر المنثور.
(٦) زيادة من ت، س، والدر المنثور.
529
فَاهَا، فَفَزِعْتُ، فَوَثَبت فَإِذَا أَنَا مِنْ وَرَائِهَا، وَإِذَا جِرَاؤُهَا يَنْبَحْنَّ فِي بَطْنِهَا. فَقَالَ لَهُ الشَّابُّ: لَسْتَ تُدْرِكُ هَذَا، هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، يُقَاعِدُ الْغُلَامُ الْمَشْيَخَةَ فِي مَجْلِسِهِمْ ويَبُزّهم حَدِيثَهُمْ.
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ، إِذَا أَنَا بِمِائَةِ عَنْزٍ حُفَّل، وَإِذَا فِيهَا جَدْي يَمُصُّهَا، فَإِذَا أَتَى عَلَيْهَا وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا، فَتَحَ فَاهُ يَلْتَمِسُ الزِّيَادَةَ. فَقَالَ: لَسْتَ تُدْرِكُ هَذَا، هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، مَلِكٌ يَجْمَعُ صَامِتَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَتَحَ فَاهُ يَلْتَمِسُ الزِّيَادَةَ.
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ إِذَا أَنَا بِشَجَرٍ، فَأَعْجَبَنِي غُصْنٌ مِنْ شَجَرَةٍ مِنْهَا نَاضِرٌ، فَأَرَدْتُ قِطْعَهُ، فَنَادَتْنِي شَجَرَةٌ أُخْرَى: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، مِنِّي فَخُذْ". حَتَّى نَادَانِي الشَّجَرُ أَجْمَعُ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، مِنَّا فَخُذْ". قَالَ: لَسْتَ تُدْرِكُ هَذَا، هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ (١) النِّسَاءُ، حَتَّى إِنِ الرَّجُلَ لَيَخْطُبَ الْمَرْأَةَ فَتَدْعُوهُ الْعَشْرُ وَالْعِشْرُونَ إِلَى أَنْفُسِهِنَّ.
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل قَائِمٍ عَلَى عَيْنٍ، يَغْرِفُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنَ الْمَاءِ، فَإِذَا تَصَدعوا عَنْهُ صَبّ فِي جَرّته فَلَمْ تَعلَق جَرته مِنَ الْمَاءِ بِشَيْءٍ. قَالَ: لَسْتَ تُدْرِكُ هَذَا، هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، الْقَاصُّ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْعِلْمَ ثُمَّ يُخَالِفُهُمْ إِلَى مَعَاصِي اللَّهِ.
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ إِذَا أَنَا بِعَنْزٍ وَإِذَا بِقَوْمٍ قَدْ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهَا، وَإِذَا رَجُلٌ قَدْ أَخَذَ بِقَرْنَيْهَا، وَإِذَا رَجُلٌ قَدْ أَخَذَ بذَنَبها، وَإِذَا رَجُلٌ (٢) قَدْ رَكِبَهَا، وَإِذَا رَجُلٌ يَحْلِبُهَا. فَقَالَ: أَمَّا الْعَنْزُ فَهِيَ الدُّنْيَا، وَالَّذِينَ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهَا يَتَسَاقَطُونَ مِنْ عَيْشِهَا، وَأَمَّا الَّذِي قَدْ أَخَذَ بِقَرْنَيْهَا فَهُوَ يُعَالِجُ مِنْ عَيْشِهَا ضِيقًا، وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ بِذَنَبِهَا فَقَدْ أَدْبَرَتْ عَنْهُ، وَأَمَّا الَّذِي رَكِبَهَا (٣) فَقَدْ تَرَكَهَا. وَأَمَّا الَّذِي يَحْلِبُهَا فَبخٍ [بخٍ] (٤)، ذَهَبَ ذَلِكَ (٥) بِهَا.
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ، وَإِذَا أَنَا بَرْجَلٍ يمْتح عَلَى قَليب، كُلَّمَا أَخْرَجَ (٦) دَلْوَهُ صبَّه فِي الْحَوْضِ، فَانْسَابَ الْمَاءُ رَاجِعًا إِلَى الْقَلِيبِ. قَالَ: هَذَا رَجُلٌ رَدّ اللَّهُ [عَلَيْهِ] (٧) صَالِحَ عَمَلِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ.
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ، إِذَا أَنَا بَرْجَلٍ يبذُر بَذْرًا فَيُسْتَحْصَدُ، فَإِذَا حِنْطَةٌ طَيِّبَةٌ. قَالَ: هَذَا رَجُلٌ قَبِلَ اللَّهُ صَالِحَ عَمَلِهِ، وَأَزْكَاهُ (٨) لَهُ.
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى [إِذَا] (٩) انْفَرَجَ بِي السَّبِيلُ، إِذَا أَنَا بَرْجَلٍ مُسْتَلْقٍ عَلَى قَفَاهُ، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، ادْنُ مِنِّي فَخُذْ بِيَدِي وَأَقْعِدْنِي، فَوَاللَّهِ مَا قَعَدْتُ مُنْذُ خَلَقَنِي اللَّهُ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقَامَ يَسْعَى حَتَّى مَا أَرَاهُ. فَقَالَ لَهُ الْفَتَى: هَذَا عمْر الْأَبْعَدِ نَفَد، أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَنَا الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَتْكَ... (١٠) أَمَرَنِي اللَّهُ بِقَبْضِ رَوْحِ الْأَبْعَدِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، ثُمَّ أُصَيِّرُهُ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ قَالَ: فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ الآية.
(١) في ت: "وتكثر".
(٢) في ت، س، أ: "راكب".
(٣) في ت، س، أ: "الذي قد ركبها".
(٤) زيادة من ت، س، أ، والدر المنثور.
(٥) في ت، س، أ: "ذاك".
(٦) في أ: "فلما أن خرج".
(٧) زيادة من ت، س، أ.
(٨) في أ: "وزكاه".
(٩) زيادة من ت، س.
(١٠) في أ: "أتيتك".
530
هَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ (١)، وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ، وَتَنْزِيلُ [هَذِهِ] (٢) الْآيَةِ عَلَيْهِ وَفِي حَقِّهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ كُلَّهُمْ يُتَوَفَّوْنَ وَأَرْوَاحُهُمْ مُتَعَلَّقَةٌ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا جَرَى لِهَذَا الْمَغْرُورِ الْمَفْتُونِ، ذَهَبَ يَطْلُبُ مُرَادَهُ فَجَاءَهُ الْمَوْتُ فَجْأَةً بَغْتَةً، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِي.
وَقَوْلُهُ: ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: كَمَا جَرَى لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، لَمَّا جَاءَهُمْ بِأْسُ اللَّهِ تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ آمَنُوا فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ، ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غَافِرٍ: ٨٤، ٨٥].
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ﴾ أَيْ: كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي شَكٍّ وَرِيبَةٍ، فَلِهَذَا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ.
قَالَ قَتَادَةُ: إِيَّاكُمْ وَالشَّكَّ وَالرِّيبَةَ. فَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى شَكٍّ بُعِثَ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى يَقِينٍ بُعِثَ عَلَيْهِ.
آخَرُ تَفْسِيرِ سورة "سبأ" ولله الحمد والمنة.
(١) الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور (٦/٧١٦) وعزاه لابن أبي حاتم.
(٢) زيادة من ت.
531
﴿ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ ﴾ أي : يوم القيامة يقولون : آمنا بالله وبكتبه ورسله١، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ١٢ ] ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ أي : وكيف لهم تعاطي٢ الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم وصاروا إلى الدار الآخرة، وهي دار الجزاء لا دار الابتلاء، فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم، ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان، كما لا سبيل إلى حصول الشيء لمن يتناوله من بعيد.
قال مجاهد :﴿ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ ﴾ قال : التناول لذلك.
وقال الزهري : التناوش : تناولهم الإيمان وهم في الآخرة، وقد انقطعت عنهم الدنيا.
وقال الحسن البصري : أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال، تعاطوا الإيمان من مكان بعيد.
وقال ابن عباس : طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه، وليس بحين٣ رجعة ولا توبة. وكذا قال محمد بن كعب القرظي، رحمه الله.
١ - في ت، أ: "وبرسله"..
٢ - في ت، س، أ: "تعاطى عن"..
٣ - في ت، أ: "وليس هو حين"..
وقوله :﴿ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ﴾ أي : كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة، وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا بالرسل ؟
﴿ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ : قال مالك، عن زيد بن أسلم :﴿ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ قال : بالظن.
قلت : كما قال تعالى :﴿ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ﴾ [ الكهف : ٢٢ ]، فتارة يقولون : شاعر. وتارة يقولون : كاهن. وتارة يقولون : ساحر. وتارة يقولون : مجنون. إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالغيب١ والنشور والمعاد، ويقولون :﴿ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ [ الجاثية : ٣٢ ].
قال قتادة : يرجمون بالظن، لا بعث ولا جنة ولا نار.
١ - في ت، س، أ: "بالبعث"..
وقوله :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ : قال الحسن البصري، والضحاك، وغيرهما : يعني : الإيمان.
وقال السُّدِّي :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ وهي : التوبة. وهذا اختيار ابن جرير، رحمه الله.
وقال مجاهد :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ من هذه الدنيا، من مال وزهرة وأهل. وروي [ ذلك ]١ عن ابن عباس وابن عمر والربيع بن أنس. وهو قول البخاري وجماعة. والصحيح : أنه لا منافاة بين القولين ؛ فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة، فمنعوا منه.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا أثرًا غريبا [ عجيبا ]٢ جدًا، فلنذكره بطوله فإنه قال : حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا بشر بن حجر السامي٣، حدثنا علي بن منصور الأنباري، عن الشَّرَقيّ ابن قُطَامي، عن سعيد بن طريف، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قول الله عز وجل :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ إلى آخر الآية، قال : كان رجل من بني إسرائيل فاتحًا - أي فتح الله له مالا - فمات فورثه ابن له تافه - أي : فاسد - فكان يعمل في مال الله بمعاصي الله. فلما رأى ذلك إخوان أبيه أتوا الفتى فعذلوه ولاموه، فضجر الفتى فباع عقاره بصامت، ثم رحل فأتى عينا ثجاجَة فسرَح فيها ماله، وابتنى قصرًا. فبينما هو ذات يوم جالس إذ شمَلت عليه [ ريح ]٤ بامرأة من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرَجا - أي : ريحًا - فقالت : من أنت يا عبد الله ؟ فقال : أنا امرؤ من بني إسرائيل قالت : فلك هذا القصر، وهذا المال ؟ قال : نعم. قالت : فهل لك من زوجة ؟ قال : لا. قالت : فكيف يَهْنيك العيش ولا زوجة لك ؟ قال : قد كان ذلك. فهل لك من بَعل ؟ قالت : لا. قال : فهل لك إلى أن أتزوجك ؟ قالت : إني امرأة منك على مسيرة ميل، فإذا كان غد فتزوّد زاد يوم وأتني، وإن رأيت في طريقك هولا فلا يَهُولنَّكَ. فلما كان من الغد تزود زاد يوم، وانطلق فانتهى إلى قصر، فقرع رتاجه، فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرَجًا - أي : ريحًا - فقال : من أنت يا عبد الله ؟ فقال : أنا الإسرائيلي. قال فما حاجتك ؟ قال : دعتني صاحبة هذا القصر إلى نفسها. قال : صدقت، قال فهل رأيت في طريقك [ هولا ؟ ] ٥ قال : نعم، ولولا أنها أخبرتني أن لا بأس عليّ، لهالني الذي رأيت ؛ أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا بكلبة فاتحة فاها، ففزعت، فَوَثَبت فإذا أنا من ورائها، وإذا جراؤها ينبحن في بطنها. فقال له الشاب : لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، يقاعد الغلام المشيخة في مجلسهم ويَبُزّهم حديثهم.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا بمائة عنز حُفَّل، وإذا فيها جَدْي يمصّها، فإذا أتى عليها وظن أنه لم يترك شيئًا، فتح فاه يلتمس الزيادة. فقال : لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، ملك يجمع صامت الناس كلّهم، حتى إذا ظن أنه لم يترك شيئًا فتح فاه يلتمس الزيادة.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بشجر، فأعجبني غصن من شجرة منها ناضر، فأردت قطعة، فنادتني شجرة أخرى :" يا عبد الله، مني فخذ ". حتى ناداني الشجر أجمع :" يا عبد الله، منا فخذ ". قال : لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، يقل الرجال ويكثر٦ النساء، حتى إن الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل قائم على عين، يغرف لكل إنسان من الماء، فإذا تَصَدعوا عنه صَبّ في جَرّته فلم تَعلَق جَرته من الماء بشيء. قال : لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، القاص يعلم الناس العلم ثم يخالفهم إلى معاصي الله.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز وإذا بقوم قد أخذوا بقوائمها، وإذا رجل قد أخذ بقرنيها، وإذا رجل قد أخذ بذَنَبها، وإذا رجل٧ قد ركبها، وإذا رجل يحلبها. فقال : أما العنز فهي الدنيا، والذين أخذوا بقوائمها يتساقطون من عيشها، وأما الذي قد أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقًا، وأما الذي أخذ بذنبها فقد أدبرت عنه، وأما الذي ركبها٨ فقد تركها. وأما الذي يحلبها فَبخٍ [ بخٍ ] ٩، ذهب ذلك١٠ بها.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، وإذا أنا برجل يمْتح على قَليب، كلما أخرج١١ دلوه صبَّه في الحوض، فانساب الماء راجعًا إلى القليب. قال : هذا رجل رَدّ الله [ عليه ]١٢ صالح عمله، فلم يقبله.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا برجل يبذُر بذرًا فيستحصد، فإذا حنطة طيبة. قال : هذا رجل قبل الله صالح عمله، وأزكاه١٣ له.
قال : ثم أقبلت حتى [ إذا ]١٤ انفرج بي السبيل، إذا أنا برجل مستلق على قفاه، قال : يا عبد الله، ادن مني فخذ بيدي وأقعدني، فوالله ما قعدت منذ خلقني الله فأخذت بيده، فقام يسعى حتى ما أراه. فقال له الفتى : هذا عمْر الأبعد نَفَد، أنا ملك الموت وأنا المرأة التي أتتك. . . ١٥ أمرني الله بقبض روح الأبعد في هذا المكان، ثم أصيره إلى نار جهنم قال : ففيه نزلت هذه :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ الآية.
هذا أثر غريب١٦، وفي صحته نظر، وتنزيل [ هذه ]١٧ الآية عليه وفي حقه بمعنى أن الكفار كلهم يتوفون وأرواحهم متعلقة بالحياة الدنيا، كما جرى لهذا المغرور المفتون، ذهب يطلب مراده فجاءه الموت فجأة بغتة، وحيل بينه وبين ما يشتهي.
وقوله :﴿ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ﴾ أي : كما جرى للأمم الماضية المكذبة للرسل، لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم، ﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ [ غافر : ٨٤، ٨٥ ].
وقوله :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ﴾ أي : كانوا في الدنيا في شك وريبة، فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب.
قال قتادة : إياكم والشك والريبة. فإن من مات على شك بُعِثَ عليه، ومن مات على يقين بعث عليه.
آخر تفسير سورة " سبأ " ولله الحمد والمنة.
١ - زيادة من ت..
٢ - زيادة من س، أ..
٣ - في ت: "الشامي"..
٤ - زيادة من ت، س، والدر المنثور..
٥ - زيادة من ت، س، والدر المنثور..
٦ - في ت: "وتكثر"..
٧ -ى في ت، س، أ: "راكب"..
٨ - في ت، س، أ: "الذي قد ركبها"..
٩ - زيادة من ت، س، أ، والدر المنثور..
١٠ - في ت، س، أ: "ذاك"..
١١ - في أ: "فلما أن خرج"..
١٢ - زيادة من ت، س، أ..
١٣ - في أ: "وزكاه"..
١٤ - زيادة من ت، س..
١٥ - في أ: "أتيتك"..
١٦ - الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور (٦/٧١٦) وعزاه لابن أبي حاتم..
١٧ - زيادة من ت..
Icon