تفسير سورة الطلاق

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ
تفسير سورة الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد
١- سورة " الطلاق " من السور المدنية الخالصة، وقد سماها عبد الله بن مسعود بسورة النساء القصري، أما سورة النساء الكبرى فهي التي بعد سورة آل عمران.
وكان نزولها بعد سورة " الإنسان " وقبل سورة " البينة "، وترتيبها بالنسبة للنزول : السادسة والتسعون، أما ترتيبها بالنسبة لترتيب المصحف، فهي السورة الخامسة والستون.
٢- وعدد آياتها إحدى عشرة آية في المصحف البصري، وفيما عداه اثنتا عشرة آية.
٣- ومعظم آياتها يدور حول تحديد أحكام الطلاق، وما يترتب عليه من أحكام العدة، والإرضاع، والإنفاق، والسكن، والإشهاد على الطلاق، وعلى المراجعة.
وخلال ذلك تحدثت السورة الكريمة حديثا جامعا عن وجوب تقوى الله –تعالى- وعن مظاهر قدرته، وعن حسن عاقبة التوكل عليه، وعن يسره في تشريعاته، وعن رحمته بهذه الأمة حيث أرسل فيها رسوله صلى الله عليه وسلم ليتلو على الناس آيات الله –تعالى- ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بإذنه –سبحانه-.

التفسير
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣)
افتتح الله- تعالى- السورة الكريمة بتوجيه النداء إلى النبي ﷺ فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ.
وأحكام الطلاق التي وردت في هذه الآية، تشمل النبي ﷺ كما تشمل جميع المكلفين من أمته صلى الله عليه وسلم.
وإنما كان النداء له ﷺ وكان الخطاب بالحكم عاما له ولأمته، تشريفا وتكريما له ﷺ لأنه هو المبلغ للناس، وهو إمامهم وقدوتهم والمنفذ لأحكام الله- تعالى- فيهم.
440
قال صاحب الكشاف: خصّ النبي ﷺ بالنداء، وعمّ بالخطاب، لأن النبي ﷺ إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان: افعلوا كيت وكيت، وإظهارا لتقدمه، واعتبارا لترؤسه، وأنه مدرة قومه ولسانهم- والمدرة: القرية.
أى: أنه بمنزلة القرية لقومه، وأنه الذي يصدرون عن رأيه، ولا يستبدون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلهم، وساد مسد جميعهم «١».
وهذا التفسير الذي اقتصر عليه صاحب الكشاف، هو المعول عليه، وهو الذي يناسب بلاغة القرآن وفصاحته، ويناسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الخطاب له ولأمته: والتقدير: يا أيها النبي وأمته إذا طلقتم، فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه.
وقيل: هو خطاب لأمته فقط، بعد ندائه- عليه السلام- وهو من تلوين الخطاب، خاطب أمته بعد أن خاطبه.
وقيل: إن الكلام على إضمار قول، أى: يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم «٢».
والحق أن الذي يتدبر القرآن الكريم، يرى أن الخطاب والأحكام المترتبة عليه، تارة تكون خاصة به ﷺ كما في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ.
وتارة يكون شاملا له ﷺ ولأمته كما في هذه الآية التي معنا، وكما في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.
وتارة يكون ﷺ خارجا عنه كما في قوله- تعالى-: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ، وَلا تَنْهَرْهُما، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً «٣».
فصيغة الخطاب هنا وإن كانت موجهة إلى النبي ﷺ إلا أنه ليس داخلا فيها، لأن والديه لم يكونا موجودين عند نزول هاتين الآيتين.
والمراد بقوله: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ أى: إذا أردتم تطليقهن، لأن طلاق المطلقة من باب تحصيل الحاصل.
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٥٢.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٥٥.
(٣) سورة الإسراء: ٢٣، ٢٤.
441
وهذا الأسلوب يرد كثيرا في القرآن الكريم، ومنه قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ.. أى: إذا أردتم القيام للصلاة فاغسلوا.
والمراد بالنساء هنا: الزوجات المدخول بهن، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «١».
واللام في قوله- سبحانه-: فطلقوهن لعدتهن، هي التي تسمى بلام التوقيت، وهي بمعنى عند، أو بمعنى في، كما يقول القائل: كتبت هذا الكتاب لعشر مضين من شهر كذا.
ومنه قوله- تعالى-: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ..: أى عند أو في وقت دلوكها.
وقوله: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ من الإحصاء بمعنى العد والضبط، وهو مشتق من الحصى، وهي من صغار الحجارة، لأن العرب كانوا إذا كثر عدد الشيء، جعلوا لكل واحد من المعدود حصاة، ثم عدوا مجموع ذلك الحصى.
والمراد به هنا: شدة الضبط، والعناية بشأن العد، حتى لا يحصل خطأ في وقت العدة.
والمعنى: يا أيها النبي، أخبر المؤمنين ومرهم، إذا أرادوا تطليق نسائهم المدخول بهن، من المعتدات بالحيض. فعليهم أن يطلقوهن في وقت عدتهن.
أى: في طهر لم يجامعوهن فيه، ثم يتركوهن حتى تنقضي عدتهن.
وعليهم كذلك أن يضبطوا أيام العدة ضبطا تاما حتى لا يقع في شأنها خطأ أو لبس.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: خوطب النبي ﷺ أولا تشريفا وتكريما، ثم خاطب الأمة تبعا، فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ....
روى ابن أبى حاتم عن أنس قال: طلق النبي ﷺ حفصة، فأتت أهلها، فأنزل الله- تعالى- هذه الآية. وقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من أزواجك في الجنة.
وروى البخاري أن عبد الله بن عمر، طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله ﷺ ذلك، فتغيظ ﷺ ثم قال: فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله- تعالى-.
(١) سورة الأحزاب: الآية ٤٩.
442
ثم قال- رحمه الله-: ومن هاهنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق، وقسموه إلى طلاق سنة، وطلاق بدعة.
فطلاق السنة: أن يطلقها طاهرا من غير جماع، أو حاملا قد استبان حملها.
والبدعى: هو أن يطلقها في حال الحيض، - وما يشبهه كالنفاس-، أو في طهر قد جامعها فيه، ولا يدرى أحملت أم لا؟.. «١».
وتعليق طَلَّقْتُمُ بإذا الشرطية، يشعر بأن الطلاق خلاف الأصل، إذ الأصل في الحياة الزوجية أن تقوم على المودة والرحمة، وعلى الدوام والاستقرار.
قال- تعالى-: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً....
قال القرطبي: روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول ﷺ «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق».
وعن أبى موسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله- عز وجل- لا يحب الذواقين ولا الذواقات».
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حلف بالطلاق، ولا استحلف به إلا منافق» «٢».
والمراد بالأمر في قوله- تعالى-: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم اتباعه إذا ما أرادوا مفارقة أزواجهم، ونهيهم عن إيقاع الطلاق في حال الحيض أو ما يشبهها كالنفاس، لأن ذلك يكون طلاقا بدعيا محرما، إذ يؤدى إلى تطويل عدة المرأة لأن بقية أيام الحيض لا تحسب من العدة، ويؤدى- أيضا- إلى عدم الوفاء لها، حيث طلقها في وقت رغبته فيها فاترة...
ولكن الطلاق مع ذلك يعتبر واقعا ونافذا عند جمهور العلماء.
قال القرطبي: من طلق في طهر لم يجامع فيه، نفذ طلاقه وأصاب السنة، وإن طلقها وهي حائض نفذ طلاقه وأخطأ السنة.
وقال سعيد بن المسيب: لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة، وإليه ذهبت الشيعة.
(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٦٩.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٤٩.
443
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتى وهي حائض، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فتغيظ وقال: فليراجعها ثم فليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها.
وكان عبد الله بن عمر قد طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أن الرسول ﷺ قال له: «هي واحدة» وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قولهم «١».
وقد بسط الفقهاء وبعض المفسرين الكلام في هذه المسألة فليرجع إليها من شاء... «٢».
والمخاطب بقوله وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ الأزواج على سبيل الأصالة، لأنهم هم المخاطبون بقوله طَلَّقْتُمُ وبقوله فَطَلِّقُوهُنَّ، ويدخل معهم الزوجات على سبيل التبع، وكذلك كل من له صلة بهذا الحكم، وهو إحصاء العدة.
ثم أمر- سبحانه- بتقواه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أى، واتقوا الله ربكم، بأن تصونوا أنفسكم عن معصيته، التي من مظاهرها إلحاق الضرر بأزواجكم، بتطليقهن في وقت حيضهن. أو في غير ذلك من الأوقات المنهي عن وقوع الطلاق فيها.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة: التحذير من التساهل في أحكام الطلاق والعدة، كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
وجمع- سبحانه- بين لفظ الجلالة، وبين الوصف بربكم، لتأكيد الأمر بالتقوى، وللمبالغة في وجوب المحافظة على هذه الأحكام.
ثم بين- سبحانه- حكما آخر يتعلق بالأزواج والزوجات فقال: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَلا يَخْرُجْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
والجملة الكريمة مستأنفة، أو حال من ضمير وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أى: حالة كون العدة في بيوتهن، والخطاب للأزواج، والزوجات، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال والأساليب.
والفاحشة: الفعلة البالغة الغاية في القبح والسوء، وأكثر إطلاقها على الزنا.
وقوله: مُبَيِّنَةٍ صفة للفاحشة، وقراءة الجمهور- بكسر الياء- أى: بفاحشة توضح لمن تبلغه أنها فاحشة لشدة قبحها.
(١) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٥١.
(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٣٠. وتفسير آيات الأحكام ج ٤ ص ١٥٦. للشيخ السائس.
444
وقرأ ابن كثير مُبَيِّنَةٍ بفتح الياء- أى: بفاحشة قامت الحجة على مرتكبيها قياما لا مجال معه للمناقشة أو المجادلة.
أى: واتقوا الله ربكم- أيها المؤمنون- فيما تأتون وتذرون، ومن مظاهر هذه التقوى، أنكم لا تخرجون زوجاتكم المطلقات من مساكنهن إلى أن تنقضي عدتهن، وهن- أيضا- لا يخرجن منها بأنفسهن في حال من الأحوال، إلا في حال إتيانهن بفاحشة عظيمة ثبتت عليهن ثبوتا واضحا.
فالمقصود بالجملة الكريمة نهى الأزواج عن إخراج المطلقات المعتدات من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنتهي عدتهن، ونهى المعتدات عن الخروج منها إلا عند ارتكابهن الفاحشة الشديدة القبح.
وأضاف- سبحانه- البيوت الى ضمير النساء فقال: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ للإشعار بأن استحقاقهن للمكث في بيوت أزواجهن مدة عدتهن كاستحقاق المالك لما يملكه، ولتأكيد النهى عن الإخراج والخروج.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، أن المطلقة لا يصح إخراجها أو خروجها من بيت الزوجية ما دامت في عدتها، إلا لأمر ضروري.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ أى: من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنقضي عدتهن... وعدم العطف للإيذان باستقلاله بالطلب اعتناء به، والنهى عن الإخراج يتناول بمنطوقه عدم إخراجهن غضبا عليهن، أو كراهة لمساكنتهن... ويتناول بإشارته عدم الإذن لهن بالخروج، لأن خروجهن محرم، لقوله- تعالى-: وَلا يَخْرُجْنَ فكأنه قيل: لا تخرجوهن، ولا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن، فهناك دلالة على أن سكونهن في البيوت حق للشرع مؤكد، فلا يسقط بالإذن.. وهذا رأى الأحناف.
ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الانتقال جاز. إذ الحق لا يعدوهما، فيكون المعنى: لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن.
والاستثناء في قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يرى بعضهم أنه راجع إلى وَلا يَخْرُجْنَ فتكون الفاحشة المبينة هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة، أى: لا يطلق لهن في الخروج، إلا في الخروج الذي هو فاحشة، ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه، فيكون ذلك منعا من الخروج على أبلغ وجه.. كما يقال لا تزن إلا أن تكون فاسقا... «١».
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٣٣.
445
وقال بعض العلماء: والذي تخلص لي أن حكمة السكنى للمطلقة، أنها حفظ للأعراض، فإن المطلقة يكثر التفات العيون لها، وقد يتسرب سوء الظن إليها، فيكثر الاختلاف عليها، ولا تجد ذا عصمة يذب عنها، فلذلك شرعت لها السكنى، فلا تخرج إلا لحاجياتها الضرورية..
ومن الحكم- أيضا- في ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكنا، لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال، وإنما هن عيال على الرجال..
ويزاد في المطلقة الرجعية، قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها، لعله يثوب إليه رشده فيراجعها..
فهذا مجموع علل، فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم، لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها.. «١».
واسم الإشارة في قوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعود إلى الأحكام التي سبق الحديث عنها، والحدود: جمع حد، وهو ما لا يصح تجاوزه أو الخروج عنه.
أى: وتلك الأحكام التي بيناها لكم، هي حدود الله- تعالى- التي لا يصح لكم تعديها أو تجاوزها، وإنما يجب عليكم الوقوف عندها، وتنفيذ ما اشتملت عليه من آداب وهدايات.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة من يتجاوز حدوده فقال: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أى: ومن يتجاوز حدود الله التي حدها لعباده، بأن أخل بشيء منها، فقد حمل نفسه وزرا، وأكسبها إثما، وعرضها للعقوبة والعذاب.
وقوله- تعالى-: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ترغيب في امتثال الأحكام السابقة، بعد أن سلك في شأنها مسلك الترهيب من مخالفتها، ودعوة إلى فتح باب المصالحة بين الرجل وزوجه، وعدم السير في طريق المفارقة حتى النهاية..
والخطاب لكل من يصلح له، أو هو للمتعدى بطريق الالتفات، والجملة الكريمة مستأنفة، مسوقة لتعليل مضمون ما قبلها، وتفصيل لأحواله.
أى: اسلك- أيها المسلم- الطريق الذي أرشدناك إليه في حياتك الزوجية، وامتثل ما أمرناك به، فلا تطلق امرأتك وهي حائض، ولا تخرجها من بيتها قبل تمام عدتها... ولا تقفل باب المصالحة بينك وبينها، بل اجعل باب المصالحة مفتوحا، فإنك لا تدرى لعل الله- تعالى- يحدث بعد ذلك النزاع الذي نشب بينك وبين زوجك أمرا نافعا لك ولها، بأن يحول البغض إلى حب، والخصام إلى وفاق، والغضب إلى رضا..
(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٢٨ ص ٣٠٤ لفضيلة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
446
فالجملة الكريمة قد اشتملت على أسمى ألوان الإرشاد لحمل النفوس المتجهة نحو الطلاق.. إلى التريث والتعقل، وفتح باب المواصلة بعد المقاطعة والتقارب بعد التباعد، لأن تقليب القلوب بيد الله- عز وجل- وليس بعيدا عن قدرته- تعالى- تحويل القلوب إلى الحب بعد البغض.
قال القرطبي: الأمر الذي يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه، فيراجعها.
وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة.. «١».
ثم بين- سبحانه- حكما يتعلق بما بين الزوجين من حقوق فقال- تعالى-: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ...
والفاء في قوله فَإِذا بَلَغْنَ للتفريع على ما تقدم من أحكام تتعلق بالعدة.
والمراد ببلوغ أجلهن، مقاربة نهاية مدة العدة بقرينة ما بعده، لأن الرجل لا يؤمر بإمساك زوجه بعد انقضاء عدتها، لأن الإمساك يكون قبل انقضائها.
فالكلام من باب المجاز، لمشابهة مقاربة الشيء، بالحصول فيه، والتلبس به.
والمراد بالإمساك المراجعة وعدم السير في طريق مفارقتها.
والمعروف: ما أمر به الشرع من حسن المعاملة بين الزوجين، وحرص كل واحد منهما على أداء ما عليه لصاحبه من حقوق.
والمعنى: لقد بينت لكم جانبا من الأحكام التي تتعلق بعدة النساء، فإذا قاربن وشارفن آخر عدتهن، فأمسكوهن وراجعوهن بحسن معاشرة، أو فارقوهن بمعروف بأن تعطوهن حقوقهن كاملة غير منقوصة، بأن تكفوا ألسنتكم عن ذكرهن بسوء..
والأمر في قوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ، وفارِقُوهُنَّ للإباحة، و «أو» للتخيير.
والتعبير بالإمساك للإشعار بأن المطلقة طلاقا رجعيا لها حكم الزوجة، ما عدا الاستمتاع بها، فعليه أن يستمسك بها، ولا يتسرع في فراقها، فهي ما زالت في عصمته.
وقدم- سبحانه- الإمساك على الفراق، للإشارة إلى أنه هو الأولى رعاية لحق الزوجية، وإبقاء للمودة والرحمة.
(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٥٦.
447
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ....
ثم قال- سبحانه-: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أى: وأشهدوا عند المراجعة لأزواجكم وعند مفارقتكم لهن رجلين تتوفر فيهما العدالة والاستقامة لان الإشهاد يقطع التنازع، ويدفع الريبة، وينفى التهمة.
والأمر في قوله: وَأَشْهِدُوا للندب والاستحباب في حالتي المراجعة والمفارقة، فهو كقوله- تعالى-: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وهذا رأى جمهور العلماء.
قال الآلوسى: قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أى: عند الرجعة إن اخترتموها، أو الفرقة إن اخترتموها، تبريا عن الريبة، وقطعا للنزاع. وهذا أمر ندب كما في قوله- تعالى-: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ.
وقال الشافعى في القديم: إنه للوجوب في الرجعة. وزعم الطبرسي أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق، وأنه مروى عن أثمة أهل البيت، وأنه للوجوب، وشرط في صحة الطلاق.. «١».
وقوله: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ معطوف على ما قبله، والخطاب لكل من تتعلق به الشهادة.
والمراد بإقامة الشهادة: أداؤها بالعدل والصدق.
أى: وعليكم- أيها المؤمنون- عند أدائكم للشهادة، أن تؤدوها بالعدل والأمانة، وأن تجعلوها خالصة لوجه الله- تعالى- وامتثالا لأمره.
والجملة الكريمة دليل على أن أداء الشهادة على وجهها الصحيح عند الحكام وغيرهم، أمر واجب، لأن الشهادة هنا اسم للجنس، ولأن الله- تعالى- يقول في آية أخرى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ....
والإشارة في قوله- سبحانه-: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تعود إلى جميع ما تقدم من أحكام، كإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيت الزوجية حتى تنتهي عدتها، والحث على أداء الشهادة بالحق والعدل.
والوعظ معناه: التحذير مما يؤذى بطريقة تؤثر في القلوب، وتهدى النفوس إلى الرشد.
(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٣٥.
448
أى: ذلك الذي ذكرناه لكم من أحكام إنما يتأثر به، ويعمل بمقتضاه الذين يؤمنون بالله- تعالى- وباليوم الآخر إيمانا حقا.
وخص- سبحانه- الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر بالذكر، لأنهم هم المنتفعون بهذه الأحكام، وهم المنفذون لها تنفيذا صحيحا.
ثم بشر- سبحانه- عباده الذين يتقونه ويراقبونه ببشارات متعددة فقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
والجملة الكريمة اعتراض بين قوله- تعالى-: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ وبين قوله- سبحانه- بعد ذلك: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ.
وجيء بهذا الاعتراض بين هذه الأحكام لحمل النفوس على تقبل تشريعاته- تعالى- وآدابه، ولحض الزوجين على مراقبته- سبحانه- وتقواه.
أى: ومن يتق الله- تعالى- في كل أقواله وأفعاله وتصرفاته. يجعل له- سبحانه- مخرجا من هموم الدنيا وضوائقها ومتاعبها، ومن شدائد الموت وغمراته، ومن أهوال الآخرة وعذابها، ويرزقه الفوز بخير الدارين، من طريق لا تخطر له على بال، ولا ترد له على خاطر، فإن أبواب رزقه- سبحانه- لا يعلمها أحد إلا هو- عز وجل-.
وفي هذه الجملة الكريمة ما فيها من البشارة للمؤمن، حتى يثبت فؤاده، ويستقيم قلبه، ويحرص على طاعة الله- تعالى- في كل أحواله.
قال القرطبي: قال أبو ذر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم، ثم تلا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
وعن جابر بن عبد الله قال: نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعى، أسر المشركون ابنا له، فأتى النبي ﷺ وأخبره بذلك. فقال له صلى الله عليه وسلم: «اتق الله واصبر، وآمرك وزوجك أن تستكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله».
فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله ﷺ أمرنى وإياك أن نستكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت: نعم ما أمرنا، فجعلا يقولان ذلك، فغفل العدو عن ابنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه عوف، فنزلت الآية... «١».
ثم قال- تعالى-: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.
(١) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٥٩. [.....]
449
ولفظ حسب بمعنى كاف وأصله اسم مصدر أو مصدر، ومعنى بالِغُ أَمْرِهِ بإضافة الوصف إلى مفعوله، أى: يبلغ ما يريده- سبحانه-، وقرأ الجمهور بالِغُ أَمْرِهِ بتنوين الوصف ونصب أمره على المفعولية، والمراد بأمره، شأنه ومراده. وهذه الجملة تعليل لما قبلها.
أى: ومن يفوض أمره إلى الله- تعالى- ويتوكل عليه وحده، فهو- سبحانه- كافيه في جميع أموره، لأنه- سبحانه- يبلغ ما يريده، ولا يفوته مراد، ولا يعجزه شيء، ولا يحول دون أمره حائل.. ومن مظاهر حكمه في خلقه، أنه عز وجل- قد جعل لكل شيء تقديرا قبل وجوده، وعلم علما تاما مقاديرها وأوقاتها وأحوالها.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
وقوله- سبحانه-: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وقوله- عز وجل-:
وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ.
قال بعض العلماء ما ملخصه: ولهذه الجملة، وهي قوله- تعالى-: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن، في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض.. فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البياني الناشئ عما اشتملت عليه جمل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً.. إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت، فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله، فيقول: أين انا من تحصيل هذا الشيء.. ويتملكه اليأس.. فيقول الله- تعالى- له: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أى: فلا تيأس أيها الإنسان.
ولها موقع التعليل لجملة وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ فإن العدة من الأشياء التي تعد، فلما أمر الله بإحصائها علل ذلك فقال: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.
ولها موقع التذبيل لجملة وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أى:
الذي وضع تلك الحدود، قد جعل الله لكل شيء قدرا لا يعدوه، كما جعل الحدود.
ولها موقع التعليل لجملة: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، لأن المعنى إذا بلغن القدر الذي جعله الله لمدة العدة، فقد حصل المقصد الشرعي، الذي أشار إليه بقوله- تعالى-: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً.
ولها موقع التعليل لجملة: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ فإن الله- تعالى- جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع.
450
فهذه الجملة جزء آية، وهي تحتوى على حقائق من الحكمة... «١».
ثم ذكر- سبحانه- أحكاما أخرى تتعلق بعدة أنواع أخرى من النساء وأكد الأمر بتقواه- عز وجل- وأمر برعاية النساء والإنفاق عليهن.. فقال- تعالى-:
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٤ الى ٧]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ لما بين- سبحانه- أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء، عرفهم- سبحانه- في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم.
وقال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة «البقرة» في المطلقة والمتوفى عنها زوجها، قال أبى بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء، الصغار وذوات الحمل، فنزلت هذه الآية.
(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٢٨ ص ٣١٤ للشيخ ابن عاشور.
451
وقال مقاتل: لما ذكر- سبحانه- قوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ....
قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله فما عدة التي لم تحض، وما عدة التي انقطع حيضها، وعدة الحبلى، فنزلت هذه الآية.. «١».
وجملة: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ... معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك:
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ... لبيان أحكام أخرى تتعلق بعدة نوع آخر من النساء بعد بيان عدة النساء ذوات الأقراء.
والمراد باللائى يئسن من المحيض: النساء اللائي تقدمن في السن، وانقطع عنهن دم الحيض.
وقوله: يَئِسْنَ من اليأس، وهو فقدان الأمل من الحصول على الشيء.
والمراد بالمحيض: دم الحيض الذي يلفظه رحم المرأة في وقت معين، وفي حال معينة...
وقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ من الريبة بمعنى الشك.
قوله: وَاللَّائِي اسم موصول مبتدأ، وقوله يَئِسْنَ صلته، وجملة الشرط والجزاء وهي قوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ خبره.
والمعنى: لقد بينت لكم- أيها المؤمنون- عدة النساء المعتدات بالمحيض، أما النساء المتقدمات في السن واللائي فقدن الأمل في رؤية دم الحيض، فعليكم إن ارتبتم، وشككتم في عدتهن أو جهلتموها، أن تقدروها بثلاثة أشهر.
هذا، وقد قدر بعضهم سن اليأس بالنسبة للمرأة بستين سنة، وبعضهم قدره بخمس وخمسين سنة.
وبعضهم لم يحدده بسن معينة، بل قال: إن هذا السن يختلف باختلاف الذوات والإفطار والبيئات.. كاختلاف سن ابتداء الحيض.
وقوله- تعالى-: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ معطوف على قوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ وهو مبتدأ وخبره محذوف لدلالة ما قبله عليه.
والتقدير: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم، إن ارتبتم في عدتهن، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللاتي لم يحضن بعد لصغرهن، وعدم بلوغهن سن المحيض.. فعدتهن- أيضا- ثلاثة أشهر.
(١) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٦٢.
452
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان عدة المرأة ذات الحمل، فقال- تعالى-: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ....
وقوله: وَأُولاتُ: اسم جمع للفظ ذات. بمعنى صاحبه، لأنه لا مفرد لكلمة أُولاتُ من لفظها، كما أنه لا مفرد من لفظها لكلمة «أولو» التي هي بمعنى أصحاب، وإنما مفردها «ذو».
والأحمال: جمع حمل- بفتح الحاء- كصحب وأصحاب، والمراد به: الجنين الذي يكون في بطن المرأة.
والأجل: انتهاء المدة المقدرة للشيء.
وقوله: وَأُولاتُ... مبتدأ، وأَجَلُهُنَّ مبتدأ ثان، وقوله: أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ الثاني وخبره، خبر الأول.
والمعنى: والنساء ذوات الأحمال أَجَلُهُنَّ أى: نهاية عدتهن، أن يضعن ما في بطونهن من حمل، فمتى وضعت المرأة ما في بطنها، فقد انقضت عدتها، لأنه ليس هناك ما هو أدل على براءة الرحم، من وضع الحمل.
وهذا الحكم عام في كل ذوات الأحمال، سواء أكن مطلقات، أم كن قد توفى عنهن أزواجهن.
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث التي تؤيد ذلك، ومن تلك الأحاديث ما رواه الشيخان، من أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد موت زوجها بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله ﷺ لأحد أصحابه.
وعن أبى بن كعب قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ: للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها زوجها، فقال: هي للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها.. «١».
قالوا: ولا تعارض بين هذه الآية، وبين قوله- تعالى- في سورة البقرة وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً... لأن آية سورة البقرة، خاصة بالنساء اللائي توفى عنهن أزوجهن ولم يكن هؤلاء النساء من ذوات الأحمال.
وفي هذه المسألة أقوال أخرى مبسوطة في مظانها... «٢».
(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٧٦.
(٢) راجع تفسير آيات الأحكام ج ٤ ص ١٦٦، وتفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٣٧.
453
ثم كرر- سبحانه- الأمر بتقواه، وبشر المتقين بالخير العميم فقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ- تعالى- فينفذ ما كلف به. ويبتعد عما نهى عنه.
يَجْعَلْ لَهُ سبحانه مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أى: يجعل له من الأمر العسير أمرا ميسورا.
ويحول له الأمر الصعب إلى أمر سهل، لأنه- سبحانه- له الخلق والأمر..
ذلِكَ الذي ذكرناه لكم من أحكام أَمْرُ اللَّهِ أى: حكمه وشرعه أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ لتعلموا به، وتسيروا على هديه.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ- تعالى- في كل شئونه وأحواله.. يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أى: يمح عنه ذنوبه، ولا يؤاخذه عليها، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أى: ويضاعف له حسناته، ويجزل له العطاء والمثوبة يوم القيامة.
ثم أمر- سبحانه- الرجال بأن يحسنوا معاملة النساء المطلقات، ونهاهم عن الإساءة إليهن بأى لون من ألوان الإساءة فقال: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ...
والخطاب للرجال الذين يريدون فراق أزواجهن، والضمير المنصوب في قوله أَسْكِنُوهُنَّ يعود إلى النساء المطلقات.
ومِنْ للتبعيض، والوجد: السعة والقدرة.
أى: أسكنوا المطلقات في بعض البيوت التي تسكنونها والتي في وسعكم وطاقتكم إسكانهن فيها.
قال صاحب الكشاف: قوله: أَسْكِنُوهُنَّ وما بعده: بيان لما شرط من التقوى في قوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ... كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: أَسْكِنُوهُنَّ.
فإن قلت: فقوله: مِنْ وُجْدِكُمْ ما موقعه؟ قلت: هو عطف بيان لقوله مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ، وتفسير له، كأنه قيل: أسكنوهن مكانا من مسكنكم مما تطيقونه.
والسكنى والنفقة: واجبتان لكل مطلقة. وعند مالك والشافعى: ليس للمبتونة إلا السكن ولا نفقة لها، وعن الحسن وحماد: لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها أبتّ طلاقها، فقال لها رسول الله ﷺ «لا سكنى لك ولا نفقة... » «١».
ثم أتبع- سبحانه- الأمر بالإحسان إلى المطلقات، بالنهى عن إلحاق الأذى بهن فقال:
وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ....
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٥٨.
454
أى: ولا تستعملوا معهن ما يؤذيهن ويضرهن، لكي تضيقوا عليهن ما منحه الله- تعالى- لهن من حقوق، بأن تطيلوا عليهن مدة العدة، فتصبح الواحدة منهن كالمعلقة، أو بأن تضيقوا عليهن في السكنى، حتى يلجأن إلى الخروج، والتنازل عن حقوقهن.
وقوله- تعالى-: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.. أى:
وإن كان المطلقات أصحاب حمل- فعليكم يا معشر الأزواج- أن تقدموا لهن النفقة المناسبة، حتى يضعن حملهن.
قال الإمام ابن كثير: قال كثير من العلماء منهم ابن عباس، وطائفة من السلف. هذه هي البائن، إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها، قالوا: بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء أكانت حاملا أم غير حامل.
وقال آخرون: بل السياق كله في الرجعيات، وإنما نص على الإنفاق على الحامل- وإن كانت رجعية- لأن الحمل تطول مدته غالبا. فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع، لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة.. «١».
ولما كان الحمل ينتهى بالوضع، انتقلت السورة الكريمة إلى بيان ما يجب للمطلقات بعد الوضع، فقال- تعالى-: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
أى: عليكم- أيها المؤمنون- أن تقدموا لنسائكم ذوات الحمل اللائي طلقتموهن طلاقا بائنا، عليكم أن تقدموا لهن النفقة حتى يضعن حملهن، فإذا ما وضعن حملهن وأرادوا أن يرضعن لكم أولادكم منهن، فعليكم- أيضا- أن تعطوهن أجورهن على هذا الإرضاع، وأن تلتزموا بذلك لهن.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن الأم المطلقة طلاقا بائنا، إذا أرادت أن ترضع ولدها بأجر المثل، فليس لأحد أن يمنعها من ذلك، لأنها أحق به من غيرها، لشدة شفقتها عليه وليس للأب أن يسترضع غيرها حينئذ. كما أخذوا منها- أيضا- أن نفقة الولد الصغير على أبيه، لأنه إذا لزمته أجرة الرضاع، فبقية النفقات الخاصة بالصغير تقاس على ذلك.
وقوله- سبحانه-: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ حض منه- سبحانه- للآباء والأمهات على التعاون والتناصح في وجوه الخير والبر.
والائتمار معناه: التشاور وتبادل الرأى، وسمى التشاور بذلك لأن المتشاورين في مسألة، يأمر أحدهما الآخر بشيء فيستجيب لأمره، ويقال: أئتمر القوم وتآمروا بمعنى واحد.
(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٧٩.
455
أى: عليكم- أيها الآباء والأمهات- أن تتشاوروا فيما ينفع أولادكم، وليأمر بعضكم بعضا بما هو حسن، فيما يتعلق بالإرضاع والأجر وغيرهما.
وقوله- تعالى-: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى إرشاد إلى ما يجب عليهما في حالة عدم التراضي على الإرضاع أو الأجر.
والتعاسر مأخوذ من العسر الذي هو ضد اليسر والسماحة، يقال تعاسر المتبايعان، إذا تمسك كل واحد منهما برأيه، دون أن يتفقا على شيء.
أى: وإن اشتد الخلاف بينكم، ولم تصلوا إلى حل، بأن امتنع الأب عن دفع الأجرة للأم، أو امتنعت الأم عن الإرضاع إلا بأجر معين. فليس معنى ذلك أن يبقى المولود جائعا بدون رضاعة، بل على الأب أن يبحث عن مرضعة أخرى، لكي ترضع له ولده، فالضمير في قوله لَهُ يعود على الأب.
قال صاحب الكشاف قوله: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى أى: فستوجد مرضعة غير الأم ترضعه، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك. تريد لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم.
وقد علق المحشى على الكشاف بقوله: وخص الأم بالمعاتبة، لأن المبذول من جهتها هو لبنها وهو غير متمول ولا مضنون به في العرف، وخصوصا في الأم على الولد، ولا كذلك المبذول من جهة الأب، فإنه المال المضنون به عادة فالأم إذا أجدى باللوم، وأحق بالعتب.. «١».
قالوا: وفي هذه الجملة- أيضا- طرف من معاتبة الأب، لأنه كان من الواجب عليه أن يسترضى الأم، ولا يكون مصدر عسر بالنسبة لها، حرصا على مصلحة الولد.
ثم رسم- سبحانه- لعباده المنهج الذي لو اتبعوه لعاشوا آمنين مطمئنين فقال: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ.
والإنفاق: بذل المال في المصالح المتنوعة التي أحلها الله- تعالى-، كالمأكل والمشرب، والملبس، والمسكن، وإعطاء كل ذي حق حقه..
والسعة: البسطة في المال والرزق.
أى: على كل من أعطاه الله- تعالى- سعة وبسطة في المال والرزق، أن ينفق مما أعطاه الله- تعالى- وأن لا يبخل، فإن البخل صفة قبيحة، ولا سيما في الأغنياء.
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٥٩.
456
فعليكم- أيها الآباء- أن تعطوا بسخاء كل من يستحقون العطاء، وعلى رأسهم الأمهات لأولادكم، اللائي يقمن بإرضاعهم بعد مفارقتكم لهن، وأن لا تبخلوا عليهن في أجرة الرضاع، أو في النفقة على الأولاد.
ثم قال- تعالى-: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ... أى: ومن كان رزقه ضيقا وليس واسعا.. فلينفق على قدر ماله ورزقه وطاقته، مما آتاه الله- تعالى- من رزق.
وقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها... تعليل لما قبله، أى: فلينفق كل إنسان على نفسه وعلى زوجه، وعلى أولاده، وعلى أقاربه، وعلى غيرهم. على حسب حاله، فإن كان موسرا أنفق على حسب يسره، وإن كان معسرا أنفق على حسب عسره.. لأن الله- تعالى- لا يكلف نفسا إلا بقدر ما أعطاها من طاقة أو رزق..
روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب سأل عن أبى عبيدة فقيل له: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل الخشن من الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ماذا يصنع إذا أخذها: فلما أخذها، ما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام.. فجاء الرسول فأخبره فقال عمر: رحم الله أبا عبيدة، لقد عمل بهذه الآية: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ... «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببشارة لمن يتبع أمره فقال: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أى: سيجعل الله- تعالى- بفضله وإحسانه- اليسر بعد العسر، والسعة بعد الضيق، والغنى بعد الفقر.. لمن شاء من عباده، لأنه- سبحانه- هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو بعباده خبير بصير.
قال الإمام ابن كثير: وقد روى الإمام أحمد عن أبى هريرة قال: دخل رجل على أهله.
فلما رأى ما بهم من الفاقة خرج إلى البرية، فلما رأت امرأته ذلك قامت إلى الرحى فوضعتها، وإلى التنور فسجرته- أى أوقدته-، ثم قالت: اللهم ارزقنا، فنظرت، فإذا الجفنة قد امتلأت..
قال: وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئا، قال: فرجع الزوج فقال لأهله: أأصبتم بعدي شيئا؟ فقالت امرأته: نعم من ربنا..
فذكر الرجل ذلك للنبي ﷺ فقال: أما إنه لو لم ترفعها، لم تزل تدور إلى يوم القيامة.. «٢».
(١) تفسير ابن جرير ج ٢٨ ص ١٤٩.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٨١.
457
وبعد هذه التشريعات الحكيمة التي تتعلق بالطلاق وما يترتب عليه من آثار، وبعد هذا التذكير المتكرر بوجوب تقوى الله- تعالى- والمحافظة على أداء تكاليفه، وبعد هذا الوعظ المؤثر في قلوب الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر..
بعد كل ذلك ساق- سبحانه- جانبا من سوء عاقبة الأقوام الذين فسقوا عن أمر ربهم، وخالفوا رسله: وكرر الأمر بتقواه، وذكر الناس بجانب من نعمه، حيث أرسل إليهم رسوله ﷺ ليتلو عليهم آياته.. كما ذكرهم بعظيم قدرته- تعالى- وشمول علمه، فقال- سبحانه-:
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٨ الى ١٢]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)
وكلمة كَأَيِّنْ اسم لعدد كثير منهم، يفسره ما بعده، فهي بمعنى «كم» الخبرية التي تفيد التكثير، وهي مبتدأ، وقوله مِنْ قَرْيَةٍ تمييز لها.
وجملة عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها خبر للمبتدأ. والعتو: الخروج عن الطاعة، يقال: عتا فلان يعتو عتوا وعتيا. إذا تجبر وطغى وتجاوز الحدود في الاستكبار والعناد.
458
والمراد بالقرية: أهلها، على سبيل المجاز المرسل، من إطلاق المحل وإرادة الحال، فهو كقوله- تعالى-: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها.
والقرينة على أن المراد بالقرية أهلها، قوله- تعالى- بعد ذلك: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً....
والمراد بالمحاسبة في قوله فَحاسَبْناها... المجازاة والمعاقبة الدنيوية على أعمالهم، بدليل قوله- تعالى- عن العذاب الأخروى بعد ذلك أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً....
ويجوز أن يراد بالمحاسبة هنا: العذاب الأخروى، وجيء بلفظ الماضي على سبيل التأكيد وتحقق الوقوع، كما في قوله- تعالى-: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ....
ويكون قوله- سبحانه-: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً... تكريرا للوعيد.
والمعنى: وكثير من أهل القرى الماضية، خرجوا عن طاعة ربهم، وعصوا رسله، فكانت نتيجة ذلك أن سجلنا عليهم أفعالهم تسجيلا دقيقا، وجازيناهم عليها جزاء عادلا، بأن عذبناهم عذابا فظيعا. وعاقبناهم عقابا نكرا..
والشيء النكر بضمتين وبضم فسكون- ما ينكره العقل من شدة كيفية حدوثه إنكارا عظيما.
والفاء في قوله- تعالى-: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها... للتفريع على ما تقدم.
والوبال: الثقل، ومنه الطعام الوبيل، أى: الوخيم الثقيل على المعدة فيكون سببا في فسادها ومرضها. والذوق: الإحساس بالشيء إحساسا واضحا..
أى: فترتب على هذا الحساب والعقاب، أن ذاق أهل تلك القرى سوء عاقبة بغيهم وجحودهم لنعم الله..
وكان عاقبة أمرها خسرا أى: وكانت نهايتهم نهاية خاسرة خسارة عظيمة، كما يخسر التاجر صفقته التجارية التي عليها قوام حياته.
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهم في الآخرة من عذاب، بعد بيان ما حل بهم في الدنيا فقال: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً....
أى: أن ما أصابهم في الدنيا بسبب فسوقهم عن أمر ربهم، ليس نهاية المطاف، بل هيأ الله- تعالى- لهم عذابا أشد من ذلك وأبقى في الآخرة..
وما دام الأمر كذلك فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ، الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً....
459
والألباب جمع لب، وهو العقل السليم الذي يرشد صاحبه إلى الخير والبر.
وقوله الَّذِينَ آمَنُوا منصوب بإضمار أعنى على سبيل البيان للمنادى، أو عطف بيان له.
والمراد بالذكر: القرآن الكريم، وقد سمى بذلك في آيات كثيرة منها قوله- تعالى-:
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ... أى: فيه شرفكم وعزكم، وفيه ما يذكركم بالحق، وينهاكم عن الباطل.
أى: فاتقوا الله- تعالى- يا أصحاب العقول السليمة، ويا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، فهو- سبحانه- الذي أنزل عليكم القرآن الكريم، الذي فيه ما يذكركم عما غفلتم عنه من عقيدة سليمة، ومن أخلاق كريمة، ومن آداب قويمة..
وفي ندائهم بوصف «أولى الألباب» إشعار بأن العقول الراجحة هي التي تدعو أصحابها إلى تقوى الله وطاعته، وإلى كل كمال في الطباع والسلوك.
والمراد بالرسول في قوله- تعالى-: رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ محمد ﷺ وللمفسرين جملة من الأقوال في إعرابه، فمنهم من يرى أنه منصوب بفعل مقدر، ومنهم من يرى أنه بدل من ذكرا... «١».
والمعنى: فاتقوا الله- أيها المؤمنون- فقد أنزلنا إليكم قرآنا فيه ما يذكركم بخير الدنيا والآخرة... وأرسلنا إليكم رسولا هو عبدنا محمد ﷺ لكي يتلو عليكم آياتنا تلاوة تدبر وفهم، يعقبهما تنفيذ ما اشتملت عليه هذه الآيات من أحكام وآداب وهدايات..
ولكي يخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الشرك الذي كانوا واقعين فيه، إلى نور الإيمان الذي صاروا إليه.
ومنهم من فسر الذكر بالرسول صلى الله عليه وسلم..
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً هو النبي ﷺ وعبر عنه بالذكر، لمواظبته على تلاوة القرآن الذي هو ذكر...
وقوله- تعالى- رَسُولًا بدل من ذِكْراً، وعبر عن إرساله بالإنزال، لأن الإرسال مسبب عنه..
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٦١.
460
والظاهر أن الذكر هو القرآن، والرسول هو محمد ﷺ ورسولا منصوب بمقدر، أى: وأرسل رسولا.. «١».
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة المؤمنين الصادقين فقال: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ إيمانا حقا وَيَعْمَلْ عملا صالِحاً يُدْخِلْهُ- سبحانه- بفضله وإحسانه جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً خلودا أبديا..
وقوله: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً حال من الضمير المنصوب في قوله يُدْخِلْهُ، والجمع في الضمائر باعتبار معنى مِنَ كما أن الأفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها:
والرزق: كل ما ينتفع به الإنسان، وتنكيره للتعظيم.
أى: قد وسع الله- تعالى- لهذا المؤمن الصادق في إيمانه رزقه في الجنة، وأعطاه من الخير والنعيم، ما يشرح صدره، ويدخل السرور على نفسه. ويصلح باله..
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بما يدل على كمال قدرته، وسعة علمه فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ...
أى: الله- تعالى- وحده هو الذي خلق سبع سماوات طباقا وخلق من الأرض مثلهن، أى: في العدد فهي سبع كالسماوات.
والتعدد قد يكون باعتبار أصول الطبقات الطينية والصخرية والمائية والمعدنية، وغير ذلك من الاعتبارات التي لا يعلمها إلا الله- تعالى-.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية يقول- تعالى- مخبرا عن قدرته التامة، وسلطانه العظيم، ليكون ذلك باعثا على تعظيم ما شرع من الدين القويم: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ كقوله- تعالى- إخبارا عن نوح أنه قال لقومه: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً... وقال- تعالى- تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.
وقوله: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أى: سبعا- أيضا- كما ثبت في الصحيحين: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه مع سبع أرضين».
وفي صحيح البخاري: «خسف به إلى سبع أرضين... »
ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وخالف القرآن والحديث بلا مستند.. «٢».
(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٤١.
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٨٢.
461
وقال الآلوسى: الله الذي خلق سبع سماوات مبتدأ وخبر وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أى:
وخلق من الأرض مثلهن، على أن مِثْلَهُنَّ مفعول لفعل محذوف، والجملة معطوفة على الجملة قبلها.
والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف، فقال الجمهور: هي هنا في كونها سبعا وكونها طباقا بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله، لا يعلم حقيقتهم أحد إلا الله- تعالى-.
وقيل: المثلية في الخلق لا في العدد ولا في غيره، فهي أرض واحدة مخلوقة كالسماوات السبع.
ورد هذا القيل بأنه قد صح من رواية البخاري وغيره، قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن... » «١».
والذي نراه أن كون المثلية في العد، هو المعول عليه، لورود الأحاديث الصحيحة التي صرحت بأن الأرضين سبع، فعلينا أن نؤمن بذلك، وأن نرد كيفية تكوينها، وهيئاتها، وأبعادها، ومساحاتها، وخصائصها.. إلى علم الله- تعالى-.
وقوله: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أى: يجرى أمر الله- تعالى- وقضاؤه وقدره بينهن، وينفذ حكمه فيهن، فالمراد بالأمر: قضاؤه وقدره ووحيه.
واللام في قوله- تعالى-: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً متعلقة بقوله خَلَقَ...
أى: خلق- سبحانه- سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، وأخبركم بذلك، لتعلموا علما تاما أن الله- تعالى- على كل شيء قدير، وأن علمه- تعالى- قد أحاط بكل شيء سواء أكان هذا الشيء جليلا أم حقيرا، صغيرا أم كبيرا...
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الطلاق» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
الاسكندرية- العجمي: ٢٤ من شوال سنة ١٤٠٦ هـ ٣٠ من يونيو سنة ١٩٨٦ م كتبه الراجي عفو ربه محمد سيد طنطاوى
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٤٣.
462
تفسير سورة التّحريم
463

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد
١- سورة «التحريم» من السور المدنية الخالصة، وتسمى- أيضا- بسورة لِمَ تُحَرِّمُ وبسورة «النبي» ﷺ وعدد آياتها اثنتا عشرة آية.
٢- وكان نزولها بعد سورة «الحجرات» وقبل سورة «الجمعة» فهي السورة الخامسة بعد المائة بالنسبة لترتيب نزول السور القرآنية، أما ترتيبها في المصحف، فهي السورة السادسة والستون.
٣- والسورة الكريمة في مطلعها تحكى جانبا مما دار بين النبي ﷺ وبين بعض زوجاته فتعرض صفحة من حياته ﷺ في بيته، ومن عتاب الله- تعالى- له ومن فضله عليه، ودفاعه عنه.
٤- ثم وجهت نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يداوموا على العمل الصالح الذي ينجيهم من عذاب الله- تعالى- وحرضتهم على التسلح بالتوبة النصوح لأنها على رأس الأسباب التي تؤدى إلى تكفير سيئاتهم.
٥- ثم ختمت السورة الكريمة بضرب مثلين أحدهما للذين آمنوا، ويتمثل في امرأة فرعون وفي مريم ابنة عمران، والآخر للذين كفروا ويتمثل في امرأة نوح وامرأة لوط- عليهما السلام- والغرض من ذلك العظة والاعتبار.
465
Icon