تفسير سورة الإنسان

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الآيات: (١- ١٤) [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤)
التفسير:
قوله تعالى:
«هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً».
1350
يرى أكثر المفسرين أن الاستفهام هنا لا يراد به حقيقته، وإنما هو بمعنى الخبر، وأن «هل» بمعنى «قد».. أي قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا..!
والرأى عندنا- والله أعلم- أن الاستفهام على حقيقته، وأنه يحمل سؤالا موجها إلى الإنسان ليجيب عليه، وليبحث عن حقيقته، وكيف كان؟ ثم كيف صار؟ ثم إلى أين ينتهى به خط مسيرته؟
فهذا السؤال من شأنه أن يستثير تفكير الإنسان، وأن ينشّط مداركه الخامدة، وأن يفتح عينيه المغمضتين، على هذا الوجود، وعلى القدرة المسيّرة له، والقائمة على هذا النظام الممسك به.
ولو لبس الاستفهام صورة الخبر- كما يذهب إلى ذلك المفسّرون- لما، كان له هذا الأثر فى تفكير الإنسان، ولما أحدث فى نفسه تلك المشاعر التي يستثيرها هذا الاستفهام الطارق لها..
والحين من الدهر، هو القطعة المقتطعة من الزمن الطويل.. لأن الدهر زمن ممتد لا نهاية له، والقطعة منه أيّا كانت، هى زمن طويل قد يبلغ ألوف السنين.
وهذا يعنى أن الإنسان يمكن أن يكون قد مضى عليه دهر طويل لم يكن فيه شيئا مذكورا، أي ذا ذكر، وأثر مشهود، فى الحياة..
ولو أراد الإنسان أن يجيب على هذا السؤال وهو: كم مضى عليه من الزمن لم يكن شيئا مذكورا؟ - لاقتضاه ذلك أن يرجع ببصره إلى الوراء، وأن يفتش فى أغوار الزمن السحيق عن يوم ميلاده الذي كان فيه شيئا مذكورا..
ثم كان عليه أن يغوص أكثر وأكثر فى أعماق الزمن ليرى وجوده قبل أن يكون شيئا مذكورا..
وفى هذه النظرة العميقة المتفحصة يتسع مجال البحث، وتتشعب مسالك
1351
الدرس، حتى لتشمل علم الحياة، وكيف بدأت جرثومة الحياة على هذه الأرض، وكيف تطورت هذه الحياة، وكيف لبست صورا، وأشكالا، لا تنتهى عند حدّ؟
إن ذلك يتطلب دراسة شاملة لأصل الحياة على هذه الأرض، ثم لتاريخ الإنسان، وخط مسيرته فى عالم الأحياء، وهذا باب واسع من أبواب العلم والمعرفة، لا تزال معارف الإنسانية كلها تقف على شاطئه.
وقوله تعالى:
«إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً».
هو إشارة إلى موقع من مواقع الإجابة على هذه التساؤلات الكثيرة، التي لا تتصدى للإجابة عليها إلا عقول العلماء الدارسين.. أما هذا الموقع فهو مما تشارك فى إمكان تصوره، والإجابة عليه عقول الناس جميعا، وهو خلق الإنسان من النطفة.. فهذا الخلق عملية مشاهدة، يراها كل إنسان فى مواليده التي يلدها، كما يشهدها فى مواليد الكائنات الحية التي تزخر بها الحياة من حوله..
فهذه دعوة إلى كل عقل، لينظر إلى تلك الحقيقة المشاهدة، فى واقع الحس، والتي لا يستطيع أن ينكرها، أو يكابر فيها.. «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ».. والنطفة، هى التي أشار إليها قوله تعالى فى آخر سورة القيامة: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى».. والتي هى ماء الذكر، يقذف به فى رحم الأنثى.
والأمشاج: هى الأخلاط.. واحدها: مشج، ومشج، ومشيج..
ومشج الشيء بالشيء: هو مزجه وخلطه به.
وهذا يعنى أن تلك النطفة وإن بدت فى مرأى العين مجرد ماء، هى فى
1352
حقيقتها ماء مشوب بأشياء أخرى، أودعتها فيه قدرة الخالق جل وعلا، كما أودعت فى هذه البذرة، صورة الشجرة ولون زهرها، وطعم ثمرها.. كذلك هذه النطفة الأمشاج، قد حملت فى كيانها صورة الإنسان، ولونه، ومستوى إدراكه، ومستودع عواطفه، ومشاعره، وكل ما يكون به إنسانا له ذاتيته التي يتميز بها عن غيره من أبناء جنسه! وقوله تعالى: «نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» أي فجعلنا هذا الإنسان سميعا بصيرا لنبتليه، ونختبر ماذا يعطى من ثمر بهذه القوى التي أودعناها فيه، من السمع والبصر..
وقدّم الابتلاء وهو المسبّب، على سببه الذي هو السمع والبصر المودعان فيه- للإشارة إلى أن الإنسان إنما خلق للابتلاء، وأنه لم يخلق عبثا..
فهو الكائن الوحيد فى هذه الأرض، الذي حمل الأمانة، أمانة التكليف، التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان..
فالفاء فى قوله تعالى: «فجعلناه» فاء السببية، أي فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه.. ووصف الإنسان بأنه سميع بصير، لا بأنه سامع ومبصر، إشارة إلى أن سمعه وبصره ليس كسمع الحيوان وبصره، وإنما هو سمع يحوّل المسموعات إلى حقائق ومعان، تنفذ إلى أعماق المسموع، وإلى ما وراء دلالات الصوت الذي يقع على الأذن من كل ما يطرقها من مسموعات، سواءا كان كلمات، أو غير كلمات..
وكذلك الشأن فى البصر، فهو ليس بصرا ينقل الأشياء إلى العين، كما تنقلها المصوّرة، وإنما هو بصر يدخل إلى دائرة العقل الذي يكشف عن الحقائق المضمرة فى كيان الشيء المبصر..
1353
وبهذا السمع، والبصر، صار الإنسان سميعا، بصيرا، أي ذا قدرة على استطلاع النتائج المرتقبة من كل مسموع ومبصر، وما وراءه.. من خير أو شر، أو حق وباطل..
وبهذه القوى الإضافية التي أضافها الخالق جلّ وعلا إلى الإنسان، وأخرجه بها عن دائرة الحيوان- كان مناطا للتكليف، وأهلا للحساب والجزاء..
قوله تعالى:
«إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً»..
أي بهذا السمع والبصر، وما يفعلان فى الإنسان، وما يكشفان له من حقائق- أراه الله سبحانه وتعالى، السبيل الذي ينبغى أن يسلكه، وأقام له على هذه السبيل المعالم التي يقيم بها خطوه عليها، بما بعث إليه من رسل، وما شرع له من شرائع، وما بيّن له من أحكام.. وهنا يترك له الخيار فيما هو صانع بنفسه، فيتقدم أو يتأخر، ويستقيم أو ينحرف، ويشكر، أو يكفر، كما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ.. وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» (٤٠: النمل) وكما يقول سبحانه فى آخر هذه السورة: «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ»..
وقوله تعالى:
«إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً».
هو بيان للجزاء الذي سيلقاه الذين يكفرون بالله، ولا يستقيمون على صراطه المستقيم..
ومعنى: أعتدنا، أي أعددنا، وأحضرنا، والسلاسل: القيود، تكون
1354
فى الأرجل والأيدى.. والأغلال: الأطواق، تكون فى الأعناق.. والسعير:
النار المتسعرة بوقودها..
ولا بد هنا من الإشارة إلى الرسم العثماني لكلمة «سلاسلا» ورسمها بالألف، من غير تنوين. وكان من حقها أن تكتب من غير ألف..
والسؤال هنا: لم كتبت بهذا الرسم؟: أذلك لأن الكتابة العربية لم تكن يوم كتابة المصحف العثماني قد استوفت شكلها الكامل، وقامت أسسها على قواعد مضبوطة؟ أم أن ذلك كان عن قصد وعمد؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن القول بأن الكتابة العربية لم تكن قد استوفت شكلها النهائى يوم أن كتب المصحف العثماني- قول مستبعد..
وذلك لأن ألفاظا وردت فى القرآن الكريم على صيغة «فعائل» أو «مفاعل» ولم تكتب بالألف، مثل قوله تعالى: «كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» (١١: الجن) وقوله سبحانه: «وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» (٧٢: التوبة) وقوله تبارك اسمه: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» (١٠٠: الإسراء) فلو كان ذلك عن نقص فى رسم الكتابة لأخذت أمثال هذه الصيغ الممنوعة من الصرف، شكلا واحدا فى كتابتها.
وإذن فما الحكمة، فى رسم «سلاسلا» بهذه الصورة؟
والذي يقع فى مفهومنا لهذا- والله أعلم- هو أن هذه الألف الزائدة قد زيدت عن قصد، ولحكمة تراد لها، وهى أن هذه الألف تشير إلى معنى مضمر فى كلمة «سلاسلا» وأنها سلاسل طويلة جاوزت فى طولها الحد المعروف للسلاسل التي يقيد بها الحيوان، أو الإنسان..
1355
ولعلّ سائلا يسأل: أهذا يعدّ تفسيرا لبعض كلمات القرآن، يصحب الرسم التي ترسم به هذه الكلمات؟.
ونقول- والله أعلم- نعم! إنّه إشارة إلى معنى من معانى الكلمة، ودلالة من دلالاتها، وهذا المعنى أو تلك الدلالة، ليس عن مجرد اجتهاد شخصىّ من كتّاب المصحف العثماني، وإنما هو عن نظر إلى معنى صريح جاء فى آية أخرى، يحدّث عن هذه السلاسل وطولها، وذلك فى قوله تعالى: «ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» (٣٢: الحاقة) فهل رأى الناس سلسلة طولها سبعون ذراعا يشدّ إليها إنسان أو حيوان؟
فهذه السلاسل، هى من نوع هذه السلسلة الغريبة، ولهذا رسمت ذلك الرسم الغريب فى صورته شكلا، ونطقا.. إذ كانت الألف تحتمل مطّ الصوت بها وامتداده، وإطالته، كما طالت تلك السلاسل، طولا غريبا.
وما قلناه فى لفظ «سلاسل» يقال فى لفظ «قَوارِيرَا قَوارِيرَا»، فقد رسم هذا اللفظ فى الموضعين بألف زائدة فى آخره، دون تنوين..
وهذا الرسم يشير إلى غرابة هذه القوارير، وأنها ليست مما للناس عهد به..
فما رأى الناس أبدا قوارير من فضة، أي أكوابا زجاجية، هى فى حقيقة أمرها من فضة! فالأ كواب إما من فضة، وإمّا من زجاج..
أما أن تكون فضة وزجاجا معا، فذلك هو الذي لا يقع فى تصوّر أحد..
ولكن هذه أكواب الجنة التي يشرب بها عباد الله هناك شرابهم.. إنها أكواب من فضة، ولكنها فى صفاء الزجاج، وشفافيته، حيث يرى من ظاهرها لون ما فيها من شراب، وهذا لا يكون إلا لآنية الزجاج وحده..
قوله تعالى:
«إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً».
1356
الأبرار. جمع برّ، أو بارّ.. والبارّ: هو النقي الطاهر، الذي لم يغيّر من فطرته الطاهرة النقية شىء من كبير الذنوب أو صغيرها..
والكأس: إناء الشراب، ويطلق على الشراب نفسه.. كما يقول الشاعر:
وكأس شربت على لذّة وأخرى تداويت منها بها ولا يقال له كأس إلا إذا كان فيه شراب، فإذا كان فارغا سمّى قدحا.
والكافور: نبت طيّب الريح..
أي أن هؤلاء الأبرار يشربون من كأس ممزوجة بالكافور الذي يجعل لها ريحا طيبة، إلى جانب مذاقها الطيب.
وإذ كان معنى الكأس هنا هو الشراب الذي فيها، كان معنى شرب الأبرار من تلك الكأس أنهم يشربون من هذا الشراب، أو من هذه الخمر، التي مزاجها كافور..
قوله تعالى:
«عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً».
هو بيان لهذه الكأس، أو هذه الخمر، وهى أنها عين يشرب بها عباد الله..
ونصب «عينا» على أنه مفسّر لقوله تعالى: «مِنْ كَأْسٍ» على سبيل الاختصاص للمدح..
وعباد الله، هم الأبرار الذين ذكرهم الله سبحانه فى قوله: «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً».. وفى إضافتهم إلى الله سبحانه تعالى، تشريف، وتكريم، لهؤلاء الصفوة الكرام من الناس، فهم عباده، وهم أهل ودّه.
1357
وفى قوله تعالى: «يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» أي أنها عين تتفجر دائما كلما أرادوا أن يشربوا من خمر هذه العين.. فما هى إلا همسة خاطر حتى تنبع العين، ويتفجر منها الخمر، على هيئة كئوس تتناولها الأيدى من قريب.
وفى تعدية الفعل «يشرب» بحرف الجر «الباء» مع أنه يتعدى بنفسه أو بحرف الجر «من» فيقال شربت اللبن، أو شربت من اللبن- فى تعدية هذا الفعل بالباء، إشارة إلى أن العين التي يشرب منها عباد الله، هى خمر وكأس معا، وأنهم إذ يشربون بهذه العين التي هى خمر، يشربون الخمر ذاتها.. وهذا يعنى أن هذا الشراب الذي ينبع من تلك العين، لصفائه، ورقته، وشعشعة أضوائه- قد امتزج بالكأس، فصارا معا كيانا واحدا، لا يدرى الناظر إليهما، أينظر إلى كأس أم إلى خمر.. فكلاهما أصفى من الهواء، وأرق من الشعاع.. وإلى هذا المعنى يشير أبو نواس فى قوله:
رقّ الزجاج ورقت الخمر... وتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح... وكأنما قدح ولا خمر
وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، إنما لمحناه من قوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» حيث عدل النظم القرآنى عن تعدية الفعل «يشرب» إلى أداة الشرب بالباء، كما هو المألوف، إذ يقال شربت بالكأس وبالكوب، وعدى إلى تلك الأداة بمن.. ثم جاء قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» فعدل عن تعدية الفعل إلى مادة الشراب بحرف الجر من، إلى تعديته بحرف الجر الباء «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ».. وبهذا أحلّ النظم القرآنى مادة الشراب (العين) محلّ الكأس، على حين أقام الكأس مقام العين!.. وبهذا تبدو الصورة هكذا..
1358
- «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ» ومقتضى النظم: «إن الأبرار يشربون بكأس» - «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» ومقتضى النظم كذلك: «عينا يشرب منها عباد الله» :
وقد عدّ وصف أبى نواس للخمر والكأس أبلغ ما قالت العرب من وصف جامع للخمر وللكأس معا..
ولكن الذي ينظر فى الوصف القرآنى للخمر والكأس، لا يجد من وصف أبى نواس إلا طنين ذباب، بين يدى نغم علوىّ آسر، يملك زمام العقول، ويهزّ أوتار القلوب! وأين زبالة المصباح من ضياء الشمس، وروائها؟
وأين ضآلة المخلوق من عظمة الخالق وجلاله؟
أبو نواس آلة مصورة لروض جميل رائع، ولكن لا حياة فيه، ولا ريح زهره ولا مذاق لثمره..
والنظم القرآنى ينقل هذا المنظر فى كلمات تنبض بالحياة، وتندى بالطيب فتنشق الأنوف عبيره، وتطعم الأرواح مذاق جناه!! أبو نواس يستعين على إخراج الصورة بالأسلوب التقريرى المباشر، فيقول «رق الزجاج ورقت الخمر..»
فهو يقرر الصفة التي عليها كلّ من الكأس والخمر، وهى الرقة.. ثم يبنى على هذه المقدمة حكما مسلّما به، وهو التشاكل والتشابه بين شيئين كل منهما على صفة الآخر.. وهذا عيب فى الأسلوب البلاغى، الذي يعتمد على التلميح دون التصريح، ويستغنى بالإماءة، عن المواجهة والمكاشفة!
1359
فإذا استمعت إلى قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» تمثلت لك العين كأسا يشرب بها، ثم نازعتك نفسك إلى البحث عن أداة الشرب، فلا تجد إلا العين شرابا وكأسا معا..
وإذا استمعت إلى قوله تعالى: «يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» تمثلت لك الكأس عينا يشرب منها، فإذا شاقك أن ترى العين وجدتها هى الكأس والشراب معا، قد أصبحا كيانا واحدا..
هذا، ولم يجمع النظم القرآنى بين الوصفين- وصف الخمر، ووصف الكأس- حتى يقيم منهما الصورة التي تحقق صفتهما معا- لم يفعل النظم القرآنى هذا الصنيع، لأن كل صورة منهما تحقق الوصف المطلوب للكأس والخمر أتم تحقيق.. فإذا نظر الناظر فى الصورتين معا وجد أنهما وجهان لحقيقة واحدة! كأس وخمر، وخمر وكأس..
وقد جاء النظم القرآنى بهذا الإعجاز من أقرب طريق، وأيسره، فبكلمة واحدة، لا بل بحرف واحد، أقام هذا الإعجاز، وكشف عن وجه هذه المعجزة.. فما زاد النظم القرآنى عن أقام حرف «الباء» مكان الحرف «من» فى إحدى المعجزتين، على حين أقام الحرف «من» مقام حرف «الباء» فى المعجزة الأخرى! فهذا كلام الله، تتجلى معجزاته فى غير بهرج من اللفظ، ولا خلابة أو تهويل من النظم.. حتى ليبدو- فى ظاهره- وكأنه مما يتكلم به الناس، من منثور ومنظوم.. تماما كما كانت تبدو عصا موسى فى يده، عصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه.. لكن ما إن ألقاها من يده حتى سرت فى كياتها نفخة من روح الحق، وإذا هى حية تسعى؟.. وهكذا كلمات الله، تبدو
1360
فى ظاهرها، وكأنها من مادة ما نتكلم به، من حروف وكلمات، ولكنها آيات معجزة، تتحدّى، وتفحم، وتعجز.
قوله تعالى:
«يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» النذر: ما ألزم الإنسان به نفسه من طاعات وقربات، ومنه قوله تعالى، على لسان مريم عليها السلام: «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» (٢٦: مريم) والوفاء بالنذر: هو إمضاء لعقد عقده الإنسان مع ربه، بما يتقرب به إليه، فهو عقد ملزم، لا ينبغى الفكاك منه، والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (١: المائدة) وهذا النذر، هو من صفات الأبرار، حيث لا يقفون عند أداء ما فرض الله سبحانه وتعالى عليهم من فرائض، وما أوجب عليهم من واجبات، ولا ما سن لهم الرسول الكريم من سنن، بل يتجاوزن ذلك إلى طلب المزيد من القربات لله، فى كل ما يرون لله سبحانه فيه رضا، ولو شقّ ذلك عليهم، وحرمهم لذة النوم، والشبع، والرىّ..
ولم تعطف هذه الآية على ما قبلها، لأنها جواب عن سؤال، هو تعقيب على ما ذكر فى الآيات السابقة، مما وعد الله سبحانه وتعالى به الأبرار، من عظيم المثوبة، وكريم الجزاء- فكان مما يسأل عنه فى هذا المقام هو:
وبم استحق هؤلاء المكرمون هذا التكريم؟ وماذا كان شأنهم فى الحياة الدنيا؟ فكان الجواب: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً».. (٧: الإنسان)
1361
وجىء بالجواب فى صورة المستقبل «يوفون»، مع أن السؤال عن حال من وقع منهم الوفاء كان فعلا فى الماضي قد وقع منهم، واستحقوا الجزاء الحسن عليه- وذلك للإشارة إلى أن هذا الفعل ليس مقصورا على جماعة بأعيانهم، فى زمن معين، بل هو فعل ممتد الزمن على مدى الحياة الإنسانية فى هذه الدنيا، فهو فعل متجدد الأزمان، والأعيان.. وكأنّ الجواب هو هكذا:
هذا الجزاء لمن يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا..
وقوله تعالى: «وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» - صفة أخرى من صفات هؤلاء الأبرار، وهى أنهم يخافون لقاء الله يوم القيامة، وما يغشى الناس فى هذا اليوم من أهوال وشدائد، فهو يوم شره عظيم مستطير.. فمن لم يعمل حسابه، ويتزود له بالأعمال الصالحة، احتواه هذا الشر، واشتمل عليه.. إنه امتحان قاس لا يجوز بحره المتلاطم إلّا من أعد نفسه له..
قوله تعالى:
«وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً».
أي ومن صفات هؤلاء الأبرار أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. فالطعام الذي عليه قوام الحياة وملاكها، لا يؤثرون أنفسهم به، بل يجعلون لمن يعوزهم هذا الطعام نصيبا منه، ولو كانوا هم أنفسهم فى أشد الحاجة إليه.
وفى قوله تعالى: «على حبه» - إشارة إلى أن هذا الطعام ليس شيئا رخيصا مبتذلا، كشأنه فى أحوال الرخاء، ووفرة حاجات النفوس منه، وإنما هو الطعام فى أحوال القحط، والجدب، وفى أزمان المجاعات التي تكون فيها لقمة الطعام أعز ما يملك الناس، وأثمن ما يحرصون عليه من مال ومتاع، حتى إن المرء ليسترخص كل عزيز يملكه، فى سبيل شىء منه.. وهذا ما يشير إليه
1362
قوله تعالى: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» (٩٢: آل عمران) ولهذا استحق هؤلاء المطعمون لهذا الطعام أن يكونوا فى الأبرار، لأنهم أنفقوا مما يحبون، ومما تشتد رغبة النفس إليه، وحرصها عليه.. والمسكين، واليتيم، والأسير، هم أضعف أعضاء الجسد الاجتماعى، وهم الذين يتلقون أول الضربات وأقساها وأفعلها، فى أزمان المحل، والجدب، فيكونون أول حطب تشتعل فيه نار المجاعات.
فالمسكين قد أضرعه الفقر، وأذلّه الحرمان، حتى فى أوقات الرخاء واليسر، وهو فى حال القحط والمجاعة أشد ضراعة، وأكثر ذلة وضعفا وحرمانا..
واليتيم- والمراد به اليتيم الفقير- قد اجتمع عليه اليتم والفقر معا، فذهب اليتم بالجناح الذي كان يظله، وقصّ الجناح الذي كان يطير به، على حين ذهب الفقر بكل حبة كانت فى عشه.
والأسير، سجين فى قيد الأسر.. إن كان ذا غنى فهو لا سبيل له إلى ما يملك، وإن كان قويّا ذا حول وحيلة، فقد عطّل الأسر كل قواه، وسلبه كل ماله من حول وحيلة.
ومثل الأسير كل من انقطعت وسائله المتاحة له، وحيل بينه وبين مصادر رزقه، وعمله، كالمرضى والمساجين، وأبناء السبيل، وذوى العاهات، ونحوهم.
قوله تعالى:
«إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً».
هو حكاية لقول الأبرار، الذين يطعمون- فى ساعة العسرة- المسكين واليتيم والأسير، فهم إنما يطعمون من يطعمون ابتغاء وجه الله، لا يريدون على ما أطعموا جزاء، ولا شكورا ممن أطعموهم.. ولو أنهم فعلوا ذلك لما كان لهم
1363
فضل، ولما استحقوا عند الله أجرا، لأنهم استوفوا جزاء ما عملوا، ممن صنعوا بهم هذا الصنيع..
وهذا القول من الأبرار ليس بلسان المقال، يواجهون به من أطعموهم، فإنهم لو فعلوا، لكان ذلك من باب المنّ والأذى، الذي يحبط الأعمال، ويمحق الإحسان- وإنما هو بلسان الحال، ومما انطوت عليه ضمائرهم، وانعقدت عليه نيّاتهم..
قال مجاهد، وسعيد بن جبير، رضى الله عنهما: «والله ما قالوا ذلك بألسنتهم، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم، ليرغب فى ذلك راغب»..
وروى عن عائشة رضى الله عنها، أنها كانت إذا بعثت بالصدقة إلى أهل بيت من الفقراء، سألت من بعثته: ماذا قالوا لك؟ فإن ذكر أنهم دعوا لها، أخذت هى بالدعاء لهم، ليبقى لها عملها خالصا لوجه الله.
قوله تعالى:
«إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً».
وهذا أيضا مما يقوله الأبرار المتصدقون، بلسان الحال، لا بلسان المقال..
إنهم إنما فعلوا ما فعلوا ابتغاء وجه ربهم، وخوفا من لقائه يوم القيامة، حيث مزدحم الأهوال، وحيث يكثر العويل، والبكاء، وصرير الأسنان!! ووصف اليوم بأنه هو العبوس القمطرير، لأنه يطلع على الناس أغبر متجهما، يرمى بالنذر والمهلكات.. وإنه على صفحة الأيام والليالى تنطبع أحوال الناس، فالحزين يرى الحزن مخيّما على وجه أيامه ولياليه، والمتوجّع الشاكي، لا يسمع من أصداء الزمن إلا توجعا وأنينا، على حين يجد الخلّى المغتبط، الأيام
1364
والليالى، تغازله بالبسمات، والضحكات.. وهكذا تتلون ساعات الزمن بألوان النفوس، وتصطبغ بما فيها من مساءات أو مسرات..
يسمع المحزون هديل الحمام، وسجع البلابل، فيقع ذلك على أذنه وقع العويل والنواح، ويسمع السعيد الهانئ تلك الأصوات، فتوقّع على سمعه أعذب الألحان، وأحلى الأنغام.. وإلى هذا المعنى يشير الشاعر إلى وقع هديل الحمام من النفوس، فيقول:
شجا قلب الخلىّ فقيل غنّى وبرّح بالشجيّ فقيل ناحا
والقمطرير: وصف للعبوس بأنه عبوس بالغ الغرابة فى شدته، متناه فى صفته..
ولفظ القمطرير، يحكى بجرسه ما يشبه هدير الرعد، وقصف العواصف.
فبناؤه اللفظىّ يجسّم أصدق صورة لمعناه..
قوله تعالى:
«فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً».
أي أن هؤلاء الأبرار، الذين خافوا هذا اليوم، وأعدوا العدة له، قد وقاهم الله شره، ودفع عنهم مكارهه، وألقى عليهم نضرة النعيم، وبهجة الرضوان، ففاضت نفوسهم مسرة وحبورا.
قوله تعالى:
«وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً».
أي وجعل الله سبحانه جزاءهم عنده أن أدخلهم الجنة، وكساهم فيها خير ما يكسى به أهل النعيم في الدنيا، وهو الحرير، ولكنه حرير الجنة الذي لا يعلم صفته إلا الله تعالى.
وقوله تعالى: «بما صبروا» - إشارة إلى أن جزاءهم هذا الجزاء الطيب
1365
إنما كان بصبرهم فى الدنيا على أعباء التكاليف، وأداء الواجبات.. فالطاعات والأعمال الصالحة كلها لا تؤدّى إلا بمجاهدة النفس، ومغالبة الهوى. وفى الحديث: «حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات» قوله تعالى:
«مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» هى حال من أحوال الأبرار، وقد أخذوا منازلهم من الجنة، ولبسوا فيها فاخر الحلل.. فإذا نظر إليهم ناظر هناك، رآهم متكئين على الأرائك، قد أخلوا أنفسهم من هموم الدنيا، وتوقعات المساءات منها، من مرض، أو فقر، أو شيخوخة، أو موت..
والأرائك: جمع أريكة، وهى السرير، مرخى عليه السّتر الرقيقة، رفها وتنعّما..
وفى الاتكاء على السرر، مع أن الاتكاء إنما يكون على الوسائد، على حين أن النوم يكون على السرر- فى هذا إشارة إلى أن هذه السّرر هى متكأ لأهل الجنة، وأنها بمنزلة الوسائد فى الدنيا، وأن أهل الدنيا إذا اتخذوا السرر، وجملوها بما جملوها به، ليكون منامهم عليها، فإن أهل الجنة يتخذون هذه السرر للاتكاء، والاسترخاء عليها، لأن أهل الجنة لا ينامون..
وقوله تعالى: «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» أي أنهم لا يرون فى هذه الجنة شمسا، أي حرّا، لأن الشمس هى مصدر الحرارة، كما أنهم لا يرون زمهريرا، أي لا يحسون بردا، ولو لم تكن هناك شمس.. بل إن الجنة نور من نور الحق جلّ وعلا، وجوها سجسچ، لا حرّ فيه ولا برد..
1366
وأين جو من جو؟ وأين نسيم من نسيم؟ وأين ما فى دار الفناء مما فى دار البقاء؟
قوله تعالى:
«وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا».
ودانية: معطوف على قوله تعالى: «متكئين».. وظلالها فاعل لاسم الفاعل: «ودانية»..
أي أن هذه الجنة قد أرسلت ظلال أشجارها على هؤلاء الأبرار.. أما قطوفها أي ثمارها، فقد ذللت لهم، أي انقادت، وخضعت لمشيئتهم، فحيث أرادوها وجدوها حاضرة بين أيديهم، يأخذون منها ما يشاءون، ومنه قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ»
الآيات: (١٥- ٢٢) [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١٥ الى ٢٢]
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)
1367
التفسير:
قوله تعالى: «وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ... ».
أي ومن نعيم الأبرار فى الجنة، أنه يطاف عليهم فيها بأوان من فضة، قد ملئت بألوان النعيم، من مأكول ومشروب، كما يطاف عليهم بأكواب لم ترها عين فى الحياة الدنيا، فهى أكواب من فضة، ولكنها فى شفافية الزجاج، حتى ليحسبها الرائي قوارير، أي زجاجا.. والواقع أنها من الفضة، والفضة مهما رقّت لا تشفّ أبدا، فلو استطاع صانع أن يصنع من درهم فضة إبريقا، أو دلوا، لما شف هذا الإناء عما فى داخله كما يشفّ الإناء من الزجاج..
وقوله تعالى: «قَدَّرُوها تَقْدِيراً».. الضمير فى قدروها يعود إلى السقاة الذين يطوفون بتلك الآنية، وهذه الأكواب.. وأنهم جعلوها بمقادير وأحجام مقدرة بحسب طلب كل طالب.. كما يصح أن يعود هذا الضمير على الشاربين، وأنهم إذا رغبوا فى الشراب انتصبت فى الحال بين أيديهم تلك الأكواب، فكانت على قدر ما رغبوا.
ومما يساق إلى الأبرار من نعيم، أنهم يسقون فى هذه الأكواب- التي أصبحت بالشراب كأسا- يسقون كأسا قد امتزج فيها طعم الزنجبيل بمذاق الخمر..
والزنجبيل: عروق نبات تمتد فى الأرض، نقيعه حرّيف الطعم، يكون أشبه بالتفكهة لشارب الخمر..
فالضمير في «فيها» من قوله تعالى: «يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً» يعود إلى تلك الأكواب التي هى قوارير من فضة..
فالأكواب، وصف لكئوس الشراب وهى فارغة، والكأس مسمّاها وهى ملأى بالشراب..
1368
وقوله تعالى: «عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا» أي ويسقون عينا فى هذه الكأس تسمّى سلسبيلا..
فقوله تعالى: «عَيْناً فِيها» عطف بيان لقوله تعالى: «كَأْساً».. فالعين هى الكأس، والكأس هى الأكواب.. يرون هذا المشهد يمرّ بهم فى لحظة خاطفة.. فأداة الشرب، وهى الكوب، تبدو أولا، ثم- وفى لحظة لازمنية- ترى كأسا ملأى بالشراب.. ثم- وفى لحظة لازمنية أيضا- ترى هذه الكأس عينا تفجر تفجيرا، لا ينفد شرابها، مادامت الكأس على فم الشارب، فإذا أخذ حاجته منها غاضت هذه العين، وغاب وجه الساقي القائم على خدمتها، ليفسح المكان لألوان أخرى من النعيم.. لا تنتهى أبدا..
والسلسبيل: الدائم الجريان، السائغ الطعم، فيجرى فى الحلق جريان الماء فى منحدر الوادي. وبه سميت العين، من تسمية الموصوف بصفته..
وقد جمعت الأكواب، حتى إذا امتلأت بالشراب، أفردت، فكان لكل شارب كأسه الذي يشرب منه، والعين التي تفيض من هذه الكأس..
وهذا من إعجاز القرآن الكريم فى جلال التصوير، وروعة الأداء، وصدق العرض..
ولا تظنن أنا ذهبنا مذهب الشطط، أو الشطح فى تأويل هذه الآيات..
فما ذلك إلا شعاعة من سناها العلوي، الذي يملأ الوجود كله.. وإن هذا الترف الذي يبدو من الصورة التي عرضناها لمجلس الشراب، هو صورة باهتة هزيلة للحقيقة الواقعة التي يعيش فيها أهل هذا المجلس، فى الجنة..
قوله تعالى:
«وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً»
1369
أي أن الذين يطوفون بهذا الشراب، ويقومون على خدمة الشاربين، هم ولدان، أي غلمان فى أول بواكير الشباب، إذا رآهم راء حسبهم لؤلؤا منثورا.. صفاء، ورونقا، ونضارة، وإشراقا..
وفى مجىء نظم الآية فى صورة خطاب- بعث لأشواق المخاطب، ودعوة له إلى مشاهدة هذه الأحوال، ثم العمل على أخذ مكانه مع هؤلاء الذين ينظر إليهم.
والمخلدون: الذين لا يتحولون عن حالهم تلك أبدا، ولا يتأثرون بمرور الدهور والأزمان.. وهو من الخلد: أي الثبات، وعدم التحول، والانتقال من مكان إلى مكان.. يقال، أخلد فلان فى مكانه، أي لزمه، وأخلد إلى الراحة أي أقام فى ظلها.. ومنه جنّة الخلد، أي الخلود والدوام فيها.
واللؤلؤ المنثور، هو اللؤلؤ المتناثر الحبات، الذي لم ينتظمه عقد.. واللؤلؤ المنثور أبهى منظرا، وأبهر موقعا فى العين، منه لو كان منضّما بعضه إلى بعض..
كالمنثور من الزهر فى الروض، تتنقل العين فى محاسنه من زهرة إلى زهرة، على حلاف ما لو ضمّ بعضه إلى بعض لأخذته العين كله بنظرة واحدة!! قوله تعالى:
«وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً» ثم: أي هناك، فى الجنة، وما يلقاه أهلها فيها من نعيم..
إنك لو كنت هناك- جعلنا الله وإياك من أهلها- لرأيت نعيما لا حدود له، وملكا كبيرا قائما بين يدى أصحاب النعيم.
والمراد بالملك الكبير هنا، السلطان العظيم الذي هو مظهر من مظاهر الملك، وسمة من سماته..
وأي سلطان أعظم من سلطان أهل الجنة، حيث تمضى إرادتهم فى كل
1370
شىء، وتنفذ مشيئنهم فى كل شىء؟ إن خطرات النفوس، وهمسات الخواطر- أيّا كانت هذه الخطرات، وأيّا كانت هذه الهمسات- تتمثل لهم واقعا حاضرا بين أيديهم، قبل أن يكتمل ميلاد الخطرة، أو تتشكل صورة الهمسة!! فمن فى هذه الدنيا بلغ من نفوذ سلطانه معشار هذا السلطان؟
وتاء الخطاب فى قوله تعالى: «إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ» وفى قوله سبحانه:
«وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ» - هو لكل مستمع لهذه الآيات، أو تال لها، وفى هذا ما يبعث أشواقه إلى الجنة، ويشدّ عزمه على العمل لها، ليكون من أهلها، المنعمين بنعيمها، لا أن يكون من المشاهدين لهذا النعيم من بعيد، كما يشهد أصحاب النار أصحاب الجنة!! وهذا عندنا- والله أعلم- أولى من القول بأن هذا الخطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه..
فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه- مخاطب بالقرآن كله، ثم إنه- صلوات الله وسلامه عليه- قد رأى الجنة ونعيمها، كما رأى أكثر من الجنة ونعيمها، فى مسراه- صلوات الله وسلامه عليه- وفى عروجه إلى الملأ الأعلى:
«لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» (١٨: النجم) قوله تعالى:
«عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» أي أن هؤلاء الأبرار، يطعمون أطيب المطاعم، ويشربون ألذ وأمرأ المشارب، وهم فى حال اتكاء واسترواح، وبين أيديهم اللؤلؤ المنثور من الغلمان يقومون على خدمتهم، وإذ يفيض عليهم من هذا النعيم، ما تشرق به وجوههم
1371
من رضا ورضوان- تراهم وقد ألبسوا أفخر الثياب، وحلّوا بأثمن الحلي، وأكرمها.. فهذا مما يتم به النعيم، وتكمل به المسرات..
والسندس، ضرب من نسيج الحرير الرقيق، والإستبرق نسيج أغلظ من نسيج السندس.. أي أن السندس يكون شعارا، والإستبرق يكون دثارا..
و «عاليهم» ظرف، بمعنى فوقهم، أي تعلوهم ثياب سندس خضر..
وفى التعبير بلفظ «عاليهم» بدلا من عليهم- هو- والله أعلم- إشارة إلى أن هذه الملابس لا تلتصق بأجسامهم كما تلتصق ثيابنا على أجسادنا فى هذه الدنيا، وإنما هى ألوان من النور، أشبه بألوان الطيف، تنعكس على هذه الأجسام النورانية.. وهذا يعنى أن الحياة فى الجنة حياة روحية، لا يخالطها شىء من عالم المادة إلا كان فى شفافية الروح وصفائها..
وقوله تعالى: «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» - هو إشارة إلى عظم ما يساق إلى هؤلاء الأبرار من نعيم، حيث يتناولون هذا الشراب الطهور من ربهم، بعد أن يكونوا قد تذوقوا ألوان النعيم الأخرى.. فكان هذا الشراب من يد البر الرّحيم، هو النشوة الكبرى، التي لا يحيط بها وصف، ولا يعرف كنهها إلا من أكرمه الله بها..
فما أضل الذين ولّوا وجوههم إلى غير ربهم، وما أخسر صفقة الذين اشتروا الدنيا كلها، بقطرة من قطرات هذا الرضوان!! قوله تعالى:
«إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» هو من تحية الله سبحانه وتعالى لعباده الأبرار المكرمين، وهو يسقيهم
1372
من هذا الشراب الطّهور.. فهم إذ يتناولون هذا الشراب من ربهم، يتناولونه محمّلا بهذه التحية المباركة من المنعم المتفضل عليهم إذ يقال لهم هذا جزاء ما عملتم، وهو ثمرة ما سعيتم، إن سعيكم كان مشكورا لكم من ربكم، وهذه التحية من ربكم هى تحية شكر وحمد لسعيكم.
[الجنة ونعيمها.. بين الروحي والجسدى] ونريد هنا أن نقف وقفة قصيرة مع تلك الأوصاف التي ذكرها القرآن الكريم لنعيم الجنة، والتي تبدو كأنها صورة من النعيم الدنيوي، بما فيه من ألوان المآكل، والمشارب، والدور، والقصور، والملابس، والحلّى، والأوانى والأمتعة، والجواري والغلمان، والعيون والأنهار، والأشجار والثمار، إلى غير ذلك مما اعتاد الناس فى الدنيا أن يروه، أو يعيشوا فيه..
وهذا مما دعا بعض الأدعياء أو الأغبياء إلى أن القول بأن هذه الجنة مما يحلم به المحرومون، ومما يغذّى به الدين هذه الأحلام الجائعة! ولنسلم- جدلا- من أول الأمر بأن نعيم الجنة هو من هذا النعيم الذي يعرفه الناس فى الدنيا، ويجدّون فى طلبه، ويشقون فى تحصيله، ثم يفوتهم كله، أو الكثير منه- فأى قصور يلحق هذا النعيم، وأي مطلب يعوز الذين ينزلون منازل هذه الجنة فيجدون كل ما كانت تشتهى أنفسهم فى الدنيا حاضرا بين أيديهم، لا يتكلفون له جهدا، ولا يريقون من أجله دما أو عرقا؟ أهذا نعيم تزهد فيه النفوس؟ وأ هذا مقام يبغى إنسان التحول عنه؟ ولم إذن استبدت الرغبة فى هذا النعيم بنفوس الناس فى الدنيا؟ ولم أفنوا أعمارهم فى طلبه؟ ولم أراقوا دماءهم في سبيله؟
فلتكن الجنة عالما ماديّا، ولتكن كلها سوقا حشدت فيه كل ما فى هذه الدنيا من متع ولذاذات ومسرات ومباهج؟ أليس هذا العالم هو حلم
1373
الإنسانية الذي لم ولن يتحقق لها على هذه الأرض؟ فماذا لو وجدت عالما آخر يتحقق لها فيه هذا الحلم البعيد المنال؟ وأي إنسان يزهد فى هذا النعيم إذا أتيح له، ووجد السبيل إليه؟ ولا تمدن عينيك هنا إلى أولئك الذين يقال إنهم زهدوا فى نعيم الحياة المادية من الفلاسفة والحكماء، والمتصوفة، وغيرهم ممن عفّوا، أو عافوا متعة الجسد، وراحوا يعيشون على قوت أرواحهم، وعرائس أفكارهم.. فهؤلاء جميعا- إن صدقت أحوالهم- إنما أقاموا لأنفسهم عالما من الوهم، والخيال، تتراقص فيه طيوف رؤاهم وأحلامهم، بكل ما قصرت عنه أيديهم من متع مادية استبدّ بها غيرهم.. ومن زهد منهم فى تلك المتع، وقد أتيحت له- فإنما لأنه استقصر حياته معها، أو توقع فرارها من يده! ولو كان هذا النعيم دائما، وكان لمن يعيش فيه ضمان بالخلود معه، لكان الحكماء، والفلاسفة، والمتصوفة أكثر الناس طلبا، وازدحاما على مورده..
ومع هذا، فإن ما جاء فى القرآن الكريم من أوصاف الجنة ونعيمها، ليس هو كل ما فيها من نعيم، وإنما ذلك هو معرض من معارضها، وإشارة دالة على ما وراء هذا النعيم مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر.. إنه هو الجزء القليل الذي يمكن أن يقع فى مفهوم الناس، وهم فى هذا العالم الدنيوي، حتى يكون للجنة التي يوعدون بها تصور، وحتى يكون لدعوتهم إليها استجابة.. ولو جاءتهم الجنة غير مألوفة لهم، لما وقعت من أنفسهم موقعا، ولما وجدت لها فى مشاعرهم ووجداناتهم مكانا..
ولا يقال- كما قيل فعلا- إن هذا النعيم الأخروى، هو نعيم جسدى، يشبع أحلام الجوعى والمحرومين، ويرضى مطالب البيئات الفقيرة
1374
المجدبة.. وهذا بدوره يعنى أن الدّين الذي يعد أهله بمثل تلك الجنة فى الآخرة، إنما هو دين على مستوى هذه الحياة البدائية فى الصحراء، التي لا تبعد الحياة فيها كثيرا عن حياة الغابة، وأن الدين ليس إلا أكذوبة خادعة تستهوى الجوعى والمحرومين بهذه الموائد الممدودة لهم فى عالم الرؤى والأحلام.
فهذا القول، إن كان من جاهل، فهو جهل يفصح أهله ويخزيهم، وإن كان من عالم فهو زور وبهتان، يتخرص به المتخرصون فى غير خجل أو حياء، ممن يكيدون للإسلام، من مستشرقى أوربا وأمريكا: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (٨: الصف).
إن نعيم الجنة المادي، وما جاء فى القرآن مما أعد الله سبحانه وتعالى منه لأهلها، من حور عين، وولدان مخلدين، ولحم طير مما يشتهون، وفاكهة مما يتخيرون، ومن أنهار من ماء ولبن، وخمر، وعسل- إن هذا- كما قلنا- هو من مطلوب الحياة الإنسانية، وبه قوام حياة الإنسان، وسعادته، مادام الإنسان إنسانا بشرا، لم يتحول إلى عالم الملائكة، ولم يصبح روحا هائما لا ذاتية له..
وإن الإنسان، هو الإنسان، فى الدنيا، أو الآخرة.. هذا ما يجب القطع به.. إذ لا بد أن يجد الإنسان ذاته ووجوده الإنسانى كله فى الآخرة، وإلا لكان مخلوقا غريبا، ليس بينه وبين الإنسان الذي عاش فى هذه الدنيا من صلة، ثم لكان حسابه وجزاؤه فى الآخرة ليس حسابا، ولا جزاء لهذا الإنسان الذي كان فى الدنيا..
وإنه لكى يظل الإنسان إنسانا، وليلقى حسابه وجزاءه، الحسن أو السيّء، ويحد طعمه الحلو أو المر- ينبغى أن يكون على طبيعته، فى جميع أحواله،
1375
وكل حيواته.. الدنيوية، والأخروية.. إنه ينبغى أن تظل هذه «الذاتية» مع الإنسان، وأن تصحبه تلك الشخصية المشخصة له فى عالم الدنيا والآخرة جميعا..
أما أن تتفكك هذه الشخصية، أو تنحلّ، أو تخرج عن طبيعتها جملة، فإنها لن تكون ذلك الإنسان، الذي عرف فى وقت ما، أوفى حال ما، أنه فلان؟ ابن فلان!..
نعم، قد تعلو ذاتية الإنسان وتصفو مشاعره وعواطفه، وقد تنزل، وتسفّ، وتكدر.. ولكن ذلك لا يخرج بالإنسان- فى أي حال من الأحوال- عن دائرة الإنسانية- ولا يلحقه بعالم الملائكة أو الشياطين..
إن الإنسان ليتنقل فى أطوار شتى.. من الولادة إلى الطفولة، والصبا والشباب، والشيخوخة..
وهو فى كل طور من أطوار حياته، هو تلك «الذات» أو «الشخصية» التي لا يجد فيها صاحبها أن طفولته أو صباه أو شبابه أو شيخوخته- أوصال مقطعة من «ذاته».. بل إنه هو هو، فى كل طور من هذه الأطوار، وإن تغيرت بعض ملامحه، وزادت معارفه، واتسعت آفاقه.. وشتان ما بين الطفولة والشباب، وشتان بين «سقراط» الطفل وسقراط الفيلسوف.. ولكنه هوهو سقراط، طفلا، وصبيا، وشابا، وشيخا!!.
ثم مالنا ندفع مطاعن الأوربيين عن شريعة الإسلام، وما جاء فى تلك الشريعة من أوصاف حسية لنعيم الجنة- ما لنا ندفع هذا، والحال أنهم هم مطالبون أن يدفعوا هذه المطاعن ذاتها عن المسيحية، إن كانوا يؤمنون بها،
1376
أو يدفعوا بها إليها إن كانوا غير مؤمنين بها.. فإن المسيحية- على الرغم من أنها تلبس لباس الروحانية- حين تحدثت عن النعيم الذي يلقاه أهل الجنة- نجدها تعرض صورا حسية من هذا النعيم، مثل تلك الصور التي جاء بها القرآن، سواء بسواء!.
فقد ذكر المسيح- عليه السلام- لتلاميذه، أنهم سيشربون معه من ابنة العنب فى ملكوت السموات: يقول لهم: «إنى لست شاربا من ابنة هذه الكرمة حتى أشربها معكم فى ملكوت السموات «١» ».
فأخبر بأن فى الملكوت شرابا، وشرابا من خمر، وحيث يكون شراب، لا يستنكر المأكل.. فيقول السيد المسيح: «ستأكلون وتشربون على مائدة أبى «٢» ».
ثم هناك إلى جانب الأكل والشرب، غرف لأهل الجنة.. يقول السيد المسيح: «ما أكثر الغرف والمساكن عند أبى «٣» ».
فالقرآن إذن لم يكن بدعا بين الكتب السماوية، فيما جاء فيه عن النعيم الحسىّ فى الجنة.. فلم تتهم شريعة الإسلام وحدها بأنها شريعة الجسد، وبأنها الشريعة التي تغرى أتباعها بهذه الألوان التي يسيل لها لعابهم، وتستيقظ لها حيوانيتهم؟.
إنها تهمة ظالمة باطلة..!
(١) إنجيل متى (٢٦: ٢٩).
(٢) إنجيل متى: (٢٢: ٣).
(٣) إنجيل يوحنا (١٤: ٢). [.....]
1377
أما أنها ظالمة، فلأنها تتجه إلى الإسلام وحده، دون الشرائع والديانات التي تقول بما يقول به الإسلام فى وصف هذا النعيم..
وأما أنها باطلة، فلأنها تقوم على فهم خاطئ للإنسان، وللوحدة الذاتية، التي ينبغى أن يحتفظ له بها فى الحياة الآخرة.. تلك الوحدة التي تجمع الروح والجسد معا.. فلا يكون الإنسان إنسانا إلا يجسد وروح، ولا يعرف الإنسان السعادة أو الشقاء إلا إذا كان لكلّ من الجسد والروح نصيب مما يسعد به الناس أو يشقون!.
إن أهل الجنة يحملون معهم نفوسا بشريّة، لها رغباتها، ومنازعها، ومن شأن نعيم الجنة، الذي يحقق النعيم الكامل- من شأنه أن يشبع- فى غير ملل- هذه الرغبات وتلك النوازع، وإلا كان نعيما غير كامل..
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ»
(٣١: فصلت).
وعلى هذا فإن لنا أن نقول إن نعيم أهل الجنة- هذا النعيم الحسى، الذي جاء فى القرآن، من مطاعم، ومشارب، وملابس، ومساكن- هو نعيم مطلوب للإنسان، لا يتم نعيمه إلا إذا أخذ حظه منه، وهو نعيم خالص من الشوائب، التي تعلق بكل نعيم دنيوى..
ثم إن وراء هذا النعيم الحسى، نعيما روحيّا.. فهناك مسرات الروح التي لا حدود لها.. وإنها لمسرات لا يمكن أن توصف بألفاظ وعبارات، ولا يمكن أن تضبط لها صورة، وغاية ما يمكن أن يقال عنها إنها بهجة النفس ولذة الروح..
1378
أما مادة تلك اللذة، وهذه البهجة، فلا يمكن أن توصف بألفاظنا، أو تدرك بعقولنا المحدودة القاصرة..
ولقد أشار القرآن الكريم إلى بعض دلالات هذا النعيم الروحي، ولكنه لم يكشف عن مادة هذا النعيم وعناصره.. فهناك نضرة النعيم التي تسفر بها وجوه أهل الجنة: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» (٢٤: المطففين).
وهناك الأمن والاطمئنان من كل ما يزعج النفس أو يقلقها من حاضر أو مستقبل: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ.. لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» (٤٩: الأعراف) ثم أليس الخلاص من جهنم، وأ ليست السلامة منها، مصدر نعيم نفسى لا ينفد أبدا؟ إنها لسعادة غامرة، وهناءة كاملة، أن يرى أهل الجنة عذاب السعير، وهم فى مأمن من هذا العذاب.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (١٨٥: آل عمران) ومن أجل هذا كان من حمد أهل الجنة لله سبحانه وتعالى أن أنقذهم من عذاب النار، هو ما ذكره الله سبحانه من قولهم «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» (٣٥: فاطر) أليس هذا نعيما للنفس، وروحا للروح.. يتجدد فى كل نظرة ينظر بها أصحاب الجنة إلى أصحاب الجحيم؟
ثم ماذا يطلب الإنسان من النعيم، غير أن يجد فيه السعادة المطلقة..
1379
السعادة التي لا يدخل عليها ما يقطعها، أو ينقص منها، أو يفسد طعمها؟ إن سعادة الجنة، هى سعادة دائمة خالدة، لا تنفصل عن أهلها، ولا ينفصلون عنها، وذلك هو نعيم أهل الجنة، سواء أكان ماديّا أو معنويّا، جسديّا أو روحيّا..
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» (١٠٧- ١٠٨: الكهف).
وحسب هذا النعيم أنه غير زائل عن أهله، وحسب المنعمين به أن يقيموا عليه، ولا يبغون عنه حولا.
وأعجب ما فى هذه القضية، أن يجىء الإنكار على الإسلام لهذا النعيم الجسدى الذي يعد به أتباعه فى الآخرة- من عجب أن يجىء هذا الإنكار من أوربا وأمريكا، التي فنيت شعوبها فناء مطلقا فى عالم المادة، حتى لقد كادت تتغير الطبيعة الإنسانية فى هذه المجتمعات، وتختفى المشاعر والعواطف.. حتى بين الآباء والأبناء.. وإنه لو كان لتلك الشعوب أن تحلم بجنة فى الآخرة، لما كانت جنة أحلامهم تلك إلا أنهارا تجرى من خمر، وإلا حانات تعج بالراقصين والراقصات، وإلا موائد ممدودة للطعام والشراب، والقمار.. فإن هذا الذي بلغته شعوب أوربا وأمريكا من تقدم فى العلوم والفنون، وإنما كان وسيلة إلى تحقيق هذا النعيم المادىّ الذي إن فات أحدهم حظه منه، ولم يستطع الوصول إليه، ضاقت الدنيا فى عينيه، واستولى عليه الكرب والهم.. ثم لم يكن له بدّ من أن يركب أحد طريقين: فإما أن يلبس ثوب الوجودية، ويتحول إلى حيوان يعيش فى غابة، فلا يغير من ثيابه، ولا يصلح من هندامه، ولا يقص شعرا ولا ظفرا، ولا يغطى جسدا ولا يستر عورة.. وهو بهذا يخرج عن عالم الناس، ومن ثمّ فلا يعنيه أن يملك مثل ما يملكون، أو يتمتع مثل ما يتمتعون..
إن له متعته الخاصة التي هى على غير ما يتمتع به الناس.. وهل يلذ للذئاب مثلا
1380
أن تجلس إلى مائدة، وأن تتناول مما يطعم منه الناس. ؟
أما من لم يجد له مكانا فى هذا العالم فثمة طريق آخر.. طريق المنتحرين..
وليس ثمة طريق ثالث.
الآيات: (٢٣- ٣١) [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٣ الى ٣١]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة وجود الإنسان، ولفتته إلى أصل خلقه، وأين كان؟ وكيف بدأ؟ وإلى أين صار؟ وبعد أن لقيت هذا الإنسان بما سيلقى فى الآخرة عن عذاب ونكال، إذا هو كفر بالله، وجحد حق خالقه عليه، وما سيلقى من نعيم ورضوان، إذا هو عرف ربه، وذكر حقه عليه، وخاف مقامه بين يديه- بعد هذا العرض، عادت آيات الله، تدعو النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى حضرة ربه سبحانه وتعالى، لتسمعه حديثه إليه، فيلقاه الحق سبحانه وتعالى بقوله:
1381
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا».
أي أن هذا القرآن الذي تتلوه على الناس، هو منزل عليك من عند ربك، وليس رسول الوحى جبريل- عليه السلام- إلا رسولا من عند الله إليك به.
وفى قوله تعالى: «نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» - إشارة إلى أن هذا القرآن ينزل على النبىّ آيات آيات لا جملة واحدة، كما يفيد ذلك لفظ الفعل «نزل» الذي يفيد وقوع الفعل حالا بعد حال، لامرة واحدة.
قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً».
والآثم: من غلب عليه الاستغراق فى معاطاة الآثام، من أهل الكفر والضلال..
والكفور: من استغلظ كفره، ولج به الضلال والعناد، فلا يرى حقّا، ولا يذعن لحق إذا هو رآه.. وكل من الآثم والكفور، آثم وكافر معا، ولكن منهم من غلب إثمه على كفره، ومنهم من غلب كفره على إثمه..
والفاء فى قوله تعالى: «فاصبر» فاء السببية، أي وبسبب أنا أنزلنا عليك القرآن تنزيلا، ، اصبر لحكم ربك.. أي اصبر على امتداد نزول القرآن عليك، وما دام القرآن لم يختم فإن مسيرتك لم تنته وزادك فى هذه المسيرة، هو الصبر..
فاصبر..
وحكم الله سبحانه وتعالى، هو ما يقضى به جل شأنه بين النبي وقومه..
واللام فى «لِحُكْمِ رَبِّكَ» هى اللام الحينية، أي التي بمعنى حين، أي إلى حين حكم ربك.
وقوله تعالى: «وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» نهى للنبى عن أن يستمع
1382
إلى ما يدعوه إليه المشركون من قومه، من الكفّ عن دعوتهم، وإنذارهم بآيات الله التي يتلوها عليهم، أو أن يصغى إلى ما يعرضونه عليه من دنياهم التي يلوحون له بها..
وفى هذا إعلام للمشركين بأن النبىّ مأمور من ربه بالصبر على أذاهم، وبألا يستمع إلى ما يدعونه إليه، وهم يعلمون أن النبي لا يخالف أمر ربه.. ولهذا كان لهذا الأمر الموجه إلى النبي من ربه، وقع على نفوس المشركين، وتيئيس لهم مما يطمعون فيه من النبي..
وقوله تعالى:
«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا».
هو معطوف على قوله تعالى: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ..»
أي ومما يعينك على الصبر على ما تكره من قومك، وما يقيمك بالمقام المطمئن الذي تثبت به قدمك على طريق الدعوة التي تدعو بها- هو أن تذكر اسم ربك، وتستحضر جلاله، وعظمته، وعندئذ تجد كل هؤلاء المتعاظمين، والمتعالين، نمالا تدبّ على الأرض، أو ذبابا يجتمع على قذر! والبكرة: أول النهار، والأصيل آخره..
فهذا عمل النبىّ بالنهار، إلى جانب دعوته التي يقوم بها فى الناس.. إنه ذكر لاسم الله، فى مفتتح نهاره، ومختتمه.
فإذا كان الليل، خلا إلى ربه، وأطال ذكره، وتسبيحه، وسجوده، وهذا ما جاء الأمر به بعد ذلك فى قوله تعالى:
«وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا».
1383
«وَمِنَ اللَّيْلِ» أي ومن بعض الليل لا كلّه.. فحرف الجر «من» التبعيض..
فهنا أمران: أمر بالسجود، لله بعضا من الليل.. وأمر بالتسبيح له تسبيحا طويلا ممتدا، ما وسع الجهد.. وهذا على معنى أن «طويلا» صفة لمصدر محذوف دل عليه الفعل «سبحه» أي سبحه تسبيحا طويلا فى وقت الليل..
وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، هو أولى عندنا مما ذهب إليه المفسرون من أن طويلا صفة لقوله تعالى: «ليلا».. فإن وصف الليل هنا بالطول لا معنى له..
فالليل هو الليل، طويلا كان أم قصيرا.. ثم إن «من» التي تفيد التبعيض لا تجعل لوصف الليل بالطول معنى..
وقوله تعالى:
«إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا».
الإشارة هنا بهؤلاء، هى إلى المشركين الموصوفين بالإثم والكفر..
إنهم يحبون العاجلة، أي الدنيا، ويستهلكون وجودهم كله فيها، ولا يعطون شيئا للآخرة، بل يطرحونها وراء ظهورهم، وهى لاحقة بهم، لا تدعهم حتى تمسك بهم، ويطلع عليهم منها يوم ثقيل وقعه، بما يلقون فيه من كرب وبلاء..
قوله تعالى:
«نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا».
الأسر: القوّة، والمراد به ما أودع الله سبحانه وتعالى فى الإنسان من قوى جسدية. وعقلية، وروحية، ونفسية..
فهذه القوى التي أودعها الخالق جلّ وعلا فى كيان الإنسان، هى قوى
1384
مجتمعة، متساندة، متآلفة، يعمل بعضها مع بعض كأنها قوة واحدة..
وفى هذا بيان لما لله سبحانه وتعالى من فضل وإحسان، على الإنسان، الذي خلقه، فأحسن خلقه، وأقامه على هذه الصورة التي علا بها على أفق الحيوان، فصار بشرا سويا، وأصبح خليفة لله على هذا الكوكب الأرضى.
وقوله تعالى: «وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا».. إشارة إلى قدرة الله القادرة التي لا يفلت من سلطانها مخلوق، والتي تخلق ما تشاء وتختار، دون معوّق، أو معقب..
وهؤلاء الآدميون الذين خلقهم الله سبحانه على تلك الصورة من الإحكام والإتقان، لا يمسكها إلا الله، ولا يحفظ عليها وجودها إلا هو، فإذا أراد سبحانه أن يبدّل بهؤلاء الآدميين غيرهم نفذت إرادته ومضت مشيئته..
«وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (٣٨: محمد).
وفى جمع الأمثال: إشارة إلى أن قدرة الله سبحانه لا حدود لها، وأنه قادر على أن يقيم مكان هؤلاء الآدميين أمثالا، لا مثلا واحدا..
قوله تعالى:
«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» أي إن هذه الآيات، وما ضمّت عليه، من علم، وحكمة، هى تذكرة وموعظة، وهى دليل هاد، وقائد أمين، لمن شاء أن يتعرف طريقه إلى الله، ويسلك مسالك الهدى والرّشد.. وإنها لا تحمل قوة مادية قاهرة ملزمة تسوق الناس سوقا إلى الله، وإنما هى إشارات مضيئة إلى طريق الله. فمن شاء أقام وجهه على هذا الطريق، ومن شاء تنكّبه، وأدار ظهره له..
1385
قوله تعالى:
«وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً».
هو تعقيب على الآية السابقة، يراد به الاحتراس من أن تفهم المشيئة الإنسانية على إطلاقها، فهذه المشيئة مقيدة بمشيئة الله، دائرة فى فلكها.. فمن كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى فيه أن مؤمن، جرت مشيئته وراء مشيئة الله فكان من المؤمنين، ومن كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى فيه أن يكفر، جرت مشيئته وراء مشيئة الله، وكان من الكافرين..
ولم كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى مختلفة فى الناس، ولم تكن مشيئة واحدة؟..
إن ذلك تقييد لمشيئة الله سبحانه أولا، ثم هو إلزام لله سبحانه ثانيا، ثم هو إفساد لصورة الوجود ثالثا.. إذ أن من مقتضى وحدة المشيئة فى المخلوقات أن يكون الوجود كله لونا واحدا، لا أرض ولا سماء، ولا نجوم ولا كواكب ولا جماد ولا نبات ولا حيوان.. إلى غير ذلك مما ضمّ عليه هذا الوجود من مخلوقات، إذ أن تعدد هذه المخلوقات، واختلافها، صورا، وأشكالا، وألوانا وأمكنة وأزمانا، هو من عمل مشيئة الله سبحانه فى كل مخلوق خلقه.. إنها مشيئة واحدة، يقع على كل مخلوق حظه منها، وذلك بتقدير العليم الحكيم.
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» يفعل ما يشاء عن علم محيط بكل شىء، وعن حكمة، مقدّرة لكل شىء..
قوله تعالى:
«يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ.. وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً».
ومن مشيئته سبحانه، أنه يدخل من يشاء فى رحمته.. وأعد للظالمين عذابا أليما..
1386
والمراد بالرحمة هنا الجنة، لأن الرحمة هى السبب الموصل للجنة! وأنه بغير رحمة الله لا سبيل لأحد إلى الجنة.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله».. قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله «برحمته»..
ومن أسرار كتاب الله الكريم أن كان مفتتحه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» وكان مفتتح كل سورة منه «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».. وكان مفتتح كل تلاوة لآياته الاستعاذة من الشيطان الرجيم، باسم الله الرّحمن الرّحيم..
1387
٧٧- سورة المرسلات
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الهمزة.
عدد آياتها: خمسون آية..
عدد كلماتها: مائة وإحدى وثمانون كلمة.
عدد حروفها: ثمانمائة وستة عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها كان ختام سورة «الإنسان» السابقة على هذه السورة، هو قوله تعالى:
«يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً» وفى هذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين.. وهذا الوعد، وذلك الوعيد إنما يتحققان يوم القيامة، فكان لا بد من إبراز هذا اليوم، والتأكيد على وقوعه، وذلك مما يزيد فى إيمان المؤمنين، ويرفع الحجب الكثيفة عن عيون كثير من الذين لا يؤمنون..
وهذا ما جاءت هذه السورة «المرسلات» مقررة، ومؤكدة له.
1388
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
جوّها سجسج وفيها نسيم كل غصن إلى لقاه يميل