تفسير سورة الإنفطار

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الإنفطار من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ ﴾ ؛ أي انشَقَّت وانقَضَتْ. والانفطارُ والانصداعُ والانشقاق بمعنىً واحد. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴾ ؛ أي تساقَطت على وجهِ الأرض، ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾ ؛ أي فُتِحَ بعضُها في بعضٍ، ورُفِعَ الحاجزُ بين العَذْبِ والملحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾ ؛ أي مُحِيَتْ فانتَثَرت وكشَفت عن الأمواتِ واستُخرجَ ما فيها من الموتَى، ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ ﴾ ؛ من عملٍ، ﴿ وَأَخَّرَتْ ﴾ ؛ أي عندَ ذلك تعلمُ النَّفس ما قدَّمت وأخَّرت، هذا جوابُ الشَّرطِ، ويقالُ : ما قدَّمت من الطاعةِ والمعصية، وما أخَّرت من الحسَنة والسِّيئة. ويقالُ : ما قدَّمت وأسلَفت من الخطايَا، وسوَّفَت من التوبةِ. وَقِيْلَ : ما قدَّمت " مِن " الصدقات وأخَّرت مِن التَّرِكات.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ ؛ الخطابُ في هذه الآيةِ للكفَّار، والمرادُ بالإنسانِ كلدَةَ بنَ أُسَيدٍ، ويقالُ : الخطابُ للكفَّار والعاصين، يقال له يومئذٍ : بمَ اغتَرَرْتَ وتشاغَلت عن طاعةِ الله وطلب مَرضاتهِ وهو الكريْمُ الصَّفُوحُ عن العبادِ، ﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ ﴾ ؛ خلقَكَ في بطنِ أُمِّك باليدينِ والرِّجلَين وسائرِ الأعضاء لم يخلُقها متفاوتةً، ولو كان خلقُ إحدى رجلَيك أطولَ من الأُخرى لم تكمُلْ منفعتُكَ.
وعن رسولِ الله ﷺ :" أنَّهُ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ فَقَالَ :﴿ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ ؟ فَقَالَ :" جَهْلُهُ يَا رَبّ " وقال قتادةُ :((غَرَّ الإنْسَانَ عَدُّوُّهُ الْمُسَلَّطُ عَلَيْهِ)). قيل للفُضَيلِ بن عِيَاضٍ : لَوْ أقَامَكَ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ :﴿ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ مَا كُنْتَ تَقُولُ ؟ فَقَالَ :((أقُولُ : غُرَّنِي سُتُورُكَ الْمُرْخَاةُ)). وقال مقاتلُ :((غَرَّهُ عَفْوُ اللهِ حِينَ لَمْ يُعَجِّلْ عَلَيْهِ بالْعُقُوبَةِ)). وقال السديُّ :((غَرَّهُ رفْقُ اللهِ بهِ))، وقال يحيَى بنُ معاذٍ :((لَوْ أقَامَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ : مَا غَرَّكَ بي ؟ لَقُلْتُ : غَرَّنِي بكَ رفْقُكَ بي سَالِفًا وَآنفاً)).
قال أهلُ الإشارة : إنَّما قالَ ﴿ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ دون سائرِ صِفاته، كأنَّهُ لَقَّنَهُ الإجابةَ حتَّى يقولَ : غَرَّنِي كَرَمُ الْكَرِيمِ. وعن ابنِ مسعودٍ قال :((مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ سَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :﴿ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ ؟ يَا ابْنَ آدَمَ مَاذا عَمِلْتَ ؟ فِيمَا عَلِمْتَ ؟ مَاذا أجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟)). وقال أبو بكرٍ الورَّاق :((لَوْ قَالَ لِي :﴿ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ ؟ لَقُلْتُ : غَرَّنِي كَرَمُ الْكَرِيمِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَعَدَلَكَ ﴾ ؛ قرأ أهلُ الكوفة بتخفيفِ الدال ؛ أي صرَفَك إلى أيِّ صُورَةٍ شاءَ من الْحُسنِ والقُبحِ والطولِ والقِصَرِ، وقرأ الباقون بالتشديدِ ؛ أي قوَّمَ خَلْقَكَ، معتدلُ الخلق معتدلُ القامةِ في أحسنِ صُورةٍ، كما في قولهِ تعالى﴿ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾[التين : ٤]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ ﴾ أي في شَبَهِ أبٍ أو أُمٍّ أو خالٍ أو عمٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴾ ؛ (كَلاَّ) كلمةُ رَدْعٍ، ومعناها لاَ تَغْتَرَّ بغيرِ الله تعالى فتترُكَ عبادةَ اللهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : حَقّاً إنَّكم لا تَستَقِيمُونَ على ما توجبهُ نِعمَتي عليكم، بل تكذِّبون بالإسلامِ مع هذه النِّعم. ويقالُ : أراد بالدِّين ههنا يومَ الحساب والجزاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾ ؛ ابتداءُ إخبارٍ من اللهِ، معناهُ : وإنَّ عليكم رُقباءَ يحفَظون أعمالَكم وأفعالكم وهم الملائكةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كِرَاماً كَاتِبِينَ ﴾ ؛ أي كِرَاماً على اللهِ كاتِبين يكتُبون أقوالَكم وأفعالَكم، قال رسولُ اللهِ ﷺ :" مَا مِنْ أحَدٍ يَأْوي إلَى مَضْجَعِهِ إلاَّ شَكَتْ أعْضَاؤُهُ إلَى اللهِ تَعَالَى مِمَّا يَجْنِي عَلَيْهَا الإنْسَانُ "، وإنما قالَ كِرَاماً على اللهِ ليكون أدعَى إلى احترامِهم وإلى الامتناعِ عن فعلِ ما يُؤذيهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ ؛ في الظاهرِ دون الباطنِ، يعني يعلَمون ما تفعلون دون ما تعتقِدون، قال ابنُ مسعود :((يَكْتُبُونَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الأَنِينَ)) ونظيرهُ قولهُ﴿ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ﴾[القمر : ٥٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ ؛ أرادَ بالأبرار الصَّادقين في إيمانِهم، وأراد بالفُجَّار الكفارَ. وَقِيْلَ : أرادَ بالأبرار عُمَّال الإحسانِ من المؤمنينِ، وبالفُجَّار عُمال الإساءةِ من الفُسَّاق.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴾ ؛ أي يدخلونَها يومَ الحساب والجزاءِ، ﴿ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ ﴾ ؛ إلى أن يقضيَ اللهُ بإخراجِ مَن كان فيها من أهلِ التوحيد، وأمَّا الكفارُ فلا يغِيبُون عنها أبَداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾ ؛ أي ما أعلَمَك يا مُحَمَّدُ ما فِي ذلك اليومِ من الشَّدائد على الكفار، ﴿ ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾ ؛ ثم أعلَمَك ما فيهِ من النَّعيم للأبرار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ﴾ ؛ قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو برفعِ الميم نَعتاً لقولهِ تعالى ﴿ يَوْمُ الدِّينِ ﴾ أو بدلاً منه، وقرأ الباقون بالنصب على الظرفِ ؛ أي في يومِ، ومعناهُ : لا تملكُ نفسٌ لنفسٍ ؛ أي لا يملكُ آخرُ لآخرٍ نَفعاً ولا ضَرّاً ؛ لأنَّ الأمرَ يومئذ للهِ، ﴿ وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ ؛ دون غيرهِ.
Icon