تفسير سورة القدر

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة القدر من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٥.

تفسير سورة «القدر»
قال ابن عبّاس: هي مدنيّة وقال قتادة: هي مكّيّة
[سورة القدر (٩٧) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)
قَوْلُه تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ الضميرُ في أَنْزَلْناهُ للقرآن قَال الشعبيُّ وغيرُه: المعْنَى:
إنا ابتدأْنا إنزالَ هذا القرآن إليكَ في ليلة القدر، وقد رُوِيَ: أن نزولَ المَلَكِ في حِراءٍ كَانَ في العشر الأواخِر من رمضان، فيستقيمُ هذا التأويل «١» وقالَ ابنُ عباسٍ وغيرُه: أَنزَلَه اللَّه تعالى ليلةَ القدرِ إلى سماءِ الدُّنْيَا جملة، ثم نجّمه على محمّد صلّى الله عليه وسلّم عِشْرِينَ سنةً، وليلةُ القدرِ خَصَّها اللَّهُ تعالى بِفَضْلٍ عَظِيمٍ، وَجَعَلَها أفْضَل مِنْ ألْفِ شهرٍ لاَ لَيْلَةَ قَدْرٍ فِيها قاله مجاهدٌ وغيرُهُ «٢»، وخُصَّتْ هذه الأُمَّةُ بهذه الفضيلةِ لَمَّا رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أعمارَ أُمَّتِه وتَقَاصُرَهَا/ وَخُشِيَ أَلاَّ يَبْلُغُوا مِنَ الأَعْمَالِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ في طُولِ العُمُرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْلَةَ القَدْرِ خَيْراً مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» : وقد روى مالكٌ هذَا الحديثَ في «المُوَطَّأ» «٣»
ثَبَتَ ذلكَ مِنْ روايةِ ابنِ القَاسمِ وغيره، انتهى، ثم فَخَّمَها سبحانَه بقوله: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ قال ابن عيينة في «صحيح البخاري» : ما كانَ في القرآن:
وَما أَدْراكَ فَقَدْ أعْلَمَه، وَمَا قالَ: وَمَا يُدْرِيكَ فإنَّه لَمْ يُعْلِمْهُ، وذكر ابن عبَّاس وغيره:
أنها سُمِّيَتْ ليلةَ القَدْرِ لأنّ اللَّهَ تعالى يُقَدِّرُ فيها الآجالَ والأرزاقَ وحوادثَ العام كلّها،
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٦٥١)، (٣٧٧٠١)، وذكره ابن عطية (٥/ ٥٠٤).
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٦٥١)، (٣٧٦٩٧)، وذكره ابن عطية (٥/ ٥٠٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٥٢٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٦٢٨)، وعزاه لابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عبّاس.
(٣) أخرجه مالك في «الموطأ» (١٦٥)، (٧٠٥) مرسلا.
611
ويدفَعُ ذلك إلى الملائِكَة لتَمْتَثِلَه «١»، قال ع «٢» : وليلةُ القَدْرِ مستديرةٌ في أوتارِ العَشْرِ الأَواخِرِ من رمضانَ هذا هو الصحيحُ المُعَوَّلُ عليه، وهي في الأوْتَارِ بحسْبِ الكَمال والنقصان في الشَّهْرِ، فينبغي لمرتَقِبها أن يَرْتَقِبَها مِنْ ليلةِ عشرينَ في كل ليلةٍ إلى آخر الشهر، وصحَّ عن [أُبيِّ بن] كعب وغيرِه: أَنها ليلةُ سَبْعٍ وعشرينَ «٣»، ثم أخْبَر تعالى أن ليلةَ القَدْرِ خيرٌ مِن ألف شَهر وهي ثَمانُونَ سَنَةً وثَلاَثَةُ أَعْوَامٍ وثُلُثُ عامٍ، وفي الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَاناً واحتسابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» «٤» وَالرُّوحُ: هو جبريل ع وقيل هو صِنْفٌ حَفَظَةٌ لِلْمَلاَئِكَةِ، قال الفخر «٥» : وذكروا في الرُّوح أقوالاً: أَحدُها: أنه ملَكٌ عظيم لو الْتَقَمَ السموات والأَرْضَ كانَ ذلكَ لَه لُقْمةً وَاحِدَةً، وقِيلَ: الرُّوحُ: طَائِفةٌ من الملائِكَةِ لاَ يَراهُمُ المَلاَئِكَةُ إلا ليلةَ القَدْرِ، كالزُّهَادِ الذين لا نَراهم إلا يَوْم العِيد، وقيل: خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يأكُلُون [وَيَشْرَبُونَ] وَيَلْبَسُون لَيْسُوا من الملائِكَةِ ولا من/ الإنْسِ ولعلهم خَدَمُ أَهْلِ الجَنَّةِ، وقيل: الروحُ أشْرَفُ الملائِكَةِ، وقال ابن أبي نجيح الروحُ همُ الحفَظَةُ الكرامُ الكاتِبُونَ والأصَح أنَّ الروحَ هاهنا هو جبريلُ، وتخصيصُه بالذكر لزِيَادَةِ شرفِه، انتهى.
وقوله تعالى: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ الثعلبيُّ: أي: بكل أمْرٍ قدَّرَه اللَّهُ وقضاه في تلكَ السنةِ إلى قَابِل قاله ابن عبّاس، ثم تبتدئ فتقولُ: سَلامٌ هِيَ ويحتملُ أن يريدَ مِنْ كل فِتْنَةٍ سَلاَمَةٌ، انتهى، قال ع: وعلى التأويلِ الأولِ، يَجِيءُ سَلامٌ خَبَرَ ابتداءٍ مستأنَفًا، أي: سلامٌ هي هذه الليلةُ إلى أول يومِها، ثم ذكرَ ما تقدَم، وقال الشعبيُّ ومنصور: سَلامٌ بمعنى: التَّحِيَّةِ أي: تُسَلّمُ الملائكةُ على المؤمنين «٦».
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٦٥٢)، (٣٧٧٠٨) عن الحسن، وذكره ابن عطية (٥/ ٥٠٤).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٥٠٥).
(٣) ذكره البغوي (٤/ ٥١١).
(٤) تقدم.
(٥) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٣٢/ ٣٣).
(٦) ذكره البغوي (٤/ ٥١٢)، وابن عطية (٥/ ٥٠٥)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٥٣١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٦٣٠)، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن المنذر بنحوه.
612
Icon