تفسير سورة الفاتحة

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
الكلام على الاستعاذة في عشرة فوائد من فنون مختلفة :
الأولى : لفظ التعوذ على خمسة أوجه :
" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وهو المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمختار عند القراء.
" وأعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم ".
و " أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي ".
و " أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد "، وهي محدثة.
و " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم " وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية : يؤمر القارئ بالاستعاذة قبل القراءة. سواء ابتدأ أول سورة أو جزء سورة على الندب.
الثالثة : يجهر بالاستعاذة عند الجمهور وهو المختار. وروي الإخفاء عن حمزة ونافع.
الرابعة : لا يتعوذ في الصلاة عند مالك. ويتعوذ في أول ركعة عند الشافعي وأبي حنيفة. وفي كل ركعة عند قوم. فحجة مالك عمل أهل المدينة وحجة قول غيره : قول الله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾[ النحل : ٩٨ ] وذلك يعم الصلاة وغيرها.
الخامسة : إنما جاء أعوذ بالمضارع دون الماضي ؛ لأن معنى الاستعاذة لا يتعلق إلا بالمستقبل لأنها كالدعاء. وإنما جاء بهمزة المتكلم وحده مشاكلة للأمر به في قوله :﴿ فاستعذ ﴾[ الأعراف : ٢٠٠ ].
السادسة : الشيطان : يحتمل أن يراد به الجنس فتكون الاستعاذة من جميع الشياطين، أو العهد فتكون الاستعاذة من إبليس. وهو من شطن إذا بعد ؛ فالنون أصلية والياء زائدة، وزنه فيعال. وقيل : من شاط إذا هاج ؛ فالنون زائدة. والياء أصلية ووزنه فعلان. وإن سميت به لم ينصرف على الثاني لزيادة الألف والنون، وانصرف على الأول.
السابعة : الرجيم : فعيل بمعنى مفعول، ويحتمل معنيين : أن يكون بمعنى لعين وطريد. وهذا يناسب إبليس لقوله :﴿ وجعلناها رجوما للشياطين ﴾ [ الملك : ٥ ] والأول أظهر.
الثامنة : من استعاذ بالله صادقا أعاذه ؛ فعليك بالصدق ؛ ألا ترى امرأة عمران لما أعاذت مريم وذريتها عصمها الله. ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما من مولود إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا إلا ابن مريم وأمه ".
التاسعة : الشيطان عدو. وحذر الله منه ؛ إذ لا مطمع في زوال علة عداوته. وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم. فيأمره أولا بالكفر ويشككه في الإيمان ؛ فإن قدر عليه ؛ وإلا أمره بالمعاصي. فإن أطاعه وإلا ثبطه عن الطاعة. فإن سلم من ذلك أفسدها عليه بالرياء والعجب.
العاشرة : القواطع عن الله أربعة : الشيطان، والنفس، والدنيا، والخلق.
فعلاج الشيطان : الاستعاذة والمخالفة له.
وعلاج النفس : بالقهر.
وعلاج الدنيا : بالزهد.
وعلاج الخلق : بالانقباض والعزلة.
سورة أم القرآن
وتسمى سورة الحمد لله، وفاتحة الكتاب، والواقية، والشافية، والسبع المثاني. وفيها عشرون فائدة، سوى ما تقدم في اللغات من تفسير ألفاظها. واختلف هل هي مكية أو مدنية ؟ ولا خلاف أن الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي يعد البسملة آية منها، والمالكي يسقطها ويعد أنعمت عليهم.
الفائدة الأولى : قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة عند مالك والشافعي، خلافا لأبي حنيفة، وحجتهما قوله صلى الله عليه وسلم للذي علمه الصلاة :" اقرأ ما تيسر من القرآن ".
سورة الفاتحة
وهي سبع آيات
(سورة أم القرآن) وتسمى سورة الحمد لله، وفاتحة الكتاب، والواقية، والشافية، والسبع المثاني.
وفيها عشرون فائدة، سوى ما تقدّم في اللغات من تفسير ألفاظها، واختلف هل هي مكية أو مدنية؟ ولا خلاف أن الفاتحة سبع آيات، إلّا أنّ الشافعي يعدّ البسملة آية منها، والمالكيّ يسقطها، ويعدّ أنعمت عليهم آية.
الفائدة الأولى: قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة عند مالك والشافعي، خلافا لأبي حنيفة وحجتهما قوله صلّى الله عليه واله وسلّم للذي علمه الصلاة: «اقرأ ما تيسر من القرآن» «١».
الفائدة الثانية: اختلف هل أوّل الفاتحة على إضمار القول تعليما للعباد: أي قولوا:
الحمد لله، أو هو ابتداء كلام الله، ولا بدّ من إضمار القول في: «إياك نعبد» وما بعده.
الفائدة الثالثة: الحمد أعمّ من الشكر لأنّ الشكر لا يكون إلّا جزاء على نعمة، والحمد يكون جزاء كالشكر، ويكون ثناء ابتداء، كما أنّ الشكر قد يكون أعم من الحمد، لأن الحمد باللسان والشكر باللسان والقلب، والجوارح. فإذا فهمت عموم الحمد:
علمت أنّ قولك: الحمد لله يقتضي الثناء عليه لما هو من الجلال والعظمة والوحدانية والعزة والإفضال والعلم والمقدرة والحكمة وغير ذلك من الصفات، ويتضمن معاني أسمائه الحسنى التسعة والتسعين، ويقتضي شكره والثناء عليه بكل نعمة أعطى ورحمة أولى جميع خلقه في الآخرة والأولى، فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المجلدات، واتفق دون عدّه عقول الخلائق، ويكفيك أن الله جعلها أوّل كتابه، وآخر دعوى أهل الجنة.
الفائدة الرابعة: الشكر باللسان هو الثناء على المنعم والتحدث بالنعم، قال رسول الله
(١). ذكر المناوي في التيسير حديثا عن أنس بن مالك: «أفضل القرآن: الحمد لله رب العالمين» وعزاه للحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وذكر الشافعي في الأم حديثا بسنده إلى عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب».
63
صلّى الله عليه واله وسلّم: «التحدّث بالنعم شكر» «١» والشكر بالجوارح هو العمل بطاعة الله وترك معاصيه، والشكر بالقلب هو معرفة مقدار النعمة. والعلم بأنها من الله وحده، والعلم بأنها تفضل لا باستحقاق العبد. وأعلم أن النعم التي يجب الشكر عليها لا تحصى، ولكنها تنحصر في ثلاثة أقسام: نعم دنيوية: كالعافية والمال، ونعم دينية: كالعلم، والتقوى. ونعم أخروية: وهي جزاؤه بالثواب الكثير على العمل القليل في العمر القصير. والناس في الشكر على مقامين: منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه خاصة، ومنهم من يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم، والشكر على ثلاث درجات: فدرجات العوام الشكر على النعم، ودرجة الخواص الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص أن يغيب عن النعمة بمشاهدة المنعم، قال رجل لإبراهيم بن أدهم:
الفقراء إذا منعوا شكروا. وإذا أعطوا آثروا «٢» ومن فضيلة الشكر أنه من صفات الحق، ومن صفات الخلق فإنّ من أسماء الله: الشاكر والشكور، وقد فسرتهما في اللغة.
الفائدة الخامسة: قولنا: «الحمد لله رب العالمين» أفضل عند المحققين من لا إله إلّا الله لوجهين: أحدهما ما خرّجه النسائي عن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «من قال لا إله إلّا الله كتب له عشرون حسنة، ومن قال الحمد لله رب العالمين كتب له ثلاثون حسنة» والثاني: أنّ التوحيد الذي يقتضيه لا إله إلّا الله حاصل في قولك «رب العالمين» وزادت بقولك الحمد لله، وفيه من المعاني ما قدّمنا، وأما قول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلّا الله» «٣»، فإنما ذلك للتوحيد الذي يقتضيه، وقد شاركتها الحمد لله رب العالمين في ذلك وزادت عليها، وهذا المؤمن يقولها لطلب الثواب، أما لمن دخل في الإسلام فيتعين عليه لا إله إلّا الله.
الفائدة السادسة: الرب وزنه فعل بكسر العين ثم أدغم، ومعانيه أربعة: الإله، والسيد، والمالك، والمصلح. وكلها في رب العالمين، إلّا أن الأرجح معنى الإله:
لاختصاصه لله تعالى، كما أنّ الأرجح في العالمين: أن يراد به كل موجود سوى الله تعالى، فيعم جميع المخلوقات.
الفائدة السابعة: ملك قراءة الجماعة بغير ألف من الملك، وقرأ عاصم والكسائي
(١). أورده العجلوني في كشف الخفاء ص ٢٩٨ ج ١ بلفظ: «التحدث بالنعمة شكر» وعزاه لأحمد والطبراني عن النعمان بن بشير.
(٢). كذا بالأصل، والكلام فيه نقص والحكاية معروفة عن حدّ الشكر.
(٣). هو جزء من حديث:
64
بالألف والتقدير على هذا: مالك مجيء يوم الدين، أو مالك الأمر يوم الدين، وقراءة الجماعة أرجح من ثلاثة أوجه. الأوّل: أنّ الملك أعظم من المالك إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله، وأما الملك فهو سيد الناس، والثاني: قوله: وله الملك يوم ينفخ في الصور والثالث: أنها لا تقتضي حذفا، والأخرى تقتضيه لأنّ تقديرها مالك الأمر، أو مالك مجيء يوم الدين، والحذف على خلاف الأصل. وأمّا قراءة الجماعة فإضافة ملك إلى يوم الدين فهي على طريقة الاتساع، وأجري الظرف مجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية:
أي الملك في يوم الدين، ويجوز أن يكون المعنى ملك الأمور يوم الدين، فيكون فيه حذف. وقد رويت القراءتان في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وقد قرئ ملك بوجوه كثيرة إلّا أنها شاذة.
الفائدة الثامنة: الرحمن، الرحيم، مالك: صفات، فإن قيل: كيف جرّ مالك ومالك صفة للمعرفة، وإضافة اسم الفاعل غير محضة؟ فالجواب: أنها تكون غير محضة إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، وأما هذا فهو مستمر دائما فإضافته محضة.
الفائدة التاسعة: هو يوم القيامة ويصلح هنا في معاني الحساب والجزاء والقهر، ومنه إنا لمدينون.
الفائدة العاشرة: إياك في الموضعين مفعول بالفعل الذي بعده، وإنما قدّم ليفيد الحصر فإنّ تقديم المعمولات يقتضي الحصر، فاقتضى قول العبد إياك نعبد أن يعبد الله وحده لا شريك له، واقتضى قوله: «وإياك نستعين» اعترافا بالعجز والفقر وأنا لا نستعين إلّا بالله وحده.
الفائدة الحادية عشرة: إياك نستعين: أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا، وفي هذا دليل على بطلان قول القدرية والجبرية، وأنّ الحق بين ذلك.
الفائدة الثانية عشرة: اهدنا: دعاء بالهدى. فإن قيل كيف يطلب المؤمنون الهدى وهو حاصل لهم؟ فالجواب إن ذلك طلب للثبات عليه إلى الموت، أو الزيادة منه فإنّ الارتقاء في المقامات لا نهاية له.
الفائدة الثالثة عشرة: قدم الحمد والثناء على الدعاء لأنّ تلك السنة في الدعاء وشأن الطلب أن يأتي بعد المدح، وذلك أقرب للإجابة. وكذلك قدّم الرحمن على ملك يوم الدين لأنّ رحمة الله سبقت غضبه، وكذلك قدّم إياك نعبد على إياك نستعين لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة.
الفائدة الرابعة عشرة: ذكر الله تعالى في أوّل هذه السورة على طريق الغيبة، ثم على
65
الخطاب في إياك نعبد وما بعده، وذلك يسمى الالتفات، وفيه إشارة إلى أنّ العبد إذا ذكر الله تقرّب منه فصار من أهل الحضور فناداه.
الفائدة الخامسة عشرة: الصراط في اللغة الطريق المحسوس الذي يمشى، ثم استعير للطريق الذي يكون الإنسان عليها من الخير والشر، ومعنى المستقيم القويم الذي لا عوج فيه، فالصراط المستقيم الإسلام، وقيل القرآن، والمعنيان متقاربان، لأنّ القرآن يضمن شرائع الإسلام وكلاهما مروي عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وقرئ الصراط بالصاد والسين وبين الصاد والزاي، وقد قيل إنه قرئ بزاي خالصة، والأصل فيه السين، وإنما أبدلوا منها صادا لموافقة الطاء في الاستعلاء والإطباق، وأما الزاي فلموافقة الطاء في الجهر.
الفائدة السادسة عشرة: الذين أنعمت عليهم: قال ابن عباس: هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون. وقيل: المؤمنون وقيل الصحابة، وقيل قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا، والأوّل أرجح لعمومه، ولقوله: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: ٦٩].
الفائدة السابعة عشرة: إعراب غير المغضوب بدل، ويبعد النعت لأنّ إضافته غير مخصوصة وهو قد جرى عن معرفة وقرئ بالنصب على الاستثناء أو الحال.
الفائدة الثامنة عشرة: إسناد أنعمت عليهم إلى الله. والغضب لما لم يسم فاعله على وجه التأدب: كقوله: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: ٨٠] وعليهم أوّل في موضع نصب، والثاني في موضع رفع.
الفائدة التاسعة عشرة: المغضوب عليهم اليهود، والضالين: النصارى، قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، وقد روي ذلك عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وقيل ذلك عام في كل مغضوب عليه، وكل ضال، والأول أرجح لأربعة أوجه روايته عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجلالة قائله وذكر ولا في قوله: ولا الضالين دليل على تغاير الطائفتين وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن: كقوله فَباؤُ بِغَضَبٍ [البقرة: ٩٠]، والضلال صفة النصارى لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى بن مريم عليه السلام، ولقول الله فيه: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: ٧٧].
الفائدة العشرون: هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله فكأنها نسخة مختصرة منه فتأملها بعد تحصيل الباب السادس من المقدّمة الأولى تعلم ذلك في الألوهية حاصلا في قوله: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، والدار الآخرة: في قوله مالك يوم الدين، والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي: في قوله
66
إياك نعبد والشريعة كلها في قوله: الصراط المستقيم، والأنبياء وغيرهم في قوله الذين أنعمت عليهم، وذكر طوائف الكفار في قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
خاتمة: أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها، وقولك: آمين اسم فعل معناه: اللهم استجب، وقيل: هو من أسماء الله، ويجوز فيه مدّ الهمزة وقصرها، ولا يجوز تشديد الميم، وليؤمن في الصلاة المأموم والفذ والإمام إذا أسرّ، واختلفوا إذا جهر.
67
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت عزاه العجلوني في كشف الخفاء لمالك مرسلا وللترمذي من حديث عمرو بن شعيب.