ﰡ
مكية وآياتها ٩٣ نزلت بعد سورة الشعراء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة النمل) تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ عطف الكتاب على القرآن كعطف الصفات بعضها على بعض، وإن كان الموصوف واحدا هُدىً وَبُشْرى في موضع نصب على المصدر، أو في موضع رفع على أنه خبر ابتداء مضمر وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة، فتكون بقية صلة الذين، أو تكون مستأنفة وتمت الصلة قبلها، ورجح الزمخشري هذا يَعْمَهُونَ يتحيرون سُوءُ الْعَذابِ يعني في الدنيا وهو القتل يوم بدر، ويحتمل أن يريد عذاب الآخرة، والأول أرجح لأنه ذكر الآية بعد ذلك لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي تعطاه آنَسْتُ ذكر في [طه: ١١] وكذلك قبس: [طه: ١٢]، والشهاب: النجم شبّه القبس به، وقرئ بإضافة شهاب إلى قبس «١» وبالتنوين على البدل أو الصفة، فإن قيل: كيف قال هنا: سَآتِيكُمْ وفي الموضع الآخر: لَعَلِّي آتِيكُمْ والفرق بين الترجي والتسويف أن التسويف متيقن الوقوع بخلاف الترجي؟ فالجواب أنه قد يقول الراجي: سيكون كذا إذا قوي رجاؤه تَصْطَلُونَ معناه: تستدفئون بالنار من البرد، ووزنه تفعلون، وهو مشتق من صلى بالنار والطاء بدل من التاء أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أن مفسرة، وبورك من البركة، ومن في النار: يعني من في مكان النار ومن حولها: من حول مكانها: يريد الملائكة الحاضرين وموسى عليه السلام، قال الزمخشري: والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض، وفي ذلك الوادي وما حوله من أرض الشام وَسُبْحانَ اللَّهِ يحتمل أن
وَأَلْقِ عَصاكَ هذه الجملة معطوفة على قوله: بورك من في النار، لأن المعنى يؤدي إلى أن: بورك من في النار، وأن ألق عصاك وكلاهما تفسير للنداء كَأَنَّها جَانٌّ الجان: الحية، وقيل: الحية الصغيرة، وعلى هذا يشكل قوله: فإذا هي ثعبان، والجواب:
أنها ثعبان في جرمها، جان في سرعة حركتها وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع أو لم يلتفت إِلَّا مَنْ ظَلَمَ استثناء منقطع تقديره: لكن من ظلم من سائر الناس، لا من المرسلين، وقيل: إنه متصل على القول بتجويز الذنوب عليهم، وهذا بعيد لأن الصحيح عصمتهم من الذنوب، وأيضا فإن تسميتهم ظالمين شنيع على القول بتجويز الذنوب عليهم بَدَّلَ حُسْناً أي عمل صالحا فِي جَيْبِكَ ذكر في [طه: ٢٢] فِي تِسْعِ آياتٍ متصل بقوله: ألق وأدخل، تقديره: نيسر لك ذلك في جملة تسع آيات، وقد ذكرت الآيات التسع في [الإسراء: ١٠١] إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام تقديره: اذهب بالآيات التسع إلى فرعون مُبْصِرَةً أي ظاهرة واضحة الدلالة، وأسند الإبصار لها مجازا، وهو في الحقيقة لمتأملها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ يعني أنهم جحدوا بها مع أنهم تيقنوا أنها الحق فكفرهم عناد، ولذلك قال فيه: ظلما، والواو فيه واو الحال، وأضمرت بعدها قد علوا يعني تكبروا.
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي ورث عنه النبوة والعلم والملك عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عموم معناه الخصوص، والمراد بهذا اللفظ التكثير: كقولك: فلان يقصده كل أحد، وقوله: علمنا وأوتينا يحتمل أن يريد نفسه وأباه أو نفسه خاصة على وجه التعظيم، لأنه كان ملكا وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ اختلف الناس في عدد جنود سليمان اختلافا شديدا، تركنا ذكره لعدم صحته فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: يكفّون ويردّ أوّلهم إلى آخرهم، ولا بدّ لكل ملك أو حاكم من وزعة يدفعون الناس.
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ اختلف الناس في معنى تفقده للطير، فقيل: ذلك لعنايته بأمور ملكه، وقيل: لأن الطير كانت تظله فغاب الهدهد فدخلت الشمس عليه من موضعه أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أم منقطعة، فإنه نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فَقالَ ما لِيَ «٢» لا أَرَى الْهُدْهُدَ أي لا أراه ولعله حاضر وستره ساتر، ثم علم بأنه غائب فأخبر بذلك لَأُعَذِّبَنَّهُ روي أن تعذيبه للطير كان بنتف ريشه بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة بينة فَمَكَثَ أي أقام، ويجوز فتح الكاف وضمها، وبالفتح قرأ عاصم والباقون بالضم، والفعل يحتمل أن يكون مسندا إلى سليمان عليه السلام أو إلى الهدهد، وهو أظهر غَيْرَ بَعِيدٍ يعني زمان قريب أَحَطْتُ أي أحطت علما بما لم تعلمه مِنْ سَبَإٍ يعني قبيلة من العرب، وجدّهم الذي يعرفون به: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومن صرفه [أي سبأ] أراد الحيّ أو الأب، ومن لم يصرفه سبأ أراد القبيلة أو البلدة، وقرئ بالتسكين سبأ لتوالي الحركات، وعلى القراءة بالتنوين يكون في قوله: من سبإ بنبإ ضرب من أدوات البيان، وهو التجنيس
وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ المرأة بلقيس بنت شراحيل: كان أبوها ملك اليمن ولم يكن له ولد
(٢). مالي: قرأ ابن كثير وعاصم والكسائي وابن عامر بفتح الياء، وقرأ نافع وأبو عمر بإسكانها: مالي.
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ قبل هذا الكلام محذوف تقديره: فألقى الهدهد إليها الكتاب فقرأته، ثم جمعت أهل ملكها فقالت لهم: يا أيها الملأ كِتابٌ كَرِيمٌ وصفته بالكرم لأنه من عند سليمان، أو لأن فيه اسم الله، أو لأنه مختوم كما جاء في الحديث: كرم الكتاب ختمه «١» مِنْ سُلَيْمانَ يحتمل أن يكون هذا نص الكتاب بدأ فيه بالعنوان، وأن يكون من كلامها: أخبرتهم أن الكتاب من سليمان وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ يحتمل أن يكون من الانقياد بمعنى مستسلمين، أو يكون من الدخول في الإسلام أُولُوا قُوَّةٍ يحتمل أن يريد قوة الأجساد أو قوة الملك والعدد وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ من كلام الله عز وجل تصديقا لقولها
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ قالت لقومها إني أجرب هذا الرجل بهدية من نفائس الأموال، فإن كان ملكا دنيويا: أرضاه المال، وإن كان نبيا لم يرضه المال، وإنما يرضيه دخولنا في دينه، فبعثت إليه هدية عظيمة وصفها الناس، واختصرنا وصفها لعدم صحته أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ إنكار للهدية لأن الله أغناه عنها بما أعطاه بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ أي أنتم محتاجون إليها فتفرحون بها، وأنا لست كذلك ارْجِعْ إِلَيْهِمْ خطاب للرسول، وقيل: للهدهد، والأول أرجح، لأن قوله: فلما جاء سليمان مسند إلى الرسول لا قِبَلَ لَهُمْ بِها أي لا طاقة لهم بها قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ القائل: سليمان، والملأ جماعة من الجن والإنس، وطلب عرشها قبل أن يأتوه مسلمين، لأنه وصف له بعظمة، فأراد أن يأخذه قبل أن يسلموا فيمنع إسلامهم من أخذ أموالهم، فمسلمين على هذا من الدخول في دين الإسلام، وقيل: إنما طلب عرشها قبل أن يأتوه مسلمين ليظهر لهم قوّته، فمسلمين على هذا بمعنى منقادين.
قالَ عِفْرِيتٌ روي عن وهب بن منبه أن اسم هذا العفريت كوزن قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قبل أن تقوم من موضع الحكم، وكان يجلس من بكرة إلى الظهر، وقيل:
معناه قبل أن تستوي من جلوسك قائما قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ هو آصف بن برخيا، وكان رجلا صالحا من بني إسرائيل كان يعلم اسم الله الأعظم وقيل: هو الخضر، وقيل هو جبريل، والأول أشهر، وقيل سليمان وهذا بعيد آتِيكَ بِهِ في الموضعين:
يحتمل أن يكون فعلا مستقبلا أو اسم فاعل قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ الطرف العين، فالمعنى على هذا قبل أن تغض بصرك إذا نظرت إلى شيء وقيل: الطرف تحريك الأجفان إذا نظرت فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قيل: هنا محذوف تقديره: فجاءه الذي عنده، علم من الكتاب بعرشها، ومعنى مستقرّا عنده حاصلا عنده وليس هذا بمستقر الذي يقدر النحويون تعلق المجرورات به خلافا لمن فهم ذلك يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي منفعة الشكر لنفسه.
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها تنكيره تغيير وصفه وستر بعضه، وقيل: الزيادة فيه والنقص منه، وقصد بذلك اختبار عقلها وفهمها أَتَهْتَدِي يحتمل أن يريد: تهتدي لمعرفة عرشها،
لئلا تفطن أنه هو، فأجابته بقولها: كأنه هو. جوابا عن السؤال، ولم تقل هو تحرزا من الكذب أو من التحقيق في محل الاحتمال وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها هذا من كلام سليمان وقومه لما رأوها قد آمنت قالوا ذلك اعترافا بنعمة الله عليهم، في أن آتاهم العلم قبل بلقيس، وهداهم للإسلام قبلها، والجملة معطوفة على كلام محذوف تقديره: قد أسلمت هي وعلمت وحدانية الله وصحة النبوّة وأوتينا نحن العلم قبلها وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ هذا يحتمل أن يكون من كلام سليمان وقومه، أو من كلام الله تعالى، ويحتمل أن يكون «ما كانت تعبد» فاعلا أو مفعولا، فإن كان فاعلا، فالمعنى صدها ما كانت تعبد عن عبادة الله والدخول في الإسلام حتى إلى هذا الوقت، وإن كان مفعولا: فهو على إسقاط حرف الجر، والمعنى صدها الله أو سليمان عن ما كانت تعبد من دون الله فدخلت في الإسلام.
لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
الصرح في اللغة هو القصر، وقيل: صحن الدار، روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصرا من زجاج أبيض، وأجرى الماء من تحته، وألقى فيه دواب البحر من السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه فلما رأته حسبته لجة، واللجة الماء المجتمع كالبحر، فكشفت عن ساقيها لتدخله لما أمرت بدخوله، وروي أن الجن كرهوا تزوج سليمان لها، فقالوا له:
إن عقلها مجنون، وإن رجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش فوجدها عاقلة، واختبر ساقها بالصرح فلما كشفت عن ساقيها وجدها أحسن الناس ساقا، فتزوجها وأقرها على ملكها باليمن، وكان يأتيها مرة في كل شهر، وقيل: أسكنها معه بالشام الَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
لما ظنت أن الصرح لجة ماء وكشفت عن ساقيها لتدخل الماء قال لها سليمان:
إنه صرح ممرّد والممرّد الأملس، وقيل الطويل، والقوارير جمع قارورة وهي الزجاجة.
لَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
تعني بكفرها فيما تقدم أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
هذا ضرب من ضروب التجنيس فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ الفريقان من آمن ومن كفر واختصامهم: اختلافهم وجدالهم في الدين لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ أي لم تطلبون العذاب قبل الرحمة، أو المعصية قبل الطاعة
قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ أي تشاءمنا بك، وكانوا قد أصابهم
وَإِنَّا لَصادِقُونَ يحتمل أن يكون قولهم: وإنا لصادقون مغالطة مع اعتقادهم أنهم كاذبون، ويحتمل أنهم قصدوا وجها من التعريض ليخرجوا به عن الكذب وقد ذكرناه في الجواب الثالث عن مهلك أهله، وهو أنهم قصدوا أن يقتلوا صالحا وأهله معا، ثم يقولون:
ما شهدنا مهلك أهله وحدهم وإنا لصادقون في ذلك بل يعنون أنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله معا. وعلى ذلك حمله الزمخشري أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ روي أن الرهط الذين تقاسموا على قتل صالح اختفوا ليلا في غار، قريبا من داره ليخرجوا منه إلى داره بالليل، فوقعت عليهم صخرة فأهلكتهم، ثم هلك قومهم بالصيحة ولم يعلم بعضهم بهلاك بعض، ونجا صالح ومن آمن به وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ قيل: معناه تبصرون بقلوبكم أنها معصية وقيل:
تبصرون بأبصاركم لأنهم كانوا ينكشفون بفعل ذلك ولا يستتر بعضهم من بعض، وقيل:
تبصرون آثار الكفار قبلكم وما نزل بهم من العذاب «يتطهرون» «والغابرين» «وأمطرنا» قد ذكر.
يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ قيل هو المجهود، وقيل الذي لا حول له ولا قوّة، واللفظ مشتق من الضرر: أي الذي أصابه الضرّ أو من الضرورة أي الذي ألجأته الضرورة إلى الدعاء خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي خلفاء فيها تتوارثون سكناها أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ يعني الهداية بالنجوم والطرقات بُشْراً ذكر في الأعراف: ٥٧ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ الرزق من السماء:
المطر ومن الأرض: النبات هاتُوا بُرْهانَكُمْ تعجيز للمشركين
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ هذه الآية تقتضي انفراد الله تعالى بعلم الغيب، وأنه لا يعلمه سواه، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمدا يعلم الغيب فقد أعظم الفرية على الله، ثم قرأت هذه الآية، فإن قيل: فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(٢). أإله مع الله قرأها أهل الشام والكوفة هكذا، ونافع وأبو عمرو: آيله مع الله، وقرأ ورش وابن كثير: أيله بهمزة واحدة من غير مد. وقرأ هشام عن ابن عامر: ءاإله بهمزتين بينهما مد.
الأول أن البدل هنا جاء على لغة بني تميم في البدل، وإن كان منقطعا كقولهم ما في الدار أحد إلا حمار بالرفع، والحمار ليس من الأحدين وهذا ضعيف، لأن القرآن أنزل بلغة الحجاز لا بلغة بني تميم، والثاني أن الله في السموات والأرض بعلمه كما قال: «وهو معكم أينما كنتم» يعني بعلمه، فجاء البدل على هذا المعنى وهذا ضعيف، لأن قوله: في السموات والأرض وقعت فيه لفظة في الظرفية الحقيقية، وهي في حق الله على هذا المعنى للظرفية المجازية، ولا يجوز استعمال لفظة واحدة في الحقيقة والمجاز في حالة واحدة عند المحققين، الجواب الثالث أن قوله: من في السموات والأرض يراد به كل موجود فكأنه قال من في الوجود فيكون الاستثناء على هذا متصلا، فيصح الرفع على البدل، وإنما قال من في السموات والأرض جريا على منهاج كلام العرب فهو لفظ خاص يراد به ما هو أعم منه: الجواب الرابع أن يكون الاستثناء متصلا على أن يتأول من في السموات في حق الله كما يتأول قوله «أأمنتم من في السماء» وحديث الجارية وشبه ذلك وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي لا يشعرون من في السموات والأرض متى يبعثون، لأنّ علم الساعة مما انفرد به الله، روي أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم متى الساعة؟
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وزن ادّارك تفاعل ثم سكنت التاء وأدغمت الدال واجتلبت ألف الوصل، والمعنى تتابع علمهم بالآخرة وتناهى إلى أن يكفروا بها، أو تناهى إلى أن لا يعلموا وقتها، وقرئ «١» أدرك بهمزة قطع على وزن أفعل، والمعنى على هذا: يدرك علمهم في الآخرة، أي يعلمون فيها الحق، لأنهم يشاهدون حينئذ الحقائق، فقوله: في
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي إذا حان وقت عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله في ذلك وهو قضاؤه، والمعنى إذا قربت الساعة أخرجنا لهم دابة من الأرض، وخروج الدابة من أشراط الساعة، وروي أنها تخرج من المسجد الحرام، وقيل: من الصفا، وأن طولها ستون ذراعا، وقيل: هي الجساسة التي وردت في الحديث تُكَلِّمُهُمْ قيل:
تكلمهم ببطلان الأديان كلها إلا دين الإسلام، وقيل: تقول لهم: ألا لعنة الله على الظالمين، وروي أنها تسم الكافر وتخطم أنفه وتسوّد وتبيض وجه المؤمن أَنَّ النَّاسَ «١» من قرأ بكسر الهمزة فهو ابتداء كلام، ومن قرأ بالفتح فهو مفعول تكلمهم: أي تقول لهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، أو مفعول من أجله تقديره تكلمهم، لأن الناس لا يوقنون ثم حذفت اللام، ويحتمل قوله: لا يوقنون بخروج الدابة، ولا يوقنون بالآخرة وأمور الدين، وهذا أظهر فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يساقون بعنف أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أم استفهامية، والمعنى إقامة
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي حق العذاب عليهم أو قامت الحجة عليهم فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ إنما يسكتون لأن الحجة قد قامت عليهم وهذا في بعض مواطن القيامة، وقد جاء أنهم يتكلمون في مواطن لِيَسْكُنُوا فِيهِ ذكر في [يونس: ٦] يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ذكر في [الكهف: ٩٩] إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل: «هم الشهداء، وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام داخِرِينَ صاغرين متذللين تَحْسَبُها جامِدَةً أي قائمة ثابتة وَهِيَ تَمُرُّ يكون مرورها في أول أحوال يوم القيامة، ثم ينسفها الله في خلال ذلك فتكون كالعهن ثم تصير هباء منبثا صُنْعَ اللَّهِ مصدر، والعامل فيه محذوف، وقيل: هو منصوب على الإغراء: أي انظروا صنع الله.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قيل: إن الحسنة لا إله إلا الله، واللفظ أعم، ومعنى:
خير منها أن له بالحسنة الواحدة عشرا مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ «١» من نون فزع فتح الميم من يومئذ ومن أسقط التنوين للإضافة قرأ بفتح الميم على البناء أو بكسرها على الإعراب وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ السيئة هنا الكفر، والمعاصي التي قضى الله بتعذيب فاعلها هذِهِ الْبَلْدَةِ يعني مكة الَّذِي حَرَّمَها أي جعلها حرما آمنا، لا يقاتل فيها أحد ولا ينتهك حرمتها، ونسب تحريمها هنا إلى الله لأنه بسبب قضائه وأمره، ونسبه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى إبراهيم عليه السلام في قوله: إن إبراهيم حرّم مكة. لأن إبراهيم هو الذي أعلم الناس بتحريمها، فليس بين الحديث والآية تعارض وقد جاء في حديث آخر «٢» أن مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي إنما عليّ الإنذار والتبليغ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ وعيد بالعذاب الذي يضطرهم إلى معرفة آيات الله، إما في الدنيا أو في الآخرة.
(٢). حديث حرمة مكة رواه البخاري في كتاب الجنائز ص ٩٥/ ٢ عن ابن عباس وأوله: حرّم الله عز وجل مكة فلم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي إلخ.